الليبراليون وقصة الحمارين
د.علي رحومة المحمودي | 17-06-2011
يُذكر أن فلاحا كان يمتلك حمارين، قرر في يوم من الأيام أن يُحمّل على أحدهما ملحا والآخر صحونا وقدورا، انطلق هذان الحماران بحمولتهما، وفي منتصف الطريق شعر صاحب الملح بأنه مظلوم حيث أن كمية الملح كانت أكثر وأثقل من القدور الفارغة، واغتبط صاحب القدور بحمولته حيث كانت أقل وأخف، على كل حال قرر صاحب الملح من شدة الإعياء أن ينغمس في بركة من الماء كانت بجوار الطريق كي يستعيد قواه التي خارت من وطأة الملح، فلما خرج من البركة شعر كأنه بُعث حيّا من جديد، فقد ذاب الملح المُحمل على ظهره في البركة وخرج نشيطا كأن لم يمسه ملح من قبل، فلما رأى صاحب القدور ما نزل على صاحبه من النشاط قفز بـقدوره في البركة لينال ما نال صاحبه، فامتلأت القدور ماءً، فلما أراد أن يخرج من البركة كاد ظهره أن ينقسم قسمين من وطأة القدور المُحمّلة بالماء.
هذه القصة كانت مقررة على الطلاب في المرحلة الإبتدائية في بعض الدول العربية، والعبرة من هذه القصة كما هو ظاهر أن يتعلم الطالب في مرحلة متقدمة من عمره بأن لا يقلد غيره، بل عليه أن يُعمل عقله وفكره قبل أن يُقدم على اتخاذ قرار مهما كان هذا القرار تافها ولو كان القفز في بركة ماء، وإن لم يُعمل عقله وفكره واكتفى بتقليد غيره فسيصيبه ما أصاب صاحب القدور (نقطة وأول السطر).
عاشت أوروبا فترة من الزمن في ظلام دامس من الجهل والتخلف والتحجر الفكري ونحو ذلك، في نفس هذه الفترة عاش العالم الإسلامي فترة من التقدم والنور والحضارة والمدنية وازدهار العلم والمعرفة "بينما كانت سائر بلدان أوروبا تتمرغ في القذر والحطة نعمت إسبانيا بمدن نظيفة منظمة ذات شوارع معبدة ومضاءة. وكان في ميسور قرطبة وحدها أن تعتز بنصف مليون من السكان، وسبعمائة مسجد، وثلاثمائة حمام عمومي، وسبعين مكتبة عامة، وعدد كبير من دكاكين الورّاقين (المكتبات التجارية)" (1).
وها هنا نقطة جوهرية وهامة جدا، إن سبب تخلف أوروبا في تلك الفترة هو "الدين النصراني المُحرّف" ووطأة الكنيسة وقيودها على الناس، وسبب إزدهار العالم الإسلامي وتقدمه هو الدين الحنيف الذي جاء به سيد الأولين والأخرين عليه الصلاة والسلام، يقول موريس بوكاي (2) "إن الإسلام قد اعتبر دائمًا أن الدين والعلم توأمان متلازمان. فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءًا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. وأن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية، تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوروبا".
أرجو أن نكون إلى هنا متفقين على هذه الحقائق، في هذه الفترة شعرت أوروبا أنها بحاجة إلى مثل هذا الإزدهار والتقدم الذي يعيشه العالم الإسلامي، فبدأ الطلاب الأوروبيون يتوافدون على منارات العلم في العالم الإسلامي كقرطبة وبغداد وغيرهما، ومن هناك تعلموا فنون العلم كالرياضيات والفلك والطب، ومن هناك تعلموا البحث العلمي التجريبي، ومن هناك تعلموا إعمال العقل والفكر والمنطق واجراء التجارب واستنباط النتائج " ليس هناك من شك في أن روح البحث العلمي الجديد وطريقة الملاحظة والتجربة اللذين أخذت بهما أوروبا إنما جاءا من اتصال الطلاب الغربيين بالعالم الإسلامي" (3).
