جنايات أرسطو في حق العقل و العلم !!!

تقليص

عن الكاتب

تقليص

باحث سلفى مسلم (نهج السلف) اكتشف المزيد حول باحث سلفى
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • باحث سلفى
    =-=-=-=-=-=

    حارس من حراس العقيدة
    • 13 فبر, 2007
    • 5183
    • مسلم (نهج السلف)

    #16

    ثانيا : من أخطاء أرسطو في علم الجغرافيا :





    تكلم أرسطو في الجغرافيا الطبيعة بتوسع في كتابه الآثار العلوية ، فوقع في أخطاء كثيرة جدا ، نذكر منها النماذج الآتية :

    الأول مفاده أن أرسطو ذكر أن البحر المحيط ليس بعده أرض ،و أنه يُوجد جبل عظيم يطل على هذا المحيط ، فإذا صعدناه ظهر لنا منه البحر المحيط . و ذكر أيضا أن (( جميع الأنهار العظيمة تسيل من هذا الجبل ، كما أن سائر البحار تمر من هذا البحر المحيط ))[1] .




    و أقول: إن قوله هذا مملوء بالأخطاء الجغرافية و المنهجية . فمن الناحية المنهجية فنفس منهج الاستدلال الذي مارسه في علم الفلك طبقه على الظواهر الجغرافية ، فهو هنا تكلم بلا دليل صحيح، و خاض في أمور لم يرها ،و اتخذ منها مواقف أكد صحتها ، مع أنها في الحقيقة غير صحيحة . و من المفروض أنه كان عليه أن يتحفظ و لا يُعمم ، و لا يقطع بصحة مواقفه . فهذه من أبجديات البحث العلمي التي لا يصح أن يتجاوزها أهل العلم في بحوثهم . لكن أرسطو ضرب بذلك عرض الحائط ، و جعله وراء ظهره ، و أطلق العنان لظنونه و رغباته ، و تحكماته و اجتهاداته بأن تعمل بلا ضوابط علمية في كثير من المواقف التي تبناها .


    و أما من الناحية العلمية فإن قوله بأن البحر المحيط ليس من بعده أرض ، هو قول باطل أصلا، لأن هذا البحر المحيط الذي وصفه لا وجود له على الأرض مُطلقا ، و يبدو أنه كان يقصد المحيط الأطلسي الذي هو قريب من بلاد اليونان بالمقارنة إلى المحيطات الأخرى . و الحقيقة هي أنه توجد عدة محيطات- كالأطلسي و الهادي- مُتصلة فيما بينها ،و متداخلة مع اليابس في شكل كروي ، فمن وراء كل محيط يابس،و من وراء كل يابس مُحيط ، و كل تلك المحيطات تطل عليها جبال كثيرة و عالية كما تشهد به خريطة العالم الطبيعية[2] ؛ و لا يُوجد مُحيط ليس من بعده أرض كما زعم أرسطو .



    و أما قوله بأن جميع الأنهار العظيمة تخرج من ذلك الجبل العظيم المُطل على البحر المحيط المزعوم ، فهو زعم ظاهر البطلان بما ذكرناه عن المحيطات و جبالها . و إذا فرضنا جدلا أنه يقصد المحيط الأطلسي ،و تصدق عليه الأوصاف التي وصفه بها أرسطو ، فإن قوله لا يصح أيضا . لأن الأنهار العظيمة التي تجري في الهند ،و الصين، و اليابان، و في غرب كندا و الولايات المتحدة ، لا يُمكنها أبدا أن تخرج من ذلك الجبل الذي يطل على المحيط الأطلسي ، لأنها بعيدة عنه ،و لها مصادرها و محيطاتها التي تصب فيها . و كل ذلك يشهد بأن أرسطو لم يكن على علم بما قاله . فكيف سمح لنفسه بأن يصدر ذلك الحكم العام المخالف للحقيقة ؟ ! و لماذا تكلم بلا علم ؟ ! .




    و نفس الأمر ينطبق على زعمه بأن سائر البحار تمر بالبحر المحيط الذي وصفه . فهذا زعم ظاهر البطلان ، لأنه من الثابت قطعاً أن هذا البحر المحيط المزعوم غير موجود أصلا ، و بذلك يسقط زعمه كلية . و هو و إن كان قد فسّر قوله السابق بأن البحر المحيط (( يتحرك من وسطه إلى جميع البحار ،و تتحرك جميع البحار إليه ))[3] . فهذا تفسير لا يصح ، لأن المحيط نفسه غير موجود فكيف يحدث ما ذكره ؟ ! .



    علماً بأن الواقع يشهد بأنه توجد بحار كثيرة لها اتجاهات مختلفة ،و لا تصب في محيط واحد، و لا في المحيط الأطلسي فقط . فمنها ما يصب المحيط الهادي، منها ما يصب المحيط الهندي،و منها ما يصب المحيط المتجمد الشمالي ،و الخريطة الطبيعية للعالم تشهد بذلك بجلاء . لكن أخطاء أرسطو الفادحة جعلتنا نبحث عن الأدلة و الشواهد لإثبات ما هو ثابت و معروف لدى الخاص و العام ، و لا يحتاج إلى شواهد لإثباته أصلا .




    و النموذج الثاني – من أخطاء أرسطو- أنه زعم أن الماء العذب خفيف ،و هو الذي يتبخر، و أما الماء المالح فهو ماء ثقيل بسيط أزلي ، و يترسب لثقله ،و لا يتبخر كالأول . و موضعه الطبيعي في البحر عامة،و البحر المحيط أساسا ، فهو مصدر جميع البحار و الأنهار. و البحار حسب زعمه أزلية و ليست مُكونة [4] .



    و أقول : أولا إن قوله هذا باطل جملة و تفصيلا ، و فيه انحراف كبير عن منهج الاستدلال العلمي . فهو قد بنى زعمه انطلاقا من إلهياته الدهرية الخرافية القائلة بأزلية العالم و مكوناته ، كأزلية البحر المحيط حسب زعمه . و بما أن قوله بأزلية العالم باطل ، فإن قوله السابق باطل بالضرورة أيضا . فهو لم يقم بمشاهدات و تجارب ليُثبت زعمه ،و إنما قاله انطلاقا من إلهياته ،و هذا لا يصح لأنه احتج بدليل باطل .



    علماً بأنه كان في مقدور أرسطو إجراء تجارب على مياه البحار عامة،و البحر المحيط خاصة ، فيُغليها ليتأكد هل تتبخر أم لا ؟ ، أو أن يذهب إلى البحر المحيط نفسه ، ليرى هل مياهه تتبخر بفعل الحرارة أم لا ؟ . فهو إما أنه يعرف ذلك و جربه ،و أخفاه و لم يُقر به بسبب التزامه بإلهياته ،و هذا موقف مرفوض و لا يصح . و إما أنه لم يقم برحلات و لا أجرى تجارب ،و إنما قال بذلك الزعم انطلاقا من إلهياته . و هذا أيضا لا يصح ،و غير مقبول عقلا و لا علما . فالرجل في الحالتين قد انحرف عن منهج الاستدلال العلمي الصحيح .

    و ثانيا إن قوله يتضمن خطأين واضحين ، الأول قوله بأزلية البحار و المحيطات ،و هذا غير صحيح ،و قد سبق أن أثبتنا بطلان زعم أرسطو بأزلية العالم في الفصل الأول . و الثاني هو زعمه بأن ماء البحر المحيط ثقيل لا يتبخر بسيط التركيب . و هذا زعم باطل مردود عليه، لأن المشاهدة العيانية تُثبت أن مياه المحيطات تتبخر،و هي المصدر الأساسي للأمطار على وجه الأرض . كما أن التجربة العملية تُثبت قطعا أن مياه المحيطات تتبخر كما تتبخر المياه العذبة ،و إن كانت أثقل منها كثافة بسبب ما تحمله من أملاح . و ماء البحار مركبة أساسا من عنصري الأكسجين و الهيدروجين ، كالمياه العذبة ، و ليست أزلية بسيطة التكوين لا تقبل التحلل كما زعم أرسطو . و مثال ذلك أيضا أن البحر الميت أكبر ملوحة و كثافة من المحيط ،و مع ذلك فهو يتبخر[5] .



    و ثالثا إن قوله المزعوم يتضمن تناقضا صارخا مع الحقيقة الجغرافية للمحيطات و الأنهار . و مفاده أنه زعم أن جميع الأنهار مصدرها البحر المحيط ، فكيف يحدث ذلك ،و لا توجد وسيلة لحدوثه ؟ ، لأن الثابت أن الأنهار تصب في المحيطات و البحار و لا تخرج منها . و بما أن مياه البحر المحيط لا تتبخر حسب زعم أرسطو ، فكيف تصل مياهه إلى الأنهار ؟ ! ،و بما أن الكون أزلي حسب زعمه ، فهذا يعني أن الأنهار أزلية بطبعها و لا يمكن أن يكون البحر المحيط مصدرها !! . و بما أن مصادر مياه الأنهار التي هي من الثلوج و الأمطار و الينابيع ، أصلها في الأساس من تبخر مياه المحيطات . فكيف يكون البحر المحيط المزعوم هو مصدر جميع الأنهار ، مع أن مياهه لا تتبخر حسب زعمه ، و الأنهار تصب فيه و لا تخرج منه ؟؟!! .



    و إن قيل : إن أرسطو ذكر سبب كون البحر المحيط هو ابتداء جميع الأنهار ، ذكره عندما قال : (( و أما الأنهار فلموضع الرطوبة الصاعدة منها إلى الهواء ، ثم يعود مطرا ))[6] . فنقول : هذا لا يصح تعليلا لما انتقدناه فيه، لأن كلامه هذا ليس فيه تصريح واضح بأن ذلك التبخر يحدث للبحر المحيط، لأن الضمير الوارد فيه جاء بصيغة الجمع المؤنث ،و لم يأت بصيغة المذكر المفرد من جهة . و لأن الرجل كان قد نصّ صراحة على أن مياه البحر المحيط ثقيلة أزلية لا تتبخر ، فإن قصده فهذا تناقض من جهة أخرى .

    و إذا قيل أن أرسطو قال بذلك لأنه كان يعتقد بأن البحر المحيط (( يتحرك من وسطه إلى جميع البحار ،و تتحرك جميع البحار إليه ))[7] . فنقول: هذا تفسير صحيح لو كان هذا البحر المحيط المزعوم موجودا، و بما أنه غير موجود أصلا ، فلا يصح . و نحن أشرنا إلى أن كلامه هذا يتناقض مع الحقيقة الواقعية ،و ليس مع كلامه الذي توهّمه .



    و النموذج الثالث يتعلق بمصدر تولد ملوحة مياه البحار ، فيرى أرسطو أن مصدر ملوحتها لا يعود إلى تبخير الشمس لمياه البحار و ترسب الملح فيها ، كما يقول بعض الناس . و لا كما قال آخرون بأن مصدرها مياه مالحة خارجية خالطت مياه البحار ،و هذا عنده غير صحيح لأن هذه المياه هي مياه الأنهار ،و هي مياه عذبة و ليست مالحة، فمن أين لها الملوحة ؟ !. و الصحيح عنده أن أصل الملوحة أنها تتولد من جسم أرضي مُحترق[8] .



    و أقول : إن قوله هذا غير صحيح في معظمه، و ليس فيه إلا قليل من الصواب ، و قد خَطّأ رأيين صحيحين من دون دليل صحيح كعادته . و الصحيح في مصدر ملوحة مياه البحار ، أنه ليس لها مصدر واحد ، كما قال أرسطو، و ليس تفسيره هو المصدر الأساسي لمصدر ملوحتها ، فهو إن صح فقد يصدق كعامل من العوامل الأخرى المساهمة في ملوحتها.



    و أهم مصادر ملوحتها خمسة : أولها يتمثل فيما تجلبه الأنهار من أملاح و معادن و مواد عضوية إلى البحار . و الثاني هو عملية التبخر التي تحدث لمياه البحار بسبب حرارة الشمس ، فيصعد البخار إلى أعلى ،و يبقى الملح في البحار. و ثالثها هو تحلل الكائنات العضوية النباتية و الحيوانية الميتة التي تعيش في البحار[9] .

    و الرابع يتمثل في ما تُخرجه و تُلقيه البراكين الثائرة داخل البحار ، من حمم و صهارات مليئة بالأملاح المعدنية . و آخرها-المصدر الخامس- فيتمثل في أملاح النشأة الأولى عندما تكوّنت البحار . و ذلك أن القشرة الأرضية عندما كانت مُنصهرة ،و تفاعلت مع الأمطار المتهاطلة-عبر عصور الأرض الأولى- كانت الحياة-مع ارتفاع درجة الحرارة- أكثر قابلية لإذابة الأملاح ،و تنشيط التفاعلات الكيميائية ، فكانت مياه البحار مُشبعة بالأملاح عند النشأة الأولى[10] .



    و النموذج الرابع يتعلق بمصدر نهر النيل ، ذكرنا سابقا أن أرسطو نص صراحة على أن البحر المحيط هو مصدر جميع الأنهار ، و أن الجبل العظيم المطل عليه تصدر منه جميع الأنهار العظيمة . لكنه أشار أيضا إلى أنه توجد جبال أخرى تصدر منها أنهار معروفة ، مثل الجبل الذي يصدر منه نهر النيل[11] .



    و أقول: أولا إن كلام الرجل فيه تناقضان ، الأول قوله بأن البحر المحيط هو مصدر جميع الأنهار من حيث مصدرها المائي[12] . و الثاني قوله بأن الجبل العظيم المطل على البحر المحيط تصدر منه جميع الأنهار العظيمة . ثم ناقض ذلك بما قاله عن مصدر نهر النيل . فكان عليه أن يستثني الأنهار العظيمة التي لا يصدق عليها الحُكمان السابقان.



    فإن قيل : إن أرسطو أشار إلى أن نهر النيل مصدره جبل آخر . فنقول : إن هذه الإشارة ليست من الاستثناء ،و إنما هي نقض للموقفين السابقين . لأن الأسلوب العلمي الصحيح يُحتم عليه أن لا يُعمم حكمه ، ثم يستثني منه مالا يندرج تحته ، في نفس الموضع ،و أو موضع آخر عند الضرورة مع الربط بينهما. كأن يقول: الغالب كذا ، أو معظمهم قالوا كذا ، أو الغالبية الساحقة ، أو الغالبية العظمى ، أو لا يكاد يُخالفه شيء ، أو لا نكاد نعثر على خلافه ، و هكذا . و إذا تراجع عن موقف قاله سابقا ، عليه إن يُشير إلى ذلك ، كأن يقول: كنا ذكرنا كذا ،و الآن نرى خلافه ، أو كنا قلنا كذا ،و الآن نستثني منه هذا الأمر ، و هكذا . و إذا لم يفعل ذلك يكون قد تناقض مع نفسه، سواء عن قصد ، أو عن غير قصد .




    و ثانيا ليس صحيحا أن النيل بنبع من جبل ، و إنما الصحيح هو أن مصادره كثيرة بسبب كثرة روافده التي تصب فيه مُكونة نهر النيل . و هي تنبع من المنطقة الاستوائية الكثيرة الأمطار ، كما في الهضبة الحبشية و بحيرة فيكتوريا . لكن مع تعدد مصادره فإن له مصدرين أساسيين : الأول بحيرة فيكتوريا ،و الثاني نهر روفيرونزا الواقع في بورندي[13] . فليس مصدر نهر النيل جبل ، و لا له مصدر واحد ينبع منه، كما زعم أرسطو .



    و النموذج الخامس يتعلق بالرياح : مصدرها ،و أنواعها . يرى أرسطو أن مصدر الرياح هو البخار الحار اليابس ، و بمعنى آخر هو الدخان الذي يتولد بسبب حرارة الشمس . و هي – أي الشمس- تُولّد بخارين حارين ، هما : الحار الرطب المُكون للأمطار ، و الحار اليابس- الدخان- المُكون للرياح . و أنكر على من قال بأن طبيعة الرياح و المطر واحدة ، و نصّ على أن طبيعة الماء تختلف عن طبيعة الهواء . و قال أيضاً : (( إن الريح ليست هي هواء متحركا ،و أن طبيعته غير طبيعة الهواء . فبيّن أنه لو كان الأمر كذلك لما كان للريح مبدأ و طبيعة بها تتحرك من ذاتها . و معلوم أنه ليس في الهواء بما هو هواء مبدأ لحركة الرياح ، فإن الريح بيّن من أمرها أنها مُتحركة، من تلقائها ، و لذلك كانت أحد الموجودات الطبيعية المركبة ، لا البسيطة . و أيضا فإن الرياح مختلفة الأنواع بالمزاج ،و الموضع الذي منه تهب ، و لو كانت الريح هو الهواء المُحرك لما اختلف باختلاف المواضع و الجهات ))[14] .

    و أما من جهة أنواع الرياح فمجموع عددها على وجه الأرض يبلغ 11 أو 12 نوعا من الرياح ، لأن النقل عن أرسطو اُختلف فيه ، فقيل 11 ، و قيل 12 [15] .



    و أقول : إن قوله هذا مملوء بالأخطاء ، و ربما كان معذورا في بعضها ، لكنه غير معذور في معظمها لأنه أكد على صحتها من دون دليل يقيني ، و رد بعض الأقوال الصحيحة برد غير مقنع من جهة ؛ و هو في كل الحالات يتحمل تبعات كلامه كله ، و مسئول عنه من جهة أخرى .



    و ليس صحيحا قوله بأن طبيعة الرياح تختلف عن طبيعة الهواء ، فهذا كلام بلا علم . لأن كلا منهما هواء ، و الهواء هو خليط من الغازات المُكونة للغلاف الغازي المحيط بالأرض ،و الرياح هي هواء يتحرك أفقيا على الأرض لا غير. و ليست الشمس هي المكونة للرياح و لا للهواء ، لأن الغلاف الغازي المحيط بالأرض ليس من تكوين حرارة الشمس[16] .

    و حركة الرياح ليس مصدرها الرياح ذاتها، و لا هذه الخاصية تجعلها من طبيعة مغايرة للهواء كما زعم أرسطو . و سبب تحركها هو الحرارة ، بناء على قاعدتي الضغط المرتفع و المنخفض . فتتحرك من المرتفع البارد إلى المنخفض الساخن ،و تكون قوتها حسب الفارق بين المنطقتين[17] .



    و فيما يخص عدد أنواعها ، فالأمر ليس كما ذكره أرسطو ، لأن عددها أكثر من ذلك بكثير ، فقد أحصيتُ منها أكثر من 28 نوعا من الرياح ، منها الدائمة ، و الموسمية ، و المحلية . و من تلك الرياح : التجارية ، و العكسية ، و القطبية ، و الخماسين ، و السموم ، و السيروكو ، و الهرمتان ، و البورا[18] .



    و خلاصة ذلك هو أن تحرك الرياح، و اختلاف درجات حرارتها ،و تنوّعها عددا و اتجاهاً ، كل ذلك لا دخل له في أن يُكوّن طبيعة خاصة للرياح ، و لا يجعلها مُخالفة لطبيعة الهواء ،و إنما هي هواء مُتحرك على وجه الأرض ، و هذا خلاف ما قاله أرسطو .



    و النموذج السادس يتعلق بالفرق بين المطر و الندي ، يرى أرسطو أن كلا منهما يتكون من بخار الماء في السماء ، ثم ينزلان إلى الأسفل حيث الأرض . فإذا كانت كمية البخار المتحولة قليلة و بطيئة الهبوط تكوّن منها الندى ،و هذا يحدث ليلا في حالة الصحو ؛ و إذا كانت الكمية الهابطة كبيرة و سريعة تكوّن منها المطر . فالندى مطر قليل ، و المطر ندى كثير . و علل سبب ظهور الندى صحوا لا في وقت الغيوم، علله بأن (( البخار الذي يكون منه إنما يعلو عند الصحو ، لبرد هذا الوقت و موافقته لصعود هذا البخار و تولّده ، و ذلك من قِبل قلة حرارته ))[19] .



    و قوله المتعلق بالندى غير صحيح ، لأنه أولا إن الندى لا يتكون في الطبقات العليا،و لا يسقط منها كالمطر ،و لا أحد منا سمعه يسقط ، و لا أحس بسقوطه . و إنما هو يتشكل في سطح الأرض ، فعندما يبرد الهواء القريب منها ، يتكاثف بخار الماء الذي يحمله ، و يتحول إلى سائل يظهر على الأجسام القريبة من الأرض[20] .



    و ثانيا إن أرسطو أخطأ في طريقة الاستدلال ، لأنه قال بأن الندى يتكون في السماء كالمطر ، من دون أي دليل صحيح يُثبته ، أو يُرجحه، و ليس في إمكانه رؤيته ،و لا بيده آثار و شواهد صحيحة تُؤيده . و إنما الشواهد المتوفرة تدل على خلاف زعمه ، منها أن الندى لا نحس بسقوطه باللمس و لا بالسمع . و أنه يظهر من دون سحاب ، في أيام الصحو . و هذا يعني أنه لا يسقط من السماء، لأنه لا سقوط للمطر القليل و لا الكثير من دون سحاب . و من كل ذلك يتبين أن الشواهد تدل على أن الندى لا يسقط من السماء،و إنما يتكون على سطح الأرض ،و من دون سحاب . و هذا خلاف ما قاله أرسطو ، فأخطأ في النتيجة و منهج الاستدلال .



    و النموذج السابع – من أخطاء أرسطو- مفاده أن الرجل زعم أن هواء الجبال الشاهقة حار جدا ، لأنه (( مُتحرك و قريب من حركة النجوم ))[21].

    و قوله هذا باطل جملة و تفصيلا ، و فيه انحراف كبير عن منهج الاستدلال العلمي الصحيح . و تفصيل ذلك أولا إنه ليس صحيحا أن هواء الجبال الشاهقة حار جدا ، لأن الثابت علما و مشاهدة أن قمم الجبال العالية أكثر برودة من سفوحها ، لأنه كلما ارتفعنا إلى أعلى قلت درجة الحرارة ، بمعدل درجة مئوية واحدة لكل 1000 متر نقُصت الحرارة بنحو 6،5 درجة مئوية . و الشاهد على ذلك أيضا أن قمم الجبال العالية مكسوة بالثلوج كما في جبال الألب في أوربا ، التي تصل أعلى قمة فيها نحو 5000 متر ،و جبال الهيملايا على حدود النيبال و التبت ، تصل أعلى قمة فيها إلى نحو 9000 متر( 9 كم )[22] .




    و ثانيا ليس صحيحا أن الجبال العالية جدا هي قريبة من حركة النجوم ، لذلك هي حارة جدا ، فهذا ظن و تخمين ،و قول بلا علم ،و رجم بالغيب . لأن الحقيقة أن النجوم بعيدة جدا جدا عن جبال الأرض ، التي هي نفسها تقع ضمن الطبقة الأولى من الغلاف الجوي الملاصقة لسطح الأرض . و قد قَدر العلماء سمك الغلاف الغازي- بطبقاته الأربع- من سطح الأرض إلى نهايته بنحو : 250 ميلا [23] . فماذا تُمثل أعلى قمة جبل في الأرض المقدرة بنحو 9 كم ، بالنسبة إلى سمك الغلاف الغازي المُقدر بنحو 250 ميلا ؟؟!! . فهل بعد هذا يصح قول أرسطو بأن الجبال الشاهقة قريبة من حركة النجوم ؟؟؟!!! . وأما إذا قسنا المسافة التي تفصل بين الأرض و بين أقرب نجم إلينا و هو الشمس فلا مجال للكلام في ذلك أبدأ ،و لا يصح الخوض فيه أصلا . و قد قدّرها العلماء بنحو 93 مليون ميل في المتوسط[24] .




    و أما قوله بأن حركة هواء الجبال الشاهقة ساهمت أيضا في شدة حرارته . فهذا لا يصح أيضا لأمرين أساسيين : الأول هو أنه سبق أن بينا أن قمم الجبال العالية باردة و ليست شديدة الحرارة . و الثاني هو أنه ليس صحيحا أن الحركة تولد بالضرورة الحرارة الشديدة ، فهي قد تولد برودة شديد . و هذا سبق أن بينا بطلانه في أخطاء أرسطو الفلكية من جهة ،و نحن نعلم كلنا أن الجسم قد يكون متحركا و هو بارد ، كما هو حال الرياح الباردة من جهة أخرى .



    و أخيرا- ثالثا – إن سبب خطأ أرسطو ذلك الخطأ الفاحش ، يعود إلى أمرين أساسيين : الأول تأثره بإلهياته الزائفة في قوله بأن هواء الجبال الشاهقة شديدة الحرارة ، فهو قد زعم فيها أن عنصر النار يُوجد في آخر طبقات العالم الأرضي ،و بما أنه قال بأن تلك الجبال قريبة من حركة النجوم، فهذا يعنى أنها من باب أولى أنها قريبة جدا من طبقة النار ، و هذا هو الذي جعلها شديدة الحرارة على حد زعم أرسطو[25] .



    و الأمر الثاني هو إهماله لمنهج البحث و الاستدلال العلميين ، فقد أهمل السعي للمعاينة و التجربة و سؤال أهل الخبرة ، و اكتفى بالتأمل النظري ،و القول بالظن و التخمين ،و الاعتماد على إلهياته الزائفة . فلماذا لم يذهب مثلا إلى قمم جبال الألب العالية – و هي قريبة من بلاد اليونان- ليتأكد مما قاله ؟! ، و لماذا لم يسأل أهل الخبرة من الرحالين و غيرهم من العارفين بالظروف السائدة في قمم الجبال ؟ ! . إنه لم يفعل ذلك ، و بمثل هذه الانحرافات القاتلة هي التي جنى بها أرسطو على نفسه و أتباعه ،و على العقل و العلم معا.



    و النموذج الأخير- الثامن من أخطاء أرسطو الجغرافية- يتعلق بالمذنبات و الشهب ، و مفاده أن الرجل يرى أن ظاهرة الكواكب المذنبات ليست جزءا من الجرم السماوي، و إنما هي هواء ملتهب بسبب حرارة الشمس و الكواكب الأخرى . و زعم أيضا أنه إذا ظهرت تلك المذنبات فذلك يدل على (( الرياح الكثيرة ، و الاحتراق ، و اليبس في ذلك الوقت . لأنها تعرض إذا كان مزاج الهواء حارا يابسا ، إذ كان ليس يُمكن أن يعرض الالتهاب في الهواء الرطب )) . و في أي سنة ظهرت فيها الكواكب المذنبات كان ذلك دليلا على أنها ستكون يابسة كثيرة الرياح[26] .



    و أيد ذلك بحوادث حكاها عن غيره ، منها أنه قال : ذُكر أن الكواكب المذنبات ظهرت يوما ، فرمى (( رامٍ في ذلك الوقت بحجر في نهر يُسمى أجريس ، فلم تزل الريح تدفعه النهار كله إلى الغد )) . و منها أيضا أنه ذُكر أن كوكبا مُذنبا ظهر في زمن الملك نيقوماخوس في موضع استواء الليل و النهار الكروي ، فهاجت (( بعد ظهوره ريح عاصف على الفور ))[27] .

    و تلك الظاهرة – حسب أرسطو - قليلة الظهور بسبب (( ما يعرض في الأكثر من قلة حرارة الشمس و الكواكب . أعني أنه ليس في طبيعتها ، و ذلك في الأكثر أن تلهب الهواء إلهابا يكون منه هذا النوع من الكواكب إلا في الفرط من السنين ))[28] .



    و أما الشُهب ، فهي- حسب أرسطو- تتكون من النار التي تُولدها حركة الجسم المستدير الدائري الحركة . و تفصيل ذلك هو أنه عندما يتحرك يُولد لهب يلهب به الأجسام ،و منها تتكون النار التي هي بدورها تتكون منها الشُهب . و هذه الشُهب توجد تحت فلك القمر لا في النجوم حسب رأي أرسطو[29] .



    و قوله هذا غير صحيح ، و مملوء بالأخطاء ، و فيه انحراف كبير عن منهج البحث العلمي الصحيح . و تفصيل ذلك: أولا إنه ليس صحيحا أن المذنبات ليست من الجرم السماوي،و أنها هواء مُلتهب . و إنما الصحيح هو أنها-أي المذنبات – أجسام صلبة من طبيعة الأجرام السماوية نفسها ،و هي ذات أحجام و أشكال و أنواع ، تسبح في أعماق الفضاء ،و قد تقترب من الشمس و الأرض . و عندما تقترب من الشمس أو من أي كوكب كبير فإنها تتمزق إلى أسراب من أجسام صغيرة[30] .



    و ليس صحيحا أيضا ما قاله أرسطو عن الشُهب ، فهي لم تتكون كما ذكر ، من أنها تولّدت من النار التي كونتها حركة الجسم المستدير ،و إنما الصحيح هو أن أصلها من المذنبات السابق ذكرها . و ذلك أنها عندما تتمزق إلى أجسام صغيرة و تقترب من الأرض و تدخل الغلاف الغازي تنصهر و تلتهب فتُكوّن الشُهب[31] . فهي ليست من عالم الكون و الفساد كما زعم أرسطو ، و إنما مادتها من الأجرام السماوية،و مصدرها من خارج كوكب الأرض .



    و ثانيا ليس صحيحا قوله بأن المذنبات قليلة الحدوث و الظهور بسبب قلة حرارة الشمس و الكواكب التي تُلهب الهواء المُكوّن لها . فهذا زعم باطل، و الصحيح هو أن درجة حرارة الشمس لا تقل، و لا دخل لها في تكوين المذنبات . و هي – أي المذنبات – ليست قليلة الحدوث، و إنما هي كثيرة الحدوث ، و تحدث بآلاف المرات في السنة الواحدة ، و ليس أنها لا تحدث إلا نادرا في عدة سنيين كما زعم أرسطو . لكن لا نرى معظمها إلا بالمنظار الفلكي لبعدها الشاسع عنا [32].



    و رابعا إن قوله بأن السنة التي تظهر فيها المذنبات تكون إشارة على أنها ستكون سنة كثيرة الرياح ،و الاحتراق و اليُبس . فهو زعم باطل ، لأمرين أساسيين : الأول أن كثرة الرياح من قلتها لا تتحكم فيها ظاهرة المذنبات،و إنما هي تخضع لنظام خاص بها داخل كوكب الأرض أساسا[33]. و الثاني أن المذنبات تحدث بآلاف المرات في السنة الواحدة ، على امتداد فصولها ، و لا يحدث ما أشار إليه أرسطو ، من كثرة الرياح ، و الاحتراق ، و اليبوسة !! . فلا نرى لذلك أثراً ، إلا ما هو عادي معروف .

    و أما الخبران اللذان حكاهما أرسطو كشاهدين على صحة قوله بأن ظهور المذنبات يتسبب في كثرة الحرارة و الإحراق و اليبوسة . فهما غير صحيحين بالضرورة ، لأنهما نتيجتان لمقدمة غير صحيحة . و بمعنى آخر أنه بما أن المذنبات لا تُسبب الرياح القوية التي أشار إليها أرسطو، فإن الخبرين اللذين ذكرهما كشاهدين على صحة رأيه ، غير صحيحين بالضرورة .



    و أخيرا – خامسا – إن السبب الأساسي في خطأ أرسطو يتمثل في انحرافه عن المنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال ، و قد تمثل ذلك في أمرين : الأول هو تأثره بإلهياته الزائفة في موقفه من المذنبات و الشهب ، فبسببها استبعد أن تكون المذنبات و الشُهب أجزاءً منفصلة عن الأجرام السماوي ، لأنه كان يعتقد أن الأجرام السماوية هي أجسام أزلية إلهية مقدسة . و بسببها زعم أن الشهب تتكون من النار ما تحت فلك القمر ، لأنه كان يعتقد أن تلك الطبقة هي طبقة نارية حسب وتوزيعه للعناصر الأربعة، و من ثم فهي تتكون هناك[34] . فواضح من ذلك أن تأثره بإلهياته الزائفة أوقعه في الخطأ من جهة ،و أن تأثيراتها فيه ما تزال تُلاحقه حتى في مواقفه الجزئية في كثير من الظواهر الطبيعية من جهة أخرى .

    و أما الأمر الثاني ، فهو عدم التزام أرسطو بالمنهج العلمي الصحيح في مجال علوم الطبيعة ، فهو قد تكلم بالظن و التخمين ، و الرغبات و التحكّمات في أمور لا يصح فيها ذلك ، و أكد على صحة أمور من دون دليل قطعي . و أخذ ببعض أخبار الآحاد و استعان بها لتأييد ما ذهب إليه ، من دون نقد و لا تمحيص ، مع أن الخبر الأول ظاهر عليه أنه مكذوب مُختلق ، لأنه لا يتفق مع ما نراه من آثار الرياح على الطبيعة.



    و من تلك النماذج تبيّن جليا أن أرسطو وقع في أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة تتعلق بعلم الجغرافيا ، زاد عددها عن 30 خطأ و انحرافا منهجيا من جهة .و أظهرت مدى إهماله و إخلاله بالمنهج العلمي في البحث و الاستدلال من جهة أخرى .
    __________________________
    [1] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 76 .

    [2] أنظر : الأطلس العالمي ، المعهد التربوي الوطني، الجزائر ، ص: 64 -65 .

    [3] ابن رشد : المصدر السابق ، ص: 89 .

    [4] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 86 و ما بعدها .

    [5] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : البحر الميت .

    [6] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 89 .

    [7] نفسه ، ص: 89 .

    [8] نفس المصدر ، ص: 90 ، 93 ، 95 .

    [9] حسن أبو العينين : جغرافية البحار و المحيطات ، ط6 ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، مصر ، 1982 ، ص: 165 ، 168 . و جمال الدين أفندي : طبيعيات البحر و ظواهره ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1960 ، ص: 50 ، 51 ، 52 ، 53 . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة : المحيط .

    [10] نفس المراجع .

    [11] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 76 .

    [12] سبق أن ناقشنا أرسطو في مقصوده من ذلك .

    [13] أنظر : الأطلس العالمي ، ص: 36 . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة : النيل .

    [14] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 98 .

    [15] ابن رشد : الآثار العلوية ، ص: 33 .

    [16] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الرياح ، الهواء ، الغلاف الحراري .، الغلاف الأوسط .

    [17] حسن سيد أبو العينين : أصول الجغرافيا المناخية ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الأسكندرية ، ص: 176 . و عبد الحليم خضر : المنهج الإيماني ، ص: 15 .

    [18] أنظر : حسن سيد أبو العينين : نفس المرجع ، ص: 192، 200 ، 201 ، 204، 205 ، 213، 214 و ما بعدها ، و 221 و ما بعدها ، و 230 و ما بعدها .

    [19] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 64 ، 66 .

    [20] حسن أبو العينيين : أصول الجغرافية المناخية ، ص: 325 و ما بعدها . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الندى .

    [21] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 66 .

    [22] حسن أبو العينين : أصول الجغرافيا المناخية ، ص: 65 . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الهواء، الجبل ، الألب ، إيفرست .

    [23] حسن أبو العينين : نفس المرجع ، ص: 69 .

    [24] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 47 .

    [25] سبق الرد على قول أرسطو بعنصر النار و العناصر الأخرى ، فلا نعيده هنا .

    [26] ابن رشد تلخيص الآثار العلوية ، ص: 50 .

    [27] نفسه ، ص: 50 .

    [28] نفسه ، ص: 50 ، 51 .

    [29] نفس المصدر ، 24، 37 ، 40 .

    [30] عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ص: 33 ، 43 . و آن هوايت : النجوم ، ص: 74 ، 75 .

    [31] نفسه ، ص: 33 ، 34 . و نفسه ، 74 و ما بعدها .

    [32] آن هوايت : نفس المرجع ، ص: 73 . و الموسوعة العربية العالمية ، مادة : المذنب .

    [33] أنظر : حسن أبو العينين : أصول الجغرافيا المناخية ، ص: 158، 159 .

    [34] سبق توثيق ذلك في الفصل الأول .
    أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
    الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
    كتب وورد
    هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
    للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

    تعليق

    • باحث سلفى
      =-=-=-=-=-=

      حارس من حراس العقيدة
      • 13 فبر, 2007
      • 5183
      • مسلم (نهج السلف)

      #17

      ثالثا : من أخطاء أرسطو في موقفه من العقل و الأجناس و الناس:


      اتخذ أرسطو مواقف خاطئة من قضايا أساسية تتعلق بالعقل و الأجناس البشرية ،و الفئات الاجتماعية في زمانه ، فأثرت عليه سلباً في فكره و سلوكه من جهة ، و أظهرت انحرافا منهجيا كبيرا في تفكيره من جهة أخرى .

      ففيما يخص العقل فسنذكر نموذجينمن كلام أرسطو حوله . الأول مفاده أن العقل عنده- أي أرسطو- هو عنصر إلهي أزلي مُفارق للمادة ، يحل بالجسم في الحياة الدنيوية ثم يُفارقه بعد الموت ، و يكون له خلود نوعي لا فردي[1].

      و أقول : هذا الرجل يتكلم بلا علم كعادته ، فقد جعل تخميناته و رغباته و تحكماته أدلة ينطلق منها و يحتج بها ، و هذا انحراف منهجي خطير ، و استدلال باطل مرفوض ، و هذا وحده كافً لإبطال زعمه . فهو في موقفه من العقل يُسقط عليه إلهياته الزائفة التي سبق أن بينا بطلانها في الفصل الأول . و لن يستطيع أرسطو إثبات زعمه هذا ، مهما استخدم من سفسطة ، فهو باطل بلا شك ، بحكم أن العالم كله مخلوق ، منه الإنسان بعقله و نفسه و لحمه . و هذا أمر سبق أن شرحناه و أثبتناه و وثقناه فلا نعيده هنا .

      و أما قوله بحكاية أزلية العقل كنوع لا كفرد ، فهي من أوهام أرسطو و خرافاته و مغالطاته التي سبق أن بينا بطلانها أيضا في الفصل الأول . و هو هنا مُتأثر بشيخه أفلاطون فهو صاحب الكليات الأزلية المشهورة ، منها زعمه بوجود نفس كلية إلهية ، و منها تظهر النفوس الجزئية التي ستحل بالجسد ثم تُفارقه بعد الموت ...[2] .

      و النموذج الثاني مفاده أنه واضح من كلام أرسطو أن العقل عنده موجود في القلب ، لأنه وصف القلب بأنه عضو إلهي عظيم الشأن ،و عمله العقل و الحِس[3] . و بما أنه سبق أن ذكرنا- في الفصل السابق- أن أرسطو قد نصّ على أن دور الدماغ هو تبريد القلب ، فهذا يعني أن العقل لا يُوجد في الدماغ،و لا عملياته تتم فيه .

      و قوله هذا غير صحيح ، و الثابت هو أن العقل ليس عضوا إلهياً ، و لا أزليا ،و لا عضوا مُستقلا بذاته، و لا جوهرا خالدا ، فهذه كلها مزاعم باطلة هي من خرافات أرسطو و أوهامه . و الصحيح هو أنه-أي العقل- قوة مخلوقة من قِوى النفس ،و غريزة من غرائزها ؛ و عملياته لا تتم في القلب ،و إنما تتم في الدماغ . و نفس الأمر ينطبق على الإحساس ، فعملياته تتم في الدماغ أيضا ، و لا تتم في القلب كما زعم أرسطو .

      و الدليل على صحة قولي هذا هو أن كل إنسان يحس من نفسه أنه لا توجد بداخله ذاتان : نفس و عقل ، و إنما يحس بأن له ذاتا واحدة هي نفسه الموجودة في صدره من جهة ؛ و أن عملياته العقلية كلها تتم في دماغه الموجود في رأسه من جهة أخرى .

      و الشاهد الثاني هو أن البحوث الحديثة المُتعلقة بالأعصاب أثبتت بالأدلة الدامغة ، أن عمليات التعقل و الإحساس كلها تتم في الدماغ ،و لا يُوجد في الدماغ جوهر أو عضو يُسمى عقلا[4] . و معنى ذلك أن كل ذلك تابع للنفس، و أن ما نسميه عقلا هو غريزة من غرائزها ، أو قوة من قِواها .

      و أما بالنسبة لموقف أرسطو من الأجناس و الفئات الاجتماعية ، فقد جمع فيه بين العنصرية و التعصب ، و التكبر و الاحتقار ،و التغليط و التحريف ، و الدفاع عن الظلمة و الحط على المظلومين .

      ففيما يتعلق بالأجناس البشرية فأرسطو يرى أن (( أجناس الشمال مليئة بشعلة الحياة ،و أجناس الجنوب مُتحضرة ، و اليونانيون وحدهم هم الذين يجمعون الطرفين . فشعلة الحياة تملؤهم ،و هم في الوقت نفسه مُتحضرون )) [5] .

      و أقول : هذا كلام باطل جملة و تفصيلا ، و مُثير للضحك و السخرية ، و مملوء بالعنصرية و الاحتقار لغير اليونانيين . و الرجل أشبع غروره و كبرياءه من دون أي دليل صحيح من العقل و لا من العلم . أولا إنه لا يُوجد أي دليل عقلي يقول بذلك الزعم ، و إنما خلافه هو الذي يقوله العقل الصريح ، لا العقل المُتعصب المريض . و مفاده أنه بما أن البشر كلهم من أب واحد ، فلا يُوجد أي امتياز لجنس دون آخر من الناحية الخَلْقية ، فكلهم يتمتعون بالقدرات العقلية و النفسية و البدنية على بقدر متساوٍ على العموم ،و إنما يختلفون و يتفاضلون أساساً بأعمالهم الصالحة ،و أفكارهم الصحيحة ، و إبداعاتهم النافعة . و هذه الأعمال ليست خاصة بجنس دون آخر ، فبمقدور أي جنس أن يحقق ذلك إذا توحّد و جدّ و اجتهد ؛ فيصبح شعبا قويا مَتحضرا مملوءا نشاطاً و حيوية ، أملا و طموحاً .

      و ثانيا إن أرسطو يتعمد التغليط و التدليس عندما زعم أن اليونانيين جمعوا بين خاصيتي أجناس الجنوب و أجناس الشمال . لأن هذه الخاصية ليست صفة خاصة باليونانيين و لا بغيرهم من الأجناس ،و لا يجب أن تظهر فيهم و لا في غيرهم فقط . و إنما هي صفة مُكتسبة من اجتهد في طلبها قد يكتسبها و قد لا يكتسبها إذا لم تتوفر فيه شروط تحقيقها . و عليه فإن أرسطو تناسى أن الشعب اليوناني قبل أن يُحقق نهضته العلمية و السياسية و العسكرية كان شعبا ضعيفا مهزوما مُفككا مُستعمرا مدة طويلة من الزمن ،و لم تنفعه تلك الخاصية المزعومة . و نحن نعلم يقينا أن الشعب اليوناني فقد- كغيره من الشعوب – قوته و تحضره و إمبراطوريته ، و زال من مسرح قيادة العالم ، فجاءت الحضارة الرومانية ، ثم الإسلامية ، ثم الغربية الحديثة ، و هو الآن في مؤخرة الشعوب الغربية في مختلف مجالات الحياة ، و قد مرت اليونان في زماننا هذا بأزمات خانقة تطلبت تدخل الدول الغربية لإنقاذها مما هي فيه( سنة 2010م، و 2011م) . و نحن نعلم اليوم أن دول الشمال- في أوروبا و أمريكا و آسيا- هي أكثر دول العالم قوة و تحضرا ، و استقرارا و تنظيما ، من اليونان و من باقي دول العالم. فأين ما زعمه أرسطو العنصري المُتعصب للباطل ؟؟ .

      و النموذج الثاني مفاده أن أرسطو زعم أن الطبع- الطبيعة- لم يجعل من المتوحشين من هو كائن للإمارة ، فليس (( فيهم حقا إلا من عبد و من أمة ، و لم ينخدع الشعراء إذ يقولون : أجل للإغريق على المتوحش حق الإمرة )) . فهذا عند أرسطو صحيح ، ما دام (( الطبع قد أراد أن يكون المتوحش و العبد سيين ))[6] .

      و أقول : إن الرجل لا ينسى مُغالطاته و تدليساته ، و زعمه هذا باطل مردود عليه ، و كلامه هذا ليس كلام علماء نزهاء عقلاء ينظرون إلى الموضوع بعقل صريح و علم صحيح ، و بتجرد و إنسانية ، و إنما هو كلام إنسان عنصري مغرور مُتعصب للباطل . لأنه أولا لا يصح الاحتجاج بحكاية الطبع و الطبيعة ، فهذا كلام بلا علم، و محاولة من الرجل للاختفاء بحكاية الطبع ، للتهرب من المطالبة بالدليل ، و هو نوع من أنواع الاحتجاج بالقدر على الطريقة الأرسطية في قوله بحتمية الطبيعة التي تناولنا جانبا منها في الفصل الأول . و الحقيقة أن الطبيعة تشهد ضده ، لأن الثابت قطعا شرعا و تاريخا و عقلا أنه لا يُوجد جنس وُلد قويا مُتحضرا ، و غيره لم يكن كذلك ، و إنما الأصل هو أن أبانا آدم –عليه السلام- و أولاده كانوا كلهم في مستوى واحد من القوة و التحضر ، ثم اختلفوا في ذلك حسب أعمالهم و ظروفهم الاجتماعية و الطبيعية . و هذا الأمر يشهد به التاريخ قديما و حديثا، فكم من شعب كان مُتخلفا ثم أصبح قويا مُتحضرا ، و كم من شعب حدث له العكس . و ألم يكن الشعب اليوناني متوحشا مُتخلفا قبل نهضته ، ثم بعدها فقد قوته و حضارته ،و عاد إلى تخلفه و ضعفه و استمر على ذلك قرونا عديدة ، و دولته اليوم هي في مؤخرة دول الغرب تطلب منها المساعدات الاقتصادية[7] .

      و ثانيا إن الإمرة ليست خاصة بالشعب اليوناني دون آخر ، و لا بطبقة معينة دون غيرها ، ،و لا بشخص مُعين دون غيره من بني آدم . و إنما هي في متناول كل الشعوب و الطبقات و الأفراد من حيث الإمكان ،و لا توجد أية حتمية تُخصص ذلك بطرف معين كما زعم أرسطو . ثم بعد ذلك قد ينالها من سعى في طلبها بالقوة ،و قد لا ينالها ، و قد ينالها من لم يسع في طلبها ، كأن يختاره الناس عن كره منه ، أو يرثها عن غيره من غير طلب منه . و كم من إنسان عادي أصبح أميرا ، أو سلطانا ، و في تاريخنا الإسلامي كثير من العبيد أصبحوا سلاطين و أمراء ، كما حدث في الدولتين الإخشيدية و المملوكية . و عليه فإن الطبيعة التي احتج بها أرسطو هي حتمية زائفة استخدمها لخدمة مصلحته و طبقته و شعبه.

      و النموذج الثالث -المتعلق بعنصرية أرسطو- مفاده أنه عندما شرع تلميذه الأسكندر المقدوني في توسعاته الاستعمارية أرسل إليه شيخه أرسطو رسالة حثه فيها على أن يُعامل اليونانيين معاملة الأحرار ،و يُعامل البرابرة معاملة العبيد ، فيكون (( قائدا لليونانيين ،و سيدا للأجانب ، و أن يدعي اليونانيين كأصدقاء و أقرب ، و أن يُعامل الأجانب كحيوانات أو نبات ))[8] .
      و أقول : إن قوله هذا هو سعي منه لتطبيق نظرته العنصرية في موقفه من الأجناس ، فأظهر ما في نفسه من عنصرية و حقد و تعصب و تكبر . و بما أن أرسطو فيلسوف مشهور بين الناس بمنطقه الصوري ، فلماذا لم يحثه على حسن معاملة الجميع و عدم ظلمهم ؟، و لماذا لم يحثه على أن يحترم الكرامة الإنسانية ؟ ، و لماذا لم يحثه على الحفاظ على أموال الناس و ممتلكاتهم ؟ ، و لماذا لم يسكت و يجنب نفسه مما وقع فيه ... ؟ . هل المنطق يأمر بما فعله أرسطو ؟ ، هل العدالة تأمر بذلك ؟ . إن أرسطو بذلك الفعل يكون قد شجع تلميذه على القتل و الظلم و النهب ، و هو مساهم معه في هذه الجرائم و يتحمل معه جانبا منها ، فهو طرف في الجريمة ، و أحد المجرمين .

      لكن الغريب أن الباحثة مها أحمد السيد حاولت تبرير جريمة أرسطو و التخفيف منها ، فقالت: (( و ليس هناك غرابة في موقف أرسطو لأنه كان وضعا اجتماعيا سائدا ، و أيده أستاذه أفلاطون ))[9] .

      و تبريريها هذا لا يصح و مرفوض ، لأنه أولا ليس صحيحا أن أفلاطون أيد أرسطو فيما فعله ، لأن أفلاطون كان قد مات سنة 347 قبل الميلاد ، و أرسطو تولى تعليم الأسكندر – قبل توسعاته طبعاً – في سنة 343 أو 342 قبل الميلاد[10] . فكيف يكون قد وافقه على ذلك الفعل ؟؟!! . و حتى و لو كان أفلاطون قد وافقه عليه ، فأفلاطون ليس حجة ، و كلامه يُخضع للنقد ككلام غيره من أهل العلم ، إن كان صحيحا قبلناه ،و إن كان خطأً رفضناه .

      و ثانيا أن الباحثة نفسها نقضت تبريريها عندما قالت أيضا : (( و لا شك أن موقف أرسطو هذا لم يُشاركه فيه كل الناس ،و بالتأكيد لم يُشاركه فيه معظم الفلاسفة ))[11]. فلماذا لم يُشاركه هؤلاء في موقفه ؟! ، فأين حكاية التأثر بالوضع الاجتماعي ؟ ، فلماذا تأثر به أرسطو دون هؤلاء ؟! ،و لماذا خالفوه في موقفه ؟!. فالتبرير الذي ذكرته الباحثة لا يصح و مرفوض، و يبقى أرسطو مسئولا عما فعله ، و مساهما في الجريمة .

      و ثالثا إنه لا يصح الاعتذار لأرسطو ، لأن المفروض عليه كعالم و فيلسوف أن يكون عادلا نزيها في مواقفه و تصرفاته، فيحتكم إلى العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، و العدالة الإنسانية ،و لا يحتكم إلى عنصريته و عصبيته و مصالحه الدنيوية . لكن الرجل اختار لنفسه بإرادته أن يقف بجانب الظلم و الظالمين و لا يقف بجانب الحق و العدل و المساواة ،و باع منطقه و جعله من وراء ظهره انتصارا لعنصريته و عصبيته و مصالحه .

      و الشاهد على ذلك أيضا ، أن أرسطو وقف بجانب بعض الظلمة طلبا لمصالحه الدنيوية . فقد رُوي أنه لاذ بالملك الظالم هرمنياس ،و هو الذي زوجه بتلك الزوجة التي قدّسها أرسطو و تقرّب إليها بالقرابين ، و نظم قصيدة مدح فيها الملك و أثنى عليه. و إذا كان قد اُختلف في سبب التحاقه به ، فقد قيل أنه التحق به طلبا لشهوات شيطانية فاسدة[12] . فهذا الرجل من أخلاقه التقرّب من الظلمة و الدفاع عن الأسياد و الملوك ، و تبرير مواقفهم ، من خلال مواقفه السياسية و الاجتماعية المتعلقة بهم ، كموقفه من العبيد و الأسياد[13] .

      و أما بالنسبة لموقفه من فئات المجتمع ، فإن أرسطو زعم أن الطبيعة هي التي خلقت بعض الكائنات للإمارة ،و بعضها للطاعة ، فهي التي جعلت (( الكائن الموصوف بالعقل و التبصر يأمر بوصفه سيداً ... و أن الطبيعة هي أيضا التي أرادت أن الكائن الكُفء بخصائصه الجثمانية لتنفيذ الأوامر يُطيع بوصفه عبدا ، و بهذا تمتزج منفعة السيد ،و منفعة العبد )) . و العبد عند أرسطو مُجرد من الإرادة مُطلقا .و زعم أن الطبع هو الذي عيّن المركز الخاص للمرأة و العبد ، و هو الذي أراد أن يكون المتوحش و العبد في درجة واحدة . و بعض الكائنات منذ ولادتها (( مُخصصة للطاعة ،و الآخر للإمرة ،و لو على درجات و فروق شديدة التخالف بالقياس إلى هؤلاء و هؤلاء ))[14] .

      و زعم أيضا أنه بفعل الطبع وُجد عبيد و أحرار . و يُمكن أن يبقى هذا التمييز (( قائما كلما كان نافعا لأحدهما أن يخدم باعتباره عبدا للآخر أن يحكم باعتباره سيدا . بل يمكن أن يُؤيد آخر الأمر أنه عادل . و أن كلا يجب عليه تبعا لمشيئة الطبيعة أن يقوم بالسلطة أو يحتملها . و على هذا فسلطة السيد على العبد هي كذلك عادلة نافعة . و هذا لا يمنع أن سوء استعمال السلطة شؤم على الطرفين . إن منفعة الجزء هي منفعة الكل ، و منفعة الجسم هي منفعة الروح . و العبد لهو جزء السيد ، و أنه كجزء حي من جسمه ، و إن لم يكن مُنفصلا عنه . كذلك بين السيد و العبد ما دامت الطبيعة هي التي صنعتهما كليهما ، توجد منفعة مُشتركة ، و رعاية مُتبادلة ))[15] .

      و أقول: واضح من كلامه أنه يقول بحتمية التقسيم الطبقي للمجتمع المتكون من السادة و العبيد ؛ فهو حسب زعمه تقسيم طبيعي كالتقسيم الذي يُفرق بين الرجل و المرأة ، و هذا زعم باطل . لأنه أولا إن القول بحتمية ذلك التقسيم الطبيعي إلى سادة و عبيد بدعوى أنه طبع و طبيعي ، هو زعم باطل مردود على صاحبه ، لأن الثابت عقلا و واقعا أن البشر في أصلهم هم أحرار منذ أبيهم آدم –عليه السلام – و أن ظاهرة الرق هي أمر طارئ عليهم بسبب ظلم الإنسان لأخيه الإنسان . فأوجد هذا الظلم الوضع غير الطبيعي في حياتهم ، مما يعني أن عكس ما قاله أرسطو هو الطبيعي . بمعنى أن وجود الرق هو المخالف للطبيعة و ليس العكس ،و هذا ثابت بدليل العقل و الواقع . فأرسطو لم يرجع إلى العقل الصريح، و لا إلى العلم الصحيح . لكن المؤسف أن أرسطو استخدم عقله و منطقه لتقرير ما يُخالف العقل و الطبيعة معا .

      و ثانياً إن قوله بأن السيد يتصف طبيعيا بالعقل و التبصر ، و أن العبد يتصف طبيعيا بخصائصه الجسمانية ليعمل بها كعبد ، فهو زعم باطل ، مُخالف للعقل و الواقع و العلم ، بل إنه خرافة من خرافات أرسطو . و لا يقول هذا الكلام إلا جاهل لا يعي ما يقول ، أو صاحب أهواء و مصالح يُدافع عنها بالتحريف و التخريف ، و التدليس و السفسطة . و نحن لا نطيل في الرد عليه ، لأن الرد عليه ليس صعبا ، يعرفه عامة الناس في زماننا ، لأنهم يعرفون من حياتهم أن هذا الرق الحتمي المزعوم لا وجود له في حياتنا . و لو كان حتميا ما حث الإسلام على التخلّص منه ، و ما يسر الطرق للتخلّص منه[16] . و لو كان كما زعم أرسطو ما أستطاع الإنسان أن يتخلص منه في زماننا هذا .

      و أقول أيضا : إن عقل الإنسان و جسمه لا علاقة لهما بالعبودية و الحرية ، فقد يُولد السيد غبيا كبير الجثة ، و قد يُولد العبد عاقلا ذكيا عبقريا نحيل الجسم . و يُولد السيد جاهلا و قد يبقى جاهلا ، و يُولد العبد جاهلا و قد يصبح عالما كبيرا مُتبحرا مُتمهرا في العلوم . إنه من الجهل و السفسطة القول بما قاله أرسطو ، و قد بلغ به تعصبه و عنصريته و دفاعه عن طبقته مبلغا كبيرا من اللاعقل ، و اللاعلم .

      و ثالثا إن زعمه بأن المنفعة تجمع بين السيد و العبد ، على أساس أن رباط الرق في مصلحة الطرفين . فهو تغليط و تحريف ،و افتراء على الحقيقة ،و تلاعب بالألفاظ . لأن الحقيقة هي أن العبودية قائمة أساسا لخدمة السيد ، لأن هذا العبد لم يأت لوحده إلى العبودية ليكون خادما للسيد ، و إنما جيء به ،و فُرض عليه الأمر فرضا . فهذه المصلحة المزعومة بأنها في صالح العبد هي كذب و تغليط و ، إنما هي في صالح السيد أولا و أخيرا . و ما يناله العبد من ذلك هو من ضروريات بقائه في الحياة . و قول أرسطو هذا هو تعبير عن مواقف السادة ، و هو منهم ، و ليس تعبيرا عن موقف العبيد . و عليه لا يصح له أن يُنصب نفسه ليُعبر لنا عن مصلحة العبيد من خلال مصلحته هو ، و إنما الذي يُعبر لنا عن حقيقة موقف العبد و مصلحته العبيد أنفسهم ، فهذا هو الذي يقوله العقل الصريح،و يشهد به العلم الصحيح . و هم قد عبروا عن ذلك في مواقف كثيرة سجلها التاريخ عندما اشترى كثير منهم حريته ، أو هربوا تخلصا من عبودية أسيادهم ، أو قاموا بثورات و تمردات طلبا لحريتهم و حقوقهم ، و قد سجل التاريخ كثيراً منها ، كثورات العبيد في مناجم اللوريون في بلاد اليونان[17] . فهل يُعقل أن يقوم العبيد بكل ذلك ، ثم يُزعم أن الرق حتمي في حقهم ، ولا إرادة حرة عندهم ؟!! .

      و أما الزعم بأن سلطة السيد عادلة بالنسبة للعبد ، فهو زعم باطل و حكم غير صحيح ، لأن السيد ليس مَلاكاً ، و إنما هو إنسان و الإنسان قد يكون عادلا و قد يكون ظالما ، أو يجمع بينهما . و عليه لا يصح حكم أرسطو بأن سلطة السيد عادلة ، و إلا لِما ثار العبيد على أسيادهم . و المعروف عبر التاريخ أن الغالب على حياة العبيد أنهم كانوا يعيشون في ظروف صعبة جدا منذ القديم إلى العصر الحديث ، و هذا أمر لا يحتاج إلى توثيق . فأين العقل و العلم يا أرسطو ؟؟!! . بل إن أرسطو نفسه نقض زعمه هذا بما سجله في كتابه نظام الأثينيين ، فقد أشار فيه إلى أن الفقراء كانوا مُستعبدين للأثرياء هم و بنوهم و نساؤهم[18] . و ذكر أيضا أن العبيد ثاروا ضد الأسياد التساليين الإغريق[19] .

      و لا تصح المقارنة بين العبد و السيد من جهة ، و بين الجزء و الكل من جهة أخرى ، فهذه مقارنة تغليطية باطلة . لأن الصحيح الثابت أمام عقولنا و أعيننا هو أن العبد ليس جزءا من السيد، و لا السيد جزءا من العبد في أي حال من الأحوال ، و لا يمكن أن يكونا كذلك، و إنما نحن أمام نفسين بشريتين حرتين مُريدتين ،و هذا الأمر غير متوفر في المثالين اللذين ذكرهما أرسطو . فلكل منهما كيانه الخاص به ، من جهة و لا يصح مقارنتهما بالجزء و الكل ، فهما جزآن لشيء واحد مادة و طبيعة ، و إن اختلفا حجمهما،و هذا لا يصدق على السيد و العبد من جهة أخرى . و إنما الحقيقة هي أننا أمام مخلوقين بشريين كاملين متساويين في الإنسانية ،و مختلفين في جوانب أخرى ،و لا واحد هو نسخة عن الآخر ، و لكل منهما حريته و إرادته و تطلعاته . و النتيجة هي أن المقارنة التي ذكرها أرسطو لا تصح ، و ما عليه إلا أن يحتفظ بمغالطاته و تدليساته عنده ، فهي لا تنطلي على العقل الصريح . و نحن لسنا أغبياء حتى نترك حقائق الواقع و نصدق أرسطو في تحريفاته و تخريفاته . و من يُحاول الاعتذار له فيما زعمه ، فاعتذاره مرفوض و باطل ، لأن الرجل تجاوز حدود العقل و العلم ، و تكلم بمذهبيته و مصلحته .

      و رابعا إن أرسطو نفسه نقض قوله بحتمية الرق ، نقضه عندما فرّق بين الرق الطبيعي و الرق الطارئ بسبب الحروب ، أو القوانين مثلا [20] . و هذا نقض صريح لذلك الزعم ، لأنه لا يُوجد رق طبيعي أبدا ، فكل أسبابه تعود إلى أمور بشرية طارئة . فإن قيل مثلا : بل قد يوجد الرق الطبيعي كما في حالة تزوّج العبد بأمة مثله ، فهنا يكون هو زوجته و أولادهما كلهم أرقاء لسيده . فإننا نقول: هذا ليس رقا طبيعيا ، و إنما هذا الرق سببه الوضع الاجتماعي للأبوين ، و كان من الممكن أن لا يُولد أولادهما أرقاء ، كما يُمكنهم أن يتخلصوا منه بعد ولادتهم على العبودية . و عليه فإن قول أرسطو بوجود رق غير طبيعي هو نقض لزعمه السابق بحتمية الرق ، سواء اعترف به ، أو لم يعترف به .

