إسماعيل أدهم؟ الملحد المنتحر الذي لا يعرفه أحد؟
( 1911 - 1940 مـ / 1329 - 1359 هـ ).
بقلم العبد الفقير: أبو المُظَفَّر السِّنَّاري.
( 1911 - 1940 مـ / 1329 - 1359 هـ ).
بقلم العبد الفقير: أبو المُظَفَّر السِّنَّاري.
نحن الآن في تمام الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر تموز (يوليو) عام ألف وتسع مئة وأربعين للميلاد (23/1940 مـ) . الموافق عام ألف وثلاث مئة وتسعة وثلاثين للهجرة (1359هـ) .
وبالتحديد: على شاطيء (جِلِيم) المطل على مياه البحر الأبيض المتوسط بمدينة الإسكندرية.
حيث غَوَادي الرياح تُدَاعِبُ أمواج البحر المتراكمة المتراكبة، وشمسُ النهار قد سحبتْ رداءها وهي تُناغِي الأرض بمغادرة شواطئها بلا مُخَاتَلَة ولا مُوَارَبة.
فهناك من تراه يتعلَّلُ باستنشاق النسائم، وتأخذه النشوةُ بِدَوْحِ الحَمائم. وبالتحديد: على شاطيء (جِلِيم) المطل على مياه البحر الأبيض المتوسط بمدينة الإسكندرية.
حيث غَوَادي الرياح تُدَاعِبُ أمواج البحر المتراكمة المتراكبة، وشمسُ النهار قد سحبتْ رداءها وهي تُناغِي الأرض بمغادرة شواطئها بلا مُخَاتَلَة ولا مُوَارَبة.
وآخر يبثُّ البحر قلقَ الأشواق، ويستبْكيِه لوعة الفراق.
وثالثٌ قد جلس يلتمس البروق اللامعة، وراح يستطلع النجوم الطالعة.
ورابع قعد يشكو التبَرُّمَ من العُذَّال، ومكث يعاود الذكريات وهو يبكي مُنَادَمَةَ الأطلال.
وخامس جعل يبوح للرمال بلواعِج الأسَى والهَوَى، ويستعيدُ بدمعه تباريحَ الشوق والجَوَى!
صورة طبيعية لشاطيء جليم ليلا.
صورة لبعض الجسور الممتدة على شاطيء جليم.
ثم سرعان ما انشقَّتِ الأرض عن رجل غريب الطَّوْر، بعيد الغَوْر، يسير على بعض الجسور القريبة التي تطلُّ على البحر، إنه شخص متوسط القامة، معتدل البنيان، يرتدي بذْلَةً ومِعْطَفًا يدلان على أنه ذو خبرٍ مسطور، ونبأ مذكور، وليس شخصًا من أفْناءِ الناس، ما هو بالنحيف ولا بالجسيم، يَمْشِي مُتَطَرِّحًا كأنه أخو سفرٍ يسْري به وهو لا يسري، وراكبُ موجٍ يجري به وهو لا يدري؟ قد سُدَّت دونه السبل فلا يعلم أين المذهب؟
فإذا دنوتَ منه رأيتَه مَهْدُودَ الْقُوَى، مَحْلُولَ الْعُرَى، تبدو عَلَى وَجْهِهِ دَلائِلُ الْجَهْد، وأمارات الشقاء، فاللون منه شاحبْ، والحزن في وجه لاحِبْ، كأنما كان يبَكِي حَتَّى أَقَفَّتْ عَيْنُه، وتقَرَّحَ من الوجْدِ جَفْنُه، ما أشبهه برَجُل كَدُود، دَائِب الْعَمَل، لا يَقِفُ عَلَى سَاق، وَلا يَطْمَئِنُّ جَنْبُه إِلَى مَضْجَع؟ كأنه ما تَفَيَّأ ظِلال الرَّاحَة يومًا، ولا تقلَّبَتْ جوارحه بَيْن أَعْطَاف النَّعِيم!
وفجأة وقف هذا الرجل وقفة المتعجِّل، ثم أخرج من جَيْبِ مِعْطَفِه حبَّاتٍ من (سُكَّر النَّبات) - وهو ضَرْبٌ من الحلوى معروف بمصر - وجعل يأكل منه، وربما ألقى ببعضها إلى جماعة من الصِّبْيَة الصغار ممن كان يلعب بين يديه، وهو ينظر إليهم وعلى وجهه ابتسامة كأنها مرسومة بِقَلَم، أو هي مِنْ أثَرِ وَرَم! ثم انقبض عنهم، وانزوَى بعيدًا عن جانبهم، واستقبل شُرْفْة الجسر فعَلاها، ثم رمى بنفسه وسط أمواجٍ مظلمةٍ متلاطمة!
