رابعا : منهج السادات فى حكاية الخلاف
لم تُعرف أمة بين الأمم فى تاريخ البشرية كله اهتمت بفقه الخلاف كما اهتمت به الأمة الإسلامية .. كما لم تَعرف أمة من الأمم أدب الخلاف كما عرفته الأمة الإسلامية .. وقد كان مسلك العلماء دائما قديما وحديثا فى نقل وحكاية الخلاف مسلكا بديعا يبهر كل من يطلع عليه .. فترى العالِم من علمائنا يتحرى دقة عجيبة فى نقله الرأى عمن قاله وعرضه كما قاله ولو كان مخالفا لرأيه أو مرجوحا لديه
أما كيفية حكاية الخلاف فتأخذ أكثر من صورة تتنوع بين التفصيل والإجمال والتصحيح والترجيح والفصل والتوقف - حسب قوة الخلاف وسببه وفائدته وحسب الظرف الذى فيه يُحكى الخلاف .. وبيان ذلك
بداية من حيث الظرف الذى يُحكى فيه الخلاف .. فمجال البحث يختلف عن مجال الفتيا - فالأول أدعى إلى التفصيل والتبيين وذكر كل دقائق الخلاف وأحواله بينما الفتيا يقتصر فيها على ما تقتضيه ظروف كل فتوى بحالها وطبيعتها
كما تؤثر قوة الخلاف على حكايته فكلما زادت قوته كلما زاد اهتمام العالم به من حيث تأصيله وتوضيحه وتبيينه
أيضا سبب الخلاف يؤثر بالايجاب والسلب على حكاية الخلاف فخلاف مرده "ظنية النص" الواحد - مثلا - أقوى من خلاف مرده نص صحيح ونص ضعيف .. وخلاف سائغ يختلف عن خلاف غير سائغ .. وهكذا
كذلك تتوقف حكاية الخلاف على فائدته فما لا فائدة فيه لا يُنصب فيه الخلاف أساسا ناهيكم عن حكايته وكلما زادت أهمية الخلاف - يعنى المسألة - زادت أهمية نصبه - ببحث واجتهاد العلماء فى المسألة - وزادت تبعا أهمية حكايته
وإذا أردنا أن نتلمس مثالا على منهج العلماء فى حكاية الخلاف - فلنأخذ نص كلام الحافظ ابن كثير فى المسألة التى نحن بصددها "جنة آدم" من كتاب البداية والنهاية - باب خلق آدم عليه السلام
يقول الحافظ رحمه الله ( وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه الجنة التي دخلها آدم هل هي في السماء أو في الارض هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه ) فقد نبه هنا على أهمية الخلاف بعد أن نبه قبلها على عدم أهمية الخلاف حول نوع الشجرة التى مُنعا من الأكل منها - فربط بين حكاية الخلاف وأهميته .. ثم شرع فى بيان رأى الجمهور وأدلته فقال ( والجمهور على أنها هي التي في السماء وهي جنة المأوى لظاهر الآيات والاحاديث كقوله تعالى ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) والالف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي وإنما تعود على معهود ذهني وهو المستقر شرعا من جنة المأوى وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام ( علام أخرجتنا ونفسك من الجنة ) الحديث كما سيأتي الكلام عليه * وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الاشجعي واسمه سعد بن طارق عن أبي حازم سلمة بن دينار عن أبي هريرة * وأبو مالك عن ربعي عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله الناس فيقوم المؤمن حين تزلف (3) لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم " وذكر الحديث بطوله * وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى وليست تخلو عن نظر. ) ثم عرج على ذكر رأى المخالفين وأدلتهم فقال ( وقال آخرون بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد لانه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ولانه نام فيها وأخرج منها ودخل عليه إبليس فيها وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى. )
ثم بدأ فى تبيان من نُقل عنه قوله بأنها ليست جنة الخلد ثم ذكر من حكى هذا الخلاف قبله وأين - كقوله حكاه فلان فى تفسيره - ثم ذكر رضى الله عنه نقلا أعتبره مهما لشرحه ولكن قبل إيراده أقول أنه بعد ذلك أسهب كثيرا فى تبيان دقائق الخلاف .. فبدأ بتبيان دليل المخالفين ثم ما أجابهم به الجمهور ثم دليل الجمهور وإجابة المخالفين عليه وهكذا حتى شمل كلامه جميع دقائق الخلاف