      و خامسا إنه مما يدل على أن أرسطو دافع عن الرق لمصلحته و مصلحة طبقته ، و أن كل ما قاله عن حتمية الرق ما هو إلا تدليسات و مُغالطات لخدمة مذهبيته و مصالحه ؛ هو أن أرسطو نفسه طلب في وصيته أن يُعتق عبيده بعد وفاته[21] !! . فلماذا اعتقهم ؟ ، أليس عتقهم هو نقض لكل دفاعه عنه الرق و زعمه بأنه طبيعي حتمي ؟ ، و إذا كان الرق في مصلحة العبيد ، فلماذا أمر بعتقهم من بعده، فهل هو يعمل ضدهم ؟ ، و لماذا خالف قانون الطبيعة المزعوم ؟ ، و كيف استطاع مخالفته ؟ ، و لماذا .., ؟؟ . إنه واضح مما أقدم عليه أرسطو ، انه كان يعلم أن دفاعه عن الرق هو دفاع مصلحي دنيوي ،و ليس دفاعا علميا ، و لا عقلانيا ، و لا عادلا . و لهذا يبدو أنه لما أحس بدنو أجله أوصي بعتق عبيده بعد وفاته كدليل منه على صحة ما أوصى به من جهة ، و خطأ ما كان يقول به و يدعو إليه من جهة أخرى .

      و استنتاجا مما ذكرناه يتبين من مواقف أرسطو المتعلقة بالأجناس و الفئات الاجتماعية أنه فَكّر بمذهبيته و مصلحته و طبقيته، أكثر مما فكر بالعقل الصريح ، و العلم الصريح . فنتج عن ذلك أن معظم ما قاله كان باطلا قطعا، و متناقضا مع الطبيعة التي احتج بها و جعلها سيفا مُسلطا على رقاب مُخالفيه . فعل ذلك لفرض آرائه و رد آراء خُصومه بطريقة سُفسطائية زائفة .

      واتضح أيضا أن أرسطو كان محافظا داعيا إلى تكريس الطبقية في مجتمعه إلى الأبد ، و لم يكن داعية إلى المساواة بين الأجناس ،و لا بين فئات مجتمعه ، و لا إلى إعطاء الحرية للعبيد ،و تخليصهم مما هم فيه . حتى أنه استنكر سعي الرقيق لتحقيق المساواة مع أسيادهم، فقال : إن عامل السيد الرقيق بالرفق (( صاروا وقحاء ، لا يلبثون أن يحسبوا أنفسهم مساويين لساداتهم )) . و إذا عاملوهم بالقسوة تآمروا عليهم و أبغضوهم [22] .

      و ربما يقول بعض الناس : إن أرسطو تكلم عن العدل ، و دعا إليه ، و قال بأنه ضرورة اجتماعية ، لأن (( الحق هو قاعدة الاجتماع السياسي ،و تقرير العدل هو الذي يرتب الحق ))[23] .
      و أقول : هذا كلام صحيح نظريا، لكن موقفه مبني على قناعات الرجل و مصالحه الدنيوية من جهة ،و ليس مبنياً أساسا على العدل المجرد القائم على ما يقوله العقل الصريح، و العلم الصحيح من جهة أخرى . فالعدل الذي يدعو إليه أرسطو هو العدل الذي يضمن مصالح الأسياد ، على حساب الفقراء و الرقيق و الضعفاء ، و ليس العدل الذي يضمن للعبيد حقوقهم و كرامتهم و المساواة مع غيرهم . و العدل الذي يدعو إليه الرجل ليس العدل الذي يُسوي بين الأجناس ، و إنما هو العدل الذي يجعل الإغريق أسيادا متحضرين بطبعهم ،و غيرهم من الشعوب متوحشين متخلفين بطبعهم . فبئس هذا العدل الذي يدعو إليه أرسطو ، إنه ظلم و عنصرية ، و تسلط و تكبر ، و تدليس و سفسطة !!.

      و ربما يقول آخر: إن أرسطو كان معذورا في موقفه من الرق ، بدعوى أن الرق كان سائدا في المجتمع ، و أصبح من مكوناته الضرورية ، و لم يكن في مقدور أرسطو أن يخرج عن ذلك .
      و أقول : هذا تبرير باطل من جانبين : الأول هو أن أرسطو لم يُحاول التخفيف من الرق و لا التخلص منه ، و إنما كان من دعاته و حماته ، حتى أنه صخّر عقله للدفاع عن الرق و الزعم بأنه نظام طبيعي حتمي ، مع أنه يعلم أن زعمه هذا باطل عقلا و واقعا ، كما سبق أن بيناه .

      و الجانب الثاني مفاده أن أرسطو لم يتناول موضوع الرق بطريقة علمية موضوعية على أساس من العقل الصريح و العلم الصحيح ، و إنما تناوله بطريقة ذاتية مصلحية طبقية مثّل بها نفسه و طبقته . فدافع عن الرق بالباطل مع علمه ببطلان حججه التي احتج بها . و كان في مقدوره أن يخرج من هذا النطاق المصلحي الذي تناول به موضوع الرق ، فيخوض فيه بطريقة علمية موضوعية ينتهي منه إلى تقرير عكس ما قال به سابقا ، فلا توجد أية حتمية تمنعه من فعل ذلك . و لو كان حتميا طبيعيا و في مصلحة العبد و السيد كما زعم أرسطو ، فلماذا كان العبيد في بلاد اليونان يهربون من الشقاء الذي كانوا فيه ، و كثيرا ما ثاروا على أوضاعهم السيئة في مناجم اللوريون[24] .

      و لماذا لم يفعل أرسطو ما فعله بعض السفاسطة المتأخرين الذين أنكروا على الأسياد قولهم : إن الرق و نبالة المولد أمران طبيعيان . و قد رد عليهم أحد السفاسطة بقوله : إن الله خلق جميع الناس أحرارا ،و لم تجعل الطبيعة أي واحد منهم عبداً[25] .

      لكن أرسطو رفض هذا النهج ، لأنه كان لا يتفق مع مصالحه الطبقية الدنيوية التي كان يُدافع عنها . لكنه عندما أراد أن يفعل ذلك في أخريات حياته ، تجاوز كل مبرراته التي دافع بها عن الرق ، و أوصى بعتق عبيده بعد وفاته !! . و عليه فإن أية محاولة لتبرير موقف أرسطو من الرق , الاعتذار له من موقفه منه ، فهي محاولة مرفوضة و باطلة مُسبقا ، و لا بد من إدانة الرجل لأنه سخرّ قلمه للدفاع عن الرق بالباطل . فساهم بذلك في إفساد العقل و العلم معا .

      و إنهاءً لهذا المبحث يتبين منه أن أرسطو وقع في أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة فادحة فاحشة تتعلق بموقفه من العقل، و الأجناس البشرية ،و الطبقات الاجتماعية ، و قد زادت عن 25 خطأ و انحرافا منهجيا ، هي عينات أساسية و هادفة من باب التمثيل لا الحصر ، ترتبت عنها أيضا أخطاء و انحرافات أخرى كثيرة . فأفسدت جانبا من فكره و سلوكه ،و ساهم بها في الدفاع عن الرق ،و الترويج له ، و جنى بها على العقل و العلم معا .
      ________________________
      [1]أرسطو : كتاب النفس ، ص: 109 ، 112 ، 113 . و دعوة إلى الفلسفة ، ص: 68 . و ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 126 . و أرسطو : المعلم الأول ، ص: 72 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 214 ، 216 .

      [2] ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 87 ، 89 . و مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، ج 2 ص: 231 و ما بعدها .

      [3] أرسطو : في أعضاء الحيوان ، ص: 128 .

      [4] روبرت أغروس : العلم في منظوره الجديد ، ص: 35 و ما بعدها .

      [5] محمد علي محمد : الأصول الشرقية للعلم اليوناني ، ط 1، عين للدراسات و البحوث ، القاهرة ، 1998 ، ص: 162 .

      [6] أرسطو : السياسة ، ترجمة لطفي السيد ، منشورات الفاخرية ، د ت ، ص: 100 .

      [7] في هذا الوقت الآن الذي أكتب فيه كلامي هذا ( جوان 2011م ) تعيش اليونان مواجهات دامية بين الشعب و قوات الأمن ، بسب رفض الشعب للسياسة التقشفية التي اتبعتها الحكومة اليونانية ، حسب الشروط التي فرضها الاتحاد الأروبي .

      [8] ول ديورانت : قصة الحضارة ، ص: 2610 . و مها أحمد السيد : محاورات أرسطو و أصولها ، ط1 ، دار الوفاء ، الأسكندرية ، 2008 ، ص: 401 .

      [9] مها أحمد السيد ، نفس المصدر ، ص: 402

      [10] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : أرسطو ، أفلاطون .

      [11] مها أحمد السيد : المرجع السابق ، ص: 408 .

      [12] ديوجين لايرتيوس: مختصر ترجمة مشاهير الفلاسفة ، ص: 121 .

      [13] سنبين ذلك مباشرة بعد كلامنا هذا .

      [14] أرسطو : السياسة ، ص: 100 ، 104، 107 ، 129 .

      [15] نفس المصدر ، ص: 112 .

      [16] كالمكاتبة ،و تخصيص قسم من الزكاة لتحرير العبيد .

      [17] حسين حرب : الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ص: 29 .

      [18] أرسطو : نظام الأثينيين ، ترجمة طه حسين ، دار المعارف ، مصر ، د ت ، ص: 44 .

      [19] أرسطو : السياسة ، ص: 167 .

      [20] أرسطو : السياسة ، ص: 110، 111 .

      [21] ديف روبنسون ، و جودي غروفر : أقدم لك الفلسفة ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2001، ص: 31 .

      [22] أرسطو : السياسة ، ص: 167 .

      [23] نفس المصدر ، ص: 103 .

      [24] حسين حرب : الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ص: 29 .

      [25] نفس المرجع ، ص: 30 .
      أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
      الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
      كتب وورد
      هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
      للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

      تعليق

      • باحث سلفى
        =-=-=-=-=-=

        حارس من حراس العقيدة
        • 13 فبر, 2007
        • 5183
        • مسلم (نهج السلف)

        #18

        رابعا : من أخطاء أرسطو في موقفه من المرأة :

        اتخذ أرسطو مواقف كثيرة خاطئة من المرأة ، خالف بها العقل الصريح و العلم الصحيح ، نذكر منها النماذج الآتية :

        الأول مفاده أن أرسطو زعم أن الرجل (( ماعدا استثناءات مُضادة للطبع ، هو الذي يأمر دون المرأة . كما أن الكائن الأكبر و الأكمل هو الذي يتأمر على الأصغر و الأنقص )) . و الطبع هو الذي خلق أُناسا ليأمروا ،و آخرين ليُطيعوا . و كما أن للرجل الحر تسلط على العبد، فكذلك للزوج تسلط على الزوجة ، كما للوالد تسلط على ولده . و العبد لا إرادة له مُطلقا ، و الولد له إرادة ناقصة ، و المرأة لها إرادة لكنها في درجة أدنى[1] .




        و أقول: قوله هذا غير صحيح في معظمه ،و فيه تغليط و تدليس ،و إنكار لما هو ثابت في الواقع . لأنه أولا إن الواقع يُثبت أن الرجل و المرأة كائنان حُران مُريدان ، يأمران و ينهيان ، يسمعان و يُطيعان ، يرفضان و يستجيبان . و بما أن الأمر كذلك فلا يصح تخصيص أحدهما بالأمر ،و الآخر بالطاعة ،و لا أحدهما بالكمال ،و الآخر بالنقص ،و لا أحدهما بالتسلط و القهر ،و الآخر بالضعف و الخنوع .

        و لماذا لا تأمر المرأة الرجل كما يأمرها هو ؟ ! ، فما المانع ؟ ، و هل أمرها له عيب ؟ ، و هل المرأة لا تستطيع أن تأمر ؟ . و الحقيقة هي أن المرأة بما أنها شريكة الرجل في حياته ،و هي طرف أساسي معه في إدارة البيت و المجتمع كله فلا بد أن تكون معه شريكة أيضا في الأمر و النهي بما يتفق مع الحق و مصالح الجميع .



        و أليس من حق المرأة و من الواجب عليها أن تنصح و تأمر الذين تهاونوا في القيام بوجباتهم كزوجها و أولادها ،و الذين هم تحت مسؤوليتاها إذا كانت مسئولة؟ ، نعم إن ذلك من حقها ، و هو أمر عادي و طبيعي تماما . و هذه الحالات ليست استثناءات مُضادة للطبع كما زعم أرسطو ، بل هي كثيرة و عادية جدا ، يشهد بها الواقع في مختلف جهات العالم .



        و ثانيا إن احتجاجه بحكاية الأكبر و الأكمل على أساس أن الرجل هو الأكبر و الأكمل مقابل المرأة التي هي الأصغر و الأنقص ، غير صحيح من وجهين : الأول ليس صحيحا أن الرجل هو أكمل و أكبر من المرأة ، و لا العكس ، و إنما الصحيح هو أن كلا منهما ناقص في جوانب ، و كامل في أخرى ،و بهذا فكل منهما يُكمل الآخر ،و لا يستطيع أحدهما الاستغناء على الآخر . فهما يتكاملان في جوانب لا يتساويان فيها ،و يتساويان في أخرى لا يتكاملان فيها . و الأصل هو التساوي ،و الاستثناء يتمثل في الاختلاف الوظيفي الذي يتكاملان فيه . فهذا التباين الوظيفي بين الرجل المرأة لا يُلغي الأصل ، و إنما هو قائم عليه من جهة ،و هو الذي يتمسك به من يقول بأفضلية الرجل على المرأة من جهة أخرى . و الصحيح أن هذا التباين الوظيفي لا يجعل الرجل أفضل من المرأة مُطلقا ،و لا المرأة أفضل منه مُطلقا ، و لا يُلغي حرية و إرادة و إنسانية أيٍ منهما ،و إنما الأمر نسبي و مُتبادل بينهما . و لهذا قال الله سبحانه و تعالى : {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }- سورة النساء:32-. فكل منهما يفضل الآخر في أمور ، و ليس الفضل خاصا بالرجل دون المرأة ،و لا العكس .



        و الوجه الثاني هو أن الأمر و النهي لا يتعلقان بالأكبر و الأكمل ،و لا بالأنقص و الأصغر ؛ و إنما هما يتعلقان بأمور أخرى ، قد تجعل الناقص يأمر الأكمل منه ، و الأصغر يأمر الأكبر ،و الضعيف يأمر القوي ،و الصغير يأمر الكبير ،و الجاهل يأمر العالم . و تفسير ذلك هو أن الذي يحكم حياة الناس العملية ، ليس هو الأصغر و الأكبر ، و لا ... ، و إنما هو التخصص، و الاجتهاد ، و التفوّق . فكم من سيدات أعمال لهن مؤسسات اقتصادية في مختلف جهات العالم ،و هن اللواتي يُشرفن عليها بحزم و أمر و اهتمام . و كم من شاب مجتهد يُدير مؤسسات يعمل فيها من هو أكبر منه علما و سنا و فضلا . فالأمر ليس كما طرحه أرسطو أصلا ، فالرجل أخطأ منهجاً و نتيجة .



        و النموذج الثاني مفاده أن أرسطو يرى أن الرجل صاحب الأمر يجب أن (( تكون له الفضيلة الخُلقية في كل كمالها )) ، و أما العبد و الزوجة و الولد فينبغي (( ألا يكون لهم من الفضائل إلا بحسب الوظائف التي يشغلونها )) . و مع أن لكل من هؤلاء نصيب من الفضائل الخُلقية لكن حكمة (( الرجل ليست هي حكمة المرأة ،و أن شجاعته و عدالته ليستا كمثل مالها منهما ، كما كان يظن سُقراط ،و أن قوة أحدهما سلطة محضة ،و قوة الآخر طاعة محضة ))[2] .

        و أقول : إن قوله هذا غير صحيح في معظمه ،و هو امتداد لقوله السابق ، قاله بمذهبيته و مصلحته ، أكثر مما قاله بعقل صريح و لا بعلم صحيح . لأنه أولا إن النفس البشرية في أصلها واحدة ، و تحتاج إلى أخلاق وعقائد أساسية واحدة يحتاجها الرجل و المرأة ، كما يحتاجها الملك و العبد . كالإيمان بالله تعالى ، و القيام بالأعمال الصالحة ، و العدل في القول و العمل ، و التحلي بالأخلاق الحسنة و التخلي عن الأخلاق السيئة .



        علماً بأن الأخلاق الحسنة لا يرثها الإنسان عن طبقته ،و لا عن والديه ، و إنما يكتسبها بالتربية الصحيحة ،و الاستقامة و المجاهدة ، و أساس كل ذلك الإخلاص و النية الحسنة ، و كل إنسان مُطالب بالسعي إلى تحقيق الكمال الخلقي ،و ليس هذا خاصا بالرجل كما زعم أرسطو . و بناء على هذا قد تكون المرأة أحسن و أكمل أخلاقا من زوجها ، و من أولادها و كثير من الرجال . و قد يكون العبد أحسن و أكمل و أشجع من سيده . و قد يكون السادة أحط أخلاقا من عبيدهم ، بشراستهم و غلظتهم ، و تكبرهم و ظلمهم . فالأخلاق الحسنة ليست طبقية و لا عرقية ، و إنما هي أخلاق يستطيع أن يكتسبها أي إنسان سواء كان رجلا ، أو امرأة ، أو عبدا . فعجبا من هذا الرجل الذي جرنا إلى مناقشة بديهيات لا تحتاج هذا النقاش !! .



        و ثانيا إن الذي يتحكم في نوع الحكمة التي يتلقاها الإنسان ليس عاملا واحدا ،و إنما هو مجموعة عوامل تتدخل في تحديد نوع تلك الحكمة ، من بينها الذكورة و الأنوثة ، و التخصص و الوظيفة . علما بأنه توجد حكمة يحتاج إليها الرجل و المرأة و السيد و العبد، و ليست خاصة بواحد منهم فقط ، بحكم أنهم بشر. و هناك حكمة يحتاج إليها الرجال دون النساء ،و أخرى يحتاج إليها النساء دون الرجال ،و أخرى يحتاج إليها بعض من الرجال و النساء فقط . من ذلك أن الرجل و المرأة الطبيبان التاجران المتزوجان ، كل منهما يحتاج إلى حكمة الطب و التجارة و الزواج . و الرجل و المرأة الخياطان الطباخان المتزوجان عليهما أن يطلبا حكمة الخياطة و الطبخ و الزواج ، و هكذا .



        و النموذج الثالث مفاده أن أرسطو لم يكتف بتحقير المرأة و الازدراء بها في الحياة الدنيوية ، و إنما فعل بها ذلك قبل أن تخرج من بطن أمها . فزعم أن الجنين الذكر عند تمام الأربعين يوما تكون (( جميع سائر أعضائه بينة ، و الذكر و العينان تظهر كباراً جداً ، كما تظهر عينا سائر الحيوان )) . و أما الجنين الأنثى ففي (( إبان ثلاثة أشهر فهو أكثر ذلك غير مُفصل . فإذا دخل الشهر الرابع فيصبح يقبل سائر التفصيل عاجلا . ثم نص على أن (( تمام و كمال جميع أعضاء الأنثى أبطأ من تمام أعضاء الذكر ))[3]. و من ذلك أيضا زعمه بأنه ليس للمرأة مُشاركة إيجابية في تكوين الجنين في بطن أمه ، فليس لها زرع تُفضي به كالزرع الذي يُفضي به الرجل في تكوين الجنين . فالرجل يُفضي زرعا يتضمن كائناً إلهياً ، لكن المرأة تُشارك بزرع غير نقي هو جزء من دم الطمث[4]- الحيض- . فالأنثى تأتي بعد الذكر ، فلا تسبقه و لا تساويه حتى و هي جنين في بطن أمها ، فهذا الذي زعمه أرسطو !!!! .



        و قوله هذا باطل علميا ، و قد سبق بيان بطلانه في الفصل الثالث . لكن الذي يهمنا منه هو نظرة الازدراء التي كان يحملها أرسطو في موقفه من المرأة ، تبناها بلا دليل صحيح من العقل الصريح، و لا من العلم الصحيح . فالرجل حريص على تقزيم المرأة و الازدراء بها ، و الحط من قيمتها خَلقيا و خُلقيا ، مقابل تعظيمه و غلوّه في الرجل السيد لا العبد . و لا شك أنه مُخطئ في ذلك ، بسبب تأثره بخلفياته المذهبية و المصلحية ، التي أوقعته في العنصرية و التعصب للباطل . و لو كان هذا الرجل يتمتع بالأخلاق الإنسانية الرفيعة السامية ،و النظرة العلمية المتزنة الموضوعية الصحيحة ما قال بهذه المهازل و الأباطيل ، التي هي تعصبات و عنصريات ، و رعونات نفس و سفسطات .



        و النموذج الرابع مفاده أن أرسطو زعم أن المرأة معدومة الذكاء ، ليس في استطاعتها أن تعرف شيئا عن طبيعتها ، لأن عقلها (( لا يستوعب هذه الدراسة ، و ليس لها قدرة على تحمل المسائل النظرية أو فهمها )) ، لذا استبعدها أرسطو من ميدان الثقافة و السياسة ،و الحياة الفكرية عامة[5].

        و أقول: زعمه غير صحيح ، و هو امتداد لنظرته التقزيمية للمرأة ،و مُخالف لشواهد التاريخ و الواقع ، أقامه على خلفياته المذهبية و مصالحه الاجتماعية التي كان يُدافع عنها من جهة . و لم يُقمه على أساس من البحث العلمي الصحيح القائم على العقل الصريح ،و العلم الصحيح من جهة أخرى . و نحن لا ندخل معه في نقاش نظري،و إنما نكتفي بذكر أربعة شواهد دامغة تُبطل زعمه من أساسه .



        أولها إنه لا يُوجد أي دليل عقلي يُثبت زعم أرسطو ، فبما أن المرأة كالرجل ، لها عقل و إرادة حرة ، و تستطيع أن تطلب العلم و تضحي من أجله بوقتها و جهدها و مالها ، فلا يُوجد أي مانع عقلي يمنعها من تحصيل مختلف العلوم و التمهّر فيها .



        و الثاني مضمونه أن أرسطو قال بذلك الرأي و أغمض عينيه عن حقائق التاريخ التي تخالف زعمه . و هذا ليس من سلوك العلماء النُزهاء الموضوعيين ،و إنما هو من سلوك المتعصبين المغالطين . و تفصيل ذلك هو أن التاريخ اليوناني نفسه يشهد بوجود نساء عالمات و سياسيات مشهورات كانت لهن قُدرات عقلية عالية مكنتهن من تحقيق نجاحات كثيرة في العلم و السياسة . منها الملكة أوليمبياس زوجة الملك فليب المقدوني ،و هي التي ربت ابنها الأسكندر المقدوني في حين كان زوجها مُهملا للدولة ، غارقا في الشهوات . حتى أنه عندما جيء بأرسطو ليُربي ابنها لم يُعجبها ، و قالت فيه : (( ليس عنده ما يقوله من أفكار خلاقة ، و هو نحيل ألثغ ))[6] .



        و منهن أيضا : الشاعرة اليونانية سابو ، كانت ذكية بارعة ،و قد سماها بعض الشعراء : هيرا ، بمعنى الإلهة الملكة . و كانت لها مجالس أدبية مشهورة ، حضرها فلاسفة كبار ، كسقراط ، و أفلاطون ، و أنكساغوراس [7] . و الفيلسوفة أفلوبين بنت الفيلسوف اليوناني كليوبول ،و قد تعلمت الفلسفة على يديه و برعت فيها حتى (( أفحمت عظماء الفلاسفة في ذلك الوقت ، خُصوصا في الألغاز ،و كانت أديبة مُحسنة جداً )) [8].



        و الشاهد الثالث مفاده أن القرآن الكريم ذكر لنا نماذج من نساء مؤمنات على درجة عالية من الإيمان و الحزم و النضج الفكري ، كمريم و بلقيس، و امرأة فرعون . و قد كانت عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- عالمة متضلعة في علوم الشريعة و اللغة ، حتى أنها فاقت بعلمها و رجاحة عقلها كثيرا من الرجال ،و هذا أمر ثابت عنها لا يحتاج إلى توثيق .



        و الشاهد الأخير – الرابع – مفاده أنه لما أُتيحت للمرأة فرص التعليم و التكوين بشكل كبير جدا في عصرنا الحالي أظهرت قدرات عالية في التحصيل العلمي من جهة ،و حققت انتصارات و ابتكارات كثيرة في مختلف مجالات العلوم من جهة أخرى . و قولنا هذا لا يحتاج إلى توثيق ، لأن من ينظر إلى الجامعات و مراكز البحث في العالم يجدها مملوءة بالنساء المتفوقات على اختلاف تخصصاتهن العلمية . و قد رأينا منهن ممن تفوقنا حتى على كثير من الرجال .

        تلك هي بعض مواقف أرسطو من المرأة ، فكانت مواقف حط و ازدراء و تقزيم ، تضمنت أخطاء و انحرافات منهجية فادحة زادت عن 11 خطأ و انحرافا منهجيا ؛ أقامها أساسا على خلفياته المذهبية و المصلحية ،و لم يُقمها على عقل صريح و لا على علم صحيح ، و هذا من أخطاء الرجل و غرائبه في موقفه من المرأة . لكن الأغرب من ذلك أيضا أنه روُي أن أرسطو لما فرّ إلى الملك هرمنياس و زوّجه بأخته ، أو بإحدى نساء قصره ، أحبها كثيرا حتى (( صار يُقرّب لها القربان كما يفعله الأثينيون للسنبلة . و نظم قصيدة في مدح هرمنياس و الثناء عليه بإنعامه عليه بهذا الزواج ))[9] . فهذا هو أرسطو فبعدما حطّ من قيمة المرأة خَلقا و خُلقا ، عقلا و سلوكا ، ها هو يسقط صريعا في شراك امرأة ، فينهزم أمامها ،و يُبالغ في تعظيمها إلى حد التقديس و التأليه !! ، إنه رجل مريض مُتبع لهواه !! .



        و إنهاءً لهذا الفصل يتبين منه أن أرسطو وقع في أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة جدا تتعلق بالفلك و الجغرافيا و مواضيع إنسانية متفرقة ، ذكرنا منها طائفة من النماذج المتنوعة الهادفة ، تضمنت في مجموعها أكثر 88 خطأ علمياً و انحرافا منهجيا . ذكرناها كعينات نموذجية من باب التمثيل لا الحصر ، و إلا فإن أخطاء أرسطو في ذلك كثيرة جدا . لكنها كافية لوحدها للحكم على الرجل و علمه ، و منهجه في علمي الفلك و الجغرافيا ،و الإنسانيات .

        و اتضح جليا أن أرسطو لم يكن مُصلحا اجتماعيا حقيقيا، و لا كان داعية للإنسانية و لا للعدالة ،و لا للمساواة . و إنما كان مُحافظا طبقيا نفعيا عنصريا مُتعصبا للباطل داعيا إلى تكريس العبودية و القهر من جهة ؛ و مُشجعا للظلم و قهر الشعوب ليكونوا عبيدا لأسيادهم اليونان حسب زعمه من جهة أخرى . فداس بذلك على عقله و منطقه و علمه ، و باع كل ذلك من أجل رغباته و منافعه و مصالح طبقته .



        و تبين أيضا أن السبب الأساسي في كثرة أخطاء أرسطو المعرفية و المنهجية هو انحرافه عن المنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال من جهة ،و تأثره بخلفياته المذهبية وإلهياته الزائفة في مواقفه من كثير من الظواهر و القضايا من جهة أخرى . فأوقعه كل ذلك في أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة أضل بها نفسه و أتباعه ،و ساهم بها في إفساد العقل و العلم معا .


        _____________________________
        [1] أرسطو : السياسة ، ص: 127، و ما بعدها .
        [2] أرسطو : السياسة ، ص: 129 ، 130 .
        [3] أرسطو : طباع الحيوان ، ص: 469 .
        [4] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 46 ، 65 ، 71 .
        [5] إمام عبد الفتاح إمام : أرسطو و المرأة ، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة ، 1996، ص: 59، 63 . و أحمد فؤاد كامل: ما بعد الطبيعة عند ابن رشد ، ضمن كتاب أعمال ندوة ابن رشد ، ص: 234، 235 .
        [6] إمام عبد الفتاح إمام : أرسطو و المرأة ، ص: 110 .
        [7] نفسه ، ص: 110 .
        [8] ديوجين لايرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 49 .
        [9] ديوجين لايرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير الفلاسفة ، ص: 121 .
        أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
        الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
        كتب وورد
        هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
        للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

        تعليق

        • باحث سلفى
          =-=-=-=-=-=

          حارس من حراس العقيدة
          • 13 فبر, 2007
          • 5183
          • مسلم (نهج السلف)

          #19
          الفصل الرابع
          مظاهر جنايات أرسطو على العقل و العلم في علم المنطق


          أ: من أخطاء أرسطو المُتعلقة بالجانب النظري من المنطق
          أولا : الاستقراء .
          ثانيا : الجدل .
          ثالثا : القياس الصوري :
          رابعا: آراء و ردود حول عمل أرسطو في المنطق و أهميته
          ب : من أخطاء أرسطو المتعلقة بالجانب التطبيقي من المنطق
          أولا : كليات تطبيقية خاطئة .
          ثانيا: انحرافات و خصائص منطق البحث و الاستدلال.
          أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
          الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
          كتب وورد
          هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
          للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

          تعليق

          • باحث سلفى
            =-=-=-=-=-=

            حارس من حراس العقيدة
            • 13 فبر, 2007
            • 5183
            • مسلم (نهج السلف)

            #20
            مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم في علم المنطق

            نُفرد هذا الفصل بكامله لأخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية المتعلقة بعلم المنطق ، و لا نخصصه للتعريف بالمنطق و الخوض في مباحثه و قضاياه ، فهذا الأمر له كتبه المتخصصة فيه ، و إنما نتناوله هنا بالطريقة التي تناولنا بها جنايات أرسطو السابقة المتعلقة بالإلهيات و الطبيعيات ، و جوانب من الإنسانيات . نتناوله من الجانبين : التنظيري أولا ، ثم التطبيقي ثانيا ، نعرض من خلالهما نماذج كثيرة من مواقف أرسطو المتعلقة بالمنطق عامة ، و القياس الصوري خاصة . و منها ستتجلى لنا أخطاء الرجل و انحرافاته ، و جناياته على العقل و العلم معا.

            أ: من أخطاء أرسطو المُتعلقة بالجانب النظري من المنطق :

            يستخدم العقل الإنساني أنواعا كثيرة من الأقيسة في مجالات البحث و الاستدلال ، يستخدمها فطريا أليا ، من دون أن ينتبه إليها ، و بلا تكلّف منه . و كل الأقيسة أساسها جزئي تتم بطريق مباشر ،و بعضها يتم بطريق غير مباشر . و من أشهر الأقيسة التي نمارسها في حياتنا العلمية و العادية : قياس التمثيل ، و قياس التعليل ، و قياس الأولى ، و قياس الاستقراء ،و قياس الشمول . و قد أشار أرسطو إلى بعضها كالقياس الجدلي ، و الخطابي ، و الاستقرائي ، لكنه اهتم أكثر بالقياس الكلي- الشمولي أو الصوري - ، فتوسع فيه و سماه القياس البرهاني[1].

            أولا: الاستقراء :


            يبدأ الاستقراء من الجزء إلى الكل ، فيجمع جزئيات الظاهرة الواحدة ، ثم يدرسها : تحليلا و تمحيصا ، مقارنة و استنتاجا ، و ... ليصل إلى نتيجة عامة ، أو قانون كلي . هذا القياس ذكره أرسطو في بعض كتبه المنطقية ،و كانت له منه مواقف ، نذكر بعضها من خلال النموذجين الآتيين:

            الأول مفاده أن أرسطو عندما أشار إلى القياس الاستقرائي أهمله و لم يهتم به و لا تفرّغ له ، و فضل عليه المنطق الصوري و أولاه اهتماما كبيرا . و يرى أن أنه علينا أن نُمارس الاستدلال الاستقرائي مع الصغار ،و نستعمله في أكثر الأحوال مع العوام، و نُمارس الاستدلال الاستنباطي- الصوري- مع المختصين[2].

            و أقول: أولا يجب أن نعلم أن القياس الاستقرائي ليس أرسطو أول من تكلم فيه،و لا هو أول من مارسه ، فهو منهج قديم مارسه أهل العلم منذ نشأة العلوم. و يُعد الطبيب أبقراط و تلامذته أول اليونانيين الذين طبقوا النزعة الاستقرائية التجريبية بشكل واسع و صحيح في مجال الطب. فاهتموا بالتجربة كثيرا ، و ركّزوا على السبب الفيزيقي أكثر من تركيزهم على السبب الميتافيزيقي[3] .

            و اهتم به أيضا سقراط ، و قد ذكر أرسطو أن سقراط استحدث الاستقراء[4] . و أهم ما جاء به سقراط في المنطق هو الحجج الاستقرائية ،و التعريف بالكلي[5] ، الذي هو نتيجة للقياس الاستقرائي . علما بأنه لا يصح القول بأن فلان استحدث قياسا من الأقيسة الطبيعية كالاستقراء مثلا ، فهذا كلام غير علمي . لأن كل أنواع الأقيسة هي فطرية فينا نُمارسها بطريقة طبيعية من دون تكلّف . لذا فإن من اهتم به من العلماء لا يصح أن يُنسب إليه بأنه هو الذي استحدثه ، أو مُخترعه ، أو مُكتشفه.

            و اهتم به أيضا أفلاطون كجزء من علم الجدل ، و سماه الجدل الصاعد ، فهو المنهج الذي يرتفع بالعقل من المحسوس إلى المعقول، إلى أن يصل إلى العلم بالكلي . فهذا هو الاستقراء-الجدل الصاعد- عند أفلاطون الذي يبدأ من الجزء إلى الكل ، لأن مبادئ العلوم مرتبة من (( الأخص إلى الأعم ))[6] .

            و ثانيا إن موقف أرسطو هذا غير صحيح ، لأنه لا يصح إهمال أي قياس من أقيسة الاستدلال ، لأن كلا منها ضروري و مطلوب في مجاله ،و لا أحد ينوب عن الآخر . فهي أقيسة استدلالية متنوعة مُتكاملة و ليست أقيسة مُقصية لبعضها ،و لا مُتناقضة فيما بينها ،و لا هي مُتساوية حتى تغني عن بعضها . و عليه فإنه لا يصح تفضيل القياس الصوري على الاستقراء لأمرين هامين : الأول يتمثل فيما ذكرناه من أن كل أقيسة الاستدلال مطلوبة في مجالها . و الثاني مفاده هو أن العلاقة بين القياس الصوري و الاستقرائي هي علاقة فرع بأصل ، و نتيجة بمقدمة . و معناها أن الصوري هو فرع لأصله الاستقرائي ،و نتيجة لمقدمته الاستقرائية. لذا فإن التفضيل لا يصح بينهما: أصلا و لا فرعا ، مقدمة و لا نتيجة .

            و ثالثا إنه بما أن الأمر كما ذكرناه فإن كل أهل العلم- من طلاب و علماء- يجب عليهم أن يستخدموا كل أنواع أقيسة الاستدلال حسب موضوعها الذي يُناسبها ،و ليس حسب مكانتهم و قدراتهم العلمية كما زعم أرسطو . و ماذا يحدث لو أن فيلسوفا كبيرا خاض في العلوم التجريبية بالقياس الصوري ؟! ، إنه بلا شك لن يستطيع فعل ذلك إذا احترم موضوع العلم و منهجه . لكنه إذا أصر على موقفه الأول فإنه سيقع في أخطاء علمية و انحرافات منهجية كثيرة جدا لا حد لها ،و سيُضحك الناس على نفسه ،و يأتي بالغرائب و العجائب ، و المضحكات و المُبكيات . و هذا الذي وقع فيه أرسطو ، فقد خاض في العلوم التجريبية مُهملا لمنهجها الاستقرائي في مواقف كثيرة جدا ، و مُقدما عليها قياسه الصوري التأملي في مواقف كثيرة أيضا . فكانت النتيجة كارثية فادحة على المستويين التطبيقي و المنهجي ، و قد ذكرنا منها عشرات النماذج فيما تقدم من كتابنا هذا .

            و النموذج الثاني مفاده أن أرسطو ذكر أن لا استقراء دون حِس و حواس ، و إذا (( كنا نتعلم إما بالاستقراء ، و إما بالبرهان- القياس الصوري- ؛ فالبرهان هو من المقدمات الكلية ، و الاستقراء هو من الجزئية ،و لا يُمكننا أن نعلم الكلي إلا بالاستقراء )) . و قال أيضا : و لا يُمكننا أن (( نستقري إذا لم يكن ثمتَ حِس ، لأن الحِس هو للأشياء الجزئية . فإنه لا يُمكن أن نتناول العلم بالجزئي ، لأنه لا يُستخلص من الكليات بدون الاستقراء ، و لا يُستخلص بالاستقراء دون الإحساس . فالعلم هو بالكلي )). و ذكر أن الاستقراء هو(( أكثر إقناعا و أبيّن و أعرف في الحِس ،و هو مُشترك للجمهور. فأما القياس- أي الصوري- فهو أشد إلزاما للحجة ،و أبلغ عند المناقضين )) [7] . ثم أنه فضّل العلم الكلي على العلم الجزئي بدعوى أن العلم الجزئي يطلب خصائص الأشياء ، و هذا لا يفي بالغرض لمعرفة ماهيتها و مصدرها . لكن العلم الكلي هو أشرف من الأول لأنه يفحص جواهر الموجود و ماهيته ، فموضوعه العام هو الجوهر بأقسامه[8] .

            و أقول : قوله هذا غير صحيح في معظمه ،و فيه سوء فهم واضح للقياسين الاستقرائي و الصوري . لأنه أولا إننا لا نتعلم فقط بالقياسين الاستقرائي و الصوري- سماه أرسطو البرهان- ، و إنما نتعلم بكل أنواع القياس ، و بكل طرق الاحتجاج و البحث و الاستدلال التي يستخدمها العقل الإنساني . و لا يصح- من جهة أخرى- التسوية بين القياسين الاستقرائي و الصوري ، لأن الأول هو من الأقيسة الجزئية التي تقوم عليها كل العلوم ، و الثاني ليس أصلا أوليا ، و إنما هو من نتائج القياس الجزئي ، فهو فرع من أصل ، لذا لا يصح تسويته بالجزئي ، و لا تقديمه عليه .
            و ليس صحيحا أن قياس الشمول- الصوري- هو من المقدمات الكلية ، لأن موقفه هذا يقوم على نظرة جزئية لا يصح الانطلاق منها و إغفال الأصل و إهماله . و المتمثل في أن هذه الكلية هي نتيجة للقياس الجزئي ،و الطعن فيه ،و تقزيمه هو طعن و تقزيم للقياس الكلي أيضا . لذا فإن يقينية هذا الكلي هي بسبب الجزئي ، فلا يصح الطعن فيه و تقزيمه من جهة ، و تعظيم نتيجته و الغلو فيها من جهة أخرى . فلا بد من إرجاع الفضل إلى الأصل أولا ، ثم إلى الفرع ثانيا . و لا يصح أن نتمسك بالفرع و ننسى أصله الذي أوجده ،و يتحكم فيه و يُوجهه من جهة ،و هو الذي يتولى أيضا استخراج منه نتائج من داخله من جهة أخرى .

            و ثانيا إن العلم - في الحقيقة الثابتة عقلا و واقعا- ليس هو العلم بالكلي كما زعم أرسطو مسايرا لشيخه أفلاطون [9]، و إنما هو العلم بالجزئي ، فهذا العلم هو الذي نكتشفه بحواسنا من داخلنا و خارجنا ،و هو الذي نجمع به الحقائق الجزئية و الكلية المتعلقة بكل العلوم . و عليه فإن الصواب هو أن العلم هو بالجزئي و الكلي معا ، و لا كلي دون جزئي ،و لا يصح العكس . لأن العلم الجزئي هو الذي أوجد الكلي ، و هو الذي يبقى يُوظفه و يُسيره ، و يُطوره و يُنميه و ليس العكس . و عليه فلا تصح مقولة : لا علم إلا بالكليات . لأنها مقولة جزئية مقطوعة عن أصلها ،و لكي تصح لا بد من إرجاعها لأصلها ، و عدم المبالغة فيها: توسيعا و تجعيدا . و يصبح الصواب هو : لا علم إلا بالجزئيات أولا ، لأنه لا كليات دون جزئيات ،و لا علوم بلا أقيسة جزئية . فالعلم هو بالجزئي أولا ، ثم بالجزئي و الكلي ثانيا . لأن الجزئي هو أصل كل علم كلي : وجودا و عدما ، تفعيلا و نتيجة .

            و ثالثا إن الاستقراء- و القياس الجزئي كله - ليس فقط أكثر إقناعا و أبيّن و أعرف في الحس، و إنما هو أيضا قد يكون أكثر قوة و يقينا و أهمية من القياس الصوري حِسيا و معنويا إذا تم بطريقة صحيحة . بدليل أن المقدمة الكبرى في القياس الصوري هي من إنتاجه ، و بدونه لا نحصل عليها. و المقدمة الثانية و النتيجة هما أيضا نموذجان للقياس الجزئي الذي ينتمي إليه الاستقراء . فكيف – و الحال هكذا- يكون القياس الصوري أفضل و أقوى من الاستقراء؟؟!! . فالطعن في الاستقراء هو طعن بالضرورة في القياس الصوري ، و تعظيم القياس الصوري يستلزم تعظيم الاستقراء أولا .

            و لا يُمكن أن يكون أي قياس -كالقياس الصوري- أشد قوة و إلزاما للحجة لمجرد شكله -جزئيا كان أو شموليا- ، و إنما هذا يتوقف على صحة مادة القياس و طريقته . فأي قياس توفر فيه ذلك فهو يقيني ،و أي قياس لم يتوفر فيه ذلك فهو ظني حتى و إن كان قياسا صوريا .

            و رابعا ليس صحيحا أن العلم الجزئي يطلب خصائص الأشياء ،و أن الكلي يفحص جواهر الموجودات و ماهيتها . فهذا زعم باطل جملة و تفصيلا ، لأن الحقيقة الثابتة الملموسة من العلم هي أن كل ما نعرفه من خصائص الأشياء في عناصرها الجزئية هي نفسها نعممها و نجعلها كلية تنطبق على جنس من الأجناس ، أو نوع من الأنواع . و هذا يعني أن الكلية بذاتها و صفاتها هي ثمرة للعلم بالجزئي من جهة ،و العلم الكلي لا يزيد شيئا عما وصلنا إليه من العلم بالجزئي من جهة أخرى .

            و ليس صحيحا أيضا أن العلم الكلي يطلب الجواهر و الماهيات ، فهذا ليس موضوعه ،و لا يستطيع تحقيقه حتى و إن سعى إليه . و إنما الصحيح هو أن العلم الكلي هو جزء من العلم الأصلي –الجزئي- و تابع له ،و لا يستطيع العمل وحده من جهة . و ما لديه من علم هو علم جزئي نسبي لا يُمكّنه أبدا من معرفة جواهر الموجودات و ماهيتها من جهة أخرى . و هذا يعني أن أرسطو كانت له نظرة سطحية للعلم ، جعلته يتصوّر إمكانية معرفة ماهية الموجود و جوهره بعلم سماه كليا هو في حقيقته علم جزئي نسبي . و الشاهد على ذلك أيضا أننا إذا نظرنا إلى محصلة فكر أرسطو من الحقائق و العلوم وجدناها ضعيفة جدا ، فقد سبق و أن بينا أن معظم أساسيات فكره غير صحيحة نظريا ، و تطبيقا ، و منهجا في الإلهيات و الطبيعيات و الإنسانيات . فلماذا لم تُمكنه كلياته من معرفة جواهر الموجودات و ماهياتها ،و لماذا كانت حصيلة فكره انه أنتج كلاما كثيرا و علما قليلا ؟؟!!.

            فواضح من النموذجين أن أرسطو – أخطأ أخطاءً جسيمة في موقفه من الاستقراء و تقزيمه له ، ترتبت عنها أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة من جهة ، و أفسدت عليه جانبا كبيرا من تفكيره المنطقي من جهة أخرى . و قد تضمن ذانك النموذجان أخطاء و انحرافات كثيرة أحصتُ منها 11 خطأً و انحرافا منهجيا .


            ثانيا : الجدل :

            لم يتخذ أرسطو موقفا صحيحا من الجدل - كعلم و وسيلة- ، فقد تصرّف في معناه المعروف به عند اليونان ،و اشتد في انتقاده دون حق ، فأوقعه تصرفه هذا في أخطاء و انحرافات منهجية ، نذكر بعضها من خلال النماذج الثلاثة الآتية :

            الأول مفاده أن أرسطو يرى أن القياس الجدلي يقوم على مقدمات مشهورة ليست يقينية[10] . و هو منطق الاحتمال ، لأن موضوعه الاستدلالات التي تقوم على مقدمات مُحتملة ، لذا فهو لا يكفي لتحصيل المعرفة الصحيحة[11]. و الجدل عنده هو قياس ظني مشهور أو ذائع ، لا يرقى إلى اليقين الذي يُوصلنا إليه القياس البرهاني حسب رأيه . ثم أشار إلى أن للجدل فوائد ، منها أنه ينفع في الرياضة الذهنية ، و المناظرة ،و علوم الفلسفة[12] .

            و أقول : أولا إن قوله هذا غير صحيح في معظمه ،و فيه تصرّف في معنى الجدل بطريقة غير علمية ، فعرّفه حسب رغبته هو ، و لم يُعرّفه كما كان يُعرّفه أصحابه و معظم اليونانيين . و الدليل على ذلك الشواهد الآتية:

            الأول مضمونه أن معنى الجدل عند اليونانيين لم يكن يُقصد به بأنه فن الحوار ، أو أنه وسيلة من وسائله ،و إنما كان معناه أوسع من ذلك ، فهو عندهم منطق بحث و استدلال ، و طريق إلى العلم و اليقين ، بل كان عند الرواقيين هو المنطق نفسه[13] .
            حتى أن المؤرخ ديوجين لايرتيوس ذكر أن المنطق – قبل أرسطو- كان يُتعلم كغيره من العلوم العقلية و الطبيعية و الأدبية ، و سماه علم المنطق ، و أن الفيلسوف ديموقريطس تعلمه في بلاد اليونان مع الفلك و الطبيعة ، ثم رحل إلى مصر و الهند لطلب المزيد من العلم[14] . و معنى ذلك أن علم المنطق أو الجدل – بمعنى المنطق – كان معروفا كعلم يطلبه أهل العلم ، و له أساتذته و طلابه كغيره من العلوم . و قد جعل أفلاطون تعلم الجدل – بمعناه الواسع- حجر الزاوية في نظامه التعليمي، و جعله ضروريا لتربية الحكام و الفلاسفة [15].

            و الشاهد الثاني مفاده أن الفيلسوف السُفسطائي زينون الإيلي ( ق : 5 ق م ) : يُعد هو مخترع-أي مُنشيء- الجدل العقلي عند اليونان ، و قد جعل الجدل علما أو شبيها به[16]. و أرسطو نفسه اعترف بأن زينون هو مخترع الجدل[17]. لكن ليس الجدل بالمعنى الضيق الذي انتقده أرسطو ،و إنما هو الجدل بالمعنى الواسع الذي هو علم منهج البحث و الاستدلال ،و ليس هو قياس الشمول الظني . علما بأن أرسطو سمى قياسه الصوري التحليلات ، أو صناعة التحليل ،و إما اسم المنطق فهو تسمية متأخرة عن عصر أرسطو[18] .

            و الشاهد الثالث مضمونه أن الجدل عند الرواقيين[19] كان (( المعيار الذي يُفرّق به بين الحق و الباطل )) . و عند بعضهم أن الجدل (( يُعلّم الكلام و الاستدلال ،و مناقشة القضايا المقترحة ، و الرد على الأسئلة الخاصة بالأشياء ، و هي من نصيب الإنسان الخبير ))[20] . فهذا المعنى نفسه موجود عند أرسطو باسم القياس الصوري ،و هو نفسه سماه هؤلاء بالجدل .

            و الشاهد الرابع مفاده أن الجدل زمن الفيلسوف سقراط كان قد تطور كثيرا ، فزاد هو في تطويره ،و أدخل عليه مفاهيم كالتحديد ، و الاستقراء ، و الفرضية،و عنه أخذه تلميذه أفلاطون[21] . و أهم ما ادخله سقراط في الجدل هو الحجج الاستقرائية ،و التعريف بالكلي[22].

            و الشاهد الأخير – الخامس- يتعلق بالجدل عند أفلاطون –شيخ أرسطو- و مفاده أن الجدل عنده هو المنهج الذي يرتفع العقل به من المحسوس إلى المعقول،و هو العلم الكلي بالمبادئ الأولى .وهو منهج دقيق يسمح لنا بالصعود إلى فكرة الواحد بالأسئلة و الأجوبة من خلال الصورة التي يُعطينا أياها العالم الحسي. و الجدل عنده على نوعين : صاعد ، و نازل . الصاعد يبدأ من الإحساس إلى الظن ، إلى العلم الاستدلالي ، إلى المعقول إلى أن يصل إلى العلم بالكلي. و النازل ينزل من أرفع المُثل – و هي كليات- إلى أدناها بتحليلها و ترتيبها في أجناس و أنواع . و هذا هو المعروف بالقسمة الثنائية الأفلاطونية ، الذي يُعرف في مجال القياس بالحد الأكبر و الحد الأصغر ،و هما من إنتاج أفلاطون[23] . و بمعنى آخر أن قياسه الصاعد يبدأ من الجزئي المحسوس إلى الكلي في عالم المثل ،و هذا استقراء. ،و النازل يبدأ من الكلي إلي الجزئي المحسوس ، و هذا قياس شمول- الصوري عند أرسطو- .

            و الجدل عنده أيضا هو منهج و علم يجتاز جميع مراتب الوجود من الأسفل إلى الأعلى و بالعكس . فهو علم يُقابل ما نسميه اليوم بنظرية المعرفة بالمعنى الواسع ،و يشمل المنطق و الميتافيزيقا جميعا[24]. و قد عدّ أفلاطون الجدل قمة العلوم و تاجها ، و لا يُوجد علم آخر يستحق مكانة أرفع منه . و من يستخدمه يظل (( ظافرا إلى النهاية دون زلة واحدة ))، و هو ضروري للوصول إلى الحقيقة[25] . و كان أفلاطون يُدرس الجدل كعلم من العلوم ضمن العلوم العقلية كالفلك و الهندسة . و كانت مرحلة التكوين في العلوم العقلية تدوم عشر سنوات ، تنتهي بدراسة الجدل لمدة خمس سنوات[26] . ثم دعا في أواخر حياته إلى أيجاد قانون منطقي يُدير حركة الأفكار العقلية كالقوانين التي تدير حركة الأفلاك ،و هي تحترمها باستمرار ، لكن نحن البشر ننتهك باستمرار القوانين التي تتحكم بمسار أفكارنا. فعقّب عليه الباحث مصطفى النشار بقوله : إن ذلك أمر هام أشار إليه أفلاطون لكنه لم يستثمره [27]. لكن الحقيقة هي أن ما دعا إليه أفلاطون في أُخريات حياته هو توسيع أكثر لمعنى الجدل ،و كان قد استثمر جانبا منه في تدريسه للجدل كمنطق بحث و منهج استدلال .
            فواضح من تلك الشواهد أن الجدل عند السفاسطة ، و سقراط ، و أفلاطون هو منطق بحث و استدلال ،و ليس كما هو عند أرسطو و أراد أن يُوهمنا به . فقد كان علماً جاهزا قائما بذاته يُسمى الجدل ، و لو لم يكن كذلك ما دُرّس كعلم منفصل بذاته ، و ما استغرقت دراسته مدة طويلة ، و ما كان يُدرّس في نهاية مرحلة التكوين . و أرسطو نفسه قد درَسه بحكم أنه أحد خريجي مدرسة أفلاطون ،و معروف أنه قد بقي فيها عشرين سنة تلميذا لشيخه أفلاطون . لكن أرسطو تناسى كل ذلك ، و أقدم على ما نقلناه عنه أعلاه لغاية في نفسه ، سنعود إليها قريبا .

            و ثانيا إن تصرّفه في مفهوم الجدل بتلك الطريقة هو تصرّف غير مقبول علميا . و لا يصح له أيضا أن يُخصصه و يحكم عليه بأنه يقوم على مقدمات مشهورة ،و لا يقوم على مقدمات يقينية . و أما لماذا لا يصح له ذلك ؟ ، فهو لا يصح لثلاثة أمور : الأول إنه كان عند أصحابه طريقا إلى العلم و اليقين ، فلا يحق له أن يتصرف في معناه و يُوجهه و يُخصصه كما يُريد هو منه أن يكون .

            و الأمر الثاني مفاده أن أرسطو لم يُقدم دليلا صحيحا على زعمه ، و إنما اعتمد أساسا على رغبته الشخصية في تعريفه له . و الأمر الثالث مضمونه أنه إذا نظرنا إلى حقيقة الجدل في ذاته نجد أن من أهم صفاته أنه وسيلة من وسائل الحوار و النقاش و المناظرة ،و بما أنه هكذا فيُستخدم في مادته كل أنواع الأقيسة و الحجج ، و البراهين و المبررات ،و الاعتراضات و المناقضات ،و التدليسات و المغالطات ،و اليقينيات و الظنيات . و هذا هو الذي يشهد به الواقع ، فنجد المجادلين يستخدمون كل ذلك في جدالهم . و هذا خطأ منهجي فادح وقع فيه أرسطو ، فلا يُوجد أي دليل صحيح ،و لا مُبرر مقبول يجعل الجدل – بما أنه وسيلة حوار- ظنيا مشهورا ذائعا كما وصفه أرسطو . و إنما هو كما ذكرنا مجرد وسيلة يستخدم كل أنواع الحجج و الاستدلالات . فموقفه هذا هو موقف ذاتي غير صحيح مُخالف لما يشهد به الواقع ، و لا يحق له اتخاذه . و نحن لم نتوسع في مناقشته في قوله بأن الجدل ظني النتائج ، لأنه زَعْم بناه على غير أساس صحيح ، فلما قوضناه سقط زعمه بالضرورة ، و أصبح من العبث الرد عليه في ذلك .

            و قد أصاب الباحث بريو شينكين عندما ذكر أن أرسطو لم يقدر منهج الجدل عند سقراط و أفلاطون حق التقدير ، فعّده منهجا مُتخلفا عن منهج البرهان العلمي ، مع أنهما طوّراه ،و أدخل فيه سقراط مفاهيم كالتحديد ،و الاستقراء ،و الفرضية[28] .

            و الراجح عندي أن أرسطو فعل ذلك مُتعمدا ، فاستفاد من جدلهما استفادة كبيرة ، ثم طعن في جدلهما . و هذا الموقف نفسه اتخذه مع جدل السفاسطة عندما وصفه بأنه ظني تبكيتي مناقض للنتيجة ، مع أن قياسه مأخوذ من قياسهم و قريب منه جدا ، بل هو جزء منه[29] . فأرسطو – في موقفه من جدل هؤلاء- تصرّف في معنى الجدل عندهم و ازدرى منطقهم ، و نقدهم فيه من خلال مفهومه هو له ،و ليس على أساس مفهومهم هم له . ثم ضيق معناه و جعله كما يريده هو . و هذا عمل غير علمي يتضمن تحريفا و تدليسا ،و نية مُبيتة سلفا لتحقيق أهداف مذهبية يُريد تحقيقها . و إلا لماذا فعل ذلك ،؟ و لماذا انتقدهم بمفهومه هو للجدل ، مع أنهم يقصدون به معنى آخر ؟؟ و هو قد اخذ مفهومه للمنطق الصوري من مفهومهم الشامل للجدل ، ثم انقلب عليهم بمفهومه هو له . و يبدو أنه أقدم على فعل ذلك لتحقيق غايات في نفسه . منها الطعن في المنطق الجدلي الذي قال به معظم اليونانيين ليرفع من قيمة قياسه الصوري المأخوذ أصلا من جدل هؤلاء . فوصف قياسه باليقين تعظيما له ،و قياس غيره بالظن تقزيما له من جهة أخرى. كما أنه-أي أرسطو- أخذ من شيخه أفلاطون غلوه في منطقه الجدلي ، ثم أطلقه على منطقه الصوري .

            و النموذج الثاني مفاده أن أرسطو سوى بين استعمال الصنائع و استعمال الجدل ، فنص على أن جميع الصنائع تستعمل الأمور العامية ،و لهذه العلة يستعمل من لا علم له صناعة الجدل[30] .
            و أقول: قوله هذا غير صحيح في معظمه، و لا أدري هل هذا الرجل يعي ما يقول أم لا ، أو أنه قال ذلك لغاية في نفسه . لأنه أولا ليس صحيحا أن الصنائع و الجدل من الأمور العامية يُمارسها من الناس من لا علم له . لأن كلا من العقل و العلم لا يقولان ذلك ، و يشهدان بخلافه . فنحن نشاهد في الواقع أن الصنائع يُمارسها أناس من مختلف فئات المجتمع ، و معظمهم أصحاب مستويات علمية تطبيقية ،و إن اختلفت درجاتهم العلمية في ذلك . بل إن تلك الصنائع أصبحت في زماننا تمثل علوما دقيقة تجمع بين الجانبين النظري و التطبيقي ، و قد تخصص فيها علماء كبار لهم شهادات عليا في الفيزياء و الكيمياء و الميكانيك . و قد أُنشئت لها مؤسسات و معاهد علمية للتكوين و الابتكار . و ربما يُقال: إن أرسطو كان معذورا في هذا لأنه نظر إلى صنائع عصره . و هذا اعتذار مقبول من جهة ، لكنه غير مقبول من جهة أخرى ، لأنه كفيلسوف كان عليه أن ينتبه إلى أن الصنائع في أساسها تقوم على قوانين رياضية و فيزيائية من جهة ، و كان عليه أن يحتاط و لا يُعمم حكمه على جميع الصنائع و ممارسيها من جهة أخرى . فهذا انحراف منهجي في النظر إلى الأمور و الحكم عليها ، كان عليه أن يحتاط له و لا يقع فيه. فهذا هو المطلوب من الباحث الموضوعي المُدقق المُمحص لكي يجنب نفسه كثيرا من الأخطاء و الانتقادات .

            و أما صناعة الجدل فقوله فيها أكثر خطأً لأنها صناعة تختلف عن الصنائع من جهة ، و هي صناعة نظرية أصلا و ممارسة ، و طبيعة في كل بني آدم من جهة أخرى . و لهذا وصف الله تعالى الإنسان بقوله سبحانه : { وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }-سورة الكهف:54- . فالجدل صفة هي من خصائص بني آدم يُمارسونها كلهم ،و الواقع يشهد على أن الجدل موجود بين عوام الناس و خاصتهم ، و بين جُهالهم و علمائهم . فالجدل ليس خاصا بالناس الذين لا علم لهم كما زعم أرسطو .
            و ثانيا إن أرسطو قال ذلك الزعم للحط على أصحاب الجدل و تقزيمهم من جهة ، و للرفع من قياسه و مكانته هو من جهة أخرى . قال ذلك و هو يعلم يقينا أن حكمه السابق في حق الجدل و أصحابه غير صحيح ، لكنه فعل ذلك أملا في تحقيق مكاسب مذهبية يسعى للظفر بها . و الدليل الدامغ على صحة قولي هذا ، الشواهد الآتية :

            الأول مفاده هو أن أرسطو نفسه نقض زعمه هذا عندما قال: للجدل فوائد ، منها أنه ينفع في الرياضة الذهنية ، و المناظرة ،و علوم الفلسفة[31] . أليس من يطلب الرياضة الذهنية بالجدل هم في الغالب من أهل العلم و ليسوا من عوام الناس ؟؟!! . و أليس أن من يطلب الجدل للمناظرة هم في الغالب الأعم من العلماء ؟؟!! . و أليس من يستخدم الجدل في علوم الفلسفة هم من أهل العلم من طلاب الفلسفة و العلوم الأخرى ؟؟!! . و هذه التساؤلات لا تحتاج إلى إجابات لأنها واضحة بنفسها ، و تكفي وحدها للرد على أرسطو و إظهار بطلان زعمه ،و انه تعمد قوله .

            و الشاهد الثاني مفاده أن أرسطو قال ذلك الزعم و هو يعلم أن الجدل كان علماً عند اليونان ، يتعلمه أهل العلم منهم كما يتعلمون العلوم الطبيعية و الأدبية من جهة . و قد برع فيه كبار علماء اليونان و عظموه ،و اهتموا به كزعماء السفاسطة ، و سُقراط ، و أفلاطون من جهة أخرى . فلماذا تناسى أرسطو كل ذلك ؟! ، و لماذا ألحق هؤلاء بالناس الذين لا علم لهم ؟! . و لماذا أساء إلى شيخه و أستاذه أفلاطون ؟! . و ماذا يُريد هذا الرجل مما قاله في الجدل و أهله ؟؟!! .

            و الشاهد الأخير- الثالث- مفاده أن أرسطو أصدر حكما عاما على السفاسطة بأنهم (( أبدا يقولون خلاف ما يظهر من ضميرهم و ما خفي))[32] . و قوله هذا باطل و لا يصح أن يقوله ،و لا يصدق على أي إنسان في العالم مهما كان كذابا . لأن حياة الإنسان في أصلها تقوم على الصدق و ليس على الكذب ، و هنا يضطر الكذاب و المنافق و المحتال و السفسطائي إلى أن يكون صادقا فيتفق باطنه مع ظاهره رغم أنفه . لكن تعصب أرسطو على هؤلاء هو الذي أوصله إلى قول هذا الكلام الباطل المُضحك . فهل دخل في قلوبهم كلهم و عرف نواياهم ؟؟!! , و هل هو يعلم الغيب حتى يصدر هذا الحكم العام المطلق بأن السفاسطة كلهم أبدا يقولون ذلك ؟؟!! . و ألم يكن يعلم أن في كبار السفاسطة من كان موضوعيا يعترف بالحقيقة، و أن أوائلهم كانوا معلمين مربين للناس بصدق و إخلاص[33] ؟؟!! . و أليس كثيرا ما يكون من مصلحة الإنسان الكذاب أن يقول الصدق فيقوله ، و هنا سيضطر السفاسطة إلى أن يكونوا صادقين فيتفق ظاهرهم مع باطنهم ؟؟!! . و لماذا هذا الإصرار و التأكيد على تجريم هؤلاء ،و الحكم عليهم بالتأبيد ؟؟! . أليس هذا كله تدليس و سفسطة عن سبق إصرار و ترصد ؟؟! ، أليس هذا دليل دامغ على أن أرسطو هو نفسه مُسفسط ، و أنه أشبع أنانيته في الحط على السفاسطة و تقزيمهم و ذمهم ، حتى أنه تفوّق علهم في السفسطة بطريقته الخاصة ؟؟!!.

