ركب الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"ارموا الثورة للشارع .. يحتضنها الشعب!"(*)
وليس باطلٌ يروج إلا بغلافٍ من حق، ولا زيفٌ يُستحسن إلا متبرجًا بالصدق، والبيع آلته حيلة، والشراء دافعه غفلة، والخيار ابتلاء، والصفقة خُسر، والتراضي شقاء، والثمن سُحت، و.. ويفسخ عقد ذلك كلُّه لحظة... لحظةٌ يخلو فيها المرء بنفسه، متخليًا عن شهوات النفس ونزغاتها، مستدعيًا ميزان القسط، منتهجًا الإنصاف، متخلقًا بالعدل، لا يجرمنّه شنآن قومٍ أن يظلم .. فتغدو تلك اللحظة ميلاد إنسانٍ آخر، وكم ميتٍ خرج من ثناياه حيّ! وهذا المقال يُخاطب هذه اللحظة، لعل وعسى!
ما أُحدّث الرفيق الليبرالي بالخلاف في أمر المظاهرات، إلا ويهم بالمفارقة والمخاصمة غضوبًا لا يكظم غيظه، فهو يرى أنّ مجرّد الرضا بوجود خلافٍ في شأن المظاهرات، يرميني في طائفةٍ لا تحب الحرية ولا تتصور معناها، مهلًا .. مهلًا! فإنما أقصد خلافًا غير الذي أغضبك، أقصد خلافًا يعجبك! وكيف ذلك؟! فاسمع إذن!
في كتابه "الاحتجاج المجتمعي والتغير السياسي"، يتعرض الأستاذ ماركو جوجني -المتخصص في العلوم السياسية- لدراسة ربع قرنٍ من الزمان في الولايات المتحدة وإيطاليا وسويسرا، يبحث في تأثير الاحتجاج المجتمعي -بخصوص البيئة والنشاط النووي والسلام- في تغيير سياسات الدولة، ومن خلال التحليل المنهجي لهذه الفترة يرى أن تأثير الاحتجاجات في حد ذاتها على تغير السياسة العامة ليس تأثيرًا مباشرًا ولا غير مباشر، وإنما هو تأثيرٌ مشتركٌ يتعلق بمطالب تلك الاحتجاجات، ووجود تحالفٍ نخبويٍّ يدعم هذه المطالب، ورأيٍ عامٍّ يؤيدها(1).. فالنظر في التأثير ينبغي ألّا يقتصر على المظاهرات أو غيرها من صور الاحتجاج في ذاتها، وإنما يُنظر إلى ما يحتف بها من ظروفٍ وملابسات!
ولندع الأكاديميَّ السويسري قليلًا إلى أمريكيٍّ مشتغلٍ بلعبة السياسة، إلى مات هاريسون مؤسس ومدير معهد بروميثيوس المهتم بالنشاط السياسي، يكتب مقالًا بعنوان "لماذا تعد المظاهرات العامة صورةً عديمةَ الفائدة من النشاط السياسي؟!"(2)، يرى فيه أنّ الأضرار المترتبة على المظاهرات راجحة، والفوائد المتحصلة من ورائها فمتوهَّمَةٌ أو مرجوحةٌ أو تتحققُ من سبيلٍ آخر.. فرفض التظاهر كأسلوبٍ احتجاجيٍّ قد يقع من سياسيٍّ مشتغلٍ بالسياسة، بل من أحد العاملين على تطوير أشكال الاحتجاج السياسي إلى صورٍ حديثة!
ولندع ذا وذاك إلى تقرير مؤسسة راند عن حركة "كفاية" المصرية، حيث تتناول أسباب هبوط تأثير حركة كفاية ومظاهره، فتقول في كثيرٍ مما قالت: "يرى المراقبون أن الحركة ظلّت في (مرحلة الاحتجاج) لمدةٍ طويلةٍ جدًّا، وبصيغةٍ أخرى فإن الحركة ركّزت بصورةٍ كبيرةٍ جدًّا على التظاهر ولم تعط الاهتمام المطلوب لبناء قاعدة دعمٍ شعبية"(3).. فيُعد الاكتفاء بالاحتجاج دون بحثٍ عن الانتشار والتعبئة الشعبية، مما يؤدي لضعف تأثير وقوة الحركات السياسية، بمعنى أنّ الاحتجاج درجةٌ في السلم وليس كلّ السلم!
