ركبَ الموجة ..! ركبته الموجة ..!
"لم تكن دعوة الفلاسفة أبدًا إلى التمرد، حيث إن غرضهم لم يكن
يومًا متمثلًا في طرح النظام الاجتماعي، وإنما كان مرماهم إجمالًا
إلى حماية الدولة من الكوارث من خلال التحديث والإصلاح"(*)
يومًا متمثلًا في طرح النظام الاجتماعي، وإنما كان مرماهم إجمالًا
إلى حماية الدولة من الكوارث من خلال التحديث والإصلاح"(*)
أمست فقرةً ثابتة ينتظرها المشاهدون مطمئنين، في أيّ لقاءٍ يجمع مذيعًا جريئًا بأحد الإسلاميين، يسأله عن شعوره أثناء ركوب موجة الثورة المصرية، ولا يتغير المشهد عن إسلاميٍّ يتوسط قفص الاتهام، محاولًا أن يستجلب رفقاء يؤنسونه حبسه، يشركونه التهمة ويخففون بؤسه، دون أن يرى حقيقةَ نفسه .. بريئًا يتهمه مشبوهون، ويكتمل المشهد بمذيعٍ يستذئب على ضيفه، يُحكم عليه الخناق مبلغ استطاعته، من غير أن يحدثّنا عن تعريف ركوب الموجة، وأركان الركوب وشروطه، وحيثيات التلبس بالفعل، ليتمكن المشاهد من ممارسة الحكم بموضوعيةٍ ما، بدلًا من أن تظل التهمة بيد الآلة الإعلامية وحدها، ترمي بها من تشاء، وتمسكها عمّن تشاء، وهي تحسب -كالأعرابي حال جهله- أن مدحها زين، وأن ذمها شين ... فتعالوا نتطفل على المشهد!
يُقال ركب الرجل الموجة، إن كان منكرًا على من استشرف قدومها قبل بدوِّها، وسعى في تشكيك الناس في نفع اللحاق بها إذ أقدمت، وما أعدّ نفسه لامتطائها أوان ظهورها، حتى إذا أتت عليه وأحس دفعها في خصره، ركبها سابحًا مع ركبها ... هذا -فيما يبدو- هو تعريف ركوب الموجة عرفًا واصطلاحًا، استقراءً للأجزاء الشتيتة المبعثرة على الألسنة هنا وهناك .. والمقصود بالموجة هنا هو الثورة المصرية، والقصد من ركوبها يتراوح بين ادعاء المشاركة فيها إلى ادعاء الزعامة لها .. فهل لنا الآن بالبحث فيمن ركب الموجة؟! تعالوا نجرّب!
هل يمكننا أن نستعين في حيثيات الاتهام بركوب الموجة بعنصر الزمن، ومركب السياسة، وجزئيات الحوادث، ثم ننظر فنرى من الذي ركب الموجة حقًّا؟! ومن الذي أغرقته الموجة؟! هل يمكننا؟! نعم .. فما عليّ إن طوّفت والقارئ الكريم ساعةً أو بعض ساعة، في أمرٍ صار من لوازم استقبال أيّ إسلاميٍّ هذه الأيام، سواءً أكان مرشحًا للرئاسة أو عضوًا في حزب، أو حتى من لم يكن منه إلا التلبس بسمت السنة الظاهر، فما علينا بأسٌ –إن شاء الله- إن طال بنا التطواف قليلًا، في سبيل فك هذه العقد التي ينفثها الإعلام الموجّه في مصرنا بالليل والنهار!
نتجه عكس اتجاه عقارب الساعة، ونسبح ضد تيّار الأيام إلى ما قبل الثورة، كردِّ فعلٍ لاتهام الإسلاميين بركوب الثورة من خلال سلوكهم قبلها، باعتزالهم للسياسة أو تحريمهم الخروج على الحاكم، ومن خلال ذلك تحكم "محكمة الثورة" على الإسلاميين بركوب الموجة .. ولنهدأ قليلًا! ولنفحص تلك الدعوى فحصًا دقيقًا! فهاهنا موضع خفة اليد، وسحر العين، وقلب الحقائق!
