ابن مريم
يؤمن النصارى أنه ليس هناك من شفيع للخلق يوم القيامة إلا المسيح الذي يعتقدون أيضا أنه سوف يكون آنذاك ديّان الأمم ؛ أي المنوط له بمحاكمتهم و محاسبتهم على آثامهم . و لكي يكونوا جديرين بهذه الشفاعة فيجب عليهم أولا و أخيرا الإيمان به ربا متألِّما من أجلهم ، و مخلِّصا إياهم من خطاياهم ، في حين لا يعترف أغلب النصارى بأهمية الأعمال الصالحة و يراها البعض كالأثقال التي تنوء بحاملها ، و في ذلك يقول مارتن لوثر : ( إن الإنجيل لا يطلب منا الأعمال لأجل تبريرنا، بل بعكس ذلك ، إنه يرفض أعمالنا ... إنه لكي تظهر فينا قوة التبرير يلزم أن تعظم آثامنا جداً، وأن تكثر عددها ) . ويقول مفسرا يوحنا 3/16: ( أما أنا فأقول لكم إذا كان الطريق المؤدي إلى السماء ضيقاً وجب على من رام الدخول فيه أن يكون نحيلاً رقيقاً ... فإذا ما سرت فيه حاملاً أعدالاً مملوءة أعمالاً صالحة، فدونك أن تلقيها عنك قبل دخولك فيه، وإلا لامتنع عليك الدخول بالباب الضيق .. إن الذين نراهم حاملين الأعمال الصالحة هم أشبه بالسلاحف، فإنهم أجانب عن الكتاب المقدس. وأصحاب القديس يعقوب الرسول ، فمثل هؤلاء لا يدخلون أبداً ) .
و لا نناقش مدى صحة هذا الكلام فليس هذا هو موضوعنا و لكن القصد من ذكره هو تبيان مجمل أفكار النصارى لنتساءل كيف استدل بعض كتّابهم و مفكريهم عليها من صريح القرآن الكريم ؟
o مفهوم الشفاعة في القرآن الكريم :
لا يختلف أهل السنة و الجماعة في حقيقة الشفاعة يوم القيامة ، فيقـول الله : .. مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ .. ، و أيضا : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ، و أيضا : لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَـَنِ عَهْداً ، و أيضا : يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ، و كذلك قوله تعالى : وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ .. ، و أيضا : وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، فهذه الآيات الكريمة كلها تؤكد وجود الشفاعة عند الله يوم القيامة و لكنها مشروطه بإرادته لمن سيأذن له في أن يشفع .
و يحاول منكرو الشفاعة أن يخرجوا بما يعضد مقولتهم من القرآن الكريم فيذكرون : وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فهذا نقد ظاهر لوجود الشفاعة ، و أيضا : وَأَنذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوَاْ إِلَىَ رَبّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ و غيره كثير . و حقيقة الأمر إن هؤلاء المنكرين لا يفهمون حقيقة تلك النصوص الكريمة ؛ فقد كان المشركين فيما مضي يعبدون الأصنام التي صنعوها بأيديهم و التي يعتقدون أنها سوف تقربهم من الله زلفي و سوف تشفع لهم عنده ، فجاء القرآن مؤكدا لأنه لا شفاعة لتلك الأصنام التي لا تملك من أمر نفسها شيئا و في ذلك يقول الله : وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـَؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ ، و أيضا : أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لّهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و هذا هو القول الفصل ؛ إذ أن تلك الأيات و غيرها تتكلم عن تلك الأصنام التي اتخذها المشركين شركاءا لله و أندادا و اعتقدوا أنها سوف تشفع لهم عنده في حين أنها سوف تتبرأ منهم يوم القيامة و مما كانوا يعملون : وَلَمْ يَكُن لّهُمْ مّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ . و ليس في هذا ما يوضح النفي المطلق لمفهوم الشفاعة ، و بالتالي إذا فهمنا هذه الآيات الكريمة إلى جوار التي ذكرناها سابقا تتضح لنا الخطوط العريضة في مفهوم الشفاعة و نلخصها كالتالي :
- لا تُقبل شفاعة مَن اتخذ لله أندادا ، بل لا توجد لهم شفاعة على الإطلاق ، و يوم القيامة يتبرأ منهم أمام الله ما اتخذوه من دونه أندادا .
