الليبرالية والعلمانية.. الجسد والروح / طارق عثمان .
التاريخ: 18/8/1432 الموافق 20-07-2011 |
المختصر/ في ظل حالة الرفض التي يقابل بها العقل المسلم المنتج الليبرالي عمد أصحاب الفكر الليبرالي ودعاته إلي حيلة جديدة لتسويق هذا المنتج المنبوذ إذ خرجوا علينا بلافته كتب عليها أن الليبرالية ليست هي العلمانية. وذلك لأن الأخيرة بلغ من سوء سمعتها أنها لم تعد مقبولة مجتمعيا لذا كل ما نسب إليها من قريب أو من بعيد يعاني إذا أراد الاقتراب من العقول لذا هرع دعاة الليبرالية إلي قطع الصلة بينها وبين العلمانية لتسهيل عملية التسلل إلي العقول.
لبيان حقيقة هذه الدعوي نتعرض للعلمانية وموقفها من الدين ثم نري موقف الليبرالية منه فسنعتمد في تحديد ماهية كل منهما علي الموقف من الدين مما سيكشف حقيقة علاقتهما ببعض
أولا : في العلمانية
تعتبر العلمانية واحده من أهم الإشكالات المطروحة في واقعنا الثقافي والسياسي وهناك رؤية شائعة تختزل العلمانية في كونها فصل للدين عن السياسة وهذا الذي اصطلح عليه المسيري بالعلمانية الجزئية ولكن في الحقيقة العلمانية تتجاوز هذا المستوي الإجرائي الشكلي فهي فكرة شاملة تضع رؤية للعالم بكل ما تحمل كلمة رؤية من بعد عقدي وفلسفي شامل وهو ما سماه المسيري بالعلمانية الشاملة
وككل الأنساق الفكرية والفلسفية الغربية ينبغي أن ينتهج في دراستها المنهج التاريخي لمعرفة الشرط التاريخي الذي أثر في تكوينها والعوامل المجتمعية التي ساعدت في بلورتها هذا المنظور التاريخي شرط لكي نحصل وعيا كاملا بحقيقة الفكرة ثم بعد ذلك نسعى في إنجاز تقييم لها
أول من صك مصطلح العلمانية هو جورج هوليوك في 1851
وقد لخص محدداتها في :
العلم دليل حقيقي للإنسان , والقيم مصدرها دنيوي وأرضي وليس ديني , والبرهان المنطقي سلطة وحيدة , وحرية الفكر والرأي أسس للعيش , وجهودنا كلها مصوبة للحياة التي نعيش فيها .
فيتضح من التعريف : أن العلمانية لا تعني عند القوم فصلا للدين عن السياسة فحسب , وإنما تمثل رؤية متكاملة للحياة جوهرها نفي الاعتماد علي الدين كمصدر لفهم الحياة أو محدد وضابط لممارستها , فالحقيقة فقط ما يثبتها العلم التجريبي الحسي المبني علي المشاهدة , والقيم المعتبرة التي تضبط الحياة يضعها البشر فهي أرضية المصدر ولا علاقة للسماء بشؤون الأرض والكل يتحاكم إلي المنطق العقلي لا لغيره ولكل أحد أن يتبني ما شاء من أفكار دون أي قيد وتفكيرنا لا يتجاوز ما نراه بالعين فنسعى في تحقيق مصالحنا الآنية ولا مكان للغيب أو الميتافيزيقا .
إذاً فالعلمانية هي بديل للدين ونقيض له لا يمكن أن يجتمعا أبدا , فإما أن نعتمد علي الدين لفهم الوجود وأسئلته الكبرى ونتخذه سلطة نتحاكم إليها في الحياة وتنضبط ممارستنا الحياتية بقيمه وقوانينه , وإما أن نتخلى عن الدين تماما وننفيه ونتخذ ما أنتجته عقول البشر بديلا عنه أي فلسفة وأي فكر مقبول طالما لا يمت للدين بصلة !