ولنبدأ الحديث عن دعوى اعتزال الإسلاميين للسياسة قبل الثورة، برأي هنتجتون في دور الأحزاب في الاستقرار السياسي إذ يقول "إن تقليل احتمال عدم الاستقرار السياسي الذي ينتج عن اتساع الوعي السياسي والانغماس السياسي، يستلزم خلق مؤسساتٍ سياسيةٍ حديثة– أي أحزابٍ سياسية- في بداية عملية التحديث"، وبقول الدكتور أسامة الغزالي حرب إن "أحزاب التمثيل تستمد شرعيتها من النظام ذاته"(1).
قد علم أهل السياسة أن العمل السياسي العسير، ليس في البحث عن رغبات الناس وإنشاء أحزابٍ لتمثيلها، وإنما الجهد الحقيقي في العمل التعبوي، من خلال تعبئة الناس نحو حزمةٍ من الأفكار، بشرحها وتبسيطها والترويج لها وبيان مزاياها، فالعمل لحزبٍ تعبويٍّ أشد تطلبًا من العمل لعشرةٍ من أحزاب التمثيل، ويتضمن هذا العمل التعبوي إضافةً للتوعية السياسية، فطمعًا من المواطنين في المشاركة السياسية، فتهديدًا لاستقرار النظام الحاكم ما لم تنخرط هذه القوى السياسية الواعدة في إطارٍ حزبيٍّ يرضاه النظام الحاكم كما سبق من قول هنتجتون.
جمعني– بعد الثورة -لقاءٌ بمرشح الرئاسة الأستاذ حمدين صباحي، وذلك في أحد المؤتمرات الطبية لا أدري أدُعيَ إليها أم تصادف وجوده، فبدأ متكلّمًا عن مجانية التعليم بكلامٍ طالما سمعناه، فاعترض الجالسون بأنّ المجانية قد تؤثر على الكفاءة، فأضاف أن المجانية ستكون في إطار ما يسمح بالكفاءة المطلوبة، فاعترض الجالسون بأنّ التعليم ليس غاية الدولة، وإنّما تأهيل الأفراد بحسب غاية الدولة، فإن التعليم المجاني اللازم لتأهيل أهل الحرف ليس كالتعليم المجاني اللازم لأهل الطب مثلًا، فنظرة رئيس الدولة لأفراد شعبه ليست كنظرة رب الأسرة لأبنائه، فما كان من صباحي إلا أن أضاف إلى مجانية التعليم تأطيراتٍ أخرى تناسب المقام... وهكذا هي أحزاب التمثيل... يدخل الرجل في ألف رجلٍ بوجه، فيخرج بألف وجهٍ، ويحدّثهم بلسان، وينصرف عنهم بألف لسان، وهذا أمرٌ سهلٌ يحسنه –وقد يحبه- محترفو السياسة!
في حين أنك تجد الاستفتاء على التعديلات الدستورية بالرفض أو القبول، قد استدعى عملًا تعبويًّا يقتضي سعيًا سياسيًّا في سبيل حشد الناس في اتجاهٍ معين، فرأينا حينها كيف ارتقت المشاركة السياسية لدى المواطنين، وكيف صار الرجل -ليس له في السياسة من قبل- داعيةً لقبول التعديلات، وصاحبه لم يشارك بحزبٍ يومًا يدعو لرفض التعديلات .. هكذا أحزاب التعبئة، يدخل الرجل في ألف رجل، فيصبحون على قلب رجلٍ واحد، ويحدثهم بلسانٍ، فينصرف عنه ألف داعية!
وقد علمنا من حديث الزمان، أن أقصى درجات الخصومة السياسية، أو آخر أوراق الضغط السياسي، فضلًا عن اليأس من قدرة النظام على الإصلاح، تتمثل في اعتزال العملية السياسية التي يديرها النظام الحاكم، هكذا اعتزلت جبهة العمل الإسلامي الانتخابات الأردنية في نوفمبر 2010م، ومثلها كبرى أحزاب المعارضة السودانية إذ اعتزلت انتخابات 2008م، ومثلها التيارات الأمازيغية إذ اعتزلت الانتخابات المغربية مرارًا، وقد راجت الدعوة لمقاطعة الانتخابات المصرية التي سبقت الثورة في نوفمبر2011م بين بعض القوى السياسية، إعلانًا لرفض سياسة النظام، وتشكيكًا في ضمانات النزاهة والشفافية في إدارة العملية الانتخابية.
ونحن نرى في أيامنا هذه أنّ النضج السياسي قد بلغ أشده، متمثلًا في تصريح القوى السياسية المختلفة، أنّ القضية الحالية ليست في استبدال أشخاصٍ بأشخاص، فإن أصل الداء وأمّ القيح يتمثل في النظام السياسي والإطار القانوني، فلا يهم عدد الأحزاب التي سيُعترف بها وإن كان فيهم حزب الوسط وحزبٌ للجماعة الإسلامية، إنما القضية في قانون الأحزاب نفسه، ولا يهم أن يأتي إلينا رئيسٌ ترضاه النخبة أو لا، إنما المهم هو تحديد صلاحيات الرئيس وآليات محاسبته وسبل عزله... وهذا كلامٌ حسنٌ جميلٌ، أنعِم به وأكرِم!
ومن هذا الذي مضى كلّه، فإنّ طائفةً في الدولة تخاصم النظام السياسي حتى أنها تعتزل سياسته، وتعمل في السياسة بمعناها الواسع العسير، من خلال تعبئة الناس تجاه فكرها ورؤيتها، بما يخالف إدارة النظام الحاكم وطريقته، ثم هي لا تشارك بحزبٍ سياسيٍّ لتقليل عدم الاستقرار السياسي، الناتج عن وعي هذه الطائفة، وهي طائفةٌ بلغت من النضج أنها ترى أن الآفة في النظام السياسي والقانوني، وليست في مجرد استبدال أشخاصٍ بأشخاص ... أفليس من الظلم البيّن والافتراء الطاغي أن تُرمى هذه الطائفة بركوب الموجة لأنّها اعتزلت السياسة؟!! أفليس من طمس البصيرة وجهل السياسة ألّا تُرى حقيقة هذه الطائفة شرخًا في دولة النظام البائد تهدد استقراره؟! أليست هذه الطائفة بين طوائف المشاركة السياسية الهشة هي الحقيقة بأن تكون الطائفة الثائرة الرافضة للنظام وسياسته؟!
إنّ من السطحية التي لا أراها تقع إلا متعمدة، أن يُنظر إلى طائفةٍ كان نظام مبارك نفسه يضطهدها، ويدرك خطرها، ويسومهم الحبس والنفي والقتل، بل أكثر من ذلك عند ذوي المروءة والغيرة.. يُنظر إلى هذه الطائفة التي أدرك النظام السابق ثقلها السياسي، على أنّها مجرد طائفةٍ اعتزلت السياسة!! هكذا... وكأنّهم مجموعةٌ من دراوشة الصوفية الجبرية.. ثمّ .. ثمّ إني أراني أطلتُ التطواف بصاحبي، وأوشك أن أكون ضيفًا ثقيلًا على قارئي .. فأستأذنه قليلًا لنعود بحديثٍ عن المصداق العملي لسلوك هذه الطائفة، وما قرُب منها من تيارات العمل الإسلامي، مع اتحادهم في أصل النظر .. وما قضية تحريم الخروج على الحاكم؟! وهل في الليبراليين مانعٌ للخروج على الحاكم؟! ثمّ من الذي ركبته الموجة؟! وسوف -بإذن الله- نرى!
-----------
(*) J-J. Mounier - See: B. Baczko, ‘Enlightenment’, in F. Furet and M. Ozouf, eds, A Critical Dictionary of the French Revolution, Cambridge, MA, 1989, p. 661.
(1) الأحزاب السياسية في العالم الثالث: 81 و 182.
تعليق