- الشفاعة حق يمنحه الله يوم القيامة لمن يشاء و من يرتضي له قولاً و من شهِد بالحق .
o شفاعة النبي :
يقول الله مخاطبا نبيه : أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً ، و لا يختلف المفسرون في أن هذا المقام المحمود هو الشفاعة يوم الدين ، و في الحديث الشريف عن جابرِ بن عبدِ اللّهِ: أنَّ رسولَ اللهِ قال: «من قال حِينَ يَسمعُ النِّداءَ: اللهمَّ ربَّ هٰذه الدعوةِ التامَّة والصَّلاةِ القائمةِ آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْه مَقاماً محموداً الذي وَعدْتَه، حلَّتْ لهَ شَفاعَتِي يومَ القيامة» . و أيضا عن مالكٌ عن أبي الزنادِ عن الأعرج عن أبي هريرةَ أنَّ رسول الله قال: « لكل نَـبيّ دعوةٌ مستجابة يَدعو بها، وأُريدُ أن أختبِىَء دعوتي شفاعةً لأمتي في الآخرة » . و هذا تأكيد لشفاعة النبي من القرآن و السنّة الصحيحة و المؤكدة و السؤال هنا : فيم تكون شفاعة النبي يوم القيامة ؟ و نفهم في الأحاديث الشريفة الواردة عن رواه ثقات و الثابتة في كتب الحديث الصحيحة أن له شفاعة أن يستأذن ربه أن يبدأ حساب الخلائق يوم القيامة كما نقرأه في الحديث التالى :
عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : « أنا سيّدُ الناس يومَ القيامة، وهل تدرونَ ممَّ ذلك ؟ يُجمَعُ الناسُ ، الأولين والآخِرين ، في صَعِيدٍ واحدٍ، يُسمعهمُ الداعي، ويَنفذُهُمُ البصر، وتدنو الشمسُ فيبلُغُ الناسَ من الغمِّ والكَرَبِ ما لا يُطيقون ولا يَحتمِلون. فيقولُ الناس: ألا تَرَونَ ما قَد بَلَغَكم؟ ألا تنظرون من يَشفعُ لكم إلى ربكم؟ فيقولُ بعضُ الناس لبعض: عليكم بآدمَ، فيأتون آدمَ عليهِ السلام فيقولون له: أنتَ أبو البشر، خَلَقَكَ اللَّهُ بيدِهِ، ونفخ فيكَ من رُوحِهِ، وأمرَ الملائكةَ فسجدوا لك، اشْفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترَى إلى ما قد بَلَغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضبَ اليوم غضباً لم يَغضَبْ قبلَه مثله، ولن يَغضبَ بعدَهُ مثلَه، وإنهُ نهاني عن الشجرة فَعَصَيتُه، نفسي نفسي نفسي، اذهَبوا إلى غيري، اذهَبوا إلى نوح. فيأتونَ نوحاً فيقولون. يا نوح، إنك أنتَ أَوَّل الرُّسل إلى أهل الأرض، وقد سماك اللَّهُ عبداً شَكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عزَّ وجل قد غضبَ اليومَ غضباً لم يَغضَب قبلَه مثله ولن يغضب بعده مثله. وإنه قد كانت لي دَعوةٌ دَعَوتُها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتونَ إبراهيمَ فيقولون: يا موسى، أنت نبيُّ الله فضلك برسالته و بكلامه ، اشفعْ لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحنُ فيه؟ فيقول لهم: إنَّ ربي قد غضبَ اليومَ غضباً لم يَغضب قبله مثله، ولن يَغضبَ بعده مثله وإني قد قَتلتُ نفساً لم أُومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنتَ رسولُ الله وكلمتُهُ ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وكلمتَ الناسَ في المهد صبياً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضبَ اليوم غضباً لم يَغضب قبلهُ مثله ولن يَغضبَ بعدَهُ مثله ـ ولم يذكر ذَنباً ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد . فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد، أنت رسولُ الله ، وخاتمُ الأنبياء ، وقد غفرَ الله لك ما تقدَّمَ من ذنبك وما تأخر، اشفعْ لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحنُ فيه؟ فأنطِلقُ، فآتي تحتَ العرش فأقَعُ ساجِداً لربي ، ثمَّ يَفتح اللَّهُ عليَّ من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليهِ شيئاً لم يَفتحْهُ على أحدٍ قبلي. ثم يُقال: يا محمد، ارفَعْ رأسك، سَلْ تُعطَهْ، واشفعْ تُشَفع. فأرفعُ رأسي فأقول: أمَّتي يا ربّ، أُمتي يا رب. فيُقال: يا محمد، أدخِلْ من أُمتكَ مَن لا حِسابَ عليهم من الباب الأيمن من أيوابِ الجنة، وهم شركاءُ الناس فيما سوَى ذلك منَ الأبواب. ثم قال: والذي نفسي بيدِهِ إنَّ ما بينَ المصراعَين من مصاريع الجنة كما بينَ مَكةَ وحِمْيَر، أو كما بين مكةَ وبُصَرى» .