ثم تعالَ الآن إلى الإسلاميين وخلافهم الذي كان يغضبك، ولعله الآن قد بدأ يصير مقبولًا لديك، شأنه شأن كل الاختلافات التي تقبل وجودها كثمرةٍ حتميةٍ لحرية الرأي، وعساك الآن ترى أنّه من حقّ هؤلاء القوم أن يكون لهم نظرٌ مستقل، مثلما كان لمن سبقَ ذكرُهم.. يرفضون التظاهر كأسلوبٍ احتجاجيٍّ أو يقبلونه، يعتقدون بترجح المصالح المتعلقة به أو بغلبة المفاسد، من خلال النظر فيما يحتف بها من ظروفٍ وممارسات، يرون أن الاشتغال بالبناء والتوعية أولى أو يقررون أنّه لا تعارض؟؟ أليس هذا جزءًا من حقِّهم كآدميين قبل أن يكون حقَّهم كمفكرين وأصحاب قضية؟! إنّه -بلا شكّ- حقّهم لا يجادل في ذاك منصف! وهذا الذي قد كان .. فاسمع إذن!
إنّ كثيرًا من العلماء يرى جواز التظاهر كأسلوبٍ احتجاجي مادام لم يقارنه إثمٌ، ولم يكن الدافع إليه مُحرّمًا، وأغلبية فصائل العمل الإسلامي قد شاركت في مظاهراتٍ أو دعت إليها، لا يشذ عن ذلك السلفيون إذ خرج بعضهم متظاهرين -قبل الثورة- لنصرة قضيةٍ يدلس فيها الإعلام، ويداري حقيقتها عن الرأي العام، وتتخلف عنها النخبة وغالب دعاة حقوق الإنسان، لتصير قضيةً شائكة، ألا وهي قضية كاميليا شحاتة.. بينما يرى بعض أهل العلم حرمة المظاهرات لغلبة مفاسدها بما يخالطها أو ينتج عنها، أو أولوية غيرها من السبل عليها، أو عدم حصول فائدةٍ تُرتجى من ورائها، أو غير ذلك من مواطن النظر... المهم أنّ بعض أهل العلم يرى حرمة المظاهرات، وهذا حقهم، وممارستهم لهذا الحق لا تعني موالاة النظام السابق، فعداوتهم له وتضييقه عليهم قد سارت به الركبان، ويؤكدّ ذلك أمرٌ آخر لابد أن يُدرك جيدًا.. وهو أن الثورة المصرية لم تكن مجرّد مظاهرات وحسب! وإليك تفصيل ذلك!
يقول الأستاذ محمد عادل المتحدث باسم حركة 6 إبريل في إحدى اللقاءات التليفزيونية: "فرق ما بين الاحتجاج والمقاومة السلمية، الاحتجاج أن أنزل لأسجّل موقفًا عن أمرٍ معين، أقول –مثلًا- أنا أرفض تمديد العمل بقانون الطوارئ، ثمّ أذهب إلى بيتي وأنام، المقاومة هي أن تقف في وجه تنفيذ قانون الطوارئ"(4)، وعلى هذا قامت حركة 6 إبريل التي كانت بداية بزوغها الدعوة إلى إضرابٍ عام، في يوم 6 إبريل سنة 2008م، ولم تؤت تلك الدعوة الثمار المرجوة منها، وأعقبها توقيفاتٌ وتحقيقاتٌ واعتقالاتٌ بالجملة لكثيرٍ من النشطاء السياسيين والإسلاميين!
قامت حركة 6 إبريل على أساس المقاومة السلمية، وهي الفكرة التي عمل على بلورتها وسرد آلياتها، الأستاذ جين شارب Gene Sharp، ذلك الرجل الذي يقبع في العقد التاسع من عمره، بالكاد يستطيع أن يمشي، له العديد من الكتب التي تتناول فلسفة وتكييف المقاومة السلمية، وأسس معهد "ألبرت آينشتين" للتدريب على ذلك، وإليه يردُّ كثيرون إلهام الثورات التي قامت في أوربا الشرقية، وخصوصًا "ثورة البلدوزر" الصربية سنة 2000م، وحركة 6 إبريل قامت على ذات الفكرة، وتشربت تجربة حركة أوتبور Otpor الصربية(5)، وكانت تسعى لتفعيل المقاومة السلمية في مصر.. ثمّ.. ثمّ قامت ثورة تونس!
