ثالثا: شهادة من أسلم من علماء بني إسرائيل، أن ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء في كتبهم:
1ـ قال تعالى: [وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)] الشعراء: ١٩٦ - ١٩٧
وقال تعالى: [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] آل عمران: ١٩٩
وقال تعالى: [الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)] القصص: ٥٢ - ٥٤
2ـ ومن ذلك أن عالم اليهود وابن عالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبد الله بن سلام كان فوق نخلة له يجدها، فسمع رجة فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قدم. فألقى بنفسه من أعلى النخلة ثم خرج [ مجمع الزوائد 8/243 ].
فكان فيمن أنجفل إليه ، يقول عبد الله بن سلام : فلما تبينت وجهه ، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته يقوله : ( أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام )[ رواه الإمام أحمد 5/ 451 ].
ثم رجع فقالت له أمه: لله أنت !! لو كان موسى بن عمران عليه السلام ما كان بذلك تلقي نفسك من أعلى النخلة. فقال: والله لأنا أشد فرحا بقدوم رسول الله من موسى إذ بعث.
[ قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أن حمزة بن يوسف لم يدرك جده عبد الله بن سلام ،مجمع الزوائد 8/243 ].
وفي رواية ابن إسحاق: أنه قال لعمته خالدة: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به. فقالت : أي ابن أخي ! أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نَفَس الساعة ؟ فقلت لها : نعم . [ابن إسحاق في سيرة ابن هشام 3/50 ].
ثم جاءه بعد ذلك فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبي : فما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أخبرني بهن جبريل آنفا ).
قال: جبريل ؟!!قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نعم ).قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة .
فقرأ هذه الآية : [قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] البقرة: ٩٧
أما أول أشراط الساعة ؟ فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام أهل الجنة ؟ فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ).
فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ ).قالوا : خيرنا ، وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا . قال: ( أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ ).فقالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالوا :شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه . قال ابن سلام: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.[ رواه الإمام البخاري 4210 ، 3699 ].
وفي رواية قال: يا معشر اليهود ! اتقوا الله ، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق .[ رواه الإمام البخاري 3621 ].
3ـ وكان بعض أهل الكتاب يُذكِّر البعض الآخر ، ويقيم الحجة عليهم ، فهذا مخيريق من أحبار بني النضير وعلمائها وأغنيائها يقيم الحجة على يهود ، وكان يعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصفته وما يجد في علمه ، وكان قد غلب عليه إلف دينه ، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أُحد ـ وكان يوم أُحد يوم السبت من شهر ،شوال من السنة الثالثة للهجرة ـ قال : يا معشر يهود ! والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا : إن اليوم يوم السبت .
قال : لا سبت لكم . ثم أخذ سلاحه ، فخرج حتى أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأُحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع فيها مشاء .
فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ( مخيريق خير يهود ).
[ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/51 ].
4ـ و شاهد آخر في موقف (ضغاطر ) كبير الأساقفة زمن هرقل ، عندما أرسل إليه هرقل بكتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيره فيه ، فقال الأسقف: هذا الذي كنا ننتظر ، وبشرنا به عيسى عليه السلام أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي. ثم قال الأسقف لرسول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك ، فأقرئ عليه السلام ،وأخبره أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأني قد آمنت به وصدقته ،وأنهم قد أنكروا على ذلك .ثم خرج إليهم فقتلوه .[ ابن حجر في فتح الباري 1/42-43].
5ـ وأورد شيخ الإسلام بن تيمية إقرار وشهادة الحسن بن أيوب ، و كان من أجلاء علماء النصارى ، وأخبرِ الناسِ بأقوالهم ، ومن أخبرِ الناس بمقالاتهم ، فأسلم على بصيرة ، وكتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ، ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام ، قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه ؟ ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه ،والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة !! لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل ، بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم ، وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى ،ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ، ولا تثبت في تقرير ذلك ، وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه بان لي عواره ، ونفرت نفسي من قبوله ، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي مَنّ الله علي به وجدت أصوله ثابتة ، وفروعه مستقيمة ، وشرائعه جميلة ، وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم ، وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل ، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين ،....، إلى أن قال : ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،لا نفرق بين أحد منهم ، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد .
قال :وكان يحملني إلف ديني ، وطول المدة والعهد عليه ، والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات ، والأقارب والإخوان والجيران ،وأهل المودات على التسويف بالعزم والتلبث على إبرام الأمر ، ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر ، والازدياد في البصيرة ، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء ، والقرآن ، إلا نظرت فيه ،وتصفحته ، ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته ، فلما لم أجد للحق مدفعا ، ولا للشك فيه موضعا ، ولا للأناة والتلبث وجها خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي ، هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل ، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة ، وسريرة صادقة ، ويقين ثابت ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.[ الجواب الصحيح 4/88].
رابعا: إخبار علمائهم ، بصفته ، ومكانه ، ووقت خروجه ، وهو ما كان سببا في إسلام سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وإليكم قصة سلمان العجيبة.
1ـ يرويها بنفسه فيقول:
كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها جى ، وكان أبي دهقان قريته [ الدهاقنة هم صفوة القوم في المجتمع الفارسي]، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة .
وكانت لأبي ضيعة عظيمة ـ الضيعة:هي تجارة الرجل، أو صناعته، أو زراعته ـ فشغل في بنيان له يوما، فقال لي:
يا بني !إني قد شُغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها، وأمرني ببعض ما يريد فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدرى ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم ، دخلت عليهم انظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في أمرهم.
وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ؛ فو الله ما تركتهم حتى غربت الشمس. وتركت ضيعة أبي ولم آتها.
فقلت لهم: أين أصل هذا الدين ؟ قالوا: بالشام. ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني! أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟.
قلت : يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس .
قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.
قلت:كلا والله إنه لخير من ديننا.
قال: فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته .
وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، فقدم عليهم من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم ، فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فأخبروني.
فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها.
قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا الأسقف في الكنيسة، فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلى معك.
قال : فادخل ، فدخلت معه ، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قِلال من ذهب ووَرِق ، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع .
ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا.
قالوا : وما علمك بذلك ، قلت :أنا أدلكم على كنزه ، قالوا: فدلنا عليه ، فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، فلما رأوها قالوا :والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ، ثم رجموه بالحجارة ، ثم جاؤوا برجل آخر، فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلا ـ يعني لا يصلي الخمس ـ أرى أنه أفضل منه ، أزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا منه ، فأحببته حبا لم أحبه من قبله ، وأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه من قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله ، فإلى من توصى بي وما تأمرني ؟.
قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل ، وهو فلان ، فهو على ما كنت عليه ، فالحق به .
فلما مات وغيب، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانا أوصاني عند موته أن الحق بك، وأخبرني أنك على أمره.
فقال لي : أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلما حضرته الوفاة قلت له :يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك ،وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى ،فإلى من توصى بي ؟ وما تأمرني ؟.
قال: أي بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه، إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان، فالحق به، فلما مات وغيب، لحقت بصاحب نصيبين ، فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي. قال : فأقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل فو الله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حُضر قلت له : يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصى بي ، وما تأمرني.
قال : أي بني والله ما نعلم أحدا بقى على أمرنا آمرك أن تأتيه ، إلا رجلا بعمورية ، فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا.
فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبري.
فقال :أقم عندي.
فأقمت مع رجل على هدى أصحابه وأمرهم ، واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة ، ثم نزل به أمر الله ، فلما حُضر قلت له : يا فلان إلى من توصى بي ؟ وما تأمرني ؟ قال : أي بني ! والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد أظلك زمان نبي ، هو مبعوث بدين إبراهيم ، يخرج بأرض العرب ( وفي رواية :يبعث من أرض الحرم )، مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل ، به علامات لا تخفى : يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .
ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.
ثم مر بي نفر من تجار العرب من كلب فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه .
قالوا: نعم .