و الواضح من ذلك الحديث الصحيح الذي يوضح أن بالإضافة إلى شفاعة استئذان الله في بدء الحساب ، فإن النبي أيضا له الشفاعة العظمى أي يشفع فيمن استحق شفاعته في أمته و أي مَن شهِد ألاّ إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله خالصةً من قلبه ، و أقام الصلاة ، و أتى زكاة ماله ، و صام رمضان ، و حج البيت إن استطاع إليه سبيلا و اجتنب نواهي ربه و معاصيه و حُبِّب الخير إلى قلبه ، و لكن ناءَت به نفسه إلى بعض الخطايا بفعل بشريته فتكون شفاعة النبي إلى الله في التجاوز عن تلك الخطايا و يُدخِله الجنة إن شاء الله . أما تارك الصلاة ، أو مانع الزكاة ، أو منكر السنَّة أو فاعل الكبائر المجتريء على الله تبارك تعالى فهل له شفاعة و هو لم يعمل عملا ليكون جدير بها ؟.. اللهم لا ، بل لا أتصور أن يتجرأ النبي في الشفاعة فيهم ، و قد رفض مِن قبْل شفاعة أسامة بن زيد في المرأة المخزومية التي سرقت في عام الفتح ، فهل يُعقل أن يشفع عند الله في تاركي شريعته و منهاجه ؟ و هو تعالى أعلى و أعلم .
كذلك يشفع في فتح باب الجنة فيكون أول من يفتح أبوابها أمام الخلق يوم القيامة فيدخلها عباد الله المكرَّمين الذين استحقوا شفاعته العظمى فهو بحق سيد ولد أدم أبد الدهر ، و هو أول من ينشق عنه القبر ، و هو أول شفيع يوم الحشر ... صلوات ربي و سلامه عليك سيدي يا رسول الله ، اللهم نوِّلنا جميعا شفاعته العظمى يوم يهرب منها الجميع و يقولون : نفسي نفسي ! ، فيقول : أنا لها أنا لها ! .. اللهم آمين .
كذلك يشفع النبي في أقاربه و لا سيما عمّه أبا طالب بن عبد المطلب الذي تولى رعايته و حمايته من مشركي قريش طيلة حياته ، و الذي قال له حين قُبِض : « سأستغفر لك ربي ما لم أنه عن ذلك » فنزل قول الله تعالى : مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ، و لذلك سيشفع فيه أن يخفف عنه العذاب يوم القيامة بأن يكون في ضحضاح من النار بدلا من أن يكون في الدرك الأسفل . أيضا و في الحديث الشريف عن أبي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين (الشعراء: 214) «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الله. لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئَاً. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً. يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئاً. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ مِنْ مَالِي أُعْطِيكِ . و لَكنْ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً» ، و هذا لا ينفي شفاعة النبي لهم يوم القيامة و لا يقلل من فعاليتها ، و لكنه يستحثّهم و المؤمنين كافةً لكي يكونوا جديرين بشفاعته أمام الله ؛ فلا يتّكلون عليها . و لذا يقول أبو بكر الصديق : ( و الله لإن كانت إحدى قدميَّ في الجنة و الأخرى خارجها لا آمن مكر ربي ) رغم أنه ثاني اثنين إذ هما في الغار و خليل رسول الله و أحد العشرة المبشرين بالجنة ، و لكنه لا يتَّكل على ذلك حتى يتغمده الله برحمته و هذا من حلاوة الإيمان و حلاوة القرب من الله ، اللهم نوِّلنا حلاوة الإيمان بك و متِّعنا بفضل القرب منك يارب العالمين . اللهم آمين .