فغاب في جوفها كما تغيب الإبْرة في مُحيطٍ ماؤُهُ هادِر! كأنما سقط في لُجَّةِ بحرٍ راكدٍ لا يجري، وقائمٍ لا يسري، تُكَرْكِرُهُ الرياحُ العواصِف، وتَمْخَضُه الغَمامُ الذَّوَارِف! فاختفى أثره، وانقطع خبره.
وهالَ الناسَ ما أبصروه، وأفزعهم ما شاهدوه؛ فتطوَّع جماعة من الشباب لنجْدَتِه؛ وَاسْتَقْصَوا فِي إخراجه الذَّرَائِع، وَاسْتَنْفَدوا في انتشاله الْوَسَائِلَ، فما استطاعوا له طلبًا، حتى ما وجدوا دون النجاة بأنفسهم من مخالب الموج مهربًا!
وبعد ساعات من هذا الحادث المؤلم؛ تتكشَّفُ الأمواج عن جثة الرجل؛ ويلفظ به البحر على الشاطيء؛ فيعثر عليه رجال الإطفاء والشرطة؛ فيقوم بعضهم بالبحث في ملابسه للكشف عن حقيقته؛ فإذا به يستخرج من جيب معطفه ورقة مُبّلَّلَة فيها كلام مسطور؛ فتركها حتى جفَّتْ؛ ثم استقرأها فإذا هي رسالة من صاحبها إلى رئيس النيابة يقول فيها بأنه: (قد انتحر غرقًا؛ لكونه قد يئس من الدنيا، وزهد من العيش فيها!) ثم أوصى البوليس بأن: (يقوموا بحرق جسده، وتشريح رأسه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين)!
فلم يعبأ رئيس النيابة بتلك الوصية! وأمر بتشريح جثته؛ لإثبات كونه مات غريقًا منتحرًا، ولم يتعرض الطبيب الشرعي لتشريح رأسه؛ ثم سلمه لأهله فدفنوه في مقابر المسلمين!
وفي صباح اليوم التالي: الخميس الخامس والعشرين من شهر تموز (يوليو) عام ألف وتسع مئة وأربعين للميلاد (23/1940 مـ) . الموافق عام ألف وثلاث مئة وتسعة وثلاثين للهجرة (1359هـ) .
هبَّتِ الصحفُ والجرائد والمجلات تنْعَى وفاة العالِم النابغة، والأديب المتفنِّن، والفليسوف المتكلم، الشاب الدكتور: ( إسماعيل أحمد أدهم )، عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، والحاصل على الدكتوراه في العلوم من جامعة موسكو عام (1931 مـ) ، والمدرِّسُ هناك للرياضيات في جامعة (سانت بطرسبرغ)، وصاحب المقالات العلمية والنقدية في المجلات الأدبية، ونوادي الحركة العربية في الإسكندرية وجمعية الثقافة المصرية. وذكرتْ الصحف خبر انتحاره غرقًا في مياه البحر الأبيض المتوسط، والعثور على جثته طافية على الماء قُبَالة شاطي (جليم) بالإسكندرية.
وبمجرد ذيوع الخبر بين الناس: تهتز الأوساط الثقافية العربية، وتضطرب النوادي والملتقيات الأدبية؛ لهذا النبأ الأليم المحزن.
ويكتب الأديب السوري سامي الكيالي- صديق إسماعيل أدهم- مقالة رثاء في مجلته: «الحديث الحلبية» جاء فيها:
«شاب في حدود الثلاثين، مَغُولِيُ الوجه والسِّحْنة، تقرأ في وجهه سِيماء العلماء الذين أنهكهم الدرس وأضناهم التفكير... لقد عمل الدكتور في حقبة قصيرة ما يعمله العلماء الأفذاذ في سنوات طويلة، وكأنه عمل جهود أربعين سنة في أربع سنوات...» .