فأعطيتهم إياها وحملوني ، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ـ هو وادٍ بين المدينة والشام كثير القرى ـ، ظلموني ، فباعوني عبداً من رجل من يهود ، فكنت عنده ورأيت النخل ، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحق لي في نفسي ، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة ، فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة ، فو الله ما هو إلا أن رأيتها ، فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث الله رسوله ، فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فو الله إني لفي رأس نخلة لسيدي ، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال :يا فلان ! قاتل الله بني قيلة ـ يعني الأوس والخزرج ـ والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي .
فلما سمعتها أخذتني العرواء ـ يعني الرعدة ـ حتى ظننت سأسقط على سيدي ، ونزلت عن النخلة ، فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ قال: فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة ،ثم قال : مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك .
فقلت:لا شيء إنما أردت أن استثبت عما قال.
وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ، ثم ذهبت به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم .
فقربته إليه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه : كلوا، وأمسك يده ، فلم يأكل .
فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئا وتحول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة ، ثم جئت به فقلت :إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، فأكل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي :هاتان اثنتان ، ثم جئت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ببقيع الغرقد ، وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استدرته ، عرف أني استثبت في شيء وصف لي ، فألقى الرداء عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم ، فعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكى .
فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( تحول )، فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا بن عباس.
قال: فأعجب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسمع ذلك أصحابه .[ أخرجه الإمام أحمد 5/441-444،قال شعيب الأرنؤوط ،و حسين الأسد في تحقيق سير أعلام النبلاء للذهبي 1/511:رجاله ثقات وإسناده قوي ].
2ـ وكان لأحبار اليهود الذين عرفوا صفة الأرض التي يهاجر إليها نبي آخر الزمان وهي يثرب ( المدينة ) دورهم في رد تُبّع عنها ـ تبع أحد ملوك اليمن واسمه : تبان أسعد من أبناء سبأ ، غزا الأنبار والحيرة والترك وغزا الصين حتى هابته الملوك وأهدت له الهدايا ، كان وثنياً ، ثم دخل اليهودية و أدخلها إلى اليمن ، وعن بن عباس قال :قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لا تسبوا تبعا ، فإنه قد أسلم ) رواه الطبراني في المعجم الأوسط ح/1419، وقال عنه الألباني في سلسلة الصحيحة : صحيح بشواهده .وانظر تاريخ الطبري 1/331ـ وذلك عندما غزا الحجاز وأراد الهجوم على المدينة ، فخرج إليه حبران من أحبار اليهود حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له : أيها الملك لا تفعل ، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ، ولم نأمن عليك، فقال لهما : ولم ذلك ؟ فقالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان ، تكون داره وقراره . فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/133 ].
3ـ ولمعرفتهم بزمان خروجه ومكانه ،كان هناك من يقدم إلى المدينة قبل الإسلام بسنين قلائل ، منهم رجل من أهل الشام يقال له ابن الهيّبان قدم المدينة قبيل الإسلام بسنين ، فسكنها وظهرت عليه علامات الصلاح ، فلما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت.
قال : أيا معشر يهود ! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ فقالوا : إنك أعلم .
قال:فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف ـ يعني أنتظر ـ خروج نبي قد أظل زمانه ، وهذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، وقد أظلكم زمانه ، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود.
وكان ممن شهد قصة ابن الهيبان ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، من بني قريظة ، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحاصر بني قريظة بعد نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه قال هؤلاء الفتية وكانوا شبابا أحداثا : يا بني قريظة ! والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان .قالوا :ليس به .قالوا : بلى ،والله إنه لهو بصفته .فنزلوا وأسلموا وأحرزوا دماءهم و أموالهم وأهليهم [ ابن إسحاق، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/40].
4ـ وكان سماع أهل المدينة من الأوس والخزرج للبشائر بخروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود أمراً متكرراً ، فمن ذلك ، ما رواه حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : والله ، إني لغلام يفعه ابن سبع سنين أو ثمان ، أعقل كل ما سمعت ، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمه ـ يعني حصنه ـ: يا معشر يهود ! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك ! ما لك ؟ قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .
قال ابن إسحاق : فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقلت : ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة ؟ فقال : ابن ستين . وقدمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين
[ عن ابن إسحاق، انظر السيرة لابن هشام 1/249 ].
5ـ ولم تقتصر البشائر على المدينة فحسب، بل كانت لمعرفتهم بزمن خروجه أثره في ترقبهم هجرته إلى المدينة ، فهذا رجل من اليهود يصعد فوق حصن له في الأيام التي كان المسلمون في المدينة يترقبون وصول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم بعدما سمعوا بخروجه مهاجرا إليهم ، فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته :يا معاشر العرب ـ وفي رواية : يا بني قيلة ـ يعني الأوس والخزرج ـ هذا جدكم الذي تنتظرون ـ فثار المسلمون ، فتلقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بظهر الحرة [رواه الإمام البخاري ح/3964 ].
6ـ وكان علماء النصارى يسدون النصائح لأقرباء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرصاً على سلامته من كيد الأعداء ، بل ويقومون بدور الحماية لما عرفوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فهذا بحيرى الراهب ، كان ببصرى من أرض الشام ، وكان من علماء النصارى ، وكان لا ينزل من صومعته ، و لا يلتفت إلى قوافل التجار المارة به !!.
لكنه في يوم من الأيام رأى ما أدهشه، وجعله يخرج ويتابع القافلة القادمة من مكة تريد الشام إنها علامات رآها دفعته للنزول من صومعته والاستعداد للقائهم، بل وتهيئة الطعام لهم !!
لقد كانت تلك القافلة لأبي طالب عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان معه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صغير، وكان عمه يحبه حبا شديدا، ولا يقوى على مفارقته، فاصطحبه في سفرته تلك.
أما السبب في تغير تعامل بحيرى مع أهل هذه القافلة، على غير ما كان معتادا منه، فهو أنه رأى غمامة تظل غلاما صغيرا من بين القوم !!
فلما أقبلوا ، ونزلوا في ظل شجرة قريبا منه ، نظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة ، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيري نزل من صومعته ، وقد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثم أرسل إليهم ، فقال :إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم ، وعبدكم وحركم .فقال له رجل منهم : والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ، ما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم ؟! قال له بحيرى :صدقت ، قد كان ما تقول ،ولكنكم ضيف ، وقد أحببت أن أكرمكم ،وأصنع لكم طعاما ،فتأكلوا منه كلكم ،فاجتمعوا إليه ،وتخلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين القوم لحداثة سنة في رحال القوم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده .فقال: يا معشر قريش،لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.
قالوا له: يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك، إلا غلام وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في رحالهم.
فقال :لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم . فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا .ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم .
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا ، قام إليه بحيرى ، فقال :يا غلام ،أسألك بحق اللات والعزى ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه .وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : لا تسألن باللات والعزى شيئا ، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. فقال له بحيرى: فبالله، إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه.
فقال له :سلني عما بدا لك .فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره ، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ،ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده .
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له:ما هذا الغلام منك ؟
قال : ابني .
قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا !!
قال : فإنه ابن أخي .
قال : فما فعل أبوه ؟
قال : مات وأمه حبلى به .
قال :صدقت !! فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه يهود ،فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنَّه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم .
فأسرع به إلى بلاده ، ثم إن نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر ، فأرادوه ، فردهم عنه بحيرى ،وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته ، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ، ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال ،فتركوه وانصرفوا عنه [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/119 ، وقال ابن حجر: هذه القصة بإسناد رجاله ثقات ، من حديث أبي موسى الأشعري أخرجها الترمذي وغيره.
7ـ وكان رهبان النصارى يخبرون من يسألهم عن الدين الحق بزمان ومكان نبي آخر الزمان فقد رحل زيد بن عمرو الباحث عن الحقيقة من مكة إلى الشام يطلب دين إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل ، ثم أقبل فجال الشام كله حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء ـ قرية بالشام ـ كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية في بلاده ، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم ؟فقال :إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها ، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية ، فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه - وقد كان رفض اليهودية والنصرانية - فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم هجموا عليه فقتلوه [ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/61 ] .
تعليق