o هل توجد شفاعة لغير النبي ؟ :
و قد لا يختلف المسلمون مع النصارى في مسألة شفاعة عيسى لهم كنبي من أنبياء الله فيقول الله تعالى في كتابه عن لسان نبيه : إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و هذه و لاشك شفاعة للذين اتبعوه منهم على دينه ، أما الذين أشركوا مع الله أحبارهم و رهبانهم ، و المسيح و أمه ، و ألحدوا في أسماء الله بغير علمٍ ، و حرفوا كتبه ، و قتلوا أنبيائه ، و قالوا على الله غير الحق و هم يعلمون ؛ أولئك مالهم من دون الله من ولي و لا شفيع إلا من أتى الله منهم بقلب سليم ، و الله تعالى أعلى و أعلم .
كذلك أنبياء الله يوم القيامة سيشفعون ، إن شاء الله ، فيمن اتبعوهم بإحسان ، و الملائكة أيضا تشفع في من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه كما قال الله : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ، و أيضا : يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاّ يَتَكَلّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَقَالَ صَوَاباً ، و يشرح القرطبي فيقول : ( .. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله. وأصل الصواب. السداد من القول والفعل، ... وقيل: لا يتكلمون يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه ) اللهم بلغنا شفاعتهم جميعا .
كذلك يقبل الله ، بإذنه ، شفاعة الشهيد في سبعين من أهله لقوله في الحديث الشريف عن الْوَلِيدُ بنُ رَبَاحٍ الذِمَّارِيُّ ، قال: دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ أيْتَامٌ فقالَتْ: أَبْشِرُوا فإنِّي سَمِعْتُ أبَا الدَّرْدَاءِ يقُولُ قال رَسُولُ الله : « يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ في سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ » . و هذا من فضل منزلة الشهادة في سبيل الله و من النعيم الذي يعطى ذلك الذي جاد بنفسه في سبيله .
كذلك الشفاعة المعنوية للأعمال أمام الله كشفاعة القرآن و الصيام ، كما نقرأ في الحديث الشريف عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ يَقُولُ: « اقْرَأوا الْقُرْآنَ. فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ.. » ، و يأتي شرح لكيفية هذه الشفاعة في الحديث التالي : عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: «الصِّيامُ والقُرآنُ يَشفعَانِ للعَبدِ يَومُ القيَامَةِ، يَقولُ الصِّيامُ : أَيْ رَبِّ مَنعْتَهُ الطَّعاَمَ والشَّهوَاتِ بالنَّهارِ فَشَفِّعْني فِيه، ويقولُ القُرآنُ : أَيْ رَبِّ مَنعْتُه النَّومَ بالْليلِ فَشَفِّعْني فيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَان » .
و هذا عن شفاعة الأعمال فماذا عن الجوارح ؟.. ؛ فيوم القيامة تشهد على المرء جوارحه في فعل الآثام و المعاصي ، و لكن في الخير فإنها تشهد له و تشفع فيه عند الخالق بإذنه . اللهم و لا تحرمنا تلكُم الشفاعة . آمين .
هذا عن ما يقرره القرآن الكريم و السنَّة الشريفة عن عقيدة أهل السنة و الجماعة بالنسبة لمسألة الشفاعة .. فأين هي مِن عقيدة النصارى كما أسلفنا ذكرها ، و التي يقول بعض الكتاب النصارى أن الإسلام يقرّ بصحتها ؟!!
اللهم اهدنا جميعا لما اختلفنا فيه إلى الحق بإذنك ، إنك ولي ذلك و القادر عليه .
و أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،
يؤمن النصارى أنه ليس هناك من شفيع للخلق يوم القيامة إلا المسيح الذي يعتقدون أيضا أنه سوف يكون آنذاك ديّان الأمم ؛ أي المنوط له بمحاكمتهم و محاسبتهم على آثامهم . و لكي يكونوا جديرين بهذه الشفاعة فيجب عليهم أولا و أخيرا الإيمان به ربا متألِّما من أجلهم ، و مخلِّصا إياهم من خطاياهم ، في حين لا يعترف أغلب النصارى بأهمية الأعمال الصالحة و يراها البعض كالأثقال التي تنوء بحاملها ، و في ذلك يقول مارتن لوثر : ( إن الإنجيل لا يطلب منا الأعمال لأجل تبريرنا، بل بعكس ذلك ، إنه يرفض أعمالنا ... إنه لكي تظهر فينا قوة التبرير يلزم أن تعظم آثامنا جداً، وأن تكثر عددها ) . ويقول مفسرا يوحنا 3/16: ( أما أنا فأقول لكم إذا كان الطريق المؤدي إلى السماء ضيقاً وجب على من رام الدخول فيه أن يكون نحيلاً رقيقاً ... فإذا ما سرت فيه حاملاً أعدالاً مملوءة أعمالاً صالحة، فدونك أن تلقيها عنك قبل دخولك فيه، وإلا لامتنع عليك الدخول بالباب الضيق .. إن الذين نراهم حاملين الأعمال الصالحة هم أشبه بالسلاحف، فإنهم أجانب عن الكتاب المقدس. وأصحاب القديس يعقوب الرسول ، فمثل هؤلاء لا يدخلون أبداً ) .
و لا نناقش مدى صحة هذا الكلام فليس هذا هو موضوعنا و لكن القصد من ذكره هو تبيان مجمل أفكار النصارى لنتساءل كيف استدل بعض كتّابهم و مفكريهم عليها من صريح القرآن الكريم ؟
o مفهوم الشفاعة في القرآن الكريم :
لا يختلف أهل السنة و الجماعة في حقيقة الشفاعة يوم القيامة ، فيقـول الله : .. مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ .. ، و أيضا : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ، و أيضا : لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَـَنِ عَهْداً ، و أيضا : يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ، و كذلك قوله تعالى : وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ .. ، و أيضا : وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، فهذه الآيات الكريمة كلها تؤكد وجود الشفاعة عند الله يوم القيامة و لكنها مشروطه بإرادته لمن سيأذن له في أن يشفع .
و يحاول منكرو الشفاعة أن يخرجوا بما يعضد مقولتهم من القرآن الكريم فيذكرون : وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فهذا نقد ظاهر لوجود الشفاعة ، و أيضا : وَأَنذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوَاْ إِلَىَ رَبّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ و غيره كثير . و حقيقة الأمر إن هؤلاء المنكرين لا يفهمون حقيقة تلك النصوص الكريمة ؛ فقد كان المشركين فيما مضي يعبدون الأصنام التي صنعوها بأيديهم و التي يعتقدون أنها سوف تقربهم من الله زلفي و سوف تشفع لهم عنده ، فجاء القرآن مؤكدا لأنه لا شفاعة لتلك الأصنام التي لا تملك من أمر نفسها شيئا و في ذلك يقول الله : وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـَؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ ، و أيضا : أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لّهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و هذا هو القول الفصل ؛ إذ أن تلك الأيات و غيرها تتكلم عن تلك الأصنام التي اتخذها المشركين شركاءا لله و أندادا و اعتقدوا أنها سوف تشفع لهم عنده في حين أنها سوف تتبرأ منهم يوم القيامة و مما كانوا يعملون : وَلَمْ يَكُن لّهُمْ مّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ . و ليس في هذا ما يوضح النفي المطلق لمفهوم الشفاعة ، و بالتالي إذا فهمنا هذه الآيات الكريمة إلى جوار التي ذكرناها سابقا تتضح لنا الخطوط العريضة في مفهوم الشفاعة و نلخصها كالتالي :
- لا تُقبل شفاعة مَن اتخذ لله أندادا ، بل لا توجد لهم شفاعة على الإطلاق ، و يوم القيامة يتبرأ منهم أمام الله ما اتخذوه من دونه أندادا .