بعد أن تعلم الأوروبيون هذه العلوم رجعوا إلى أوروبا لينهضوا بها من الطين الذي تتمرغ فيه كما نهض العالم الإسلامي بفضل دينهم القويم، ولكن هؤلاء واجهتهم عقبة كأداء وصخرة صماء، تلكم هي "الكنيسة المتمسكة بتعاليم الإنجيل المُحرّفة"، فتسلطت الكنيسة على هؤلاء تقتيلا وتشريدا، وحكمت عليهم بالهرطقة والكفر، وأقامت لهم المحاكم شنقا وسجنا وسحلا في الطرقات وغير ذلكمن ألوان العذاب والتنكيل، ولكن قاوم هؤلاء أشد المقاومة وأشتدت المعركة بين العلم والفكر والمنطق والتجربة وبين الدين المُحرف المتمثل في الكنيسة وأغلالها. وبعد معركة طويلة ودامية دفع فيها كثير من العلماء والمفكرين أرواحهم انتصر العلم والفكر والمعرفة على "الدين النصراني المُحرّف"، وبعد هذه الهزيمة الساحقة التي مُني بها رجال الدين انحسرت "النصرانية المُحرّفة" في الكنيسة فقط بعد أن كانت مسيطرة على كل شيئ في حياة النصارى، وبعد هذا الإنتصار قرر العلماء والمفكرون وأهل العقل في أوروبا فصل الدين عن العلم، بناء على ذلك صار الذي يتكلم عن الدين في الأوساط العلمية كالجامعات وغيرها يُنظر إليه بعين الإحتقار والإزدراء واللعن أحيانا!. يقول موريس بوكاي في نفس الكتاب "ولقد كان لا بد بعد عصر النهضة من أن تكون ردة الفعل الطبيعية للعلماء وهي الثأر لانفسهم من خصوم الأمس. وتتابع ذلك حتى أيامنا هذه حتى أصبح من يتكلم الآن عن الله في الغرب في وسط علمي عازلا نفسه حقيقة. ولقد كان لهذا الموقف انعكاسات على جميع الأفكار الشابة التي تتلقى تعاليمنا الجامعية بما فيهم المسلمون".
وأرجو أن نكون إلى هنا متفقين أيضا،
أصاب العالم الإسلامي بعد ذلك نكبات عظيمة، وابتعد المسلمون عن دينهم الذي كان مصدر قوتهم العلمية والمعرفية والسياسية والعسكرية وغير ذلك، فتسلط عليهم المستعمر الأوروبي وغيره، ثم لما خرج المستعمر من العالم الإسلامي زرع أتباعه في كل مفصل حيوي من مفاصل العالم الإسلامي وخاصة التعليم، فأحل هؤلاء الأتباع قومهم دار البوار، ونتج عن ذلك أن انتشر الجهل والظلام في طول العالم الإسلامي وعرضه، في تلك الفترة كانت أوروبا قد ازدهرت بالعلم والمعرفة المأخوذة من العالم الإسلامي والذي كما قلنا كان بسبب الدين الإسلامي الذي يدعوهم ويحثهم على العلم والمعرفة.
بدأت أوروبا ـ بدلا عن العالم الإسلامي وللأسف ـ محط أنظار طلاب العلم وقبلة الباحثين، من هؤلاء الباحثين أبناء المسلمين أنفسهم الذين كانوا أرباب هذا الفن وصانعي هذا المجد ألا وهو العلم والمعرفة، وجد المسلمون ـ الطلاب ـ في أوروبا البحث العلمي والجامعات والمجلات العلمية والتطور في كل مجال من مجالات الحياة، ووجدوا أيضا أن الدين لا مكان له في هذه المؤسسات العلمية بل كما قلنا من تكلم باسم الدين في المؤسسات العلمية الغربية يُنظر إليه بعين الإزدراء والإحتقار (وهنا أرجو أن تتذكر أخي الكريم صاحب "القدور") رجع بعض طلاب المسلمين إلى بلادهم وهم يحملون شهادات علمية في حقائبهم و "قدور" فوق ظهورهم، وذلك أن هؤلاء صاروا ينادون بجعل الدين الإسلامي الحنيف في المسجد فقط! كما جعلت أوروبا الدين المحرف في الكنيسة، بل يجب إقصاء الإسلام عن الحياة حتى نتقدم كما تقدمت أوروبا!، وقالوا أيضا العلم والمعرفة والبحث التجريبي والإستدلال المنطقي واستخلاص النتائج يتعارض تماما مع الدين الإسلامي!. ولم يُكلف هؤلاء أنفسهم لحظة واحدة من التفكير قبل أن يُقلدوا الغربيين في نبذهم لذلك "الدين المُحرف"، فإذا كان "الدين النصراني المحرف" وقف موقف العداء من العلم والمعرفة، فهل الإسلام دعا يوما إلى نبذ العلم والمعرفة؟!. ولكن هكذا هي أخي الكريم ثقافة صاحب "القدور".
يقول موريس بوكاي "إن الإسلام قد اعتبر دائمًا أن الدين والعلم توأمان متلازمان". بل كان الدين هو الباعث الحثيت لطلب العلم والنهوض بالأمة الإسلامية، بل كان الدين الحنيف هو سبب نهضة أوروبا الحديثة كما أسلفنا، ففي الوقت الذي كان فيه الدين مهيمنا على شؤون الحياة، من آداب الأكل والشرب إلى شؤون الدولة والقضاء كان عالمنا الإسلامي يزخر بالعلماء والمفكرين والأدباء ونحوهم. يقول موريس بوكاي في نفس الكتاب أيضا "... ولهذا كان الناس يذهبون إليها ـ قرطبة ـ من مختلف البلدان الأوروبية للدراسة كما يذهبون في أيامنا هذه لإتمام بعض الدراسات في الولايات المتحدة. وكم من مخطوطات قديمة وصلتنا بواسطة الأدباء العرب الذين حملوا الثقافة إلى البلدان المفتوحة. وكم من دَيْنٍ علينا نحو الثقافة العربية في الرياضيات (الجبر العربي) والفلك والطبيعة (البصريات) وعلم طبقات الأرض وعلم النبات والطب (ابن سينا) الخ. وللمرة الأولى أخذ العلم سمة العالمية في الجامعات الإسلامية. ولقد كان فكر الناس الديني في ذلك العصر أكثر عمقا منه في هذا الزمن ولم يمنعهم ذلك من أن يكونوا في نفس الوقت علماء ومؤمنين في وسط إسلامي، ولقد كان العلم توأم الدين، ولم يكن من الواجب أن يكون غير ذلك" انتهى.