ويسْطُر الأستاذ أحمد حسن الزيات الأديب الكبير في مجلته (الرسالة) كلمة تحت عنوان (نهاية أديب) يقول في مطلعها:
(في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر يوليه، لفَظَ البحر على ساحل "جليم" بالإسكندرية جثة كانت في رونق العمر. وإن بدا على محاسرها مسحةٌ من شفوف الهم وشحوب الألم. لم يكد يلقيها الموج الصاخب المتعاقب بالرمل المستوي المنضوح حتى أخذتها عيون الحرس الساحلي، فظنوها لأول وهلة ضحية من ضحايا الحرب الإنجليزية الإيطالية في هذا البحر المسجور العذاب والموت؛ ولكنهم علموا من بذلة الغرق ومعطفه وسلامة بدنه أنه مدني سقط في البحر أو أُلْقِيَ فيه. فلما فتَّشَه رجال الشرطة ليكشفوا عن هويته عثروا في جيب معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يقول فيه:
"إنه قتل نفسه بالغرق يأسا من الدنيا وزهادة في العيش، ويوصي بأن يحرق جسده ويُشرَّح رأسه" .
إذن هو رجل من رجال الفكر والرأي، جعل للحياة مثلا لم يحققه فهو يجتويها، ورأى في العقيدة رأيًا لم يرقه فهو لا يرتضيها، واعتقد أن في مخه عبقرية فهو يرجو أن يظهر بالتشريح خافيها. فهل تدري من هو؟
هو الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم) عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، كما كان يخبر عن نفسه؛ وهو صاحب المقالات العلمية والنقدية في الرسالة والمقتطف، ومُنَشِّطُ الحركة الأدبية في الإسكندرية وجمعية الثقافة...) .
فإذا دنوتَ منه رأيتَه مَهْدُودَ الْقُوَى، مَحْلُولَ الْعُرَى، تبدو عَلَى وَجْهِهِ دَلائِلُ الْجَهْد، وأمارات الشقاء، فاللون منه شاحبْ، والحزن في وجه لاحِبْ، كأنما كان يبَكِي حَتَّى أَقَفَّتْ عَيْنُه، وتقَرَّحَ من الوجْدِ جَفْنُه، ما أشبهه برَجُل كَدُود، دَائِب الْعَمَل، لا يَقِفُ عَلَى سَاق، وَلا يَطْمَئِنُّ جَنْبُه إِلَى مَضْجَع؟ كأنه ما تَفَيَّأ ظِلال الرَّاحَة يومًا، ولا تقلَّبَتْ جوارحه بَيْن أَعْطَاف النَّعِيم!
وفجأة وقف هذا الرجل وقفة المتعجِّل، ثم أخرج من جَيْبِ مِعْطَفِه حبَّاتٍ من (سُكَّر النَّبات) - وهو ضَرْبٌ من الحلوى معروف بمصر - وجعل يأكل منه، وربما ألقى ببعضها إلى جماعة من الصِّبْيَة الصغار ممن كان يلعب بين يديه، وهو ينظر إليهم وعلى وجهه ابتسامة كأنها مرسومة بِقَلَم، أو هي مِنْ أثَرِ وَرَم! ثم انقبض عنهم، وانزوَى بعيدًا عن جانبهم، واستقبل شُرْفْة الجسر فعَلاها، ثم رمى بنفسه وسط أمواجٍ مظلمةٍ متلاطمة!
فغاب في جوفها كما تغيب الإبْرة في مُحيطٍ ماؤُهُ هادِر! كأنما سقط في لُجَّةِ بحرٍ راكدٍ لا يجري، وقائمٍ لا يسري، تُكَرْكِرُهُ الرياحُ العواصِف، وتَمْخَضُه الغَمامُ الذَّوَارِف! فاختفى أثره، وانقطع خبره.
وهالَ الناسَ ما أبصروه، وأفزعهم ما شاهدوه؛ فتطوَّع جماعة من الشباب لنجْدَتِه؛ وَاسْتَقْصَوا فِي إخراجه الذَّرَائِع، وَاسْتَنْفَدوا في انتشاله الْوَسَائِلَ، فما استطاعوا له طلبًا، حتى ما وجدوا دون النجاة بأنفسهم من مخالب الموج مهربًا!