- الشفاعة حق يمنحه الله يوم القيامة لمن يشاء و من يرتضي له قولاً و من شهِد بالحق .
o شفاعة النبي :
يقول الله مخاطبا نبيه : أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً ، و لا يختلف المفسرون في أن هذا المقام المحمود هو الشفاعة يوم الدين ، و في الحديث الشريف عن جابرِ بن عبدِ اللّهِ: أنَّ رسولَ اللهِ قال: «من قال حِينَ يَسمعُ النِّداءَ: اللهمَّ ربَّ هٰذه الدعوةِ التامَّة والصَّلاةِ القائمةِ آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْه مَقاماً محموداً الذي وَعدْتَه، حلَّتْ لهَ شَفاعَتِي يومَ القيامة» . و أيضا عن مالكٌ عن أبي الزنادِ عن الأعرج عن أبي هريرةَ أنَّ رسول الله قال: « لكل نَـبيّ دعوةٌ مستجابة يَدعو بها، وأُريدُ أن أختبِىَء دعوتي شفاعةً لأمتي في الآخرة » . و هذا تأكيد لشفاعة النبي من القرآن و السنّة الصحيحة و المؤكدة و السؤال هنا : فيم تكون شفاعة النبي يوم القيامة ؟ و نفهم في الأحاديث الشريفة الواردة عن رواه ثقات و الثابتة في كتب الحديث الصحيحة أن له شفاعة أن يستأذن ربه أن يبدأ حساب الخلائق يوم القيامة كما نقرأه في الحديث التالى :
عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : « أنا سيّدُ الناس يومَ القيامة، وهل تدرونَ ممَّ ذلك ؟ يُجمَعُ الناسُ ، الأولين والآخِرين ، في صَعِيدٍ واحدٍ، يُسمعهمُ الداعي، ويَنفذُهُمُ البصر، وتدنو الشمسُ فيبلُغُ الناسَ من الغمِّ والكَرَبِ ما لا يُطيقون ولا يَحتمِلون. فيقولُ الناس: ألا تَرَونَ ما قَد بَلَغَكم؟ ألا تنظرون من يَشفعُ لكم إلى ربكم؟ فيقولُ بعضُ الناس لبعض: عليكم بآدمَ، فيأتون آدمَ عليهِ السلام فيقولون له: أنتَ أبو البشر، خَلَقَكَ اللَّهُ بيدِهِ، ونفخ فيكَ من رُوحِهِ، وأمرَ الملائكةَ فسجدوا لك، اشْفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترَى إلى ما قد بَلَغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضبَ اليوم غضباً لم يَغضَبْ قبلَه مثله، ولن يَغضبَ بعدَهُ مثلَه، وإنهُ نهاني عن الشجرة فَعَصَيتُه، نفسي نفسي نفسي، اذهَبوا إلى غيري، اذهَبوا إلى نوح. فيأتونَ نوحاً فيقولون. يا نوح، إنك أنتَ أَوَّل الرُّسل إلى أهل الأرض، وقد سماك اللَّهُ عبداً شَكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عزَّ وجل قد غضبَ اليومَ غضباً لم يَغضَب قبلَه مثله ولن يغضب بعده مثله. وإنه قد كانت لي دَعوةٌ دَعَوتُها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتونَ إبراهيمَ فيقولون: يا موسى، أنت نبيُّ الله فضلك برسالته و بكلامه ، اشفعْ لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحنُ فيه؟ فيقول لهم: إنَّ ربي قد غضبَ اليومَ غضباً لم يَغضب قبله مثله، ولن يَغضبَ بعده مثله وإني قد قَتلتُ نفساً لم أُومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنتَ رسولُ الله وكلمتُهُ ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وكلمتَ الناسَ في المهد صبياً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضبَ اليوم غضباً لم يَغضب قبلهُ مثله ولن يَغضبَ بعدَهُ مثله ـ ولم يذكر ذَنباً ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد . فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد، أنت رسولُ الله ، وخاتمُ الأنبياء ، وقد غفرَ الله لك ما تقدَّمَ من ذنبك وما تأخر، اشفعْ لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نحنُ فيه؟ فأنطِلقُ، فآتي تحتَ العرش فأقَعُ ساجِداً لربي ، ثمَّ يَفتح اللَّهُ عليَّ من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليهِ شيئاً لم يَفتحْهُ على أحدٍ قبلي. ثم يُقال: يا محمد، ارفَعْ رأسك، سَلْ تُعطَهْ، واشفعْ تُشَفع. فأرفعُ رأسي فأقول: أمَّتي يا ربّ، أُمتي يا رب. فيُقال: يا محمد، أدخِلْ من أُمتكَ مَن لا حِسابَ عليهم من الباب الأيمن من أيوابِ الجنة، وهم شركاءُ الناس فيما سوَى ذلك منَ الأبواب. ثم قال: والذي نفسي بيدِهِ إنَّ ما بينَ المصراعَين من مصاريع الجنة كما بينَ مَكةَ وحِمْيَر، أو كما بين مكةَ وبُصَرى» .