ثم بدأ فى تبيان من نُقل عنه قوله بأنها ليست جنة الخلد ثم ذكر من حكى هذا الخلاف قبله وأين - كقوله حكاه فلان فى تفسيره - ثم ذكر رضى الله عنه نقلا أعتبره مهما لشرحه ولكن قبل إيراده أقول أنه بعد ذلك أسهب كثيرا فى تبيان دقائق الخلاف .. فبدأ بتبيان دليل المخالفين ثم ما أجابهم به الجمهور ثم دليل الجمهور وإجابة المخالفين عليه وهكذا حتى شمل كلامه جميع دقائق الخلاف
أما النقل الذى تكلمت عنه فهو الآتى
( والقاضي الماوردي في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي أسكناها يعني آدم وحواء على قولين * أحدهما أنها جنة الخلد * الثاني جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء. ومن قال بهذا اختلفوا على قولين * أحدهما انها في السماء لانه أهبطهما منها وهذا قول الحسن * والثاني أنها في الارض لانه متحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار. وهكذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم والله أعلم بالصواب من ذلك. هذا كلامه. فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة واشعر كلامه أنه متوقف في المسألة. ولقد حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي. ورابعها الوقف * وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي (2). )
( والقاضي الماوردي في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي أسكناها يعني آدم وحواء على قولين * أحدهما أنها جنة الخلد * الثاني جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء. ومن قال بهذا اختلفوا على قولين * أحدهما انها في السماء لانه أهبطهما منها وهذا قول الحسن * والثاني أنها في الارض لانه متحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار. وهكذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم والله أعلم بالصواب من ذلك. هذا كلامه. فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة واشعر كلامه أنه متوقف في المسألة. ولقد حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي. ورابعها الوقف * وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي (2). )
فهو لم يكتف بحكايته هو للخلاف بل حكى أيضا حكاية القاضى الماوردى للخلاف فى تفسيره لمجرد أنه وجد فى تلك الحكاية فائدة بسيطة هى "التوقف" .. والقاضى الماوردى فى تفسيره نجد أنه ذكر ثلاثة أقوال فى المسألة ثم قال "والله أعلم بالصواب من ذلك" - وهذه الجملة وحدها عُدت منه - القاضى الماوردى - توقفا فاعتبر ذلك قولا رابعا فى المسألة وهو التوقف قال الحافظ "فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة وأشعر كلامه أنه متوقف فى المسألة" وأيد ذلك بنقله عن الإمام الرازى أنه حكى الأربعة - بما فيها التوقف
السؤال هنا .. كيف بلغت الدقة فى حكاية الخلاف مع علمائنا هذا المبلغ ولماذا ؟
لماذا لم يكتف الحافظ رضى الله تعالى عنه وأرضاه بأن يقول "أرى أن هذه الجنة هى كذا" أو يزد قليلا فيقول "فيها أربعة أقوال هى كذا وكذا وكذا وكذا والذى أراه كذا" أو يزد قليلا فيقول "وممن قال بكذا فلان وقال بكذا فلان و ......" لماذا هذه الدقة فى حكاية الخلاف بل وحكاية حكاية الخلاف .. ثم الأمانة فى العرض والنقد والنقل حتى فى عرض أدلة كل فريق وردود الفريق الآخر عليها - حتى أنك لا تستطيع أن تعرف رأى الكاتب نفسه فى المسألة لو لم ينبه هو نفسه على ذلك
السبب فى هذه الأمانة والدقة والتحرى فى حكاية الخلاف عند التعرض لها يأتى بإذن الله تعالى فى النقطة التالية فى فوائد حكاية الخلاف
بقى فقط أن أنبه إلى أنه ليس معنى أنى أوردت هذا المثال أنه يجب على الانسان فى كل حالة أن يعرض الخلاف بهذه الطريقة بل الصواب كما قلت بدءا أنه يجب على الإنسان أن يتخير الحكاية الملائمة لكل موقف حسب ما يحتاجه الموقف .. والله تعالى أعلم
يتبع بإذن الله تعالى
تعليق