وبعد ساعات من هذا الحادث المؤلم؛ تتكشَّفُ الأمواج عن جثة الرجل؛ ويلفظ به البحر على الشاطيء؛ فيعثر عليه رجال الإطفاء والشرطة؛ فيقوم بعضهم بالبحث في ملابسه للكشف عن حقيقته؛ فإذا به يستخرج من جيب معطفه ورقة مُبّلَّلَة فيها كلام مسطور؛ فتركها حتى جفَّتْ؛ ثم استقرأها فإذا هي رسالة من صاحبها إلى رئيس النيابة يقول فيها بأنه: (قد انتحر غرقًا؛ لكونه قد يئس من الدنيا، وزهد من العيش فيها!) ثم أوصى البوليس بأن: (يقوموا بحرق جسده، وتشريح رأسه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين)!
فلم يعبأ رئيس النيابة بتلك الوصية! وأمر بتشريح جثته؛ لإثبات كونه مات غريقًا منتحرًا، ولم يتعرض الطبيب الشرعي لتشريح رأسه؛ ثم سلمه لأهله فدفنوه في مقابر المسلمين!
وفي صباح اليوم التالي: الخميس الخامس والعشرين من شهر تموز (يوليو) عام ألف وتسع مئة وأربعين للميلاد (23/1940 مـ) . الموافق عام ألف وثلاث مئة وتسعة وثلاثين للهجرة (1359هـ) .
هبَّتِ الصحفُ والجرائد والمجلات تنْعَى وفاة العالِم النابغة، والأديب المتفنِّن، والفليسوف المتكلم، الشاب الدكتور: ( إسماعيل أحمد أدهم )، عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، والحاصل على الدكتوراه في العلوم من جامعة موسكو عام (1931 مـ) ، والمدرِّسُ هناك للرياضيات في جامعة (سانت بطرسبرغ)، وصاحب المقالات العلمية والنقدية في المجلات الأدبية، ونوادي الحركة العربية في الإسكندرية وجمعية الثقافة المصرية. وذكرتْ الصحف خبر انتحاره غرقًا في مياه البحر الأبيض المتوسط، والعثور على جثته طافية على الماء قُبَالة شاطي (جليم) بالإسكندرية.
وبمجرد ذيوع الخبر بين الناس: تهتز الأوساط الثقافية العربية، وتضطرب النوادي والملتقيات الأدبية؛ لهذا النبأ الأليم المحزن.
ويكتب الأديب السوري سامي الكيالي- صديق إسماعيل أدهم- مقالة رثاء في مجلته: «الحديث الحلبية» جاء فيها:
«شاب في حدود الثلاثين، مَغُولِيُ الوجه والسِّحْنة، تقرأ في وجهه سِيماء العلماء الذين أنهكهم الدرس وأضناهم التفكير... لقد عمل الدكتور في حقبة قصيرة ما يعمله العلماء الأفذاذ في سنوات طويلة، وكأنه عمل جهود أربعين سنة في أربع سنوات...» .
ويسْطُر الأستاذ أحمد حسن الزيات الأديب الكبير في مجلته (الرسالة) كلمة تحت عنوان (نهاية أديب) يقول في مطلعها:
(في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر يوليه، لفَظَ البحر على ساحل "جليم" بالإسكندرية جثة كانت في رونق العمر. وإن بدا على محاسرها مسحةٌ من شفوف الهم وشحوب الألم. لم يكد يلقيها الموج الصاخب المتعاقب بالرمل المستوي المنضوح حتى أخذتها عيون الحرس الساحلي، فظنوها لأول وهلة ضحية من ضحايا الحرب الإنجليزية الإيطالية في هذا البحر المسجور العذاب والموت؛ ولكنهم علموا من بذلة الغرق ومعطفه وسلامة بدنه أنه مدني سقط في البحر أو أُلْقِيَ فيه. فلما فتَّشَه رجال الشرطة ليكشفوا عن هويته عثروا في جيب معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يقول فيه:
"إنه قتل نفسه بالغرق يأسا من الدنيا وزهادة في العيش، ويوصي بأن يحرق جسده ويُشرَّح رأسه" .
إذن هو رجل من رجال الفكر والرأي، جعل للحياة مثلا لم يحققه فهو يجتويها، ورأى في العقيدة رأيًا لم يرقه فهو لا يرتضيها، واعتقد أن في مخه عبقرية فهو يرجو أن يظهر بالتشريح خافيها. فهل تدري من هو؟
هو الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم) عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، كما كان يخبر عن نفسه؛ وهو صاحب المقالات العلمية والنقدية في الرسالة والمقتطف، ومُنَشِّطُ الحركة الأدبية في الإسكندرية وجمعية الثقافة...) .
تعليق