و الواضح من ذلك الحديث الصحيح الذي يوضح أن بالإضافة إلى شفاعة استئذان الله في بدء الحساب ، فإن النبي أيضا له الشفاعة العظمى أي يشفع فيمن استحق شفاعته في أمته و أي مَن شهِد ألاّ إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله خالصةً من قلبه ، و أقام الصلاة ، و أتى زكاة ماله ، و صام رمضان ، و حج البيت إن استطاع إليه سبيلا و اجتنب نواهي ربه و معاصيه و حُبِّب الخير إلى قلبه ، و لكن ناءَت به نفسه إلى بعض الخطايا بفعل بشريته فتكون شفاعة النبي إلى الله في التجاوز عن تلك الخطايا و يُدخِله الجنة إن شاء الله . أما تارك الصلاة ، أو مانع الزكاة ، أو منكر السنَّة أو فاعل الكبائر المجتريء على الله تبارك تعالى فهل له شفاعة و هو لم يعمل عملا ليكون جدير بها ؟.. اللهم لا ، بل لا أتصور أن يتجرأ النبي في الشفاعة فيهم ، و قد رفض مِن قبْل شفاعة أسامة بن زيد في المرأة المخزومية التي سرقت في عام الفتح ، فهل يُعقل أن يشفع عند الله في تاركي شريعته و منهاجه ؟ و هو تعالى أعلى و أعلم .
كذلك يشفع في فتح باب الجنة فيكون أول من يفتح أبوابها أمام الخلق يوم القيامة فيدخلها عباد الله المكرَّمين الذين استحقوا شفاعته العظمى فهو بحق سيد ولد أدم أبد الدهر ، و هو أول من ينشق عنه القبر ، و هو أول شفيع يوم الحشر ... صلوات ربي و سلامه عليك سيدي يا رسول الله ، اللهم نوِّلنا جميعا شفاعته العظمى يوم يهرب منها الجميع و يقولون : نفسي نفسي ! ، فيقول : أنا لها أنا لها ! .. اللهم آمين .
كذلك يشفع النبي في أقاربه و لا سيما عمّه أبا طالب بن عبد المطلب الذي تولى رعايته و حمايته من مشركي قريش طيلة حياته ، و الذي قال له حين قُبِض : « سأستغفر لك ربي ما لم أنه عن ذلك » فنزل قول الله تعالى : مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ، و لذلك سيشفع فيه أن يخفف عنه العذاب يوم القيامة بأن يكون في ضحضاح من النار بدلا من أن يكون في الدرك الأسفل . أيضا و في الحديث الشريف عن أبي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين (الشعراء: 214) «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الله. لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئَاً. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً. يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئاً. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ مِنْ مَالِي أُعْطِيكِ . و لَكنْ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً» ، و هذا لا ينفي شفاعة النبي لهم يوم القيامة و لا يقلل من فعاليتها ، و لكنه يستحثّهم و المؤمنين كافةً لكي يكونوا جديرين بشفاعته أمام الله ؛ فلا يتّكلون عليها . و لذا يقول أبو بكر الصديق : ( و الله لإن كانت إحدى قدميَّ في الجنة و الأخرى خارجها لا آمن مكر ربي ) رغم أنه ثاني اثنين إذ هما في الغار و خليل رسول الله و أحد العشرة المبشرين بالجنة ، و لكنه لا يتَّكل على ذلك حتى يتغمده الله برحمته و هذا من حلاوة الإيمان و حلاوة القرب من الله ، اللهم نوِّلنا حلاوة الإيمان بك و متِّعنا بفضل القرب منك يارب العالمين . اللهم آمين .