ونحاول من خلال المنهج التاريخي أن نتتبع صيرورة الفكر العلماني في الوعي الغربي
فالعلمانية ليست فكرة تبلورت في ذهن فيلسوف فصاغها نظرية ثم طالب بتنفيذها في الواقع وما فعله هوليوك عندما صاغ تعريف للعلمانية هو توصيف لواقع مجتمعي كان آخذا في الهيمنة علي بنيات المجتمع
كثير من الباحثين عندما يتناول نشأه العلمانية يرجعه إلي التجربة الكنسية التي هيمنت علي الواقع الغربي في العصر الوسيط حيث يرون أن المسيحية نفسها في نسختها الكنسية قد أسست لإبعاد الدين عن الحياة , ويتم استحضار النص المنسوب للمسيح عليه السلام (ما لقيصر وما لله لله) , ولكن مع فرض ثبوت هذا النص - وإثبات هذا دونه خرط القتاد! - فإن السياق الذي قيل فيه لا يفيد إطلاقا المعني العلماني لأنها كانت تعقيبا منه للخروج من مأزق مع الحاكم الروماني أراد اليهود أن يوقعوا المسيح فيه , والنص في سفر متى يقول (حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين يا معلم ..أيجوز أن نعطى جزية لقيصر أم لا ؟ فعلم يسوع خبثهم وقال لماذا تجربونني يا مراؤون أروني معاملة الجزية فقدموا له دينارا فقال لهم لمن هذه الصورة والكتابة ؟قالوا له لقيصر فقال أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا )
لا شك أن التجربة الكنسية كانت عاملا مهما في بزوغ العلمانية , ولكن جعلها السبب الرئيس والمحدد لظهور العلمانية كفكر في الوعي الغربي لا نرجحه , بل نتبني أطروحة "الطيب بوعزة" حيث يجعل التاريخ الممهد للعلمنة أبعد بكثير من التجربة الكنسية فهناك تطورات ثاوية خلفها شكلت الفكر العلماني وإن كان بزوغه كان من رحم القرون الوسطي بعد التخلص من الكنسية والدخول في الحداثة .
إن علاقة روما بالمسيحية لم تكن علاقة اعتناق أمة لدين بقدر ما كانت عملية استغلال تم فيها تحريف المسيحية بتشكيلها علي نمط العقائد الوثنية الموجودة في روما اليونانية , لذا تصح هنا المقولة الشائعة (لم تتمسح روما وإنما ترومت المسيحية ) .
لذا لابد من البحث فيما وراء التجربة الكنسية من فكر يوناني وروماني لنجد بوضوح البذور التي نمت منها العلمانية حاضرة فالوعي الغربي في أصوله القديمة كان مهيئا للتأسيس للعلمانية وتقبلها , فالنسق الفكري الغربي في أصوله اليونانية يقوم علي التضاد بين الدين والدنيا ولإدراك ذلك نرجع إلي التراث الإغريقي لننظر في مفهوم الألوهية هناك سنجده مفهوما ضامر القيمة ليس له أي قداسة أو إجلال , وأن الآلهة ليست مبدأ الكون فهي لم تخلق الإنسان أو الكون وكذلك ليس لها إرادة , فالإنسان حصل علي المعرفة بعد صراع مع الآلهة , فهذا ما تقوله أسطورة برومثيوس أن زوس رفض إعطاء الإنسان المعرفة فقام برومثيوس بسرقة قبس منها وأعطاه الإنسان ! .
هذا التصور المشوه لمعني الدين والذي كان مستقرا في الوعي الغربي ساعده علي تقبل المشروع العلماني في القرن الثامن عشر , إذ لا قداسه لفكرة الألوهية , كما أن تصور العلاقة بين الدين والعلم في حالة تضاد موجود قبل التجربة الكنسية , فلما مارست الكنيسة ما مارست من حجر علي العقول اتسق هذا مع ما هو مستقر فيها مسبقا من التراث الوثني فظهرت العلمانية وتجسدت كمشروع بلغ غاية التطرف في فصل الدين عن العلم والحياة .
هذه هي العلمانية رفض تام للدين واعتماد كامل علي كل ما هو أرضي .
ثانيا : في الليبرالية ..
يمثل عصر النهضة وما يليه من عصر الأنوار الفترة التي تشكلت فيها كل المذاهب الفكرية الغربية
وبالبحث في حقيقة هذه المذاهب نجد أن هناك أرضية فكرية مشتركة بين هذه الأنساق ثم هناك تمايزات لكل مذهب يختلف فيها عن غيره من المذاهب تتحدد هذه التمايزات بحسب الشرط التاريخي المحايث لكل مذهب , فالوضع الاجتماعي والثقافي الموجود في وقت ظهور المذهب هو الذي يحدد هذه المبادئ التي يتميز بها .