            و النموذج الأخير- الثالث- يتعلق بالجدال لا الجدل ، و مضمونه أن أرسطو نظر هنا إلى الجدل كوسيلة رد ، فهو جدال ،و لم ينظر إليه بنظرته السابقة بأنه قياس جدلي ظني . فذكر أنه في مجال الجدال تُستخدم الأقاويل الاستقرائية مع ذوي السلامة من الناس . و تُستعمل الأقاويل القياسية مع المتدربين على ذلك . و قد (( ينبغي أن تُلتمس أخذ المقدمات من أصحاب القياس ،و أخذ الأمثال من أصحاب الاستقراء ، إذا كان كل واحد منهما مُرتاضا- مُتدربا- فيما يُناسب مذهبه ))[34] .

            و أقول: إن قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأن الحقيقة- الثابتة عقلا و واقعا- هي أن الناس-على اختلاف فئاتهم- عندما يتجادلون يستخدمون كل أنواع الأقيسة الجزئية و الشمولية ، من دون تمييز بينها ، لأمرين أساسيين : الأول هو أن عقل الإنسان يعمل بطريقة فطرية سريعة لا تتطلب منه معرفة أنواع القياس ،و لا عمله يتوقف على العلم بها . و الثاني هو أن الإنسان – أثناء الجدال – يكون همه الأول هو الرد على خصمه ، و من ثم لا يختار بين أنواع القياس ،و إنما يستخدم كل ما تيسر له من أقيسة و حجج . و هذا أمر ثابت و مشهود بين عوام الناس و علمائهم .

            كما أن تمييز أرسطو بين مقدمات أصحاب القياس الصوري ، و أمثال أصحاب الاستقراء ، هو تمييز غير علمي و لا يصح . لأن كل الأقيسة – منها الاستقراء- تقوم على مقدمات ، و هذه المقدمات كلها تنطوي على أمثال من جهة ، و على عِلل من جهة أخرى . و عليه فعملية استخدام أي مثال ، فهي تنطوي بالضرورة على قياس و تعليل و مماثلة . فالأمثال أقيسة ، نجدها في كل أنواع الأقيسة بشكل أو بآخر. و مثال ذلك القياس الصوري الآتي: كل إنسان فانٍ ، و أرسطو إنسان ، فهو فانٍ . هذا القياس صحيح ، لكنه ما كان يصح لولا وجود التمثيل و المماثلة و ضرب المثال . فمن أين لنا أن كل إنسان فانٍ ؟؟ ، هل رأينا كل البشر الذين سيأتون بعدنا ؟ ، و هل تأكدنا بأنهم سيموتون ؟ . لم نتأكد من كل ذلك لكننا عممنا حكمنا على أساس التمثيل و المماثلة و ضرب المثال ، بناء على القاعدة العقلية الفطرية التي تقول : الجمع بين المتماثلين ،و التفريق بين المختلفين .

            و عندما قلنا: و أرسطو إنسان . نكون قد أتينا بمثال جزئي يُشبه و يُماثل الأجزاء الكلية التي شملها الحكم الكلي . ثم عندما قلنا: فهو فانٍ ، نكون قد استخرجنا النتيجة الجزئية من الحكم العام الذي يشمل عناصره المتشابهة و المتماثلة ،و طبقناها على مثال جزئي يُشبه عناصر ذلك الحكم الكلي . فواضح من ذلك أن الأمثال أقيسة ،و الأقيسة أمثال ، و كلها مقدمات تنطوي على عِلل متنوعة الخصائص .

            و من تلك النماذج يتبين أن أرسطو وقع في أخطاء و انحرافات منهجية جسيمة تتعلق بالجدل كعلم و وسيلة ،و كقياس حسب فهمه هو. ضربنا على ذلك ثلاثة نماذج تضمنت طائفة من أرائه و مواقفه المتعلقة بالجدل ، احتوت على أكثر من 12 خطأً و انحرافا منهجيا من جهة. و دلت على أن أرسطو استخدم التدليس و التغليط و السفسطة في موقفه من الجدل لغاية في نفسه من جهة أخرى .


            ثالثا: القياس الصوري الأرسطي :

            اهتم أرسطو بالقياس الصوري اهتماما كبيرا ، حتى عُرف به ، و سماه القياس البرهاني . و هو قياس كلي شمولي و ليس قياسا جزئيا ، يتكون من مقدمتين و نتيجة . و مثاله : كل إنسان فان ، و أرسطو إنسان ، فهو فانٍ . فمن أين لأرسطو بهذا القياس ؟، و ما هي مواقفه التفصيلية منه ؟ ، و ما هي أخطاؤه المتعلقة بهذا القياس ؟. هذه التساؤلات و غيرها ستجد أجوبتها من خلال النماذج الأرسطية الآتية :

            الأول مفاده أن أرسطو أطلق على القياس الصوري اسم البرهان ، فهو يقوم عنده على مقدمات يقينية ثابتة قطعاً ، فهو (( الضرب الوحيد من القياس الذي يُعتمد في المباحث العلمية و الفلسفية الحقة )) ،و هذا لا يتوفر في الأقيسة الأخرى كالجدلي و الخطابي[35] .

            و أقول: أولا قبل مناقشته لابد من التذكير و التدليل بأن أرسطو ليس هو أول من تكلم عن القياس الصوري ، و لا هو أول من اهتم به و نظّر له . و هذا أمر ضروري لمعرفة مصادر أرسطو في المنطق عامة و القياس الصوري خاصة . و هذا القياس هو في الحقيقة من القياسات الفطرية في الإنسان يستخدمها أليا من دون تكلف منه ، يستخدمه مع القياسات الأخرى في مكانه المناسب ، مع أنه ليس قياسا جزئيا أوليا ، لكنه قياس فطري شمولي يقوم على الجزئي و يتفاعل معه بانسجام و تناغم . فهذا قياس طبيعي فينا بلا شك ، لكن أشهر الذين سبقوا أرسطو في الاهتمام به من اليونانيين : السفاسطة ،و سقراط ، و أفلاطون ، و الشواهد الآتية تُبين ذلك و توثّقه:

            الأول يتعلق بالقياس الصوري عند السفاسطة ، إنهم اهتموا به كثيرا ، و تخصصوا فيه لأنه يتفق مع طريقتهم في ممارسة الخطابة و تعليم الناس القدرة على الكلام و التلاعب بالألفاظ ، و استخدام المغالطات لتحقيق أغراضهم. و لهذا كانت أكثر أقاويلهم أقيسة صورية الشكل ، لا تختلف عن صور قياس أرسطو[36] ، من ناحيتي السلب و الإيجاب . فهم قد سبقوا أرسطو في الاهتمام بالقياس الصوري ، لكن قياس أرسطو يُمثل جانبا من قياسهم ، بمعنى أن قياسه مُتضمن في قياسهم و ليس العكس ، و هذا ما سيتضح جليا فيما يأتي من عرضنا لمواقف أرسطو و ردنا عليه .

            و الشاهد الثاني يخص القياس الصوري عند سقراط ، إنه اهتم بالمنهج الموصل إلى الحصول على الكليات التي تمثل المقدمات الكبرى في القياس الصوري ،و بدونها لا يُوجد قياس صوري . فاهتم سقراط بتحديد الألفاظ ،و و تعريف المعاني ، و ممارسة الاستقراء ، للوصول إلى الكليات . و قد كان – في مناقشاته مع خصومه- يهدف (( دائما إلى التوصل للتعريف بالحد التام ، أي إلى التعريف الجامع المانع الذي يُمكن أن يُقام عليه العلم بالأشياء ))[37] . فكان يجتهد ليصل إلى الحد الجامع المانع بالاستقراء ،و يركب القياس بالحد، و يُقسم الأشياء إلى أجناس و أنواع لكي لا يحدث خلط بينها[38] .

            و الشاهد الثالث يتعلق بالقياس الصوري عند أفلاطون ، إنه اهتم كثيرا بالقياس الصوري ، و درّسه في مدرسته لأنه جزء من جدله . و كان يهتم بتحديد الألفاظ ،و تعريف المعاني ،و يُمارس الاستقراء طلبا للكلي[39] . و كان يقول: (( لا علم إلا بالكلي ، الذي يظل دائما في ذاته باقيا على ذاتيته ))[40] . و بمعنى آخر فإن القياس الصوري عند أفلاطون يتمثل في الجدل النازل ، فهو نزول من كلي إلى جزئي ، و الذي يستكشف العلاقات بين الكلي و الجزئي ليُؤلفها في أحكام . بمعنى أنه يُرتبها في أجناس و أنواع ، يتم ذلك بقسمة الجنس بخاصيات نوعية تنضاف إليه ، و ذكر لها شروطا و قواعد ،و يجب أن تكون-أي القسمة- تامة ، فيُستخرج من (( الجنس نوعين ، أو ثلاثة ، و من كل منها ضعفين أو ثلاثة ، حتى ننتهي إلى البسائط )). و هذا القياس عنده مُكمل (( للجدل الصاعد- الاستقرائي- ،و هو آمن و أكفل باستيعاب الأقسام جميعا )) [41].

            واضح من ذلك أن وصف أفلاطون للقياس الصوري بأنه آمن و أكفل يعني أنه كان يتكلم عن القياس الصوري اليقيني -لا الظني - الذي تكون مقدمتاه الكبرى و الصغرى صحيحتين . لأننا سنرى فيما بعد أن أرسطو يدعي أن قياسه الصوري يقيني ،و قياس غيره ظني ، بما فيه قياس أفلاطون .

            و أُشير هنا إلى أن أرسطو استخلص قياسه الصوري من القسمة الثنائية الأفلاطونية ، بإضافة الحد الأوسط ، بدعوى أن قياس أفلاطون قياس ضعيف ،و بناه على أساس فهمه هو للجدل[42]. فقياس أرسطو يُشبه جدل أفلاطون النازل ، لكن الاختلاف بينهم حسب الباحث محمد ثابت الفندي يتمثل في (( نقطة جوهرية هي التي جعلت أرسطو يعتبر الجدل الأفلاطوني الثنائي القسمة قياسا ضعيفا لخلوه من الحد الأوسط . ذلك الحد الذي يسمح في القياس الأرسطي بتداخل حلقة في حلقة أخرى ،و بذلك يُعطي علة ، أو سببا لإنتاج نتيجة القياس ))[43] .

            و أقول : لا أوافق المؤلف على ذلك ، لأن الحد الأوسط ليس حدا منفصلا ، و إنما هو يتمثل في العلاقة بين المقدمتين التي تكشف عنها نتيجة القياس ، و هي موجودة بالضرورة نفيا أو إثباتا في كل قياس. فلا يُمكن أن يوجد قياس دون حد أوسط . فإذا كانت المقدمة الثانية تندرج في الأولى-مع صحة الاثنين- فالحد صحيح ،و إلا ليس صحيحا . فهذا الحد هو موجود بالضرورة في كل قياس صوري سواء السفسطائي منه أو الأفلاطوني ، أو الأرسطي . فالحد الأوسط موجود في كل قياس صوري ،و لا يصح ما زعمه أرسطو كأساس للتميز به . فالأمر الذي ركز عليه أرسطو ليس جديدا ، و لا خاصا بقياسه ، بل قياسه كله مأخوذ من الجدل اليوناني الذي هو منطقهم قبل أن يتميز أرسطو بقياسه الصوري الذي ركز فيه على جانب واحد منه فقط ، عندما يكون فيه الحد الأوسط صحيحا. بمعنى آخر يكون القياس صحيحا باندراج المقدمة الثانية في الأولى. علماً بأن أفلاطون قد تكلم عن العلاقات بين المقدمتين ،و أشار إلى الجانب اليقيني من قياسه الصوري الكلي ،و هذا ذكرناه في الفقرة السابقة و لفتنا الانتباه إليه ردا على أرسطو . و لا ننسى أيضا بأن أي قياس إلا و يُنتظر منه النتيجة ، و هي الحد الثاني في القياس الأحادي المقدمة ، و الحد الأوسط في الثنائي المقدمة ، و هكذا .
            و أما بالنسب إلى الضعف الذي أشار إليه أرسطو ، فهو ليس خاصا بقياس أفلاطون ،و إنما هو أحد الاحتمالين اللذين يحتملهما أي قياس حسب صدق القياس من عدمه . و هذا يشمل قياس أرسطو أيضا، و لا يصح القول بأن قياسه الصوري يختلف عن أقيسة غيره في هذه النقطة.

            و الشاهد الأخير – الرابع- يتضمن نصوصا من أقوال أرسطو تشهد بذاتها على أن القياس الكلي كان معروفا و محل نقاش بين أهل العلم قبل أرسطو و في زمانه ، و ليس هو أمرا جديدا جاء به أرسطو ،و لا هو خاصا به . من ذلك قوله : (( إلا أنه متى دعت الحاجة إلى تناول الكلي ، قالوا : و كذلك يجري الأمر في جميع ما هذه سبيله )) . و (( فأما الذين يُعاندون الأمر الكلي ،و لا يجعلون عنادهم في الحجة بعينها ، بل فيما هو مُشارك لها في الاسم ... )) . و (( ذاك أنهم يحتجون أن الصحة لما كانت في الجودة أقل كثيرا من جودة الهيئة ))[44] .

            و ثانيا إن ذلك الحكم- من النموذج الأول- هو حكم مبالغ فيه جدا ،و لا يصح تخصيصه بالقياس الصوري فقط دون غيره من أنواع الأقيسة . كما أنه لا ينطبق دائما على القياس الصوري من جهة ،و يتضمن جهلا كبيرا بحقيقة منهج البحث و الاستدلال العلمي من جهة أخرى . لأنه يُمكن الوصول إلى اليقين العلمي من دون استخدام القياس الصوري ، فيمكن تحقيقه بقياس جزئي على جزئي كقولنا: سقوط المطر يستلزم وجود السحاب . أو بقياس الأولى كقولنا : الإنسان الآلي آلة عظيمة ، فمن الأولى أن يكون صانعه أعظم منه ، أو بقياس استقرائي كقولنا :بما أنه ثبت بالاختبار أن هؤلاء الطلاب يُتقنون الفيزياء ، فهم إذن يعرفون الرياضيات جيدا .

            و لا يصح القول بأن قياسه الصوري يقيني المقدمات و النتائج على خلاف الأقيسة الأخرى . فهذا قول لا يصح تعميمه ، لأن صحة أي قياس لا تقوم على شكله الصوري الذي يتم به ،و إنما تقوم على صحة مادته المكونة له ،و سلامة تطبيقه . فإذا تم ذلك فكل قياس تكون مقدماته و نتائجه يقينية ،و العكس صحيح . و مثال ذلك -على عدم صحة قياس الشمول مع سلامة شكله الظاهري- قولنا: كل الطيور لها ريش في أجنحتها ،و الخفاش طائر ، فهو إذن له ريش في جناحيه . فهذا قياس غير صحيح ، لأن الخفاش طائر له جلد في جناحيه و ليس له ريش ، لكن القياس كان صحيحا من الناحية الصورية : مقدمتان : كبرى و صغرى ، و نتيجة ، و ثلاثة حدود : أكبر ، و أصغر ، و أوسط .

            و ثالثا إن أرسطو إما أنه لا يعي ما يقول ، أو أنه يتعمد ذكر ذلك لغاية في نفسه ، مع علمه بعدم صحته بالطريقة التي ذكره بها. و تفصيل ذلك هو أن هذا الرجل أهمل أصل العلم و ركله بعيدا ، و تمسك بنتيجته و جعلها أصلا ضروريا لا علم بدونها . فهو يتكلم عن النتيجة اليقينية التي يستخرجها من القياس الصوري - المقدمتان الكبرى و الصغرى- و ينسى أو يتناسى أنه لا مقدمة كبرى ،و لا مقدمة صغرى ، و لا بحث علمي دون قياس جزئي . فالبحث الجزئي- بتعدد أنواعه- هو الذي تقوم عليه كل العلوم ، فبه نبحث و نكتشف ، و به نصل إلى الحقائق و القوانين و الكليات ،و به نستثمر و نوظف ما وصلنا إليه من علوم لصالح الإنسان . و به نطوّر العلوم و نثريها ، و نستخرج منها علوما أخرى . فهذا الرجل أمره غريب جدا ، فلو أخذنا برأيه لتوقفت العلوم تقريبا ، و ما تقدمت إلا قيلا . فالرجل تمسك بحكاية الكلي و نتيجته اليقينية ،و زعم أن هذا هو الذي يُقوم عليه العلم و به يتطوّر !!. و هذا زعم باطل مردود عليه.
            فهب أننا أخذنا برأيه ، فمن أين نحصل على الكلي و هو لا يُوجد في الطبيعة بشكله الكلي ، و إنما هو كذلك في الأذهان لا في الأعيان ؟؟ ، فلابد إذن أن نبحث عنه بالأقيسة الجزئية . و بما أن العلوم لا تقوم على كلي واحد ،و إنما تقوم على كليات كثيرة حسب كل علم ،و بما أن هذه الكليات ليس لها وجود كلي في الواقع ، و إنما لها وجود جزئي ، و بما أننا لا نستطيع الوصول إليها إلا البحث الجزئي لا الكلي ، فهذا كله يستلزم ضرورة أن يكون القياس الجزئي أصلا أصيلا واحدا لكل العلوم دون منازع ، و لا يمكن أن يُساويه القياس الصوري- الشمولي- بأي حال من الأحوال ، لأن وجوده في العلم هو جزء منه و ثمرة له ، فليس للقياس الصوري استقلالية ذاتية ، فهو تابع للجزئي وجودا و عدما و تفعيلا .

            و فرضاً أننا حصلنا على كلي من الكليات ، فماذا نفعل به وحده ؟؟!! . إنه لا يكفي وحده ، و لا يقدر على أن يُعطينا كليات جديدة . و لا يستطيع أن يقدم لنا كل ما نحتاجه عن عناصره التي يتضمنها ،و لا عن العناصر الأخرى التي لا يتضمنها . و لا يستطيع أن يأتينا بنتيجة جديدة لا يتضمنها و لا نعرفها ، فهو عقيم و ليس ولاداٌ ، و إنما يقوم بعملية تصديق للعنصر الذي يتضمنه لا غير . فماذا نفعل ؟ ، و ما هو الحل ؟؟!!. و هل العلوم تقوم على القياس الصوري كما زعم أرسطو ، أو أنها تقوم على الأقيسة الجزئية ؟؟ . الجواب واضح مما قدمناه ، فلا علم ،و لا كليات دون البحث العلمي القائم على القياس الجزئي بكل أنواعه ، فهو المحرك و المُبدع ، و المُطوّر و المُكتشف لحقائق العلوم و كلياتها .
            و رابعا إن المتدبر في القياس الصوري بحدوده الثلاثة ،و بمثاله المشهور : كل إنسان فانٍ ،و أرسطو إنسان ، فهو فانٍ . يتبين له أن المقدمة الأولى- الكبرى - وصلنا إليها بالقياس الجزئي الاستقرائي ، فبه تبين لنا في الواقع أن كل إنسان فان ، فلم نر إنسانا خالدا ، و بذلك أصدرنا حكمنا الذي تضمنته المقدمة الكبرى ، و بدونه لن نصل إليها ، فهو الذي أوجدها ،و هي تابعة له و ليس العكس.
            و المقدمة الصغرى- الثانية- هي مقدمة جزئية ، بها فعّلنا المقدمة الكبرى ، فحصلنا على النتيجة التي هي بدورها نتيجة جزئية . و عليه فإن القياس الجزئي أوجد المقدمة الكبرى ،و هو الذي مثل المقدمة الصغرى ،و هو الذي فعّل العلاقة بين المقدمتين ،و أوجد النتيجة . فالقياس الجزئي هو أصل القياس الصوري وجودا و عدما و تفعيلا .
            و نحن لا ننكر بأن الكليات تُستخدم في العلوم كقوانين و كليات من جهة ، و قد نستخرج منها نتائج يقينية من جهة أخرى . لكن هذا قائم أساسا على البحث الجزئي كما سبق أن بيناه ، و ليس منفصلا عنه ،و لا هو الذي أوجده . و حتى عندما نستخدمها فهي البحث العلمي فهي تُستخدم كجزئية ضمن البحث العلمي القائم على الأقيسة الجزئية للوصول إلى نتائج علمية أخرى الجزئية منها و الكلية . فهذه الكليات هي من نتائج البحث الجزئي ،و تبقى تُستخدم ككليات جزئية من جهة ،و ضمن البحث العلمي الجزئي من جهة أخرى ، فلا بحث علمي دون الأقيسة الجزئية . و هذا الذي نسيه أرسطو أو تناساه .

            و النموذج الثاني يتعلق بتفضيل أرسطو للقياس الكلي على الجزئي ، إنه فاضل بين البرهانين الجزئي و الكلي فانتهى إلى تفضيل الكلي على الجزئي . بدعوى أن الكلي يبحث عن العلة (( لِمَ هو ؟ )) ، لكن الجزئي يبحث عن الحالة و الكيفية ، و من يبحث عن العلة فهو أفضل برهنة . ثم قال : (( فالأشياء الكلية إذاً هي في باب ما هي مُبرهنة أكثر. و الأشياء التي هي مُبرهنة أكثر برهانا أكثر . و إذا كانت المضافات معا تكون أكثر . فالكلية إذاً أكثر من قِبل أنها برهان هو أكثر )) . و قال أيضا : إن الكلي (( هو معقول ،و أما الجزئي فيؤول أمره على الحِس )) . ثم قال : إننا نحس بالجزئي إحساسا ، أما الكلي فهو يتعلق بمعانٍ لا تتجزأ توجد في أذهاننا ،و هي الكلية . و مثال ذلك انتقالنا من هذا الحيوان إلى الحيوان))[45].

            و أقول: قوله هذا غير صحيح في معظمه، و فيه تغليط و تدليس . لأنه أولا لا تصح المقارنة بين القياسين الجزئي و الكلي من حيث الأصل ، لأن ، الأول- الجزئي- هو أصل كل علم و برهان ،و كل موجود ، فلا يُوجد شيء حقيقي في الواقع اسمه كلي ،و إنما كل موجود هو جزئي بذاته . و عليه فإن القياس الجزئي- بأنواعه- هو مصدر كل البراهين يُقدمها لنا جزئية أولا ، ثم نحن الذين نحولها بعد ذلك إلى كليات نظرية في الأذهان لا في الأعيان . و بهذا تكون الكليات هي من نتائج الأقيسة الجزئية ، و ليس العكس ، و من ثم لا تصح المقارنة بينهما تفضيلا و لا تقديما ، و يجب إرجاع الفرع إلى أصله ، و لا يُقطع عنه ،و لا يُفضل عليه .

            علماً بأن أي تفضيل للكلي ، أو أي انتقاد له يعود أصلا إلى القياس الجزئي . و بما انه قياس نسبي يحتمل الصدق و الكذب، و الخطأ و الصواب ، حسب مادته و طريقة تطبيقه ، فإن هذا نفسه ينطبق على فرعه الذي هو القياس الكلي. بمعنى أنه هو أيضا نسبي تحتمل نتائجه الخطأ و الصواب ، و الصدق و الكذب ،و لا يصح تخصيصه باليقين دون غيره من أنواع القياس الجزئي .

            و لا ننسى بأنه كما أن قولنا بوجود قياس أو برهان كلي هو أمر اعتباري في أذهاننا لا وجود حقيقي له في الواقع من جهة ، فهو أيضا في ذاته ليس كليا ، و إنما هو جزئي بذاته و بالنسبة لغيره من جهة أخرى . فالكليات التي حصلنا عليها ، توصلنا إليه بالجزئي ،و هي بذاتها جزئي ، و تعطينا نتائج جزئية ، و هي في مجموعها ذوات جزئية كل منها يُمثل جزءا بذاته .

            و ثانيا إنه ليس صحيحا أن البرهان الكلي أكثر قوة و برهانا لقوة عِليته ، خلاف البرهان الجزئي الضعيف الذي يهتم بالأحوال و الكيفيات. فهذا تدليس و تغليط ، لأن كل حوادث الطبيعة مبنية على العلية ، بغض النظر عن طبيعتها و شكلها . فهذه حقيقة عقلية واقعية علمية ، تشمل كل مظاهر الكون ،و عِللها كثيرة متنوعة ،و لا يصح التفضيل بينها ، فهي كلها عِلل ، فلماذا نفاضل بينها ،و على أي أساس ؟؟!! .

            و بناء على ذلك فأن كل أنواع القياس تقوم على العِلل بغض النظر عن موضوعها ، فقد تكون هذه العلية تتعلق بالحالات ، و أخرى بالكميات ،و أخرى بالكيفيات ، و أخرى بالصفات و غيرها من أنواع العلل . و هذا التنوع ينطبق أيضا على القياس الكلي أيضا ، فقد نجد كلية تتعلق بالشكل ، و أخرى تتعلق بصفة من الصفات . و العِلة التي تكوّن منها الكلي هي في أصلها علة جزئية كوّنها البرهان الجزئي ، ثم نحن نفعّلها و نوظّفها بعلة جزئية ، لنصل إلى نتيجة جزئية بنفس العلة . و مثال ذلك قولنا : كل المعادن تتمدد بالحرارة ،و النحاس معدن ، فهو يتمدد بالحرارة. فهذا القياس الكلي تضمنت مقدمته الكبرى صفة المعدن ،و التمدد ، و الحرارة ،و هي صفات جزئية توصلنا إليها بالتجربة الجزئية للمعادن التي جربناها . و تضمنت مقدمته الصغرى صفة المعدن و نوع منه ، و هي قياس تمثيل جزئي ، و على أساس هذا التمثيل – الذي هو علة أيضا- توصلنا إلى نتيجة جزئية هي أن النحاس يتمدد بالحرارة .
            فواضح من هذا أننا انطلقنا من صفة جزئية هي العلة ، فتوصلنا إلى كلية هي و صفاتها جزئية ، ثم أعطتنا نتيجة جزئية من ذاتها ، ثم عممناها على معدن جزئي آخر على أساس قياس التمثيل بصفة المعدن و التمدد و الحرارة ، فكانت هذه الصفات الجزئية هي علة القياس الجزئي.

            و ثالثا إنه لا يصح القول بأن البرهان الكلي- قياس الشمول- أقوى من البرهان الجزئي ، فالقول به هو خطأ منهجي فادحٍ فاحشٍ . لأن كل أنواع القياس- منها الكلي- نتائجها نسبية ، فيمكن أن تكون يقينية ،و يُمكن أن تكون ظنية من جهة . و قوة البرهان تُستمد أساسا من مادته و صحة استخدام قياسه ، و لا تُستمد من مجرد نوعه و شكله من جهة أخرى . و لتوضيح ذلك أكثر أذكر ثلاثة أمثلة :

            الأول مفاده أنه إذا كنتُ أنا في بيت مُغلق النوافذ و أردتُ أن أعرف أَطلع النهار أم لا ؟
            ، سأفتح النافذة و أرى بعيني ، فإذا كان قد طلع أكون قد رأيت النهار رؤية مباشرة يقينية ، و أكون قد عرفت ذلك بإدراك مباشر لا شك فيه دون مقدمة وسيطة .

            و المثال الثاني مفاده أنه إذا كنتُ أنا في بيت مُحكم الغلق ببابه و نوافذه ،و أردت أن أتأكد هل أنا في الليل ، أو في النهار ؟ ، فلا بد لي من واسطة غير مباشرة لمعرفة ذلك معرفة يقينية . منها عليَّ أن أسعى لأعرف الوقت ، فإذا عرفته بالساعة مثلا و تأكدتُ أنها تُشير إلى الساعة 24 ، فهذا يعني بالضرورة أننا في منتصف الليل و إذا وجدتها تشير إلى الساعة 12 ، فهذا يعني بالضرورة أننا في منتصف النهار . فهنا قد وصلت إلى نتيجتين يقينيتين كل نتيجة بمقدمة واحدة فقط .

            و المثال الأخير – الثالث – يتضمن قياسا شموليا ، مفاده : كل المعادن تتمدد بالحرارة ،و مادة الزنك معدن ، فهو يتمدد بالحرارة . هذه نتيجة صحيحة ، لكن فيها ضعف بالمقارنة إلى النموذجين السابقين من جهتين : الأولى أن النموذج الثالث احتجنا فيه إلى مقدمتين لكي وصلنا إلى نتيجته ، لأن الأول عرفنا نتيجته بإدراك مباشر دون أية واسطة . و الثاني وصلنا إلى نتيجته بمقدمة واحدة بسيطة غير مركبة . و هذا يعني أن النموذج الثالث فيه تطويل وضعف من جهة قوته . و الجهة الثانية مفادها أن النموذج الثالث مقدمته الأولى غير تامة اليقين ، لأنها لا تقوم على استقراء تام لكل المعادن ، لأننا غير مُتأكدين بأننا تعرّفنا على كل معادن العالم ، من المحتمل أنه توجد معادن لا نعرفها من جهة ، و قد توجد معادن لا تتمدد بالحرارة من جهة أخرى . كما أن مقدمة الكلي الكبرى هي مقدمة مركبة و ليست بسيطة كمقدمة النموذج الثاني ،و هذا يُضعفها و يجعلها عرضة للخطأ ،و يُضعف صحتها و يقينيتها من حيث إمكانية أن لا تكون صحيحة بسبب تركيبها . كما أن إلحاق المقدمة الثانية بها ، و استنتاج النتيجة منهما تتطلب جهدا و تدقيقا لضمان صحة العملية . و بما أن هذه العملية غير مضمونة الصواب و عرضة للخطأ ، فهذا يعني أن القياس الصوري فيه نقص و ضعف من جهة مقدمته الثانية و النتيجة . و بما أن هذا الأمر هو نفسه وجدناه في المقدمة الكبرى ، فهذا يعني أن القياس الصوري كله فيه ضعف ذاتي ، يحول دون أن تكون نتائجه صحيحة و يقينية دائما من جهة ،و لا تجعله أقوى و لا أدق و لا أهم و لا أولى من الأقيسة الأخرى من جهة ثانية . و لهذا توسع فيه السفاسطة لأنه- بتركيبه و ضعفه الداخلي- ساعدهم كثيرا في مغالطاتهم و تدليساتهم ، كأن يقول أحدهم : كل عين تُبصر ،و للماء عين ، فالماء يُبصر . فهذا قياس صوري صحيح شكلا و باطل مضمونا .

            و بذلك يتبن أن القياس الصوري- الشمولي – حسب النموذج الثالث- أقل قوة و برهانا من النموذجين الأول و الثاني ،و هذا خلاف ما زعمه أرسطو ، الذي عظّم القياس الصوري ، و قزّم القياس الجزئي . لكن الذي نريد أن نؤكد عليه هنا هو أن يقينية النتائج لا ترتبط بالضرورة بنوع قياسها و إنما ترتبط أساسا بمادتها و صحة استخدام قياسها . و هذا الذي نسيه أرسطو أو تناسها لغاية في نفسه .

            و رابعا إن قوله بأن البرهان الكلي هو معقول ،و أن الجزئي فيؤول أمره إلى الحِس ، فهو غير صحيح ، و فيه تغليط و تدليس على القراء . لأن كل ما يتوصل إليه الإنسان من نتائج من داخله و من محيطه و العالم كله ، و سواء كانت نتائج جزئية أو كليه ، فكل ذلك يصبح أمرا نظريا مجردا معقولا من جهة ،و ينتهي بالضرورة إلى الحِس من جهة أخرى . و هذه حقيقة ثابتة عقلا و واقعا و علما ، رغم انف أرسطو الذي ثبُت لدينا أنه كثير التدليس و السفسطة عندما يُفرر أمورا مُخالفة للواقع الملموس ،و قد ذكرنا على ذلك أمثلة كثيرة جدا فيما مضى من فصول هذا الكتاب.

            و نسي أرسطو أو تناسى أن البرهان الكلي أصله من الواقع المادي وصلنا إليه بالقياس الجزئي ، كما وصلنا إلى النتائج الجزئية الأخرى . فلماذا تصبح الكلية معقولة لا تؤول إلى الحِس ،و تصبح الجزئية معقولة لكنها تؤول إلى الجزئي ؟؟!! . هذا الرجل يفرض علينا رغباته و خلفياته المذهبية ، كما فرضها علينا في الإلهيات و الطبيعيات ، من دون أي دليل صحيح . فهو مُتمسك بمنهجه الذاتي التسلطي يستخدمه عندما يحتاج إليه ، حتى و إن خالف العقل الصريح، و العلم الصحيح . و هذا منهج باطل مرفوض مردود عليه ، ليس من البحث العلمي الموضوعي في شيء . و نحن لا نترك حقائق العقل و العلم و نتابع أرسطو في أوهامه و رغباته و تحكماته ، فهي فوقه و فوق جميع الناس .

            و خامسا إن الكلي الذي في أذهاننا ليس له في الواقع وجود كلي ،و إنما له وجود جزئي تُقابله فكرة كلية في الذهن متضمنة للجزئي من جهة. كما أن الجزئي في الواقع تقابله أيضا فكرة معنوية في الذهن تُعبر عنه من جهة أخرى . فالأصل الصحيح هنا هو للجزئي الذي هو جزئي في الأعيان و الأذهان ، لكن الكلي ليس له أصل كلي صحيح يُقابله في الواقع ، و هذا يعني بالضرورة أنه-أي الكلي- تابع للجزئي لا أنه هو المتبوع .

            و ليس صحيحا أن الكلي لا يتجزأ في أذهاننا ، فهذا كلام فيه تغليط ، لأننا عندما نتصور فكرة الحيوان بمعناها الواسع ، فإننا نُجزئها أيضا ، فنميز بين الكائنات المائية و نتصور أهم خصائصها ،و الكائنات البرمائية و نستحضر أهم مميزاتها . و نفرّق بين البرية الزاحفة و غير الزاحفة و نتصور أهم خصائصها ، و بين الطيور الطائرة و غير الطائرة و نستحضر أهم صفاتها ، و بين الحيوانات المجترة و غير المجترة ، و هكذا . و هذا الأمر ينطبق حتى على الحيوان الواحد عندما نُفرّق بين ذكوره و إناثه ، لكنه يتوقف عند الحيوان الواحد كذكر أو أنثى كالنعجة مثلا . و هذا أمر لا تتميز به الفكرة الكلية ، فهي يُمكن تفكيكها لإرجاعها إلى أصلها ، و من ثم تفقد كليتها . فكل نتيجة جزئية في دماغنا هي أمر معقول مُستنتج من الواقع ، هي بذاتها تمثل فكرة كلية خاصة بحيوان واحد ،و هي أيضا فكرة كلية تمثل جنسا من أجناس الحيوان . فكل ما في دماغنا هو معقول جزئي من جهة ،و كلي من جهة ثانية ،و الوجهان يُمثلان جزئية واحدة من جهة ثالثة .

            و النموذج الثالث مفاده أن القياس الصوري عند أرسطو هو قياس تام ليس ناقصا ، و يرى أن (( كل برهان ،و كل قياس يتقدم ابتداء من ثلاثة حدود فقط . و هذا بّين بذاته ، فمن الواضح أن النتيجة القياسية تنتج من مقدمتين ،و ليس أكثر من ذلك . لأن الحدود الثلاثة تُؤلف مقدمتين إذا لم نفترض مقدمة جديدة )) . و هذه الحدود هي : حد أكبر يتمثل في المقدمة الكبرى . و حد أصغر يتمثل في المقدمة الصغرى . و حد أوسط يتمثل في العلاقة بين المقدمتين و ما ينتج عنهما[46] .

            و أقول : ليس صحيحا أن النتيجة البرهانية أو القياسية لا تنتج إلا بمقدمتين ،و ليس أكثر من ذلك . فهذا حكم كلي غير صحيح ، و الصواب هو أننا قد نحصل على نتيجة برهانية صحيحة بمقدمة واحدة ، أو اثنين ، أو ثلاث ، أو أكثر من ذلك ، و نفس الأمر ينطبق على عدد الحدود ، لأنها تابعة لعدد المقدمات . و يمكن ذكر أمثلة لإثبات ذلك ، منها أمثلة تُعطينا نتائج يقينية- و ليس نتيجة فقط- من مقدمة واحدة ، كقولنا : إن غروب الشمس نهائيا يستلزم دخول صلاة المغرب ، و ذهاب ضوء النهار ، و مجيء الليل . و قولنا : ظهور الشمس صباحا يستلزم انتهاء وقت صلاة الفجر ،و ذهاب الليل ،و مجيء النهار . و قولنا : سقوط المطر الكثيف نهارا يستلزم وجود السحاب في السماء و رؤيته ، و اختفاء ضوء الشمس ، و تبليل الأرض .

            و منها أيضا مثال يتطلب أكثر من مقدمتين ، يتعلق بعملية بيع قطعة أرض بطريقة صحيحة يمتلكها خمسة أشخاص . هذه العملية لن تتم إلا بتوفر ست مقدمات تتمثل في : رضا المالك الأول ، و المالك الثاني ، و المالك الثالث ، و المالك الرابع ، و المالك الخامس ،و رضا المشتري الذي يمثل المقدمة السادسة .

            و مثال آخر أيضا ، يتعلق بنتيجة فوز أحد المرشحين في انتخابات رئاسية تمت بطريقة صحيحة نزيهة . فهي نتيجة واحدة صحيحة ، لكنها تتطلب آلاف أو ملايين المقدمات لتحقيقها واقعيا على مستوى التنظيم ،و الأمن ، و التصويت .

            و مثل هذه النماذج من النتائج الصحيحة المتعددة المقدمات و الحدود –أكثر من اثنين- توجد بكثرة في مجال قوانين القضاء و العمل و الترقية، لأنها مبنية على عدة قوانين و تشريعات مُعدلة و مُتممة ، يستخدمها المختصون في الوصول إلى النتائج الصحيحة . فتجد أحدهم لا يصل إلى نتيجة نهائية إلا بعد أن يذكر عدة مقدمات بقوله مثلا : و بمقتضى الأمر رقم كذا ، و بمقتضى المرسوم الرئاسي رقم كذا ، و بمقتضى المرسوم التنفيذي رقم ، و بمقتضى المرسوم المُعدل رقم ، و بناء على المقرر رقم ، و بناء على المستخرج رقم ، و بناء على القرار رقم ، ثم يقول : يُقرر أن فلان ... .

            علماً بأن هناك قضايا و حوادث كثيرة معقدة لا يمكن الوصول فيها إلى نتائج صحيحة يقينية إلا بتوفر عشرات من المقدمات الشائكة و المتداخلة . كما أنه توجد نتائج كثيرة لا تتحقق في الواقع يقينا إلا بتوفر أكثر من مقدمتين ، فإذا تحققت استلزم هذا تحقق مقدماتها كلها . من ذلك إذا وصل محصول زراعي ما إلى سوق الجملة مثلا ، فهذا يستلزم توفر مقدمات ضرورية ، منها وجود الفلاح ، و توفر البذور ، و تهيئة الأرض ، و القيام بعملة البذر ، و العناية بالمحصول ،و قطف الثمار ، ثم نقل المحصول إلى السوق.

            و من ذلك أيضا أنه إذا قام إنسان ما بالصلاة الإسلامية بصدق و إخلاص ، فهذا يستلزم توفر أربع مقدمات ضرورية ، هي: الإيمان بدين الإسلام ، الطهارة من الحدث الأكبر ، و صبغ الوضوء ، و القيام بأركان الصلاة . فهذه النتيجة الصحيحة لا تتم إلا إذا توفرت مقدماتها الأربع من جهة ، و إذا توفرت مقدماتها تحققت النتيجة في الواقع من جهة أخرى.

            و النموذج الرابع يتعلق بغلو أرسطو في قياسه الصوري ، و ذلك أنه عندما أشار إلى اختلاف أهل العلم حول كيفية حصول العلم بالبرهان ، و ذكر رأيا يقول : إن العلم بالبرهان فقط . عقّب على ذلك بقوله : (( و أما نحن فنقول : إن ليس كل علم فهو برهانا ، لكن العلم من غير توسط هو غير مُبرهن )) . و نص أيضا على أن (( العلم يكون على طريق الكلي ،و بأشياء ضرورية ))[47] .

            و أقول: أولا إن قوله هذا فيه حق و باطل من جهة ،و فيه غلو و خطأ فاحش من جهة أخرى . و تفصيل ذلك هو أنه لا علم دون برهان صحيح ، و لا برهان صحيح دون علم . لكن طريق البرهان ليس واحدا ، فطرقه الصحيحة الموصلة إليه ليست محصورة في القياس الصوري ،و لا في غيره من الأقيسة ،و إنما هي متعددة شريطة أن تكون طرقا صحيحة . منها البرهان القائم على البديهة العقلية و الوجدانية التي يحسها الإنسان من داخله ، فالإنسان يحصل على معلومات و حقائق من ذاته تحمل بنفسها برهان صدقها ؛ و كل إنسان يحس بها ،و ليست خاصة بإنسان دون آخر . منها معرفتنا باستحالة اجتماع النقيضين في نفس الزمان و المكان ،و أن لكل مخلوق خالق ، و منها إحساسنا بالجوع و الشبع ، و العطش و الارتواء .

            و منها البرهان القائم على المعرفة المباشرة لمظاهر الطبيعة بواسطة الحواس ، كإدراكنا للشمس و الليل ،و التراب ،و القمر . فرؤيتنا المباشرة لمظاهر الطبيعة هي برهان قطعي لا شك فيه.
            و منها البرهان الذي يحتاج إلى وسيط فأكثر لنصل إليه و نتأكد منه ، فقد نحتاج إلى مقدمة واحدة كوسيط يوصلنا إلى البرهان الصحيح ، و قد نحتاج إلى مقدمتين أو إلى أربع ، أو إلى أكثر من ذلك[48] . و إذا كانت هذه المقدمات الوسيطة- مهما تعددت- صحيحة و تمت بطريقة سليمة فإنها توصل إلى العلم ،و تُعد برهانا .

            و ثانيا لا يصح قوله : (( إن ليس كل علم فهو برهانا )) ، لأنه إذا ثبت أمر ما أنه علم صحيح – بغض النظر عن طريقة تحصيله- فهو برهان قطعا ،و ليس فيه ما هو برهان و غير برهان . لأنه لو لم يكن برهانا ما كان علما ،و بما أنه علم فهو برهان قطعا. و سبب ذلك هو أن العلم يعني الحقيقة ، و الحقيقة برهان بذاتها . لأنها لم تصبح كذلك إلا بعدما قام الدليل على صدقها ، فأصبت بذلك برهانا بنفسها .

            و أما قوله : (( لكن العلم من غير توسط هو غير مُبرهن )) ، فواضح منه أنه حصر العلم المُبرهن في الذي نحصل عليه من طريق القياس الصوري الأرسطي الذي يتم بالحد الأكبر و الأصغر و الأوسط الذي يتوسطهما ،و نفى عن العلم الذي لا يتم بذلك أن يكون علما مُبرهنا. و هذا زعم باطل بلا شك ، لأن بما أنه لا علم دون برهان كما سبق أن بيناه ، فإن كل علم هو مُبرهن بالضرورة ، و إن اختلفت طرق و درجة برهنته . و القياس الصوري الذي فضله أرسطو ، سبق أن بينا أنه كغيره من الأقيسة يحتمل الخطأ و الصواب ،و الصدق و الكذب . فهو نسبي كغيره من الأقيسة الأخرى ، و هناك أقيسة قد تكون أقوى منه بكثير ، كما في حالات الأقيسة الجزئية المباشرة ،و التامة[49] .

            و ثالثا إنه ليس صحيحا أن العلم يكون بطرق الكلي ،و إنما الصحيح أن العلم اليقيني يمكن أن يحصل بكل أنواع القياس و الإدراكات المتنوعة ، منها القياس الكلي إذا تم بطريقة صحيحة ،و إلا لا نحصل على أي علم منه . لكن يجب أن لا يغيب عنا أن القياس الكلي ليس هو الأصل في العلم ، لأن أصل العلم هو القياس الجزئي ، و لولاه ما تحصلنا على القياس الكلي. و بما أننا تحصلنا على العلم الكلي بالعلم الجزئي ، فهذا يعني أن العلم حصل بالجزئي أولا ، و هو الذي أوجد الكلي ثانيا ، و أن العلم الجزئي لا يتوقف الحصول عليه على معرفة الكلي ، لكن معرفة الكلي تتطلب أولا وجود و معرفة العلم الجزئي .

            و النموذج الخامس يتعلق بالفرق بين القياس الصوري الأرسطي و القياس الصوري السفسطائي ، و مفاده أن أرسطو فرّق بين قياسه الصوري- الشمولي- الذي هو عنده برهاني يقيني، و بين القياس الصوري السفسطائي فوصفه بأنه قياس تبكيتي تضليلي يتضمن مناقضة النتيجة ، يستخدمه السفاسطة لأسباب كثيرة ، كالمفاخرة ، لذلك كان مذهبهم (( حكمة مُخايلة ببرهان مُخايل )) ،و حكمة مظنونة قياسها فاسد . و هو خلاف القياس الحقيقي-الصوري- الذي يتولد من مقدمات بالضرورة . ثم وصف أقيسة السفاسطة بأنها (( مُضلات و ليست تبكيتات ))[50] .

            و أقول : إن قوله هذا فيه تغليط و تحامل كبير على قياس السفاسطة ، و تجاهل لجانبه الصحيح . لأنه أولا لا فرق بين القياس الصوري الأرسطي و الصوري الُسفسطائي من الناحية الشكلية ، فكلاهما يتكون من مقدمتين و نتيجة ، و يحتمل الخطأ و الصواب حسب مادته و طريقة تطبيقه . و عليه فلا يصح إبعاد قياس السفاسطة من القياس الصوري . و بما أنهم-أي السفاسطة – كانوا يعدون الجدل منطقا شاملا لمنهج البحث و الاستدلال ، و قد تخصصوا فيه و مارسوه بكثرة[51] ، فهم بالضرورة قد برعوا في كل أنواع الأقيسة ، منها القياس الصوري الذي ذكره أرسطو باسم قياس التبكيت. و التبكيت لغة يعني الغلبة بالحجة[52] ، فهي غلبة دامغة داحضة مُسكتة للخصم .

            و ثانيا إن أرسطو وجه انتقاده للقياس الصوري السفسطائي من جهتين : الأولى تخص القياس نفسه بأنه مناقض للنتيجة ، فهو قياس غير حقيقي كقياسه الأرسطي المتولد من مقدمات بالضرورة . و هذا انتقاد غير صحيح على إطلاقه ،و ليس لازما ، و هو انتقاد ذاتي أكثر مما هو موضوعي . لأن قياسهم مثل قياسه إذا صحت المقدمتان و الاستنتاج كانت النتيجة يقينية بالضرورة في القياسين ، و إلا ليست كذلك . و لا يُوجد أي مانع يمنعهم من أن يجعلوا لقياسهم الصوري مقدمتين صحيحتين ، فتكون له نتيجة صحيحة يقينية . و لماذا يكون قياسهم فاسدا مناقضا للنتيجة و لا يكون قياسه مثل قياسهم ؟ و لماذا قياسهم ظني دائما ،و قياسه قطعي دوما ؟؟!! . و بناء على ذلك فلا يصح نقد أرسطو الموجه لقياسهم ، فهو نقد ذاتي احتكر اليقين لنفسه و سلبه عن مخالفيه من دون أي دليل صحيح من العقل و لا من العلم .
            و الجهة الثانية تتعلق بنية السفاسطة في استخدامهم لقياسهم الصوري ، فواضح من كلام أرسطو أنه اتهمهم في نواياهم ، بدعوى أنهم يُريدون من قياسهم تحقيق مصالحهم الدنيوية باستخدام الأقيسة الفاسدة و المتناقضة حتى أنه سماها مُضلات و حكمة مظنونة مُخايلة. و هذا أيضا انتقاد لا يصح أن يكون دليلا على عدم صحة قياسهم من جهة ، و يُمكن توجيه نفس النقد لأرسطو و اتهامه في نيته كما اتهمهم هو من جهة أخرى . و أليس في السفاسطة من كان صادقا طالبا للحق ، ألا يُوجد فيهم من كان طالبا لذلك ؟ ، و هل أرسطو فقط هو الطالب للحقيقة ؟؟!! . و ألم نُقم الأدلة الدامغة على أن أرسطو كان يتعمد الكلام بلا علم ، و أنه اتخذ مواقف خاطئة حِفاظا على مصالحه الدنيوية على حساب حقائق العقل و العلم[53] ؟؟!!.

            و تفصيل ذلك هو أن النية لا تجعل بالضرورة قياسهم خاطئا ،و قياسه صحيحا . لأن الأمر يتعلق أساسا بالمادة التي يحملها القياس و طريقة تطبيقه . فقد تكون نية السفسطائي سيئة لكن قياسه الصوري صحيح ، لأن مصلحته تطلبت منه أن يستخدمه بطريقة صحيحة . و قد تكون نيته حسنة لكن قياسه الصوري غير صحيح ، لأنه أخطأ في تطبيقه . و قد يُوجد في السفاسطة من كان يطلب الحق لسبب أو لآخر ، فهل هذا يعني أن قياسه الصوري غير صحيح أيضا ؟؟!! . لذا لا يصح أبدا الحكم على مذهب السفاسطة بأنه حكمة مظنونة ببرهان مُخايل . فهذا كلام غير علمي و لا يصح قوله . لأن كلام هؤلاء ككلام غيرهم يحتمل الخطأ و الصواب ، صوابه صحيح ،و خطؤه غير صحيح . و الذي أُريد قوله هنا : هو أن أرسطو أخطأ عندما أصدر حكما عاما على قياس السفاسطة بأنه فاسد و مناقض للنتيجة خلاف قياسه الصوري الذي زعم أنه يقيني دوما . فهذا لا يصح قوله حتى مع اتهام السفاسطة في نواياهم ، فما بالك بالنسبة للموضوعيين الصادقين منهم ، فهل قياسهم كقياس المُتهمين منهم ؟؟ !! .

            و ثالثا إن الراجح عندي أن أرسطو- في انتقاده للقياس الصوري السفسطائي- كان يسعى إلى تحقيق مكسب ذاتي مذهبي ، يتمثل في الاستحواذ على هذا القياس ليصبح تابعا له معروفا به ، و كأنه هو مكتشفه و مُنظره . و هذا قد تحقق له فعلا ، فأصبح المنطق الصوري تابعا له ،و يُسمى أيضا بالأرسطي . و الدليل على صحة موقفي هذا يتمثل في الشواهد الآتية :

            أولها إن أرسطو أصدر حكما عاما على قياس السفاسطة الصوري بأنه فاسد مناقض للنتيجة ،و هذا مع أنه حكم غير صحيح ، أراد منه أرسطو إقصاء قياسهم كلية و إدانته و إعدامه .

            و الشاهد الثاني مفاده أن السفاسطة كانوا يسمون قياسهم تبكيتا ، بمعنى أنه قياس يقيني قطعي دامغ ، و هذه صفة مدح لا ذم من جهة ،و أنهم كانوا يطلبون منه الحقيقة من جهة أخرى . فجاء أرسطو و اتهمهم في نواياهم كلهم ، و طعن قي قياساتهم التبكيتية و قزّمها ، حتى أنه وصفها بأنها(( مُضلات و ليست تبكيتات )) . فهذا يعني أنه كان يحس بأن عبارة : التبكيت هي مدح لقياسهم من جهة و تُشير إلى أنهم يطلبون به أيضا اليقين و الحقيقة من جهة أخرى . و هذا لم يُعجبه ، لأن اليقين – حسب زعمه- خاص بقياسه الصوري فقط ، فأدى به هذا إلى الطعن فيهم و في قياسهم !! .

            و الشاهد الأخير- الثالث- مفاده أن أرسطو طَبّق مع السفاسطة – لاستحواذه على القياس الصوري- نفس الطريقة التي طبقها مع القياس الصوري الأفلاطوني . فمن الثابت أن أفلاطون ركز كثيرا على القياس الصوري ضمن ما يُعرف بالقسمة الأفلاطونية[54] ، فجاء أرسطو و أخذه منه و تظاهر بأنه أضاف إليه أمرا هاما ميز قياسه عن قياس شيخه ، هو الحد الأوسط ، مع أن هذا الحد ليس كشفا جديدا ، و إنما كان معروفا مُتمثلا في نتيجة المقدمتين . و حتى إذا جعلناه كذلك فهو لا يُقدم و لا يُؤخر في عملية القياس ، فهي تتم سواء أضفناه من الناحية اللفظية أم لم نضفه ، فإذا كانت العلاقة صحيحة تحصلنا على نتيجة صحيحة ،و يحدث العكس إذا لم تكن العلاقة صحيحة ، فالحد الأوسط موجود في الحالتين بالضرورة سواء أشرنا إليه أم لم نشر إليه ، و سواء أهتمينا أم لم نهتم به . لكن أرسطو جعل فعله كشفا و مبررا ليستحوذ على القياس الصوري ،و سماه القياس البرهاني ، تمييزا له عن القياس الصوري السفسطائي و الأفلاطوني .

            و من تلك النماذج يتبين أن أرسطو أخطأ أخطاء و انحرافات منهجية فاحشة تتعلق بموقفه من القياس الصوري الأرسطي و غلّوه فيه من جهة ، و تتعلق أيضا بموقفه من القياس الصوري عند السفاسطة و سقراط و أفلاطون من جهة أحرى . بيّنت الشواهد و القرائن على أنه اتخذ تلك المواقف لتحقيق مكسب مذهبي يُمكنه من الاستحواذ على القياس الصوري ،و إبعاد من سبقه إليه و نافسه فيه . و تبين منها أيضا أن أرسطو لم يكن موفقا في معظمها ، و قد تضمنت أكثر من 16 خطأً و انحرافا منهجيا .
            _________________________________
            [1] ماجد فخري: أرسطو ، ص: 29 .

            [2] أرسطو : منطق أرسطو ، ص:385، 507 ، 734 ، 767 . و ماهر عبد القادر محمد علي: المنطق و مناهج البحث ، ص: 1985 ، ص: 17 ، 18 ، 144 ، 145 .

            [3] مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ص : 148 .

            [4] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 71، 72 .

            [5] محمد فتحي عبد الله : الجدل بين أرسطو و كانط ، ط1 ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ، 1995 ، ص: 14 .

            [6] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 94 .

            [7] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 385 ، 507 .

            [8] ماجد فخري : أرسطو : المعلم الأول ، ص: 77 .

            [9] هو صاحب مقولة : لا علم إلا بالكلي )) . مصطفى النشار ، نظرية المعرفة عند أرسطو ، ص: 33 .

            [10] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص : 29 . و مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ص: 51 .

            [11] محمد وادفل : خُصوصيات الجدل الرواقي ، ص: 80 .

            [12] أرسطو : منطق أرسطو ، تحقيق عبد الرحمن بدوي ، ص: 492 .

            [13] محمد وادفل : : خُصوصيات الجدل الرواقي ، مجلة دراسات ، 2010 ، ص: 78 .

            [14] مختصر ترجمة مشاهير الفلاسفة ، ص: 79 ، 115 .

            [15] مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ص: 49 .

            [16] مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، ج 1 ص: 202، 206 ، 211 . و مصطفى غالب : فيثاغورس ، دار مكتبة الهلال ، بيروت ، 1987 ، ص: 82 .

            [17] محمد فتحي عبد الله : الجدل بين أرسطو و كانت ، ص: 11 .

            [18] فؤاد الأهواني : المدارس الفلسفية ، ص: 61 .

            [19] ينتمي هؤلاء إلى زينون الرُّواقي (335 ؟ - 265 ؟ ق.م ). مؤسِّس الفلسفة الرواقية في أثينا. ولد زينون في مدينة سيشيوم بجزيرة قبرص. ويُذكر أنه كان في الأصل تاجراً، لكن تجارته تدهورت كما أنه فقد كل ممتلكاته ورحل إلى أثينا في عام 314 ق.م. ومكث زينون هناك حيث درس الفلسفة وكان يلتقي بتلامــــذته فــي رواق، وهو الاسم الذي اشتُق منه اسم المذهب الرواقي. انظر: الفلسفة الرواقية. الموسوعة العربية العالمية ، مادة : زينون الرواقي .


            [20] محمد وادفل : نفس المرجع ، ص: 79 .

            [21] س ، بريو شنكين : أسرار الفيزياء الفلكية و الميثولوجيات القديمة ، ترجمة حسان ميخائيل إسحاق ، ط 1 ، دار علاء الدين ، دمشق ،2006 ، ص: 212 ،215 .

            [22] محمد فتحي عبد الله : الجدل بين أرسطو و كانط ، ط1 ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ، 1995 ، ص: 14 .

            [23] نفس المرجع ، ص: 80 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 84 ، 94 .

            [24] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 84 .

            [25] مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، ج 2 ص: 195 . و نظرية العلم الأرسطية ، ص: 49 .

            [26] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 77 ، 94 .

            [27] روبير بلانشي : المنطق و تاريخه ، ترجمة خليل أحمد خليل ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، ص: 29 .

            [28] س ، بريو شنكين : أسرار الفيزياء الفلكية و الميثولوجيات القديمة ، ترجمة حسان ميخائيل إسحاق ، ط 1 ، دار علاء الدين ، دمشق ،2006 ، ص: 212 ،215 .

            [29] سبق توثيق ذلك ،و ذكرنا الشواهد على الترجيح الذي أخذنا به .

            [30] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 888 .

            [31] أرسطو : منطق أرسطو ، تحقيق عبد الرحمن بدوي ، ص: 492 .

            [32] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 902 .

            [33] أنظر: ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 54 ، 55 ، 56 . عبد الرحمن بدوي: ربيع الفكر اليوناني ، ص: 176، 177، 178 ، 179 .

            [34] أرسطو : منطق أرسطو ، تحقيق عبد الرحمن بدوي ، ص: 767 .

            [35] ماجد فخري : أرسطو : المعلم الأول ، ص: 29 .

            [36] مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ص: 51 . و محمد فتحي عبد الله : الجدل بين أرسطو و كانط ، ص: 129 .

            [37] ماهر عبد القادر محمد علي : المنطق و مناهج البحث ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1985 ، ص: 31 .

            [38] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 66 ، 67 .

            [39] فؤاد الأهواني : المدارس الفلسفية ، ص: 39 . و مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، ص: 132 .

            [40] مصطفى النشار: نظرية المعرفة عند أرسطو ، ص: 33 .

            [41] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 96 .

            [42] محمد وادفل : خُصوصيات الجدل الرواقي ، ص: 80 . و إميل برهيبة : تاريخ الفلسفة : الفلسفة اليونانية ، ترجمة جورج طرابيشي ، ط2 ، دار الطليعة ، بيروت ، 1987 ، ج 1 ص: 221 .

            [43] محمد ثابت الفندي: أصول المنطق الرياضي ، ط1 ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1972 ، ص: 70 .

            [44] أرسطو : منطق أرسطو ، حققه عبد الرحمن بدوي ، ص: 734 و ما بعدها .

            [45] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 404، 407، 408، 409 ، 110 ، 484 .

            [46] ماهر عبد القادر علي : المنطق و مناهج البحث ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1985 ، ص: 17 ، 18 .

            [47] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 338 ، 351، 422 .

            [48] ذكرنا في هذا المبحث أمثلة على ذلك فلا نعيدها هنا .

            [49] سبق أن توسعنا في ذلك ، فلا نعيده هنا .

            [50] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 778 ، 883 ، 884 .

            [51] عن ذلك أنظر ما كتبناه عن الجدل من هذا المبحث .

            [52] علي بن هادية : القاموس الجديد للطلاب ، ط 7 ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر ، 1991 ، ص: 155 .

            [53] سبق أن ذكرنا من ذلك أمثلة كثير في مواقفه المتعلقة بالطبيعيات ،و في موقفه من الرق و الأسكندر المقدوني .

            [54] أشرنا إليها في هذا المبحث .
            أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
            الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
            كتب وورد
            هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
            للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

            تعليق

            • باحث سلفى
              =-=-=-=-=-=

              حارس من حراس العقيدة
              • 13 فبر, 2007
              • 5183
              • مسلم (نهج السلف)

              #21
              رابعا : آراء و ردود حول عمل أرسطو في المنطق و أهميته:

              نبدأ هذا المبحث أولا بذكر طائفة من آراء أهل العلم حول عمل أرسطو في المنطق و أهميته ، ثم نثني بطرح تساؤلات هادفة تتعلق بنفس الموضوع ، نجيب عليها بتركيز مختصر.

              فبالنسبة للآراء فأولها لأرسطو ، إنه يرى أن منطقه الصوري هو آله ينبغي على الناظر أن يستخدمها في أي صنف من أصناف الوجود ليدرك الحق فيه . فهو (( الأداة الضرورية لكل بحث نظري، فواجب أن يتقدم البحث فيه سائر العلوم ، لأنه يبحث في شروط القياس الصحيح ،و في المعارف البرهانية التي يطلبها صاحب كل علم أصيل )) [1]. و جعل منطقه مدخلا للعلوم ، و أوجب تعلمه قبل الاقتراب من دراسة أي علم نظري[2] .

              و أقول: أولا قوله هذا كلام غير علمي ،و هو من مجازفاته ، فالرجل لا ينسى مبالغاته و مجازفاته و التعمد في الغلو و إغفال حقائق التاريخ و الواقع و بديهيات العقول . و الحقيقة هي أن منطقه هذا لا نحتاج إليه في بداية طلب العلم ،و لا في وسطه ، و لا في نهايته . و تفصيل ذلك هو أنه لا يُوجد أي مبرر عقلي يجعل الأخذ بمنطقه أمرا ضروريا لازما ،و إنما قوله هذا هو زعم ،و الزعم ليس دليلا ،و لا يعجز عنه أحد . فأي إنسان يريد طلب أي علم لا يجد أي أمر يُلزمه بطلب منطق أرسطو أولا و لا آخرا ،و هذا مُجرب و مُشاهد لا يحتاج إلى دليل لإثباته .