o هل توجد شفاعة لغير النبي ؟ :
و قد لا يختلف المسلمون مع النصارى في مسألة شفاعة عيسى لهم كنبي من أنبياء الله فيقول الله تعالى في كتابه عن لسان نبيه : إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و هذه و لاشك شفاعة للذين اتبعوه منهم على دينه ، أما الذين أشركوا مع الله أحبارهم و رهبانهم ، و المسيح و أمه ، و ألحدوا في أسماء الله بغير علمٍ ، و حرفوا كتبه ، و قتلوا أنبيائه ، و قالوا على الله غير الحق و هم يعلمون ؛ أولئك مالهم من دون الله من ولي و لا شفيع إلا من أتى الله منهم بقلب سليم ، و الله تعالى أعلى و أعلم .
كذلك أنبياء الله يوم القيامة سيشفعون ، إن شاء الله ، فيمن اتبعوهم بإحسان ، و الملائكة أيضا تشفع في من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه كما قال الله : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ، و أيضا : يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاّ يَتَكَلّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَقَالَ صَوَاباً ، و يشرح القرطبي فيقول : ( .. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله. وأصل الصواب. السداد من القول والفعل، ... وقيل: لا يتكلمون يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه ) اللهم بلغنا شفاعتهم جميعا .
كذلك يقبل الله ، بإذنه ، شفاعة الشهيد في سبعين من أهله لقوله في الحديث الشريف عن الْوَلِيدُ بنُ رَبَاحٍ الذِمَّارِيُّ ، قال: دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ أيْتَامٌ فقالَتْ: أَبْشِرُوا فإنِّي سَمِعْتُ أبَا الدَّرْدَاءِ يقُولُ قال رَسُولُ الله : « يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ في سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ » . و هذا من فضل منزلة الشهادة في سبيل الله و من النعيم الذي يعطى ذلك الذي جاد بنفسه في سبيله .
كذلك الشفاعة المعنوية للأعمال أمام الله كشفاعة القرآن و الصيام ، كما نقرأ في الحديث الشريف عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ يَقُولُ: « اقْرَأوا الْقُرْآنَ. فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ.. » ، و يأتي شرح لكيفية هذه الشفاعة في الحديث التالي : عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: «الصِّيامُ والقُرآنُ يَشفعَانِ للعَبدِ يَومُ القيَامَةِ، يَقولُ الصِّيامُ : أَيْ رَبِّ مَنعْتَهُ الطَّعاَمَ والشَّهوَاتِ بالنَّهارِ فَشَفِّعْني فِيه، ويقولُ القُرآنُ : أَيْ رَبِّ مَنعْتُه النَّومَ بالْليلِ فَشَفِّعْني فيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَان » .
و هذا عن شفاعة الأعمال فماذا عن الجوارح ؟.. ؛ فيوم القيامة تشهد على المرء جوارحه في فعل الآثام و المعاصي ، و لكن في الخير فإنها تشهد له و تشفع فيه عند الخالق بإذنه . اللهم و لا تحرمنا تلكُم الشفاعة . آمين .
هذا عن ما يقرره القرآن الكريم و السنَّة الشريفة عن عقيدة أهل السنة و الجماعة بالنسبة لمسألة الشفاعة .. فأين هي مِن عقيدة النصارى كما أسلفنا ذكرها ، و التي يقول بعض الكتاب النصارى أن الإسلام يقرّ بصحتها ؟!!
اللهم اهدنا جميعا لما اختلفنا فيه إلى الحق بإذنك ، إنك ولي ذلك و القادر عليه .
و أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،
تعليق