نزول الوحي على سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم
** كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين من عمره وكان يخلو في غار حراء بنفسه، ويتفكر في هذا الكون وخالقه، وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليالٍ أخرى، وفي نهار يوم الاثنين من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء .
** وقد نقل البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ،
- فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ" قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني قال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ" فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: "ما أنا بقارئ" فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق: 1: 4] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجُف فؤاده ،
- فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: "زملوني! زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا [ أبشر ]والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم [ وتصدق الحديث ]، وتحمل الكل وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى, ابن عم خديجة [ أخي أبيها ] ، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ،
- فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى: فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيّ هم؟" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك قال : فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك .
هكذا وقع مطولا في ( باب التعبير ) من ( البخاري )
وأخرجه مسلم في ( صحيحه ) وانتهى سياقه إلى قول ورقة : ( أنصرك نصرا مؤزرا ) . .
** قال جابر بن عبد الله الأنصاري - وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه - :
( بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني ب ( حراء ) جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت : زملوني زملوني . فأنزل الله : ياأيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر [ المدثر : 1 - 5 ] . فحمي الوحي وتتابع ) .
رواه البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه (1)
=======================
عندما نتأمل في حديث السيدة عائشة يمكن للباحث أن يستنتج قضايا مهمة تتعلق بسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أهمها:
أولاً: الرؤيا الصالحة:
** فقول أم المؤمنين عائشة : ( أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ) يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ . فقلت : ما أقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني ) .
وذكر نحو حديث عائشة سواء .
** فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة وقد جاء مصرحا بهذا في ( مغازي موسى بن عقبة ) عن الزهري أنه رأى ذلك في المنام ثم جاءه الملك في اليقظة .
** وروى أبو نعيم في ( الدلائل ) بسنده عن علقمة بن قيس قال :
( إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي بعد ) (2) .
.
** ولعل الحكمة من ابتداء الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا, وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل, فقد يصيبه شيء من الفزع، فلا يستطيع أن يتلقى منه شيئا، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يأتيه الوحي أولا في المنام ليتدرب عليه ويعتاده والرؤيا الصادقة الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في الحديث الشريف وقد قال العلماء: وكانت مدة الرؤيا الصالحة ستة أشهر، ذكره البيهقي، ولم ينزل عليه شيء من القرآن في النوم بل نزل كله يقظة.
** والرؤيا الصالحة من البشرى في الحياة الدنيا فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " أيها الناس, إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له " .
** لقد أجمعت الروايات من حديث بدء الوحي أن أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة الصالحة، يراها في النوم فتجيء في اليقظة كاملة، واضحة كما رآها في النوم، لا يغيب عليه منها شيء كأنما نقشت في قلبه وعقله، وقد شبهت السيدة عائشة رضي الله عنها- وهي من أفصح العرب- ظهور رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا استيقظ بها من كمال وضوحها بظهور ضوء الصبح ينفلق عنه غبش الظلام، وهو تصوير بياني لا تنفلق دنيا العرب في ذرى فصاحتهم عن أبلغ منه .
---------------------------
ثانيًا: ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه:
** وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه . (3)
** والغار الذي كان يتردد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يبعث على التأمل والتفكر، تنظر إلى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالاً كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه, مكة إذا كان حاد البصر .
** كانت هذه الخلوة التي حببت إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم لونًا من الإعداد الخاص، وتصفية النفس من علائق المادية البشرية إلى جانب تعهده الخاص بالتربية الإلهية والتأديب الرباني في جميع أحواله، وكان تعبده صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بالتفكر في بديع ملكوت السماوات، والنظر في آياته الكونية الدالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه.
** ومن سنن النبي صلى الله عليه وسلم سنة الاعتكاف في رمضان وهي مهمة لكل مسلم سواء كان حاكمًا أو عالمًا، أو قائدًا، أو تاجرًا.. لتنقية الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب، ونصحح واقعنا على ضوء الكتاب والسنة، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب .
** ويمكن لأهل فقه الدعوة أن يعطوا لأنفسهم فترة من الوقت للمراجعة الشاملة والتوبة، والتأمل في واقع الدعوة وما هي عليه من قوة أو ضعف واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله ، خيره وشره .
** وفي قول السيدة عائشة: " فيتحنث الليالي ذوات العدد " يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: " هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل إلى نهاية القلة ولا إلى نهاية الكثرة، وما زال هذا الهدي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من التوسط والاقتصاد في الأعمال ، شعارًا للملة الإسلامية ورمزًا للهدي النبوي الكريم بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين " .
------------------------
ثالثًا: حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء المَلَك فقال: اقرأ.
** قال: قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق: 1-4] .
** وهي أول ما نزل من القرآن في يوم الاثنين كما ثبت في ( صحيح مسلم ) عن أبي قتادة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين ؟
فقال : ( ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزل علي فيه ) .
وقال ابن عباس :
ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ونبي يوم الاثنين .
وهذا ما لا خلاف فيه .
-- والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان كما نص على ذلك عبيد بن عمير ومحمد بن إسحاق وغيرهما واستدل ابن إسحاق على ذلك بقوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس [ البقرة : 185 ] .
-- وأما قول جبريل : ( اقرأ ) فقال : ( ما أنا بقارئ ) فالصحيح أن قوله : ( ما أنا بقارئ ) نفي أي : لست ممن يحسن القراءة وممن رجحه النووي وقبله الشيخ أبو شامة .
ومن قال : إنها استفهامية . فقوله بعيد لأن الباء لا تزاد في الإثبات .(4)
** لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول شيء نزل من القرآن الكريم وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وإن من كرم الله تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم, فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به آدم عليه السلام على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون بالكتابة بالبنان وبهذه الآيات كانت بداية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقد كان هذا الحادث ضخمًا، لقد عبر عنه الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في ظلاله فقال: "إنه حادث ضخم, ضخم جدًا، ضخم إلى غير حد، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
** إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته، وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعًا، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد -بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
هذا ما نراه فى المشاركه القادمه بإذن الله
-------------------------------
1// صحيح السيره النبويه للالبانى
2// نفس المرجع السابق
3// نفس المرجع السابق
4// نفس المرجع السابق
********************
يتبع باذن الله
تعليق