              و ثانيا إن ظهور العلوم لا يتوقف أبدا على معرفة منطق اليونان و لا على الأخذ بالمنطق الصوري . لأن الجانب النظري من منهج البحث و الاستدلال ليس ضروريا لظهور العلوم و تطوّرها ،و إنما يكفي فيها أولا الالتزام فيها بمناهجها العملية التي تتفق معها في الجانب التطبيقي.و التاريخ يشهد على ذلك ، فالعلوم ظهرت و تطورت في بلاد مصر و العراق ،و الهند و الصين و غيرها ، قبل أن تظهر الحضارة اليونانية ، ثم عندما ظهرت تطوّرت فيها العلوم قبل أن يظهر أرسطو و قبل أن يضع منطقه الصوري . فلا أهل العلم احتاجوا إلى منطقه ،و لا العلوم كانت مضطرة للرجوع إليه . و كلامنا هذا ثابت متواتر صحيح ،و يشهد به أيضا واقعنا المعاصر ، فالعلوم كلها مَزدهرة بمناهجها و تطبيقاتها و لا احتاجت أبدا إلى تعود إلى المنطق الصوري لكي تتعلم منه مناهج التفكير و البحث العلمي.

              و ثالثا إن الجانب النظري الأساسي الضروري في البحث العلمي لا يتوقف على معرفة منطق اليونان ، و لا منطق أرسطو ، لأنه يعمل فينا فطريا طبيعيا . فعقلنا يُمارس كل أنواع القياس و التحليل و الاستنباط ، من دون أية حاجة منا بأن نتعلم المنطق الصوري المزعوم . بل إن الاشتغال به يضرنا كثيرا ، فيضيع أوقاتنا ،و يُكسر رؤوسنا ، و يُعيق تفكيرنا ، و يُذهب جهودنا سدى ، من أجل شيء لا طائل منه ،و إذا حصل لنا منه شيء قليل فيمكن الاستغناء عنه كلية ، لأنه يعمل فينا بطريقة فطرية .

              و رابعا إن الرجل مُغالط في تعظيم قياسه و معارفه البرهانية المزعومة ،و قد سبق أن بينا أن الرجل أهمل الأقيسة الصحيحة ، و اهتم بقياس عقيم أخّر العلم أكثر مما قدمه ، و تلك المعارف البرهانية ليست من إنتاج قياسه الصوري ،و إنما هي من إنتاج الأقيسة الجزئية أساسا . بل هو نفسه ثمرة لها . فالرجل ترك الأصل و تمسك بالفرع ، ثم قلب الوضع بالمعكوس .

              و خامسا لا أدري هل هذا الرجل يعي ما يقول أم لا ، أو أنه يتعمد قول ذلك لغاية في نفسه ؟؟!! . لأنه لا يصح القول بذلك الزعم لمخالفته للعقل و العلم معا . فلو تدبر في نفسه لعلم بطلان زعمه بالضرورة ، فهو قد تعلم علوما كثيرة قبل أن يتكلم في منطقه الصوري،و قبل أن يجعله ضروريا لكل العلوم . فكيف استطاع تحقيق ذلك قبل أن يظهر منطقه و يُدوّنه ، بل إن منطقه هذا جاء ثمرة لعلمه ،و ليس العكس في الأساس .

              و سادسا إن قوله – بما فيه من غلو و تعميم و حتمية- يستلزم أنه لا علم دون منطقه الصوري . و هذه كلية باطلة ينقضها العقل و العلم و حال أرسطو نفسه ، و قد سبق بيان ذلك . كما أنه يستلزم أن الله تعالى خلق الإنسان و زوّده بكل القدرات ليعيش في هذه الأرض ، لكنه خلقه ناقص العقل لا يعرف مناهج التفكير و البحث و الاستدلال ، و تركه يتخبط في جهله قرونا من الزمن . فلما جاء أرسطو إلى الوجود اكتشف ذلك المنطق بجهله الذي خلقه الله عليه ، فعلّم به نفسه -مع أنه كان قد تعلم قبل اكتشافه – و دعا الناس إلى تعلّمه . فهو المعلم الذي خصه الله بذلك الكشف لينقذ البشرية من جهلها !! . و هذه النتائج كلها أباطيل و أوهام جرنا إليها زعمه السابق ، الذي هو جهل و غرور ،و تغليط و تدليس .

              و الرأي الثاني مفاده أنه ربما يقول بعض أهل العلم: بما أن العلم بمنطق الاستدلال الجزئي و الكلي ضروري في العلم و عليه تقوم العلوم ؛ فإن هذا يتطلب منا معرفة المنطقيّن الصوري و التجريبي .

              و أقول : يجب التفريق بين أمرين مهمين : الأول يتعلق بالجانب التنظيري ،و الثاني يتعلق بالجانب التطبيقي . و الثاني هو الضروري في العلم ، لأنه يتطلب استخدام المنهج المناسب لكل علم ، و هو يفرض منهجه بالقوة ،و من يُخالفه ينحرف بالضرورة عنه . و أما الأول فوجود العلوم لا يتوقف على العلم بذلك الجانب التنظيري . و لهذا ظهرت العلوم و تطورت و أنتجت تطبيقاتها في الواقع قبل أن يظهر منطق الاستدلال كعلم نظري ، مع أنه كان مُمارسا في الواقع بالضرورة . و إلى يومنا هذا كثير من العلماء التجريبيين يُمارسون مناهجهم التجريبية دون معرفة نظرية بمنطق استدلالها من جهة . و أن كثيرا من أهل العلم المهتمين بالمنطق و مناهج البحث و الاستدلال ، يُتقنون ذلك نظريا ، لكنهم يجهلونه عملياً من جهة أخرى . فالعلوم يجب أن تقوم على مناهجها مُمارسة ، لكن لا يتطلب قيامها المعرفة النظرية بمناهجها .

              و الرأي الثالث مضمونه أنه ربما يقول بعض أهل العلم : إن حاجتنا إلى المنطق الصوري مثل حاجتنا إلى تعلم قواعد اللغة من نحو و صرف و إملاء ، فهو إذن ضروري لنا كضرورة تعلّمنا لقواعد اللغة . لذا يجب علينا تعلمه ،و لا يصح ذمه و هجره .

              و أقول: هذا اعتراض لا يصح ، لأنه يجب أن نُناقش هذا الأمر على مستوين : الفطري ، و التعليمي . فبالنسبة للمستوى الفطري فإن الإنسان يتعلم ممارسة التفكير المنطقي الفطري و اكتساب اللغة منذ صغره بطريقة فطرية عفوية تفاعلية بين قدراته الطبيعة و وسطه الأسري و الاجتماعي . و هذا يشهد به الواقع فالطفل يصبح قادرا على ممارسة جانبا كبيرا من التفكير المنطقي الفطري ، و استخدام اللغة في الوقت الذي يلتحق فيه بالتعليم الرسمي . و هذا يعني أن الطفل يتعلم التفكير المنطقي الفطري و اللغة بالممارسة و ليس بالتعليم التلقيني المعروف . فهو إذن ليس في حاجة إلى تعلّم المنطق الصوري ،و لا إلى تعلّم قواعد أية لغة بالتعليم التلقيني .

              و أما بالنسبة للمستوى التعليمي ، فيتعلق بتعليم الإنسان الكتابة و القراءة ليتمكن من تلقي مختلف العلوم . و في هذه المرحلة يدخل الطفل إلى المدرسة و هو قادر على التفكير و الكلام ، و ممارس لهما طبعا ، فماذا يحتاج إذاً ؟ ، إنه يحتاج إلى تعلّم الحروف و الأرقام و قواعد اللغة الأساسية لكي يستطيع أن يقرأ و يكتب ، لكنه ليس في حاجة أبدا إلى تعلم المنطق الصوري . لأن المنطق في هذه الحالة لا يحتاج إليه الطفل لكي يتعلم التفكير ، لأنه قد تعلّمه فطريا ،و لا لكي يتعلم الكلام ، لأنه قد تعلّمه سابقا ،و لا يحتاجه لتعلم القراءة و الكتابة ، لأنه لا يُعلّم القراءة و لا الكتابة . و إنما يكون في حاجة إلى تعلّم الحروف و قواعد اللغة ليستطيع قراءة المنطق الصوري و غيره من الفنون و العلوم .

              و من ذلك يتبين أن المنطق الصوري لا يحتاج إليه الإنسان في أي مرحلة من مراحل حياته من جهة . في الوقت الذي يصبح في حاجة ماسة إلى تعلم قواعد اللغة لكي يستطيع أن يقرأ و يكتب ،و قد تبقى معه هذه الحاجة إلى آخر عمره بنسبة أخف ، لأنه يضطر أحيانا إلى أن يرجع إلى قواعد اللغة عندما ينساها ، أو تصادفه أمور لا يعرفها . لكنه لا يحتاج أبدا إلى أن يعود إلى المنطق الصوري لكي يتعلم التفكير ، فهو لم يرجع إليه في طفولته ، و لا يرجع إليه في باقي مراحل حياته . و لا يرجع إليه إلا من أراد الرجوع إليه من بعض الطلاب و أهل العلم للبحث و الاطلاع ، و ليس لتعلم التفكير الصحيح . و عليه فلا تصح المقارنة بينه و بين حاجتنا إلى تعلم قواعد اللغة . و من يقول بخلاف هذا فهو إما أنه لا يعي ما يقول ، و إما أنه يتعمد قول ذلك لغاية في نفسه .

              و الرأي الرابع مفاده أن الباحث الأرسطي مصطفى النشار ذكر أن أرسطو استعان كثيرا بالمبادئ المنطقية الأفلاطونية في تأسيسه للمنطق كعلم دقيق[3] .

              و أقول : وهذا لا يصح ، لأن أرسطو لم يُؤسس المنطق بالمعنى العام و لا الخاص، و إنما هو باعتراف الرجل استفاد بمن سبقه ، فجمع و كتب و ركز على جوانب من المنطق و لم يُؤسسه أبدا . و قد سبق أن بينا أن المنطق الفطري واسع و معقد، و له طرق أستدلال كثيرة أهملها أرسطو و قزّمها ، كقياس التمثيل ،و قياس الاستقراء ، بل و أخطأ فيها أخطاء فاحشة من جهة . و ذكرنا أنه اهتم بالقياس الصوري و توسع فيه بعدما أخذه عن السفاسطة و سقراط و أفلاطون ،و أخطأ فيه أيضا أخطاء فادحة من جهة ثانية . و بينا أيضا أن المنطق اليوناني كان معروفا يُدرّس في المدارس قبل أرسطو و في زمانه من جهة ثالثة . و بما أن الأمر هكذا فلا يُمكن أن يكون أرسطو أسس المنطق كله كعلم دقيق كما زعم الباحث ،و لا هو الذي أسس المنطق الصوري .

              كما أن قوله بالتأسيس لا ينسجم مع اعترافات أقر هو بها هو شخصيا، منها الشواهد الآتية :

              أولها إنه ذكر أن أرسطو اعترف بأن سقراط هو صاحب اكتشاف أهمية التعريف و فلسفة تحديد المفاهيم التي قام عليها الاستدلال الاستقرائي و التعريف الكلي .

              و الثاني مفاده أنه – أي الباحث مصطفى النشار- ذكر أن كلا من أفلاطون و أرسطو استكملا ذلك الاتجاه السقراطي و دعماه كل بطريقته الخاصة ، فأفلاطون دعمه بنظريته عن الوجود الحقيقي المفارق للمثال ، ،و أرسطو وضع في إطاره نظريته المنطقية التي تبدأ بالتعريف . و تكلم أفلاطون أيضا عن بعض المقولات العشر ، كالجوهر، و الكم ،و الكيف ، و الإضافة ،و الفعل و الانفعال[4].


              و الشاهد الثالث مفاده أن الباحث ذكر أن السفسطائي بروتاغوراس مهر في الخطابة و الجدل ،و الألفاظ و الأفعال ،و بذلك أسهم (( بنصيب كبير في وضع فن المنطق ))[5] .
              و الشاهد الرابع مفاده أن النشار أشار إلى أن أفلاطون هو الذي ألهب حماسة أرسطو المنطقية ،و ألهمه كثيرا من المبادئ المنطقية التي ساعدته في تأسيس المنطق كعلم دقيق[6] .


              و الشاهد الأخير - الخامس - مفاده أنه ذكر أن أعمال غورغياس و أفلاطون في الفكر و الوجود و اللغة تُمثل (( الأساس الذي استند عليه أرسطو في تأسيس منطق القضايا ))[7].

              فيتضح من تلك الشواهد أن الباحث مصطفى النشار نقض بأقواله هذه قوله السابق ، لأنه لا يُمكن أن يكون أرسطو مؤسسا للمنطق بما أنه اعتمد أساسا على الذين سبقوه جمعا و إتباعا ،و إلا ما فعل هؤلاء ؟؟! ،و أين أعمالهم و مساهماتهم؟؟ !! ، و أين النصيب الكبير الذي ساهم به بروتاغوراس في وضع فن المنطق ؟؟!! .

              و الحقيقة هي أن أرسطو ساهم في تأسيس فن المنطق عامة و الصوري خاصة ، فعمله في خارج قياس الشمول- الصوري – تجميعي عادي لا يرقى إلى مستوى التأسيس بأي حال من الأحوال ،و لا يصح أن يُنسب إليه علم المنطق بالمعنى العام و لا بالمعنى الخاص . لكن من غرائب الأرسطيين – بسبب غلوهم في شيخهم – أنهم ينسون أن الفضل الأكبر في الغالب يرجع إلى البادئ و المُكتشف الأول و ليس إلى المُكمل و المُطوّر ، فيتناسون هذه الحقائق و يقفزون عليها و يجعلون شيخهم أرسطو مؤسسا للمنطق الصوري ، بل للمنطق كله . و هذا نوع من التحريف المُتعمد ، لا يصح القول به، و هو عمل مرفوض عقلا و علماً.

              و الرأي الخامس يتعلق بمبدأ عدم التناقض ، و مفاده أن الباحث مصطفى النشار يرى إنه لا يُوجد منطق غير أرسطي ، فكل منطق هو أرسطي ، لأنه يقوم أساسا على مبدأ عدم التناقض ،و الثالث المرفوع [8] .

              و أقول: إن قوله هذا باطل جملة و تفصيلا ، و هو امتداد لما قام به أرسطو في سعيه للاستحواذ على المنطق اليوناني ،و نسبته إلى نفسه بغير حق . فسار تلامذته و المتأثرون به على طريقته في القيام بنفس العمل ، و هو عمل لا يصح مخالف للعقل و العلم ،و يقوم على التحريف و التغليط و التدليس . و هم بذلك يرتكبون جريمة كبرى في حق العقل و العلم . لأنه أولا إن مبدأ عدم التناقض[9] ليس مبدأ أرسطيا ، و لا أفلاطونيا ،و لا سُفسطائيا ، و لا يونانيا ،و لا مصريا ،و صينيا ، و لا .. . و إنما هو مبدأ فطري في الإنسان من المبادئ الأساسية المُكونة للعقل البشري . فهو طبيعي فطري يظهر فينا تدريجيا بتفاعل مكوناتنا العقلية الفطرية مع وسطنا الأسري و الاجتماعي ، فهو غريزة و قوة من غرائزنا و قوانا الفطرية التي تظهر فينا طبيعيا اجتماعيا ،و هو من بدائه عقولنا . و كل بني آدم يعرفون بان لهم عقلا من خصائصه القول بعدم اجتماع النقيضين في نفس الزمان و المكان ، فهو من بدائه عقولهم : إدراكا و ممارسة .

              و لو سألنا إنسانا بدائيا يعيش في أدغال إفريقيا أو في غابات الأمازون و اختبرناه لوجدناه يُدرك مبدأ عدم اجتماع النقيضين . و لو سألنا عجوزا لم تسمع بمبدأ عدم التناقض و لا بأرسطو و لا بفلاسفة اليونان و اختبرناها لوجدناها تعرف معنى مبدأ عدم التناقض ،و لو قلنا لها: أنتِ معنا هنا، و غير موجودة معنا في نفس الوقت . لأنكرت ذلك بشدة و لربما نهرتنا و اتهمتنا بقلة العقل . و لو سألنا تلميذا قبل أن يقرأ عن أرسطو و مبدأ عدم التناقض لوجدناه يُدرك معنى عدم التناقض .

              و لو لم يكن أهل العلم في الحضارات القديمة- قبل أرسطو و حضارة اليونان – يُدركون مبدأ عدم اجتماع النقيضين ، ما تمكنوا من إنشاء علوم كثيرة، كالحساب و الهندسة ،و الفلك و الطب . بل لو لم تكن البشرية- قبل حضارة اليونان – تدرك مبدأ عدم اجتماع النقيضين وعيا و ممارسة لما قامت للبشرية قائمة . لأنه لا يُمكن للإنسان أن يعيش على هذا الأرض دون إدراك لبدائه العقول و التزام بها ، منها مبدأ عدم التناقض. فالحياة الإنسانية لا تقوم على الخبز فقط ، و إنما تقوم أيضا على إدراك بدائه العقول و ممارسها .

              و ثانيا ربما يعترض علينا بعض أهل العلم فيقول: لو كان الإنسان الأول يُدرك مبدأ عدم التناقض ما كان يُؤمن بالخرافات و الأوهام و المُستحيلات .

              و أقول: هذا اعتراض لا يصح ، لأن كل إنسان منا يُدرك ذلك ضمن إدراكه لبدائه العقول و تفاعله معها ، فهذا أمر ثابت لا يصح الشك فيه . لكن سبب إيمان الإنسان قديما و حديثا بكثير من الأساطير و المُستحيلات ، هو ليس سببه عدم إدراكه لبدائع العقول و معرفته بها ، كمبدأ عدم التناقض ، و إنما هو يُدرك ذلك جيدا ، لكنه قد لا يلتزم به لأنه لا يريد الالتزام به إتباعا لأهوائه و مصالحه . و من المعروف أن الهوى يعمي صاحبه و يصمه . أو أنه قد يُخالفه بسبب أفكار و عقائد آمن بها ، توصله إلى القول بالمتناقضات ، فنجده يقول بها في مجال و ينكرها في مجال آخر . و مثال ذلك أن أرسطو نفسه كان يؤمن بالمتناقضات و الخرافات ، و قد ذكرنا على ذلك أمثلة في الإلهيات . و من ذلك أيضا ما كان يفعله سفاسطة اليونان قبل أرسطو ، فقد كان أكثرهم يتلاعبون بالمتناقضات العقلية ،و ينكرون مبدأ عدم التناقض طلبا لمصالحهم الدنيوية ، و سيأتي ذكر ذلك قريبا .
              و منها أيضا أننا نجد النصراني عندما ينطلق من عقيدته التثليثية يعتقد أن الأب ، و الابن ، و روح القدس ، هم ثلاثة آلهة يمثلون إلهأً واحدا من جهة ، و هو إله واحد يمثل ثلاثة آلهة من جهة أخرى . فعنده واحد يُساوي ثلاثة ، و ثلاثة يُساوي واحد !!! . لكنه لو درّس التلاميذ الحساب في المدرسة ما قال لهم ذلك ، لأنه يُدرك أنه من المستحيل أن يكون 01 =03 ، و لا 03 = 01 .

              و ثالثا إن الشواهد التاريخية اليونانية تُثبت أن أرسطو ليس هو أول من تكلم في مبدأ عدم التناقض و خاض في تفاصيله . فقد سبقه إلي ذلك كثير من أهل العلم اليونانيين . و قبل ذكر الشواهد على ذلك يجب أن لا يغيب عنا أنه كما أننا بينا أن مبدأ عدم التناقض هو مبدأ فطري في الإنسان ،و لا تصح نسبته لأي إنسان بأنه هو مُكتشفه. فإنه لا يصح أيضا نسبته إلى أي إنسان بأنه مؤسسه و صاحبه ، بدعوى أنه تكلم فيه ،و كتب حوله. لأن هذا المبدأ لم يكن مجهولا لدى الإنسان إدراكا ، و لا وعيا ،و لا ممارسة ،و من ثم فمن يكتب بحوثا في مبدأ عدم التناقض ، فهو لم يكتشف مجهولا لكي يُنسب إليه . و هذه المسألة فصلنا فيها عندما بينا لماذا لا يصح نسبة المنطق الإنساني إلى أي عالم من العلماء ؟[10]

              و أما الشواهد التاريخية التي أشرنا إليها ، فأولها يتعلق بدور السفاسطة في الاهتمام بمبدأ التناقض و عدمه ، و مفاده أن المتدبر في أعمال السفاسطة العملية و المكتوبة –التي وصلتنا- يجدهم أنهم قد اهتموا كثيرا بمدأ التناقض من عدمه ، على المستويين النظري و التطبيقي . و معروف أن كثيرا منهم اشتهر بالتغليط و المهارة في الكلام لتحقيق غايات و أغرض في أنفسهم . و هذا الأمر لن يتحقق لهم إلا باهتمامهم البالغ بالتناقض وجودا و عدما . و على الرغم من التشنيع الذي لحقهم من خُصومهم كسقراط و أفلاطون ، فقد كانوا مُعلمين مُربين ،و اهتموا أكثر بالمهارة العملية التي تقوم على التمكن من استخدام الرأي و الجدل[11] . و هذا يتطلب منهم أيضا الاهتمام بمبدأ التناقض .

              و من مظاهر ذلك أنهم – أي السفاسطة- تخصصوا في الجدل و تفرّغوا له و حذقوه ،و استخدموه في استنباط الحجج و المغالطات ، فكانوا يُفاخرون بتأييد القول الواحد و نقيضه على سواء[12] . و (( لم يكن ليتم لهم غرضهم بغير النظر في الألفاظ و دلالاتها ،و القضايا و أنواعها ، و الحجج و شروطها ، و المغالطات و أساليبها ))[13]. و معنى هذا أنهم كانوا يجمعون بين النقيضين مع إنكار الناس عليهم . و لهذا اُُتهموا بسوء النية و طلب الدنيا ، حتى قال فيهم أرسطو : (( أبدا يقولون خلاف ما يظهر من ضميرهم و ما خفي))[14] . فمبدأ التناقض كان من أُسس مذهبهم ، مارسوه تنظيرا و تطبيقا ، الأمر الذي جلب لهم خصومة عامة الناس و علمائهم ، كسقراط، و أفلاطون ، و أرسطو . و هذا يعني أن معارضة أرسطو للسفاسطة كانت معارضة عادية طبيعية ، قد سبقه إليها أناس كثيرون . و هي معارضة فطرية في الإنسان ، بأنه ينكر القول باجتماع النقيضين ،و يُشنع على من يقول به و يقاومه أيضا . فهي لا تحتاج إلى عبقرية ، و لا إلى قدرات خارقة ، و من يتصدى للرد على القائلين به، فهو في الحقيقة لم يكتشف شيئا ، و إنما تفرغ للكتابة في أمر بديهي معروف , ليس كشفا و لا إبداعا . و عليه فإنه لا يصح نسبة ذلك المبدأ إليه أبدا بدعوى أنه كتب فيه و رد عليه و على أصحابه .

              و من ذلك أيضا أنهم –أي السفاسطة- استخدموا الجدال وسيلة تُمكنهم من قول الشيء و نقيضه . فالشيء عندهم قد يكون موجودا و غير موجود ،و العلم الحقيقي هو الذي يُعبر عن الحقيقة المتناقضة ، و يُمكّنك من القول بالشيء و نقيضه حول نفس الموضوع ، و تكون صادقا في التعبير عن حقيقته . فالتغير و (( الصيرورة يجعلان الحقيقة نسبية متغيرة جزئية مُتأثرة بالأفراد ، مُختلفة باختلاف الناظرين إليها . و النقيضان يُوجدان معا باستمرار ))[15] . و جعل السفسطائي بروتاغوراس الإنسان مقياس كل شيء ، على أساس قوله بنسبية الحقيقة و تغيرها ، حسب مبدأ منطق كل شخص ، لا حسب المنطق الطبيعي فينا[16] .

              واضح من ذلك أن السفاسطة قالوا باجتماع النقيضين ليس بحجة العقل الصريح ،و لا العلم الصحيح ،و إنما قالوا ذلك على أساس من أهوائهم و مغالطاتهم ،و هذا هو نهج أهل الأهواء و الظنون في كل زمان و مكان . و هم يعرفون ذلك يقينا بدليل شهادة العقل الذي في رؤوسهم ، و بدليل سلوكياتهم عندما يكون الجمع بين المتناقضين ليس في صالحهم ، فلا يجمعون بينهما ، و عندما يعترفون هم بذلك كما حدث لأحد كبرائهم : غورغياس ، إنه تكلم في التناقض و أنكر أن يتصف الشيء بصفة و نقيضها ، و هذا مُحال عنده . و أنكر أن يكون الشيء الواحد في مكانين مختلفين في آن واحد ، فهذا مُستحيل.[17].

              و من ذلك يتضح أن السفاسطة كانوا على علم تام بالتناقض جمعا و وتفريقا ، و تكلموا فيه ،و ليس أرسطو هو الذي تكلم في مبدأ عدم التناقض فهو متأخر . علما أن المبدأ هو فطري في الإنسان ، لهذا أنكر الناس على السفاسطة قولهم به ، بل و أنكره عليهم أيضا بعض كبرائهم. و عليه فلا يصح القول بأن أرسطو هو واضع ذلك المبدأ . فهذا تحريف و تغليط و تدليس على الناس . فالرجل وجده مهيأ ، فدونه و توسع فيه . و السفاسطة كانوا على معرفة تامة به ،و حرصوا على مخالفته لتحقيق أغراض لهم ،و ليس أنهم لا يعرفونه ، أو أنهم كانوا يُؤمنون بحدوثه في الواقع حقيقة .

              و الشاهد الثاني يتعلق بأحد كبار السفاسطة، إنه زينون الإيلي ( ق: 5 ق م ) : تخصص في الجدل و التناقضات ،و يُعد مخترع الجدل العقلي في تاريخ الفلسفة اليونانية لا العالمية . أقامه على البراعة المنطقية العقلية الخالصة ، فنقل بذلك البحث الفلسفي عند اليونان إلى مجال العقل الخالص[18] . و هو مشهور بمفارقاته الأربع المتعلقة بالحركة[19] .

              و الشاهد الأخير – الثالث - يتعلق بدور أفلاطون في الاهتمام بمبدأ عدم التناقض ، فهو يرى أن العلوم مرتبة من (( الأخص إلى الأعم حتى يصل إلى مبدأين أساسيين : مبدأ عدم التناقض ،و مبدأ العلية . الأول قانون الفكر بين نفسه لا يُقام عليه برهان و لا اعتراض . و العلية قانون التغيّر ،و هو على شكلين: مبدأ العلية الفاعلية ، و العلية الغائية ))[20] .

              و بذلك يتبين أن السفاسطة و سقراط و أفلاطون اهتموا بمبدأ عم التناقض ،و سبقوا أرسطو في الاهتمام به ،و مهدوا له الطريق ،و هيئوا له مادته تنظيرا و ممارسة . و يُعد السفاسطة أول من اُشتهر من اليونانيين أنهم تخصصوا في التناقضات العقلية جمعها و تفريقا ،و كانوا على دراية كبيرة بذلك : تنظيرا و ممارسة . فسبقوا بذلك أرسطو فيما كتبه عن مبدأ عدم التناقض و تفوقوا عليه لأنهم تمهروا في مبدأي التناقض و عدم التناقض . فأنكر عليهم الناس و أهل العلم قولهم باجتماع النقيضين . فجاء أرسطو و وجد الأرضية مهيأة فأخذ جانبا من عملهم ، و مما انتقدهم به أهل العلم و ركّز عليه ، و اختص به و نسبه إلى نفسه بعد زيادات شكلية و انتقادات هامشية أضافها إلي مما أخذه عن هؤلاء . و هذه العملية نفسها حدثت عندما أخذ عنهم القياس الصوري ،و استحوذ عليه بدعوى أن قياسهم ظني و قياسه برهاني !!. فالرجل أخذ عنهم أساسيات منطقه المزعوم !! .

              و الرأي السادس مفاده أن الباحث ماجد فخري يرى أن المنطق الصوري (( يكاد يكون من وضع أرسطو بحذافيره )) . فبينما بنى فلسفته الطبيعية و الإلهية على ما انتهى إليه الفلاسفة الذين سبقوه ، فإنه (( يكاد لا يكون له رائد في هذا الباب إذا استثنينا سقراط و أفلاطون اللذين نبّها إلى بعض أصول الحوار المنطقي ، كتحديد المفردات ،و أساليب التدليل ، و الإبطال بالقسمة و الخُلف التي تحفل بها المحاورات الأفلاطونية بالشواهد عليها. أما تصنيف مبادئ هذا العلم تصنيفا علميا واضحا فلم يُسبق أرسطو إليه أحد قط ))[21] .
              و أقول: إن قوله هذا فيه حق و باطل ، و فيه غلو و إغفال لحقائق كثيرة . لأنه أولا إن المنطق الصوري الذي نفخه و ضخمه أرسطو و أتباعه ، هو جزء صغير محدود الأهمية من المنطق الفطري في الإنسان الذي تقوم عليه كل عمليات البحث و الأقيسة و طرق الاستدلال الجزئية التي هي أصل العلم ،و عليها تقوم كل العلوم ، و من دونها لا مناهج بحث ،و لا علم و كليات .

              و ثانيا إن الحقيقة الثابتة –التي كشفنا جانبا منها – هي أن أرسطو كما أنه أقام معظم إلهياته و طبيعياته على أعمال غيره من أهل العلم ، فإنه أقام أيضا ما كتبه عن المنطق عامة ، و الصوري خاصة أقامه على المنطق اليوناني – المعروف بالجدل - . و يمكن إرجاع أصول قياسه الصوري إلى من سبقه بسهولة ، و هذا أمر سبق أن أشرنا إليه و بينا الذين سبقوه في الكلام على التناقض، و القياس الصوري ،و على المقولات . مما يعني أن أرسطو توسع في ذلك ، فأخطأ أكثر مما أصاب في نظرته إلى القياس الصوري ،و مقارنته بالأقيسة الأخرى. و الحقيقة التي غابت عن الباحث ماجد فخري هي أن قياس أرسطو الصوري لم يأخذه فقط من سقراط و أفلاطون ، و إنما أخذه أيضا من السفاسطة ، فهم الذين برعوا فيه بشقيه الصحيح و الزائف ، و هم الذين نظّروا له و مارسوه بمختلف حالاته السلبية و الإيجابية . فجاء أرسطو و أخذ جانبا منه ، و نسبه إلى نفسه ، بعدما أضاف إليه أشياء ليست أساسية غالبا.

              و ثالثا إن التصنيف في علم من العلوم ليس عملا أساسيا في العلم ، لأن العلوم وُجدت و مورست و دُرّست قبل أن تُدوّن كُتبها . و من يُصنفها لا يصح نسبتها إليه ،و إنما يكون قد شارك في خدمتها ،و ليس في نشأتها و لا في ابتكارها و تطوريها الحقيقي. و الراجح أن المنطق اليوناني كان مُدوّنا قبل أرسطو ، لكن مدوناته لم تصلنا كما هو معروف . و الشاهد على ذلك هو أنه سبق أن ذكرنا أخبارا نصت صراحة على أن المنطق اليوناني كان يُتعلّم ،و اهتم به السفاسطة كثيرا في تعليمه للناس من جهة ،و كان يُدرّس في بعض المدارس، كما هو الحال في أكاديمية أفلاطون ، الذي أهتم به ،و جعل تعلّمه ضروريا من جهة أخرى. و من يتتبع ردود أرسطو في كتبه المنطقية على مخالفيه يستنتج منها أن المنطق كان معروفا بمباحثه و مدوناته ،و كانت لأصحابه أقوال و مواقف كثيرا ما نقل بعضها أرسطو[22] . و هذا الاهتمام الكبير بالمنطق اليوناني قبل تدوين أرسطو له يتطلب التنظيم و التبويب و التدوين ، لتسهيل تدريسه و فهمه و ممارسته .

              و أما تصنيفات أرسطو في المنطق فمن المعروف أن بعض أعماله المنطقية ، غير ثابتة النسبة إليه ، و أخرى مشكوك فيها ، فقد تكون من تأليف بعض تلامذته[23] . و هذا يعني أن أعماله المنطقية ليست كلها من تأليفه . و من جهة أخرى فأن المتدبر في مؤلفات أرسطو المنطقية ، ككتاب الشعر ، و الخطابة ، و الجدل ، و الأغاليط ، يجد قسما كبيرا منها هو جمع و نقل ، و تأريخ للمنطق ، أكثر مما هو إبداع و تصحيح ، و لهذا كثيرا ما وجدناه –في كتبه المنطقية- يرد على مخالفيه ،و يشتد في نقد بعضهم ،و ينقل أقوالهم و مواقفهم ، منها قوله: (( ما كان يفعل قانس في قياسه على أن النار هي بالتناسب ذات أضعاف كثيرة ، و ذلك أن النار تولدها سريع كما زعم ، و ما بالتناسب هو كبير الأضعاف قد تولد سريعا ...))[24] .

              و بناء على ذلك يُمكن القول : إن قسما كبيرا من المنطق الذي دوّنه أرسطو و ربما أكثره ليس من إبداعه ،و إنما وجده جاهزا يمثل المنطق اليوناني ، بعضه ربما وجده مدونا ،و بعضه الآخر غير مُدوّن ، و قسم منه ربما وجده مًنظما ، و بعضه وجده مُبعثرا .

              و الرأي السابع مفاده أن الباحث ول ديورانت يري أن أهم ما أدخله أرسطو في الفلسفة هو مذهبه في القياس ، و هو كدليل مُكون من ثلاثة أجزاء: مقدمة كبرى ، و مقدمة صغرى ، و نتيجة ، و هي حقيقة مُسلم بها مُستنتجة من المقدمتين[25] .

              و أقول : قوله هذا غير صحيح في معظمه ، لأن القياس الصوري ليس أرسطو هو الذي أدخله في المنطق و لا هو الذي اكتشفه، و لا هو الذي قسمه إلى ثلاثة أجزاء . و إنما هو قياس معروف يستخدمه الإنسان فطريا ضمن استخدامه لمختلف أنواع الأقيسة و الاستدلالات من جهة ،و قد اهتم به السفاسطة و سقراط أفلاطون ضمن اهتمامهم بعلم الجدل عامة و الرد على السفاسطة خاصة كما سبق أن بيناه من جهة أخرى . و الأمر الذي يُذكر أن أرسطو أدخله فيه ، هو في الحقيقة ليس جديدا ،و لا يصح نسبته إليه ، لأنه جاء إلى النتيجة و سماها الحد الأوسط ،و زعم أن قياسه الصوري يختلف عن القياس الصوري السُفسطائي و عن القياس الأفلاطوني المعروف بالقسمة الأفلاطونية . و هذا تغليط و تحريف ، لأن النتيجة كانت جزءا ثالثا و موجودة بالضرورة باسم النتيجة، و معروفة لدى الجميع ، لأنها هي المطلوبة من عملية القياس . فلا معنى لتسميتها بالحد الأوسط ثم الزعم بأن قياسه يختلف عن القياس الصوري لدى السفاسطة و أفلاطون . فقياسه لا يختلف عن قياس هؤلاء من ناحية شكله و مكوناته ، و الرأي الذي قال به ول ديورانت غير صحيح .

              و الرأي الثامن مضمونه أن الباحث برتراند راسل يرى أنه ربما كان أشهر إسهام قدمه أرسطو للفكر المنهجي هو (( مؤلفاته في المنطق ، صحيح أن الكثير من هذه المؤلفات كانت مُستمدة من أفلاطون ،و لكن النظريات المنطقية كانت عند أفلاطون مُبعثرة بين مواد كثيرة ، على حين أصبحت عند أرسطو مركزة معروضة ... )) . و قال أيضا : و كان أفلاطون هو المصدر الذي استوحى منه أرسطو جانبا كبيرا من منطقه ، غير أن هذا لا ينقص من قدره شيئاً[26] .

              و أقول: و قوله هذا صحيح لكنه ناقص ، صحيح لأنه أكد على أن أرسطو ساهم في علم المنطق و لم يُؤسسه و لا أبدعه ،و قد استمد كثيرا من مؤلفاته من أفلاطون . فهذا صحيح ، لكن الحقيقة أوسع من ذلك لأن المنطق عند اليونان لم يكن مُبعثرا ، و إنما كان قد أصبح فنا مُستقلا ساهم في تكوينه السفاسطة و سقراط و أفلاطون و غيرهم ، عُرف عندهم بالجدل ،و كانوا يتعلمونه كغيره من العلوم . فوجد أرسطو الأرضية مُهيأة بأساسياتها في الأصول و الفروع معا ، فجمع ذلك تدوينا و تعليقا ،و ركز على جانب منه ،و توسع فيه: نفخا و تضخيما ، تنظيرا و غلوا من جهة ؛ و أهمل الجانب الأساسي و الأهم من المنطق البشري من جهة ثانية ؛ و وقع في أخطاء و انحرافات منطقية كثيرة و فادحة من جهة ثالثة . و هذا العمل الذي قام به أرسطو هو في الحقيقة يُنقص من مكانته المزعومة ، و يضعه في مكانه الصحيح ،و هذا خلاف ما يدعيه الغلاة الذين رفعوا أرسطو فوق مكانته بما فعله في المنطق من ناحية ، و بما فعله هؤلاء حين أغفلوا عمل الذين سبقوه تقزيما لهم رفعا لشيخهم من ناحية أخرى .

              الرأي الأخير – التاسع - مفاده أن الباحث ماهر عبد القادر محمد علي يرى أن أرسطو سُمي بالمعلم الأول و هذا حق ، ِلما قام به من عمل في المنطق الصوري خاصة نظرية القياس[27].
              و أقول: أولا لا يصح إطلاق اسم المعلم الأول على أرسطو ،و لا على غيره من فلاسفة اليونان ،و لا على غيرهم من علماء و مربي الأقوام الشعوب الأخرى . لأن أول من علّم الإنسان هو الله تعالى أولا ، لقوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }- سورة البقرة:31-.

              ثم تولى الوحي الإلهي تعليم الإنسان عن طريق الأنبياء ،و {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }-سورة العلق:5- . كان أولهم آدم -عليه السلام- الذي علم أبنائه ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة . ثم واصل الأنبياء طريقه من بعده في تعليم الناس الدين و العلم و السلوك ،و سار على طريقتهم أيضا أهل العلم في حياتهم و من بعدهم . قال تعالى : {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }- سورة طه:123- ، و {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }- سورة البقرة:213- ، و {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }- سورة النساء165:- .

              و الشاهد على ذلك أيضا أنه توجد شواهد من التاريخ القديم تشهد على ظهور حكماء عند السومريين و الصينيين و غيرهم علموا الناس الحكمة و العمران . و توجد إشارات توحي بأن هؤلاء الحكماء كانوا رُسلا ، أو مبعوثين ، و أو حكماء الإله سيدهم ، أو سيد الحكمة[28] .

              و ثانيا إن عمل أرسطو في المنطق كان عاديا تماما ، غلب عليه الجمع و التدوين و التعليقات من جهة . و أفسده – تنظيرا و تطبيقا- أكثر مما أصلحه من جهة أخرى . و أخطأ فيه أخطاء جزئية و منهجية فاحشة فادحة تتعلق بكل أنواع القياس. و هو قد وجده جاهزا بأصوله الأساسية ، فأخذ منه جانبا و توسع فيه ،و نسبه إلى نفسه بغير حق ،و حَطّ فيه على مخالفيه تغليطا و تدليسا ، ذما و تقزيما في مواقف سجلها في كتبه المنطقية ، و قد ذكرنا طرفا منها . و عليه فإن عمل أرسطو في المنطق لا يُؤهله بأن يكون المعلم الأول فيه ، و لا في أي علم من العلوم .

              و إتماما لتلك الآراء و الردود أتساءل هنا بطرح بعض الأسئلة لها صلة مباشرة بما نحن فيه ، و أُجيب عليها بتركيز موجز .
              الأول مفاده : لماذا اشتد أرسطو في انتقاد الجدل و أهله ، كالسفاسطة ، و سقراط ، و أفلاطون ؟ .
              و أقول: بما أنه سبق أن بينا أن هؤلاء سبقوا أرسطو في الخوض في قضايا كثيرة من المنطق: تنظيرا و ممارسة . و بما أنه سبق أن بينا أيضا عمل أرسطو في المنطق ، يترجح عندي أنه فعل ذلك في موقفه من هؤلاء لتحقيق أمرين أساسيين: الأول ليُوهم الناس أن هؤلاء وقعوا في أخطاء كثيرة ،و صوابهم قليل ، و أنه هو الذي انتقدهم و أظهر أخطاءهم ، فالفضل يعود إليه قبل غيره . و الثاني لكي يتمكن من الاستحواذ على قسم من منطق هؤلاء- كمبدأ عدم التناقض ،و القياس الصوري- ، و ينسبه إلي نفسه . فالرجل قام بعملية سطو و استحواذ على قسم من ذلك المنطق .

              و السؤال الثاني مضمونه : هل مؤلفات أرسطو المنطقية المعروفة هي حقا من أعماله العلمية ؟؟ .
              و أقول : إنه كما تبين أن أرسطو لم يكن موضوعيا و لا نزيها في تناوله للمنطق من جهة تحامله على مخالفيه ،و تغييره لمعنى الجدل حسب مفهومه هو له ،و ليس حسب مفهومه المعروف بين أهل العلم . و أخذه أصول المنطق وأساسياته الفرعية عن غيره . فإن كل هذا – و غيره- يجعل الشك يحوم أيضا حول أعماله في المنطق . ففيما يخص كتيه المنطقية المشهورة ، فبعضها غير ثابت النسبة إليه ، و ما يزال الخلاف حولها قائما بين الباحثين . و قد ذكر الباحث عبد الرحمان بدوي أن كتاب المقولات وقع حوله خلاف بين الباحثين حول صحة نسبته إلى أرسطو بين مًصحح و نافٍ لها . و يرى هو أن فصوله الستة الأخيرة أغلب الظن أنها ليست من عمل أرسطو،و إنما هي من عمل أحد تلاميذه الأوائل[29] . و معنى ذلك أن أرسطو لم يكن وحده في ذلك العمل . و بناء على ذلك يبدو أن الأمر ربما فيه أمور خفية مُبيتة . فلماذا لم تصلنا أعمال الأوائل المتعلقة بالجدل ؟ . و لماذا تصرّف أرسطو في معناه ؟ ،و لماذا بالغ هو في تقزيم عمل غيره و تعظيم عمله هو ؟ .و هل هذا العمل تم بأمره ، أو تلامذته هم الذين فعلوه ؟ . و لماذا نُسبت إليه أعمال ليست له ؟ . و لماذا حدث الغلو في عمل أرسطو المنطقي مع أنه كان عملا عاديا تماما ؟ . و ماذا يعني هذا ، فهل مارس أرسطو و تلامذته أو بعضهم عمليات سطو و طمس و مصادرات للاستحواذ على قسم كبير من الفكر اليوناني زمن أرسطو و بعده ؟؟ . نعم إنه بالنسبة إليَّ أنا شخصيا إن ذلك قد حدث فعلا بطريقة أو أخرى ،و الأدلة التي تُثبت ذلك كثيرة جدا ، هي مبثوثة في كتابنا هذا . و قد أشرنا إلى بعضها في الإلهيات و الطبيعيات و الإنسانيات ، عندما ذكرنا مرارا ما نقله أرسطو عن غيره صراحة ،و ما سكت عنه مع أنه ليس له ، و ما وجدناه من تشابه كبير بين كثير من أفكاره و أفكار الذين سبقوه .

              و السؤال الأخير – الثالث – مفاده : هل يصح أن ننسب المنطق الصوري ، أو المنطق عامة إلى أرسطو كما فعل كثير من أهل العلم قديما و حديثا ، حتى أن أرسطو عُرف بصاحب المنطق ؟.

              و أقول : أولا يجب أن لا يغيب عنا أن المنطق البشري بمعناه الفطري العملي هو قوة من قِوى الإنسان المعنوية التي لا يصح نسبتها إلى أحد . فنحن نحس به و نمارسه سواء عرفنا بعض خصائصه و آلياته أم لم نعرفها ، فهو يعمل فينا فطرياً . و عليه فإنه من الجريمة النكراء ، و الخطأ الفادح أن يُنسب هذا المنطق – الذي هو من أعظم النِعم الإلهية- إلى إنسان ، أو إلى شعب من الشعوب . و إنما يجب أن نفهم أن قولنا مثلا : المنطق اليوناني ، أو المنطق الصوري ، أو المنطق العربي ، أو المنطق الغربي ، المقصود منه ما كتبه هؤلاء عن المنطق ،و ما كانت لهم فيه من آراء و تفسيرات و اجتهادات تتعلق بالمنطق .

              و أما إذا قال بعض الناس: لماذا لا ننسب المنطق إلى شخص، أو إلى شعب ، و نحن نرى كثيرا من الحقائق العلمية المكتشفة سُميت بأسماء مُكتشفيها ، مثل قناة فالوب الموجودة في الجهاز التناسلي للمرأة.

              فأقول: إن ذلك لا يصح فيما يتعلق بالمنطق و لا يصدق عليه أيضا. لأن المنطق الإنساني يعرفه كل الناس قديما و حديثا ،و يُمارسونه فطريا سواء عرّفوا خصائصه و آلياته أم لم يعرفوها ، و لهذا كل الشعوب تُفرّق بين العاقل و المجنون ، و بين الغبي و الذكي ، و الفرق الأساسي بين هؤلاء هو سلامة المنطق .
              و بناء على ذلك فلا يصح أن يأتي إنسان و يدعى أنه اكتشف المنطق الإنساني ، نعم قد تكون عنده آراء و اجتهادات تتعلق ببعض خصائصه ، لكن هذا لا يسمح له أبدا بأن يدعي أنه مُكتشف المنطق البشري . لأن ما جاء به هو رأي جزئي يتعلق بالمنطق المعروف عن الناس بذاته و كثير من خصائصه و ممارساته .

              و أما ذلك المثال المتعلق بالمكتشفات العلمية ، فهو لا يصدق على المنطق ، لأن تلك الحقيقة العلمية هي جزئية كانت مجهولة لأهل العلم ، فلما اكتشفها بعضهم سُميت به . و هذا لا ينطبق على المنطق ، فهل إذا كتب أحدهم بحثا حول الشمس ننسبها إليه ، أو نوافقه إذا نسبها إليه بدعوى أنه كتب حولها مقالا ،و أو اكتشف بعض خصائصها ؟؟!! . و هل إذا أحدهم كتب بحثا حول الإنسان ، ننسبه إليه ، أو نوافقه إذا نسب الإنسان إلى نفسه . طبعا لا ، و ألف لا ، و هذا نفسه ينطبق على المنطق . و بناءً على ذلك فلا يصح أن ننسب المنطق الصوري إلى أرسطو ،و لا أن ننسب إليه المنطق اليوناني ، و لا أن ننسب إليه المنطق البشري . و إنما يجب أن ننسبه إلى الأفكار و الخصائص التي يتميز بها جانب من جوانبه ، كقولنا: المنطق التجريبي ،و لا ننسبه إلى الأشخاص ،و لا إلى الشعوب . و لهذا فقد أخطا من سمى أرسطو صاحب المنطق خطأً فاحشا .

              و إنهاءً لهذا المبحث يتبين منه أن أرسطو وقع في أخطاء نظرية و منهجية كثيرة تتعلق بمواقفه من الاستقراء، و الجدل ،و القياس الصوري ، و القضايا المرتبطة بها. و قد ذكرنا على ذلك نماذج كثيرة أظهرت مدى جسامة انحرافه المنهجي، و فداحة كثير من أخطائه ،و سوء نيته و قلة موضوعيته في جانب كبير مما كتبه عن المنطق . و قد تضمنت تلك النماذج أكثر من 38 خطأ و انحرافا منهجيا ، جنى بها أرسطو على نفسه و أتباعه ، و على العقل و العلم معا .
              ___________________________________
              [1] ماجد فخري : أرسطو : المعلم الأول ، ص: 23 .

              [2] محمد فتحي عبد الله : الجدل بين أرسطو و كانط ، ص: 83 .

              [3] مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، دار قباء ، القاهرة ، 2000 ، ج 2 ص: 167 .

              [4] نفسه ، ج 2 ص: 136 . و نطرية العلم الأرسطية ، ص: 85 . و يُسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 154 .

              [5] مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، دار قباء ، القاهرة ، 2000 ، ج 2 ص: 43 .

              [6] نفس المرجع ، ج 2 ص: 167 .

              [7] نفس المرجع ، ج 2 ص: 62 ، 63 .

              [8] مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ص: 78 .

              [9] لا يهمنا هنا مبدأ الثالث المرفوع لأنه تابع لمبدأ عدم التناقض ، و كذلك مبدأ الهوية ، فالأصل هو مبدأ عدم التناقض .

              [10] سيأتي ذلك قريبا .

              [11] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 54 ، و ما بعدها .

              [12] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 58 .

              [13] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 58 .

              [14] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 902 .

              [15] حسين حرب : الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ص: 91 .

              [16] عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني ، ط8 ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1979 ، ص: 171، 172 ، 173 .

              [17] عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني ، ص: 176 ، 177 ، 178 ، 179 .

              [18] مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، ج 1 ص: 202، 206 ، 211 .

              [19] الموسوعة العربية العالمية ، مادة زينون الإيلي .

              [20] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 94 .

              [21] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص: 23 .

              [22] أنظر مثلا : أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 367 .

              [23] أرسطو : منطق أرسطو ، حققه عبد الرحمن بدوي ،ط 1 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم ن بيروت ، 1980 ، ص: 11 .

              [24] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 367 .

              [25] ول ديورانت : قصة الفلسفة ، ص: 80 .

              [26] برتراند راسل : حكمة الغرب ، ص: ج 1 ص: 122 ، 123 ، 127 .

              [27] ماهر عبد القادر علي: المنطق و مناهج البحث ، ص: 69 .

              [28] خزعل الماجدي : متون سومر ، ص: 290 .

              [29] أرسطو : منطق أرسطو ، حققه عبد الرحمن بدوي ،ط 1 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم ن بيروت ، 1980 ، ص: 11 .
              أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
              الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
              كتب وورد
              هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
              للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

              تعليق

              • باحث سلفى
                =-=-=-=-=-=

                حارس من حراس العقيدة
                • 13 فبر, 2007
                • 5183
                • مسلم (نهج السلف)

                #22
                ب : من أخطاء أرسطو المتعلقة بالجانب التطبيقي من المنطق :

                عندما مارس أرسطو منطق البحث و الاستدلال في المجال التطبيقي وقع في أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة جدا ، منها ما يتعلق بالكليات التي توصل إليها . و منها ما يتعلق بالأقيسة التي استخدمها في استنتاجاته التي خرج بها . و منها ما يتعلق بعدم التزام أرسطو بشروط و أبجديات البحث العلمي : ممارسة و استدلالا . فما تفاصيل ذلك ؟ ، و ما هي الأسباب التي أوقعته في تلك الأخطاء و الانحرافات ؟ .

                أولا: كليات تطبيقية خاطئة :

                سبق أن أوردتُ في كتابي هذا نماذج كثيرة من الكليات الخاطئة التي استنتجها أرسطو من أبحاثه النظرية و التطبيقية ، و هنا سنذكر طائفة من كلياته ، بعضها سبق ذكره ،و بعضها الآخر لم يسبق ذكره . لكننا نركز عليها هنا من ناحية منطق الاستدلال و مدى انسجامها معه ، لا من جهة صحة المعلومات ، إلا بقدر ما يخدم الموضوع . و سنذكرها فيما يأتي من خلال 15 نموذجاً ، بحول الله تعالى .

                الأول مفاده أرسطو ذكر أن أرحام جميع الحيوانات مُجزأة إلى جزأين أو قسمين مثل (( تجزؤ أنثى الذكورة بجزأين ))[1] . و قوله هذا غير صحيح من الناحية العلمية ، و قد سق بيانه في الفصل الثاني . لكن الذي يهمنا هنا هو أن الرجل أصدر كلية تتعلق بأرحام جميع الحيوان ، يتطلب منه منطق البحث و الاستدلال ضرورة القيام باستقراء تام لجميع أرحام الحيوانات لكي يستطيع إصدار هذه الكلية العامة الشاملة . لكنه لم يفعل ذلك بالتأكيد ، لأنه لا يُمكنه القيام بهذه التجربة التي ستشمل كل أرحام الحيوانات . و لأنه أخطأ في كليته ، فهي غير صحيحة قطعا . فلماذا سمح الرجل لنفسه أن يقول ذلك بلا تثبت ،و لا تجربة ؟! و على ماذا اعتمد في قوله بكليته ؟ .

                واضح من كلامه أن أرسطو أهمل المعاينة و التجربة ،و قدّم عليهما التأمل النظري ،و هذا انحراف منهجي كبير جدا، و غير مقبول عقلا و لا علما . و اعتمد علي القياس النظري فيما قال به ، فاعتقد – بلا دليل صحيح- أن الرحم في أنثى الحيوان تقابله الخصيتان عند الذكر من جهة ، و بما أنهما مُجزأتان مُنفصلتان فكذلك رحم المرأة المقابل لهما مُجزأ مٌقسم إلى قسمين من جهة أخرى . و هذا قياس غير صحيح ، كان عليه أن ينطلق من التجربة لا من القياس التأملي الظني ،و هذا خطأ منهجي فادح .

                و من ذلك يتبين أن الرجل استخدم قياس التمثيل في غير محله ،و أخطأ في كليته التي قررها . و هي كلية لا تصلح لتكون مقدمة كبرى يُبنى عليها القياس الصوري الأرسطي ، لأنها ظنية و ليست يقينية . و أما لماذا هي ظنية و ليست كلية ؟ ! لأن أرسطو لم يلتزم بمنطق البحث و الاستدلال ، فتكلم بلا علم ،و لم يقم بالاستقراء الذي كان عليه أن يقوم به لكي يستطيع أن يُقرر كليته . فلا بالقياس الجزئي قام ، و لا إلى الكلية اليقينية و صل ،و لا تمكن من القيام بالقياس الصوري . لأنه أهمل الأساس الذي يُمكّنه من القيام بذلك.

                و النموذج الثاني مفاده أن أرسطو ذكر أن ذكور الحيات ليس لها أنثيان و لا ذكر ، و الشاهد على ذلك أنه (( ليس لها ساقان ، و ليس لها أنثيان لحال طول أجسادها ، بل لها سبيل مثل سبيل السمك . و من أجل أن خلقتها من قِبل الطِباع مستطيلة ، لو كانت لها أنثيان لبرد الزرع لِحال إبطاء خروجه ))[2] .

                و أقول : هذا الحكم الكلي غير صحيح من الناحية العلمية ، لأن الحقيقة هي أن لذكور الحيات خصيتان ، و لها عضوان ذكريان ، كل منهما يُسمى نصف القضيب ، و يقعان داخل الذيل ،و يبرزان إلى الخارج عبر فتحة الشرج . و أثناء التزاوج يلف الذكر ذيله تحت الأنثى مُدخلا أحد نصفي القضيب في مِذرقها[3] .
                و أما من الناحية الاستدلالية فواضح أنه لم يجرب ،و لا قام باستقراء فيما قاله . لأنه لم يقل أنه جرّب ، و كليته الخاطئة شاهدة ضده . و هو قد صرّح بأنه اعتمد في تقرير كليته على قياسين ، هما : عدم وجود ساقين للحيات و هذا يعني-حسب زعمه- عدم وجود العضو الذكري ، الثاني هو طول الحية الذكر لا يتناسب مع وجود الخصيتين ، لأن ذلك يُؤدي إلى برودتهما . و هذان قياسان باطلان، و تعليلان فاسدان . لأنه لا يُوجد دليل يقول ، أو يُثبت بأن الحيوان الذي ليس له ساقان لا يكون له ذكر . فمن أين له هذا الحكم الذي هو أيضا من كلياته المزعومة ؟! . فهذا زعم باطل و مُخالف للحقيقة ، و كيف سمح لنفسه أن يتكلم بلا علم ؟ ! ، و كيف سمح لنفسه أن يُقدم تفسيراته النظرية الظنية التخمينية على التجربة و المعاينة ؟؟!!.

                و من أين له أن طول جسم ذكر الحية هو السبب في عدم وجود خصيتين له ؟! . فهذا تفسير ظني لا يقوم على أساس علمي صحيح ، و مُخالف للحقيقة ، لأن الحقيقة هي أن ذكر الحية له أنثيان ،و لا دخل للطول في وجودهما من عدمهما، و الحية تحافظ على درجة جسمها حسب المناطق التي تعيش فيها ،و هي كافية للجسم كله بما فيه الخصية[4].فالرجل استخدم قياسا غير صحيح ، بناه على الظن لا على التجربة العلمية ، في موضع لا يصح فيه استخدام القياس الظني على حساب التثبت بالمعاينة و التجربة . و بما أنه أهمل التجربة و الاستقراء ، فقد أخطأ في كليته ، و لن يستطيع أن يستخدمها كمقدمة كلية لإنتاج القياس الصوري اليقيني .
                و النموذج الثالث يتعلق بحرارة الجسم البشري ،و مفاده أن أرسطو ذكر أن الناحية اليسرى من جسم الإنسان أبرد من ناحيته اليمنى ، و هي أكثر برودة (( من سائر الحيوان ))[5] .
                و قوله هذا غير صحيح علميا ، لأن الثابت قطعا أن حرارة جسم الإنسان ثابتة في الأصل ، و تُقدر ب : 37 درجة مئوية . لكن الذي يهمنا هنا هو أن أرسطو أخطأ في طريقة البحث و الاستدلال ، و عمم ملاحظته بلا تجربة و لا استقراء ، فأخطأ فيما قال به . فهو قرر أمرا مُخالفا لما يحسه كل إنسان من نفسه ، من أن جسمه له درجة حرارة واحدة في الظروف العادية من جهة ،و أن حرارة الناحية اليسرى من جسمه لا تختلف عن حرارة ناحيته اليمنى ، و أن اليسرى ليست باردة أصلا من جهة أخرى .

                و عليه فهذا الرجل قد أنكر حقائق يحسها الإنسان من ذاته و يراها في غيره ، و قرر خلافها ليس لأن التجربة تُثبت زعمه ،و إنما فعل ذلك لالتزامات مذهبية يُؤمن بها ، مفادها أن الدماغ بارد ،و القلب حار ،و أن الدماغ هو الذي يُبرد القلب ، فيتأثر بذلك جسم الإنسان كله[6] . و بذلك يكون أرسطو قد داس على التجربة و الاستقراء ، و قدّم عليهما مذهبيته الزائفة .
                و هو – في هذا النموذج- قد نَصّ على أمرين : الأول ناقشناه فيه، و الثاني زعمه بأن الناحية اليسرى من جسم الإنسان هي أكثر برودة من سائر الحيوان . و هذا تعميم بمثابة كلية ، تكلم فيه بلا علم و لا تجربة و لا استقراء صحيح . لأنه لا يصح أن يقوله إلا بعد أن يقوم بعملية استقرائية لحرارة أجسام كل الحيوانات ،و هذا لم يقم به ، و لا في استطاعته القيام به . فلماذا إذن سمح لنفسه أن يقُرر ذلك بلا تثبت ،و لا تجربة ؟؟!! . علما بأن الحقيقة هي أن حرارة أجسام الحيوانات ليست واحدة بالنسبة لبعضها ،و للإنسان أيضا . فمنها حيوانات حرارة أجسامها أكبر من حرارة جسم الإنسان ، و منها ما حرارتها قريبة من حرارته ، و منها ما هي أقل بكثير من حرارته[7] . فهذا الرجل أصدر كلية زائفة زعم أنها صحيحة ، من غير تثبت ، و لا معاينة ، و لا استقراء ، و هذا تصرف مرفوض منطقا و علما من جهة ، و هو نقض و هدم للمنطق الصوري الذي افتخر به من جهة أخرى .

                و النموذج الرابع مفاده أن أرسطو نصّ على أن في (( قلوب الحيوان العظيم الجثة ثلاثة بطون ، و أما في قلب كل الحيوان الصغير الجثة فبطنان ))[8].
                و قوله هذا غير صحيح ، سبق أن بينا بطلانه من الناحية العلمية في الفصل الثاني ، و أثبتنا بأن الحيوانات الكبيرة منها ما لها أربعة بطون كالثدييات من البقر و الفيلة و غيرها ،و منها حيوانات صغيرة جدا كالطيور، قلوبها مُكونة من أربعة بطون أيضا ، و الضفدعة قلبها مُكوّن من ثلاثة تجاويف[9] . و نحن هنا يهمنا من مقولته الكُلية طريقة استدلاله العلمي فيما قال به . واضح من قوله أنه قرر كُليتين ، هما : الأولى نصت على أن قلب الحيوان الكبير الجثة يتكون من ثلاثة بطون . و الثانية نصت على أن قلب الحيوان الصغير الجثة يتكون من بطنين . و بما أنه قرر ذلك ، فهذا يستلزم منه أن يقوم باستقراء شامل تام للنوعين من الحيوانات لكي يستطيع أن يُقرر ذلك . و هذا بالتأكيد أنه لم يقم به قطعا ، لأنه لم يقل أنه قام بذلك ، و لأنه لن يستطيع القيام به ،لأنه ليس في مقدوره القيام به ، و لأنه أخطأ فيما قرره و قال به . فلماذا سمح لنفسه أن يتكلم بلا علم ،و يٌقرر أمورا لم يُعاينها ،و لا تثبت منها ؟! . و هذا موقف ليس من المنطق و لا من أبجديات البحث التجريبي في شيء .
                و الغريب من أمر هذا الرجل أنه قال كلاما لا يوجد أي شاهد صحيح يُثبت وجود علاقة بين عدد تجاويف قلب الحيوان و حجم جثته . فلا أدري من أين جاء بهذا الكلام الباطل، و أي قياس اعتمد عليه ؟؟ّّ . فأين المنطق العلمي الذي تغنى به أرسطو و أتباعه ؟! . و ماذا نفعل بكلياته الزائفة العقيمة التي لا تصلح بأن تكون مقدمات يقينية نبني عليها القياس الصوري البرهاني حسب زعم أرسطو ؟!. و من جهة أخرى فهل يصح قياسه إذا استخدمنا هذا القياس : كل حيوان صغير الجثة قلبه مُكوّن من بطنين ،و الضفدعة حيوان صغير ، فقلبها مُكوّن من بطنين ؟ . إنه قياس صوري لا يصح ، لأن الضفدعة قلبها مُكوّن من ثلاثة بطون لا من بطنين !! .