قامت الثورة التونسية وأدركت الشعوب العربية أن زوال الظالمين بأياديهم ممكن، ودعت صفحة "كلنا خالد سعيد" على الفيسبوك إلى نزول المصريين للتظاهر يوم 25 يناير 2011م وهو يوم عيد الشرطة، وقبِل الدعوة آلافٌ من الشباب المصري الطامع في "وضع حدٍّ أدنى مقبولٍ للأجور، وصرف إعانة بطالة، وإلغاء حالة الطوارئ، وإقالة وزير الداخلية، وحل مجلسي الشعب والشورى، ووضع ضماناتٍ لنزاهة العملية الانتخابية، وتعديل الدستور فيما يخص المواد المتعلقة بالترشح للرئاسة" كما كانت المطالب التي رفعتها صفحة "كلنا خالد سعيد" في أول الأمر، لا يتصور أحدهم أنّ هذا اليوم سيصير أيامًا يخلد التاريخ ذكراها، بل لا يوجد إلا فئةٌ قليلةٌ –تجد نفسها متفائلةً جدًّا- إذ تتخيل أن ينقلب تظاهر 25 يناير إلى ثورةٍ كثورات أوربا الشرقية!
وسُئل العلماء عن مظاهرات 25 يناير، فحضّ على الخروج فيها كثيرٌ من العلماء داخل مصر وخارجها؛ اتساقًا مع مذهبهم المستقر بجواز التظاهر، إضافةً لما رأوه في تونس، وأجاب بعض أهل العلم بعدم الجواز بعدما وازن بين المصالح والمفاسد، ونظر في قلة المصالح المتمثلة في الاستجابة لمطالب المظاهرات قبل ذلك، والتي لم يكن زوال رأس النظام معلنًا فيها ابتداء، ونظر في المفاسد المتمثلة في رد فعل النظام تجاه المظاهرات، مستحضرًا ما حدث في 6 إبريل 2008م، ولا ينسى أن تعامل النظام مع الإسلاميين ليس كتعامله مع غيرهم، فإسراء عبد الفتاح إحدى الداعين إلى إضراب 2008م، عندما اعتُقلت سُلطت عليها أضواء الإعلام، ورفعت قضيتها الكثير من الأقلام، وكثرت الوساطات لحسن معاملتها وإطلاق سراحها، وبالفعل خرجت سالمةً بفضل الله، لتختفي تمامًا عن المشهد ويتهمها كثيرون –ظلمًا لما ظهر بعدُ- أنّها "باعت القضية"، بينما لو كان مكان إسراء أحد الإسلاميين....!
فاصدقني القول تكرمًا.. أيّ شيءٍ من أفعال الإسلاميين أغضبك وجعلك ترميهم بالرجعية؟! أمن حقهم في الاختلاف أم ممارستهم الاختلاف تغضب؟! أم نظرهم فيما يحتف بالمظاهرات من ملابساتٍ كمثل دعوة الأستاذ ماركو جوجني؟! أم أنّ بعضهم لم ير جدوى للمظاهرات كمثل الناشط السياسي مات هاريسون؟! أم اهتمامهم بالبناء والتوعية أكثر من اهتمامهم بالاحتجاج كيلا يكون مصيرهم مثل حركة كفاية؟! أم كونهم ظنّوا أن يوم 25 يناير يوم تظاهرٍ وحسب كمثل عامة المصريين وغيرهم؟! أم خطأٍ فرديٍّ وقع من أحدهم فتعممه على الجميع؟! أم نسيانك أنّ كثيرًا منهم يرى جواز التظاهر والمشاركة فيه؟! أم إقصائك لمن لا يرى جواز التظاهر وحجرك على رأيه؟! أم أيّ شيءٍ هو؟!
ولكي يتضح أنّ الاتهام بركوب الموجة هو تحيّزٌ إعلاميٌّ أكثر من كونه حكمًا موضوعيًّا، فقارن بين موقف الشيخ يوسف القرضاوي وموقف الدكتور عمرو حمزاوي، فالشيخ يوسف القرضاوي معروفٌ مشهور، وله تأثيرٌ بالغٌ في كثيرٍ من الشباب، وقد سُجن واعتقل وعارض الحاكم وطُرد من مصر، وكان من أشد المساندين للثورة المصرية، وكلماته في قناة الجزيرة كانت صداعًا في رأس النظام لما لها من أثرٍ على الشعب، وخطب الجمعة التي تلت تنحي مبارك في ميدان التحرير، وبعد هذه الخطبة عادت علاقة الشيخ بالشأن المصري إلى ما كانت عليه قبل الثورة.