وبالنظر في هذا المشترك الفكري بين هذه المذاهب نجد أنه قائم علي نفي الدين واستبعاده كضابط للحياة واستبدال الإنسان والطبيعة به
إذاً العلمانية هي الأفق الفكري الحاكم للوعي الغربي في صيرورته منذ عصر النهضة إلي الأنوار , وحتى الآن تختلف الفلسفات والأماكن والأوقات ولكن تجمعها العلمانية .
وبالنسبة للمذهب الليبرالي محل البحث فهو لا يشذ عن هذه القاعدة كالآتي :
بالنسبة للتمايزات التي يتسم بها دون غيره والتي جعلت منه نسقا فكريا مستقلا نجدها متمثلة في شيئين :
1-الحرية
2-الفردية
وهناك شرط تاريخي هو الذي صنع هذه التمايزات , وهو تحول الاقتصاد من التجارة إلي الصناعة , وهذا التحول يستلزم وجود عاملين رئيسين , الأول هو : رأس المال والثاني هو : اليد العاملة , أما العامل الأول فقد كان متوفرا في يد الطبقة البرجوازية والتي يرجع لها أكبر الأثر في تشكل المذهب الليبرالي , إذ احتاجت إلي العامل الثاني وهو اليد العاملة والذي كان محبوسا في سياج الأرض يعاني من الإقطاع , فلكي ننقل العبيد من الأرض إلي المصنع تم توظيف الحرية لتحقيق هذا الهدف وليس للحرية ذاتها كقيمة ولا رأفة بالأقنان , وإنما لتحريك الآلة في المصنع , لذا تبنت الليبرالية الحرية كمثال حتى صارت علما عليها
وكذلك في دعم حرية تملك البرجواز الطامحين للثراء الفاحش , تم تفعيل مبدأ الفردية لدعم الملكية الخاصة وهنا يبرز دور جون لوك وفلسفته في دعم الرأسمالية , حيث برر المكاسب الرأسمالية بطريقة أخلاقية , فالأرض مشاع للبشر , وعلي قدر عمل الإنسان فيها يتملك منها , فإذا للأنانية والفردية مما يبرره أخلاقيا ودينيا مما يعين علي تجذير الفردانية في الواقع العملي لخدمة الجشع والرغبة في الثراء .
هذه منطلقات الفكر الليبرالي التي تأسس عليها ويبقي له ما يشترك فيه مع الأنساق الفكرية الأخرى وهو العلمانية , ومظاهر هذا المشترك تلوح علي سطح المذهب ظاهره للعيان , حيث جعل الحاكم للحياة قوانين البشر الوضعية لا الدين وهذا جوهر العلمانية .
يقول فولتير (إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجل الدين لنظم الدولة ويخضع فيها الراهب للقاضي )
ويقول أيضا (إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله لابد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة ) ويقول (إن الطقوس والشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية جرائم محلية يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضاره بالمجتمع )
يتبين من هذه النصوص قدر الدين عند الليبراليين فلا سلطة إلا لم تضعه العقول ويتبين من النص الثالث لفولتير كيف أن الليبرالية لا تحترم الحريات كما تدعي كذبا وزورا !
ويمكن توضيح موقف الليبرالية من الدين بالوقوف علي مبدأ رئيس تتبناه الرؤية الليبرالية وهو (التسامح) وهو المبني علي كون الحقيقة نسبية , وبالتالي لا يمكن لأحد أن يدعي أنه يمتلك الصواب وكل من خالفه خاطئ بل لكل أحد أن يعتقد ما شاء وبالتالي لا قدسية للأديان فكلها متساوي ولا يجوز التمييز البشر علي أساس ما يعتقدون من أديان .
ويتضح أيضا الموقف من الأديان من خلال مبدأ منع التحريم أو منع المنع حيث لا يمكن باسم الدين أن نحرم علي المرء شيء قد أختاره .
يقول ستيوارت مل (إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض أن الإنسان لا يعرف مصلحة نفسه )
يتضح من النص أنه لا مكان لسلطة الدين فما أراده الإنسان لا يمكن أن نمنعه عن فعله باسم الدين لأن البشرية راشدة ولا تحتاج لتعاليم السماء فهل هذا إلا محض العلمانية .
من النقول السابقة يظهر إن محاولة فصل الليبرالية عن العلمانية عبارة عن مسخ للنسق الليبرالي فالعلمانية هي روح الليبرالية وبدونها تمسي جسد بلا روح......
المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث
التاريخ: 18/8/1432 الموافق 20-07-2011 |
المختصر/ في ظل حالة الرفض التي يقابل بها العقل المسلم المنتج الليبرالي عمد أصحاب الفكر الليبرالي ودعاته إلي حيلة جديدة لتسويق هذا المنتج المنبوذ إذ خرجوا علينا بلافته كتب عليها أن الليبرالية ليست هي العلمانية. وذلك لأن الأخيرة بلغ من سوء سمعتها أنها لم تعد مقبولة مجتمعيا لذا كل ما نسب إليها من قريب أو من بعيد يعاني إذا أراد الاقتراب من العقول لذا هرع دعاة الليبرالية إلي قطع الصلة بينها وبين العلمانية لتسهيل عملية التسلل إلي العقول.
لبيان حقيقة هذه الدعوي نتعرض للعلمانية وموقفها من الدين ثم نري موقف الليبرالية منه فسنعتمد في تحديد ماهية كل منهما علي الموقف من الدين مما سيكشف حقيقة علاقتهما ببعض
أولا : في العلمانية
تعتبر العلمانية واحده من أهم الإشكالات المطروحة في واقعنا الثقافي والسياسي وهناك رؤية شائعة تختزل العلمانية في كونها فصل للدين عن السياسة وهذا الذي اصطلح عليه المسيري بالعلمانية الجزئية ولكن في الحقيقة العلمانية تتجاوز هذا المستوي الإجرائي الشكلي فهي فكرة شاملة تضع رؤية للعالم بكل ما تحمل كلمة رؤية من بعد عقدي وفلسفي شامل وهو ما سماه المسيري بالعلمانية الشاملة
وككل الأنساق الفكرية والفلسفية الغربية ينبغي أن ينتهج في دراستها المنهج التاريخي لمعرفة الشرط التاريخي الذي أثر في تكوينها والعوامل المجتمعية التي ساعدت في بلورتها هذا المنظور التاريخي شرط لكي نحصل وعيا كاملا بحقيقة الفكرة ثم بعد ذلك نسعى في إنجاز تقييم لها
أول من صك مصطلح العلمانية هو جورج هوليوك في 1851
وقد لخص محدداتها في :
العلم دليل حقيقي للإنسان , والقيم مصدرها دنيوي وأرضي وليس ديني , والبرهان المنطقي سلطة وحيدة , وحرية الفكر والرأي أسس للعيش , وجهودنا كلها مصوبة للحياة التي نعيش فيها .
فيتضح من التعريف : أن العلمانية لا تعني عند القوم فصلا للدين عن السياسة فحسب , وإنما تمثل رؤية متكاملة للحياة جوهرها نفي الاعتماد علي الدين كمصدر لفهم الحياة أو محدد وضابط لممارستها , فالحقيقة فقط ما يثبتها العلم التجريبي الحسي المبني علي المشاهدة , والقيم المعتبرة التي تضبط الحياة يضعها البشر فهي أرضية المصدر ولا علاقة للسماء بشؤون الأرض والكل يتحاكم إلي المنطق العقلي لا لغيره ولكل أحد أن يتبني ما شاء من أفكار دون أي قيد وتفكيرنا لا يتجاوز ما نراه بالعين فنسعى في تحقيق مصالحنا الآنية ولا مكان للغيب أو الميتافيزيقا .
إذاً فالعلمانية هي بديل للدين ونقيض له لا يمكن أن يجتمعا أبدا , فإما أن نعتمد علي الدين لفهم الوجود وأسئلته الكبرى ونتخذه سلطة نتحاكم إليها في الحياة وتنضبط ممارستنا الحياتية بقيمه وقوانينه , وإما أن نتخلى عن الدين تماما وننفيه ونتخذ ما أنتجته عقول البشر بديلا عنه أي فلسفة وأي فكر مقبول طالما لا يمت للدين بصلة !
