كما قلنا في موضوعنا "علم النقد النصي وأهميته" (https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=37950) بأن هناك علم جديد من علوم المسيحية ظهر في الثلاثمائة سنة الأخيرة والذي يُعرف باسم "Textual Criticism" أي "النقد النصي" ، وهذا العلم -كما بيّنا- يُعنى بمحاولة علماء المسيحية للوصول إلى معرفة ماهي النصوص الأصلية اليونانية من مخطوطات الأناجيل من التي تم تحريفها ، وبالطبع لأنه ليس هناك نسخة أصلية للإنجيل فإن مهمة علماء الكتاب المقدس صعبة بل ومستحيلة ، فكل ما يستطيعونه هو عمل مقارنة بين المخطوطات الكثيرة المختلفة فيما بينها ، والنتيجة هي مجرد الوصول إلى ما قد يظنون أنه أقرب لأن يكون من النصوص الأصلية على قدر المستطاع ، فالعلماء طوال السنين المديدة وهم يكتشفون مخطوطات قديمة ويقارنونها بنسخ اليوم ، فمع مواصلتهم لهذه الاكتشافات اكتشفوا بأن هناك نصوصاً إنجيلية يقرأها المسيحيون اليوم هي في الحقيقة من صنع أيدي التحريف.
فمثلاً آخر 12 آية من إنجيل مرقص (أي إنجيل مرقص 16 : 9-20) اكتشف علماء الكتاب المقدس بأنها مكذوبة ، فهذه الآيات ليست موجودة في المخطوطات اليونانية القديمة التي تعود إلى القرن الرابع (وهي مخطوطتان: المخطوطة السينائية (Codex Sinaeticus) والمخطوطة الفاتيكانية (Codex Vaticanus) ، وهي أقدم المخطوطات الإنجيلية الكاملة (حيث أن هناك أجزاء من مخطوطات أقدم إلا أنها مجرد قصاصات قليلة) وإنما هذه الآيات أضيفت تحريفاً في قرون لاحقة (بدءاً من القرن الخامس الميلادي ، حيث أن أول نسخة وُجدت فيها هي مخطوطة ترجع إلى القرن الخامس اسمها المخطوطة الإسكندرية "Codex Alexanderianus") ، وكذلك اكتشفوا زيف اثني عشرة آية شهيرة في إنجيل يوحنا (وهي الآية الأخيرة من الفصل السابع من إنجيل يوحنا مع الآيات 1-11 من الفصل الثامن) وهذه الآيات الشهيرة المكذوبة تسمى بقصة "المرأة الزانية" ، والتي منها نصاً يحب المسيحيون تكرارها وهي: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها أولاً." ، فهذه القصة غير موجودة في أقدم المخطوطات اليونانية (المخطوطة الفاتيكانية والسينائية) وإنما أضيفت كذباً في قرون لاحقة أيضاً.
وهناك الكثير والكثير من التحريفات الأخرى التي اكتشفها علماء الإنجيل هنا وهناك ، يكفي أن نعلم أنه في القرن السابع عشر كان هناك العالم اللاهوتي البروتستانتي جون ميل (John Mill) والذي قام بطبع نسخة يونانية للعهد الجديد ووضع فيها حواشي يعلق عليها اختلافات النصوص الإنجيلية بين المخطوطات ، تذكر الموسوعة البريطانية (ط11 ، تحت عنوان "John Mill") بأن تلك الاختلافات بلغت 30,000 اختلافاً!! وهذا على قدر ماوجد في زمنه ، فالموسوعة البريطانية تذكر بأن هذا العدد يعتبر قليلاً مقارنة بما اكتشفه العلماء فيما بعد من اختلافات أخرى.
(لمعرفة المزيد عن اكتشافات العالم جون ميل يمكنك قراءة الموسوعة البريطانية على الانترنت –بالإنجليزية-: http://www.1911encyclopedia.org/John_Mill وموسوعة ويكيبيديا على الانترنت –بالإنجليزية-: http://en.wikipedia.org/wiki/John_Mill).
وبسبب طغيان التحريف الهائل في الأناجيل ذهبت الموسوعة الكاثوليكية بنفسها (Catholic Encyclopedia) للقيام بخطوة جريئة والاعتراف بأن هذا التحريف وصل إلى 150,000 اختلاف ، حيث نقرأ في نفس الموسوعة تحت عنوان "العهد الجديد":
"ليس هناك سفر [من أسفار العهد الجديد] وصل إلينا من العهود القديمة مثلما تركته يد كاتبها . . . فهناك أكثر من 150,000 قراءة مختلفة اكتشفت في المخطوطات القديمة لنصوص العهد الجديد."
ونص الموسوعة بالإنجليزية كالتالي:
"No book of ancient times has come down to us exactly as it left the hands of its author--all have been in some way altered. . . More than 150,000 different readings have been found in the older witnesses to the text of the New Testament. "
(المصدر: موقع الموسوعة الكاثوليكية باللغة الإنجليزية على الانترنت:
(http://www.newadvent.org/cathen/14530a.htm#IV
وليست الموسوعات وكتب علماء المسيحية المتخصصة وحدها هي التي تعلن عن هذه التحريفات ، وإنما أصبح هذا الإعلان والاقرار متداولاً بين أيدي الناس ليطلع على بعض تلك التحريفات كل من أراد ، فنسخ وتراجم الكتاب المقدس العربية الحديثة أصبحت الآن تضع في مقدماتها وحواشي نصوصها اعترافات كثيرة بالتحريف ، فنهاية مرقص المحرفة (مرقص 16 : 9-20) التي ذكرتها سابقاً وضعت نسخة عربية (وهي الترجمة العربية المشتركة) ملاحظة في هامش الصفحة (التي بها نهاية إنجيل مرقص) في الأسفل تقول فيه:
"ما جاء في الآيات 9 إلى 20 لا يرد في أقدم المخطوطات."
وعن الآيات التي تتحدث عن المرأة الزانية (إنجيل يوحنا 7 : 53 – 8 : 11) ذكرت نفس النسخة (الترجمة العربية المشتركة) في الهامش في أسفل الصفحة:
"لا نجد 7 : 53 – 8 : 11 في المخطوطات القديمة وفي الترجمات السريانية واللاتينية."
هذه الاقرارات والاعترافات في نسخ الأناجيل جعلت الكثير من المسيحيين يدركون وجود التحريف في الكتاب المقدس مما جعل البابا شنودة الثالث (بابا فرقة الأقباط الأرذودوكس في مصر) لأن ينزعج كثيراً ويطالب جمعية دار الكتاب المقدس (وهي مؤسسة متخصصة بطبع ونشر نسخ الأناجيل) بأن لا تبين هذه التحريفات في الحواشي والهوامش والمقدمات حتى لا يعرف عامة المسيحيين هذه المشاكل! يعني بكلمة أخرى . . البابا يطالب بإخفاء تحريف الإنجيل عن العوام.
تعليق