الدكتور عمرو حمزاوي لم يكن معروفًا قبل الثورة، وما كان لكلمته تأثيرٌ في أحدٍ من الشباب، وكان عضوًا في لجنة السياسات بالحزب الوطني لفترة، وسافر ألمانيا وحصل على الجنسية الألمانية(6)، وخرج قبل الثورة على قناة BBC العربية ليقول إن مصر ليست كتونس، لا من ناحية حجم الفساد الداعي للثورة، ولا من ناحية ثقافة وتعليم و"علمانية" –هكذا!- الشعب القائم بالثورة، مستبعدًا أن تثور مصر كما ثارت تونس(7)، وكانت كلماته أثناء الثورة كلمات محللٍ سياسي، لا كلمات ثائرٍ أو مناضل، وبعد الثورة أنشأ حزبًا سياسيًّا، ويندر يومٌ لا تلقى وجه حمزاوي أو قلمه في شيءٍ من وسائل الإعلام!
فانظر في الإعلام الموجّه يرمي الشيخ القرضاوي بركوب الموجة، بل يعرض التليفزيون المصري تقريرًا عن الثورة، وعندما يتلو قارئ التقرير فقرةً عن ركوب الموجة، لا يجد المُعد إلا أن يضع مشهد الشيخ القرضاوي وهو يخطب الجمعة في ميدان التحرير، في حين أنّني لم أقف على أحدٍ حتى الآن في الإعلام الليبرالي الحر، يتهم الدكتور عمرو حمزاوي بركوب الموجة، مع أنّ التعريف الرسمي –إن كان- لركوب الموجة على المذهب الإعلامي لو تجسّد في تجاليد إنسانٍ لما خرج عن قالب الدكتور عمرو حمزاوي!!
ثم.. ثم أتى يوم 25 يناير .. أتى وقام الشعب .. "قام الشعبُ فأسمع من كانت له أذنان، فإذا فئةٌ من محترفي السياسة، ومن كلّ محتالٍ عليم اللسان، ومن كل وجيهٍ زيّنه ماله وغناه، ومن كل ذي صيتٍ رفعته الأقدار بالحق أو بالباطل، قد هبّوا جميعًا مع الشعب يقولون بمثل الذي يقول، فظنّ الشعب أنّهم قد صدقوا بعد ماضٍ كذب على التاريخ وعليهم، فرضي عنهم وأعانهم، ولكن لم يلبث إلا قليلًا حتى رأى الوادي يموج عليه بالحيات والأفاعي والعقارب، وكلِّ لدَّاغٍ ونفاثٍ وغدَّار"(8)، فهل لنا في زيارةٍ إلى هذا الوادي ونحن في حديث الركمجة؟! سوف –بإذن الله- نرى!
-----------
(*) من كلمات المناضل الجزائري العربي بن مهيدي رحمه الله، وتشبهها كلمة ماوتسي تونج "الثورة أسماك.. مياهها الشعوب".
1) Giugni M - Social protest and policy change … Ecology, antinuclear and peace movements in comparative perspective – P. 225.
2) انظر مقاله على موقع معهد برمثيوس:
http://theprometheusinstitute.org/index.php?option=com_content&view=article&id=197:w hy-public-demonstration-is-a-useless-form-of-activism&catid=54olitics&Itemid=37
(3)The Kefaya Movement: A Case Study of a Grassroots Reform Initiative – A report prepared by the RAND Corporation – P.39.
(4) في لقاءٍ معه ببرنامج "كل يوم" على قناة 25، واللقاء متاح على اليوتيوب كاملًا، عند الدقيقة 17 تقريبًا، مع نقل الكلام من العامية إلى الفصحى.
(5) انظر لقاء المتحدث باسم 6 إبريل الذي سبقت الإشارة إليه، وهو يحكي عن سفره إلى صربيا، لمعرفة التجربة الصربية في الثورة والاستفادة منها، وكذلك انظر تقريرًا مصوّرًا بعنوان "صناعة الثورات" يتحدث عن جين شارب، وعلاقته بالثورات في صربيا وجورجيا وأوكرانيا وغيرها، وفيه أحد أعضاء Otpor يذكر مفتخرًا أنّه درّب شباب 6 إبريل.
http://www.youtube.com/watch?v=lpXbA6yZY-8
(6) انظر مقاله: الوزارة والجنسية:
http://www.shorouknews.com/Columns/column.aspx?id=397158
(7)
http://www.youtube.com/watch?v=pYE8qyZnCfo
(8)جمهرة مقالات الشيخ محمود شاكر رحمه الله (1: 310 فما بعدها).
تعليق