ونحاول من خلال المنهج التاريخي أن نتتبع صيرورة الفكر العلماني في الوعي الغربي
فالعلمانية ليست فكرة تبلورت في ذهن فيلسوف فصاغها نظرية ثم طالب بتنفيذها في الواقع وما فعله هوليوك عندما صاغ تعريف للعلمانية هو توصيف لواقع مجتمعي كان آخذا في الهيمنة علي بنيات المجتمع
كثير من الباحثين عندما يتناول نشأه العلمانية يرجعه إلي التجربة الكنسية التي هيمنت علي الواقع الغربي في العصر الوسيط حيث يرون أن المسيحية نفسها في نسختها الكنسية قد أسست لإبعاد الدين عن الحياة , ويتم استحضار النص المنسوب للمسيح عليه السلام (ما لقيصر وما لله لله) , ولكن مع فرض ثبوت هذا النص - وإثبات هذا دونه خرط القتاد! - فإن السياق الذي قيل فيه لا يفيد إطلاقا المعني العلماني لأنها كانت تعقيبا منه للخروج من مأزق مع الحاكم الروماني أراد اليهود أن يوقعوا المسيح فيه , والنص في سفر متى يقول (حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين يا معلم ..أيجوز أن نعطى جزية لقيصر أم لا ؟ فعلم يسوع خبثهم وقال لماذا تجربونني يا مراؤون أروني معاملة الجزية فقدموا له دينارا فقال لهم لمن هذه الصورة والكتابة ؟قالوا له لقيصر فقال أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا )
لا شك أن التجربة الكنسية كانت عاملا مهما في بزوغ العلمانية , ولكن جعلها السبب الرئيس والمحدد لظهور العلمانية كفكر في الوعي الغربي لا نرجحه , بل نتبني أطروحة "الطيب بوعزة" حيث يجعل التاريخ الممهد للعلمنة أبعد بكثير من التجربة الكنسية فهناك تطورات ثاوية خلفها شكلت الفكر العلماني وإن كان بزوغه كان من رحم القرون الوسطي بعد التخلص من الكنسية والدخول في الحداثة .
إن علاقة روما بالمسيحية لم تكن علاقة اعتناق أمة لدين بقدر ما كانت عملية استغلال تم فيها تحريف المسيحية بتشكيلها علي نمط العقائد الوثنية الموجودة في روما اليونانية , لذا تصح هنا المقولة الشائعة (لم تتمسح روما وإنما ترومت المسيحية ) .
لذا لابد من البحث فيما وراء التجربة الكنسية من فكر يوناني وروماني لنجد بوضوح البذور التي نمت منها العلمانية حاضرة فالوعي الغربي في أصوله القديمة كان مهيئا للتأسيس للعلمانية وتقبلها , فالنسق الفكري الغربي في أصوله اليونانية يقوم علي التضاد بين الدين والدنيا ولإدراك ذلك نرجع إلي التراث الإغريقي لننظر في مفهوم الألوهية هناك سنجده مفهوما ضامر القيمة ليس له أي قداسة أو إجلال , وأن الآلهة ليست مبدأ الكون فهي لم تخلق الإنسان أو الكون وكذلك ليس لها إرادة , فالإنسان حصل علي المعرفة بعد صراع مع الآلهة , فهذا ما تقوله أسطورة برومثيوس أن زوس رفض إعطاء الإنسان المعرفة فقام برومثيوس بسرقة قبس منها وأعطاه الإنسان ! .
هذا التصور المشوه لمعني الدين والذي كان مستقرا في الوعي الغربي ساعده علي تقبل المشروع العلماني في القرن الثامن عشر , إذ لا قداسه لفكرة الألوهية , كما أن تصور العلاقة بين الدين والعلم في حالة تضاد موجود قبل التجربة الكنسية , فلما مارست الكنيسة ما مارست من حجر علي العقول اتسق هذا مع ما هو مستقر فيها مسبقا من التراث الوثني فظهرت العلمانية وتجسدت كمشروع بلغ غاية التطرف في فصل الدين عن العلم والحياة .
هذه هي العلمانية رفض تام للدين واعتماد كامل علي كل ما هو أرضي .
ثانيا : في الليبرالية ..
يمثل عصر النهضة وما يليه من عصر الأنوار الفترة التي تشكلت فيها كل المذاهب الفكرية الغربية
وبالبحث في حقيقة هذه المذاهب نجد أن هناك أرضية فكرية مشتركة بين هذه الأنساق ثم هناك تمايزات لكل مذهب يختلف فيها عن غيره من المذاهب تتحدد هذه التمايزات بحسب الشرط التاريخي المحايث لكل مذهب , فالوضع الاجتماعي والثقافي الموجود في وقت ظهور المذهب هو الذي يحدد هذه المبادئ التي يتميز بها .