                و النموذج الخامس مفاده أن أرسطو نَصّ على أنه ما كان من الذكور فهو أكثر (( أسنانا من الإناث ،و ذلك بيّن في الناس ،و المِعزى ،و الخراف ،و الخنازير . فأما في سائر الحيوان فليس يستبين ))[10] .
                و أقول: تعميمه هذا غير صحيح ،و قد سبق أن بينا بطلانه في الفصل الثاني ،و الذي يهمنا منه هنا هو طريقته في الاستدلال . إنه عمم كلية خاطئة دون تثبت و لا معاينة و لا تجربة استقرائية ، مع سهولة التأكد بالسؤال أو بالمعاينة فيما يخص إناث كثير من الكائنات . و الغريب في الأمر أن قوله السابق يتضمن تناقضين غريبين : الأول أنه قال : (( و ذلك بيّن في الناس ، و ...)) ، و معنى هذا أنه تأكد من قوله و استبان له بالمعاينة ، أو على الأقل أنه استبان له ذلك بواسطة غيره . لكن الحقيقة خلاف ذلك، لأن الحقيقة هي أن عدد أسنان المرأة يُساوي عدد أسنان الرجل ، و ليس أقل من أسنانه !! . فكيف استبان له ذلك ؟ ، فهل هذا الرجل يتعمد الكذب و التحريف و التدليس ، أم ماذا ؟؟!!.

                و التناقض الثاني هو أن أرسطو عَمم حكمه الكلي ، ثم قال : (( فأما في سائر الحيوان فليس يستبين )) ، فبما أنه عمم كليته فهذا يتطلب منه أنه كان قد تحقق من الأمر بنفسه ، فلماذا يعود و يقول : إن ذلك غير مُستبين بالنسبة لسائر الحيوانات !! . فهذا نقض لتعميمه السابق ، فإما أنه قد تأكد من الأمر فيصح تعميمه الكلي ،و إما أنه لم يتحقق فلا يصح قوله و لا تعميمه . فالرجل ناقض الواقع و نفسه معا ، فأين مبدأ عدم التناقض يا رجل ؟؟!! .
                و بناء على ذلك فأرسطو أخطأ في المنهج و النتيجة ، و تصبح كليته خاطئة غير منتجة عندما نُعبر عنها بقولنا: كل ذكور المخلوقات عدد أسنانها أكبر من عدد أسنان إناثها ، و الرجل ذكر ، فعدد أسنانه أكبر من عدد أسنان المرأة . و هذه نتيجة باطلة بلا شك . فأرسطو لا للاستقراء طبق ، و لا للمنهج العلمي التزم ،و لا للنتيجة أصاب ، و لا لنفسه و غيره احترم!!.

                و النموذج السادس يتضمن كلية مفادها أن أرسطو نصّ على أن كل الأجرام السماوية لا تتكون و لا تفسد ، استحال عليها الحدوث ، أو التغير ، أو التلاشي ،و هي تدور في أفلاكها دوراناً أزليا لا يطرأ عليها خلل قط[11] .
                و قوله هذا غير صحيح ، سبق أن بينا بطلانه عقلا و علما و شرعا ،و يهمنا منه هنا منهج الاستدلال عند أرسطو . إنه قرر كلية شملت كل الأجرام السماوية من دون أي دليل صحيح ،و إنما اعتمد أساسا على رغباته و ظنونه و تحكماته و أقيسته الفاسدة . و هذا خلل منهجي كبير يطعن في منهجه الاستدلالي الذي أوصله إلى تقرير كلية هي من أخطر كلياته الفاسدة من جهة ،و التي أفسدت عليه جانبا كبيرا من فكره بناه عليها من جهة أخرى . فالرجل أقام أساسيات فكره على الظنون و الأهواء ، و الرغبات و التحكمات ،و لم يٌقمها على العقل الصريح ،و لا العلم الصحيح . فأين مزاعمه حول طلب اليقين ،و القياس البرهاني ؟! ، و لماذا أقام أساسيات فكره على الظنون و الرغبات و لم يُقمها على اليقين و البراهين ؟! . إنه داس على كل ذلك و خرج لنا بكليات زائفة ، لا هي مقدمات يقينية ،و لا تنتج لنا قياسا برهانيا . فإذا قلنا : كل الأجرام أزلية ، و هذه الأجرام هي نفسها العالم ، فهذا يستلزم أن العالم أزلي . هذا قياس صوري صحيح شكليا ، لكنه باطل حقيقة ، لأن كليته –المقدمة الكبرى- التي أتحفنا بها أرسطو خاطئة . فأين المقدمات اليقينية التي دندن حولها أرسطو كثيرا عندما كان ينفخ و يُجعّد قياسه الصوري ،و يتهم أقيسة خُصومه بأنها ظنية لا يقينية ؟! .


                و النموذج السابع يتعلق بظاهرة الحركة ، و مفاده أن أرسطو قرر كلية نَصّ فيها على أنه إذا وُجد شيء يتحرك (( دائما حركة مُستديرة ، فيجب أن يكون باقيا دائما ))[12].

                و قوله هذا غير صحيح علميا ،و قد سبق بيان ذلك في الفصل الثاني ، لكن يهمنا منه منهج أرسطو الاستدلالي فيما زعمه هنا . إنه أصدر كلية عامة حول الشيء المتحرك دوما حركة مستديرة بأنه أزليا أبديا ، من دون أن يُقدم لنا أي دليل منطقي صحيح ،ولا تجربة مادية ملموسة تُثبت زعمه . فمن أين له هذه النتيجة ؟! ، فهي لا توجد في الواقع لكي نتأكد منها ،و لا تُوجد أية طريقة يُمكن أن تُساعدنا على التأكد مما زعمه أرسطو !! . فلا توجد تجربة تُؤيد زعمه ، و لا يُوجد دليل عقلي صحيح يُثبته . لأن كلا من الواقع و العقل يشهدان ضده ، فنحن نرى في الواقع أنه لا فرق بين الحركة المستديرة ،و المستقيمة ،و لا المتعرجة ، فلكل منها له بداية ، و لكل منها مسارها الذي تتحرك فيه . و كما للمستقيمة بداية تبدأ فيها ثم تبقى تتحرك في مسارها ذهابا و أيابا حتى تتوقف . فنفس الأمر يحدث للحركتين الدائرية و المتعرجة . فهذا ما يشهد به الواقع ، و هو نفسه ينطبق على العالم بكل أجرامه ، فمع حركاته المتنوعة فهو مخلوق له بداية و ستكون له نهاية كما هو ثابت شرعا و علما . فمن أين جاء أرسطو بهذه الكلية الزائفة ، التي قررها بلا دليل صحيح من العقل ،ولا من التجربة ؟ ، و لماذا سمح لنفسه أن يتكلم بلا علم في أمر لا يُمكنه التيقن منه ؟؟ !!. إنه أبعد العقل الصريح و العلم الصحيح جانبا ،و ارتمى في أحضان الأوهام و الظنون و الرغبات ، فقرر كلية زائفة نقضت عليه منطقه العقيم القاصر أصلا .


                و النموذج الثامن يتضمن كلية مفادها أن أرسطو نصّ على أن كل الكائنات الحية حادثة بأفرادها أزلية بأنواعها[13] .

                و أقول : هذه كلية غير صحيحة علما و شرعا و عقلا ، و قد سبق بيان بطلانها في الفصلين الأول و الثاني . لكن يهمنا منها هنا طريقة الاستدلال التي بُنيت عليها . واضح من هذه الكلية أن أرسطو نقض بها المنطق عامة و منطقه الصوري خاصة ، لأن الثابت أن المقدمة الكبرى مُكوّنة من جزئيات تَمّ استقراؤها ، و من خصائصها نتوصل إلى الكلية. و لكي تكون صحيحة يجب أن تكون مُعبرة عن صفات عناصرها ،و لا تحمل صفات ليست منها من جهة ، و يجب أن تكون مُستغرقة لجميع عناصرها بخصائصها من جهة أخرى ، و هذا لم يتوفر في هذا الكلية . و مثال ذلك أننا إذا قلنا : تبين من البحث و التقصي أن كل فرد من أفراد الجنس البشري مخلوق له بداية ،و هذا يستلزم الكلية الآتية : لا أحد أزلي من البشر . لكن لا نستطيع أن نستخرج من هذا الاستقراء هذه الكلية : كل البشر مخلوقين و نوعهم أزلي أبدي . و هذه هي الكلية التي قررها أرسطو . لا نستطيع تقرير ذلك لأمرين : الأول هو أنه لا يُوجد كائن كلي يُسمى النوع البشري ليكون هو الأزلي . و الثاني هو أن كل إنسان له وجود فردي مخلوق حادث ، و بما أن كل البشر هم كذلك فهذا يستلزم أنهم غير أزليين ،و لا بد من وجود بداية للنوع البشري . و هذا الذي قرره العقل الصريح ، هو نفسه أكده أيضا الشرع و العلم معا[14] .

                و من ذلك يتبين أن أرسطو انطلق من جزئيات استقرائية استنتج منها كلية ليست منها . فلا هي صحيحة ،و لا يقينية ،و لا حتى راجحة ، و لا تحتملها تلك الجزئيات . فكيف سمح لنفسه أن يستخرج كلية ذلك هو حالها من جهة ، و لا تنسجم مع طريقته القياسية الصورية في استخراج النتائج من مقدماتها من جهة أخرى ؟! .

                و واضح من ذلك أيضا أن أرسطو فرض كليته على مُقدماته الجزئية فرضا قسريا ، ليس انطلاقا منها ،و إنما انطلاقا من رغباته و خلفياته المذهبية ، فحمّلها ما لا تحتمل ،و قوّلها ما لم تقل . و هذه جريمة في حق العقل عامة و المنطق خاصة.

                و النموذج التاسع مفاده أن أرسطو نصّ على أن الحيوان المستقيم الأمعاء أكثر رغبة لشهوة الطعام من الحيوان غير المستقيم الأمعاء ، الذي هو أقل رغبة لطلب الطعام[15] .

                و أقول: يتضمن كلامه تعميمين: واحد يخص الحيوان المستقيم الأمعاء ،و الثاني يتعلق بالحيوان غير المستقيم الأمعاء . قررهما من دون أن يذكر أنه اعتمد على استقراء ناقص و لا تام ، و لا ذكر لنا أمثلة واضحة دقيقة تتعلق بحيوانات معينة تشهد له على معاينته لما قرره ،و تساعدنا للتأكد مما قاله . فهل قوله هذا صحيح ؟ ، إنه ليس صحيحا ،و الرجل بناه أساسا على الظن لا على التجربة و الاستقراء الصحيح . فظن أن استقامة الأمعاء سببها رغبة الحيوان الشديدة إلى الطعام ،و يحدث العكس عند الحيوان غير المستقيم الأمعاء ، فتكون رغبته إلى الطعام أقل. فالرجل أخطأ في قياسه ، و لم يكن منطقيا و علميا من جهة التعليل و لا الوظيفة ،و لا المشاهدة .

                فأما من جهة التعليل ، فسبب استقامة الأمعاء ليس سببه الأساسي هو الرغبة في الطعام ،و إنما هو هيئته الخَلْقية ، فبما أنه حيوان طويل الجثة كالثعابين و التماسيح مثلا ، فمن المنطقي جدا أن تكون أمعاؤها مستقيمة . لكنها لو كانت كالأبقار مثلا فمن المنطقي جدا أن تكون أمعاؤها مطوية و ليست مستقيمة .

                و أما من جهة الوظيفة فليست الأمعاء و لا أشكالها هي التي تجعل الحيوان أكثر شهوة للطعام ، أو قليل الرغبة فيه . و إنما المعدة هي التي تستقبل الطعام ،و حجمها له دخل كبير في كمية ما يأكله الحيوان من جهة .و كميته مُرتبطة أيضا بجثة الحيوان و حاجته إلى الطعام بناء على طبيعته ،و نشاطه و تناسله ، و مناخه من جهة أخرى . و أما الأمعاء فليس دورها استقبال الغذاء ابتداء ، و إنما هي تستقبله مطحونا ناضجا تستخلص منه الغذاء ،و الأملاح ، و الماء ، و تطرح الفضلات خارج الجسم[16] .

                و أما من جهة المشاهدة ، فالواقع يشهد أننا نجد حيوانات كثيرة الرغبة إلى الطعام مع اختلاف هيئات وضعية أمعائها ، كالزواحف و المواشي ،و الكائنات المائية و البرمائية ، منها : التماسيح ، و الحيتان ، و الأبقار ، و الفيلة ، و الجمال . و قد نجد اختلاف ذلك حتى في النوع الواحد ، كما هو حال الإنسان ، فيوجد من البشر من هو كثير الرغبة في الطعام ، و منهم من ليس كذلك . فهل الكثير الرغبة أمعاؤه مُستقيمة ،و الآخر أمعاؤه مطوية ؟؟!! . و كم من إنسان كان كثير الطعام ثم تغير حاله ، فأصبح لا يتناول إلا الضروري منه ، و قد يحدث العكس . فهل حدث تغيّر لوضعية و هيئة أمعاء هؤلاء ؟؟!!.

                و النموذج العاشر مفاده أن أرسطو قرر كلية عامة نصّ فيها على أن (( كل مُتحرك فواجب ضرورة أن يكون يتحرك عن شيء ما ))[17] .

                و أقول: قوله هذا غير صحيح بتعميمه ،و فيه خطأ في طريقة تقريره و استقرائه . لأن الحركة هنا هي صفة لذات ،و ليست هي نفسها الذات . و بما أن الصفات تابعة للذات ، فلا يصح القطع بأن (( كل مُتحرك فواجب ضرورة أن يكون يتحرك عن شيء ما )) . و إنما الصواب هو أن نطرح الموضوع و نقرره انطلاقا من طبيعة الذات و حقيقتها ، التي عليها تقوم الصفات ،و تكون تابعة لها بالضرورة ، و ليس العكس . و عليه فيجب أن نقول : هل هذا المتحرك خالق أو مخلوق ؟ ، فإذا كان مخلوقا فبالضرورة أنه يحتاج إلى من يخلقه بذاته و صفاته ،و في هذه الحالة تكون حركته صفه تابعة له ،و ليست هي الأصل و المقياس لمعرفة حدوث الشيء من عدمه .

                و إذا كان المتحرك هو الخالق ، فهو أزلي ،و ليس مخلوقا ، و صفاته أزلية تابعة لذاته بالضرورة . و في هذه الحالة تكون حركة الخالق كمالا و ليست نقصا من جهة ، و لا يحتاج إلى من يُحركه من جهة أخرى . لأنها صفة أزلية تابعة لذاته المقدسة الأزلية . و بذلك يكون الخالق أزليا مُحركا مُتحركا ،و ليس كما وصفه أرسطو بأنه المحرك الذي لا يتحرك . و لا يصدق عليه أيضا حكمه السابق بأن ((كل مُتحرك فواجب ضرورة أن يكون يتحرك عن شيء ما )) .
                و من ذلك يتبين أن قول أرسطو لا يصدق على كل متحرك ،و لا يصح تقريره بالطريقة التي قرره بها . فالرجل أخطأ في كليته لأنه لم يحتكم فيها إلى العقل الصريح ، و إنما احتكم أساسا إلى رغباته و ظنونه ، و خلفياته المذهبية من جهة . و لأنه كان جاهلا بالله جهلا كبيرا حتى أنه لم يستطع أن يفرق بين الخالق و المخلوق تفريقا صحيحا حاسما من جهة أخرى . فانقلب ذلك سلبا على منهجه الاستدلال الذي صاغ به كليته السابقة.

                و النموذج الحادي عشر يتضمن كلية تتعلق بدماغ الحيوان مفادها أن أرسطو نصّ على أن (( الدماغ بارد جدا أكثر من جميع الأعضاء الذي في أجساد الحيوان ))[18] .

                و أقول: قوله هذا ظاهر البطلان ،و قد سبق أن توسعنا فيه في الفصل الثاني ، لكن يهمنا منه هنا طريقة الاستدلال التي اتبعها فيه . فعلى ماذا اعتمد أرسطو في تقريره لحكمه هذا ؟! . فإذا كان اعتمد على المعاينة و التجربة ، فهما يُخالفان زعمه و ينقضانه كلية ، لأن الواقع يشهد خلاف زعمه . و إذا كان اعتمد على الاستنتاج المنطقي المجرد ، فهذا لا يُوجبه منطق صحيح ، و لا عقل صريح . فمن أين له بذلك الزعم ؟؟!! . إنه كعادته فعندما يُخالف العقل الصريح و العلم الصحيح ، فإنه يكون قد اعتمد أساسا على ظنونه و رغباته و تحكماته ، ثم لا يُبالي بعد ذلك أوافق العقل و العلم أو خالفهما !! . و هذا انحراف خطير عن منهج منطق البحث و الاستدلال ، بل إنه هدم له من جهة ،و هو جريمة نكراء ارتكبها أرسطو في حق المنطق و العقل و العلم من جهة ثانية .

                و النموذج الثاني عشر مفاده أن أرسطو قرر أن (( ليس في كل دَسَم شيء من الماء ،و لا من الأرض بل من الريح . و لذلك يطفو على الماء ، لأن الهواء الذي فيه يحمله و يطفو ، مثل الذي يكون في وعاء ماء. و هذا علة خفته ))[19] .

                و أقول: قوله هذا غير صحيح علميا ، لأن الثابت أن الهواء غازات ، منها تتكون كل السوائل و المواد الجامد و الغازية حسب حالاتها ، منها الدهون و مشتقاتها من الزيوت و الدُسُم ، فالأصل الأول لكل تلك المواد واحد . و من المكونات الغازية المشتركة بين الماء و الزيوت و الدَسم نجد : الهيدروجين ،و الأكسجين . و سبب طفو الزيوت و الدُسم على الماء ، ليس هو كما قال أرسطو ، و إنما هو الاختلاف في درجة الكثافة ، و توجد بعض الزيوت هي أثقل من الماء[20] . و هو- أي أرسطو- في خطئه هذا قد يكون معذورا في أكثره ، لكنه غير معذور في طريقة الاستدلال . لأنه أصدر كلية خاطئة عممها على كل الدُسُم من دون استقراء صحيح لأنواع الدسم. و إنما اعتمد على تفسير ظني غير ثابت تجريبيا ، فظن أن طفو الدسم على الماء سببه خُلوّه من الماء و من أي عنصر أرضي من جهة ، و أنه يوجد هواء بداخله هو الذي يحمله من جهة أخرى . و هذا تفسير غير صحيح كما سبق أن بيناه ، و الرجل لم يكتف بأنه أخطأ في التفسير ، و إنما عمم حكمه على كل دَسَم . و هذا انحراف منهجي كبير في الاستدلال ، لا يصح الوقوع فيه ، لأن الدَسَم أنواع كثيرة متباينة الخصائص لا يصح إصدار حكم عام ثم تعميمه من دون تثبت و معاينة و تجربة . فالرجل هنا أخل بشروط القياس التجريبي الاستقرائي ، فأخطأ في كليته ، التي لا يمكن أن تكون مقدمة كلية نبني عليها القياس الصوري اليقيني .

                و النموذج الثالث عشر مفاده أن أرسطو قرر كلية جغرافية مفادها أن جميع الأنهار العظيمة في العالم تسيل من الجبل المُطل على البحر المحيط[21].

                و قوله هذا مثير للضحك و ظاهر البطلان ، و قد سبق بيان ذلك في الفصل الثاني ، لكن يهمنا منه طريقة الرجل في الاستدلال . فواضح من قوله أنه أصدر كلية جغرافية تتطلب منه القيام برحلة استطلاع و معاينة للوقوف على مصبات جميع أنهار العالم الكبرى لكي يستطيع أن يُقررها . لكن الحقيقة هي أنه لم يحرك سكنا ، و إنما تكلم بظنونه و رغباته كعادته ، من دون حرج من نفسه و لا من غيره . فأين الاستقراء الذي بدونه لا يُمكن الوصول إلى المقدمة الكبرى ، و قد نصّ هو على ذلك صراحة في منطقه[22] ؟؟!! . فكيف سمح لنفسه أن يُقرر كلية من دون استقراء شامل لكل عناصرها ؟! . و بما أنه أهمل الاستقراء ،و قرر كلية لم يتأكد منها ، فهذا يعني أنه يتعمد القول بلا علم ، و تدوين معلومات غير مُتأكد منها . و هذا غش سافر ، و تحريف مقصود عن سبق إصرار و ترصد . و بما أنه وصل إلى هذا المستوى من اللاعلمية ، فالرجل قد داس على منطقه و منهجه العلمي في البحث و الاستدلال ، و جعلهما من وراء ظهره ، و قدّم عليهما ظنونه و رغباته .

                و النموذج الرابع عشر مفاده أن أرسطو عندما أشار إلى أن الملاحظ على الحيوان الكبير الجثة أنه قليل الزرع ، و أن الحيوان الصغير الجثة كثير الزرع ، طبق ذلك على الشجر الكبير بقوله : (( ما كان من الشجر عظيم الجثة لا يحمل ثمرة كثيرة ))[23] .

                و أقول: قوله هذا لا ينطبق على كثير من الأشجار الكبيرة الحجم من جهة ، و هو قد أخطأ في تعميمه و قياسه و تعليله من جهة أخرى . و تفصيل ذلك أنه لا يصح تطبيق ملاحظته المتعلقة بالحيوانات الكبيرة الجثة القليلة الإنجاب ، على الأشجار الكبيرة الحجم ، بأنها هي أيضا قليلة الثمار!!. فلا توجد بينهما علاقة لزوم ، و ليس من الحكمة و لا الصواب أن تكون موجودة . لأنه إذا كان الحيوان الضخم الجثة قليل الإنجاب كالفيل مثلا ، فإنه من الحكمة أن يكون كذلك ، لأن كثرة الإنجاب يضر بالطبيعة و الحيوانات الأخرى لما يسببه لها من تهديد في ذاتها و أمنها و غذائها مثلا . لكن ليس من الحكمة أن تكون الأشجار المثمرة الكبيرة الحجم قليلة الثمار ، و إنما العكس هو المطلوب ، لكي توفر الغذاء لمختلف أنواع الكائنات الحية. و من تلك الأشجار : شجرة الزيتون ، و البلوط ، و الجوز ، و التين ، فهي أشجار كبيرة الحجم كثيرة الثمار .

                فواضح من ذلك أن أرسطو أستخدم قياس التمثيل ، فأخطأ في تعليله و تعميمه من جهة ،و في تقديمه على التثبت و المعاينة و سؤال أهل الخبرة بالأشجار من جهة أخرى . فكانت النتيجة أنه وصل إلى كلية غير صحيحة منهجا و لا نتيجة ،و لا تصلح لتكون مقدمة يقينية للقياس الصوري. أفلم يكن يعرف أنه توجد أشجار ضخمة كثيرة الثمار ، كأشجار الزيتون ، و البلوط ، و التين ،و الجوز ؟؟!! .

                و النموذج الأخير - الخامس عشر- مفاده أن أرسطو وقع في أخطاء كثيرة بسبب تعميمه لحكمه من دون تأكد شامل تام من جهة ،و من دون احتياط ،و لا استثناء ،و لا تخصيص دقيق من جهة أخرى .

                مع أن المنطق العلمي الصحيح يفرض ذلك على صاحبه فرضا ، و لا يحق له تجاوزه . و إذا كان مارس استقراءً واسعا على جنس مُتعدد الأنواع ،و ليس عليها جميعا، فعليه هنا أن يحتاط أكثر لاحتمال أن تكون عناصر الأنواع غير المُستقرأة لا ينطبق عليها ما وصل إليه من النتائج المتعلقة بالأنواع المُستقرأة . و كل هذا لم يلتزم به أرسطو ،و لا احتاط له في كثير من مواقفه التي تتطلب الاستقراء بنوعيه-الناقص و التام- . و قد ذكرنا في كتابنا هذا عشرات النماذج التي عمم فيها أرسطو أحكامه من دون احتياط و لا تحفظ ، إما من دون استقراء أصلا ، و إما أنه مارسه جزئيا . و زيادة للفائدة و التوضيح أكثر، أذكر هنا المثال الآتي : مفاده أن أرسطو نصّ على أنه ليس لشيء من أجناس الأسماك أرجل ، و خطّأ من قال : إن لسمكة ماسكة السفينة أرجلا ، و إنما يُظن أن (( لها أرجلا لأن أجنحتها شبيهة بأرجل ))[24] .


                و قوله هذا صحيح يصدق على معظم الأسماك المعروفة ، لكن مع ذلك كان عليه أن يحتاط و لا يُعمم حكمه . لأن بما أنه لم يقم باستقراء لكل أسماك العالم ،و ليس في مقدوره القيام به ، فالمنطق العلمي يفرض عليه أن يتجنب القطع و التعميم . لأن الحقيقة هي أنه أخطأ في موقفه الذي عممه ، لأنه توجد أسماك غريبة و نادرة لها أرجل تمشي عليها حقا ،و ليست مجرد أجنحة ، فتمشي عليها و تسبح بها معا ، كما هو مُبين في الصور الآتية[25] رقم:61 ، 62 ، 63 ، 64 ، 65 .








                الصورتان رقم : 61، 62 – سمكتان لهما أرجل-







                الصورة رقم : 63 – سمكة لها أرجل –




                الصورة رقم: 64 – سمكتان لهما أرجل –






                الصورة رقم : 65 – سمكة لها أرجل -

                و من تلك النماذج- الهادفة و المتنوعة- يتبين أن أرسطو أصدر كليات كثيرة – ذكرنا منها 15 نموذجا- أخطأ فيها أخطاء منهجية و معرفية واضحة لا تقبل التبرير ، و قد زاد عددها عن 30 خطأ و انحرافا منهجيا . و قد ركزنا عليها من جهة مدى التزام أرسطو بشروط تكوين الكليات القياسية الصورية اليقينية ، فاتضح أنه لم يلتزم بها ، و أخل بها إخلالا كبيرا . فترتب عن ذلك أنه فشل في الحصول على كليات صورية يقينية تكون بدورها مقدمات كبرى نبني عليها أقيسة صورية تكون نتائجها يقينية .

                _______________________________
                [1] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 6 .

                [2] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 10 .

                [3] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الحية .

                [4] أنظر مثلا : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الحية .

                [5] أرسطو : في أعضاء الحيوان ، ص: 72 .

                [6] سبق تناول ذلك في الفصل الثاني .

                [7] أنظر مثلا : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الحية ، و الحيوان , و حيوان الدم الحار .

                [8] أرسطو : في أضاء الحيوان ، ص : 73 .

                [9] سبق توثيق ذلك في الفصل الثاني ، و أنظر أيضا : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : القلب .

                [10] أرسطو : طباع الحيوان ، ص: 65 .

                [11] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص: 55 .

                [12] أرسطو : مقالة اللام ، مُلحقة بكتاب أرسطو عند العرب ، ص: 4 .

                [13] سبق توثيق ذلك في الفصل الأول ،و هذه الكلية معروفة قالها الرجل على أساس قوله بأزلية الكون .

                [14] سبق بيان ذلك في الفصلين الأول و الثاني .

                [15] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 7 .

                [16] أنظر : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الأمعاء .

                [17] أرسطو : الطبيعة ، ج 2 ص: 733 . و عليه فإن الإله عند أرسطو لا يتحرك ،لأنه هو المُحرّك الذي لا يتحرك ، و قد سبق أن توسعنا في هذا في الفصل الأول .

                [18] أرسطو : في أعضاء الحيوان ، ص: 37 .

                [19] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 61 .

                [20] أنظر: الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الزيت ، الدهن ، الدهنيات .

                [21] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 76 .

                [22] سبق نقل ذلك و توثيقه .

                [23] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 155 .

                [24] أرسطو : طباع الحيوان ، ص: 81 .

                [25] الصور مأخوذة من الشبكة المعلوماتية .
                أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                كتب وورد
                هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                تعليق

                • باحث سلفى
                  =-=-=-=-=-=

                  حارس من حراس العقيدة
                  • 13 فبر, 2007
                  • 5183
                  • مسلم (نهج السلف)

                  #23
                  ثانيا: انحرافات و خصائص منطق البحث و الاستدلال:


                  وقع أرسطو في انحرافات و أخطاء كثيرة تتعلق بممارسته لمنطق البحث و الاستدلال ، أخل فيها بشروط و أبجديات البحث العلمي إخلالا كبيرا من جهة ؛ و نتجت عنها سلبيات كثيرة أفسدت و شوّهت منطقه الاستدلالي من جهة أخرى . نذكر منها 14 نموذجا هي من باب التمثيل لا الحصر .

                  النموذج الأول منها أن أرسطو كثيرا ما اعتمد أساسا على أقيسته الظنية الفاسدة ، في تقرير أمور ملموسة ، على حساب المعاينة و التجربة و التثبت . فأوقعه هذا المسلك في أخطاء كثيرة لا يصح الوقوع فيها ، لأنه كان في مقدوره التثبت منها ، و تفادي الخطأ فيها . من ذلك قوله : (( فأما القرد فلأن صورته مُشتركة ، أعني أن فيها شِركة من صورة الحيوان الذي له رجلان،و الحيوان الذي له أربع أرجل ، فليس له ذنب و لا وركان . لأنه ذو رجلين اثنين فقط ليس له ذنب ،و لأنه ذو أربع أرجل ليس به وركان ))[1] .

                  و قوله هذا فيه انحراف كبير عن الاستدلال الصحيح ، يتعلق بالقياس و التجربة ، و قد بناه على معلومتين غير صحيحتين . فأما المعلومة الأولى فإنه ليس صحيحا أن القرود ليست لها أذناب ، و إنما هي على نوعين ، منها ما ليس له أذناب كالقرد البربري ، و الأورانج أوتان ، و الشمبانزي ، و منها ما لها ذيول قصيرة ، و منها ما لها ذيول طويلة كالتي تعيش على الأشجار ، كالقرود النباحة و العنكبوتية[2] .
                  و المعلومة الثانية هي أنه ليس صحيحا أن الحيوان الرباعي الأرجل ليس له وركان ، بل عنده وركان ، و حتى القرود أيضا لها وركان[3] ،و قد سبق أن بينا ذلك في الفصل الثاني. فواضح من ذلك أن الرجل لم يتأكد من معلوماته ، و كان عليه أن يتثبت منها قبل استخدامه لها ، إما بالمعاينة المباشرة ، و إما بسؤال أهل الخبرة ، لكنه – كعادته – أهمل التجربة و التثبت و اعتمد على ظنونه و رغباته !! .

                  و أما الانحراف المتعلق بالقياس ، فأرسطو قد أخطأ في ممارسته ، لأنه لا توجد علاقة ضرورة بين وجود الرجلين و عدم وجود الذنب ،و لا توجد أيضا بين وجود أربع أرجل و عدم وجود الوركين . فقياسه لا يُوجبه عقل و لا واقع ، فمن أين له به ؟؟!! . فإذا كان الإنسان له رجلان و ليس له ذنب ، فإن الطيور لها رجلان و لها أذناب . و القرود تستطيع أن تمشي على رجلين و على أربع ، و منها ما له ذنب ، و منها ما ليس له ذنب . و كذلك عَظْم الوركين ، فوجوده لا يتوقف على عدد أرجل الحيوان ، ولهذا فهو موجود عند الكائن الثنائي الأرجل كالإنسان ، و عند الرباعي الأرجل كالحصان ، و الجمل[4] .

                  و النموذج الثاني مضمونه أنه من أخطر انحرافات منطق أرسطو عن الاستدلال الصحيح أن له مواقف افتري فيها على المنطق الفطري باسم البديهة و الطبيعة ، فعل ذلك خدمة لرغباته و مذهبياته و مصالحه . فعله مرارا بطرق و مسميات عديدة و متنوعة ، و لعل من أخطرها و أوضحها قوله المتعلق بالعبودية و الحرية ، فقال: (( يمكن بالبديهة أن نسموا بهذه المناقشة ،و نقرر أنه يُوجد بفعل الطبع عبيد و أُناس أحرار )) . و قال أيضا : (( الطبع يُنشئ الرق ، و لا ينشئ السكاف ،و لا عامل آخر )) [5] .

                  و قوله هذا جريمة نكراء في حق المنطق و العقل و العلم ، و في حق الإنسانية جمعاء . لأنه مُغالط و مفترٍ يتعمد الافتراء على البديهة و الطبيعة ، مع أن الصواب هو عكس زعمه تماما . لأننا نعلم بالبديهة و الطبيعة أن البشر كلهم أحرار ، و أن الطبيعة تُنشئ الحرية لا الرق ، ،و أن ظاهرة الرق هي أمر طارئ عليهم ، و غير عادي و لا طبيعي ، أنتجته الأوضاع الاجتماعية الظالمة . و أما السكاف – الإسكافي- فقد أنتجته الظروف الاجتماعية العادية الطبيعية ، لأنه لابد للناس من سكاف يصنع و يُصلّح لهم أحذيتهم ، لكن الرق ليس ضروريا لهم . فهذا الذي تقوله الفطرة و البديهة ، و ليس ما زعمه أرسطو المُدلس المُسفسط ، الذي عكس الأمر لغاية في نفسه . و نحن هنا نحاسب أرسطو ليس لأنه أيد الرق ، فهذا أمر آخر مُرتبط بمصالحه و ظروفه ، و إنما نحاسبه و ننتقده لأنه افترى على المنطق و الطبيعة و البديهة ،و استخدم ذلك لتأييد أمر مُخالف للمنطق و البديهة و الطبيعة . فهذا الرجل لا يتورع من استخدام قدرته على السفسطة و الجدال ، لتوظيف المنطق و بدائه العقول و الفطرة ، لخدمة رغباته و مذهبياته و مصالحه المُخالفة لما يُقرره العقل الصريح، و الفطرة السليمة ، و العلم الصحيح !! . فلو كان- في موقفه هذا- صادقا مع نفسه ، موضوعيا في طرحه ، وفيا مُخلصا للمنطق الصريح و العلم الصحيح ، ما فعل الذي فعل . إنه افترى على العقل الفطري البديهي باسم البديهة و الطبيعة من جهة ؛ و استخدمه ليٌقرر خلاف الموقف البديهي المخالف لما أراده أرسطو منه من جهة أخرى !! .
                  و بناء على ذلك فإن أرسطو- بمثل تلك المواقف و أخواتها- يكون قد سار على نهج السفاسطة الذين اشتد في انتقادهم ،و اتهمهم مرارا بالتغليط و التلاعب بالعقول لخدمة مصالحهم الدنيوية . لكن لا عجب في ذلك ، فَهُم سلفه ، و هو من تلاميذهم الذين تتلمذوا على تراثهم الجدلي ، فأتقن السفسطة و الجدال ، حتى أصبح من كبار سفاسطة اليونان و مجادليهم بطريقته الخاصة . و تراثه الفكري- الذي عرضنا جانبا كبيرا منه- شاهد دامغ على صحة ما قررته هنا !! .

                  و النموذج الثالث مضمونه أن من انحرافات منطق أرسطو و غرائبه أنه-في مواقف كثيرة- كان يسمح لنفسه أن يجعل رغباته و ظنونه ،و تحكماته و أوهامه مقدمات منطقية ، فيفرضها فرضا من دون دليل صحيح ، ثم يبني عليها أفكاره و استنتاجاته . و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ذكرناها في الفصول السابقة من هذا الكتاب . نُذَكّر بعضها فيما يأتي : منها قوله : إن المحرك الذي لا يتحرك يُحرّك الأجرام السماوية كما يُحرك المشتهي و المعقول ، على نحو ما تحركنا الأشياء المُشتهاة و اللذيذة ،و لاسيما المعقولة[6] . و منها زعمه : إن الإله يفعل ضرورة لا اختيارا ، و لا يعلم شيئا عن هذا العالم و لا يهتم به . و هو عقل يتأمل ذاته أزليا ، فهو العقل و العاقل و المعقول[7] . واضح من هذه الأباطيل و الأوهام و الخرافات- التي سبق إبطالها- أن أرسطو داس على المنطق الصريح ، و ارتمى في أحضان الأوهام و اللامنطق و اللاعلم . فأين البرهان و اليقين اللذان تغنى بهما أرسطو كثيرا ؟؟!!. و كيف سمح لنفسه أن يتكلم بلا علم، و يخوض في أمور لا يمكنه رؤيتها و لا التأكد منها بذاتها و لا بآثارها ؟؟!! .


                  و النموذج الرابع مفاده أن من انحرافات أرسطو و أخطائه المتعلقة بمنطق البحث و الاستدلال انه اتخذ مواقف بناها على مقدمات لم يتأكد من صحتها ، و استخدم فيها أقيسة غير صحيحة ، لكنه أكد على صحة نتائجها ، من دون تثبت و لا معاينة ، لا احتياط و لا استثناء . و قد ذكرنا على ذلك نماذج كثيرة فيما نقدم من كتابنا هذا ، نذكر منها هنا واحدا فقط . مضمونه أن أرسطو ذكر أن عدد بيضات أنثى القنفذ خمس ، و هي مستوية الاستدارة بسبب أن جسمه الخارجي مستوي الاستدارة من كل ناحية ، فكانت البيضة على شكله[8]. و كلامه هذا باطل جملة و تفصيلا ، لأن معظم القنافذ ولادة و ليست بياضة ، و أجسامها مستطيلة ، و ليست مُستديرة ،و بيضاتها لا يمكن أن تكون مستدير لأن القنفذ أصلا يلد و لا يُبَيّض . و حتى إذا فرضنا جدلا أنها بياضة و شكلها الخارجي مستدير فإن هذا لا يجعل البيضة مستوية الاستدارة بالضرورة ، لأنها صغيرة و توجد في الأحشاء الداخلية ، فهي قد لا تتأثر بالاستدارة الخارجية للجسم .
                  و من جهة أخرى فإن قوله باستدارة بيضة القنفذ استدارة كاملة ، كما أنه كان قياسا ناقصا و في غير محله ، فإنه لا يتفق أيضا مع قول سابق له نصّ فيه على أنه : ليس في بطون القنافذ(( شيء لحمي البتة ))[9] . و هذا يعني أن صلابة و عدم لحمية بطونها يجعل بيضاتها مستطيلة لا مُستديرة !! .


                  و النموذج الخامس مضمونه أن من خصائص منطق أرسطو أنه يستخدم السفسطة و التدليس و التغليط باسم المنطق ، و هذا يعني أن منطق أرسطو هو منطق انتهازي مُغالطي ، يُفسد المنطق الطبيعي و يفتري عليه باسم المنطق ، حتى أدخل منطقه في محنة لم يتمكن من الخروج منها . من ذلك انه سبق أن ذكرنا مرارا أنه زعم أن المحرك الذي لا يتحرك هو الفاعل الأزلي ، و أنه هو المحرك و الفاعل لهذا العالم . لكنه يعود و يزعم أن الإله لا فعل و لا اختيار له ،و أنه ليس هو الذي حرّك العالم تحريك فعل و قصد ،و إنما هو علة غائية للعالم الذي تحرك وحده في عشقه للمحرك الذي لا يتحرك ، و غير ذلك من خرافات و أباطيل أرسطو المتعلقة بإلهياته[10] . واضح من هذا الكلام الباطل أن أرسطو لم يكن يحتكم إلى العقل الصريح ، و لا إلى العلم الصحيح ، و إنما كان يُعبر عن رغباته و أهوائه و ظنونه باسم المنطق ، مُستخدما إياه وسيلة يٌقرر بها ما يريد ، لا مرجعا يحتكم إليه . و هذه هي السفسطة بعينيها ، فهو هنا لا يختلف عن السفاسطة الذين اشتد في انتقادهم و التشنيع عليهم . فهو سفسطائي مثلهم يُمارس السفسطة بطريقته الخاصة .


                  و النموذج السادس مفاده أن من انحرافات منطق الاستدلال عند أرسطو أن له مواقف كثيرة قرر من خلالها وجوب نتائجها انطلاقا من الظن لا اليقين من جهة ، و من دون أي دليل مقبول يُرجح ما ذهب إليه من جهة أخرى . فمن ذلك أنه يقول: (( و يجب أن يُظن ذلك من ... )) ، و (( فإذا وجب أن يُظن أن ... )) ، و (( كان القول يُوجب أنه ينبغي أن يُظن أن ... ))[11] . و هذا أسلوب مرفوض عقلا و علما ، لأنه يتضمن نقضا لمنطق الاستدلال القائم أساسا على الدليل الصحيح في المواقف المتضمنة للوجوب و اللزوم ،و الجزم و التأكيد . كما أنه لا يصح قوله و لا الاعتماد عليه أيضا ، لأنه إذا كان أمرا ثابتا يُوجب بطريقة سليمة نتيجة صحيحة فإنه لا يصح أن نقول : وجب أن يُظن ، أو : ينبغي أن يُظن ، أو : يجب أن يُظن . و إنما يجب علينا أن نجزم بالنتيجة دون ظن .
                  و إذا كان ذلك الأمر غير ثابت ،و يُوجب بطريقة غير سليمة نتيجة معينة غير مُتأكد منها ، فإنه لا يصح أن نقول : يجب أن يُظن ، أو ينبغي أن يُظن ، حسب تعبير أرسطو ، و إنما علينا أن نُبعد الوجوب و اللزوم ،و نقول مثلا : من المُحتمل أن يكون كذا . أو من الراجح أن يكون كذا ، أو ربما يكون كذا و كذا ، و غيرها من صيّغ الاحتمال و الترجيح . لكن أرسطو أهمل هذا ،و أوجب أمورا بالظن دون اليقين ، مع أن الوجوب و اللزوم يتطلبان اليقين لا الظن و لا الترجيح . فواضح من ذلك أن أرسطو ينطلق من رغباته و ظنونه ، و قناعاته الذاتية يُوجب بها نتائج و أمور غير ثابتة استدلالا و لا علما .

                  و النموذج السابع يتضمن حكما عاما يتعلق بأزلية السماء ، مفاده أن أرسطو نصّ على أن السماء ليست مُكوّنة و لا مُولدة ، و (( لا يمكن أن تقع تحت الفساد )) كما قال بعض الناس ،و لكنها (( لا مبدأ لها و لا منتهى في الدهر كله ، و هي علة الزمان ، الذي لا نهاية له مُحيطة به )) ، فالسماء دائمة غير واقعة تحت الفساد و الفناء[12] . و أنه قد استبان له و صح عنده- بناء على مقدماته و قياساته- أن السماء غير مصنوعة و لا مُكونة ، و أنها دائمة [13] .
                  و أقول : قوله هذا غير صحيح سبق أن بيّنا بطلانه علماً و شرعاً و عقلاً في الفصلين الأول و الثاني ، لكن الذي يهمنا منه هو منهج أرسطو في الاستدلال . فواضح من قوله أنه أصدر حكما قطعيا لا شك فيه حسب قوله . و هذا انحراف بيّن في مجال منطق الاستدلال العلمي ، لأنه خاض في أمر غيبي لا يُمكنه رؤيته ،و لا التأكد مما قاله ، و لا كان عنده دليل قطعي يثبت قوله . لذا كان عليه أن لا يجزم قطعا بما قاله ،و إنما يقوله بالترجيح و الاحتمال و عدم القطع . فالرجل قطع بأمر معتمدا على الظن و التخمين ، و مُنطلقا من رغباته و خلفياته المذهبية في الإلهيات ، و هذا مُخالف لما يتطلبه المنطق العلمي الصحيح من الاحتياط و الاحتراز و عدم التسرع عندما نخوض في أمور لا نراها ،و لا يُمكننا التأكد منها . لكن الرجل باع المنطق الفطري ،و منطقه الصوري و ضحى بهما من أجل مكاسب مذهبية تتعلق بعقيدته الزائفة .

                  و أما إذا قيل : إن الرجل اعتمد في ذلك على مقدمات و أقيسة أشار إليها بنفسه ،و لم يكن كلامه بلا دليل . فإننا نقول: هذا صحيح ، لكن الرجل اعتمد على ظنيات و تخمينات ،و رغباته و خلفياته المذهبية ، و لم يعتمد أبدا على دليل صحيح من العقل و لا من العلم ،و هذا سبق أن ناقشناه و بينا زيف و بطلان مقدماته في الفصل الأول . فالرجل – بسبب انحرافه المنهجي و العقدي- جعل ظنونه و رغباته و حتى خرافاته جعلها مقدمات و مقاييس اعتمد عليها في قوله بأزلية العالم و أبديته . فالرجل لو اعتمد على العقل الصريح ، و العلم الصحيح ما أخطأ فيما قال به، و بما أنه أخطأ فيه ، فهذا دليل قطعي على أنه اعتمد على الظنون لا على العلم . فهو إما أنه تعمد وصف ظنونه بأنها أدلة صحيحة ، و هذا يعني أنه مُدلس و مغالط و ليس بثقة . و إما أنه لم يكن قادرا على التمييز بين الأدلة الصحيحة القطعية و بين الأدلة الظنية و الزائفة ، و في هذا الحالة فهو لم يكن في المستوى المطلوب من ناحية منطق البحث و الاستدلال ، و ما عليه إلا أن ينسحب و لا يتكلم بلا علم . و في الحالتين فهو ليس أهلا لممارسة البحث العلمي الصحيح في مثل هذه القضايا .


                  و النموذج الثامن مفاده أن من انحرافات أرسطو الاستدلالية أنه كثيرا ما يستدل على أمور برغباته و ظنونه من دون دليل صحيح يُثبتها أولا ، ثم يُثُبت نتائجها ثانيا . من ذلك أنه عندما قال : إن السماء واحدة استدل على ذلك بقوله : (( و أما السماء واحدة فبيّن ... فإذا كان المُحرك الأول الذي لا يتحرك واحد بالكلمة و العدد ، فإذاً ينبغي أن يكون المُتحرك أبدا حركات مُتصلة واحدة فقط ، فإذا سماء واحدة فقط ))[14] . و قال أيضا : (( إنا قد بينا و أوضحنا بالمقالات المقنعة و البراهين الشافية ،و حققنا أن السماء كلها تكون من أسطقس ،و أنه لا يُمكن أن تقع تحت الفساد ... ))[15] .

                  و أقول: قوله هذا غير صحيح سبق بيان بطلانه في الفصلين الأول و الثاني ،و الذي يهمنا منه هنا طريقة استدلاله . فالرجل قرر أمورا و أكد على صحتها دون دليل صحيح ، كقوله : (( و أما السماء واحدة فبيّن )). و هذا غير ثابت و لا هو بيّن ، لأن ما نراه من السماء ليس دليلا على أنه لا توجد إلا سماء واحدة ، لأنه من الممكن جدا أن توجد أجرام و سماوات فوق ما نراه بأعيننا من السماء الدنيا . فليس بيّن قوله و لا ثابت ، و لا يصح له أن يجزم بذلك إلا إذا تأكد منه بالرؤية أو بالآثار الصحيحة الدالة عليه . و بما أن هذا لم يكن في متناوله ، فكان عليه أن يسكت و لا يجزم ، و لا يتكلم بلا علم صحيح ، هذا هو الذي يفرضه عليه منطق البحث و الاستدلال .

                  و منها قوله : ((إنا قد بينا و أوضحنا بالمقالات المقنعة و البراهين الشافية ،و حققنا أن ... )) . واضح منه أن الرجل لم يكن في مستوى التفكير العلمي الصحيح الذي يلتزم- في بحوثه - بالتفرّيق بين الدليل الصحيح ، و الدليل الضعيف و ما ينتج عنهما . فهو قد اعتمد على ظنون و رغبات ، و تأملات نظرية كانت مقدمات بنى عليها مواقفه ، ثم زعم أنه حقق ذلك ،و بينه بالمقالات المقنعة و البراهين الشافية . و هذا كله زيف و تحريف و تخريف . فهل هذا الرجل كان لا يُفرق بين الظنون و التأملات ،و بين الأدلة و البراهين و الحجج الصحيحة ، أم أنه كان يعرف ذلك لكنه تعمد وصف ظنونه و أوهامه و رغباته بأنها براهين و مقالات مُقنعة ، لتحقيق مكاسب مذهبية ؟؟!! . و أياً كان الجواب فالرجل هنا لم يلتزم بمنطق البحث و الاستدلال فيما يتعلق بالإلهيات و الفلك ، كما لم يلتزم به في الطبيعيات و الإنسانيات .

                  و منها قوله : (( فإذا كان المُحرك الأول الذي لا يتحرك واحدا بالكلمة و العدد ، فإذاً ينبغي أن يكون المُتحرك أبدا حركات مُتصلة واحدة فقط ، فإذا سماء واحدة فقط )) . فمن أين له أن وحدة الإله تستلزم مُتحركا له حركات أزلية مُتصلة واحدة تُعطي سماء واحدة فقط ؟؟!! ، هذا زعم باطل عقلا و شرعا و علما ، لأنه قول بلا علم ، كان عليه أن يُثبته بالدليل الصحيح أولا قبل قوله ،و هذا لم يفعله ،و لن يستطيع القيام به . و من أين له أن الإله له كلمة واحدة و فعل واحد ؟ ، و لماذا لا يكون الإله فعال لما يريد ،و يفعل ما يشاء و يختار ،و يتكلم بما يريد، و متى يريد ؟؟ !! . و لماذا لا يكون خلاقا كثير الخلق ؟؟ !! . أليس الإله الذي لا يستطيع فعل ذلك ليس إلهأً ؟؟! ، و أليس القول بما زعمه أرسطو هو نقض لمبدأ الألوهية من أساسه ؟؟!! . واضح إنه لن يستطيع أن يُجيب جوابا صحيحا ،و إنما هذا الرجل داس على العقل الصريح و العلم الصحيح ،و جعل أهواءه و ظنونه مقدمات بنى عليها مواقفه السابقة ، و زعم أنها صحيحة بالضرورة ، مع أنها في الحقيقة هي من أباطيله و خرافاته . فأين اليقين الذي أكثر الكلام حوله في كتبه المنطقية و غيرها ؟ ! ، و أين المقدمات اليقينية التي دعا إلى طلبها لاستخدامها في القياس الصوري ؟!. و هل من المنطق الجزم بأمور لا يستطيع العقل إدراكها مُشاهدة و لا بواسطة آثارها ؟! .


                  و النموذج التاسع يتعلق بطائفة من خصائص منطق أرسطو السلبية التي لا يُقرها عقل صريح ،و لا علم صحيح . منها أن أرسطو كان يحمل منطقا مريضا مغشوشا ، مُخلطا مُتناقضا ، مُعوجا نفعيا ، لا يتحرج من تناقضاته و خرافاته ، و لا من ظنونه و أقيسته الفاسدة ،و لا من انحرافاته المنهجية في البحث و الاستدلال . كما أنه لا يتورع من جعل رغباته و تحكماته مقدمات يبني عليها أفكاره ، و قد يجعلها نتائج لغير مقدماتها، و يُكذّب بها الواقع المحسوس ،و يتكلم في أمور كأنه رآها و تأكد منها ، مع أن الحقيقة أنه ما رآها و لا تثبت منها . كما في زعمه بأن الدماغ بارد و لا عروق فيه ولا دم ، و لا اتصال له بأي عضو في الرأس . و زعمه بأن كليتي الإنسان شبيهة بكليتي البقر لأنهما(( مركبتان من كِلى صغار كثيرة ...))[16] .


                  و النموذج العاشر يتعلق أيضا بطائفة أخرى من خصائص منطق أرسطو و حصيلة عمله ، منها أنه منطق فشل في إنشاء فلسفة تقوم على المنطق الصريح و اليقين الصحيح ؛ و إنما أقامها أساسا على المتناقضات و الظنيات ، و التدليسات و الخرافات ،و كثرة الأخطاء العلمية و الانحرافات المنهجية . كزعمه بوجود أزليين ، و قوله بتعدد الآلهة ، و قوله بحكاية العاشق و المعشوق ، و أن الإله لا فعل له ،و لا اختيار ،و لا علم له بالعالم . و كقوله بأن المنطق الصوري أفضل الأقيسة ،و أنه أساس العلم اليقيني . و إهماله للتجربة و استخدامه لظنونه و خلفياته المذهبية الزائفة في العلوم التجريبية ، و غير هذا كثير جدا . فهو منطق عجز عن القيام بنقد علمي للمنطق البشري من جهة ، و فشل في القيام بنقد علمي صحيح للإلهيات و علوم الطبيعة و الإنسان من جهة أخرى .

                  و النموذج الحادي عشر مفاده أن من خصائص منطق أرسطو أيضا أنه أنشأ فكرا غلب عليه التناقض: مُنطلقا و تطبيقا ، مع أن المعروف عنه أنه ركز كثيرا على مبدأ عدم التناقض في منطقه ، فلم ينتفع به إلا قليلا . و تفصيل ذلك هو أن منطق أرسطو أنشأ فكرا جمع بين المتناقضات فيما يتعلق بالإلهيات ،و قد سبق أن ذكرنا على ذلك نماذج كثيرة ، كقوله بوجود أزلييّن ، و نسبة الفعل للإله ثم نفيه عنه ، و القول بأزلية العالم ثم الزعم بأن له بداية تحرك فيها . و من جهة أخرى أنه-أي منطق أرسطو – أنتج فكرا الغالب عليه أنه مُتناقض مع حقائق علوم الطبيعة و الإنسان . فهو منطق أنتج فكرا معظمه غير منطقي و لا علمي.

                  و النموذج الثاني عشر مضمونه أن من أهم خصائص منطق أرسطو أنه عاجز من داخله لا يستطيع تحمل أعباء و تضحيات ما تتطلبه منه الأقيسة التجريبية من جهة ؛ و فيه غرور كبير و رعونة نفس ، و منفوخ بمرض التعالم و التعالي من جهة أخرى . لذا وجدنا أرسطو يُفضل التأمل النظري على التجريبي ،و يزدري القياس الجزئي و يُفضل عليه القياس الصوري التجريدي . و يُقدم ظنونه و رغباته على المعاينة و الاستقراء . و قد ضربنا على ذلك أمثلة كثيرة جدا ، نذّكر منها هنا واحدا فقط . مفاده أن أرسطو نصّ على أن الجبال الشاهقة هواؤها حار جدا ، لأنه (( مُتحرك ، و قريب من حركة النجوم ))[17] . و بما أن كلامه هذا باطل جملة و تفصيلا ، فهذا يعني أنه تكلم بلا علم ، و لم يُعاين ذلك بنفسه . فلماذا لم يُكلف أرسطو نفسه بأن يصعد إلى قمم الجبال العالية ليتأكد من نفسه ؟! ، و لماذا لم يسأل أهل الخبرة بذلك؟؟!! .


                  و النموذج الثالث عشر مفاده أن من أهم صفات منطق أرسطو و مميزاته أن فيه غلوا كبيرا أوصل إلى نتائج هزيلة جدا ، و قد تجلى ذلك في جانبين : الأول أنه غالى كثيرا في الاهتمام بطلب اليقين من الناحية النظرية عندما تكلم عن القياس الصوري من جهة . و عندما انتقد أقيسة السفاسطة و أفلاطون و وصفها بأنها ظنية ضعيفة لا توصل إلى اليقين من جهة أخرى . و الجانب الثاني يتمثل في أنه منطق غالى كثيرا - من الناحية التطبيقية- في إهمال التثبت و المعاينة و التجربة من جهة . و في الكلام بلا علم و عدم الاحتياط لمواقفه من جهة ثانية , و في تقديم ظنونه و رغباته و تأملاته على العقل و العلم من جهة ثالثة . فأوصله ذلك الغلو إلى نتائج كارثية أفسدت معظم فكره .


                  و النموذج الأخير – الرابع عشر – مضمونه أن من خصائص منطق أرسطو أنه منطق أفسد نفسه بنفسه من جهتين أساسيتين: الأولى أنه أخطأ أخطاء فادحة في مواقفه النظرية من المنطق عامة ، و القياس الصوري خاصة . و الجهة الثانية مفادها أنه- أي منطق أرسطو- عندما دخل الميدان التطبيقي لم يلتزم بمنطق البحث العلمي الصحيح في مجالي البحث و الاستدلال . فأفسد بذلك منطقه بنفسه: تنظيرا و ممارسة .

                  و قبل إنهاء هذا المبحث أذكر هنا أهم نتائجه ،
                  منها إن أرسطو أخطأ في المنطق أخطاءً منهجية أساسية أفسدت منطقه و مواقفه من الأقيسة الجزئية ،
                  فقزّمها و لم يضعها في مكانها الصحيح من جهة ، كما أنها أفسدت موقفه من القياس الصوري ، فغالى فيه و لم يضعه في مكانه الصحيح من جهة أخرى . فانفلت منه المنطق الصحيح ،و لم يتمكن من التحكم فيه تحكما صحيحا . فانعكس هذا سلبا على معظم فكره ، فلا هو أقامه على العقل الصريح، و لا على العلم الصحيح ،و إنما أقامه أساسا على ظنونه و رغباته ، و تأملاته و أقيسته الفاسدة .

                  و النتيجة الثانية مفادها أن الكليات التي توصل إليها أرسطو من ممارسته للعلوم - التي سبق ذكرها- ثبُت أنها غير صحيحة ؛ و سبب ذلك هو إما أنه توصل إليها باستقراء غير صحيح ، أو بلا استقراء أصلا. و هذا إهمال للتجربة و الاستقراء معا ، و خروج عن قياسه الصوري ، و عن منطق العلم التجريبي . و بذلك يكون أرسطو هو الذي نقض منطقه الصوري بنفسه من جهة ، و هدم جانبا كبيرا مواقفه النظرية من الأقيسة الجزئية عندما اشتغل بالعلوم التجريبية من جهة أخرى .

                  و النتيجة الثالثة مضمونها أنه من غرائب أرسطو و تناقضاته أنه من المعروف عنه أنه أهمل الاستقراء و قزّمه في كتبه النظرية ، و أهمله في مواقف كثيرة جدا عندما اشتغل بالعلم التجريبي ؛ ، لكنه عندما مارس ذلك اجتهد في طلب العلم الكلي فتوصل إلى كليات كثيرة ، وظّفها في بحوثه !! . فكيف استطاع التوصل إلى الكثير منها مع أنه قد أهمل الطريق الوحيد الموصل إليها و هو الاستقراء ، بل لم يستخدمه أصلا في كثير منها ؟؟!! . نعم هذا من غرائب الرجل و تناقضاته ، إنه طلبها من غير طريقها الصحيح ، إنه طلبها بظنونه و تأملاته ،و رغباته و مذهبياته . فضاعت منه الكلية اليقينية ،و حرم نفسه من ممارسة قياسه الصوري ، لأنه لا قياس صوري صحيح دون مقدمة كبرى صحيحة!!.

                  و النتيجة الرابعة مفادها أن أرسطو كثيرا ما استخدم أقيسة تطبيقية خاطئة في غير مواضعها الصحيحة ،و بغير اهتمام و احتياط ، و بلا تثبت و لا تجربة . و جرّب منطقه الصوري في علوم الطبيعة ، فلم يلتزم بشروطه النظرية الموصلة إليه من جهة ، و فرضه قسرا على مواضيع كثيرة فأوصله ذلك إلى كليات لا يقين فيها .

                  و النتيجة الأخيرة مضمونها أن أرسطو لم يحترم مناهج العلوم التي اشتغل بها ، في حالات كثيرة جدا ، بل إنه داس عليها مرارا و تكرارا . فكثيرا ما فرض عليها رغباته و ظنونه ،و أقيسته و خلفياته المذهبية . فلا هو التزم بالشروط التطبيقية للأقيسة الجزئية عامة ، و لا هو التزم بالاستقراء خاصة . و هذا هو السبب في كون كثير من كلياته غير صحيحة .

                  و إنهاءً لهذا المبحث يتبين منه أن أرسطو أخل كثيرا بشروط و أبجديات منطق البحث و الاستدلال ، و قد اتضح ذلك جليا من خلال النماذج التي ذكرناه للتمثيل لا للحصر . فأوقعه ذلك في أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة زادت عن 15 خطا و انحرافا منهجيا . و أظهرت أن منطق البحث و الاستدلال الأرسطي هو منطق ضعيف عاجز ، مغشوش مُتناقض ، فاسد مُسفسط ، ظني فاشل ، مُغالٍ في التأملات النظرية الظنية على حساب التأملات العلمية التجريبية .


                  و ختاما لهذا الفصل أورد هنا طائفة من أهم نتائجه المتعلقة بمواقف أرسطو من المنطق- تنظيرا و ممارسة- .

                  أولها أنه تبين قطعا أن أرسطو لم يكن مُتمكنا و لا متقنا للمنطق عامة و الصوري خاصة ، و لا تمهر فيهما تنظيرا و لا ممارسة . فقد كانت أخطاؤه المنهجية فادحة أفسدت عليه تفكيره المنطقي من جهة. و عندما مارسه في علوم الطبيعة لم يلتزم به ،و وقع في أخطاء فادحة نَقَضه بها من جهة ثانية . و هدمه عندما لم يلتزم بشروط الاستقراء في مواضع كثيرة جدا أوصلته إلى الخروج بكليات خاطئة و ظنية ليست يقينية من جهة ثالثة . و أدت إلى انهيار قياسه الصوري لانعدام الكلية اليقينية الصحيحة ، التي يجب أن تكون مستغرقة لكل عناصرها لكي تنتج لنا نتائج يقينية ،و بذلك يكون أرسطو قد وضع حدا لمنطقه الصوري و دفنه بيده . فلا هو فهم المنطق البشري فهما صحيحا ،و لا هو التزم بقياسه العقيم عندما خاض في العلوم الطبيعية ،و لا نجح في تطبيقه ، و لا هو التزم بما يفرضه عليه القياس الجزئي- الذي ازدراه- من القيام بالتجارب و المعاينات وفق ما تتطلبه العلوم التجريبية . و ربما تكون هذه النتيجة هي من أخطر و أعجب و أغرب النتائج التي توصلنا إليها في ذكر جنايات أرسطو على العقل و العلم في مجال منطق البحث و مناهج الاستدلال .


                  و النتيجة الثانية مفادها أنه قد تبين أن أرسطو كان من أكثر فلاسفة اليونان اهتماما بالمنطق ، و ممارسة له ، و تأليفا فيه . لكنه من جهة أخرى فهو من أكثرهم خطأ فيه ، و إفسادا له ،و اعتداء عليه ، ،و إهمالا له. بل إنه كثيرا ما فرّط فيه و هدمه ، و باعه بثمن بخص ، فقدّم عليه رغباته و ظنونه و مذهبيته ، بل و حتى خرافاته . و الشاهد الدامغ على ذلك هو فكره الهزيل الضعيف المملوء الأخطاء العلمية و الانحرافات المنهجية في مختلف العلوم التي خاض فيها، و قد بينا أن معظم إلهيات أرسطو هي هدم للمنطق و العلم معا . فلو كان منطقه علميا سليما قويا ما كان ذلك هو حال فكره !! .

                  و النتيجة الثالثة مضمونها أنه قد اتضح – بالأدلة الدامغة- أنه لو كان عمل أرسطو في المنطق صحيحا تطبيقا و منهجا لانتفع به صاحبه أولا ،و لأنقذه مما وقع فيه من مئات الأخطاء العلمية و الانحرافات المنهجية التي شملت إلهياته و طبيعياته و إنسانياته . و الحقيقة الثابتة هي أن صاحبه كان هو أول من دفع الثمن غاليا ، فبدأ بصاحبه فصرعه ، و ورّطه ،و كبّله ، و أورده الموارد المهلكة ،و أضحك عليه الناس ،و أوقعه في أخطاء فاحشة فادحة . فكان أرسطو كان أول ضحايا منطقه علما و تطبيقا و منهجا . فجنى بذلك على نفسه و أتباعه و على العقل و العلم معا ؛ و أدخل عقله و عقل أتباعه و المُتأثرين به في محنة لم يتخلّصوا من آثارها السيئة إلى يومنا هذا .

                  و النتيجة الرابعة مفاده أنه قد تبين من تاريخ المنطق عند اليونان أنه لا يوجد في الحقيقة منطق أرسطي و آخر غير أرسطي ،و إنما الصحيح أنه يُوجد منطق يُوناني شارك في نشأته ،و تعليمه و تدوينه و تقعيده أهل العلم اليونانيين عامة ، و السفاسطة ،و سقراط ،و أفلاطون ، و أرسطو خاصة . و قد عُرف بينهم أولا بالجدل ، و منه أخذ أرسطو القياس الصوري ، فاهتم به و توسع فيه ،و صنف فيه و في المنطق عامة كتبه المنطقية المعروفة . فكانت أعماله هذه تدوينا للمنطق اليوناني : جمعا و شرحا ، تقعيدا و تأريخا من جهة . و هي في الحقيقة لا تختتلف عن أعماله الأخرى في الإلهيات و الطبيعيات و الإنسانيات ، فقد كانت أساسا تدوينا و تأريخا للعلم اليوناني ، أكثر مما كانت إتقانا و إبداعا ، و تمحيصا له من جهة أخرى . و بناء على ذلك فلا يصح أن يُنسب منطق اليونان لأرسطو ، و لا لغيره من اليونانيين ، و إنما هو فن شارك في نشأته و تطويره و تدوينه علماء اليونان عامة و كبراؤهم خاصة .


                  و النتيجة الخامسة مضمونها أنه اتضح أن القياس الصوري يجب أن يُوضع في المكان الذي يُناسبه ،و أن لا يُحمّل ما لا يحتمله ، و أن الغلو فيه يُفسد العقل و العلم ،و يُصيبهما بالعقم ، و أن أرسطو كان في مقدمة المُغالين فيه ، فأولاه أهمية لا يستحقها أبدا. لأنه أولا أن القياس الصوري هو نتيجة و ثمرة لغيره ، فهو محكوم بجزئياته من جهة ، و لا وجود حقيقي له في الواقع كقياس صوري من جهة أخرى . و ثانيا إن الاكتفاء به يعني الجمود و عدم التوليد و الاكتشاف . و ثالثا إنه لابد لنا في الواقع من الاستمرار في البحث عن الكليات ، و لا يتم ذلك إلا بالعودة إلى الأقيسة الجزئية في الواقع ، و لا نعود إلى الكليات التي وصلنا إليها ، لأنها هي في ذاتها محدودة المجال حسب عناصرها الممثلة لها ،و لا تصلح خارج مجالها . و رابعا إن نتيجة القياس الصوري معروفة مسبقا ، فإذا عرفنا العنصر فلا نحتاج إلى الرجوع إلى العملية الثلاثية للوصول إلى النتيجة . فنحن نبقى دائما محتاجين إلى القياس الجزئي دائما فهو المنتج الدائم و ليس القياس الصوري ، الذي لا ينتج إلا ما تضمنه سابقا ،و لا يعطي إلا بجزئي يشمله مُسبقا .

                  و النتيجة السادسة مفادها أنه تبين لي يقينا أن المنطق الصوري لم يكن يحتاج أبدا إلى تلك الجهود المضنية و الأوقات الثمينة التي بذلها من أجله أرسطو و أتباعه و المهتمون به إلى يومنا هذا . و الشاهد على ذلك الأمور الأربعة الأساسية الآتية : أولها هو أن حصول العلم –النظري و التطبيقي- لا يتوقف على معرفة المنطق الصوري أبدا، فيمكننا أن نطلب ذلك العلم من دون أي حاجة ضرورية بالعودة إليه . و الثاني إنه قياس ثانوي في العلم و ليس أساسيا ، لأنه هو نفسه نتيجة للقياس الجزئي و تابع له وجودا و عدما و تفعيلا . و الأمر الثالث أنه مولود لا يلد علما جديدا ، و إنما يلد علما قديما معروفا مُسبقا. و الأمر الأخير –الرابع- أنه قياس فيه ضعف ذاتي بسبب تركيبته الداخلية: تكوينا ، و تفعيلا ، و نتيجة . و لهذا اهتم به السفاسطة كثيرا ، لأنه يتناسب مع نزعتهم الجدلية التدليسية التغليطية التي كانت غالبة عليهم . فجاء أرسطو و سار على نهجهم بطريقته السفسطائية الخاصة به .

                  و النتيجة السابعة مضمونها أنه تبين بالتجربة أن المنطق الصوري الأرسطي حمل ثقيل جدا ، إنه فن المعاناة و تضييع الأوقات و الجهود ، و تكسير الرؤوس و شغلها بالشقشقات و العبارات الجوفاء . إنه فن مملوء بالأغلال و القيود التي تُفسد الفكر و تُعوّقه ، و تُخرجه عن مساره الفطري . إنه فن حصيلته الصحيحة هزيلة جداً لا تكاد تُذكر ،و ما صح منها يُمكن الاستغناء عنه كلية ، و أخذه مباشرة بمنطقنا الفطري بطريقة سهلة سلسة . إنه فن من جهله يربح كثيرا و لن يخسر شيئا ، و من أخذ به ، فإنه سيخسر كثيرا ، و لن يربح منه شيئا له قيمة حقيقة ،و إن وَجَد قليلا منه ، فإنه موجود خارج منطقه بشكل أسهل و أوفر ، و أحسن و أضمن . لذلك و غيره ، فالمنطق الصوري فن لا يحتاج إليه العقل الصريح ،و لا العلم الصحيح ،و لا تتوقف عليه العلوم بما فيه المنطق الصحيح ، فنشأتها و تطورها لا يتوقفان على العلم به .


                  و النتيجة الثامنة مفادها أنه تبين لي أن الذي أفسد المنطق الصوري: تنظيرا ،و ممارسة ، و حصيلة ، هو أرسطو نفسه!!. إنه هو الذي أفسده بأهوائه و ظنونه ،و انحرافاته المنهجية ، أفسده تنظيرا ، و تطبيقا ،و مردودية . فأدخله في محنة لم يتمكن من التخلّص منها ، و لا استطاع أن يتجنب آثارها السيئة عليه.!!.

                  و النتيجة الأخيرة – التاسعة – مضمونها أنه تبين قطعا أن أرسطو وقع في أخطاء و انحرافات كثيرة جدا تتعلق بالمنطق تنظيرا و ممارسة ، زادت عن أكثر من 68 خطأ و انحرافا منهجيا ، و هي عينات من باب التمثيل لا الحصر . و هذا ليس بالأمر الهين ، بل إنه أمر خطير جدا ، انعكست آثاره السيئة على أرسطو و أتباعه إلى يومنا هذا من جهة ؛ و بها جنى على العقل و العلم قديما و حديثا من جهة أخرى .

                  ________________________________
                  [1] أرسطو : طبائع الحيوان البري و البحري، ص: 134 .

                  [2] الموسوعة العربية العالمية : مادة : القرد ، القرد البربري ، و ميشيل بورار : حياة القرود ، د ن ، 1979 ، ص: 48 و ما بعدها .

                  [3] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : القرد .

                  [4] سبق توثيق ذلك و التوسع فيه في الفصل الثاني .

                  [5] أرسطو : السياسة ، ص: 112 ، 130 .

                  [6] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 305 و ما بعدها .

                  [7] علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 201 .

                  [8] أرسطو : في أعضاء الحيوان ، ص: 112 ، 113 .

                  [9] نفس المصدر ، ص: 111 .

                  [10] عن ذلك و غيره راجع الفصل الأول .

                  [11] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ص: 351، 352 .

                  [12] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، حققه أسعد جمعة ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، 2002 ، ج 2 ص: 3 ، 4 .

                  [13] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ج 2 ص: 230 .

                  [14] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 354 ، 355 .

                  [15] ابن رشد : شرح السماء و العالم ، ج 2 ص: 3 ، 4 .

                  [16] سبق التوسع في ذلك و توثيقه في الفصل الثاني .

                  [17] سبق توثيقه في مبحث الأخطاء الجغرافية .
                  أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                  الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                  كتب وورد
                  هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                  للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                  تعليق

                  • باحث سلفى
                    =-=-=-=-=-=

                    حارس من حراس العقيدة
                    • 13 فبر, 2007
                    • 5183
                    • مسلم (نهج السلف)

                    #24
                    الفصل الخامس
                    خصائص فكر أرسطو و ظاهرة الغلو في تعظيمه



                    أولا: ظاهرة الغلو في أرسطو و فكره .
                    ثانيا: أهم خصائص فكر أرسطو .
                    أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                    الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                    كتب وورد
                    هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                    للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                    تعليق

                    • باحث سلفى
                      =-=-=-=-=-=

                      حارس من حراس العقيدة
                      • 13 فبر, 2007
                      • 5183
                      • مسلم (نهج السلف)

                      #25
                      خصائص فكر أرسطو و ظاهرة الغلو في تعظيمه


                      غالى كثير من أهل العلم – قديما و حديثا – غلوا كبيرا في مواقفهم المُعَظِمة لأرسطو و فكره ، حتى أخرجهم ذلك عن حدود العقل الصريح و العلم الصحيح . فضخموا الجوانب الإيجابية القليلة و نفخوها ، و أغفلوا الصفات السلبية الكثيرة جدا و قزّموها و هوّنوا منها . فما تفاصيل ذلك ؟ ، و ما هي أسباب غلو هؤلاء ؟ ، و ما هي أهم خصائص فكر أرسطو طاليس ؟ .


                      أولا: ظاهرة الغلو في أرسطو و فكره :


                      نورد هنا طائفة من أقوال أهل العلم المغالين في فكر أرسطو و صاحبه ، ثم نعلق عليهم بالرد و المناقشة حسب الطريقة التي اتبعناها في كتابنا هذا .


                      أولهم الفيلسوف المشائي أبو الوليد بن رشد الحفيد( ت 595هجرية ) إنه وصف[1] أرسطو بأنه الحكيم الأول[2]. و أنه لم يُقصّر في موقفه من هالة الشمس و القمر[3] ، فهكذا ينبغي أن (( يُفهم الأمر عن أرسطو في هذه الأشياء ، لا أنه قصّر قي ذلك و ترك شيئا يجب ذكره في هذا العلم و لا في غيره . فسبحان الذي خصّه بالكمال الإنساني،و كان المُدرَك عنده بسهولة ، هو المُدرَك عند الناس بعد فحص طويل و صعوبة كثيرة .و المُدرك عند غيره بسهولة خلاف المدرك عنده . و لذلك كثيرا ما ينشأ للمفسرين شكوك على أقاويل هذا الرجل ، ثم يتبين بعد زمان طويل صواب قوله ، و تقصير نظر الغير ، بالإضافة إلى نظره . و بهذه القوة الإلهية التي وُجدت فيه كان هو الموجد للحكمة و المتمم لها . و ذلك شيء يقل وجوده في الصنائع ، أي صناعة كانت ، فكيف في هذه الصناعة العظمى ؟ . و إنما قلنا أنه الموجد و المُتمم لأن ما سلف لغيره في هذه الأشياء ليست تستأهل أن تُجعل شكوكا على هذه الأشياء ، فضلا عن أن تكون مبادئ . و إذ قد تبين هذا ، فإذن ليس في أقاويل أرسطو شيء يحتاج إلى تتميم ، كما زعم أبو بكر بن الصائغ-ابن باجة- . نعم فيها أشياء كثيرة لم يفهمها هو و لا نحن بعده ،و بخاصة في الكتب التي لم تصل إلينا ، فيها أقاويل المفسرين . و لذلك كان الواجب عليه أن يستعمل الفحص عن كلامه لا بتلك الأشياء الخارجة عن طريقة التعليم ))[4] .

                      و وصفه أيضا بأنه أكبر الناس عقلا ،و هو الذي ألف علوم المنطق و الطبيعيات ، و ما بعد الطبيعة و أكملها . و سبب قوله هذا هو أن جميع الكتب التي أُلفت في هذه العلوم قبل مجيء أرسطو لا تستحق جهد التحدث عنها . ثم قال : (( نحمد الله كثيرا على اختياره ذلك الرجل-أي أرسطو- للكمال ، فوضعه في أسمى درجات العقل البشري ،و التي لم يستطع أن يصل إليها أي رجل في أي عصر ))[5] . و هو أعقل اليونان و واضع علوم المنطق و الطبيعيات ،و ما وراء الطبيعة و متممها ... و لا وجدوا خطأ فيها ، ...و (( يُوجب تسميته ملكا إلهيا لا بشرا )) ،و إننا نحمد الله حمدا كثيرا لأنه قدّر الكمال لهذا الرجل، و وضعه في درجة لم يبغلها أحد غيره من البشر في جميع الزمان ،و ربما كان البارئ مُشيرا إليه لما قال في كتابه (( و الفضل لله يُؤتيه من يشاء ))[6] ، و برهانه لهو (( الحق المبين ،و يمكننا أن نقول عنه : إن العناية الإلهية أرسلته إلينا لتعليمنا ما يمكن علمه ))[7] .
                      و من ذلك أيضا أنه –أي ابن رشد- كان يعتقد أن نظر أرسطو فوق نظر جميع الناس[8] .و أنه قال – فيما بعد الطبيعة قولا (( تاما و حل كل الشكوك في ذلك ))،و (( رأيه هو الرأي الذي تنفصل عنه جميع الاعتراضات ، و تنحل به جميع الشكوك الواقعة في المبادئ ))[9] .

                      و الثاني هو الباحث مصطفى النشار: زعم أن أرسطو اكتشف علم المنطق ، و كان هو المُعبر عن عصره باكتشافه الاستقراء و القياس ، و هو مُكتشف المنطق الصحيح للتفكير الإنساني ،و قد طبقه في كتبه الفلسفية و العلمية،و به كشف مغالطات التفكير السفسطائي[10]. و كان له الفضل في (( تأسيس الفلسفة كعلم ،و له أصوله و منهجه و غاياته . كما كان له فضل تأسيس معظم العلوم المعروفة ، مثل المنطق ،و علم النفس ،و علم الأخلاق ،و علم السياسة ، فضلا عن العلوم الطبيعية المختلفة كعلم الطبيعة ،و الفلك ، و علوم الحياة ،و خاصة علم الحيوان)). و وصفه بأنه كان (( فيلسوفا مُبدعا ،و منطقيا فذا ، و عالما حاول تخليص العلم من كثير من الخرافات و الأساطير التي علقت به في المراحل السابقة )) ، و (( كان حريصا في أبحاثه عن الحيوان مثلا ، أن يفحص ما يأتيه من معلومات من خلال ما يُشاهده هو بعينه ، و يزنه بميزان عقله )) [11].


                      و الثالث هو الباحث ولتر ستيس: ذكر أن أرسطو بمؤلفاته عن الحيوان أسس علم الحيوان ، و لم يكن هناك أحد قبله قام بدراسة خاصة لهذا الموضوع )) . و كان فذا في كل أنواع المعرفة ، مما يستحيل بالنسبة لرجل واحد في الأزمنة الحديثة ))[12] .

                      و الرابع هو الكاتب ول ديورانت : أشار إلى أن أرسطو وضع علم الفلك ، و أوجد علم الأحياء . و أن أول تميّز عظيم تميز به أرسطو عن سلفه ، و كان من (( وضعه و تفكيره هو وضعه لعلم جديد هو المنطق )) .و أن فلسفته كانت (( غزوا للعالم أفضل من غزو الأسكندر للعالم و انتصاره الهمجي )). و أن العلم قبل أرسطو كان جنينيا ، فَوُلد بمجيئه[13] . ثم زعم أن فلسفة أرسطو أبدعت النُظم الفكرية ،و أكثرها تأثيرا ،و قد وضعها عقل واحد فقط . و نحن نشك في (( أن يكون مُفكر آخر قد ساهم بمثل هذه الكثرة في تثقيف العالم و تنويره . لقد استمدت الأجيال كلها من أرسطو ، و وقفت على كَتفيه لترى الحقيقة . لقد استمدت ثقافة الإسكندرية العظيمة من كتاباته ، و استوحت إلهامها و معرفتها الغزيرة من فلسفته . و لعب منطقه دورا كبيرا في تشكيل العقول في العصور الوسطى البربرية ، و في تثقيفها و تهذيبها ، و صقلها و تنظيمها في أفكار مُتماسكة مُنظمة ))[14].


                      و الخامس هو الباحث فؤاد الأهواني : يقول : (( لم يكن أرسطو صاحب المنطق فقط ، بل يمكن القول : إنه صاحب كل علم ، و واضع أُسس معظم فروع العلوم الطبيعية ... ))[15].


                      و السادس هو الباحث يوسف كرم وصف أرسطو بأنه (( واضع المنطق و الفلسفة الأولى ،و العلم الطبيعي )) . و أنه (( بوضعه للمنطق قد يسر للناس مثل هذا العلم ، و بصّر العقل بنفسه ، و أبلغه رشده ))[16]


                      و سابعهم الباحث ماجد فخري وصف أرسطو بأنه (( أعظم عباقرة الفكر في التاريخ إطلاقا ))[17] .

                      و آخرهم – الثامن- محمد عابد الجابري قال: لا يُجادل (( أحد في العصور القديمة و لا الحديثة ، في أن أرسطو يستحق أن يُوصف بأنه كان نابغة أو بحر العلوم ))[18] . و أنه أقام فكره على نظام البرهان ، و لم يُقمه على البيان و لا العرفان[19].

                      و ردا على هؤلاء أقول : إن معظم ما زعمه هؤلاء هو باطل جملة و تفصيلا ، جمعوا فيه بين الغلو و المبالغات ، و المجازفات و الأخطاء الفادحة ، و الأقوال غير المسئولة ، و التعصب الممقوت لأرسطو و فلسفته. و هؤلاء الغلاة هم على طريقة شيخهم في الغلو و السطو و الاستحواذ على أفكار غيره كما سبق أن بيناه ، فهم أيضا سطوا على العلوم التي كانت قبل أرسطو و نسبوها إلى شيخهم و نفخوه بها من جهة . و أغفلوا ما قام به العلماء قبل أرسطو، و قزّموهم من جهة أخرى . و هؤلاء - و أمثالهم- إما أنهم لا يعون ما يقولون ، أو أنهم تعمدوا قول ذلك لغايات في أنفسهم . و كتابنا هذا هو دليل دامغ قاطع على بطلان مزاعمهم ، من جهة ،و هو شاهد قاطع كاشف لأباطيلهم و مغالطاتهم من جهة أخرى . و قد تبين من أقولهم أن فيهم تعصبا كبيرا لأرسطو بالباطل، وهم غُلاة حقا، ارتكبوا جرائم نكراء تجاه أنفسهم و الإنسانية ، و في حق العقل و العلم معا، أولهم ابن رشد . و هذا الرجل- أي ابن رشد- أمره غريب جدا ، تجاوز حدود الشرع و العقل و العلم في غلّوه و مدحه لشيخه أرسطو من جهة . و دلت أقواله على أنه رجل مريض فيه جهل كبير ،و سلبية و انهزامية ممقوتتين من جهة أخرى . و قد أفردتُ له كتابا للرد عليه[20] . و فيما يأتي نرد على هؤلاء ردا عاما جامعا ، فنقول و بالله التوفيق :

                      أولا ليس أرسطو هو الذي أنشأ الفلسفة ،و لا الإغريق هم الذين أنشؤوها ، لأنها ظهرت قبلهم بقرون مديدة . لأن الفلسفة بالمعنى العام الصحيح تعني توظيف الإنسان فكره لتلبية ما يريده من أفكار و إجابات ، و حاجيات متنوعة . و الفلسفة و العلم- بمعناهما الواسع - وُجدا بالضرورة مع وجود الإنسان ، فلا إنسان دون فلسفة ، و لا إنسان دون علم، و لا علم دون فلسفة ،و لا فلسفة دون علم . و عليه فإن كل الشعوب كانت لها فلسفات و علوم بالضرورة المنطقية و العملية ، سواء دونتها أو لم تدوّنها ، و سواء كانت راقية أو منحطة ، و سواء وصلتنا أم لم تصلنا . و قد كانت فلسفاتهم متداخلة بعلومهم ، و علومهم مُتداخلة بفلسفاته ،كما هو حاصل في زماننا هذا . فالتفلسف ليس حكرا على شعب دون آخر ،و لا على طائفة معينة من الناس دون غيرها ، فيمكن أن يظهر الإنسان الفيلسوف في أي شعب من الشعوب ،و في أي زمن من الأزمنة . و الشواهد الآتية تُثبتُ ذلك بوضوح :

                      منها ما سجله القرآن الكريم و بعض المصادر التاريخية القديمة من نماذج الحوارات و التأملات الفلسفية المؤمنة منها و الضالة ، تشهد على أن الإنسان مُتفلسف بطبعه . فأما من القرآن الكريم ، فمنها قوله تعالى :(( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ، لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب ))-سورة غافر:41-45 - . فهذا نص هام جدا يُصّور لنا منطق الإيمان و البديهة القائمة على العقل الصريح من جهة . و يكشف عن مشاعر و تأملات و ردود ذلك الإنسان المؤمن من جهة أخرى .

                      و منها أيضا قوله تعالى : {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }- سورة الجاثية:24- ، و {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }- سورة المؤمنون:37- . و هذا نص يكشف لنا عن منطق الضالين من الملاحدة و الشُكاك في موقفهم من الحياة الدنيوية : نشأة و ممارسة و مصيرا من جهة . و يكشف عن منهج تفكيرهم و بعض شبهاتهم التي تعلقوا بها و قد استنتجوها بمنطقهم المعوج من جهة أخرى .

                      و أما من التاريخ القديم فقد عثرت على نصين يتعلقان بالتأمل الفلسفي المُضطرب للإنسان الذي يعيش أزمة نفسية و فكرية . الأول مفاده أن أحد البابليين الملتزمين بدينه تأمل شقاءه الدنيوي ،و سعادة غيره فكتب يقول[21] :

                      " لم أكد أصل إلى الحياة حتى عبرت الزمن المحدد فاستدرت ... أنه شر ... وشر أكثر زاد الجور علي و لم أستطع بلوغ سقى صرخت إلى إلهي و لكن لم ينظر إليّ توسلت إلى ألهتي ولكنها لم تعن برفع رأسها أن العراف بعرافته لم يحدد مستقبلي ، و الساحر بضحية لم يستطع أن يجعل محاكمتي جلية لقد تحدثت إلى العراف و لكن لم يعلمني شيئًا ، أن الساحر برقاه لم يستطع أن يحل اللعنة التي أنا هدفها " " ما أكثر اختلاف الأحداث في العالم !
                      لقد نظرت ورائي : فوجدت الشر في عقبي كأنما لم أكن أقدم التقدمات بانتظام لإلهي و كأنما كنت لا أخلد ذكرى آلهتي في الوليمة و كأنما لم أحن وجهي و كأنما لم ينظر إلى عبادتي فكنت كمن توقفت الصلوات و الابتهالات في فمه "
                      " وكنت كمن انتهي يومه الإلهي ، لقد مات القمر الجديد و أصبحت مثل ذلك الذي اضطجع على جانبه واحتقر صورهم و الذي لم يعلم أتباعه الخوف و الإجلال
                      و الذي لم يذكر آلهة و التهم الطعام المخصص له
                      و الذي هجر آلهته و لم يأت بالمقرر عليه ،
                      و الذي كان ظالمًا ، و الذي نسى مولاه "
                      "والذي نطق كلمة آلهة القوى باستحقاق أنني أصبحت مثل ذلك الرجل أن مضطهدي يتبعني كل يوم ،
                      و عند قدوم الليل لا يدع لحظة أتنفس فيها ، إن أعصابي تتفكك من كثرة اضطرابي ، وقواي تنحل و أدي فألًا سيئًا "
                      " فأراني ملقى على سريري كالثور ملوثًا ببرازي كالشاة لقد عذبت الساحر عضلاتي المريضة وضللت العراف التنبؤات التي جاءته عني إن صاحب الرقى لم يفهم شيئًا عن مرضي ، ولم يضع العراف حدًا لعجزي ، و لم يأت إلهي لعوني ولم يأخذ بيدي "
                      " ولم ترحمني ألهتي ولم تسر إلى جانبي ، القبر مفتوح ومسكني تم الاستيلاء عليه (1)
                      وانتهى الحزن علي حتى قبل أن أموت
                      لقد رددت كل الناس " كم هو مهدم ! "
                      وسمع عدوي بذلك وتهللت أساريره
                      لأن بشارة الخبر قد وصلته فانبثق النور من قلبه "

                      واضح من النص أن هذا الإنسان فيه إخلاص لدينه لكنه قليل العلم ، أُحادي النظرة إلى موضوع الخير و الشر . لم يكن يعرف الإله الحق و لا دينه ،و إنما كان على دين الشرك و الظنون و الأهواء . لذلك لم يجد إجابات صحيحة لتساؤلاته ،و مع أنها معروفة شرعا و عقلا . و لم يُدرك أن خالقنا سبحانه و تعالى خلقنا لنعبده ،و أنه كما يبتلي بالشر و الضراء ، فإنه يبتلي أيضا بالخير و السراء . و الذي يهمنا من هذا النص هو طابعه التأملي الفلسفي العملي .

                      و أما النص الثاني فيتضمن قصيدة شعرية لأحد المصريين القلقين الشاكين ، يقول فيها [22]:

                      " إن الذين بنوا لأنفسهم قصورًا لم يبق شيء من بيوتهم فما الذي حدث لهم ؟ ولم يأت أحد من هناك فيقص علينا ما أصبحوا عليه ويخبرنا عن مصيرهم ، فتطمئن قلوبنا ونرتاح ، حتى نسرع أيضًا إلى المكان الذي ذهبوا إليه . فتمتع واجعل قلبك ينسى اليوم الذي يضعونك فيه في القبر لترتاح . أرم بكل الأحزان وراء ظهرك ، وفكر في السرور حتى يأتي اليوم الذي تصل فيه إلى ميناء تلك الأرض التي تحب الهدوء ( الموت ) . سر وراء رغبات قلبك مادمت حيًا . "
                      " أسكب العطور فوق رأسك ، و ألبس أفضل أنواع ملابس الكتان .
                      دع الغناء و الموسيقى أمام ناظريك ، و أكثر مما لديك من ملذات .
                      لا تجعل قلبك ينقبض ، و لا تحمل نفسك الهم حتى يأتي يوم الندب عليك .
                      أقضِ يومك سعيدًا و لا تشغل نفسك بشيء .
                      استمع إليَّ . لا يستطيع أحد أن يأخذ أمواله معه ، و لن يعود ثانية من يموت .


                      واضح من النص أنه من كلام أحد الدهريين الضالين ، الذين أشار إليهم القرآن الكريم ، و هو نفسه الذي يقوله الدهريون المعاصرون . و هو كلام أقامه صاحبه على ظنونه و أهوائه ، فهو شكك في المعاد الأخروي ، دون دليل صحيح ، و تعلق بظن دون دليل يُثبته . و اعتراضاته بعضها صبياني ،و أخرى ضعيفة جدا . كما أن نصيحته للإنسان ليست من المصلحة الحقيقية ، و لا من العقل الصريح، و لا من العلم الصحيح في شيء ، فهي نصيحة مسمومة قاتلة مدمرة . لأن الإنسان العاقل الذي لم يعرف الإله الحق ،و لا وجد الدين الصحيح ، عليه أن يحتاط لنفسه و يخاف عليها ،ولا يُنكر أمرا لم يتأكد من وجوده بدعوى أنه لم يره . فهذا اعتراض صبياني تافه ، لا يصح قوله عقلا و لا علما ، ليس هنا مجال الخوض فيه . و خلاصة الأمر أن الإنسان العاقل لا يعمل كما فعل هذا المصري المريض المِشكاك ، و إنما يعتقد و يقول لنفسه و غيره : أنا آمنتُ بالله و المعاد الأخروي بدليل العقل و البديهة ، و المنفعة المشروعة ، فأعيش مُطمئنا في الدنيا ، و عندما أموت إذا وجدتهما- أي الله و المعاد- ربحت كل شيء ، و إذا لم أجدهما فقد ربحت طُمأنينية الدنيا و لم أخصر شيئا في الحياة و لا الممات . لكن ذلك المصري و أمثاله عندما كفروا بالله و المعاد الأخروي فهم إن عاشوا سعداء في الدنيا- و السعداء منهم قليل- ، فإنهم عندما يموتون سيخسرون كل شيء إذا وجدوا الله و المعاد ، و لن يربحوا شيئا إذا لم يجدوهما . فمن الرابح إذاًً ؟؟!! . لكن الذي يهمنا هنا هو النزعة التأملية الفلسفية العملية التي تضمنها هذا النص .
                      و من تلك الشواهد أيضا أن أرسطو نفسه ذكر أن الفلسفة الإلهية كانت مزدهرة عند الكلدانيين . و علّق على ذلك ابن رشد بقوله : (( يُظن أن الحكمة كانت قد كملت عندهم ، إلا أن ما بقي من تلك الأقاويل يجري مجرى اللغز ))[23] .

                      و منها أيضا شواهد تتعلق بالفلسفة عند المصريين ، فقد كانت عادة الطلاب اليونانيين أنهم يُسافرون إلى مصر لتعلم الفلسفة [24] . و قد وصلتنا برديات مصرية لكبار حكماء مصر منهم : كاأرسو ، و بتاح حبت ، و إبور ، و نيكرع . و قد تناولت كتبهم الأخلاق ،و الحكمة ،و التربية ، من مواضيعها : أدب المحادثة ، و العدالة و الحقيقة ، و الحكمة السياسية و طريقة الحكم ، و احترام الشعب ، و تمجيد صناعة الكلام و المحادثة ، و واجبات الحاكم ، و فن الحياة ، و غيرها من المواضيع[25] . و من حِِكم أحد علمائهم و وزيرهم بتاح حوتب أنه قال[26] : (( لا يُداخلنك الغرور بسبب علمك و لا تتعال لأنك رجل عالم ، استشر الجاهل كما تستشير العالم ، لأنه ما من أحد يستطيع الوصول إلى آخر حدود الفن ، و لا يوجد الفنان الذي يبلغ الكمال في إجادته . إن الحديث الممتع أشد ندرة من الحجر الأخضر اللون ، ومع ذلك قد تجده لدى الإمام اللاتي يجلسن إلى الرحى " ...

                      فواضح من ذلك أن القوم كانت لهم فلسفتهم في الحياة ،و كتبوا حولها بطريقتهم التي تناسبهم . و قد تركوا من خلفهم تراثا فكريا غزيرا مكتوبا على الجدران و البرديات تناول مختلف مجالات الفكر و العلوم[27] .


                      و ثانيا إن العلوم قد ظهرت قبل أرسطو و حضارة اليونان بعدة قرون في بلدان كثيرة من العالم ، و كانت متنوعة و مزدهرة حسب زمانها. و عن شعوبها أخذ اليونانيون معظم أصول حضارتهم و كثيرا من فروعها. فالعلم لم يُولد بمجيء حضارة الإغريق و لا بمجيء أرسطو .و الشواهد الآتية تثبت ذلك و توضحه بشيء من التفصيل:

                      أولها مفاده أن العلم كان مزدهرا جدا في الحضارة السومرية في العراق ، استمرت في العراق أكثر من 15 قرنا قبل الميلاد ، و اختفت نحو 2000 قبل الميلاد[28] . و قد ظهرت فيها المدارس في نحو القرن 20 قبل الميلاد . و بلغ عدد الكهنة الذين كانوا يُمارسون الكتابة الألوف على اختلاف تخصصاتهم[29] . قدمت الحضارة السومرية للبشرية أساسيات و قواعد الحضارة الإنسانية ، التي قامت عليها العلوم التي وصلتنا . منها الكتابة ، و التشريع ، و الآداب ، و الصناعات ، و الفنون ، و الطب ، و العمارة ، و غير ذلك[30] .

                      و من ذلك الازدهار أنه تم العثور على مصنفات كثيرة من آثار البابليين و الآشوريين ، صنفوها في مختلف العلوم ، و هي أدلة دامغة على ازدهار العلوم بحثا و تأليفا و تطبيقا و إبداعا في ذلك الزمن القديم. منها : قوائم مُعجمية لغوية ، و معاجم خاصة بالمترادفات ، و رسائل في الفلك ،و الرياضيات ،و الجغرافيا ، و الطب ، و الكيمياء ، و علم الحيوان ،و علم النبات ، و غيرها ، و هي مجموعة (( تُروّع المرء حقا بسعتها و تنوّعها ))[31] . هذه الأعمال الهامة جدا تستلزم بالضرورة استخدام مناهج علمية تجريبية بالضرورة ، و توجب توصل أصحابها إلى استخراج و اكتشاف كليات و قوانين و قواعد تتعلق بتلك العلوم .

                      و الشاهد الثاني يتعلق بعلم الفلك ، فقد كان عند المصريين متطورا حسب عصرهم ، لذا وجدنا بعض كبار فلاسفة اليونان طلب الفلك بمصر ، مثل طاليس[32] . و أقام البابليون علم الفلك على أُسس رياضية ، و توصلوا إلى نتائج هامة ، منها اعتبار الشمس مركز الكون ، و القول بتأثير القمر في المد و الجزر ،و استخدموا آلات في أرصادهم . و قسموا دائرة السماء إلى 12 جزءا ، و رصدوا بعض الكواكب كالزهرة . و استخدموا ساعات مائية لمعرفة أجزاء الليل ، و ساعات شمسية لقياس أجزاء النهار[33] . و بفضل ما كان عندهم من معارف فلكية هامة ، تمكنوا من التنبؤ بحدوث الخسوف و الكسوف ، و عرفوا متى يكون القمر أقرب مسافة من الأرض ، و استخدموا التقويمين الشمسي و القمري . و قد بنوا علم الفلك على أُسس سليمة ، و عنهم أخذه الإغريق[34].

                      و الشاهد الثالث يتعلق بعلم الطب : وصفا و تشريحا و ممارسة ، فقد دلت الألواح الطينية الأشورية التي تعود إلى ما بين: 668-626 قبل الميلاد ، دلت على أن الطب الأشوري عرف تشريح الحيوان و مقارنته بالإنسان ، و هذا مكنهم من معرفة وظائف أعضاء الإنسان ، فكانت لهم معرفة دقيقة بأحشاء الجسم و أوصافها و وظائفها كالقلب ،و الكبد ،و البنكرياس ،و الطحال ، و عمليات التنفس و الرئة و قياس النبض ... وذُكرت فيها أيضا الخطوات السليمة للعلاج الجراحي ، كالتنظيف ، و التعقيم . و كان لأطبائهم عمليات جراحية كثيرة ، كتجبير الكسور ،و التدخل لالتقاط الجنين بملقط و سحبه . و دلت الآثار على أنه كان لأطباء الأشوريين بحوث أو كتب تتعلق بالطب . و قد تطورت على أيديهم صناعة الأدوية ، عندما ازدهرت عندهم الكيمياء[35] .

                      و توصل البابليون إلى معلومات هامة تتعلق بالتشخيص ، و التشريح ، و العقاقير . و أقاموا طبهم على التخصص ، كالجراحين و المعالجين بالأعشاب . و صنفوا الأمراض ، و وصفوا أعراضها و علاجها ،و كيفية استعمال الأدوية المتنوعة ، . و قسموا الأدوية حسب مصدرها : نباتية ، حيوانية ، معدنية ،و حسب استعمالها أيضا ، كالتي تُستعمل خارج الجسم ، و تُتناول عن طريق الفم . و استخدموا آلات لوضع الأدوية في أماكن دقيقة من الجسم ، كالعين و الأذن[36] .
                      و من ذلك أيضا فقد درس السومريون و البابليون و الأشوريون تركيب أجسام الحيوانات المذبوحة ، و فحصوها بدقة . و قد وصلتنا تصاميم لأكباد مصنوعة من الطين بشكل رائع ، لها عدة أغراض ، منها وسائل إيضاح في علم التشريح[37] .

                      و منها أنه وصلتنا برديات طبية هامة عن الطب المصري ، منها بردية طولها 15 قدما ترجع إلى نجو القرن 17 قبل الميلاد ، تضمنت 48 حالة من الحالات الجراحية التطبيقية . و لكل حالة بحث دقيق حولها بطريقة قطاعية : تشخيصا ، و فحصا ، و علاجا . و تضمنت أيضا تعليقات حول المصطلحات العلمية الواردة فيها . و أشار كاتبها إلى حقيقة لم تُعرف في الكتب الطبية إلا في القرن 18 م ، هي أن المخ هو المركز المُسيطر على أطراف الجسم[38] . و منها بردية أخرى تعود إلى نفس الفترة تناولت وصفا للطب ،و القلب و الأوعية ، و وظائف الأعضاء ، . و شملت أيضا على باب مُطوّل في الأورام ،و عليه ثَبْت بأسماء 700 دواء لكل الأمراض التي كانت معروفة لديهم ، كأمراض البطن ، و الجلد ، و العين ، و الجروح[39] . و منها بردية تضمنت 710 تشخيصات من أمراض النساء و التوليد . و وصفت أيضا أقماع اللبوس لمنع الحمل ، في ثلاث صفحات ، بدأت بالحديث عن المرض ، ثم أعراضه ، و تشخيصه ، و علاجه و العقاقير الموصوفة له[40] . و كانت في مصر مدارس مُتخصصة في الطب ، كمدرسة ساو ، و أون في مصر القديمة ، و كان طلابها يقيمون فيها بفضل نظامها الداخلي[41] .

                      و الشاهد الرابع يتعلق بعلم النبات و الزراعة و علم الحيوان ، و مفاده أن أطباء الأشوريين قاموا بإحصاء النباتات الطبية ، من أعشاب ،و أشجار ، و جذور ، و قد ورد ذلك كثيرا في وصفاتهم الطبية[42]. و كانت للبابليين مصنفات في النبات تميزت بالدقة ، فجعلوها في مجاميع مُتشابهة ، من جهة أشكالها ،و ثمارها ، و ميزوا بعض أنواع الأشجار بين ذكورها و إناثها[43] . و كانت للسومريين و البابليين و الأشوريين قوائم ذات هدف تعليمي تحتوي أسماء النبات و الحيوانات و المعادن[44] . و قد تم العثور على بحث يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد كُتب باللغة السومرية في علم الزراعة دُرست فيه خصائص التربة و النباتات الزراعية و غيرها[45].
                      و فيما يخص علم الحيوان فقد وضع البابليون -في بلاد ما بين النهرين- قوائم عن الحيوانات التي عرفوها ،و ضمنوها معلومات قيمة عنها ،و قسموها إلى أنواع و أجناس مُتشابهة ، على طريقة التصنيف العلمي[46] .

                      و الشاهد الخامس يتعلق بعلم الرياضيات ، و مفاده أن البابليين عرفوا - نحو القرن 18 قبل الميلاد - نظم المعادلات الخطية ، و المعادلات التربيعية ، و المتواليات الحسابية ، و نظرية مربع الوتر قبل أن يعرفها الإغريق ب : 1500 عام[47] . و في مصر تم العثور على بردية ترجع إلى القرن 16 قبل الميلاد ، تحتوي على ستة تمارين رياضية ، تناولت مساحة كل من المستطيل ،و الدائرة ، و المثلث ،و الهرم الناقص ،و طريقة التقسيم المساحي ، مع الاستعانة بالأشكال التوضيحية . و منه بردية أخرى طولها نحو 17 قدما ، تضمنت 90 مسألة حسابية[48] . و قد قال هيرودوت : (( إن المصريين أساتذة علم الهندسة ))[49] .

                      و الشاهد السادس يتعلق بعلم الكيمياء ، و مفاده أنه وصلتنا بعض الكتابات المكتوبة باللغة السومرية تضمنت وصفات حول كيفية تحضير الأحجار الاصطناعية كاللازورد[50] . و عرف البابليون كثيرا من خواص الطين و الأصباغ و المعادن . و عرفوا طريقة التزجيج ، و العجائن ، و اللدائن الكيميائية . و أتقنوا كثيرا من الصناعات الكيميائية ، و كانت لهم في ذلك مؤلفات ، و قد عُثر على بعضها . و وصلتنا أيضا أسماء أكثر من 120 نوعا من الأدوية المعدنية[51] .

                      و آخرها- الشاهد السابع- يتعلق بالفكر السياسي الشوري ، و مفاده أن التاريخ قد سجل أن الشعب السومري- في العراق- كانت له دولة شورية ، - ديمقراطية بلغة الغرب- لها مجالس تشبه النواب ،و مجلس الشيوخ ، الأول مُكون من المواطنين الذكور القادرين على حمل السلاح ، و الثاني للأعيان . و يرى الباحث خزعل الماجدي أن النظام البرلماني في سومر هو أول برلمان سياسي معروف في تاريخ الإنسان المكتوب. و كانت للسومريين دويلات المدن ، تقوم على اللامركزية السياسية ، لكنها توحدت عندما تغلب عليها الملك لوكال زاكيري ، فحكمها نحو 29 سنة[52] .

                      و ثالثا إنه كما أن العلوم قد نشأت و ازدهرت قبل حضارة اليونان ، فهي أيضا قد ظهرت و ازدهرت في بلاد اليونان قبل أن يُولد أرسطو ، مما يعني – بالضرورة- أنه ليس هو الذي أنشأها . و قد طلبها الإغريق من خارج وَطّنهم ، ثم وطنوها في بلادهم ،و توسعوا فيها تنظيرا و ممارسة. فمن ذلك أن الفيلسوف طاليس طلب علم الفلك بمصر[53]. و نقل أصول الهندسة المصرية إلى اليونان ،و عَلّم تلميذه بيتاجوراس ما تعلمه من مصر، و وجهه إلى مصر ليتم فيها دراسة الرياضيات[54] . و رحل الفيلسوف اليوناني كليوبول في صباه إلى مصر ليتعلم الفلسفة حسب عوائد زمانه[55] . و منهم الفيلسوف ديموقريطس فقد تعلم في بلاد اليونان علم المنطق ،و الفلك و الطبيعة ، ثم رحل إلى مصر و الهند لطلب المزيد من العلم[56] .
                      و منهم أيضا أفلاطون ، إنه رحل إلى مصر و أمضى فيها مدة طويلة قُدرت ب 22 سنة طلبا للعلم ، فكان مما طلبه : الهندسة ، و الفلك ،و اللاهوت ،و العلم المقدس[57] . و كان يحث أصحابه على تعلم الرياضيات كما تعلمها هو من المصريين ، و علموها لأولادهم . و عاب على معاصريه من أهل العلم الإغريق ترفعهم المصطنع عن الاهتمام بفروع الحساب و قضاياه . و ذكّرهم بفضل المصريين عليهم في معرفة أحجام الأشياء ذات الطول و العرض و العمق[58] .
                      و بقي ديموقريطس في مصر 05 سنوات تعلم خلالها الفلك و الهندسة[59] . و رحل إيدوكس إلى مصر طلبا للعلم ، فبقي فيها مدة 13 سنة مُقيما في مجمع الكهنة . و نُسب إليه أنه ترجم كتبا فلكية مصرية إلى اللغة اليونانية[60] .
                      و أخذ اليونانيون عن مصر و بلاد الرافدين علوما كثيرة ، منها الطب و الفلك ، و الهندسة و الرياضيات ، و قسمة النهار إلى 12 جزءاً ، و قسمة الدائرة إلى 360 درجة. و أخذوا الحروف الأبجدية عن الفينيقيين[61] . و قد سبقتهم شعوب تلك المناطق إلى استخدام وسائل مختلفة في البحث العلمي منها الرصد[62] .

                      ثم أنهم بعد ذلك وَطّنوا تلك العلوم في بلادهم و نهضوا بها ،و ازدهرت على أيديهم و أضافوا إليها كثيرا مما اكتشفوه من أفكار و إبداعات، و ظهر فيهم علماء و فلاسفة في مختلف العلوم . منهم طاليس ، قال بأن الأرض مركز العالم [63] . و أفلاطون قال بكروية الأرض و ثباتها و مركزيتها للعالم[64] . و إيدوكس ، من أشهر فلكيي اليونان ، نُسب إليه أنه ترجم كتبا فلكية مصرية إلى اللغة اليونانية[65] . وعنه أخذ أرسطو معظم فلكه ،و قد سبق أن بينا ذلك في الفصل الثالث .
                      و من تلك العلوم أيضا : علم النبات ، فقد اهتم به بعض أهل العلم اليونانيين ، منهم صاحب أرسطو وخليفته على مدرسته : ثاوفراسطس ، كان متخصصا في النبات ، و صنف فيه كتابا اهتم فيه بتاريخ النبات و علله ،و كان كتابه هذا عمدة علم النبات إلى العصر الحديث[66] . و من ذلك أيضا أن مدرسة أفلاطون مع تركيزها على الرياضيات فإنها لم تهمل علوم الأحياء ، فكانت لها بحوث حول النباتات من جهة خصائصها و طِباعها . و عندما مات أفلاطون واصل خليفته على مدرسته ابن أخته : سبيسيبوس اهتمامه بالنبات ، فصنف فيها كتبا بقيت منها بعض الشذرات[67] .
                      و منها علم الحيوان ، فقد تكلم فيه بعض أطباء اليونان و علمائهم من جهة طِباعه و أعضائه ، بحكم تخصص بعضهم كأطباء ، أو بحكم رغبتهم و فضولهم و اهتمامهم بتدوين ما يرونه في رحلاتهم . و منهم أبقراط له رسالة صغيرة عن القلب فيها وصف للبطينين ،و الأوعية الكبرى و صماماتها[68] . و منهم أنبادوقلس تكلم عن القلب و وصفه بأنه مركز الجهاز الدموي ، و هو الذي يحمل الهواء إلى جميع أجزاء الجسم[69] . و منهم : ديموقراطيس ، صنف كتاب الحيوان ، ذكر فيه طبائعه و منافعه[70] .
                      و اهتمت به أيضا مدرسة أفلاطون ، فهي مع تركيزها على الرياضيات ، فقد اهتمت أيضا بالعلوم الأخرى ، منها علم الحيوان من جهة عاداته و طِباعه . ثم عندما مات أفلاطون و خلفه على مدرسته ابن أخته : سبيسيبوس واصل الاهتمام بهذا العلم ، و صنف فيه كُتبا ، وصلنا منها أجزاء تبحث في الأسفنج و المحار[71] .

                      و أما بالنسبة لعمل أرسطو في علم الحيوان عند اليونان ، فهو في الحقيقة قد أشار مرارا إلى بعض الذين سبقوه في الكتابة حول هذا الموضوع . من ذلك أنه أشار إلى أراء بعض الذين سبقوه حول تزاوج بعض الطيور دون ذكر أسمائهم كلهم ، لكنه ذكر منهم أنكساغوراس[72].
                      ومنها قوله عن الطبيب اليوناني أقطسياس ( ق: 5 ق م ) : (( فهو يزعم في بعض كتبه أن أرض الهند سبعا يُسمى باليونانية مارطيخورس ))[73] .

                      و منها أنه اعترف صراحة بأنه وُجد في السابقين من تكلم بحكمة و فلسفة في طبائع الحيوان[74] . كما أنه كثيرا ما نقل أشياء عن الحيوان عن غيره من دون إشارة إلى ذلك ، منها نقله عن هيرودوت ما ذكره عن الحمار الهندي[75] ، و فك التمساح فقد ذكر هيرودوت أن التمساح لا يستطيع تحريك فكه السفلي دون العلوي ، فهو ينفرد بذلك عن باقي الحيوانات التي تحرك السفلي لا العلوي[76] . و نقل أرسطو أشياء كثيرة عن غيره دون أن يُشير إلى ذلك[77]. من ذلك أنه أخذ برأي أبقراط في قوله بأن الدماغ بارد[78] . و أخذ برأيه في قوله بتأثير الحرارة و الرياح في نوع الجنين ،و نقل عنه ما رواه عن الرعاة في أنهم يعرفون تأثير الرياح في نتاج غنمهم[79] . و أرسطو لم يُشر إلى ذلك عندما نقلنا قوله في الفصل الثاني . و إكثار أرسطو من الاعتماد على أبقراط في علم الحيوان معروف و ثابت ، كما حكاه ابن رشد عن جالينوس ،و قد أوردناه في الفصل الثاني.

                      و يرى الباحث برتراند راسل أن أرسطو كان عالما مرموقا في علم الأحياء ، مع بعض الأخطاء الغريبة إلى حد ما[80] .
                      و قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و يبدو أنه لم يقرأ كل أعمال أرسطو المتعلقة بعلم الأحياء ، أو أنه مر عليها سريعا مرور الكرام كما يقولون . لأن الحقيقة هي أن أرسطو لم يكن عالما مرموقا قط في علم الحيوان ، و لا تخصص فيه تخصصا حقيقيا ،و لا أولاه ما يستحق من الاهتمام ، بل أفسده أكثر مما أصلحه ، و اعتدى عليه مرارا و تكرارا . و أخطاؤه ليست قلية أبدا ، بل هي كثيرة جدا جدا تُقدر بالمئات من جهة ؛ و هي ليست غريبة إلى حد ما فقط ، و إنما كثير منها غريب جدا ، و يُثير التعجب و الضحك ،و يطعن في أمانة و نزاهة أرسطو نفسه من جهة أخرى . و قد وصف أحد الباحثين عمل أرسطو في علم الأحياء بقوله : (( إن مؤلفات أرسطو في البيولوجيا غريبة، فهي خليط مُشوّه من الشائعات و الأقاويل ، و الملاحظات الناقصة ،و التفكير بالتمني ،و السذاجة ، و سرعة التصديق ))[81] . و قوله هذا كلام جيد و صحيح يصدق على أعمال أرسطو في علم الأحياء ،و إن كانت الحقيقة أكثر من ذلك .
                      و منها أيضا علم الطب ، فقد كانت لليونانيين مدرسة طبية مُتميزة ، اشتهر فيها أطباء كبار كانت لهم مصنفات و تجارب و أعمال طوّرت الطب اليوناني ، منهم : القمايون الكروتوني ،و أنكساغورس، و أبقراط[82] . و قد ألف هذا الأخير كتبا في مختلف مجالات الطب و وظائف الأعضاء ، منها: الطب القديم ، و القلب ، و العين[83] .
                      و أما فيما يخص دور أرسطو في الطب اليوناني ، فالحقيقة هي أن أرسطو لم يكن طبيبا ، و ما كتبه عن الطب و ما يتعلق به ، فمعظمه نقله عن غيره من الأطباء و المهتمين بعلم الحيوان . منهم أبقراط ، فقد اعتمد عليه اعتمادا أساسيا فيما كتبه عن الطب و ما يتصل به من طباع الجسم و وظائف الأعضاء حسب شهادة الطبيب جالينوس[84] .

                      و أما ما قول الباحث مصطفى النشار من أن ارتباط أرسطو بعلم الحيوان و التاريخ الطبيعي بدأ مُبكرا عندما (( كان والده الطبيب يصحبه في جولاته الطبية ، ثم ظل مُتعلقا بهذا النوع من الأبحاث في أثينا ))[85] . فهذا غير ثابت و لا يصح ، لأن والده تُوفي و أرسطو كان ما يزال حدثا ، فلم يأخذ عنه مهنة الطب[86] . و ذكر ديوجين لايرتيوس أن أرسطو فقد أباه و أمه في زمن صغره جداً[87] .

                      و فيما يخص علم الرياضيات،عند اليونانيين فقد اهتمت بها المدرستان الملطية و الفيثاغورية ، وجمع بينهما أفلاطون في مدرسته ، لكن دور أسطو في ذلك لا يكاد يُذكر . و السبب في ذلك - كما ذكره برتراند راسل - أن أرسطو كان أقل فهما للرياضيات ،و أشد كرها للاتجاه الرياضي الذي كانت عليه مدرسة أستاذه أفلاطون خاصة بعد وفاته . و لم يكن ميالا إلى الفلسفة الرياضية لأفلاطون ، بل (( إنه لم يفهما أبدا في الواقع )) . و أما آراؤه في الفيزياء و الرياضيات فكانت (( مُضطربة إلى حد ميئوس منه . و الواقع أن أفلاطون الذي جمع بين تراث المدرستين الملطية و الفيثاغورية كان في هذه الناحية أفضل منه بكثير ))[88] .

                      و من علومهم أيضا : علم النفس ، هذا العلم ليس أرسطو هو الذي أسسه ، و هو من أقدم علوم الإنسان نظرا لأهميته الدنيوية و الأخروية: نشأة و مصيرا و معاملة . و لهذا تكلمت فيه الأديان و المذاهب منذ القديم ،و كان الأنبياء- عليهم الصلاة و السلام- من أكثر الناس اهتماما به : نشأة ، و مصيرا ، و تربية و ممارسة ، و هذا واضح جدا مما ذكره الله تعالى عن النفس الإنسانية من كل جوانبها في القرآن الكريم . و قد وصلنا تراث فكري قديم تكلم عن النفس الإنسانية من عدة جوانب ، وجدناه عند المصريين و السومريين ، و الآشوريين و البابليين[89] .
                      و قد خاض فلاسفة اليونان في النفس : نشأة ، و سلوكا ، و مصيرا قبل أرسطو . و من المعروف أن كلا من سقراط و أفلاطون اهتما كثيرا بذلك . فجاء أرسطو و واصل الكلام في الموضوع معتمدا أساسا على ما كتبه هؤلاء ، و عن أفلاطون أخذ القول بالنفس الكلية و العقل المُفارق ،و كل منهما استفاد في ذلك من نظرية العقل عند أنكساغوراس[90] .

                      و ذكر الباحث إرنست رينان أن جميع نظرية العقل عند أرسطو أقتبسها من الفيلسوف أنكساغوراس ،و أرسطو نفسه اعترف بذلك ، و قد نقل من كلامه نصا طويلا أورده بعبارة أنكساغوراس في كتابه النفس ،و عرضها أيضا في الجزء الثاني من الطبيعيات بصراحة كما عرضها صاحبها أنكساغوراس [91]. ،و أخذ عن أبقراط رأيه في إثبات الطبيعة و النفس و الجوهر[92] .

                      و قد كتب أرسطو في النفس بمنهجه المعروف الغالب عليه ، فخاض فيها بطريقة تأملية ظنية جمعت بين الخطأ و الصواب ،و منها ما هو أوهام و خرافات ، كموقفه من أصل النفس و مصيرها . و منها ما هو صحيح يتعلق بالأمور العادية من صفات النفس التي يعرفها معظم الناس ،و هذا لا يصح نسبته إليه ،و لا إلى غيره لأنه من البديهيات و المحسوسات المعروفة . فعمل أرسطو في النفس لا يختلف عن عمله في العلوم الأخرى ، و إن اختلفت نسبة المساهمة و الأهمية ، لكنه ليس إنشاءً و لا تتميما .


                      و أما بالنسبة لعلم التجارة و الثروة و الملكيات ، و النُظم و الدساتير السياسة عند اليونانيين ، فقد كتب حولها كثير من المفكرين اليونانيين قبل أن يكتب فيها أرسطو نفسه باعترافه هو شخصيا ، و ذكر بعضهم بأسمائهم ، منهم : شاريس الباروسي ، و أبللدور اللمتوسي ،و أفلاطون ، و فلياس الخلقيدوني ، و غيرهم[93] . ثم جاء أرسطو و كتب حول تلك المواضيع معتمدا أساسا على ما كتبه هؤلاء : شرحا و تعليقا ، مناقشة و استفادة [94] .

                      و فيما يخص السياسة فمن المعروف أن أرسطو كان محافظا جدا في كثير من أعماله السياسية ، فقد ساير أفلاطون في كثير من مواقفه ،و رفض النظام الديمقراطي بمبررات ضعيفة ،و ألف كتابه السياسة متابعا لشيخه في كتابه عن السياسة الذي لخصه ابن رشد الحفيد[95] . و هو قد أخذ معظم فكره السياسي عن شيخه أفلاطون من دون جديد يُذكر في الغالب ، و قد وافقه في رفض نظامي الطغيان و الديمقراطي[96] .
                      فواضح مما ذكرناه أنه كما أن العلوم كانت قد نشأت و ازدهرت قبل أن تظهر حضارة الإغريق ، فقد تبين أيضا أنها كانت قد ظهرت و نشطت في بلاد الإغريق قبل أن يكتب أرسطو مصنفاته بمدة طويلة . فكيف يكون هو مُكتشفها و مُؤسسها . ؟! ، أليس القول بذلك هو جهل ، أو تعصب أعمي ، أو هما معا .

                      و رابعا إن قول ول ديورانت غير صحيح في معظمه ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إن فلسفة أرسطو لا يصح وصفها ككل بأنها إبداع بالمعنى الإيجابي ، و إنما هي فلسفة خليط من التناقضات و الأوهام و الرغبات ، و من الأخطاء و الانحرافات و الخرافات ، و الآراء و الاجتهادات ، و ليس فيها من صحيح الأفكار و صوابها إلى القليل . و من جهة أخرى فإن القول بأن هذه الفلسفة هي من وضع أرسطو ، هو من باب التجاوز و التساهل ، و إلا فإن الحقيقة ليست كذلك ، و لا يصح أن يُنسب إليه كل ما في فلسفته على أنه هو مُكتشفه و مُقننه . فهذا زعم باطل، لأن هذه الفلسفة المنسوبة إليه معظم أصولها ،و أساسيات فروعها ليست من إنتاجه ،و إنما أخذها عن غيره ، بطرق مختلفة ، بعضها بالنقل المباشر ،و بعضها بالنقل المسكوت عنه ، و بعضها بالسطو و الاستحواذ ، و بعضها أضافه إليها تلاميذ أرسطو . ثم تصرّف فيها أرسطو تدوينا و تحريرا ، صياغة و شرحا ، نفخا و تجعيدا ، تقديما و تأخيرا . و عمله هذا أمر عادي تماما ، و ليس كله إبداعا حقيقيا ، و ما فيه من الإبداع ليس معجزا و لا خارقا، و ما فيه من الأباطيل و الأخطاء ،و الانحرافات و الظنون و الخرافات أكبر من ذلك الإبداع . و هذا الجانب الإيجابي الصغير لا يستحق كل ذلك الغلو و التهويل و المبالغات إلى حد التقديس الاعتقاد بعصمته كما فعل ابن رشد . فهؤلاء ضخموا الصواب القليل ، فحوّلوه من حبة صغيرة إلى قبة كبيرة ، و تغافلوا عن أخطائه و انحرافاته الكثيرة ، و هوّنوا من خطرها ،و اعتذروا له في بعضها ، فتحولت تلك الأخطاء من قبة كبيرة إلى حبة صغيرة مُهمشة منسية . و عملهم هذا جريمة نكراء في حق العقل و العلم و الإنسانية جمعاء .

                      و الشاهد الثاني مفاده هو أن فلسفة أرسطو إذا كانت ساهمت في تثقيف و تنوير كثير من شعوب العالم ، فإنها أفسدتها و أخرتها أكثر مما نفعتها . و لا يصح القول بأنها ثقفت العالم و نوّرته ، فهذا تحريف و افتراء على الحقيقة ، لأن هناك شعوبا لم تصلها فلسفة اليونان قديما و لا في العصور الوسطى ،و كانت مُكتفية بما عندها من علم ، كما هو حال الشعوب التي كانت تسكن في اليابان و الصين ،و استراليا[97] . بل أكثر من ذلك فإن المسلمين أقاموا حضارة التوحيد و العلم ،و المعرفة و الأدب قبل أن تُترجم فلسفة اليونان ، و عندما تُرجمت إلى اللغة العربية ، فقد فُرضت عليهم فرضا من بعض ملوك بني العباس . و مع ذلك فقد رفضوها و نبذوها ، و حاصروها و قاوموها قرونا من الزمن ، و لم يقبلها منهم إلا قلة مهزومة مخدوعة. و لم يكن المسلمون في حاجة أبدا إلى فلسفة أرسطو المملوءة بالضلالات و الكفريات ،و الأباطيل و الخرافات[98] . بل و العالم كله لم يكن في حاجة إليها أيضا ، و نحن نعلم يقينا أن الإنسان المعاصر لم يحقق ما حققه من انتصارات و فتوحات باهرة في مجال العلم و التكنولوجيا ، إلا بعدما تخلى على معظم فلسفة أرسطو و ركلها ركلا . أوليس القول بأن فلسفة أرسطو ثقفت العالم و نورته ، ثم السكوت عن سلبياتها و جرائمها و أباطيلها الكثيرة جدا ، هو جريمة كبرى في حق العقل و العلم ؟؟! .

                      و الشاهد الأخير- الثالث- مفاده أن الحقيقة هي أن أرسطو هو الذي وقف على أكتاف العلماء الذين سبقوه من اليونان و الشعوب الأخرى ، فأخذ معظم فكره منهم بطريقته الخاصة ، فنُسب إليه ذلك ظلما وزورا و عدوانا . فمن فوق أكتافهم رأى كثيرا من الحقائق ،و فاتته حقائق كثيرة بسبب انحرافاته المنهجية المتعلقة بمنطق البحث و الاستدلال .
                      و الحقيقة الثانية هي أن الأرض التي بُنيت فيها الأسكندرية مدينة المستعمر الأسكندر المقدوني ، هي أرض مصر التي كان لها السبق في إنشاء العلوم و تطويرها ، و هي التي صدّرت العلوم إلى بلاد الإغريق ، و كانت تستقبل طلابهم ، و قد تعلم فيها كبار علمائهم . فهذه الأرض لم تكن في حاجة إلى فلسفة أرسطو ، و إنما الاستعمار اليوناني- الذي شجعه أرسطو - هو الذي أدخل فلسفة هذا الرجل إلى مصر عندما احتلها الأسكندر .

                      و أما قوله بأن فلسفة أرسطو كانت (( غزوا للعالم أفضل من غزو الأسكندر للعالم و انتصاره الهمجي )) . فإن الحقيقة هي أن غزو كل من فلسفة أرسطو و الأسكندر للعالم كان ظلما و شراً كبيرا ، و ضررهما كان أكبر من نفعهما بفارق كبير جدا من جهة ،و أن كلا من أرسطو و تلميذه الأسكندر شارك في الغزوين من جهة أخرى . فأرسطو هو الذي ربى الأسكندر ،و شجعه على التوسع و احتلال و استعباد غير اليونانيين ، فهو بذلك يكون قد شارك في الغزو العسكري . و هو قد غزا العالم بفلسفته ، لكنه لم يكن غزوا أفضل من الغزو الأول، فهما شران مُتكاملان ، و وجهان لعملة واحدة . لأن فلسفته لا تقل ضررا و فسادا عن غزو الأسكندر ، بل إنها قد تفوقه ضررا : فكرا و سلوكا. فلا ننسى أنها فلسفة من خصائصها أنها : شركية دهرية خرافية ، ظنية سفسطائية تدليسية ، طبقية عنصرية مُتعصبة ، أفسدت العقائد و السلوك ، و العقل و العلم معا.

                      و أما تلميذه الأسكندر فهو قد شارك في الغزوين من جهتين: الأولى أنه هو الذي قاد الغزو العسكري بنفسه . و الثانية أنه ساهم في الغزو الثاني – الفلسفي- لأنه قدم مساعدات مادية و تشجيعية كثيرة لأرسطو للقيام بأبحاثه الفلسفية و العلمية من جهة[99] ، و أغلب الظن أنه كان داعية لفكر شيخه و ناشرا له في مجالسه و توسعاته من جهة أخرى .

                      و خامسا إن القول بأن أرسطو مكتشف المنطق و مؤسسه ، هو زعم باطل ، فلا هو اكتشف المنطق عامة ،و لا الصوري خاصة . و لا هو علّم الناس يُفكرون ،و لا هو الذي وضع منطق البحث و الاستدلال . و هذا أمر سبق أن توسعنا فيه و بينا حقيقته في الفصل الرابع فلا نعيده هنا.

                      و سادسا إن القول بأن أرسطو أقام فكره على البرهان ، فهو زعم باطل من ثلاث جهات : الأولى إنه سبق أن بينا بالأدلة الدامغة أن أرسطو بنى فكره أساسا على إلهياته ،و هذه الإلهيات سبق أن بينا أنه بناها على الظنون و التناقضات و الرغبات و الخرافات ، و أن معظمها باطل شرعا و عقلا و علما . و بناءً على هذا فإنه لن يستطيع بناء أساسيات فكره على البرهان و اليقين . و الثانية سبق أن أثبتنا أن أرسطو أخطا في موقفه من القياس الجزئي و الشمولي ، و أنه هو شخصيا ذكر أن برهانه القياسي قائم على الاستقراء ،و بما أنه قياس ظني يحتمل الخطأ و الصواب ، فإنه لن يستطيع أن يُقيم فكره على أساس منطقي يقيني . و الجهة الثالثة هي أن أرسطو عندما مارس منطق البحث و الاستدلال وقع في أخطاء و انحرافات منهجية كثيرة جدا ، و هذا دليل قاطع على أنه لم يقمه على البرهان و اليقين . و إنما أقامه على منطق بحث ظني يحتمل الخطأ و الصواب ، كغيره من أهل العلم ،و لم يختلف عنهم في ذلك . و إنما أختلف عنهم بكثرة أخطائه و انحرافاته المنهجية بسبب انحرافه في موقفه من الأقيسة ، و إهماله للمنهج التجريبي و عدم الالتزام بشروطه عندما مارسه عمليا .

                      و هؤلاء المبالغون في وصف ما كان عند أرسطو من علوم ، و وصفه بالنبوغ و العبقرية هم على خطأ من جهتين: الأولى إنهم نسوا أو تناسوا أن ما جمعه أرسطو من علوم و مذاهب في كتبه ، لا يدل بالضرورة أنه كان عالما بها ، و أنه من إبداعه . و الحقيقة هي أن قسما كبيرا مما جمعه أرسطو كان فيه جامعا مُدونا : ملخصا لبعضه ، و شارحا لآخر ، و ... . و قسم آخر سطا عليه و استحوذ عليه ، فزاد فيه و نفخه و جعده و نسبه لنفسه . و قسم آخر مارسه عمليا فخلّط فيه نقلا و تجربة ، اجتهادا و استنتاجا ، مع كثرة الأخطاء و الانحرافات المنهجية. و تصرفاته هذه سبق أن بيناها و وثقناه فيما تقدم من كتابنا هذا.

                      و الجهة الثانية هي أن لا شك أنه كان لأرسطو قسط من العلوم ، لكنه لا يرفعه أبدا إلى أن يجعله نابغة فيها ،و مُنشئا لها ، و بحر العلوم ، و كبير العباقرة . فلا يغيب عنا أنه إذا فرضنا جدلا أنه كان بُحيرة من العلوم ، فيجب أن لا ننسى بأنه كان بحرا من الأوهام و الظنون ،و الأخطاء الفادحة و الانحرافات المنهجية القاتلة . و إذا وصفناه جدلا بأنه كان بحرا كبيرا من الإيجابيات و الكمالات في العلم ، فقد كان بحرا مُحيطا من السلبيات و النقائص في كل العلوم التي كتب فيها . و بذلك يتبين أن الرجل لو كان مُتحكما فيما جمعه مُتقنا له مُتمهرا فيه ، ما كان ذلك هو حاله من كثرة الأخطاء و الانحرافات المنهجية ،و غيرها من النقائص و السلبيات.

                      و أخيرا- سابعا - إن وصف أرسطو بأنه أعظم عباقرة الفكر في التاريخ إطلاقا ، و أنه كان فذا ، هو وصف غير صحيح ،و قول بلا علم ، و مجازفة مجانية لا مُبرر صحيح لها عقلا و لا علما . و الحقيقة هي أن أرسطو هو فعلا من عباقرة العالم في الفكر ، لكنه لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن يكون أعظمهم ،و لا أولهم ، ولا ثانيهم و لا ثالثهم و لا رابعهم ، و لا ... . لأن العبقرية الحقيقية لا تُقاس بغزارة الإنتاج العلمي ،و لا بكثرة الأتباع ،و لا بالشهرة و الهيمنة ، و لا بالتأثير لمجرد التأثير ، و لا بكثرة الكلام و السفسطة و الجدال ، و لا ... ، و إنما تُقاس أساسا بثلاثة مقاييس ، هي : سلامة منطق البحث و الاستدلال ،و صحة النتائج ،و التأثير الصحيح الإيجابي في الواقع . فهل فكر أرسطو حقق ذلك ؟ . طبعا لا ، إنه فشل فيه فشلا ذريعاً . لأنه أولا سبق أن بينا أن أرسطو أخطأ أخطاء منهجية و تطبيقية كثيرة تتعلق بمنطق البحث و الاستدلال فلا نعيدها هنا .
                      و ثانيا سبق أن ذكرنا عشرات النماذج من أخطاء أرسطو في الإلهيات و الطبيعيات و الإنسانيات ،و تبين منها أنها أخطاء مست معظم أصول فكره و أساسيات فروعه من جهة. و أنها من الكثرة بحيث لا يُمكن قبولها و لا تبريرها ، و قد ذكرنا منها أكثر م 337 خطأ و انحرافا منهجيا ، ذكرناها كعينات من باب التمثيل لا الحصر من جهة أخرى .
                      و ثالثا إنه إذا نظرنا إلى ما قدمه للعقل الصريح و العلم الصريح ، نجده لم يُقدم لهما من الصواب إلا القليل ، لأنه ليس لديه من ذلك إلا القليل، و فاقد الشيء لا يُعطيه . و مقابل ذلك نجده قد أضر بهما ضررا كبيرا ، و أفسد العقائد و السلوك بشركياته و أوهامه و خرافات ،و دهرياته. و المعروف من تاريخ العلم الحديث أنه علم قام أساسا على هدم و نقض معظم فكر أرسطو و لم يقم عليه[100] . و فكر هذا حاله لا يُمكن أن يكون صاحبه أكبر عباقرة العالم بأي حال من الأحول ،و من يقول بذلك فهو إما أنه لا يعي ما يقول ، أو أنه قاله لغاية في نفسه على حساب العقل و العلم معا .

                      و أما من جهة أنه- أي أرسطو- كان فذا فريدا في العالم ، فهذا صحيح من الناحية السلبية لا الإيجابية . فأرسطو يمكن أن نصفه بأنه كان فيلسوفا غريبا فريدا بكثرة أخطائه و انحرافاته ،و مجازفاته و سفسطاته ،و حماقاته و خرافاته ،و تعصباته و عنصريته .

                      و بما أن الأمر كما سبق أن بيناه من غلو هؤلاء و انحرافهم عن منطق البحث و الاستدلال ، فمن أين جاءهم ذلك الغلو الممقوت شرعا و عقلا و علما ؟ . أولا إن أصل هذا الغلو وضعه أرسطو نفسه و ورّثه لأصحابه ، فهو كبيرهم الذي علمهم الغلو بالباطل . فهو الذي كان مغاليا في منطقه الصوري العقيم ،و مغاليا في كثرة انحرافاته المنهجية و أخطائه العلمية[101] . و كان مُغاليا في انتقاده لخصومه خاصة السفاسطة ، فقد أخذ قسما كبيرا من فكرههم و تبناه ، ثم أنقلب عليهم ذما و تشويها و تخطئة .

                      و ثانيا ثم جاء أتباعه من بعده فساروا على نهجه في الغلو و التعصب للباطل ، و تجاوزوه حتى بلغ بعضهم درجة التهور و التعصب الأعمى ،و تجاوز حدود الشرع و العقل و العلم كما هو حال ابن رشد و أمثاله. إنهم وقعوا في ذلك بسبب تعصبهم الأعمى ،و ضعف منطقهم الفطري الصريح ،و قلة زادهم من العلم الصحيح ، و انهزاميتهم النفسية تجاه شيخهم و فكره ، و رضاهم على أنفسهم بما هم فيه من تقليد و سلبية ،و انهزامية و غلو في أرسطو . حتى أنهم كثيرا ما يبحثون عن أي شيء يمدحون به أرسطو، حتى و إن كان ذلك تافها ، أو ليس خاصا به . حتى أن بعضهم عندما لا يجد ما يرد به على الانتقادات الموجهة لأرسطو فإنه قد يقول كما فعل ابن رشد: إنهم لم يفهموا أرسطو . أو يقول بعضهم : أتباعه هم الذين انحرفوا عن شيخهم ،و ليس أرسطو مسئولا عما وقع فيه أتباعه من غلو و تقديس و انحراف . فهمهم الأول و الأساسي هو الدفاع عن شيخهم بحق و بغير حق . مع أن الحقيقة الناصعة شاهدة ضدهم ،و تنادي عليهم ، و تندد بهم . لكن لا حياة لمن تنادي ، فقد أعماهم التعصب للباطل !! .

                      و حتى أن بعضهم يُغمض عينيه عن أخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية المقدرة بالمئات ، ثم يأتي بجزئية أصاب فيها أرسطو فيضخمها و ينفخها و يُجعّدها و يجعلها أصلا و منهجا مُتبعا عند شيخه ، مع أن الحقيقة خلاف ذلك تماما ،و هذا الذي وقع فيه هؤلاء الغلاة و أمثالهم . فحولوا الحبة الصغيرة جدا إلى قبة كبيرة جدا!! . و من كل ذلك يتبين أن أصل غلو هؤلاء في شيخهم مصدره أرسطو أولا ، ثم هم أنفسهم ثانيا .

                      و أشير هنا أيضا إلى أمر هام جدا ، مفاده أنه كما حدث غلو باطل في تعظيم أرسطو و فكره ، فقد حدث أيضا غلو باطل في الحكم و تقييم حضارة اليونان عامة . فكثيرا ما نجد أن حضارتهم توصف بأنه مُعجزة[102]. و هذا لا يصح ، لأنه ما كان لهم تحقيق ذلك لولا استفادتهم من الحضارات السابقة لهم كالسومرية ، و المصرية ، و البابلية ، و الأشورية ، و الفارسية ، و الهندية نو الصينية ،و قد سبق بيان هذا و توثيقه . فلا يصح وصفها بأنها معجزة ، لأن ما حققه اليونان هو أمر طبيعي عادي جدا ساروا فيه على طريقة الذين سبقوهم ،و الذين جاؤوا من بعدهم . فأي إعجاز حققوه ، لم يُحققه غيرهم ؟؟! ، و ما هو الشيء المعجز الذي عجز غيرهم عن القيام به قبلهم و بعدهم ؟؟ . و أليس الفعل إذا تكرر و أمكن القيام مثله لا يصبح معجزة ؟؟ . و أليس أعمالهم العلمية جمعت بين الإيجابيات و السلبيات ، و بين الحقائق و الأباطيل ،و بين الاجتهادات و الخرافات ، فهم في ذلك لا يختلفون عن حضارات الشعوب الأخرى ؟؟!! . و حتى إذا كانوا قد تميزوا بصفات ظهرت فيهم أكثر مما ظهرت في غيرهم ، فهذا ليس معجزة ،و لا خاصا بهم ، فيُمكن تقليدهم في ذلك ، بل و التفوق عليهم فيه أيضا .

                      و إنهاء لهذا المبحث يتبين أنه لا يوجد علم اكتشفه أرسطو و سبق إلى الكتابة فيه . فكل العلوم التي كتب فيها كانت موجودة عند اليونان و شعوب أخرى . و لا يوجد علم واحد أتقنه أرسطو نظريا و ممارسة ، فقد أخطأ في كل ذلك أخطاء فاحشة ذكرنا منها المئات فيما تقدم من كتابنا هذا . و كل الإضافات التي زادها معظمها عادية جمعت بين الإيجابيات و السلبيات ،و الخطأ و الصواب . و الحقيقة الثابتة هي أن أرسطو شارك في تأسيس بعض العلوم و في تطوير العلوم التي كتب فيها من جهة ،و شارك أيضا في إفسادها و تأخيرها تنظيرا و ممارسة من جهة أخرى. فالرجل لم ينشئ علما من العلوم بمفرده ،و لا أتقن واحدا منها إلى درجة الإتقان الدقيق و التمهر الفائق المُبدع تنظيرا و لا ممارسة و لا صوابا. و لم يكن من العلماء و لا من الفلاسفة الراسخين في العلم الذين جمعوا بين سلامة المنهج ،و صحة التطبيق و النتائج.

                      علما بأن الفضل – في تأسيس أي علم- و إن كان يناله كل من شارك فيه حسب دوره ، فإن الفضل أولا يعود لمن كانت له الأسبقية في الكتابة لأول مرة في علم جديد ، حتى و إن كان عمله ناقصا . لأن الاكتشاف و الإبداع أصعب من التطوير و التتميم في الغالب الأعم . ثم بعد ذلك يتفاوت فضل كل مُشارك في تأسيس و تقعيد ذلك العلم ، حسب سلامة و قوة منهجه،و صحة و أهمية نتائجه . و لا يُوجد أي علم كان أرسطو هو أول من خاض فيه، و لا يوجد أي علم كتب فيه أرسطو بمنهج علمي كامل صحيح ، و لا توصل فيه إلى نتائج كثيرة هامة و صحيحة ،و إنما العكس هو الذي حدث كما سبق أن بيناه في فصول كتابنا هذا .

                      _______________________________________

                      [1] سنعتمد في ذلك على كتب ابن رشد أولا ،و على مصنفات الرشديين المتخصصين في ابن رشد عندما يتعذر علينا العثور على بعض أقوله من كتبه مباشرة .

                      [2] ابن رشد : تهافت التهافت ، ص: 220 . و سبق أن بينا بطلان وصف أرسطو بأنه المعلم الأول ،و لا الحكيم الأول أيضا .

                      [3] سبق أن بينا خطأ موقف أرسطو من هالة الشمس و القمر في الفصل الثالث .

                      [4] ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، ص: 145 ، 146 .

                      [5] عاطف العراقي : الفيلسوف ابن رشد ، ص: 53 .

                      [6] هذه الآية ذكرها بالمعنى ،و نصها هو ((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ))-سورة الجمعة : 4 -

                      [7] فرج أنطون : ابن رشد و فلسفته ، ص: 88 .

                      [8] الجابري: ابن رشد ، ص: 165-، 166 .

                      [9] محمد المصباحي : الوجه الآخر لحداثة ابن رشد ، ص: 76 .

                      [10] مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، ص: ج 2 ص: 12 . و نظرية العلم الأرسطية ، ص: 77 .

                      [11] مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ، ص: 6 ، 14 .

                      [12] ولتر ستيس : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 213 .

                      [13] ول ديورانت : قصة الفلسفة ، ص: 75 ، 76 ، 78 ، 82 ، 109 .

                      [14] نفس المرجع ، ص: 122 .

                      [15] فؤاد الأهواني : المدارس الفلسفية ، ص: 62 .

                      [16] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 162، 169 .

                      [17] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص: 7 .

                      [18] الجابري : ابن رشد ، ص: 173 .

                      [19] تكوين العقل العربي ، ص: 244، 329، 328 ، 329 . و بنية العقل ، ص: 384 ، 416 . و التراث و الحداثة ، ص: 142 ، 204.

                      [20] عنوانه : نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد ، و الكتاب منشور ورقيا و إلكترونيا .

                      [21] أنظر : ل ، ديلا بورت : بلاد ما بين النهرين : الحضارتان البابلية و الأشورية ، ط 2 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1997 ، ص: 212-213 .

                      [22] نعيم فرج : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، ص: 100- 101 .

                      [23] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 356 ، 357 .

                      [24] ديوجين لايرتيوس : المختصر ، ص: 49 .

                      [25] خزعل الماجدي : الدين المصري ، د 1 ، دار الشروق ، الأردن ، 1999 ، ص: 289 و ما بعدها .

                      [26] نعيم فرج : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، ص: 101 .

                      [27] سنذكر منها نماذج فيما يأتي .

                      [28] خزعل الماجدي : متون سومر ، ص: 24 .

                      [29] خزعل الماجدي : متون سومر ، ط1 ، الدار الأهلية ن الأردن ، 1998 ، ص: 18 .

                      [30] خزعل الماجدي : متون سومر ، ص: 10 .

                      [31] سبتينو موسكاني : الحضارات السامية القديمة ، ترجمة السيد يعقوب بكر ، دار الرقي ، بيروت ، 1986 ، ص: 93 ، 94 .

                      [32] ديوجين لا يرتيوس: المختصر ، ص: 7 .

                      [33] محمد أبو المحاسن عصفور : معالم حضارة الشرق ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1987 ، ص: 251 .

                      [34] نعيم فرج : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، دار الفكر ، دمشق ، ص: 54 . و محمد أبو المحاسن عصفور : معالم حضارة الشرق ، ص: 251 .

                      [35] خزعل الماجدي: بخور الآلهة ، ط1 ، الأهلية للنشر ، الأردن ، 1998 ، ص: 169 ، 170 ، 173 .

                      [36] محمد أبو المحاسن عصفور : معالم حضارات الشرق ، ص: 254 .

                      [37] نعيم فرج : : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، ص: 55 .

                      [38] السيد النشار : تاريخ الكتب و المكتبات في مصر القديمة ، دار الثقافة العلمية ، مصر ، 1999 ، ص: 38 .

                      [39] نفسه ، ص: 38 .

                      [40] نعيم فرج :نفس المرجع ، ص: 39 . و سمير أديب : نفس المرجع ، ص: 571 و ما بعدها .

                      [41] سمير أديب : موسوعة الحضارة المصرية ، ص: 574 .

                      [42] خزل الماجدي : بخور الآلهة ، ص: 174 .

                      [43] محمد أبو المحاسن عصفور ، معالم حضارات الشرق ، دار النهضة العربية ، بيروت ، ص: 252 . و سمير أديب : موسوعة الحضارة المصرية القديمة ، دار العربي ، القاهرة ، 566 و ما بعدها .

                      [44] نعيم فرج : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، ص: 54 ، 55 . و سمير أديب : موسوعة الحضارة المصرية القديمة ، ص: 569 و ما بعدها .

                      [45] نعيم فرج : : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، ص:، 55 .

                      [46] محمد أبو المحاسن عصفور : معالم حضارات الشرق ، ص: 252 .

                      [47] س ن بريو شنكين : أسرار الفيزياء الفلكية و الميثولوجيات القديمة ، ص: 83 .

                      [48] السيد النشار : تاريخ الكتب و المكتبات في مصر القديمة ، ص: 37 .

                      [49] نعيم فرج : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، ص : 119 .

                      [50] نعيم فرج : : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، ص:، 55 .

                      [51] محمد أبو المحاسن عصفور ، معالم حضارات الشرق ، ص: 253 .

                      [52] خزعل الماجدي : متون سومر ، ص: 13 ،46 ، 50 .

                      [53] ديوجين لا يرتيوس: المختصر ، ص: 7 . و فؤاد الأهواني : المدارس الفلسفية ، ص: 38 .

                      [54] سمير أديب : موسوعة الحضارة المصرية ، ص: 841 .

                      [55] ديوجين لا يرتيوس : المختصر ، ص: 49 .

                      [56] مختصر ترجمة مشاهير الفلاسفة ، ص: 79 ، 115 .

                      [57] سيرج سونيرون : كُهان مصر القديمة ، ترجمة زينب الكردي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1975 ، ص: 126 ، 127 .

                      [58] سمير أديب : موسوعة الحضارة المصرية ، ص: 841 .

                      [59] سيرج سونيرون : كُهان مصر القديمة ، ص: 127 .

                      [60] سيرج سونيرون : كُهان مصر القديمة ، ص: 127 ، 128 .

                      [61] ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 06 .

                      [62] محمود علي محمد : الأصول الشرقية للعلم اليوناني ، ط1 ، عين للدراسات و البحوث ، القاهرة ، 1998 ، ص: 31 ، 32 . و فؤاد الأهواني : المدارس الفلسفية ، ص: 6 ، 7 .

                      [63] ديوجين لا يرتيوس: المختصر ، ص: 7 .

                      [64] دحام إسماعيل العاني: موجز تاريخ العلم ، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم و التقنية ، الرياض ، 2002 ، ج 1 ص: 108 .

                      [65] سيرج سونيرون : كُهان مصر القديمة ، ص: 127 ، 128 .

                      [66] فؤاد الأهواني : المدارس الفلسفية ، ص: 61، 62 .

                      [67] فؤاد الأهواني: المدارس الفلسفية ، ص: 42 .

                      [68] مصطفى غالب : أبقراط ، ص: 59 .

                      [69] نفسه ، ص: 59 .

                      [70] محفوظ علي عزام : في الفلسفة الطبيعية عند الجاحظ ، ط 1 ، دار الهداية ، مصر ، 1995 ، ص: 80 .

                      [71] فؤاد الأهواني: المدارس الفلسفية ، ص: 42 .

                      [72] أرسطو: في كون الحيوان ، ص: 116 .

                      [73] أرسطو : طباع الحيوان ، ص: 64 .

                      [74] أرسطو : في أعضاء الحيوان ، ص: 8 ، 9 .

                      [75] وشرحنا ذلك و وثقناه في الفصل الأول .

                      [76] هيرودوت : تاريخ هيرودوت ، ترجمة عبد الإله الملاح ، المجمع الثقافي ، أبو ضبي ، 2001 ، ص: 164 .

                      [77] [77]حسب إطلاعنا على مؤلفاته التي تحصلت ُ عليها.

                      [78] مصطفى غالب : أبقراط ، ص: 147 .

                      [79] مصطفى غالب : نفسه المصدر ، ص: 101 ، 101 .

                      [80] برتراند راسل : حكمة الغرب ، ج 1 ص: 120 ، 122 .

                      [81] إمام عبد الفتاح إمام : أرسطو و المرأة ، ص: 67 .

                      [82] بول غليونجي : الطب عند الإغريق ، ط 1 ، دار المستقبل ، الإسكندرية ، 1995 ، ص: 23 ، 25 ، و ما بعدها .

                      [83] عبد الفتاح جنون : بقراط و المدرسة البقراطية ، مقال مأخوذ من الشبكة المعلوماتية ، ص: 11 ، 13 ، 14 ، 15 .

                      [84] ابن رشد : رسائل ابن رشد الطبية ، ص: 167، 185، 220 .

                      [85] مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ص: 167 .

                      [86] إميل برهيبة : تاريخ الفلسفة : الفلسفة اليونانية، ط 2 ، ترجمة جورج طرابيشي ، دار الطليعة ، بيروت ، 1987 ، ج 2 ص: 221 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 141 .

                      [87] ديوجين لايرتيوس : المختصر ، ص: 118 .

                      [88] برتراند راسل : حكمة الغرب ، ج 1 ص: 120 ، 122 .

                      [89] أنظر مثلا: سمير أديب : موسوعة الحضارة المصرية ، ص: 82 و ما بعدها ، 326 و ما بعدها . و نبيلة محمد عبد الحليم : معالم العصر التاريخي في العراق القديم ، دار المعرف ، القاهرة ، 1983 ، ص: 82 ، و ما بعدها ، 118 ، و ما بعدها ، 138 و ما بعدها .و خزعل الماجدي : الدين المصري ، د 1 ، دار الشروق ، الأردن ، 1999 ، ص: 289 و ما بعدها ..

                      [90] ابن رشد : تلخيص ما بعد الطبيعة ، ص: 53 . و حسين حرب : المرجع السابق ، ص: 87 .

                      [91] إرنست رينان : ابن رشد و الرشدية ، ترجمه عادل زعيتر ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1957 ، ص: 137، 138 .

                      [92] ابن رشد : رسائل ابن رشد الطبية ، ص: 167، 185، 220 .

                      [93] أرسطو : السياسة ، ص: 132 و ما بعدها ، و 154 و ما بعدها .

                      [94] نفسه ، ص: 132 و ما بعدها ، و 154 و ما بعدها .

                      [95] ابن رشد : تلخيص السياسة لأفلاطون ،ترجمة حسن مجيد العبيديو فاطمة كاظم الذهبي، ط1 ، دار الطليعة ، بيروت ، 1998.

                      [96]أنظر مثلا : أميرة مطر: الفلسفة اليونانية ، ص: 148، 184، 185، 186، 191، 192، 484 .و نور الدين حاطوم و آخرون : موجز تاريخ الحضارة ، ص: 436 . و مصطفى النشار : نظرية المعرفة ، ص: 131 . و عبد الرحمن بيصار : الفلسفة اليونانية ، ص: 104 و ما بعدها ، 110، 140 .و تأملات في الفلسفة الحديثة و المعاصرة ، ص: 186 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي، ص: 182، 234 ، 240 . و جورج طرابيشي : وحدة العقل العربي ، ص: 92 .

                      [97] هذا بنيته على أساس ما أعرفه من أن تلك الشعوب لم تُترجم إليها فلسفة اليونان .

                      [98] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية .

                      [99] سبق توثيق ذلك .

                      [100] سنعود إلى هذا الموضوع لاحقا بحول الله تعالى .

                      [101] سبق توثيق ذلك .

                      [102] أنظر مثلا : خزعل الماجدي : متون سومر ، ص: 13 .
                      أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                      الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                      كتب وورد
                      هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                      للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                      تعليق

                      • باحث سلفى
                        =-=-=-=-=-=

                        حارس من حراس العقيدة
                        • 13 فبر, 2007
                        • 5183
                        • مسلم (نهج السلف)

                        #26
                        ثانيا: أهم خصائص فكر أرسطو :


                        سبق أن أشرنا- فيما تقدم من كتابنا هذا- إلى طائفة كبيرة من خصائص فكر أرسطو ، و منها ما يستطيع القارئ أن يستنتجها بنفسه . و نحن هنا سنورد منها طائفة بطريقة مركزة دون توسع و لا توثيق إلا عند الضرورة ، لأنه سبق توثيقها و شرحها ، إلا القليل منها الذي يتطلب ذلك .

                        أولها إنه فكر يفتقد إلى كثير من الموضوعية و الأمانة العلمية ، فقد سبق أن ذكرنا شواهد كثيرة كان أرسطو يتعمد الكلام فيها بلا علم ، و لا تجربة ، و لا تثبت . و قد يتظاهر أنه جرّب و عاين و هو لم يفعل ذلك ، حتى أنه قد يقول في بعضها بأنه حقق ، و هو لم يُحقق و لم يُحرك ساكنا . و كان ينقل كثيرا من كلام غيره و يسكت عنه ، أو يذكره بصيغة توحي بأنه كلامه . و كثيرا ما كان يشتد في انتقاد معارضيه ثم يأخذ برأيهم بطريقة أو أخرى ، و هذا حدث له مع أفلاطون ، و السفاسطة و غيرهم ،و كتبه مملوءة به ، و قد سبق أن ذكرنا نماذج كثيرة على ذلك . فالرجل كان مُخلا بالموضوعية و الأمانة العلمية إخلالا كبيرا جدا ، و ليس له منها إلا القليل .

                        و فيما يأتي نذكر بعض مواقف أهل العلم من موضوعية أرسطو و أمانته العلمية .

                        أولها موقف العالم أبي الريحان البيروني ( ت 440 هجرية ) وصف طريقة أرسطو في قوله بأزلية العالم بأنها تمويهية ، و أنه مُزخرف (( لكفرياته ))،و أنه مُتبع لهواه[1] . و هذا طعن صريح من البيروني في أمانة أرسطو و موضوعيته ، و انتقاده صحيح بلا شك ، سبق أن ذكرنا شواهد كثيرة تشهد له بالصحة . فأرسطو يُموه ، و يُزخرف ، و يتبع هواه لتأييد أفكاره .


                        و الثاني موقف الباحث برتراند راسل إنه يرى أن من المأمون أن نثق في أرسطو عندما يسرد آراء أفلاطون ، أما عندما ينتقل إلى تفسير معناها فإنه لا يعود موثوقا منه )) . و كذلك في تعليقاته على الفلاسفة الآخرين السابقين له ، فإنه عندما (( يُقدم سردا مباشرا لأرائهم تستطيع أن تعتمد على ما يكتب ؛ أما التفسيرات فلا بد أن تُؤخذ كلها بحذر ))[2] . و أقول: كلامه هذا صحيح ، لكنه ناقص لأن موضوعية أرسطو في النقل نسبية جدا ، و لا يلتزم بها في كل أحواله ، و قد نقل أمورا على أنه رآها و هو لم يراها[3] .

                        و الثالث موقف الباحث إرنست رينان عبّر عنه بقوله : إن أرسطو كان يأخذ أفكارا من مدارس قديمة ، ثم يُدخلها في نسقه الفكري من (( غير أن يُكلّف نفسه عناء التوفيق بينها و بين لمحاته الخاصة ))[4] . و هذا طعن صريح في موضوعية أرسطو و أمانته العلمية . فذلك السلوك يندرج ضمن ما ذكرناها مرارا بأن أرسطو كان يُمارس السطو ، و الانتقاء ، و الاستحواذ، ثم ينسب ذلك لنفسه بطريقة أو أخرى .

                        و الرابع موقف الباحث مصطفى النشار مفاده أن أرسطو كان على درجة عالية من الإخلاص للفكر و حب المعرفة . و لا شك أن أرسطو كان (( يسعى دائما إلى الحقيقة ما وسعه السعي مُتمسكا بالسير في طريقها ما وسعه السير ))[5] .

                        و أقول: إن قوله هذا فيه حق وباطل ،و باطله أكثر من حقه ، فأما الحق الذي فيه فلاشك أن أرسطو كان يتمتع بقسط من الموضوعية و العلمية و الاجتهاد للوصول إلى الحقيقة . و هذا ليس خاصا به ، فهو موجود عند أهل العلم عامة ،و إن اختلفت نسبته من عالم إلى آخر. و أما الباطل فقوله بأن أرسطو كان على درجة عالية من الإخلاص للفكر و البحث دائما على الحقيقة . فهذا غلو و لا يصدق بهذه الدرجة على أرسطو . لأنه سبق أن بينا أرسطو كثيرا ما كان يُهمل المقدمات العلمية الصحيحة و يُقدِّم عليها رغباته و ظنونه ، و تحكماته و مصالحه لتحقيق مكاسب مذهبية و دنيوية . و هذا ضربنا عليه أمثلة كثيرة تتعلق بالإلهيات و الإنسانيات .

                        و بينا أيضا أن أرسطو لم يكن حريصاً على التثبت و المعاينة ، ففي كثير من المواقف كان يُهمل ذلك و يعتمد عل ظنونه و أقيسته الفاسدة ، فأوقعه هذا في أخطاء و حماقات و انحرافات غريبة و مُضحكة . و قد وقع في أخطاء لا يصح الوقوع فيها ، لسهولة التأكد منها ، فلو كان حريصا كما زعم النشار ما وقع فيها أبدا . فأرسطو كثيرا ما كان مهملا للتثبت و المعاينة ، و عاجزا عن القيام بأبسط التجارب كما سبق أن بيناه. فأين ما زعمه الرجل ؟ ! .

                        و الموقف الأخير- الخامس – يخص الباحث ولتر ستيس مفاده أن أرسطو كان يُحب الحقائق و الوقائع ،و ما يُريده هو دائما المعرفة العلمية المجدة )) ،و (( لم يكن هناك إنسان أكبر احتفاءً بالوقائع من أرسطو كما هو واضح من أبحاثه عن الحيوانات ، و التي هي حافلة بالأدلة عن الصبر الغريب و العمل المُتأني في جميع الحقائق ))[6] .

                        و أقول: إن كلامه هذا فيه حق و باطل ، و باطله أكثر من حقه ، و يُشبه إلى حد كبير قول الباحث مصطفى النشار . و لا يصح الجزم بما قاله المؤلف من أن أرسطو كان دائما يحب المعرفة ،و أنه لم يكن إنسان أكثر منه احتفاء بالوقائع . فهذا لا يصح من جهتين : الأولى لا يصح قوله من الناحية النظرية ، لأن القول به يتطلب المعرفة التامة بنية أرسطو في كل أعماله العلمية ،و هذا لا يُمكنه معرفته . و لأن القول به يتطلب منه القيام بعملية إحصاء شاملة لكل الباحثين لكي يعرف درجة احتفائهم بالوقائع و مقارنته بحال أرسطو . و هذا لا يمكنه القيام به أبدا ، و من ثم لا يصح أن يُصدر ذلك الحكم في حق أرسطو . فهو حكم غير علمي ، و لا يمكن للمؤلف أن يتحقق منه .

                        و الجهة الثانية تتعلق بالجانب التطبيقي ، فالرجل اعتمد على مواقف لأرسطو اجتهد فيها ،و أظهر حرصا على الاهتمام بها ، ثم عمم حكمه على سلوك أرسطو من جهة . و ضرب صفحا على مئات المواقف التي أهمل فيها أرسطو المنهج العلمي الصحيح في البحث و الاستدلال من جهة أخرى . و هذا موقف غير علمي ، و فيه تدليس و تغليط و تحريف للحقائق . و لو كان أرسطو حريصا على المعاينة و التثبت ،و أجراء التجارب و الصبر عليها في كل أحواله كما زعم المؤلف ، ما وقع في مئات الأخطاء و الانحرافات المنهجية .فلو كان أرسطو كما زعم ولتر ستيس ما قال بأن في قلب الحصان و البقر عظام . و لا قال : إن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل . و لا قال: إن دم حيض البنت الحدث أبيض . و لا قال : إن قِمم الجبال حارة . و لا قال : إن الدماغ لا دم فيه ، و غير متصل بأي عضو من الجسم . و غير ذلك كثير جدا جدا ، من أخطاء أرسطو و غرائبه و حماقاته !! .

                        و الخاصية الثانية مفادها أنه فكر مُغالٍ في التجريد غير العلمي ، فقد أقامه أرسطو على التأمل التجريدي أكثر مما أقامه على التأمل التجريبي بفارق كبير جدا . و من جهة أخرى فإن أصول فكره التجريدي لم يُقمها على التأمل التجريدي الصحيح القائم على الفطرة و البديهة و العقل الصريح، و العلم الصحيح ، و إنما أقامها أساسا على الظنون و الرغبات و التحكمات كما فعل في الإلهيات . فأنقلب هذا سلبا على إلهياته خاصة و فكره عامة . و الصواب هو أنه كان عليه أن يجمع بين التأملين بإنصاف و توازن ،و بعقلانية و علمية .

                        و الخاصية الثالثة إنه فكر قائم على انحراف منهجي كبير في البحث و الاستدلال ، شمل المجالين التنظيري و التطبيقي معا . فلم يلتزم فيهما أرسطو بمنطق البحث العلمي السليم القائم على العقل الصريح و العلم الصحيح . فأخل بذلك إخلالا كبيرا ، و لم يلتزم به في الإلهيات ، و لا في الطبيعيات ، و لا في الإنسانيات . فكانت حصيلة فكره أنه أنتج فلسفة هزيلة ضعيفة البنيان ، و كثيرة الأخطاء و الانحرافات ، و التناقضات و المغالطات من جهة ؛ و قليلة التمحيص و الإبداع ، و كثيرة الجمع و التدوين من جهة أخرى .

                        و الخاصية الرابعة إنه فِكر كان عائقا كبيرا أمام تقدم و انتصار العقل الصريح و العلم الصحيح ، فأخرهما قرونا من الزمن ، بسبب كثرة انحرافاته المنهجية في الإلهيات و الطبيعيات و المنطقيات ،و ما ترتب عنها من كثرة الأخطاء و الانحرافات في كل مجالات الفكر التي خاض فيها أرسطو . و للباحث برتراند راسل رأي في هذا الموضوع يقول فيه : (( و لقد كان تأثير أرسطو من الناحية التاريخية معوقا ، و يرجع ذلك أساسا إلى الجمود الأعمى و الذليل لدى الكثير من أتباعه . لكن هذا شيء لا يُمكننا نلقي فيه اللوم على أرسطو نفسه ))[7] . و قوله هذا ناقص ، لأن السبب الحقيقي في أعاقة فكر أرسطو للعقل و العلم هو أرسطو نفسه من جهتين : الأولى إنه أقام فكره على منطق بحثي استدلالي منحرف فاشل ، عاجز عقيم[8] . و فكر هذا منهجه فهو بالضرورة معوّق للعلم و مُؤخر له ، و قد أنتج فكرا أضر العقل و العلم أكثر مما نفعهما. و الجهة الثانية إنه هو شخصيا كان عليه – في حياته- أن يحث تلامذته على طلب الدليل ،و الحرية في الفكر ،و عدم التقيد بأقواله إذا قام الدليل على خلافها[9] .

                        و من جهة أخرى يتحمل تلامذته المسؤولية من ناحتين أيضا : الأولى كان عليهم أن لا يسيروا على منهج شيخهم في البحث و الاستدلال ،و لو بحثوا في ذلك بالعقل الصريح و العلم الصحيح لتبين لهم انحراف منهج شيخهم و عقمه . و الناحية الثانية كان عليهم أن لا يُقلدوا شيخهم , و أن لا يُغالوا في تعظيمه ،و أن يجعلوا البرهان هو الحكم لا أرسطو و لا غيره من العلماء ، لأن الحَكم في العلم هو البرهان لا الرجال . لكنهم فعلوا خلافه و سار على نهج شيخهم المنحرف تنظيرا و ممارسة !! .

                        و الخاصية الخامسة إنه فِكر يجد أصوله و معظم فروعه الأساسية في التراث اليوناني خاصة ،و العالمي عامة . يجد قسما منها بطريق مباشر ،و يجد قسما آخر بطريق غير مباشر . و قد سبق أن أقمنا الأدلة الصحيحة على ذلك في مجال الإلهيات الطبيعيات و الإنسانيات. مما يعني أن أرسطو كان قليل الإبداع كثير الجمع و السطو و الاستحواذ على فكر غيره من العلماء ، مُستخدما في ذلك مختلف الأشكال و الوسائل الممكنة .

                        و الخاصية السادسة إنه فِكر أجرم في حق الإنسان و العلم جرائم نكراء قديما و حديثا . فأفسد عقائد و سلوكيات أُمم من الناس، و أذهب جهودهم و أوقاتهم سدى من جهة . و كان داعية للطبقية و العنصرية و اللامساواة ،و مشجعا للظلم و داعيا لاحتلال الشعوب الضعيفة من جهة ثانية . و أخّر العلم و أعاتقه و أفسده أكثر مما نفعه من جهة ثالثة . فعل كل ذك بسبب كثرة انحرافاته و أخطائه ، و شموله للإلهيات و الطبيعيات و الإنسانيات بمنهج منحرف . فهو فكر الغالب عليه أنه فاسد مُدمر مسموم لا يصلح للعقل ، و لا للعلم ، و لا للمجتمع . و كتابنا هذا سِجل مملوء بتفاصيل جنايات أرسطو على العقائد و السلوك ، و العقل و العلم ، فلا نعيد ذكرها هنا . و الأمر المؤسف أيضا أن جناياته ما تزال تُفسد عقائد و تصورات و سلوكيات كثير من أهل العلم إلى يومنا هذا . و هي جرائم نكراء لا تقل خطرا عن الجرائم الكبرى التي ارتكبها الطغاة السياسيون- قديما و حديثا- في حق الشعوب الضعيفة .

                        و الخاصية السابعة إنه فِكر فيه غرور و تسلط كبير ، فكثيرا ما كان يفرض آراءه الباطلة فرضا بلا دليل صحيح ، و يتذرع و يحتج بحتميات زائفة يحتمي بها ،و يتسلط بها على مخالفيه . كزعمه بأن الرق أمر طبيعي ،و أن اليوناني سيد بالطبيعة و الفطرة . و أنه لم يكن للإله فعل و لا اختيار في ظهور العالم . و أن السفاسطة (( أبدا يقولون خلاف ما يظهر من ضميرهم و ما خفي))[10] . فواضح من ذلك أن أرسطو كثيرا ما فرض رغباته و تحكماته و ظنونه على مخالفيه بدعوى الحتمية الطبيعية ، و ما هي بحتمية ،و لا ضرورة ،و لا طبيعة مفروضة . و إنما استخدم ذلك سفسطة و تدليساً ، تغليطاً و تسلطاً لتأييد آرائه و فرضها على أنها صحيحة حتمية يجب قبولها بالضرورة .

                        و الخاصية الثامنة إنه في عمومه فِكر يحمل معاول هدمه من داخله ، فهو عقلاني المظهر سُفسطائي الباطن ، مُتناقض البناء مع مكوناته الداخلية ،و مع حقائق العقل الصريح و العلم الصحيح . فإذا حللناه و فككناه و محصناه تمحيصا عقلانيا علميا أنكشف أمره ،و هدم نفسه بنفسه تنظيرا و ممارسة . و هذا أمر سبق أن بيناه و أقمنا الأدلة الدامغة على صحته،و فلا نعيده هنا.

                        و الخاصية التاسعة إنه فِكر مُخلّط يفتقد إلى المنهج البحثي الاستدلالي المُنسجم السليم الصحيح ، فقسم كبير منه بناه أرسطو على ظنونه و تحكماته ،و تناقضاته و خرافاته . و قسم كبير آخر بناه على منطقه الصوري العقيم . و قسم كبير آخر أقامه على منهج قياسي و تجريبي صحيح . و قسم كبير آخر أقامه على منهج تجريبي فاسد مجازف أخل فيه إخلالا كبيرا بشروط منطق البحث التجريبي . و قسم كبير آخر أقامه على السفسطة و التدليس، و الأقيسة الفاسدة و المبالغات .

                        و الخاصية العاشرة إنه فِكر لم يكن يحمل مشروعا إنسانيا إصلاحيا صحيحا يكون مُنقذا حقيقياً للإنسان على المستويين الفكري و السلوكي . فهو لم يكن كذلك و لا يستطيع أن يكون مشرىعا نهضويا إصلاحيا مُنقذا للإنسان . لأنه فكر قائم على منطق بحث استدلالي فاسد . و لأنه فكر يقوم على عقائد دهرية شركية صابئية مُفسدة لعقل الإنسان و فكره و سلوكه . و لأنه فكر استبدادي تسلطي عنصري يشجع على الظلم و احتلال الشعوب الضعيفة ،و يُكرّس الطبقية و التسلطية في المجتمع . و لأنه فكر معظم أًصوله و أساسيات فروعه باطلة مملوءة بالأخطاء و الانحرافات المنهجية ، فأساء بذلك إلى العقل الصريح و العلم الصحيح و أفسدهما ، أكثر أفادهما بفارق كبير . فهو فكر لا يصلح-في معظمه- بأن يكون مُنقذا للإنسان في العقائد و الإلهيات ،و لا في منطق البحث و الاستدلال ،و لا في الطبيعيات و الإنسانيات .

                        و الخاصية الحادية عشرة إنه فِكر طلب علوم الطبيعة و هو مُهمل و مُقزّم لمنهجها التجريبي . فدفع الثمن غاليا ، بأن عاقبته عقابا شديدا قاسيا ، ففضحته و بينت أخطاءه العلمية و الانحرافات المنهجية أكثر مما فضحته العلوم الأخرى. و هذا واضح جدا فيما ذكرناه من كتابنا هذا ، فقد تبين من الفصلين الثاني و الثالث أن أخطاء أرسطو الكثيرة و الفادحة ، و الواضحة و الملموسة، و الغريبة و المضحكة كانت تتعلق أساسا بعلم الأحياء و الفلك و الجغرافيا .

                        و الخاصية الثانية عشرة إنه فِكر قام أساسا على الظن لا على البرهان ، فقد أقامه صاحبه على ظنونه و تحكماته، و رغباته و خرافاته أكثر مما أقامه على الدليل الصحيح و اليقين الصريح . و قد تجلى ذلك بوضوح في إلهياته و موقفه من منطق البحث و الاستدلال منهجا و تطبيقا . فغلب عليه الظن و السفسطة على حساب اليقين و البرهان . و الذين يُروّجون بين الناس- قديما و حديثا- بأن أرسطو أقام فكره على اليقين و البرهان يرتكبون جريمة نكراء في حق العقل و العلم معا .

                        و الخاصية الثالثة عشرة إنه فِكر كثيرا ما أقامه صاحبه على المغالطات و التشهير بالغير ،و تضخيم أخطائهم ، مع أنه وقع في نفس أخطائهم و انحرافاتهم المنهجية ، بل أكثر منهم في مواقف عديدة . من ذلك أنه اشتد في نقد السفاسطة بحق و بغير حق ، ثم فعل مثلهم تنظيرا و ممارسة . و قد اشتد في نقد بعض المهتمين بالحيوان بقوله : (( و إنما يقول هذا القول بنوع انبساط و خِفة عقل ،و قلة نظر في الأشياء ))[11] . ثم هو نفسه نقض انتقاده هذا ، فلم يلتزم به ،و تكلم بلا علم مرارا و تكرارا . و وقع في أخطاء كثيرة فادحة تتعلق بعلوم الطبيعة عامة و الحيوان خاصة ، و بعضها هي من الغرائب و الحماقات التي لا يصح أن يقع فيها عالم في أي حال من الأحوال .

                        و الخاصية الرابعة عشرة إنه فِكر قام على كَمٍ هائل من الألفاظ و التعريفات ،و المصطلحات و المنقولات. لكنه كَم معظمه فارغ ، فلا رصيد حقيقي له من العقل الصريح و العلم الصحيح . فليس فيه من الصواب إلا القليل ، و الغالب عليه أنه كَمً هائل من الأخطاء و الانحرافات ،و التدليسات و السفسطات ،و الظنون و الرغبات .

                        و الخاصية الخامسة عشرة إنه فِكر نقض منطقه بنفسه . و ذلك أن صاحبه عندما مارس منطق البحث و الاستدلال في علوم الطبيعة لم يُحسن استخدام القياس الجزئي و لا الصوري- الشمولي - ، و لا التزم بشروط تطبيقهما. فوقع في أخطاء و انحرافات كثيرة من جهة ، و لم يُوصله منطقه الصوري إلى اليقين و البرهان إلا قليلا من جهة أخرى .

                        و الخاصية السادسة عشر إنه فِكر استنزف من صاحبه و أتباعه أوقاتا و جهودا كبيرة جدا لا يستحقها أبدا من جهة ؛ و أورث فيهم سلبية و انهزامية عطلت قدراتهم العقلية في النقد و التمحيص و الإبداع من جهة أخرى . مع أنه فكر هزيل مُتناقض مخالف للعقل الصريح و العلم الصحيح في معظم أصوله و أساسيات فروعه . إنهم عجزوا عن القيام بذلك إلا قليلا ،و أذهبوا جهودهم و أوقاتهم في شرحه و تلخيصه و الدفاع عنه بالباطل غالبا .


                        و ذلك واضح جدا في أعمال كبار و أعلام الفلاسفة المسلمين ، كالفارابي ، و أبي سليمان السجستاني ،وابن رشد الحفيد . فالفارابي مثلا أحصيتُ من مؤلفاته 100 كتاب معظمها في الفلسفة ليس من بينها و لا كتاب واحد مُخصص لنقد الفلسفة اليونانية في أي جانب من جوانبها . من بينها 19 كتابا في شرح تلك الفلسفة ، معظمها في شرح كتب أرسطو ، و منها 22 مُختصرا غالبها في المنطق الأرسطي[12].

                        فواضح من ذلك أن هذا الرجل أمضى معظم حياته العلمية في خدمة الفلسفة اليونانية عامة و الأرسطية خاصة ، و هذا عجز و سلبية و انهزامية . إنه أمضى قسما كبيرا من حياته في خدمة فلسفة مملوءة بالخرافات و الأباطيل ،و الضلالات و الأخطاء العلمية و الانحرافات المنهجية !! . إنه اختار لنفسه التبعية و السلبية بدلا من التحرر و الإيجابية، و الاجتهاد و الإبداع . فلو وفر تلك الجهود في نقد تلك الفلسفة و نقضها ، لكان ذلك أحسن له ،و لقدم للعلم خدمات جليلة جدا تساعد في تطوّره سريعا من جهة ، و لأخرج نفسه من أسر الفلسفة اليونانية عامة و الأرسطية خاصة من جهة أخرى . لكن المُؤسف أن الفارابي رضي لنفسه أن يكون تلميذا سلبيا خدوما لتلك الفلسفة . حتى أنه يُروى أنه سُئل : هل أنت أعلم أم أرسطو ؟، فقال : (( لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه )). و رُوي عنه أنه قال : (( قرأتُ السماع لأرسطو أربعين مرة ، و أرى أني محتاج إلى معاودته )) [13] . و يقصد به كتاب الطبيعة ، و وقوله هذا عورة من عوراته ، و شهادة ضده ، إنه أمضى وقتا طويلا ، و جهدا كبيرا في قراءة كتاب الطبيعة قراءة سلبية تبجيلية ، فكان من الذين يصدق عليهم قوله تعالى : {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }-سورة الكهف:104- . و هذا الكتاب موجود بين أيدينا و قد قرأته مرتين مُتفرقتين فوجدته قليل الصواب كثير الكلام و الشقشقات و السفسطات من جهة ، و كثير الأخطاء و الانحرافات المُتعلقة بالإلهيات و الطبيعيات من جهة أخرى ، فلا يستحق أن يُقرأ أربعين مرة ، و لا عشر مرات ، و لا خمس مرات .

                        و أما أبو سليمان السجستاني(ت بعد:391هجرية) ، فهو صاحب كتاب صوان الحكمة ، كان يحفظ أقوال فلاسفة اليونان ، كديموقراطيس ،و أفلاطون ، و أرسطو[14] . و من مؤلفاته: مقالة في أن (( الأجرام العلوية طبيعتها طبيعة خامسة ،و أنها ذات أنفس ،و أن النفس التي هي النفس الناطقة ))[15] . فهذا الرجل أمضى أوقاتا كثيرة ،و بذل جهودا كبيرة لحفظ أباطيل و خرافات ، و حقائق و شركيات فلاسفة اليونان ، فلم تنفعه في إبداع فلسفة نقدية هدمية ،و إنما نفعته في تكرار و خدمة ما أنتجه هؤلاء. كالمقالة التي أشرنا إليها ، فهي في الحقيقة خرافة من خرافات أرسطو ، لا مهارة فيها و لا إبداع . و إنما هي تمثل جانبا من جوانب إلهيات أرسطو الشركية الخرافية ، فنصت على أن الأجرام السماوية ليس طبيعتها كطبيعة العناصر الأربعة المكونة لعالم الكون و الفساد ،و هي: الهواء ،و النار ، و التراب ، و الماء . و إنما هي مكونة من عنصر خامس مخالف في طبيعته عن العناصر الأربعة الأخرى ، لذا فهي جواهر أزلية خالدة عاقلة ذات أنفس . و هذه مزاعم و خرافات مُخالفة للشرع و العقل و العلم ، لأنه من الثابت شرعا و علما أن الكون ليس أزليا ،و أنه مخلوق من مادة واحدة[16] .

                        فواضح من ذلك أن هذا الرجل حفظ أقول فلاسفة اليونان ليس لنقدها و إنما لخدمتها و الدفاع عنها حتى و إن كانت تخالف الشرع ،و لا أساس صحيح لها من العقل و لا من العلم . فأذهب جهوده و أوقاته و حماسه فيما ضرره أكثر من نفعه بفارق كبير جدا .

                        و أما ابن رشد فهو قد أوّل الشرع تأويلا تحريفيا ليتفق مع فلسفة أرسطو، فيما يتعلق بأزلية العالم و الصفات[17] . و أمضى معظم حياته العلمية في شرح و تلخيص ،و تجميع مؤلفات أرسطو . و قد قُدرت مؤلفات ابن رشد ب: 118 كتابا ، معظمها في الفلسفة اليونانية عامة و الأرسطية خاصة ، و غالبها في الشروح و الملخصات ،و قُدر المشروح منها ب: 38 كتابا معظمها لأرسطو ، و قليل منها في الفقه و الأدب[18]. و قد كانت أعماله في شرح الكتب الفلسفة و تلخيصها و تجميعها ، هي أكبر (( بكثير من مؤلفاته التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ))[19]. و في مقابل ذلك لم أعثر له على أي كتاب خصصه لنقد إلهيات أرسطو ، و لا طبيعياته، و لا منطقه ، مع أن فكر هذا الرجل هو فكر هزيل مُتناقض ، و معظم أصوله و أساسيات فروعه غير صحيحة و قد سبق تبيان ذلك.

                        و الخاصية الأخيرة- السابعة عشر- إنه فِكر قليل الإبداع كثير الأخطاء و الانحرافات و الجنايات ،و هذا أمر سبق أن أقمنا الأدلة الدامغة القاطعة على صحته ،و قد زاد مجموع الأخطاء و الانحرافات المنهجية التي أوردتها في كتابي هذا ، عن 337 خطأً و انحرافا منهجيا ذكرتها كعينات من باب التمثيل لا الحصر ، و إلا فهي أكثر من ذلك بفارق كبير جدا .

                        فما هي الأسباب التي أوقعت أرسطو في ذلك ؟، و هل كان معذورا فيه ، و يصح الاعتذار له في ذلك ؟ .


                        و أقول: أولا إن أسباب كثرة أخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية ليست أسبابا سطحية و لا عرضية ،و لا خاصة بعلم دون آخر و إنما هي أصيلة و عميقة نابعة من صميم فكر الرجل و مكوناته الأساسية، و تشمل كل مجالات فكره . و يمكن تركيز أسباب ذلك في سببين رئيسيين: الأول منهجي ، و الثاني تطبيقي . فالأول يتمثل في انحراف منطق البحث و الاستدلال لدى أرسطو ، فهو منهج يغلب عليه الظن و عدم التوليد . و توضيح ذلك من ناحيتين : الأولى أنه فِكر فضل التأمل التجريدي الظني على الفكر التأملي التجريبي الصحيح ، فكثيرا ما رأيناه يُفكر بظنونه و رغباته و تحكماته ،و يُقدمها على بدائه العقول و حقائق العلوم . و الثانية إنه فِكر أهمل القياس الجزئي المنتج للعلوم و المُطوّر لها ،و اهتم بالقياس الصوري الذي هو فرع لا أصل ، و فضّله على القياس الجزئي بأنواعه ، و قد سبق أن بينا ذلك و وثقناه في الفصل الرابع . و هذا كله جعل منهجه البحثي الاستدلالي ظنيا قاصرا عقيما في الغالب من جهة ، و أنقلب سلبا على نتائجه من جهة أخرى . لأن الانحراف في المنهج يُؤدي بالضرورة إلى كثرة الأخطاء و الانحرافات ،و قلة الصواب ، و العكس صحيح .
                        و أما السبب الثاني المتعلق بالجانب التطبيقي فله جانبان : الأول إنه من المنطقي جدا أن يُهمل أرسطو التجارب و المعاينات الميدانية ، لأنه ينظر إليها باحتقار و ازدراء بناءً على خلفيته المذهبية المتعلقة بمنطقه في البحث و الاستدلال . و الجانب الثاني يتمثل في أن أرسطو عندما مارس جانبا من العلوم التطبيقية الطبيعية و الإنسانية لم يلتزم بشروطها و أبجدياتها التي يفرضها عليه المنهج التجريبي . فقد ذكرنا نماذج كثيرة من مواقف كانت تتطلب منه التثبت ، أو المعاينة ، أو التجربة ، فلم يفعل ذلك ، و بنى مواقفه على ملاحظات جزئية ناقصة ، أو على ظنونه و رغباته و خلفياته المذهبية . فهذا الرجل أمره غريب جدا ، فكان يتكلم في كل شيء بمنهجه الفاسد ، و لا نكاد نعثر له على قول يقول فيه بصراحة : أنا لا أعرف . فكان يتكلم بعلم و بلا علم ،و فيما يُدركه و ما لا يُدركه ، و فيما تَثبّت منه و ما لم يَتثبّت منه . و هذا غرور كبير ،و رعونة نفس ،و اعتداء على العقل و العلم ، و جهل كبير بحقيقة العلوم و مناهجها .

                        و ثانيا ففيما يخص الاعتذار لأرسطو ، فعموما أنه لم يكن معذورا في معظم مواقفه ،و لا يصح الاعتذار له في غالبية أخطائه و انحرافاته المنهجية لأمرين أساسيين : الأول هو أن قسما كبيرا منها كان في مقدور أرسطو تجنب الخطأ فيها ، إما بالمعاينة ، أو بالتجربة ، أو بسؤال أهل الخبرة . لكنه أهمل كل ذلك و تكلم بلا علم ، فكيف يصح أن يُعتذر له في ذلك ؟؟!! .

                        و الأمر الثاني مفاده أن قسما كبيرا من أخطائه سببه تخلف العلم في زمانه ،و عدم توفر الوسائل التي تُمكّنه من التأكد مما قاله ،. و هذا هو معذور فيه عُذرا جزئيا فقط من جهة ، و يبقى مسئولا عنه ،و لا يصح الاعتذار له فيه من جهة أخرى . لأنه – في مثل هذه الحالات- لم يحترم فيها منطق البحث و الاستدلال ، و إنما خاض فيها بلا علم ،و جزم بصحة آرائه و ملاحظاته من دون أي دليل صحيح يُثبتها . مع أنه كان من الواجب عليه – عقلا و علما – أن يتجنب ذلك الجزم و القطع، و يجعل آراءه ظنية احتمالية ،و يحتاط لنفسه فلا يقطع و لا يُعمم ، و يترك الأمر معلقا . و بذلك يتبين أن الرجل هو الذي أورد نفسه الموارد المُهلكة ، و لا يصح السكوت عنه ،و لا مسايرته في أقاويله ،و الاعتذار له و تدليله .
                        و ربما يقول بعض الناس: إن أرسطو كان معذورا فيما وقع فيه من أخطاء و انحرافات ، فماذا كان بيده أن يفعل ؟ ، فعندما لم تسعفه الوسائل اجتهد بعقله لمعرفة ما غاب عنه.

                        و أقول: هذا اعتراض وجيه مبدئيا ،و تبرير مقبول بصفة عامة ، لكن لا يصح استخدامه مع أرسطو في معظم أخطائه و انحرافاته . لأنه أقمنا الأدلة القطعية أنه أهمل التثبت و المعاينة و التجربة ، مع أنه كان قادرا على القيام بذلك . و أنه خاض في أمور لم يكن في مقدوره الخوض فيها ، لكنه خاض فيها و تكلم بلا علم ، و هذا هو الانحراف المنهجي الذي أفسد به أرسطو جانبا كبيرا من فكره . فهو هنا لم يتكلم بعقل صريح ،و لا بعلم صحيح ،و إنما تكلم بظنونه و تحكماته و رغباته. فهو هنا غير معذور ، لأنه لم يلتزم بما يفرضه عليه منطق البحث و الاستدلال ، و كان في إمكانه أن يجنب نفسه كثيرا من الأخطاء و الانحرافات لو التزم بذلك .

                        و ربما يقول بعض الناس : لا يصح انتقاد فكر أرسطو في كثرة أخطائه و انحرافاته المنهجية بعلوم عصرنا ،و إنما يُنقد بعلوم عصره ؟!.

                        و أقول: أولا هذا اعتراض لا يصح ، و من المغالطة القول بأن نقد أي فكر يجب أن يكون بمقياس عصره فقط . فهذا زعم باطل ، و الصواب هو أن ننقد أي فكر كان بالاحتكام إلى الحقيقة وحدها ، من دون حصر لها بزمان و لا بمكان ، و الشرط الوحيد فيها هو أن نحتكم إلى الحقائق لا إلى الظنون و لا إلى الرغبات و لا إلى الاحتمالات ، على أن نأخذ تلك الحقائق من الوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . و بناءً على ذلك فإنه من حقنا أن ننقد أي فكر - قديما كان أو حديثا – بالاحتكام إلى تلك المصادر المعرفية التي منها العلم الحديث . و أرسطو نفسه كان – في انتصاره لفكره- يحتكم إلى علم عصره ، و قد نقد به فكر السابقين و المعاصرين له . فمن حقنا نحن أيضا أن ننقده بالاحتكام إلى علوم عصرنا .

                        و ثانيا إنه من حقنا أن نحتكم إلى علوم عصرنا ،و نتشدد في انتقادنا لأرسطو ، و محاسبته حسابا عسيرا ،لأنه كان كثير التجاوزات والانحرافات ،والمجازفات و الاعتداد بالنفس . فجعل نفسه من أهل البرهان و اليقين و جعل مخالفيه من أهل الجدل و الظن . لذا وجدناه يصدر أحكاما كثيرة يزعم أنها صحيحة بالضرورة و الوجوب ،و هي في الحقيقة ما هي إلا ظنون و رغبات ، و تحكمات و احتمالات مُخالفة للوحي الصحيح ، و العقل الصريح ، و العلم الصحيح .

                        علماً بأن تبرير أعمال أرسطو ،و السكوت عن أخطائه و انحرافاته ،و عدم لومه و تحميله مسؤولية ما قام به ، هو في الحقيقة جريمة نكراء : شرعا و عقلا و علما ، لا يصح السكوت عنها أبدا . فلابد من عرض فكره على ميزان الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح ، لتمييز صحيحه من سقيمه من جهة ، و ليأخذ صاحبه مكانه الحقيقي المناسب له ، بلا إفراط و لا تفريط ،و بلا تضخيم و لا تقزيم من جهة أخرى . و بذلك لا نظلم الرجل ،و لا نتعصب عليه ،و لا نحرمه حقه ، ولا نحكم عليه إلا بالحق ،و لا نُدلّله و نبالغ في مدحه و الثناء عليه بما لا يستحقه .

                        و أُشير هنا إلى أن أُناسا ربما يعتقدون أنه لم يكن في الإمكان نقد فكر أسطو في زمانه ،و لا في العصر الوسيط ،و لم يصبح هذا مُمكنا إلا في العصرين الحديث و المعاصر . و هذا اعتقاد باطل ، لأن فكر أرسطو هو فكر هزيل ضعيف مُسفسط فاسد من داخله منهجا و تطبيقا . و كان في مقدور أي باحث موضوعي نزيه مُتسلح بالعقل الصريح و العلم الصحيح أن يرد عليه ، و يُقوّضه من أساسه . و في حضارتنا الإسلامية ظهر علماء كبار[20] ردوا عليه ردا علميا صحيحا في كثير من جوانبه قبل الثورة العلمية الحديثة ، بل إنهم ساهموا في ظهورها بتلك الردود العلمية القوية التي ردوا بها على فكر أرسطو .

                        و من تلك المبررات و الاعتذارات لأرسطو أن الباحث ولتر ستيس عندما أشار إلى كثرة أخطاء أرسطو المتعلقة بالحيوانات ، و ذكر أنها أصبحت ضربا من قبيل الخيال ، عقّب على ذلك بقوله : (( و لكن كان هذا أمرا مُحتماً في طفولة العلم ))[21].

                        و أقول: تبريره هذا غير صحيح في معظمه ، و البحث العلمي هو البحث العلمي في كل زمان و مكان ، له أبجدياته و شروطه يجب الالتزام بها . و لو التزم أرسطو بمنطق البحث و الاستدلال التزاما كاملا و صحيحا لجنب نفسه مئات الأخطاء العلمية و الانحرافات المنهجية . و قد سبق أن ذكرنا نماذج كثيرة من مواقفه أخطأ فيها بسبب إهماله و تقصيره و ازدرائه للمنهج التجريبي ، مع سهولة التثبت و المعاينة و التجربة ، فلا دخل هنا لحكاية طفولة العلم . فالأخطاء و الانحرافات الكثيرة التي وقع فيها أرسطو لم تكن مُحتمة أبدأ ، لأنه كان من السهل تجنب الخطأ فيها . لكن عجز الرجل و إهماله و غروره كل ذلك أوقعه في أخطاء كثيرة فادحة فاحشة ، و لا دخل فيها هنا للحتمية و لا لطفولة العلم . فالعلم هو العلم من جهة منطق البحث و الاستدلال ، فمن التزم به التزاما صحيحا كاملا ، كَثُر صوابه و قل خطؤه ،و من أهمله ،و أخل بشروطه كَثُرت أخطاؤه و انحرافاته ،و قل صوابه ،و هذا هو الذي ينطبق على أرسطو.
                        و أشير هنا إلى أن بعض الباحثين المعاصرين عندما يذكرون طائفة من أخطاء أرسطو ، يقولون : إن تلك الأخطاء لا (( تقلل بحال من الأحوال من قيمة الإنجازات العظيمة التي حققها للعلم و البشرية على السواء )) [22] .

                        و أقول: هذا قول غير صحيح في معظمه ، لأن أخطاء أرسطو ليست أخطاء عادية من جهتين : الأولى أنها أخطاء قائمة على انحراف منهجي كبير و خطير يتعلق بمنطق البحث و الاستدلال ،و قد سبق أن بينا ذلك مرارا ، فهي أخطاء و انحرافات حتمية لابد منها بسبب هذا الانحراف المنهجي. و الجهة الثانية هي أن أخطاء أرسطو و انحرافاته ليست قليلة العدد محدودة المساحة ، و إنما هي أخطاء و انحرافات كثيرة جدا تُقدر بالمئات و تغطي كل تراثه الفكري . و هذا يعني بالضرورة أن ما قدمه فكر أرسطو من صواب للعقل و العلم قليل جدا ،و ما قدمه لهما من أخطاء و انحرافات ، و ما ترتب عنها من سلبيات و جرائم كثيرة جدا جدا !! .

                        و قبل إنهاء مبحث الخصائص ، أُشير هنا إلى أن بعض الناس قد يقولون : لقد أكثرتَ من ذكر سلبيات فكر أرسطو ، ألم تكن له إيجابيات فتذكرها له ؟؟.
                        و أقول : نعم لفكر أرسطو إيجابيات ، لأنه لا يُمكن أن يُوجد فكر ما كله أخطاء و سلبيات ، فلا بد له من إيجابيات و إن كانت قليلة ، و إلا ما قال به أحد . و هذا هو حال فكر أرسطو ، فإيجابياته قليلة و سلبياته كثيرة جدا من جهة ،و هي إيجابيات الغالب عليها أنها إيجابيات جزئية لا تتعلق بأصول فكر أرسطو و قواعده من جهة أخرى . علما بأن كثيرا من الخصائص التي يٌقال أنها من إيجابيات فكر أرسطو هي في الحقيقة ليست كذلك كليا أو جزئيا . و إذا كان من الواجب علينا أن نعترف للرجل بصوابه و إيجابياته القليلة ، و نمدحه عليها ؛ فإنه من الواجب علينا أيضا أن ننتقده و نُبين أخطاءه و انحرافاته و سلبياته الكثيرة ،و نذمه عليها من جهة أخرى . فهذا الرجل يستحق الذم و القدح أكثر مما يستحق المدح و التبجيل . فهو كما أنه – أي أرسطو- من كبار أذكياء العالم و نُظاره ، فهو أيضا من كبار سفاسطته و مُدلسيه . ومع أن كتابنا هذا خصصناه لسلبيات الرجل لا لإيجابياته ، و ضمناه منها ما يكفي للحكم على الرجل ،و الرد على معظم الإيجابيات المنسوبة إليه خطأً ، أو زوراً ، أو غلوا ، فإننا - مع ذلك – فسنذكر بعضها و نرد عليها ردا مُركزا مُجملا حسب ما يتطلبه المقام ، و بالله التوفيق .

                        الأولى مفادها أن فكر أرسطو وُصف بأنه كثير التأليف أنتج ثروة مُعتبرة تشهد لصاحبها بالاجتهاد و الإبداع و العطاء الغزير . فقُدرت مُصنفاته بالمئات ، فقيل بلغت 400 كتاب ،و قيل بلغت الألف مُصنف ، شملت علوما كثيرة . لكن لم يبق منها إلا القليل[23] .

                        و أقول : أولا إن كثرة التأليف لا تدل بالضرورة على العبقرية و الإبداع ، بل إنها قد تدل على عكس ذلك . فهي إذن قد تدل على ذلك و قد لا تدل عليه . و عليه فقد توجد العبقرية و الإبداع مع قلة التأليف ، فيكون الكم قليلا و النوعية جيدة ، و قد يُوجدان مع كثرة التأليف فيكون الكم كثيرا و النوعية جيدة ممتازة . لكن لا شك أن الحالة التي يتوفر فيها الكم و النوعية الجيدة أحسن من الحالة التي تتوفر فيها النوعية الجيدة دون الكم الغزير . و هذه الأخيرة هي أحسن بلا شك من الحالة التي لا يتوفر فيها كم و لا نوعية جيدة ،و أحسن من التي يتوفر فيها كم بلا نوعية جيدة . و حالة مؤلفات أرسطو أنها كم كثير بنوعية جيدة قليلة مقابل نوعية رديئة كثيرة جدا : أصولا و فروعا ، تنظيرا و ممارسة .

                        و ثانيا يجب أن لا يغيب عنا أن كثيرا من الكتب التي نُسبت إلى أرسطو ، منها ما هو ليس من مؤلفاته ، و منها ما هو غير ثابت النسبة إليه ، و منها ما هو من تأليف بعض تلامذته[24]. و أما ما ذكره الباحث ماجد فخري من أن أرسطو ألف في 12 سنة فقط أهم (( آثاره العلمية و الفلسفية ،و حتى لو افترضنا – كما يقول أحد الثقات- أن طلاب أرسطو كانوا يشتركون معه في عملية التقميش و التنقيب ، فإن نتاجه الفكري يبقى فريدا من نوعه في تاريخ البشر العقلي ))[25] . فقوله هذا فيه غلو كبير ،و لا يصح أيضا . لأن الحقيقة هي أن أرسطو تفرّغ للبحث بعد شيخه أفلاطون نحو 25 سنة ، و ليس 12 سنة من جهة[26] ، كما أن 12 سنة تكفي لمن يتفرغ للبحث العلمي و معه من يجمع له المادة العلمية و يُنظمها و يُحررها بأن يُؤلف كتبا كثيرة من جهة أخرى . و إذا أضفنا إلى ذلك أن أرسطو كان كثير الجمع و النقل ، و السفسطة و السطو على أعمال غيره ، مع قلة التحقيق و التثبت و إجراء التجارب ، فإن هذا يزيد أكثر في ارتفاع عدد مصنفاته .

                        و ليس صحيحا أن نتاج أرسطو الفكري كان فريدا في تاريخ البشر العقلي . فهذا زعم باطل ، لأنه وُجد من أهل العلم من ألف أكثر منه كماً و جودة ، كما هو حال الشيخ ابن تيمية فقد أحصاها الحافظ الذهبي فبلغت ألف مُصنف[27] ،و كان أحيانا يُؤلف كتابا صغيرا في يوم واحد ، بل في جلسة بين الظهر و العصر[28] . و هذا أيضا عادي بالنسبة للشيخ ابن تيمية ، لأنه كان مُتفرغا للعلم ،و يتكلم من حفظه ، و له ذكاء حاد و غزير العلم[29] ،و كان سريع الكتابة ،و له تلاميذ يُبيضون كتبه[30] . فابن تيمية و أمثاله عندهم التأليف سهل جدا ، فيمكن أحدهم أن يُؤلف كتابا في يوم ، أو في يومين ، أو في ثلاثة أيام . لأن احدهم يجلس للعلم ، أو يأتيه سؤال ، فيتكلم ساعة أو ساعتين أو ثلاثة ، و تلامذته يكتبون ، فينتهي المجلس و قد أنجز كتابا في مسودته ، ثم يُبيض و يخرج كتابا كاملا في نفس اليوم ، أو في اليوم الثاني ، أو الثالث . فالنتيجة واضحة هي أن علماء كابن تيمية و أمثاله قد يُؤلف احدهم عشرة كتب متوسطة الحجم في سنة واحدة . و بذلك يسقط ذلك الزعم الذي قاله ماجد فخري في مدحه لأرسطو .

                        و الإيجابية الثانية مفادها أنه ربما يُقال : إن فِكر أرسطو هو فِكر شمولي جمع صاحبه علوما كثيرة .
                        و أقول: إن ظاهرة الشمولية ليست خاصة بأرسطو و لا تقتصر عليه فقط ، فالتاريخ يشهد بوجود موسوعيين كثيرين قديما و حديثا جمعوا علوما كثيرة . فمن اليونانيين ديموقريطس جمع علوما كثيرة كالطب ، و الرياضيات ، و الفلك و الجغرافيا ،و الزراعة و الصنائع و غيرها من العلوم[31] . و قد شهدت حضارتنا الإسلامية عددا كبيرا من هؤلاء ، كابن قتيبة الدينوري ، و الجاحظ ،و الطبري ، و ابن سينا ،و ابن الجوزي ، و ابن رشد ، و ابن تيمية ، و السيوطي ، و غيرهم كثير جدا . لكن العبقرية الحقيقية ليست في كثرة جمع العلوم ،و لا تُقاس بها ، و إنما هي أساسا في سلامة المنهج البحثي الاستدلالي ،و توفر الإبداع و الجودة و الصواب : كَماً و نوعاً . و هذا لم يتوفر في موسوعية أرسطو إلا قليلا ، بالمقارنة إلى ما جمعه من علوم .
                        و لا يغيب عنا أن الشمولية قد تكون وبالا على صاحبها إذا لم تتم بطريقة صحيحة ، فتأخذ منه جهوده و أوقاته في الجمع و الحفظ ،و تفوّت عليه الفهم و التمحيص و الابتكار ،و تحرمه من التخصص الدقيق الذي يُوصله إلى درجة التمهر و الإتقان . و هذا الذي وقع فيه أرسطو ، فقد طلب العلم كبيرا ، فبدأه و عمره 18 سنة ، ثم أمضى فترة تتلمذه على أفلاطون مدة 20 سنة ، و بما أنه عاش 63 سنة[32] ، فيكون قد تفرّغ للبحث العلمي مدة 25 سنة . و هذه المدة لا تكفيه لكي يُنجز أبحاثه الموسوعية و يُتقنها و يتمهر فيها . فأصبح الغالب على الرجل الجمع و التدوين ، و السطو و الاستحواذ ، و إهمال التثبت و التجربة ، و التعليقات السطحية و السفسطائية هنا و هناك . مارس ذلك كثيرا على حساب التخصص الدقيق المُبدع ،و قد انعكس ذلك بوضوح في كثرة أخطائه و انحرافاته المنهجية ، التي سبق أن فصلناها. فأضرته موسوعيته أكثر مما نفعته ،و أخرته أكثر مما قدمته . إنه كتب في علوم كثيرة لم يُتقنها ،و لا هي من تخصصه،و لا التزم بمناهجها و شروطها !! . فضاعت منه أوقات و جهود كبيرة ، كان من الأولى أن يصرفها في مجال محدود يتفرغ له إتقانا و إبداعا .

                        و الثالثة مفادها أنه ربما يُقال أيضا : إن من أكبر إيجابيات فكر أرسطو أنه هيمن على العقل البشري أكثر من عشرين قرنا من الزمن، كان فيه سيدا بلا فكر يُنازعه ،و لا يُساويه ،ولا يُنافسه، و لا يُقاربه .

                        و أقول: أولا إن هيمنة فكر ما على أهل العلم في عصر من العصور، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه فكر صحيح ،و ما قدمه كان إيجابيا . فقد يكون الأمر كذلك و قد لا يكون ،و لا بد من العودة إلى هذا الفكر نفسه لتمحيصه و نقده لمعرفة حقيقته من جهة ، و لمعرفة حقيقة ما قدمه للعلم و الناس في الواقع من جهة أخرى .

                        و ثانيا ليس صحيحا أن الفكر الأرسطي قد هيمن على كل العقل البشري طيلة تلك القرون . لأنه وُجد كثير من أهل العلم من رفضه و قاومه و انتقده نقدا علميا صحيحا ،و هدّم جانبا كبيرا منه قبل العصرين الحديث و المعاصر . و قد كان علماء أهل السنة من الأوائل الذين تصدوا للفكر الأرسطي ، فقاوموه بشدة علماً و عملاً ، كأبي بكر الباقلاني، و أبي عمر بن الصلاح ، ابن تيمية ، و ابن قيم الجوزية ،و غيرهم كثير[33] .

                        و ثالثا إن تلك الهيمنة التي حققها الفكر الأرسطي كانت سلبياتها أكثر من إيجابياتها بفارق كبير جدا ، فأضرت العلم أكثر مما نفعته و أخرته أكثر مما قدمته من جهة . و لولا سلبية أتباعه و انهزامية أكثر أهل العلم زمن هيمنته ، ما كان له أن يسود و يُهيمن من جهة أخرى . فهو فكر لم يسد و لم يُهيمن لسلامة منهجه العلمي و صحة مضامينه ،و إنما حقق ذلك لعوامل أخرى كانت في صالحه . فحقق هيمنة لا يستحقها ،و لا هو أهلا لها. فلما جاء العلم الحديث انكشفت حقيقته الزائفة بشكل أكبر منهجا و تطبيقا .

                        و الإيجابية الرابعة مفادها أن أرسطو كان يدعو (( إلى الدقة في تدوين الملاحظات للوصول إلى الحقائق ،و عدم الاعتماد على ملاحظة الآخرين))[34] .
                        و أقول : إذا صح أن أرسطو قال ذلك ، فهذا لا يعني أن تلك الميزات كانت ميزات أساسية لفكره . و الصحيح هو أن ذلك ليس صفة أساسية لفكر أرسطو ، بل هي صفة جزئية لا تصدق إلا على قسم صغير من فكره ،و قد أخل بها إخلالا كبيرا في بحوثه العلمية . فقد سبق أن ذكرنا عشرات النماذج كان فيها أرسطو يروي عن الرواة الأخبار الضعيفة و الباطلة ، بل و حتى الخرافية . كما أنه كان يُهمل التثبت و المعاينة و التجربة ، و يتكلم بلا علم ، بل أنه – في بعض المواقف- كان يُوهمنا بأنه جرّب و شاهد و هو لم يقم بذلك أصلا !! .

                        و الإيجابية الأخيرة – الخامسة [35]- مفادها أن بعض الناس ربما يقولون : إن من إيجابيات فكر أرسطو أنه فكر عقلاني طرحه صاحبه بطريقة عقلانية منظمة مُحكمة مترابطة كونت في النهاية نسقا فكريا كاملا كما هو واضح من فلسفته. و قد أشار بعضهم إلى هذا صراحة . فذكر الباحث ماجد فخري أن لأرسطو نسقا فكريا امتاز أيضا بدرجة كبيرة جدا من التماسك و الإحاطة و العمق[36] . و ذكر الباحث مصطفى النشار أن أهمية فكر أرسطو تكمن أساسا في الإحكام المنطقي ،و الإبداع المنهجي الذي كُتب به[37] .
                        و أقول: أولا إن الحقيقة هي أن أرسطو طرح فكره بطريقة عقلية و ليس بطريقة عقلانية . و الفرق بينهما – في تصوري- أن العقلانية تعني الاحتكام إلى العقل الصريح ،و الأخذ به في كل الحالات و المواقف ، و هذا لا يصدق على معظم أصول فكر أرسطو و أساسيات فروعه ،و قد سبق بيان ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا . و أما الطريقة العقلية ، فهي التي طرح بها أرسطو فكره ، بمعنى أن العقل كان وسيلة طرحها . و هذه الخاصية ليست خاصة بأرسطو و فكره ، و إنما هي وسيلة كل الناس عامة ،و أهل العلم خاصة ، فكلهم يطرحون أفكارهم بطريقة عقلية .

                        و ثانيا إن أرسطو قد دوّن فكره أساسا بطريقة عقلية غير عقلانية ، فهي طريقة عقلية جمعت بين التغليط و التدليس ، و السفسطة و الجدل ، و ليس فيها من العقلانية الصحيحة إلا القليل . فأنتج فكرا مملوءا بالتناقضات و الأخطاء العلمية ،و الانحرافات المنهجية و المزاعم الباطلة، و قد سبق أن أثبتنا ذلك بالأدلة الدامغة القاطعة . و أما ما يظهر من فكره من صبغة عقلية مُنظمة ، فهي ميزة صحيحة ، لكن لا تخصه وحده ، ففي مقدور أي عالم مُتضلع في علمه أن يطرح فكره بنفس الطريقة ، بل و أحسن منها . و قد سبقه إليها السفاسطة و سقراط و أفلاطون . فالمتدبر في محاورات سقراط و أفلاطون يجدهما كثيرا ما يُنظمان أفكارهما ،و يتدرجان في المناقشة ،و طرح المقدمات بطريقة عقلية للوصول إلى النتائج المرجوة[38] .

                        و أما السفاسطة فهم أبرع من الجميع في طرح أفكارهم بطريقة عقلية منظمة . فمعروف عنهم أنهم أتقنوا فن التعليم و التربية، والخطابة و الجدال ،و القدرة الفائقة على الإقناع بالحق و الباطل . فهم أتقنوا طريقة العرض العقلي المُنظَمة لأفكارهم ، لكنها كانت طريقة عقلية جمعت بين الحق و الباطل ،و غلب عليها التدليس و التغليط ،و التلاعب بالألفاظ . فعُرفت طريقتهم هذا بأنها سُفسطائية ، من يُمارسها فهو سُفسطائي[39]. لكنها في النهاية طريقة عقلية مُنَظمة مُحكمة مبنية على مقدمات و نتائج مرجوة مُسبقا ، في إمكان أصحابها استخدامها في الحق و الباطل .

                        و من ذلك يتبين أن طريقة أرسطو العقلية في عرض أفكاره لا تختلف عن طريقة سقراط و أفلاطون عامة ،و طريقة السفاسطة خاصة . فهو قد توسع في طريقته العقلية كالسفاسطة ، و بما أنه سبق أن بينا أن فكره مملوء بالتناقضات و الأخطاء ،و الانحرافات و المزاعم ، فهو فكر الغالب عليه أنه فكر سُفسطائي قلبا وقالبا ، صاغه أرسطو بطريقة سُفسطائية خاصة به ، فهو قد أتقن منطق السفسطة و لم يُتقن منطق البديهة و العلم . فظهر لكثير من الناس أنه يُمثل نسقا فكريا مُحكما ، فانخدعوا به ،و هذا غير صحيح ، و قد تبين – من الأدلة الدامغة- أنه فكر زائف و سفسطائي ، و هزيل ضعيف في صميمه ، يحمل معاول هدمه من داخله .

                        و ثالثا إن النظرة العلمية الدقيقة الصحيحة و الشاملة لفكر أرسطو تبين عكس ما قاله الباحث ماجد فخري . فهو فكر هزيل ضعيف قائم أساسا على التناقضات و الظنون ،و الرغبات و الانحرافات المنهجية من جهة ، ثم ترتب عن ذلك تطبيقات عملية كثيرة الأخطاء و الانحرافات المنهجية في كل المجالات التي كتب فيها أرسطو من جهة أخرى . و كلامنا هذا ليس كلاما فارغا ، و إنما هو كلام علمي أقمناه على الأدلة الدامغة القطعة التي سبق أن بيناها و وثقناها في الفصول السابقة فلا نعيدها هنا .

                        و أما خاصية الإحاطة فهي أساسا إحاطة جمع و تدوين ، و لم تكن إحاطة إتقان و إبداع و تمهر في معظم الأحيان . فهي إحاطة موسوعية تجميعية يُمكن أن يقوم بها كثير من أهل ؛ كما أن قسما كبيرا منها كان إحاطة سطو و استحواذ مارسهما أرسطو ، و ربما تلامذته أيضا ، تم ذلك بطرق شتى سبق أن ذكرنا نماذج منها .
                        و أما خاصية العمق ، فهي خاصية ضعيفة و لا تمس حقائق الأمور في كثير مما كتبه أرسطو . و قد سبق أن بينا مدى ضعف و تناقض أفكاره الميتافيزيقية من جهة ؛ و لو كان فكره عميقا رزينا ما وقع في أخطاء و انحرافات منهجية جمعنا منها أكثر من 337 خطأ و انحرافا من جهة أخرى . و لو كان عميقا ما وقع في أخطاء فادحة مُضحكة لا يقع فيها أبسط باحث من أهل العلم ، بل لا يقع فيها حتى إنسان عادي من الناس . كزعمه بأن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل ، و أن قلب الخيل يُوجد بداخله عَظْم ، و أن البنت الحدث دم حيضها أبيض اللون ، و أن الدماغ بارد ،و لا عروق ولا دم فيه ،و غير ذلك من أخطاء الرجل و حماقاته المُضحكة .
                        لكن يبدو أن ماجد فخري اغتر – ككثير من أهل العلم- بالصبغة العقلية التي طرح بها أرسطو فكره ، و لم ينتبه إلى أن هذه الصبغة هي صبغة شكلية سُفسطائية ، مبنية أساسا على الظنون و التناقضات، و الشقشقات و التلاعبات ، و كثرة الأخطاء و الانحرافات ، و ليس فيها من العمق العلمي الصحيح إلا القليل.

                        و أما ما ذكره مصطفى النشار فردنا السابق ينطبق على جانب كبير مما ذهب إلى قوله . لكن – مع ذلك – أقول : إن أرسطو لم يُقم فكره على إحكام منطقي أبدا ، و قد سبق أن أثبتنا أنه بناه أساسا على ظنونه و رغباته، و تحكماته و خرافاته ،أكثر مما بناه على العقل و العلم من جهة ،و إنما صاغه بطريقة ظاهرها طابع منطقي مُحكم ، و باطنها سًفسطائي تدليسي من جهة أخرى . كما أنه لم يُقمه على منطق صريح ،و لا على إبداع منهجي صحيح ، و إنما أقامه على انحراف في موقفه من منطق البحث و الاستدلال . و قد بينا بالأدلة الدامغة أن الرجل أخطأ في موقفه من الأقيسة ، و لم يفهمها فهما صحيحا ،و لا التزم بها عندما مارسها في الواقع، فأوقعه هذا في أخطاء و انحرافات كثيرة جدا . فأين الإحكام المنطقي و الإبداع المنهجي المزعومان ؟؟!! .

                        و قبل ختام هذا الفصل أشير هنا إلى أمرين هامين : الأول مفاده أن الباحث الأرسطي مصطفى النشار حاول إنكار كون العلم الحديث قد قام بثورة على أرسطو و فكره ، فعل ذلك بمبررات ضعيفة جدا، لا تصلح دفاعا عن فكر أرسطو[40] .

                        و أقول: إن قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و الرجل غالٍ مُتعصب بالباطل ، مُنكر للحقيقة في رابعة النهار . لأنه أولا إن كلا من العقل الصريح والعلم الصحيح كانا قد أظهرا بطلان معظم فكر أرسطو قبل العلم الحديث . و قد تجلى ذلك بوضوح في مجالين أساسيين : الأول إنه فِكر مُخالف للوحي الصحيح في معظمه بإلهياته و طبيعياته و إنسانياته ، و من يُخالف الوحي الإلهي فهو باطل بالضرورة . و هذا يعني أنه عندما أنزل الله تعالى القرآن الكريم على نبيه محمد-عليه الصلاة و السلام- قام بذلك الدليل الإلهي القاطع على بطلان معظم فِكر أرسطو .

                        و المجال الثاني تجلى في أعمال و مواقف علماء الإسلام الذين تصدوا للرد على الفلسفة اليونانية عامة و الأرسطية منها خاصة . فقد أقام هؤلاء الأدلة الدامغة على بطلان معظم تلك الفلسفة في إلهياتها و منطقها. و قد أشرنا إلى بعضهم فيما تقدم من هذا الفصل[41] .

                        و ثانيا إنه عندما جاء العلم الحديث واصل ما تم في العصر الإسلامي من نقد و هدم لفكر أرسطو . اثبت صحة ما قرره الوحي الصحيح ،و ما نص عليه و قرره علماء الإسلام الذين ردوا عليه . فأقام العلم الحديث الأدلة العلمية الصحيحة على بطلان إلهيات أرسطو ،و معظم طبيعياته و منطقياته و إنسانياته . و كتابنا هذا هو نموذج دامغ على صحة كلامنا هذا ، لأنه جمع –في رده على فكر أرسطو- بين الوحي الصحيح ، و العقل الصريح و العلم الحديث الصحيح .

                        و الحقيقة هي أنه لما كان فكر أرسطو ثورة على العقل الصريح، و العلم الصحيح، و أساء إليهما و تجاوزهما بظنونه و رغباته و خرافاته . فإنهما قد انتقما منه بحق و عدل ،و ثارا عليه في فترات متفرقات من التاريخ[42] . لكنهما أجهزا عليه في العصرين الحديث و المعاصر ، فردا عليه ردا حاسما قاطعا ،و حطماه تحطيما لا نهوض له بعده رغم أنف المُحرفين و المغالطين و المدلسين الذي-هم في الحقيقة- يُواصلون نهج شيخهم- في السفسطة و التعلق بالأوهام و الظنون ، و الدفاع بالتعصب و الباطل على فكر أرسطو من جهة ،و إغفال أخطائه و انحرافاته الكثيرة ،و نفخ و تجعيد صوابه القليل من جهة أخرى . و هذا عمل إجرامي ليس من العقل، و لا من العلم ، و لا من الحيدة العلمية في شيء.

                        و الأمر الثاني مفاده أنه قد يعترض بعض الناس على مؤلف هذا الكتاب بقوله : إن مؤلف هذا الكتاب قد غالى في انتقاده لأرسطو كما غالى أتباعه و محبوه في تعظيمه من جهة . و أنه قد جرّد أرسطو من معظم أو كل إيجابياته و أعماله العلمية المعروفة بين أهل العلم من جهة أخرى.
                        و أقول: هذا اعتراض وجيه ، و قد يخطر على كل من قرأ هذا الكتاب . لكنه لا يصح ، لأنه أولا إن كتابي هذا مُخصص للجانب السلبي من فكر أرسطو ، فمن الطبيعي جدا ،و من المطلوب أيضا أن نتوسع فيه ،و نترك ناحيته الإيجابية جانبا ، مع عدم نسيانها طبعا . و أنا لم أنكر جانبه الإيجابي القليل ، و قد أشرتُ إليه مرارا ، لكن لم أجعله أصلا لفكر الرجل ،و قد أقمتُ الأدلة الدامغة على صحة موقفي هذا ، بأن معظم أصول فكر أرسطو و أساسيات فروعه غير صحيحة . و فكر هذا حاله لا يُمكن أن تكون الإيجابيات هي أساسه .
                        و ثانيا يجب قبل الاعتراض على أي ناقد إذا خالف المألوف المُشتهر بين الناس ، أن يُنظر أولا إلى أدلته و لا يُنظر إلى الأمور التي أثبتها أو نفاها هل هي مُخالفة للمعروف بين أهل العلم أم موافقة له ؟ . فالحَكَم في مثل هذا المواقف هو الدليل الصحيح فقط ، و لا دخل هنا للعلماء كأشخاص ، و لا للعدد من جهة الكثرة و القلة . فالحق لا يُعرف بذلك ،و إنما يُعرف أولا بالدليل. و من أنكر على غيره أمرا عليه أن يحتج عليه بالبرهان ، لا بفلان و فلان.
                        و ثالثا هل التعصب لهذا الرجل ، و الدفاع عنه هما أمران ضروريان ؟؟!! . لاشك أن ذلك مطلوب بالحق و في الحق ،و ليس مطلوبا في الباطل . و بما أن الأمر هكذا ، فإذا قامت الأدلة الصحيحة على صحة ما وصلتُ إليه و قررتُه ، فيجب الاعتراف به ، و يُوصف أرسطو بما يستحقه ،و هذا هو الحق و العدل ، بدليل الشرع و العقل و العلم .

                        و رابعا إن اتهامي بالغلو في انتقاد أرسطو ، فلا يصح من وجه ،و يصح من وجه آخر . فلا يصح لأني لم أكذب على أرسطو و لا حرفتُ كلامه حسب نيتي و علمي بنفسي . فكل انتقاد و جهته إليه إلا كُنت مدعما موقفي بأدلة و شواهد صحيحة ، كما هو مُبين في كتابي هذا . و لا يصح أن يُتهم من يفعل ذلك بأنه غالى في انتقاد من انتقده .

                        لكنه يصح بالنظر إلى أن الذين غالوا في تعظيم أرسطو و السكوت عن أخطائه ، مع تدليله و الاعتذار له ، هم قد فعلوا ذلك بالباطل و الافتراء و التدليس . و أما أنا فقد بالغتُ و غاليتُ في انتقاده بالحق و لم أكذب عليه ،و لا حرّفتُ كلامه . فشتان بين من غالى بالباطل ، و بين من فعل ذلك بالحق !! . فلا بد من رد الغلو الباطل بالغلو الحق ، لأن السكوت عما أرتكبه أرسطو من جرائم في حق العقل و العلم هو جريمة نكراء ، لا يصح السكوت عنه أبدا ، و الله أعلم بالصواب .

                        و ختاما لهذا الفصل يتبن أن الغلاة في أرسطو و فكره كانوا قديما ،و ما يزالون حديثا على نفس النهج تعصبا و غلوا ، تدليسا و سفسطة ، تضخيما و نفخا لإيجابيات أرسطو القليلة الهزيلة من جهة ؛ و إغفالا و تقزيما لسلبياته و أخطائه و انحرافاته الجسيمة و الكثيرة من جهة أخرى. فهم غلاة في التضخيم و المبالغات ،وغلاة في التقزيم و الإغفالات . و بذلك فهم يقومون بعمل تحريفي ليس من الموضوعية و لا من الأمانة العلمية في شيء . و يرتكبون جرائم شنعاء في حق العقل و العلم ، لأنهم انتصروا لشيخهم و فكره على حساب الانتصار للعقل الصريح و العلم الصحيح .

                        و اتضح أيضا أن الخصائص السلبية هي الأصل الذي قام عليها فِكر أرسطو : منهجاً و تطبيقا ،و ليست الخصائص الإيجابية هي الأصل الذي قام عليها فكره . فالجانب السلبي هو الأصل العريض في فلسفة أرسطو ،و الجانب الإيجابي هو الاستثناء الضيق الذي ميّز جانبا صغيرا من فلسفته . و هذا خلاف ما ادعاه الأرسطيون و أتباعهم من المتقدمين و المُتأخرين ، الذين استخدموا الغلو و التدليس ، و التضخيم و الإغفال لإقناعنا بخلاف ما أثبتناه و قررناه . فساهموا بذلك في إخفاء جانب أسود كبير من فكر أرسطو ، و استمرار تأثيره السلبي في إفساد العقل و العلم معا .

                        ____________________________________

                        [1] عبد الكريم اليافي : البيروني و ابن سينا ، ط1 ، دار الفكر ، سوريا ، 2002 ، ص: 37 .

                        [2] برتراند راسل : حكمة الغرب ، ج 1 ص: 120 ، 122 .

                        [3] ذكرنا على ذلك نماذج كثيرة فيما تقدم من كتابنا هذا .

                        [4] إرنست رينان : : ابن رشد و الرشدية ، ترجمه عادل زعيتر ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1957 ، ص: 137 ، 138 .

                        [5] مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ، ص: 17 ، 18 .

                        [6] ولتر ستيس : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 214 .

                        [7] برتراند راسل : حكمة الغرب ، ص: 123 .

                        [8] سبق إثبات ذلك و توثيقه ، و كتابنا هذا كله شاهد قطعي دامغ على قولنا .

                        [9] كلامنا هذا نوجهه إليه إذا كان لم يقل لههم ذلك ، و أما إذا كان قاله لهم فلا يُوجه إليه .

                        [10] أرسطو : منطق أرسطو ، ص: 902 .

                        [11] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 116 .

                        [12] ابن أبي أُصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، ج 1 ص: 402 ، 403 .

                        [13] نفس المصدر ، ج 1 ص: 400 .

                        [14] حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع ، مج 1 ج 1 ص: 118 .

                        [15] ابن أبي أُصيبعة : المصدر السابق ، ج 1 ص: 285 ، 286 .

                        [16] سبق تناول ذلك عندما تكلمنا عن أزلية الكون و حدوثه .

                        [17] أنظر مثلا كتابنا : نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد ، ص: 28 و ما بعدها ، 44 و ما بعدها .

                        [18] الجابري : ابن رشد ، ص: 160 و ما بعدها . و محمد عمارة : المثالية و المادية ، ص: 99 و ما بعدها . و بركات محمد مراد : تأملات في فلسفة ابن رشد ، ص: 24-31 .و مراد وهبة : ابن رشد و التنوير ، ص: 63 .

                        [19] حسن حنفي : من النقل إلى الإبداع ، مج 1 ج 1 ص: 10 .

                        [20] منهم : الغزالي ، و البيروني ، و ابن تيمية . و عن ذلك أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية . و كتاب : حوار البيروني و ابن سينا ، لعبد الكريم اليافي .

                        [21] ولتر ستيس : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 213 .

                        [22] حسي علي: علم الأحياء عند أرسطو ، دار قباء ، القاهرة ، 2002 ، ص: 47 .

                        [23] ول ديورانت : قصة الفلسفة ، 75 ، 96 .

                        [24] أنظر ما كتبه عبد الرحمن بدوي عن ذلك في تقديمه لكتاب : منطق أرسطو ، ص: 11 .

                        [25] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص: 12 .

                        [26] سنوثق ذلك في هذا المبحث عندما نتكلم عن موسوعية أرسطو .

                        [27] الذهبي : تذكرة الحفاظ ج 4 ص : 1497 .و محمد بن عبد الهادي : طبقات علماء الحديث ج 4 ص : 488 .و ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج 1 ص : 151 . .و السيوطي : طبقات الحفاظ ص : 521 .

                        [28] محمد بن عبد الهادي : نفس المصدر ج 4 ص : 292 .

                        [29] محمد ابن عبد الهادي : العقود الدرية ص : 23 ، 24 ، 25 ، 28 .

                        [30] نفس المصدر ، ص : 65 .

                        [31] يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 49 .

                        [32] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 99 ، 100 .

                        [33] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية ، و الكتاب منشور ورقيا و إلكترونيا .

                        [34] ماهر عبد القادر : المنطق و مناهج البحث ، ص: 144 .

                        [35] أكتفينا بهذه النماذج من الإيجابيات المزعومة ، لأنها تكفي لإثبات ما قلناه . و إلا هناك إيجابيات أخرى مزعومة ، لذلك ضربنا عليه صفحا ، لأن الرد عليها واضح مُبين في كتابنا هذا ، و تسقط بمجرد الإطلاع عليه .

                        [36] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية .

                        [37] مصطفى النشار / المصادر الشرقية للفلسفة اليونانية ، ص: 202 .

                        [38] سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل المخصص للمنطق .

                        [39] سبق توثيق ذلك في الفصل الثالث المخصص للمنطق .

                        [40] مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ص: 130، 131 ، 147 و ما بعدها .

                        [41] للتوسع في ذلك أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية .

                        [42] كما حث على يد كبار علماء الإسلام الذي ردوا على أرسطو في الإلهيات و المنطق ، و عنهم أنظر كتابنا : مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية .
                        أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                        الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                        كتب وورد
                        هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                        للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                        تعليق

                        • باحث سلفى
                          =-=-=-=-=-=

                          حارس من حراس العقيدة
                          • 13 فبر, 2007
                          • 5183
                          • مسلم (نهج السلف)

                          #27
                          الخاتمة




                          تبيّن من هذا الكتاب أن جنايات أرسطو على العقل و العلم تمثلت في جانبين أساسيين : الأول يتعلق بكثرة الأخطاء و الانحرافات المتعلقة بالعلوم و مناهجها . و الثاني يتعلق بالآثار السلبية التي ترتبت عن الجانب الأول ، في مجال العقائد و التصورات و السلوكيات . و قد أوضحنا الجانبين بعشرات النماذج و الانتقادات ، توصلنا من خلالها إلى استنتاجات و فوائد ، و قناعات وحقائق كثيرة و خطيرة و هامة جدا.



                          فمن ذلك أنه تبين بما لا يدع مجالا للشك أن أرسطو كان كثير الأخطاء و الانحرافات المنهجية في كل العلوم التي خاض فيها . و قد أحصيتُ منها أكثر من 337 خطأً و انحرافا منهجيا ، ذكرتها من باب التمثيل لا الحصر ،و قد أغفلتُ أخطاء و انحرافات أخرى تزيد عما ذكرته . مما يعني بالضرورة أن الرجل لم يكن مُتمكنا و لا مُتقنا للعلوم التي كتب فيها ، منهجا و لا تطبيقا من جهة ، و أن كثرتها تُشير إلى أنها ليست أخطاء عادية ،و إنما هي أخطاء غير عادية سببها عميق يعود إلى الانحراف في منطق البحث و الاستدلال من جهة أخرى .

                          و تبين أيضا أن معظم أصول فكر أرسطو و أساسيات فروعه غير صحيحة ، و هذا يعني-بالضرورة- أن فلسفته غير صحيحة في معظمها من جهة . و أن الفلسفات التي جاءت من بعده و تبنت أفكاره هي أيضا غير صحيحة في معظمها من جهة أخرى . منها فلسفة المشائين من النصارى و المسلمين ،و فلسفة الرشديين و الأرسطيين المُحدثين.



                          و اتضح أيضا أن معظم إلهيات أرسطو غير صحيحة ، مخالفة للوحي الصحيح ،و العقل الصريح و العلم الصحيح . أقامها أساسا على ظنونه و رغباته ،و تحكماته و خرافاته ، أكثر مما أقامها على دليل الفطرة و العلم و البديهة . فأوصله ذلك إلى مواقف و نتائج باطلة دلت على أنه كان جاهلا بالله جهلا كبيراً من جهة . و أن إلهياته تقوم على عقيدة دهرية شركية صابئية عبثية من جهة أخرى .

                          و تبين أن أرسطو خاض في علوم الطبيعة مُهملا لمناهجها الطبيعية ، مُقدما عليها منهجه التأملي التجريدي الصوري في كثير من المواقف. فأوقعه ذلك في أخطاء و انحرافات فاحشة فادحة ، كثير منها لا يقبل الاعتذار و لا التبرير أبدا . كقوله بوجود عَظْم في قلب الحصان و البقر ، و أن الدماغ بارد لا دم فيه ،و أن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل ،و غيرها كثير جدا .



                          و منها أنه تبين أن أرسطو لم يكن مُفكرا إنسانيا حرا ،و لا مُصلحا اجتماعيا داعيا إلى العدل و المساواة في كثير من المواقف التي اتخذها من قضايا عصره الاجتماعية و الإنسانية . و إنما كان فيها مُفكرا طبقيا ذاتيا ، و نفعيا مُتعصبا ، و عنصريا مُشجعا على الظلم . فزعم أن الرق طبيعي حتمي ،و أن الجنس اليوناني أفضل الأجناس ،و أن من حقه أن يحتل الشعوب الأخرى.



                          و اتضح أيضا أنه ليس أرسطو هو الذي اكتشف المنطق عامة ،و لا الصوري خاصة ،و إنما هو واصل الاهتمام به شرحا و توسيعا و تدوينا من جهة . و أنه لم يكن مُتمكنا و لا مُتمهرا فيه تنظيرا و لا مُمارسة من جهة ثانية. و لا كان مُلتزماً بمنطق البحث و الاستدلال تطبيقا ، و لا موضوعية ، و لا أمانة من جهة ثالثة . فأوقعه ذلك في السطو و الاستحواذ على أفكار ليست له ، فتبناها و نسبها إلى نفسه بطرق شتى .



                          و تبين أن ما ينطبق على عمل أرسطو في المنطق ينطبق على عمله أيضا في العلوم الأخرى . فقد أقمنا الأدلة الدامغة على أن أرسطو لم يُتقن علما واحدا من العلوم إتقانا كبيرا مُبدعا ،و لا أنشأ و لا أسس واحدا منها –أ ي العلوم- . و إنما كانت له مشاركات في تأسيس طائفة منها ، مع اختلاف نسبة مساهمته فيها من علم إلى آخر .



                          و أخيرا فقد اتضح جليا أن أرسطو ارتكب جرائم كبيرة و كثيرة ، و خطيرة في حق نفسه و أتباعه ،و في حق الإنسانية جمعاء ، و في حق العقل و العلم . فأفسد بها العقول و منطقها ،و العلوم و مناهجها ، و العقائد و سلوكياتها . و الذين يدافعون عنه باستخدام الانتقاء و التغليط و التدليس ،و نفخ و تجعيد صوابه القليل ،و إغفال أخطائه و انحرافاته المنهجية الكثيرة جدا ، فهم غلاة مُتعصبون بالباطل مُشاركون لشيخهم في جرائمه التي ارتكبها حق العقل و العلم معا .



                          تَمّ الكتاب ، و لله الحمد أولا و أخيرا .




                          أ ، د : خالد كبير علال




                          1432/2011 ، الجزائر
                          أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                          الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                          كتب وورد
                          هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                          للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                          تعليق

                          • باحث سلفى
                            =-=-=-=-=-=

                            حارس من حراس العقيدة
                            • 13 فبر, 2007
                            • 5183
                            • مسلم (نهج السلف)

                            #28
                            من مصادر الكتاب و مراجعه :

                            1-القرآن الكريم .
                            2- ابن أبي أُصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، حققه نزار رضا ، دار مكتبة الحياة ،بيروت ، د ت .
                            3-ابن تيمية : الرد على المنطقيين ، دار المعرفة ، بيروت .
                            4- ابن قيم الجوزية : إغاثة اللهفان ، دار المعرفة ، بيروت ، 1975 .
                            -5ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ط1 ، دار إدريس ، سوريا ، 2007 .
                            6- ابن رشد : تلخيص السياسة لأفلاطون ،ترجمة حسن مجيد العبيدي و فاطمة كاظم الذهبي، ط1 ، دار الطليعة ، بيروت ، 1998.
                            7- ابن رشد : رسائل ابن رشد الطبية ، حققه سعيد زايد ، و جورج قنواتي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1987 .
                            8- ابن رشد : شرح السماء و العالم ، حققه أسعد جمعة ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، 2002 .
                            - 9ابن رشد : الآثار العلوية ، حققه سهير فضل الله ، و سعاد عبد الرازق ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 1994 .
                            10- ابن رشد : تلخيص الآثار العلوية ، حققه جمال الدين العلوي ، ط1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، 1994 .
                            11- ابن رشد : كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة ، حققه عثمان أمين ، شركة البابي الحلبي ، القاهرة ، 1958 .
                            12- أحمد فؤاد كامل: ما بعد الطبيعة عند ابن رشد ، ضمن كتاب أعمال ندوة ابن رشد .
                            13- ابن رشد : شرح السماء و العالم ، حققه أسعد جمعة ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، 2002 .
                            14- ابن رشد : تهافت التهافت ، تهافت التهافت ، حققه صلاح الدين الهواري ، بيروت ، المكتبة العصرية ، 2006 .
                            -15 ابن حجر : الدرر الكامنة ، ،بيروت دار الجيل ، 1993 .
                            16- أحمد علي عجيبة : دراسات في الأديان الوثنية القديمة ، ط 1 ، دار الأفاق العربية ، القاهرة ، 2004 .
                            -17أرسطو : كتاب الطبيعة ، حققه عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة ، القاهرة ، 1965 .
                            18 - أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحقة بكتاب
                            19- أرسطو : مقالة الجما من كتاب ما بعد الطبيعة ،، ملحقة بكتاب الميتافيزيقا لإمام عبد الفتاح إمام ، نهضة مصر ، القاهرة ، 2005 .
                            20-أرسطو : الكون و الفساد ، ترجمة أحمد لطفي السيد ، الدار القومية ، القاهرة ، د ت ، ص: 215 .
                            21- أرسطو : كتاب النفس ، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، ط 1 ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1949
                            22- أرسطو : في أعضاء الحيوان ،- من كتاب الحيوان – حققه كروك رمكة ، مجمع العلوم الملكية الهولندي، 1978 .
                            23- أرسطو : طبائع الحيوان البري و البحري، المقالة : 14 ، حققه عزة سليم سالم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985 .
                            24- أرسطو : في كون الحيوان ، المقالات : 15 – 19 ، ترجمة يحيى بن البطريق ، حققه يان بروخمان ، و ويوان دروسات لولوقس ، مؤسسة دي خُوي ، رقم : 23 ، بريل ، بمدينة ليدن ، 1971 3 .
                            25- أرسطو : طباع الحيوان ، حققه عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1977 .
                            26- أرسطو : السياسة ، ترجمة لطفي السيد ، منشورات الفاخرية ، د ت .
                            27- أرسطو : نظام الأثينيين ، ترجمة طه حسين ، دار المعارف ، مصر ، د ت .
                            27- أرسطو : منطق أرسطو ، حققه عبد الرحمن بدوي ،ط 1 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم ن بيروت ، 1980 .
                            28- إرنست رينان : ابن رشد و الرشدية ، ترجمه عادل زعيتر ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1957 .
                            29- إمام عبد الفتاح إمام : أرسطو و المرأة ، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة ، 1996 .
                            30- أميرة مطر: الفلسفة اليونانية : تاريخها و مشكلاتها ، القاهرة ، دار قباء ، 1998.
                            31- إميل برهيبة : تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة جورج طرابيشي ، ط 2 ، دار الطليعة ، بيروت، 1987 .
                            33- آن تري هوايت : النجوم ، ترجمة إسماعيل حقي ، ط7 ، دار المعارف ، مصر ، 1992 .
                            34- برتراند راسل : حكمة الغرب ، سلسلة المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون ، الكويت ، رقم : 62 .
                            35- بركات محمد مراد : تأملات في فلسفة ابن رشد ، ط 1 ، المصدر لخدمات الطباعة ، القاهرة ، 1988 .
                            36- بريو سينكين : أسرار الفيزياء الفلكية و الميثولوجيا القديمة ، ترجمة حسان ميخائل إسحاق ، ط 1 ، دار علاء الدين ، دمشق ، 2006 .
                            37- بول غليونجي : الطب عند الإغريق ، ط 1 ، دار المستقبل ، الإسكندرية ، 1995.
                            38- جمال الدين أفندي : طبيعيات البحر و ظواهره ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1960 .
                            39- جفري بارندر : المعتقدات الدينية لدى الشعوب ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، عالم المعرفة ، رقم : 173 ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون ، الكويت.
                            40- جورج طرابيشي : وحدة العقل العربي الإسلامي ، ط2 ، دار الساقي ، بيروت ، 2002 .
                            41- حسن حنفي:من النقل إلى الإيداع ،دار قباء ،القاهرة 2000 .
                            42- حسن أبو العينين : جغرافية البحار و المحيطات ، ط6 ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، مصر ، 1982 .
                            43-حسن سيد أبو العينين : أصول الجغرافيا المناخية ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الإسكندرية .
                            44- حسين علي: علم الأحياء عند أرسطو ، دار قباء ، القاهرة ، 2002 .
                            45- حسين حرب : الفكر اليوناني قبل أفلاطون ، ط 1 ، دار الفكر اللبناني، بيروت ، 1990 .
                            46-خزعل الماجدي : متون سومر ، ط1 ، الدار الأهلية ، الأردن ، 1998 .
                            47- خزعل الماجدي : الدين المصري ، د 1 ، دار الشروق ، الأردن ، 1999 .
                            -48خزعل الماجدي: بخور الآلهة ، ط1 ، الأهلية للنشر ، الأردن ، 1998 .
                            49- ديوجين لا يرتيوس: مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ترجمة عبد الله حسين ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006 .
                            -50دافيد برجاميني : الكون ، دار الترجمة ، بيروت .
                            51- دحام إسماعيل العاني : موجز تاريخ العلم ، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم التقنية ، الرياض ، 2002
                            52- ديف روبنسون ، و جودي غروفر : أقدم لك الفلسفة ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2001.
                            53- الذهبي : تذكرة الحفاظ ، حققه عبد الرحمن المعلمي ، بيروت دار إحياء التراث العربي ، د ت .
                            54- روبير بلانشي : المنطق و تاريخه ، ترجمة خليل أحمد خليل ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر .
                            55- روبرت أغروس و جورج ستانسيو : العلم في منظوره الجديد ، المجلس الوطني للثقافة ، الكويت .
                            56- شوقي أبو خليل : الإنسان بين العلم و الدين ، دار الفكر ، دمشق.
                            57-عاطف العراقي : الفيلسوف ابن رشد و مستقبل الثقافة العربية ، القاهرة ، دار الرشاد ، 1999 .
                            -58عبد الرحمن بدوي: أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 .
                            59- عبد الرحمن بدوي : ربيع الفكر اليوناني ، ط8 ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1979 .
                            60- عبد الرحمن بيصار : الفلسفة اليونانية ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1973. [1]
                            61- عبد الرحمن بيصار : تأملات في الفلسفة الحديثة و المعاصرة ، المكتبة العصرية ، بيروت .
                            62 -عبد الكريم اليافي : حوار البيروني و ابن سينا ، ط1 ، دار الفكر، سوريا ، 2002.
                            63- عبد الفتاح محمود ويدار: علم النفس التجريبي المعملي ، المكتب العلمي ، الإسكندرية ، 1997
                            64-عبد العزيز الأهواني : المدارس الفلسفية ، الدار المصرية للتأليف و الترجمة ، القاهرة ، 1965 .
                            65- عبد الحميد سماحة : في أعماق الفضاء ، ط 3 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1980.
                            66- علي حسن موسى و آخرون : تاريخ علم الفلك ، ط1 ، دار دمشق ، دمشق ، 1984 .
                            67- علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، دار المعرفة الجامعية ، الأسكندرية ، د ت .
                            68- علي بن هادية : القاموس الجديد للطلاب ، ط 7 ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر ، 1991 .
                            69- فرج أنطون : ابن رشد و فلسفته ، ط2 ، المؤسسة الوطنية للاتصال ، الجزائر ، 2001 .
                            70- س ، بريو شنكين : أسرار الفيزياء الفلكية و الميثولوجيات القديمة ، ترجمة حسان ميخائيل إسحاق ، ط 1 ، دار علاء الدين ، دمشق ،2006 .
                            71- سبتينو موسكاني : الحضارات السامية القديمة ، ترجمة السيد يعقوب بكر ، دار الرقي ، بيروت ، 1986 .
                            72- سمير أديب : موسوعة الحضارة المصرية القديمة ، دار العربي ، القاهرة .
                            73- سيرج سونيرون : كُهان مصر القديمة ، ترجمة زينب الكردي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1975 .
                            74- السيد النشار : تاريخ الكتب و المكتبات في مصر القديمة ، دار الثقافة العلمية ، مصر ، 1999 .
                            75- السيوطي : طبقات الحفاظ ، ،ط 2 بيروت ، دار الكتب العلمية ،1988 .
                            76- ل ، ديلا بورت : بلاد ما بين النهرين : الحضارتان البابلية و الأشورية ، ط 2 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1997 .
                            77- ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية : من طاليس إلى أفلاطون و برُقلس- ط1 ، دار العلم للملايين ، 1991 .
                            78- ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1958 .
                            79- ماهر عبد القادر محمد علي: المنطق و مناهج البحث ، دار النهضة العربية ، 1985
                            80- محمد ثابت الفندي: أصول المنطق الرياضي ، ط1 ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1972 .
                            81-محمد رشاد الطوبي: (( فمنهم من يمشي على بطنه )) ، دار المعارف، مصر ، د ت .
                            82- محمد فتحي عبد الله : الجدل بين أرسطو و كانط ، ط1 ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ، 1995 .
                            83- محمد وادفل : : خُصوصيات الجدل الرواقي ، مجلة دراسات ، 2010 .
                            84- محمد المصباحي : الوجه الآخر لحداثة ابن رشد ،ط1، دار الطليعة ، بيروت، 1998 .
                            85- محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي ، ط8 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، د ت .
                            86- محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي ، ط 7 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2004 .
                            87- محمد عابد الجابري : التراث و الحداثة - دراسات و مناقشات – ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1999 .
                            88- محمد عابد الجابري : ابن رشد ، سيرة و فكر ، ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2001 .
                            89- محمد أبو المحاسن عصفور : معالم حضارة الشرق ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1987 .
                            90- محمد بن عبد الهادي : طبقات علماء الحديث ، حققه أكرم البوشي ،و إبراهيم الزيبق ،ط1 ،بيروت مؤسسة الرسالة ،1996 .
                            91- محمد ابن عبد الهادي : العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام بن تيمية، حققه محمد حامد الفقي ، القاهرة مطبعة حجازي ، 1365ه/1938 .
                            92- محمد عمارة : المثالية و المادية في فلسفة ابن رشد ، ط2، دار المعارف ، القاهرة ، 1983 .
                            93- محمد علي محمد : الأصول الشرقية للعلم اليوناني ، ط 1، عين للدراسات و البحوث ، القاهرة ، 1998 .
                            94- محمود علي محمد : الأصول الشرقية للعلم اليوناني ، ط1 ، عين للدراسات و البحوث ، القاهرة ، 1998 .
                            95- محفوظ علي عزام : في الفلسفة الطبيعية عند الجاحظ ، ط 1 ، دار الهداية ، مصر ، 1995 .
                            96- مراد وهبة : ابن رشد و التنوير ، ط1 ، دار الثقافة الجديدة ، القاهرة ، 1998 .
                            97- مصطفى النشار : نظرية العلم الأرسطية ، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1995.
                            98- مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ، دار قباء، القاهرة، 200 .
                            مصطفى النشار : المصادر الشرقية للفلسفة اليونانية، ط1 ، دار قباء، القاهرة، 1997.
                            99- مصطفى النشار: نظرية المعرفة عند أرسطو ، ط 3 ، دار المعارف ، 1995 .
                            100- مصطفى غالب : فيثاغورس ، دار مكتبة الهلال ، بيروت ، 1987 .
                            101- منصور حسب النبي: الإشارات القرآنية للسرعة العظمى و النسبية ، دار المعارف ، القاهرة، 2002 .
                            102- منصور حسب النبي : الزمان بين العلم و القرآن ، دار المعارف ، القاهرة ، 2002 .
                            103- مها أحمد السيد : محاورات أرسطو و أصولها ، ط1 ، دار الوفاء ، الأسكندرية ، 2008 .
                            104- الموسوعة العربية العالمية ، النسخة الإلكترونية ،(1425هـ، 2004م .
                            105- الموسوعة العربية الميسرة ، دار إحياء التراث العربي .
                            106- نبيلة محمد عبد الحليم : معالم العصر التاريخي في العراق القديم ، دار المعرف ، القاهرة ، 1983 .
                            107- نعيم فرج : موجز تاريخ الشرق الأدنى القديم ، دار الفكر ، دمشق .
                            108- هيرودوت : تاريخ هيرودوت ، ترجمة عبد الإله الملاح ، المجمع الثقافي ، أبو ضبي ، 2001 .
                            109- وولتر ستيس : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد ، دار الثقافة ، القاهرة ، 1984 .
                            110- ول ديورانت : قصة الفلسفة ، ط 6 ، مكتبة المعارف ، بيروت ، 1988 .
                            111- ول ديورانت : قصة الحضارة ، د ن ، د ت .
                            112- يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر ، القاهرة ، 1936 .
                            113- يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الحديثة ، دار القلم ، بيروت.
                            أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                            الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                            كتب وورد
                            هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                            للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                            تعليق

                            • باحث سلفى
                              =-=-=-=-=-=

                              حارس من حراس العقيدة
                              • 13 فبر, 2007
                              • 5183
                              • مسلم (نهج السلف)

                              #29

                              انتهى عرض البحث كاملًا ، بفضل الله عز وجل .
                              أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
                              الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
                              كتب وورد
                              هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
                              للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

                              تعليق

                              • سدرة
                                10- عضو متميز
                                عضو مجموعة الأخوات

                                حارس من حراس العقيدة
                                • 28 ينا, 2013
                                • 1791
                                • مسلمه

                                #30
                                رد: جنايات أرسطو في حق العقل و العلم !!!

                                جزاكم الله خيرا
                                لا اله إلا الله ، محمد رسول الله

                                حكمة هذا اليوم والذي بعده :
                                قل خيرًا او اصمت



                                تعليق

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة وداد رجائي, منذ أسبوع واحد
                                ردود 0
                                8 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة وداد رجائي
                                بواسطة وداد رجائي
                                ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 18 ينا, 2021, 05:31 ص
                                ردود 2
                                159 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                                بواسطة *اسلامي عزي*
                                ابتدأ بواسطة د. نيو, 27 نوف, 2020, 06:25 م
                                ردود 4
                                95 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة د. نيو
                                بواسطة د. نيو
                                ابتدأ بواسطة أحمد محمد أحمد السبر, 23 يول, 2020, 06:53 م
                                ردود 0
                                60 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة أحمد محمد أحمد السبر
                                ابتدأ بواسطة عاشق طيبة, 20 ديس, 2019, 11:46 م
                                ردود 3
                                82 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عاشق طيبة
                                بواسطة عاشق طيبة
                                يعمل...