فتأمل أخي الكريم، العلماء الغربيون يقولون بأن الدين ـ الإسلامي ـ والعلم توأمان متلازمان ، و "أصحابنا" يقولون "مختلفان"، ومن هنا تعلم أخي الكريم حجم المعاناة التي ابتُلي بها هؤلاء من شدة وطأة "القدور" التي يحملونها على ظهورهم. وهذا الصنف الإخير قد أخبرنا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن
فأوروبا حينما قفزت في مستنقع "فصل الدين عن الحياة" كانت تأنّ من وطأة الكنيسة وأغلالها ومن وطأة الدين المُحرف الذي وقف في وجه تطورها وازدهارها، فلم يكن لها بُدٌ من أن تقفز في هذا المستنقع الآسن، كما أن صاحب "الملح" لم يكن له بُدٌ من القفز في البركة ليُخفف عن نفسه وطأة الملح الذي أثقل كاهله، لكن ما الذي يدعو المسلم لأن يقفز في هذا المستنقع "فصل الدين عن الحياة" وهو بين يديه النور الرباني ـ الكتاب والسُنة ـ الذي أضاء العالم الإسلامي أولا ثم أضاء أوروبا ثانيا؟! إسأل أصحاب "القدور" أخي الكريم لعلك تجد عندهم جوابا، وياليتهم قفزوا في ذلك المستنقع لوحدهم وتركوا سائر الأمة الإسلامية تسترجع مجدها المفقود، بل يعملون بكل مثابرة وجدية لجرجرة الأمة بأسرها ودفعها في ذلك المستنقع الأسن، وهم يحملون "قدورهم" على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.
أخيرا، كل من زعم أن الفكر والعقل والتحليل المنطقي والإستنباط يُخالف أو يعارض الدين الإسلامي، وكذلك كل من قال أن التطور والبحث والمنهج العلمي يتعارض مع الدين الإسلامي، وكذلك كل من قال علينا بفصل "الدين عن الحياة" فاعلم علم اليقين أخي الكريم واقطع وأنت غير شاك بأن قائل هذا القول يحمل فوق ظهره "قدرا"، ومهما أقسمت له بالله وكررت له الإيمان المُغلظة على أنك تراه رأى العين فلن يُصدقك، بل سيتهمك بالظلامية والرجعية والجهل وعدو المعرفة وغير ذلك، ولكن حسبك أنك تراها وإن أنكرها صاحبها وهي فوق ظهره!. ؟!!".
كاتب ليبي
1. روم لاندو نحّات وناقد فني إنكليزي، زار زعماء الدين في الشرق الأدنى (1937)، وحاضر في عدد من جامعات الولايات المتحدة (1952-1957)، أستاذ الدراسات الإسلامية وشمالي أفريقيا في المجمع الأمريكي للدراسات الآسيوية في سان فرنسيسكو (1953). من آثاره (الله ومغامراتي) (1935)، (بحث عن الله) (1938)، (سلم الرسل) (1939)، (دعوة إلى المغرب) ) (1950) سلطان المغرب) (1951)، (فرنسا والعرب) (19539، (الفن العربي) (1955). وغيرها.
2. الطبيب والعالم الفرنسي المعروف. كان كتابه (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم) من أكثر المؤلفات التي عالجت موضوعًا كهذا، أصالة واستيعابًا وعمقًا. ويبدو أن عمله في هذا الكتاب القيم منحه قناعات مطلقة بصدق كتاب الله، وبالتالي صدق الدين الذي جاء به. دعي أكثر من مرة لحضور ملتقى الفكر الإسلامي الذي ينعقد في الجزائر صيف كل عام، وهناك أتيح له أن يطلع أكثر على الإسلام فكرًا وحياة.
3. البروفسر كويلر يونغ Prof. T. Guyler Young أستاذ العلاقات الأجنبية بجامعة برنستون، ورئيس قسم اللغات والآداب الشرقية بها، كان مساعد أستاذ اللغات السامية بجامعة تورنتو. من أهم مؤلفاته: Near Eastern Culture and Society, 1951 .
منقول من جريدة المصريون
تعليق