وبالنظر في هذا المشترك الفكري بين هذه المذاهب نجد أنه قائم علي نفي الدين واستبعاده كضابط للحياة واستبدال الإنسان والطبيعة به
إذاً العلمانية هي الأفق الفكري الحاكم للوعي الغربي في صيرورته منذ عصر النهضة إلي الأنوار , وحتى الآن تختلف الفلسفات والأماكن والأوقات ولكن تجمعها العلمانية .
وبالنسبة للمذهب الليبرالي محل البحث فهو لا يشذ عن هذه القاعدة كالآتي :
بالنسبة للتمايزات التي يتسم بها دون غيره والتي جعلت منه نسقا فكريا مستقلا نجدها متمثلة في شيئين :
1-الحرية
2-الفردية
وهناك شرط تاريخي هو الذي صنع هذه التمايزات , وهو تحول الاقتصاد من التجارة إلي الصناعة , وهذا التحول يستلزم وجود عاملين رئيسين , الأول هو : رأس المال والثاني هو : اليد العاملة , أما العامل الأول فقد كان متوفرا في يد الطبقة البرجوازية والتي يرجع لها أكبر الأثر في تشكل المذهب الليبرالي , إذ احتاجت إلي العامل الثاني وهو اليد العاملة والذي كان محبوسا في سياج الأرض يعاني من الإقطاع , فلكي ننقل العبيد من الأرض إلي المصنع تم توظيف الحرية لتحقيق هذا الهدف وليس للحرية ذاتها كقيمة ولا رأفة بالأقنان , وإنما لتحريك الآلة في المصنع , لذا تبنت الليبرالية الحرية كمثال حتى صارت علما عليها
وكذلك في دعم حرية تملك البرجواز الطامحين للثراء الفاحش , تم تفعيل مبدأ الفردية لدعم الملكية الخاصة وهنا يبرز دور جون لوك وفلسفته في دعم الرأسمالية , حيث برر المكاسب الرأسمالية بطريقة أخلاقية , فالأرض مشاع للبشر , وعلي قدر عمل الإنسان فيها يتملك منها , فإذا للأنانية والفردية مما يبرره أخلاقيا ودينيا مما يعين علي تجذير الفردانية في الواقع العملي لخدمة الجشع والرغبة في الثراء .
هذه منطلقات الفكر الليبرالي التي تأسس عليها ويبقي له ما يشترك فيه مع الأنساق الفكرية الأخرى وهو العلمانية , ومظاهر هذا المشترك تلوح علي سطح المذهب ظاهره للعيان , حيث جعل الحاكم للحياة قوانين البشر الوضعية لا الدين وهذا جوهر العلمانية .
يقول فولتير (إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجل الدين لنظم الدولة ويخضع فيها الراهب للقاضي )
ويقول أيضا (إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله لابد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة ) ويقول (إن الطقوس والشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية جرائم محلية يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضاره بالمجتمع )
يتبين من هذه النصوص قدر الدين عند الليبراليين فلا سلطة إلا لم تضعه العقول ويتبين من النص الثالث لفولتير كيف أن الليبرالية لا تحترم الحريات كما تدعي كذبا وزورا !
ويمكن توضيح موقف الليبرالية من الدين بالوقوف علي مبدأ رئيس تتبناه الرؤية الليبرالية وهو (التسامح) وهو المبني علي كون الحقيقة نسبية , وبالتالي لا يمكن لأحد أن يدعي أنه يمتلك الصواب وكل من خالفه خاطئ بل لكل أحد أن يعتقد ما شاء وبالتالي لا قدسية للأديان فكلها متساوي ولا يجوز التمييز البشر علي أساس ما يعتقدون من أديان .
ويتضح أيضا الموقف من الأديان من خلال مبدأ منع التحريم أو منع المنع حيث لا يمكن باسم الدين أن نحرم علي المرء شيء قد أختاره .
يقول ستيوارت مل (إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض أن الإنسان لا يعرف مصلحة نفسه )
يتضح من النص أنه لا مكان لسلطة الدين فما أراده الإنسان لا يمكن أن نمنعه عن فعله باسم الدين لأن البشرية راشدة ولا تحتاج لتعاليم السماء فهل هذا إلا محض العلمانية .
من النقول السابقة يظهر إن محاولة فصل الليبرالية عن العلمانية عبارة عن مسخ للنسق الليبرالي فالعلمانية هي روح الليبرالية وبدونها تمسي جسد بلا روح......
المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث