الله
تأليف : عباس محمود العقاد
ــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية ، منذ اتخذ الإنسان ربا إلي أن عرف الله الأحد ، واهتدي إلي نزاهة التوحيد وقد بدأناه بأصل الاعتقاد في الأقوام البدائية ، ثم لخصنا عقائد الأقوام التي تقدمت في عصور الحضارة ،ثم عقائد المؤمنين بالكتب السماوية ، وشفعنا ذلك بمذاهب الفلاسفة الأسبقين ، ومذاهب الفلاسفة التابعين ، وختمناه بمذاهب الفلسفة العصرية ، وكلمة العلم الحديث في مسألة الإيمان .
وكانت عنايتنا فيه بالعقيدة الإلهية دون غيرها . فلم نقصد فيه إلي تفصيل شعائر الأديان ولا إلي تقسيم أصول العبادات ، لأن الموضوع علي حصره في نطاقه هذا أوسع من أن يستقصي كل الاستقصاء في كتاب .
وإن موضوعا كهذا الموضوع المحيط لعرضه للتشعب والتطويل كيفما تناوله الكتاب ومن أي جانب تحراه ، فلابد فيه من إيجاز ، ولابد فيه من اكتفاء .
غير أننا تحرينا الإيجاز وتحرينا معه أن يغنينا فيما قصدناه وذاك هو الإلمام بأطوار العقيدة الإلهية علي وجهتها إلي التوحيد ، وأن تكون هذا الأطوار مفهومة العلل والمقدمات .
وأن الله الذي هدي الأمم كافة علي هذا النهج البعيد ، لكفيل أن يهدينا عليه ، وأن يوفقنا لسداد النظر فيه . فلا هداية إلا به ، ولا معول إلا عليه . إنه سميع بصير مجيب .
عباس محمود العقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العقيدة الإلهية
أصل العقيدة
ترقي الإنسان في العقيدة كما ترقي في العلوم والصناعات .. فكانت عقائده الأولي مساوية لحياته الأولي ، وكذلك كانت علومه وصناعته . فليست أوائل العلم والصناعة بأرقي من أوائل الأديان والعبادات ، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخري .
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات ، لأن حقيقة الكون الكبرى اشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخري .
وقد جعل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان ، ولبثوا ألي زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام ، ولعلها لا تزال .
فالرجوع إلي أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولي لا يدل علي بطلان التدين ، وعلي أنها تبحث عن محال . وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى اكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد .
* * *
يري كثير من العلماء أن الأساطير هي أصل الدين بين الهمج . وهو رأي لا يرفض كله ولا يقبل كله . لأن العقائد الهمجية قد تلبست بالأساطير في جميع القبائل الفطرية ، فلا يسهل من أجل هذا أن نرفض القول بالعلاقة بين الأسطورة والعقيدة ، ولكن لا يسهل من جهة أخري أن نطابق بين العقيدة والأسطورة في كل شيء وفي كل خاصة ، لأن العقيدة قد تحتوي الأسطورة ولكن الأسطورة لا تحتويها ، إذ يشتمل عنصر العقيدة علي زيادة لا يشتمل عليها عنصر الأسطورة ، وهي زيادة الإلزام الأخلاقي والشعور الأدبي بالطاعة والولاء ، والأمل في المعونة والرحمة من جانب الرب المعبود .
وقد وجدت أساطير كثيرة لا تتجاوز الأوصاف الرمزية والمشابهة الفنية التي طبع عليها الخيال : فهي ترجع إلي ملكة التجسيم والتصوير ، ولا ترجع إلي ملكة الإيمان والاعتقاد .
ووجدت أساطير كثيرة سببها عجز اللغة الإنسانية في نشأتها الأولي ، كما ثبت للعلامة اللغوي ماكس موللر صاحب هذا التفسير لنشأة الأساطير ، فإن الذي يقول إن الأرض أم الثمرات كالذي يقول في العصر الحديث إن فرنسا أم الثورة ، ولكننا نعرف التلاقح الحي فلا نخلط بين الحقيقة والمجاز ، ولم يكن الأقدمون علي علم بذلك فلا يمضي الزمن علي التشبيه حتى تصبح الأمومة المجازية كأمومة الواقع بين الأحياء .
ويري تايلورTylor أن ملكة الاستحياء Animism هي أصل الاعتقاد بالأرباب .
فالطفل يضرب الكرسي إذا أوقعه كما يضرب الإنسان والحيوان تايلور يعتقد أن الإنسان الأول كان الطفل في تخيله للأشياء وتمثله لها في صور الأحياء .
ويسبق هيربرت سبنسر هذا التفسير بتفسير يوافقه في ظواهر الاستحياء ولا يوافقه في تعليل الاستحياء .
فالإنسان –الأول- علي رأي سبنسر-كان يؤمن بحياة الأرباب لأن عبادة الأسلاف هي أقدم العبادات ، وكان يري الأطياف في المنام فيحسب أنها باقية ترجي وتخشى ، وأنها تتقاضاه فروضا لها عليه كفرض الآباء علي أبناء وهم بقيد الحياه .
ولكن يرد علي القوم بعبادة الأسلاف أنها لم تستغرق عبادات الأقدمين في زمن من الأزمان ، وأن النائم يري أطياف الغربان كما يري أطياف الآباء ، ويري أطياف الأطفال الضعفاء بل يري أطياف السباع التي يخافها في يقظته فلا يعبدها لأنه يخافها وتردد عليه أطيافها ، بل يقتلها ويحول بينها وبين الطعام .
وقد شوهد منذ القدم أن طبيعة السحر غير طبيعة العبادة في أساسها ، لأن السحر منوط أبدا بالأمور الخبيثة والوسائل الدنسة والنفايات التي تعاف وتنبذ في الخفاء ، ولم تخل العبادة قط من توسل إلي الخير ورجاء في كرم المعبود ، وقلما تخلو من (تطهر) بنوع من أنواع الطهارة يناقض وسائل السحر الخبيث ، فكأنما فرق الناس بين العبادة والسحر عندما فرقوا بين الأرباب المرجوة والأرباب المرهوبة ، فاتخذوا العبادة لأرباب الخير والمحبة واتخذوا السحر لأرباب الشر والبغضاء .
* * *
والأكثرون من ناقدي الأديان يعللون العقيدة الدينية بضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعداءه فيه من القوي الطبيعية والأحياء ، فلا غني له عن سند يبتدعه ابتداعا ليستشعر الطمأنينة بالتعويل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه .
علي أن القول بضعف الإنسان تحصيل حاصل إن أريد به بطلان العقيدة الدينية وإثبات التعطيل . لأن الإنسان ضعيف علي كلي الفرضين فليس من شأن ضعفه أن يرجح أحد الفردين علي الآخر .
فإذا ثبت أن من خلق إله فعال قدير فهو ضعيف بالنسبة لخالقه ، وإذا لم يثبت ذلك فهو ضعيف بالنسبة إلي الكون ومظاهره وقواه . فماذا لو كان قويا مستغنيا عن قوي العالم ؟ أيكون ذلك أدعي إلي إثبات العقيدة الدينية والإيمان بالله ؟ .
إننا إذا حكمنا ببطلان العقيدة الدينية لضعف الإنسان فقد حكمنا ببطلانها علي كل حال ، ثبت وجود الله أو لم يثبت بالحس أو البرهان ..! لأنه لن يكون إلا ضعيفا بالنسبة إلي الخالق الذي يبدعه ويرعاه .
لكن الواقع أن الضعف لا يعلل العقيدة الدينية كل التعليل لأنها تصدر من غير الضعفاء بين الناس . وليس أوفر الناس نصيبا من الضعف الإنساني سواء أردنا ضعف الرأي أو ضعف العزيمة فقد كان الأنبياء والدعاة إلي الأديان أقوياء من ذوي البأس والخلق المتين والهمة العالية والرأي السديد . ومهما يكن من الصلة بين ضعف الإنسان واعتقاده فهو لا يزداد اعتقادا كلما ازداد ضعفا ولا يضعف علي حسب نصيبه من الاعتقاد ، ومازال ضعفاء النفوس ضعفاء العقيدة وذوو القوة في الخلق ذوي قوة في العقيدة كذلك .
فليس معدن الإيمان من معدن الضعف في الإنسان ، وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل ، ولا إمام الناس في الاعتقاد إمامهم في الوهن والهزال .
وإذا رجح الأمر بأن العقيدة (ظاهرة اجتماعية) يتلقاها الفرد من الجماعة فليس الضعف إذن بالعامل الملح في تكوين الاعتقاد . لأن الجماعة تحارب الجماعة بالسلاح المصنوع وقوة الجنان مع القوة العددية ، وتقيس النصر والهزيمة بهذا المقياس المعلوم ، فلا تلجأ إلي مقياس العقيدة المجهول إلا إذا آمنت به باعث التسلح والاستقواء .
ورأي فرويدFreud قريب من رأي هؤلاء الذين يردون العقيدة الدينية إلي شعور بالخوف في وسط العناصر الطبيعية وربما اختلط به مزيج من الغريزة الجنسية في بعض المتهوسين وذوي الأعصاب السقيمة . فإن حب الله –كما يفسره فرويد عند هؤلاء- هو بمثابة الحب الجنسي في حالة (التسامي) أو حالة الحماسة ، وتتشابه العوارض كلها مع هذا الفارق بين الحبين
ومن الواضح أن حالة (التسامي) هي آخر ما ارتقت إليه الديانات ، فلا يمكن أن يقال إنها هي ينبوع العقيدة الهمجية الأولي .
ولا يمكن كذلك أن يقال إن (العقيدة الدينية) حالة مرضية في الآحاد والجماعات . لأننا لا نتخيل حالة نفسية هي أصح من حالة البحث عن مكان الإنسان من هذا العالم الذي ينشأ فيه ، ولا يتجاهل حقيقته إلا وهو في (حالة مرضية) أو حالة من أحوال الجهالة تشبه الأمراض .
ولا بد أن نسأل : ما هو الكون في نظر الهمج الأولين ؟ لأن الهمجي إذا أدرك أن الكون (كل واحد) كان قد ارتفع بنظرته عن الجهالة البدائية وقضي دهرا طويلا وهو متدين علي مختلف الديانات فلا يقال إذن أنه بقي بغير أرباب حتي أدرك الكون العظيم ، وأدرك ضعفه وقلة حيلته بالقياس إليها .
* * *
وطائفة أخري من علماء الإنسان يقرنون بين (الطوطم) والدين ويظنون أن الطواطم هي طلائع الأديان بين الهمج الأولين .
وقد تحقق أن شعائر الطواطم منتشرة بين مئات القبائل الهمجية في أستراليا وأفريقية والأمريكتين وبعض أقطار القارة الآسيوية وجزائرها .
فلا تزال في هذه القارات قبائل كبيرة وصغيرة تتخذ لها علي الأكثر حيوانا تجعله طوطما وتزعمه أبا لها أو تزعم أن أباها الأعلي قد حل فيه ، وقد يكون الطواطم في بعض الحالات نباتا أو حجرا يقدسونه كتقديس الأنصاب .
وإذا اتخذت القبيلة طوطما لها حرمت قتله وأكله في أكثر الأحوال وحرمت الزواج بين الذكور والإناث الذين ينتمون إلي ذلك الطوطم ولو من بعيد . وقد يكون للقبيلة الكبري بطون متفرقة تتعدد طواطمها ويجوز الزواج بين المنتمين إليها ولكنهم يحرمونه في الطوطم الكبير .
ومن هذه الطوطمية يرجح المخالفون لهذه الفكرة أن الطوطمية لم تكن أصل العقيدة الدينية لأنها تنشأ بعد اتساع القبائل واعترافها بأنظمة الزواج وآداب المعاملات ، وليست هذه المرحلة أولي المراحل في تطور الاعتقاد .
ولا شك أن الناس قد عرفوا شيئا يسمي (الروح) يحل في جسد الحيوان أو يتلبس به قبل أن يعرفوا الطوطمية ، وعرفوا كذلك تقديس الأسلاف قبل أن يعرفوها وقد وجدت قبائل لا تخلع علي الطواطن صفة الأرباب علي الإطلاق.
والفيلسوف الفرنسي – هنري برجسون-يرجع بالعقيدة الدينية إلي مصدرين : أحدهما اجتماعي لفائدة المجتمع أو فائدة النوع كله والآخر فردي يمتاز به آحاد من ذوي البصيرة والعبقرية الموهوبة.
فالحاسة الدينية الأجتماعية هي (حيلة نوعية) يلجأ إليها خيال النوع الإنساني لكبح الأثرة الفردية وأقناع الإنسان بنسيان مصالحه في سبيل المصالح الأخري التي تتعلق بها حياة النوع في جميع الأجيال ، فإن الإنسان لو استوحي عقله وحده خدم نفسه وأطاع لذته ولم يحمل الألم ولا الحضارة من أجل أبنا نوعه . ولما كانت ارادة الحياة مستكنة في النوع كما هي مستكنة في آحاده علي انفراد نشأت من الغريزة النوعية ملكة يسميها برجسون بملكة الخرافة الرمزية أو ملكة اساطير وتكفلت الإنسان بخلق العوض الذي يستعيض به عن منافعه ولذاته حين يهجرها لمنفعة نوعه . فاعتقد الجزاء بعد الحياة وأحس أنه محاسب علي الأضرار بغيره مثاب علي الخير الذي يسديه إلي أبناء نوعه ، واقترنت فيه أثرة الفرد بأثرة النوع ، فاستقامت علي التوازن بينهما مصلحته ومصلحة الناس أجمعين .
أما الحاسة الدينية في الفرد الممتاز فهي الإلهام أو الكشف الذي يصل بينه وبين قوة الخلق أو دفعة الحياة Elal Vital كما يسميها برجسون ، وقد تطورت دفعة الحياة هذه في ذهن الفيلسوف حتي أصبحت في كتبه الأخيرة ذاتا إلهية تغير ولا تتغير ولكنها كونية غير منفصلة عن هذه الموجودات وهي تجلي علي أكملها وأوضحها في بديهة النخبة المختارين من كبار العباقرة الروحانيين ، وهم خالدين كما يرجح الفيلسوف أو أن خلودهم مسألة لا يمنعها العقل ولا يبعد أن تحققها الدراسات النفسية بالأساليب النفسية , ولو بعد حين .
ويسأل السائل هنا : إذا كانت للخلق قوة كونية تتجلى لبعض الملهمين فلماذا تكون الحاسة الدينية الإجتماعية وهما مختلقا أو خرافة مزخرفة أو اختراعا لا أساس له غير الحيلة النوعية لحفظ البقاء ؟ لماذا لا تكون من قبيل التلمس البديهى لتلك القوة الكونية ؟ لماذا لا تكون من قبيل الهداية المتدرجة فى طريق البحث الصادق عن الحقيقة المجهولة ؟ لماذا يكون فى هذا الوجود ذات إلهية ثم نسمى البحث عنها حيلة مختلقة أو وهما من الأوهام .
* * *
وممن يسمع له رأى راجح فى مباحث العقيدة إمام علماء اللغات المحدثين (ماكس موللر) صاحب الرأى المعدود فى اشتقاق اللغات ومعانى الأساطير وعلاقتها بالعقائد والعبادات , فهو يؤمن بأن البصيرة سمة عريقة فى الإنسان وأننا كما قال ـ فى كلامه على مقارنة الأساطير ـ ( مهما ترجع بخطوات الإنسان إلى الوراء لن يفوتنا أن نتبين أن منحة العقل السليم المستفيق كانت من خصائصه منذ أوائل عهده وأن القول بإنسانية متسلسلة على التاريخ من أعماق البهيمة إنما هو قول لن يقوم عليه دليل ).
ومصداقا لهذا الرأى يرجح موللر أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذى ليس له انتهاء , وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراهفى الكون وهو الشمس التى تملأ الفضاء بالضياء , فهو محور الأساطير والعقائد كما ثبت له من المقايلة بين اللغات واللهجات.
وإذا قيل لموللر أن الأبد أو اللانهاية معنى لا توجد له كلمة فى اللغات الهمجية ولا الحضارة الأولى قال إن الإحساس بالمعانى يسبق اختراع الكلمات , وقد ثبت أن الإنسان الأول لم يضع فى لغاته كلمات لبعض الألوان .
وإلى هنا نحسب أننا ألممنا بأهم الفروض التى خطرت على الأذهان فى تعليل العقيدة الدينية,أو تعليل نشأتها الأولى ..
وجملة ما يقال فيها أننا لا نجد فرضا منها يستوعب أسباب العقيدة كلها ويغنينا عن التطلع إلى غيره .. وجملة ما نفهمه من ذلك أن مسألة العقيدة أكبر من أن يحصرها تعليل واحد وأنها قد تتسع لجميع تلك التعليلات معا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات .
ولا بد أن تمتزج هذه الصلة بالوعى والشعور متى كان الموجود من أصحاب الوعى والشعور . ومن العجيب أن يعرف العلماء شيئا يسمى الغريزة النوعية . بل شيئا يسمى غريزة الكونية , أو ما شاءوا من الأسماء .. فمن المحقق فمن المحقق ان الصلة بين الكون وموجوداته ماثلة فى جميع الموجودات . ومن المحقق أن الوعى لا يخلو من ترجمان لهذه الصلة لا يحصره العقل . لأنه سابق له محيط به غالب عليه .. ومن المحقق أن الوعى الكونى ملكة قابلة للترقى والإتساع , لأن الحقائق التى تقبل الفهم فى الكون لا تزال على اتساع وارتفاع يفوقان كل وعى ترقى إليه بنو الإنسان .. بل هذه الحواس الجسدية ـ ودع عنك الحقائق المادية ـ لا تحيط بكل ما تحسه العيون والأنوف والآذان , فبعض الحيوان يستنشىء الرائحة على بعد أميال وهى كالعدم فى أنف حيوان آخر ولو كانت منه على مدى قراريط . وبعض الأصوات تلتقطها من وراء البحار والقفار وقد كان الظن قبل العصر الحاضر أن الصوت ( عدم) على مد البصر القريب . ومن زعم أن الموجود هو ما تناوله الحس دون غيره كذبه الحس نفسه وقامت عليه الحجة من العيون والأنوف والآذان , فضلا عن البصائر والعقول .
ففى الكون مجال للوعى الكونى أوسع من مجال الحواس والملكات وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلابد من دخولها فى نطاق وعيه على مثال من الأمثلة ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التى تطيقها ملكات الجنس البشرى, ومنها ملكة الإعتقاد والإيمان .
وفى الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلى الآن. .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أطوار العقيدة الالهية
يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب :
وهي دور التعددPolytheism
ودور التنيز والترجيحHenotheism
ودور الوحدانيةMonotheism
ففي دور التعدد كانت القبائل الأولي تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات وقد تتجاوز العشرات إلي المئات ، ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة رب تعبده أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور وتقبل الصلوات والقرابين .
وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقي الأرباب علي كثرتها ويأخذ رب منها في البروز والرجحان علي سائرها . إما لأنه رب القبيلة الكبري التي تدين لها القبائل الأخري بالزعامة وتعتمد عليها في شئون الدفاع والمعاش ، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة .
وفي الدور الثالث توحد الأمة فتجتمع إلي عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها علي غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها .
والرأي الأرجح عند علماء المقابلة بين الأديان أن الاعتقاد بالثنائيةDualism يأتي أحيانا كثيرة بعد اعتقاد الوحدانية علي الصورة التي أجملناها ، وهي الوحدانية الناقصة التي تأذن لوجود الأرباب معها أو بتنازع الوحدانية بين إله دولة وإله دولة أخري .
وهم يعللون ظهور الثنائية بعد الوحدانية بأن الإنسان يترقي في هذا الطور فيحاول تفسير الشر في الوجود بنسبة إلي إله غير إله الخير ، ولا هذا يكون من قبيل النكسة في عقيدته . لأنه لا يزال يسيغ تعدد الأرباب ويسيغ التمايز والترجيح بينها والتفاوت بين درجاتها وطبائعها .
وأثبت من هذا عندهم –أي عند علماء المقابلة بين الأديان- أن وحدة الوجود Pantheism تأتي بعد جميع هذه الأطوار توفيقا بين النقائض والضرورات ، وإثبتا لوجود الله من طريق الثبوت الذي لا شك فيه ، وهو ثبوت الكون بالحس والعقل والإيمان .
ولم تكن أرباب الأمم الماضية في جميع أطوارها نوعا واحدا أو مثلا لفكرة واحدة ، ولكنها أنواع شتي يمكن أن نجمعها في الأنواع الآتية :
وهي:
1- أرباب الطبيعة أو الأرباب التي تتمثل فيها مشاهد الطبيعة وقواها كالرعد والبرق والمطر والفجر والظلام والينابيع والبحار والشمس والقمر والسماء والربيع .
2- وأرباب الإنسانية وهي الأرباب التي تقترن بأسماء الأبطال والقادة المحبوبين والمرهوبين ، ويحسبهم عبادهم من القادرين علي الخوارق والمعجزات .
3- وأرباب وأرباب الأسرة وهم الأسلاف الغابرون ، يعبدهم أبناؤهم وأحفادهم ويحيون ذكراهم بالحفلات والمواسم المشهودة كما يحيي الناس ذكري الموتى في هذا الزمان ويزورونهم بالأقوات والألطاف ، ولكن مع هذا الفارق البين : وهو أن الرجل الهمجي لا يمنعه مانع أن يجعل الذكري عبادة وأن يجعل هدايا القبر في حكم الضحايا والقرابين .
4- أرباب المعاني كرب العشق ورب الحرب ورب الصيد ورب العدل ورب الإحسان ورب السلام .
5-أرباب البيت كرب الموقد ورب البئر ورب الجرن ورب الطعام .
6- وأرباب النسل والخصب وهي علي الأغلب الأعم في صورة الإناث ويسمونها بالأمهات الخالدات ، وقد ترقت مع الزمن إلي واهبات الخلود بعد هبة الحياة .
7- وآلهة الخلق التي ينسب إليها خلق السماوات والأرض والإنسان والحيوان .
8- والآلهة العليا وهي آلهة الخلق التي تدين عبادتها بشرائع الخير وتحاسبهم عليها وتجمع المثل العليا للمحاسن والأخلاق ، وتضمن السعادة الأبدية للأرواح في عالم البقاء .
وهذه الطبقة من طبقات العبادة هي أرقي ما بلغته الإنسانية في أطوارها المتوالية ، واستعدت بعده للإيمان بإله واحد لجميع الأكوان والمخلوقات بغير استثناء أمة من الناس .
* * *
ومن العسير جدا أن نبني من هذه الأطوار جميعا سلما متعاقب الدرجات لا تتقدم فيه درجة علي درجة ولا يتلاقي فيه نوعان أو أكثر من نوعين من المعبودات .
فقبائل الهوتنتوت الأفريقية التي لم تفارق مرتبة الهمجية حتي اليوم ، ولا يزال أناس منها يأكلون لحوم البشر تعرف إلها واحدا فوق جميع الآلهة يسمي أبا الآباء .
وقبائل البانتو الأفريقيون يقسمون المعبودات ي ثلاث أنواع : نوع هو بمثابة الأطياف الإنسانية الراحلة وهو الذي يسمونه ميزيمو Mizimu ونوع هو أرواح لم تكن قط في أجساد البشر وهو الذي يسمونه Pepo ويزعمونه قابلا للتفاهم والاتصال بالعرافين والحكماء ، ونوع مفرد لا جمع له وليس من الأطياف ولا من الأرواح المتعددة ويسمونه مولنجو Mulungo .
لا يمثلونه في وثن ولا تعويذة ولا تفلح فيه رقية الساحر ولا حيلة العراف ، وفي يديه الحياة والسطوة ووسائل النجاح في الأعمال ، ويصفونه بأعلي ما في وسعهم من صفات التجريد والتفرد والكمال .
وكفار العرب كانوا قبيل البعثة المحمدية يدين أناس منهم بالمسيحية وأناس باليهودية ويذكرون (الله) علي ألسنتهم ويسمون أبناءهم بعبد الله وتيم الله .. ويعبدون مع ذلك أسلافهم فيقولون إن أصنام الكعبة تماثيل قوم صالحين ، كانوا يطعمون الطعام ويصلحون بين الخصوم فماتوا فحزن أبناؤهم وإخوانهم عليهم وصنعوا تلك الأصنام علي مثالهم وعبدوهم من فرط الحب والذكري ، ولكنهم لم يعبدونهم إلا ليقربوهم إلي الله زلفي .
ووصل المصريون إلي التوحيد ، وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة علي حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله . فكان أوزيرس هو إله الشمس باسم توت وهو في الوقت نفسه إله العالم الآخر وإله الخلق أيضا حيث ينبت منه الزرع ويصورونه في كتاب الموتي جسدا راقدا في صورة الأرض تخرج منه السنابل والحبوب ، وكانوا بعد كل هذه الأطوار يرسمون أوزيرس علي مثال مومياء محنطة ويردون أصله إلي العرابة المدفونة . كأنهم لم ينسوا بعد عبادة الإله الواحد الخالق للكون كله – عبادة الموتي أو الأسلاف .
واليهود عبدوا العجل بعد عبادة الله الواحد ، وسموا الإله الواحد باسم الجمع وهو في العبرية (الوهيم) أو الآلهة .. ثم أصبح الجمع علامة التعظيم .
فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه ، ولكنه لم يكن علي سلم واحد متعاقب الدرجات . بل كان علي سلالم مختلفة تصعد من ناحية وتهبط من ناحية أخري .
إلا أن المشاهدات التي أحصاها علماء المقابلة قد تتوافي كلها إلي نتيجة يجمعون عليها ، وهي : أن الإيمان بالأرواح شائع في جميع الأمم البدائية ، وأن الأمم التي جاوزت هذا الطور إلي أطوار الحضارة وإقامة الدول لا تخلو من مظاهر العبادة الطبيعية أو عبادة الكواكب علي الخصوص وفي طليعتها الشمس والقمر والسيارات المعروفة ، وأن عبادة الأسلاف تتخلل هذه الأطوار المتتابعة عل أنماط أنماط تناسب كل طور منها حسب نصيبه من العلم والمدنية .
أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبري . فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو علي الآلهة قدرا وقدره وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتي تزول أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله الأعلي .
لكن الأديان الكتابية –بعد كل هذا- هي التي بلغت بالتوحيد غاية مرتقاة وعلمت الناس شيئ فشيئا عبادة الإله (الأحد) الذي خلق الوجود من العدم ووسعت قدرته كل موجود في السماوات والأرضين ، ولم يكن له شريك في الخلق ولا في القضاء .
وذاك التوحيد الإلهي الذي نشأ من توحيد الدولة لم يعرض لخلق الكون كله ، ولم يذهب بفكرة التكوين إلي أبعد من خلق الإنسان من مادة موجودة لا حاجة بها إلي موجد . ولما بحثوا في خلق الأرض والسماء كانت فكرة الخلق عندهم بمثابة فكرة التنظيم والتجميل ، لأنهم نظروا إلي مادة الأرضين والسماوات كأنها حقيقة راهنة ماثلة للحس والنظر في غني عن المبدع ولا حاجة بها إلي شيء غير التركيب والتنسيق ، وفرضوا لتركيبها أسلوبا من الصناعة كأسلوب الإنسان في تركيب مصنوعاته من موادها الحاضرة بين يديه . وظل العقل البشري محصورا في هذا الأفق إلي عهد الديانة الإغريقية قبيل الدعوة المسيحية بل بعد الدعوة المسيحية في بعض الجهات بزمن غير قليل . فلم يكن (زوس) كبير الآلهة خالقها ولا خالق الكون بما رحبمن أرض وسماء ولكنه كان بينها كرب الأسرة بين الأبناء والأحفاد ، أو كالسيد المطاع بين الأعوان والأتباع ، وبلغ من سريان هذه (الحالة العقلية) في الأزهان أن الفلاسفة أنفسهم لم يجهدوا عقولهم في البحث عن أصل للمادة الأولي أو الهيولي . كان وجودها حقيقة مفروغ منها لا توقف علي مشيئة خارجة عنها . فلما ترقي الإنسان فجاء تفكيره في خلق الكون من طريق تعظيمه لقدرة الله وإفراده بالوجود الصحيح والقدرة السرمدية علي الإيجاد فاقتحم بالإيمان بابا لم يقتحمه بالتأمل والتفكير .
فالإيمان بالأرواح كان أشيع إيمان وألزمه لبديهة الإنسان في مبدأ هدايته للتدين والاعتقاد .
ولا مانع من تعليل اهتدائه إلي (الروح) بالعلة التي شرحها سبنسر وتيلور : وهي الأحلام واستيحاء الجماد ، إذ لم يكن في طاقته أن يفهم الروح فهما أصلح من هذا الفهم في ظلمات الجاهلية وعثرات النظر بين غياهب تلك الظلمات .
فكان ينام ويري أنه كان يعدو ويرقص ويأكل ويشرب ويقاتل في منامه ، ثم يستيقظ فإذا هو في مكانه لم ينتقل منه قيد خطوة إلي مكان غيره ، فيقع في حدسه أنه فعل ذلك بالروح الذي يسكن جسده ويتركه أو يعود إليه حين يريد . وكان يري الموتي في منامه فيحسبهم أحياء يتحركون مثله كما تحرك بروحه وهو نائم بجسده وراقب الموتي فرأي أنهم يفقدون النفس حين يموتون . فوقع في حدسه من ذاك أن النفس هي الروح والنفس والنسمة ، وكلمة بسيشيPsyche اليونانية معناها النفس كمعني سبريتSpirit في اللغات الأوربية الحديثة .. وفي ذلك دلالة لا شك فيها علي أصلها الأول من بداهة الإنسان .
ونحن الآن نفهم الظل الذي يلا زمنا ونفهم الصورة التي تتراءي لنا حين ننظر في الماء ، ولكن الهمجي لم يكن يفهم هذه الظلال ولا هذه الصور كما نفهمها الآن ، بل كان يحسبها نسخا حية منه يصاب من جهتها بالسحر والطلاسم ، ويصونها من كيد أعدائه كما يصون أعضاء جثمانه ، ويحار في هذا الازدواج فيلحقه بازدواج الأشباح والأجساد علي نحو من الأنحاء .
ولم يكن جهله بالأشياء دون جهله بالظلال والأشباح . فلا يستغرب منه أن يلبسها ثوب الحياة كما يفعل الطفل حين يعطف علي ماحوله من الأشياء أو يقابلها بالرهبة والإحجام ، وكثيرون من الراشدين المثقفين في عصرنا هذا يهتاجون فيخاطبون الجماد بالزجر والسباب كما يخاطبون الأحياء وتغلبهم عاطفة الحزن أو الوجد فيعتبون علي الشيء الذي لا حس له كأنه يحس منهم العتب والدعاء .
والمهم أن الإنسان الأول قد اهتدي إلي فكرة (الروح) من نواحيه التي تلائمه ، فكانت الهداية مفرق الطريق في اغلثقافة الإنسانية سواء منها ثقافة العقل أو ثقافة الضمير .
فتسني له بذلك أن يفتح لعقله منفذا إلي ما وراء المادة المطبقة علي حسة وفكره ، ولو ظلت مطبقة عليه هذا الإطباق لفاته العلم كما فاته الدين .
وتبدلت قيم الحياة كلها منذ دخل في روعه إمكان الوجود لما لم يلمس باليد وينظر بالعين . فمن هنا كل تفرقة بين الروح والجسد ، وبين العقل والمادة وبين الحركة والجمود وبين الخير والشر ، وبين النور والظلام وبين المعاني المجردة والأجسام المحسوسة ، ومن هنا كل اتساع في أفق النظر وراء الحيوان .
وإذا حسب الإنسان مكسبه من هذه الهداية فلا ينبغي أن يحسبه بما قصد بل بما وجد ، ولا ينبغي أن يقيسه علي خطئه في التعليل بل علي صوابه بعد ذلك في التوفيق بين العلل والمعلولات .
وينفعنا هنا أن نذكر قصة الأب الذي أوصي أبناءه وهو يودعهم ويودع الحياة أن ينبشوا الأرض عن كنز دفنه فيها ونسي مخبأه منها ، فلما نبشوا الأرض لم يجدوا كنزا من الذهب أو الفضة ، ووجدوا كنزا يساوي الذهب والفضة ، ويثمر لهم في كل عام كنوزا بعد كنوز . فلما وقع الإنسان الأول علي فكرة الروح وقع عليها خطأ لا شك فيه ، ولكنه خطأ توقف عليه إلهام الصواب في عالم العقل وعالم الضمير .
* * *
وقد امتزجت عقيدة الروح بكل عقيدة دينية بعد أطوار العقيدة البدائية وفي أثنائها ، فعبادة الأسلاف لا تخطر علي بال ما لم تخطر معها فكرة بقاء الأرواح ، وإنما تترقي الأ؟نماط علي حسب الترقي في المعارف والمعقولات . فالهمجي الذي جهل أسرار التناسل قد يتخذ له جدا معبودا يتمثله في شبح الأسد أو الكلب أو الصقر أو العقاب ، ولا ينكر أن يكون أبوه من سلالة الحيوان جسدا وروحا بغير مجاز ، لأنه لا يفقه المانع الذي يمنع الروح أن تسكن جسم حيوان كما تسكن جسم إنسان . والحضري الذي تهذب واستطلع أسرار الخليقة بعض الاستطلاع يجعل أباه روحا تتجلي في الشمس ويفرق بين أبوهالأجساد وأبوه الأرواح ، وعلي هذا المثال ولا ريب زعم الكهنة أن هذا الفرعون أو ذاك من الفراعين ابن الشمس أو ابن أوزيريس ، ولم يفهموا ولا فهم أحد من ذلك أنهم ينكرون أبوته الجسدية المسجلة بالميراث ، وبحقها يجلس علي عرش أبيه .
ولا يري علماء المقابلة أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة ، ولكنهم يقررون أن (ديانة الشمس) لم تنتشر في تلك الأطوار لأنها تستلزم درجة من الثقافة العلمية والأدبية لا تتيسر للهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ . فلا بد قبل ذلك من نظرة فلكية عالمية تحيط بعض الشيء بنظام الأفلاك وعلاقة الشمس بالفصول ومواعيد السنين .
وتستدعي ديانة الشمس غير هذا أن يرتفع العقل البشري بفكرة الخلق من أفق الأرض القريب إلي الآفاق العليا في السماوات فتتسع دنياه وتتعاظم فيها دواعي الحركة والسكون والحياة والموت ، ويقترب من الأوج الذي يستوعب فيه الكون بنظرة شاملة ، ويلتمس له سببا واحدا (للحصول) كما حصل بعد أن أصبح الكون كله في في حاجة إلي التعليل . فإنه كان قبل ذلك يعلل حياته بهذه القوة أو تلك من العلل الكونية . فإذا بالكون كله لا يستغني عن تعليل مريح .
فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح لأنها أكبر ما تقع عليه العين وتعلل به الخليقة والحياة ، فإذا دخلت هي أيضا في عداد المعلولات فقد أصبح الكون كله في حاجة إلي خالق موجد للأرض والسماء والكواكب والأقمار . وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق علي فحوي قصة إبراهيم في القرآن الكريم (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ، فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون) .
ولا تزال بداءة التوحيد من طريق تأليه الشمس مسألة تخمين لا مسألة يقين . فالحضارات القديمة في الدول قد عمت الأقطار الشرقية بين مصر وبابل وفارس والهند ثمانية آلاف سنة أو تزيد ، وكلها قد عبدت الشمس وميزتها بالعبادة في دور من الأدوار . فأيها هي الأمة السابقة إلي التوحيد أهي فارس أم الهند أم بابل أم أشور أم مصر أم اليابان في مجاهل القدم قبل اتصالها بالحضارة الآسيوية ؟ ليس الجواب علي هذا كما أسلفنا مسألة يقين بل مسألة تخمين . وأغلب الظنون المدعمة بالقرائن المعقولة أن مصر بدأت بتوحيد الدين كما بدأت بتوحيد الدولة . فالمؤرخ هيرودوت القديم يقول إن الإغريق تعلموا أمور الدين من المصريين والسير اليوت سميث –وهو مرجع موثوق به في تاريخ مصر- يقول إن شعائر الهند القديمة في الجنائز نسخة محكية من كتاب الموتي ، وتفرق الديانات معقول في الدول الأخري ولكنه غير معقول في قطر يجري فيه نيل واحد ويتحد وجهاه قبل خمسة آلاف سنة علي أقل تقدير .
* * *
وجملة القول أن أطوار العقيدة الإلهية تشعبت بين الناس فلم تطرد علي مراحل متشابهة في جميع الأمم ولا في جميع الأزمان . ولكننا إذا أحطنا بوجهتها العظمي وجدنا أن عقيدة الأرواح لم تفارق أطوارها الأولي ، وأن عبادة الأسلاف امتزجت بعقيدة الأرواح ، ثم اتسعت نظرة الإنسان إلي دنياه حتي التمس لها علة في السماء فكانت الشمس هي أكبر ما رآه وتوجه إليه بالعبادة ثم أصبحت الشمس رمزا للخالق حين تجاوزت الإنسان بنظرة إلي ما هو أعظم منها وأعلي . فهي القنطرة الأخيرة بين العدوتين : عدوة التعديد ، وعدوة التوحيد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الملكات النفسانية
الملكات النفسانية التي يدور عليها بحث العلماء في الوقت الحاضر أكثر من نوع واحد في أفعالها وتجاوزها لمألوفات الحواس الإنسانية والحيوانية ، ولكنها تتلخص في بضعة أنواع هي :
الشعور علي البعد أوالـTelepathy والتوجيه علي البعد أو الـ Telergy والتنويم المغناطيسي أو الـMagnetism وقراءة الأشياء أو معرفة الأخبار عن الإنسان من ملامسة بعض متعلقاته كمنديل أو قلم أو خاتم أو علبة أو ما شاكل هذه المتعلقات Object, reading or psychometry وتفسير الأحلام Dream Interpretation والاستحياء الباطني أوAutomatism والوسواس أو Hallucination واستطلاع المستقبل أو Precognition واستطلاع الماضي أو Retrocognitlion والكشف Clairvoyance وتحضير الأرواح Spiritualism .
وكل هذه الملكات قديم معهود في جميع الأجيال والعصور لم يجد عليه إلا التسمية العصرية ومحاولة العلماء أن يحققوه بالتجربة والاستقصاء .
وربما كان أشيع هذه الملكات وأقربها إلي الثبوت وأغناها عن أدوات المعالجة والتناول بأساليب التلقين والتدريب هو الشعور هو الشعور علي البعد أو (التلباثي) كما سمي في أواخر القرن التاسع عشر –تركيبا مزجيا من كلمتي البعد والشعور في اللغة اليونانية .
وقد تواترت أحاديث الناس في (الشعور علي البعد) ، فرويت فيه روايات كثيرة يتفق أصحابها في أقوال متقاربة . وفحواها أنهم يستحضرون في أخلادهم سيرة إنسان بعيد لغير سبب يعلمونه فإذا هو ماثل أمامهم ساعة استحضار ، أو يقلقون لغير سبب في لحظة من اللحظات ثم يعلمون بعد ذلك أن إنسانا عزيزا عليهم كان يتألم أو يذكرهم في تلك اللحظة وهو في ضيق وتغويث ، وقد يسمعون هاتفا يلقي إليهم بعض الكلمات ثم يقال لهم أن هذه الكلمات قد هتف بها مريض يحبهم ويحبونه وهو غائب عن وعيه ، وندر من الناس في الحواضر والقري من لم يسمع برواية من هذا القبيل .
وقد جرب الشعور علي البعد باحثون ممتخلفون ، منهم المؤمن بالنفس ومنهم الملحد الذي لا يؤمن بغير المادة ، ومنهم المتدين الذي يلتمس لهذا الشعور علة من العلل الطبيعية ، ولا يري ضرورة للرجوع به إلي عالم الروح والعقل المجرد .
فالنفساني الكبير وليام مكدوجال –وهو من المؤمنين بالعقل المجرد- يقول في خطاب الرياسة لجامعة البحوث النفسية سنة 1920 : (إنني أعتقد أن التلباثي وشيك جدا أن يتقرر بصفة نهائية في إعداد الحقائق المعترف بها عمليا بفضل هذه الجماعة علي الأكثر ، ومتي بلغنا هذه النتيجة فإن خطرها من الوجهتين العلمية والفلسفية سيربي كثيرا عل جملة المسائل التي أدركتها معاهد التحقيق النفساني في جامعات القارتين) .
وفي سنة 1927 قال الدكتور ت و متشل في خطابه المباحث النفسية في المعهد البريطاني : (لا بد من الاعتراف بالتلباثي أو بوسيلة من الوسائل التي نسميها الآن خارقة للعادة . لأننا إذا أنكرناه وقفنا حائرين بين يدي الظواهر المعززة بأدلة الثبوت ، مما لا نستطيع له نفيا ولا تعليلا) .
والكاتب الأمريكي المشهور ابتون سنكلر Upton Sinclair يؤمن بالفلسفة المادية دون غيرها ويجرب الشعور علي البعد بينه وبين زوجته علي ملأ من الشهود والمتعقبين ، ويقرر أنه أجري مائتين وتسعين تجربة يعتبر يعتبر ثلاثا وعشرين منها ناجحة كل النجاح وثلاثا وخمسين منها ناجحة بعض النجاح وأربعا وعشرين منها مخفقة كل الإخفاق ، ويقول الدكتور والتر فرانكلين برنس صاحب كتاب ما وراء المعرفة المألوفة Beyond Normal cognition هو من المتعقبين لسنكلر وغيره من أصحاب التجارب في هذا الموضوع – (إنني –بعد سنوات من التجارب في تفسير مئات من الألغاز الإنسانية التي تشتمل عل الغش المقصود وغير المقصود وعلي الوهم والضلال- أسجل هنا اعتقادي أن سنكلر وزوجته قد أقاما الشواهد إقامة وافية علي الظاهرة المعروفة بالتلباثي) .
وقد كانت تجارب سنكلر يدور معظمها علي الرسول والأشكال فليطلب من بعض الحاضرين أن يختار له سكلا هندسيا أو حيوانيا ثم يحضر ذهنه فيه ، وزوجته في بلد آخر تتلقي عنه شعوره في تلك اللحظة . فإذا هي ترسم الشكل بعينه ، وقلما يكون الاختلاف في غير الحجم أو درجة الإتقان .
وقد سمي سنكلر هذه الظاهرة بظاهرة الإشعاع الإنساني Human Radio لأنه لا يؤمن بأسباب لنقل الأفكار والأحاسيس غير الأسباب التي من قبيل البرق والمذياع .
ومن أصحاب التجارب المتعددة في هذه المسائل جوزف سينل Joseph Sinel صاحب كتلب الحاسة السادسة(1) الذي يدل اسمه علي رأي صاحبه في تعليل هذه القدرة علي الكشف والتلقي والإيحاء وما شابهها من الصلات النفسية عن طريق غير طريق الحواس المعروفة .
فهو يقرر أن الأجسام المادية يمكن أن تحس من بعيدة لأنها تبعث حولها ذبذبات متلاحقة تسري إلي مسافات بعيدة . وقد تخترق الحوائل كم تفعل الأشعة السينية ، ويعلل غرائز الأحياء التي تهتدي إلي أمثالها أو إلي الأماكن المحجوبة عنها علي المسافات الطويلة بحاسة تتلقي هذه الذبذبات وتتبعها إلي مصادرها . أما الإنسان وسائر الحيوانات الفقارية فهي تعتمد علي الجسم الصنوبري في الدماغ للشعور بالأشياء التي لا تنتقل إليه بحاسة النظر أو الشم أو السمع أو الملامسة ، ويستبعد الأستاذ سينل أن يخلق هذا الجسم الصنوبري عطلا يغير عمل في جميع الأحياء الفقارية ،لأن ملاحظاته الدقيقة عن موضع هذا الجسم في الدماغ واختلاف حجمه بين الأحياء قد دلته علي تفسير عمله حسب اختلاف موضعه وحجمه . فهو في الأنثي أكبر منه في الذكر وفي الهمجي أكبر منه في المتحضر وفي الطفل أكبر منه في الرجل ، وفي الحيوان أكبر منه في الإنسان . وهو قريب إلي فتحات الرأس في بعض الأحياء التي تعول علي التحسس البعيد ولا تستغني عنه بالقياس العقلي أو بالرسائل الصناعية كما يفعل الإنسان ، وكلما انصرف الحي من استخدام هذا الجسم الصنوبري ضمر واقترن ضموره بضعف الشعور بالذبذبات والرسائل المتنقلة من المسافات القصيرة .
قال الأستاذ سينل : (أما الكشف كما أعرفه أنا –وكما ينبغي أن يعرف- فهو إدراك الأشعة المغنطيسية أو قل الموجات المغنطيسية المنبعثة من الأجسام المحيطة بنا والتي من شأنها أن تخترق كل جسم يعترضها بدون حاجة إلي الاستعانة بأي عنصر من أعضاء الحس المعروفة . والكاشف في رأيي هو كل من يستطيع أن يضبط جانبا من مخه ويعده لكي يستقبل الإشعاع الصادر عن الحاجز ، يعني من شيء ما بعد استبعاده كل أشعة أخري ، شأنه في ذلك شأن الجهاز اللاسلكي الذييضبط لكي يستقبل موجة منبعثة من محطة ما مع استبعاد كل موجة أخري سواها) .
وفي حسبان الأستاد سينل أن تلقي الأحاسيس علي البعد ضرورة حيوية في الأحياء الدنيا ، فهي من أجل هذا أقدر علي استخدام هذه الحاسة . ومما نقله عن العالم الطبيعي الفرنسي الكبير جان هنري فابر Fabre (إنه وجد ذات يوم يرقة نوع كبير من الحشرات فحملها إلي منزله ووضعها داخل صندوق في غرفة مكتبه ، وبينما هو جالس في غرفة الطعام ذات ليلة اذ دخل عليه خادمه فزعا وأخبره أن غرفة مكتبه امتلأت بفوج كبير من الذباب الضخم فلما ذهب ليري ما حدث وجد أن يرقته -وكانت أنثي- قد خرجت من هذا الطور وأن عددا كبيرا من ذكورها يحوم حول الصندوق . واما كانت كلها من نوع غير مألوف في هذه المنطقة فقد حكم بأنه لابد جائت من مكان سحيق . فأغلق النافذة وأمسك بها جميعا وعددها خمسة عشر ذكرا . وأراد أن يعرف هل استعانت هذه الذكور في حضورها بحاسة الشم أو لم تستعن بها ، فنزع منها ملامسها ، وهي الأعضاء التي تحمل هذه الحاسة ، ثم وضع الذكور في كيس ووضع الكيس في قمطر ، وفي صباح اليوم التالي نقلها إلي غابة تبعد نحو الميلين ، وأطلق سراح الذكران جميعا ، ولكنها لم تلبس بعد الغسق أن شوهدت كلها متجمهرة في حجرة مكتبه لم يتخلف واحد منها . عندئذ أيقن أن حاسة الشم ام تكن النبراس الذي اهتدت به الذكور إلي مكان الأنثي)(2) .
فالأستاذ سينل كما نري لا يتأثر في إ_ثباته لقدرة الكشف والشعور علي البعد بإيمانه بوجود الروح أو العقل المجرد ، ولا يعتمد في تجربة من تجاربه الكثيرة علي تعليل غير التعليل الجسدي والمباحث الطبيعية ، وقد سبقه إلي التنويه بشأن الحسم الصنوبري فيلسوف كبير من المؤمنين بالقوة الروحية والقائلين بالتفرقة بينها وبين الكائنات المادية ، وهو رينيه ديكارت الذي يلقب بأبي الفلسفة الحديثة ، فإنه اعتقد أن الجسم الصنوبري هو الجهاز (الموصل) بين الروح والجسد ، أو هو موضع التلاقي بين حركة الفكر وحركة الأعضاء .
أما الذين اعتقدوا أن الجسم الصنوبري غدة منظمة للوظائف الجنسية أو أطوار النمو الأخري فالأستاذ سينل يرد عليهم قائلا : (إذا كان هذا الجسم غدة وظيفتها تنظيم التطور أو الأمور الجنسيةكما يقولون فكيف صح أن يكون مقره وسط المخ بين المراكز التي تستقبل المرئيات ؟ ولماذا هو محمول علي ساق ؟ .. ولماذا كان في الفقاريات الدنيا فتحة تشبه النافذة في الجمجمة فتسمح لهذه الحيوانات بالاتصال بما حولها قدر المستطاع ؟) .
علي أننا إذا راجعنا أنواع التجارب التي سجلها النفسانيون لم نستغن بفكرة الإشعاع ولا بفكرة الجسم الصنوبري عن تعليل آخر يتصل بالفعل أو الروح .
فنحن نفهم أن الإشعاع ينقل المجسمات والمحسوسات ولكننا لا نفهم أن الإشعاع ينقل الفكرة أو الصورة المتخيلة ، فإذا تذبذب الشعاع بحركة الكلمات الملفوظة وصلت هذه الكلمة بحروفها و أصدائها إلي جهاز التلقي فنسمعها كلمات كما فاه بها المتكلم من محطة الإرسال ، ولكن الفكرة التي في الدماغ لا تتحول إلي كلمات بحروفها و أصدائها ولا تتأتي من تحولها حركة تهز الأثير كما تهزه حركات الأفواه . فكيف تنتقل الفكر بالأشعة من دماغ إلي دماغ ؟
وإذا فكر أحد في صورة هندسية أو حيوانية فكيف تصبح هذه الصورة حركة إشعاع كحركة المذياع ؟ لقد شوهد كثيرا أن الذي ينتقل في هذه الحالة هو معني الصورة لا شكلها ولا خطوطها التي تكونها : فإذا كان المرسل يفكر في عصفور ولا يحسن رسمه فإن المتلقي يحسن رسم العصفور إن كان من الحاذقين للرسم ولا ينقله نقلا آليا كما تمثل في الذهن الذي أرسل الصورة إليه ، وكذلك يحدث في أشكال المثلثات والدوائر والمستطيلات ، وكل شكل يختلف بالحجم والإتقان ويحافظ علي معناه مع هذا الاختلاف .
فإذا ثبت الكشف والشعور علي البعد بالتجربة التي لا شك فيها فلا بد من إثبات الأشعة العقلية أو الروحية لتعليل انتقال الأفكار بغير ألفاظ ، والصور بغير حركات في الأثير .
أما الجسم الصنوبري فإذا كان عضوا طبيعيا وجب أن يكون عمله علي أشده وأصحه في أصحاب الأجساد الطبيعية والأمزجة السوية ، ولكن الذي يشاهد في أصحاب القدرة علي التلقي أنهم يشذون عن سواء المزاج المعهود في الأصحاء ، وأن هذه الملكة فيهم لا تحيا كما تحيا الأعضاء الأثرية المهملة بل تحيا كما تحيا العبقريات الخلاقة لمعاني الفنون ومبتكرات الفهم والخيال ، وأن الذي يمتاز بها لا يكون أقرب إلي الحيوان بل أقرب إلي المثل الإنسانية التي تتجافي كثيرا عن الغرائز الحيوانية والنوازع الجسدية .
وإذا كان الجسم الصنوبري متلقيا للحس علي أسلوب العيون والآذان و الأنوف وجب أن تتساوي عنده جميع المرسلات ، و ألا يميز ذبذبة عن ذبذبة ولا مكانا عن مكان . ووجب عند جلوس عشرة في بقعة واحدة أن يتلقوا جميعا صوت الاستغاثة المنبعث من الأماكن القصية ، لأن هذا الصوت حركة مادية والأجسام الضنوبرية عند هؤلاء العشرة أجسام مادية تهتز بتلك الحركة علي السواء ، ولا يقال أن الذي يعنيه الخبر هو الذي يسمعه ، لأن العناية تتولد من سماع الخبر لا قبل سماعه ، وقد يكون المقصود بالخبر غافلا عنه غير متهيئ لسماعه في تلك اللحظة ، وإذا كانت العناية من الجانبين تضيف شيئا إلي قوة الحس فهي إذن شيء (عقلي إرادي) ينحصر في العقل والإرادة ولا يعم كل حركة تخطر في الأثير .
ولا غرابة في ندرة الظواهر الروحية بين العوامل المادية ، فيحس بالآثار الروحية آحاد ولا يحس بها الأكثرون ، لأننا قد تعودنا أن نري كائنات لا تحصي بمعزل عن فعل العقل أو الروح ولكن الغرابة البالغة أن يكون في كل دماغ جسم صنوبري وأن تنبعث الذبذبات من جميع الأجساد بغير انقطاع ثم تنحصر ظواهر الكشف أو الشعور البعيد قي آحاد معدودين .
ولا يصح أن يقاس هذا علي أجهزة المذيلع التي تسكن عن الإذاعة بغير تحريك أو توجيه ، لأن امتناع هذه الآلات عن الحركة بغير مدير يعرف تركيبها هو الحالة الطبيعية التي لا يتصور لها العقل حالة سواها . أما الأحياء فإنهم هو المحركون والمتحركون ، وهم المفاتيح ومديرو المفاتيح . فامتناع العمل الطبيعي فهم مع شيوع أسبابه عجب يحتاج إلي تفسير .
وحسب الناظر في الأمر بعد هذا أن يعرف أن تجارب الشعور البعيد وما جري مجراه تثبت عن أناس لا يعللونها بالروح ولا بالعقل المجرد ، لينتفي من ذهنه أنها وهم من أوهام العقيدة وأنها خرافة متفق عليها فلا تستحق الجد في دراستها من طلاب الحقائق علي سنن العلماء .
ويبدو للأكثرين من مراقبي هذه الظواهر النفسانية أن التنويم المغناطيسي أثبت من الشعور علي البعد وأشيع منه وأقرب إلي التصديق والتعليل ، وهو فيما نري يعرض لنا أمثلة كثيرة لا نصادفها في ظاهرة الشعور علي البعد لإثبات الاتصال العقلي بوسيلة غير وسيلة الذبذبات واستخدام الأجسام الصنوبرية . لأن النائم يتلقي عن نومه صورا لا يأتي تعليلها بالإشعاع أو ما شابهه من التيارات المادية . وكثيرا ما تكون الرسائل المغناطيسية قائمة علي تخيل لا وجود له في عالم الحس ولكنه ينتقل إلي ذهن النائم لأن المنوم لفقه وأمره يتلقيه وتصديقه . وهو يري ما في خيال المنوم ولا يري ما في خيال غيره ولو كان معه في حجرة واحدة . وقد تعددت تعليلات الاتصال بين فكر وفكر بالوسائل المغناطيسية ولكنها جميعا أعجب من القول بإمكان الاتصال بين العقل المجرد والعقل المجرد بمعزل عن الحواس والوسائط المادية . ويكفي في التجارب المتواترة أن يلقي المنوم نظرة علي كلمة مكتوبة أو صورة مرسومة أو يستحضر الكلمة أو الصورة في خلده ليراها النائم كما رآها المنوم أو تخيلها تخيلا لا يمثله شكل محسوس قابل لتحريك الأشعة أو التيارات . ولا ندري لماذا لا يتأتي تنويم الحيوان الأعجم ونقل المحسوسات إلي دماغه إذا كانت المسألة كلها مسألة الحواس والأعصاب والتيارات التي تنتقل كما ينتقل الشعاع .
ومما لا نزاع فيه أن حق الفكر الإنساني في قبول هذه الظواهر أرجح جدا من حقه في إنكارها ، والبت باستحالتها كأنها شيء لا يتأتي وقوعه بحال من الأحوال . فلا استحالة في ظاهرة من هذه الظواهر ، غير مستثني منها النادر المستغرب بالغا ما بلغ من الندرة والغرابة في جميع الأزمان .
فالاطلاع علي المستقبل غريب لم تثبته تجربةعلمية قابلة للتكرار ، ولكننا لا نستطيع أن نجزم باستحالته إلا إذا استطعنا أن نجزم بحقيقة الزمن وحقيقة المستقبل ثم جزمنا بأن هذه الحقيقة تناقض العلم بشيء قبل أن يأتي أوانه ويجري في مجراه .
فما هو الزمن ؟
نحن نتخيله في أوهامنا علي صور كثيرة لا تخلو إحداها من نقص ومناقضة لبقية المقررات المسلمة لدينا .
فنحن تارة نتخيل الزمن كأنه بحر يزداد قطرة في كل لحظة ويمتلئ شيئا فشيئا ، ويزال فيه فراغ مهيأ للامتلاء ، وهو فراغ المستقبل المعدوم . ولكن هل الماضي إذن هو الموجود ؟ وهل هو الحاصل المتجمع في بحر الزمان والمستقبل هو المعدوم ؟ وما هو (الآن) الذي ليس بماض ولا بمستقبل ولا يوصف إلا بأنه حاضر غير ماض ولا آت ؟
وتارة نتخيل الزمن كأنه خط ممتد والأوقات المتتابعة كالنقط المنطوية فيه ، ولكننا إذا تتبعنا هذا الخيال لم يذهب بنا إلي بعيد ، لأن الخط ممتد في كل جانب متعمق في كل باطن ، فلا تشابه به بينه وبين الخطوط .
وتارة نتخيل الزمن قابلا للتجزئةولكننا لا نستقر علي المقياس الذي يحكم لنا بالقرب أو البعد أو العمق بين مسافات الأجزاء .
وإذا جزأنا الزمن حكمنا بأن الزمان كله محدود لأن مجموع المحدود محدود ، ولكن ما هي حدود الحاضر ، وما هو الخارج منه والداخل فيه وما هو الفرق بين حاضر وحاضر بمقياس الزمان أو بمقياس الفضاء ؟
علي أنه إذا كان الزمان أجزاء وكان محدودا كأجزائه فقد بقي أمامنا (الأبد) الذي لا ماضي فيه ولا حاضر و مستقبل ولا ينقسم إلا أجزاء ولا يدرك له ابتداء ولا انتهاء ولا حركة بين الابتداء والانتهاء .
فمن الجائز أن (المستقبل) معدوم في الزمان المنقطع موجود في الأبد الذي ليس له انقطاع .
ومن الجائز أن يكون الزمن نفسه متعدد الأبعاد فيتلاقي فيه شيء من الحاضر وشيء من الماضي وشيء من المستقبل في بعض تلك الأبعاد .
ومن الجائز أن المستقبل يتكشف لعقل الإنسان من إيحاء العقل الأبدي المطلع عليه كما يتطلع علي ما حصل وما هو حاصل بلا اختلاف . وقد جاز أن ينتقل علم من عقل إنسان إلي عقل إنسان فينطبع فيه بالتوجيه وإيحاءكأنه منظور ومسموع . فلماذا لا يجوز أن تنتقل وقائع المستقبل إلي علم الإنسان من العقل الأبدي ؟ وهل نستطيع أن نقرر وجود العقل الأبدي دون أن نقرر أنه مطلع علي كل ما يقع في الأبد الأبيد ؟
فالذي يجزم باستحالة الاطلاع علي المستقبل عليه أولا أن يجزم بالصورة الصحيحة للزمن ويجزم بأنها لا توافق الاعتراف بوجود المستقبل علي وجه من الوجوه .
وعليه (ثانيا) أن يجزم باستحالة (العقل الأبدي) واستحالة الإيحاء منه إلي العقول الإنسانية .
وعليه أن يقوم الدليل علي هذا المستحيل أو ذاك المستحيل ، ولا دليل . وربما خطر لبعضهم -عند النظرة الأولي أن استطلاع الماضي Retrocognition ظاهرة لا تثير الاعتراض ممن يعترضون علي العلم بما سيكون . لأننا نعلم حوادث التاريخ كأنها من حوادث الوقت الحاضرالتي تنقل إلينا من مكان بعيد ، ولأن حوادث الماضي متفق علي وجودها في زمانها ، ولا اتفاق علي وجود ما سيكون قبل أن يكون .
ولكن الحقيقة أن استطلاع الماضي واستطلاع المستقبل علي حد سواء في طبيعة الملكة التي تقدر عليه . لأن القائلين بهذه الملكة لا يقصدون معرفة الماضي كما نعرف روايات التاريخ أو روايات الشهود . ولكنهم يقصدون أن صاحب هذه الملكة ينكشف له منظر مضي دون أن يبلغه من طريق القراءة والسماع . فيشهد مثلا مجلسا من المجالس المجهولة عنده وعند غيره ، ويبصر كل جالس في مكانه الذي كان فيه ، ويسمع ما قالوه ولو لم تدونه الكتب وتردده أقوال الرواة .
فالكشف عن الماضي محتاج إذن إلي التعليل الذي يحتاج إليه الكشف عن المستقبل ، لأنه دائما يتأتي بايحاء عقل إلي عقل ، أو بتقدير صوره للزمن لا ينفي فيها الماضي ولا المستقبل كل الانتفاء .
وهذه الظواهر كلها -أغربها وأقربها معا- ليست بالشيء الجديد في تاريخ الإنسان . وإنما الجديد عليها في زماننا هذا أنها دخلت في متناول البحوث العلمية ، وأن الباحثين يتخذون منها شيئا فشيئا مواقف من العطف والفهم أقرب من مواقفهم الأولي في مطلع (الثورة العلمية) علي سلطان رجال الدين .
ففي الأزمنة الماضية كان النس يصدقون هذه الظواهر بغير بحث في حقيقتها وحقيقة من يدعونها ، أو كانوا يكذبونها تكذيبا باتا بغير بحث كما يفعل المصدقون .
ومضي زمن كان العالم الطبيعي فيه يحسب الإنكار المطبق أمام هذه الظواهر أجدر شيء بوقار العلم وكرامة المباحث العلمية . ومن هؤلاء عالم في طبقة اللورد كلفن Kelvin الذي قال في بعض خطبه سنة 1883 : (والآن قد أومأت إلي حاسة سابعة محتملة وأعنى بها الحاسة المغناطيسية , ولنفاسة الوقت وضيقه عن الاستطراد وابتعاد الموضوع عما نحن بصدده أود أن أدفع الظن ـ بأننى على نحو من الأنحاء ـ أومىء إلى شيء من قبيل تلك الخرافة التعسة : خرافة المغناطيسية الحيوانية وتحرك الموائد وتحضير الأرواح ومناجاتها والتنويم المغناطيسى المعروف بالسمرية والكشف والتخاطب بالدقات والنقرات وما إلى ذلك مما سمعنا عنه فى الزمن الأخير . فليس هناك حاسة سابعة من هذا النوع الغامض ، و إنما الكشف وما إليه نتيجة خطأ في الملاحظة علي الأكثر يمتزج أحيانا بالتزوير المتعمد علي عقل بسيط نجاح إلي التصديق .. ) .
ولكن هذا الموقف يتغير عليالتدريج ، ولا يشعر العالم اليوم أنه يعطي العلمحقه من الوقار حين يبتدئ بالإنكار في هذا المجال ، أو يرجح الإنكار بغير دليل قاطع يقاوم أدلة التصديق . فمن لم يقبلها من العلماء لم يأنف من اعتبارها صالحة للقبول مع توافر الأدلة وتمحيص التجربة من الوهم وخطأ الملاحظة .
علي أنها -سواء دخلت في مقررات العلم أو لم تدخل إلي حاسة في الإنسان غير العلم بالشئ الذي هو موضوع الإيمان ، لأن الإنسان لا يؤمن علي قدر علمه وإنما يؤمن علي قدر شعوره بما يعتقد ومجاوبته النفسية لموضوع الاعتقاد ، وطبيعة الاعتقاد في هذه الخصلة مقاربة لطبيعة اثنان أمام صورة واحدة يعلمان كل شيء عنها وعن صاحبها وعن أدواتها وألوانها وتاريخها لم يكن شرطا لزاما أن يتساويا في الإعجاب بها والشعور بمحاسنها كما يتساويان في العلم بكل مجهول عنها ، وصدق من قال أن القداسة مزيج من العجب والرهبة ، ولا يتوقف العجب من الأمر المقدس علي استكناه كل ما ينطوي عليه .
وستظل هذه الظواهر تفصيلا يجوز الشك فيه لقاعدة مقررة لا يجوز الشك فيها : ونعني بالقاعدة المقررة أن الموجودات أعلم من المحسوسات .
فهناك موجودات أكثر مما نحس بل هناك موجودات قابلة للإحاطة بها من طريق الإحساس أكثر مما نحسه الآن بالآلات ووسائل التقريب والتضخيم .
ولا تزال غرائزالحيوان تدلنا علي ضروب من الإحساس الخفي لا يعللها العلماء بأكثر من تسميتها باسم الغريزة ، كأنهم إذا لجأوا إلي كلمة مبهمة لا يفهمونها كانوا أجدر بكرامة العلم من الجاهل الذي يفسر الأمر كله بقدرة إله .
وفي الغريزة عبر كثيرة لا تنسي في صدد الكلام عن الحاسة الدينية وخطأ الإنسان في التعبير عنها وتمثيل موضوعاتها .
فقد يساء استخدام الغريزة ولا يقدح ذلك في نشأتها ولا في وجهتها ، كالطير الذي يهاجر للسلام أو للغذاء فيسقط في البحر من الإعياء لأنه يختار طريقا انقطع بطغيان البحر عليه منذ عصور . فباعث الغريزة موجود ومعقول ، وحب السلامة موجود ومعقول ، وخطأ المحاولة في استخدام الغريزة لا ينفي صدق هذا ولا صدق ذاك .
والإنسان في غريزته النوعية يخدم نفسه ويضل عن الغاية من حيث يشعر أو لا يشعر بانخداعه وضلاله : يخدع نفسه حين يحسب أنه يمل للذاته أو يعمل للذته ، ويضل ضلالا بعيدا حين يقتل عشرين رجلا كبيرا ليكفل القوت أو السلامة لطفل واحد هو ابنه الذي لم يلده إل لبقاء النوع كله . يقتل عشرين رجلا مخلوقا ناميا من النوع لبقاء مخلوق منه غير موثوق بنمائه ، وهو يطاوع الغريزة النوعية بذلك ولا يناقضها في نهاية المطاف . لأن حب الأبناء لو توقف علي الحساب العددي والموازنة بين الكثرة والقلة لما حرص أناس علي الأبناء ولا ظفر النوع بالبقاء .
وأدخل من ذلك في ضلال الغريزية وثبوتها في وقت واحد أن الأب الذي يدس عليه طفل غير ابنه ولا يخالجه الشك فيه يحبه ويرعاه ويفتدي بقاءه ببقاء الكثيرين ، ولا يجوز من أجل ذلكأن يقال أن الغريزة النوعية (غير صحيحة) لأن الولد (غير صحيح) .
فالتعبيرات عن الحاسة الدينية تقبل الخطأ الكثير ، ولا يستفاد من ذلك أن الحاسة الدينية غير لازمة أو أنها مكذوبة النشأة في أساس التكوين .
وهذا الذي سميناه (بالوعي الكوني) هو الذي يحس بوطأة الكون فيترجمها علي قدر حظه من التصور والتصوير ، فيقع الخطأ الكثير في التعبير وفي محاولة التعبير ، ولا يمتنع من أجل ذلك أن نتلقي الكون بوعي لا شك في بواعثه وغاياته ، وإن أحاطت بتعبيراته شكوك وراء شكوك .
وربما كان هذا (الوعي الكوني) فرضا صادقا أو راجحا ثم ينتهي به الأمر عند ذلك ، لو لم تكن ظاهرة التدين التي تترجم عنه ملازمة لبني آدم في جميع الأماكنومن أقدم الأزمان ، ولو لم ينبغ في الناس أفراد من ذويالعبقرية تملأهم روعة المجهول .. ولكن الأديات تعم البشر ولا تغنيهم عنها غريزة حب البقاء أو غريزة حب النوع أو حب المعرفة أو دواعي السياسة الاجتماعية . وقد وجدت أديان تبشر بالفناء ولا تبشر بالبقاء وتحرم علي كهانها النسل ولا تعدهم شيئا في السماء . فهي -أي الأديان- من وعي غير وعي التحفظ والسلامة وغير وعي السياسة ودواعي الاجتماع . وقام في العالم عباقرة دينيون لا يهدأون بما يجيش في نفوسهم من قوة الشعور بالمجهول . ولو كان هذا المجهول المغيب عن النس لا يستحق أن تجيش به نفس إنسانية لصرفنا سيرة هؤلاء العباقرة بكلمة واحدة : هي كلمة الجنون الذي وصفوا به كلما ظهروا بين قبيل من المعاندين ، ولكن (المجهول المغيب) أحق من جميع الموجودات بهذا الجيشان العظيم ، فالطبائع التي امتازت باستيعابه واتسعت لدوافعه لا تمتاز بخلل خلو من المعني ، بل تمتاز باستقامة في التكوين فيها كل معني كبير من معاني الشعور العميق .
وقد أحسن الإنسان قبل أن يفكر . فلا جرم ينقضي عليه ردح من الدهر في بداءة نشأته وهو يفكر حسيا أو يفكر (لمسيا) فلا يعرف معني الموجود إلا مرادفا لمعني المحسوس أو الملموس . فكل ما هو منظور أو ملموس أو مسموع فهو واقع لا شك فيه ، وكل ما خفي علي النظر أو دق عن السمع واللمس فهو والمعدوم سواء .
وقد كان (للحاسة الدينية) فضل الإنقاذ الاول من هذه الجهالة الحيوانية . لأنها جعلت عالم الخفاء مستقر وجود ، ولم تتركه مستقر فناء في الأخلاد والأوهام . فتعلم الإنسان أن يؤمن بوجود شيء لا يراه ولا يلمسه بيديه . وكان هذا (فتحا علميا) علي نحو من الأنحاء ولم ينحصر أمره في عالم التدين والاعتقاد . لأنه وسع آفاق الوجود وفتح البصيرة للبحث عنه في عالم غير عالم المحسوسات والملموسات ، ولو ظل الإنسان ينكر كل شيء لا يحسه لما خسر بذلك الديانات وحدها ، بل خسر معها العلوم والمعارف وقيم الآداب والأخلاق .
ويجيء الماديون في الزمن الأخير فيحسبون أنهم جماعة تقدم وإصلاح للعقول وتقويم لمبادئ التفكير . والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقري إلي أعرق العصور في القدم ، ليقولوا للناس مرة أخري أن الموجود هو المحسوس وأن المعدوم في الأنظار والأسماع معدوم كذلك في ظاهر الوجود وخافيه ، وكل ما بينهم وبين همج البداءة من الفرق فيهذا الخطأ -أن حسبهم الحديث يلبس النظارة علي عينيه ويضع المسماع علي أذنيه !
ويحسبون علي هذا أنهم يلتزمون حدود العلم الأمين حين يلتزمون حدود النفي ويصرون عليه في مسألة المسائل الكبري ، وهي مسألة الوجود ، بل مسألة الآبادالتي لا ينقطعالكشف عن حقائقها في مئات السنين ولا ألوف السنين ولا ملايين السنين .
(لا) إلي آخر الزمان في هذه المسألة الكبري ... ونحن لا نستطيع أن نقول (لا) إلي آخر الزمان في مسألة من مسائل الحجارة أو المعادن أو الأعشاب أو مسائل البيطرة وعلاج الأجسام .
وليس النوع البشري علي أبواب محكمة يخاصم فيها من يثبتون أو ينكرون ويتحداهم وهو جالس في مكانه أن يثبتوا له ما ينفيه ولا يهتدي إليه بالعين والمجهار . ولكنه علي الأقل أمام (معمل للتجارب) يبدأ فيه البحث ويعيده ثم يبدأويعيد في كل عصر علي ضوء جديد ، وهو أمام الكون خاصة لم يكد يبدأ البحث في مسألة الآباد إلا منذ مئات معدودة من السنين . فيا له من علم بديع هذا العلم الذي يقطع بالنفي إلي آخر الزمان .. دون أن يتردد أو ينتظر مفاجآت الزمان .
والواقع أن العلم كله يقوم علي أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم علي أساس النفي والإصرار . وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوي في سجلها تاريخا طويلا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوت ، وإن تكررت دواعي الشك بل دواعي القنوط . فبحث الإنسان عن العقاقير وبحث عن المعادن وبحث عن الثمرات والغلات بروح ترتقب ويجابا وثبوتا ولا تنتقل من نفي إلي نفي ومن إصرار إلي إصرار ، وهذه روح العلم أمام الصغائر من شئون البيوت والأسواق ، فلماذا تكون روح العلم إصرار محضا وإنكارا متلاحقا علي غير أساس ويعقب ترقب أو انتظار في نفي كبري المسائل علي الإطلاق ؟
وأجدر الأزمنة أن تبدل فيه هذا الموقف هو الزمن الذي تكشف فيه الأجسام من عنصرها الأول ، فإذا هو إشعاع أو حركة في فضاء . فاقترب الوجود المادي نفسه من عالم المعقولات والمقدورات ، وتقرر لنا أن الحواس لا تستوعب معني الوجود في الصميم ، لأن زوال العدم هي الصفة الوحيدة اللازمة للوجود ، ولا يستلزم زوال العدم تجسما ولا تجرما ولا كثافة من هذه الكثافات التي تتمثل بها الأجسام للحواس بل يكفي فيه حركة مقدورة أو معني كأنه من طبيعة المعقولات . فما أضدق النطاق الذي بقي للحس الظاهر من أسرار الوجود . وما أحرانا أن نفسح للوعي الكوني وللبداهة مجالا يتسع مع الزمان ، ولا نحبسه في نطاق معين يضيق ثم يضيق حتي يسقط من الحسبان .
والإنسان قد رأي نور الشموس والكواكب بعينه منذ مئات الألوف من السنين ، ولو يقبس نور الكهرباء من ينبوع الضياء الكوني إلا في القرنالأخير . فتدرج من قدح الحجر إلي حك الحطب إلي فتيلة الدهن إلي غاز الاستصباح إلي نور الكهرباء في هذا الأمد الطويل من الدهور وراء الدهور .
فوعيه الباطن لم يقصر عن وعي عينيه في هذا الشوط البعيد ، لأنه تنقل من عبادة الحصي والحشرات إلي عبادة الإله الواحد في بضعة آلاف من الدورات الشمسية ، وجاز لنا أن نقول أن ضميره كان أسرع من عينيه إلي اقتباس الضياء ، وكان أقدر من فكره علي مغالبة الظلام . ورأي ظلام ؟ إنه لم يكن ظلاما كظلام الليالي والكهوف يسلم مقاده لكل قادح زند أو نافخ عود ، ولكنه كان ضلااما تجوس فيه مردة الجهل وشياطين العادات وأبالسة المطامع والشهوات . فإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي حاجة الضمير إلي ذلك النور الذي اهتدي به ، وأهتدي إليه .
تأليف : عباس محمود العقاد
ــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية ، منذ اتخذ الإنسان ربا إلي أن عرف الله الأحد ، واهتدي إلي نزاهة التوحيد وقد بدأناه بأصل الاعتقاد في الأقوام البدائية ، ثم لخصنا عقائد الأقوام التي تقدمت في عصور الحضارة ،ثم عقائد المؤمنين بالكتب السماوية ، وشفعنا ذلك بمذاهب الفلاسفة الأسبقين ، ومذاهب الفلاسفة التابعين ، وختمناه بمذاهب الفلسفة العصرية ، وكلمة العلم الحديث في مسألة الإيمان .
وكانت عنايتنا فيه بالعقيدة الإلهية دون غيرها . فلم نقصد فيه إلي تفصيل شعائر الأديان ولا إلي تقسيم أصول العبادات ، لأن الموضوع علي حصره في نطاقه هذا أوسع من أن يستقصي كل الاستقصاء في كتاب .
وإن موضوعا كهذا الموضوع المحيط لعرضه للتشعب والتطويل كيفما تناوله الكتاب ومن أي جانب تحراه ، فلابد فيه من إيجاز ، ولابد فيه من اكتفاء .
غير أننا تحرينا الإيجاز وتحرينا معه أن يغنينا فيما قصدناه وذاك هو الإلمام بأطوار العقيدة الإلهية علي وجهتها إلي التوحيد ، وأن تكون هذا الأطوار مفهومة العلل والمقدمات .
وأن الله الذي هدي الأمم كافة علي هذا النهج البعيد ، لكفيل أن يهدينا عليه ، وأن يوفقنا لسداد النظر فيه . فلا هداية إلا به ، ولا معول إلا عليه . إنه سميع بصير مجيب .
عباس محمود العقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العقيدة الإلهية
أصل العقيدة
ترقي الإنسان في العقيدة كما ترقي في العلوم والصناعات .. فكانت عقائده الأولي مساوية لحياته الأولي ، وكذلك كانت علومه وصناعته . فليست أوائل العلم والصناعة بأرقي من أوائل الأديان والعبادات ، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخري .
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات ، لأن حقيقة الكون الكبرى اشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخري .
وقد جعل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان ، ولبثوا ألي زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام ، ولعلها لا تزال .
فالرجوع إلي أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولي لا يدل علي بطلان التدين ، وعلي أنها تبحث عن محال . وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى اكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد .
* * *
يري كثير من العلماء أن الأساطير هي أصل الدين بين الهمج . وهو رأي لا يرفض كله ولا يقبل كله . لأن العقائد الهمجية قد تلبست بالأساطير في جميع القبائل الفطرية ، فلا يسهل من أجل هذا أن نرفض القول بالعلاقة بين الأسطورة والعقيدة ، ولكن لا يسهل من جهة أخري أن نطابق بين العقيدة والأسطورة في كل شيء وفي كل خاصة ، لأن العقيدة قد تحتوي الأسطورة ولكن الأسطورة لا تحتويها ، إذ يشتمل عنصر العقيدة علي زيادة لا يشتمل عليها عنصر الأسطورة ، وهي زيادة الإلزام الأخلاقي والشعور الأدبي بالطاعة والولاء ، والأمل في المعونة والرحمة من جانب الرب المعبود .
وقد وجدت أساطير كثيرة لا تتجاوز الأوصاف الرمزية والمشابهة الفنية التي طبع عليها الخيال : فهي ترجع إلي ملكة التجسيم والتصوير ، ولا ترجع إلي ملكة الإيمان والاعتقاد .
ووجدت أساطير كثيرة سببها عجز اللغة الإنسانية في نشأتها الأولي ، كما ثبت للعلامة اللغوي ماكس موللر صاحب هذا التفسير لنشأة الأساطير ، فإن الذي يقول إن الأرض أم الثمرات كالذي يقول في العصر الحديث إن فرنسا أم الثورة ، ولكننا نعرف التلاقح الحي فلا نخلط بين الحقيقة والمجاز ، ولم يكن الأقدمون علي علم بذلك فلا يمضي الزمن علي التشبيه حتى تصبح الأمومة المجازية كأمومة الواقع بين الأحياء .
ويري تايلورTylor أن ملكة الاستحياء Animism هي أصل الاعتقاد بالأرباب .
فالطفل يضرب الكرسي إذا أوقعه كما يضرب الإنسان والحيوان تايلور يعتقد أن الإنسان الأول كان الطفل في تخيله للأشياء وتمثله لها في صور الأحياء .
ويسبق هيربرت سبنسر هذا التفسير بتفسير يوافقه في ظواهر الاستحياء ولا يوافقه في تعليل الاستحياء .
فالإنسان –الأول- علي رأي سبنسر-كان يؤمن بحياة الأرباب لأن عبادة الأسلاف هي أقدم العبادات ، وكان يري الأطياف في المنام فيحسب أنها باقية ترجي وتخشى ، وأنها تتقاضاه فروضا لها عليه كفرض الآباء علي أبناء وهم بقيد الحياه .
ولكن يرد علي القوم بعبادة الأسلاف أنها لم تستغرق عبادات الأقدمين في زمن من الأزمان ، وأن النائم يري أطياف الغربان كما يري أطياف الآباء ، ويري أطياف الأطفال الضعفاء بل يري أطياف السباع التي يخافها في يقظته فلا يعبدها لأنه يخافها وتردد عليه أطيافها ، بل يقتلها ويحول بينها وبين الطعام .
وقد شوهد منذ القدم أن طبيعة السحر غير طبيعة العبادة في أساسها ، لأن السحر منوط أبدا بالأمور الخبيثة والوسائل الدنسة والنفايات التي تعاف وتنبذ في الخفاء ، ولم تخل العبادة قط من توسل إلي الخير ورجاء في كرم المعبود ، وقلما تخلو من (تطهر) بنوع من أنواع الطهارة يناقض وسائل السحر الخبيث ، فكأنما فرق الناس بين العبادة والسحر عندما فرقوا بين الأرباب المرجوة والأرباب المرهوبة ، فاتخذوا العبادة لأرباب الخير والمحبة واتخذوا السحر لأرباب الشر والبغضاء .
* * *
والأكثرون من ناقدي الأديان يعللون العقيدة الدينية بضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعداءه فيه من القوي الطبيعية والأحياء ، فلا غني له عن سند يبتدعه ابتداعا ليستشعر الطمأنينة بالتعويل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه .
علي أن القول بضعف الإنسان تحصيل حاصل إن أريد به بطلان العقيدة الدينية وإثبات التعطيل . لأن الإنسان ضعيف علي كلي الفرضين فليس من شأن ضعفه أن يرجح أحد الفردين علي الآخر .
فإذا ثبت أن من خلق إله فعال قدير فهو ضعيف بالنسبة لخالقه ، وإذا لم يثبت ذلك فهو ضعيف بالنسبة إلي الكون ومظاهره وقواه . فماذا لو كان قويا مستغنيا عن قوي العالم ؟ أيكون ذلك أدعي إلي إثبات العقيدة الدينية والإيمان بالله ؟ .
إننا إذا حكمنا ببطلان العقيدة الدينية لضعف الإنسان فقد حكمنا ببطلانها علي كل حال ، ثبت وجود الله أو لم يثبت بالحس أو البرهان ..! لأنه لن يكون إلا ضعيفا بالنسبة إلي الخالق الذي يبدعه ويرعاه .
لكن الواقع أن الضعف لا يعلل العقيدة الدينية كل التعليل لأنها تصدر من غير الضعفاء بين الناس . وليس أوفر الناس نصيبا من الضعف الإنساني سواء أردنا ضعف الرأي أو ضعف العزيمة فقد كان الأنبياء والدعاة إلي الأديان أقوياء من ذوي البأس والخلق المتين والهمة العالية والرأي السديد . ومهما يكن من الصلة بين ضعف الإنسان واعتقاده فهو لا يزداد اعتقادا كلما ازداد ضعفا ولا يضعف علي حسب نصيبه من الاعتقاد ، ومازال ضعفاء النفوس ضعفاء العقيدة وذوو القوة في الخلق ذوي قوة في العقيدة كذلك .
فليس معدن الإيمان من معدن الضعف في الإنسان ، وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل ، ولا إمام الناس في الاعتقاد إمامهم في الوهن والهزال .
وإذا رجح الأمر بأن العقيدة (ظاهرة اجتماعية) يتلقاها الفرد من الجماعة فليس الضعف إذن بالعامل الملح في تكوين الاعتقاد . لأن الجماعة تحارب الجماعة بالسلاح المصنوع وقوة الجنان مع القوة العددية ، وتقيس النصر والهزيمة بهذا المقياس المعلوم ، فلا تلجأ إلي مقياس العقيدة المجهول إلا إذا آمنت به باعث التسلح والاستقواء .
ورأي فرويدFreud قريب من رأي هؤلاء الذين يردون العقيدة الدينية إلي شعور بالخوف في وسط العناصر الطبيعية وربما اختلط به مزيج من الغريزة الجنسية في بعض المتهوسين وذوي الأعصاب السقيمة . فإن حب الله –كما يفسره فرويد عند هؤلاء- هو بمثابة الحب الجنسي في حالة (التسامي) أو حالة الحماسة ، وتتشابه العوارض كلها مع هذا الفارق بين الحبين
ومن الواضح أن حالة (التسامي) هي آخر ما ارتقت إليه الديانات ، فلا يمكن أن يقال إنها هي ينبوع العقيدة الهمجية الأولي .
ولا يمكن كذلك أن يقال إن (العقيدة الدينية) حالة مرضية في الآحاد والجماعات . لأننا لا نتخيل حالة نفسية هي أصح من حالة البحث عن مكان الإنسان من هذا العالم الذي ينشأ فيه ، ولا يتجاهل حقيقته إلا وهو في (حالة مرضية) أو حالة من أحوال الجهالة تشبه الأمراض .
ولا بد أن نسأل : ما هو الكون في نظر الهمج الأولين ؟ لأن الهمجي إذا أدرك أن الكون (كل واحد) كان قد ارتفع بنظرته عن الجهالة البدائية وقضي دهرا طويلا وهو متدين علي مختلف الديانات فلا يقال إذن أنه بقي بغير أرباب حتي أدرك الكون العظيم ، وأدرك ضعفه وقلة حيلته بالقياس إليها .
* * *
وطائفة أخري من علماء الإنسان يقرنون بين (الطوطم) والدين ويظنون أن الطواطم هي طلائع الأديان بين الهمج الأولين .
وقد تحقق أن شعائر الطواطم منتشرة بين مئات القبائل الهمجية في أستراليا وأفريقية والأمريكتين وبعض أقطار القارة الآسيوية وجزائرها .
فلا تزال في هذه القارات قبائل كبيرة وصغيرة تتخذ لها علي الأكثر حيوانا تجعله طوطما وتزعمه أبا لها أو تزعم أن أباها الأعلي قد حل فيه ، وقد يكون الطواطم في بعض الحالات نباتا أو حجرا يقدسونه كتقديس الأنصاب .
وإذا اتخذت القبيلة طوطما لها حرمت قتله وأكله في أكثر الأحوال وحرمت الزواج بين الذكور والإناث الذين ينتمون إلي ذلك الطوطم ولو من بعيد . وقد يكون للقبيلة الكبري بطون متفرقة تتعدد طواطمها ويجوز الزواج بين المنتمين إليها ولكنهم يحرمونه في الطوطم الكبير .
ومن هذه الطوطمية يرجح المخالفون لهذه الفكرة أن الطوطمية لم تكن أصل العقيدة الدينية لأنها تنشأ بعد اتساع القبائل واعترافها بأنظمة الزواج وآداب المعاملات ، وليست هذه المرحلة أولي المراحل في تطور الاعتقاد .
ولا شك أن الناس قد عرفوا شيئا يسمي (الروح) يحل في جسد الحيوان أو يتلبس به قبل أن يعرفوا الطوطمية ، وعرفوا كذلك تقديس الأسلاف قبل أن يعرفوها وقد وجدت قبائل لا تخلع علي الطواطن صفة الأرباب علي الإطلاق.
والفيلسوف الفرنسي – هنري برجسون-يرجع بالعقيدة الدينية إلي مصدرين : أحدهما اجتماعي لفائدة المجتمع أو فائدة النوع كله والآخر فردي يمتاز به آحاد من ذوي البصيرة والعبقرية الموهوبة.
فالحاسة الدينية الأجتماعية هي (حيلة نوعية) يلجأ إليها خيال النوع الإنساني لكبح الأثرة الفردية وأقناع الإنسان بنسيان مصالحه في سبيل المصالح الأخري التي تتعلق بها حياة النوع في جميع الأجيال ، فإن الإنسان لو استوحي عقله وحده خدم نفسه وأطاع لذته ولم يحمل الألم ولا الحضارة من أجل أبنا نوعه . ولما كانت ارادة الحياة مستكنة في النوع كما هي مستكنة في آحاده علي انفراد نشأت من الغريزة النوعية ملكة يسميها برجسون بملكة الخرافة الرمزية أو ملكة اساطير وتكفلت الإنسان بخلق العوض الذي يستعيض به عن منافعه ولذاته حين يهجرها لمنفعة نوعه . فاعتقد الجزاء بعد الحياة وأحس أنه محاسب علي الأضرار بغيره مثاب علي الخير الذي يسديه إلي أبناء نوعه ، واقترنت فيه أثرة الفرد بأثرة النوع ، فاستقامت علي التوازن بينهما مصلحته ومصلحة الناس أجمعين .
أما الحاسة الدينية في الفرد الممتاز فهي الإلهام أو الكشف الذي يصل بينه وبين قوة الخلق أو دفعة الحياة Elal Vital كما يسميها برجسون ، وقد تطورت دفعة الحياة هذه في ذهن الفيلسوف حتي أصبحت في كتبه الأخيرة ذاتا إلهية تغير ولا تتغير ولكنها كونية غير منفصلة عن هذه الموجودات وهي تجلي علي أكملها وأوضحها في بديهة النخبة المختارين من كبار العباقرة الروحانيين ، وهم خالدين كما يرجح الفيلسوف أو أن خلودهم مسألة لا يمنعها العقل ولا يبعد أن تحققها الدراسات النفسية بالأساليب النفسية , ولو بعد حين .
ويسأل السائل هنا : إذا كانت للخلق قوة كونية تتجلى لبعض الملهمين فلماذا تكون الحاسة الدينية الإجتماعية وهما مختلقا أو خرافة مزخرفة أو اختراعا لا أساس له غير الحيلة النوعية لحفظ البقاء ؟ لماذا لا تكون من قبيل التلمس البديهى لتلك القوة الكونية ؟ لماذا لا تكون من قبيل الهداية المتدرجة فى طريق البحث الصادق عن الحقيقة المجهولة ؟ لماذا يكون فى هذا الوجود ذات إلهية ثم نسمى البحث عنها حيلة مختلقة أو وهما من الأوهام .
* * *
وممن يسمع له رأى راجح فى مباحث العقيدة إمام علماء اللغات المحدثين (ماكس موللر) صاحب الرأى المعدود فى اشتقاق اللغات ومعانى الأساطير وعلاقتها بالعقائد والعبادات , فهو يؤمن بأن البصيرة سمة عريقة فى الإنسان وأننا كما قال ـ فى كلامه على مقارنة الأساطير ـ ( مهما ترجع بخطوات الإنسان إلى الوراء لن يفوتنا أن نتبين أن منحة العقل السليم المستفيق كانت من خصائصه منذ أوائل عهده وأن القول بإنسانية متسلسلة على التاريخ من أعماق البهيمة إنما هو قول لن يقوم عليه دليل ).
ومصداقا لهذا الرأى يرجح موللر أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذى ليس له انتهاء , وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراهفى الكون وهو الشمس التى تملأ الفضاء بالضياء , فهو محور الأساطير والعقائد كما ثبت له من المقايلة بين اللغات واللهجات.
وإذا قيل لموللر أن الأبد أو اللانهاية معنى لا توجد له كلمة فى اللغات الهمجية ولا الحضارة الأولى قال إن الإحساس بالمعانى يسبق اختراع الكلمات , وقد ثبت أن الإنسان الأول لم يضع فى لغاته كلمات لبعض الألوان .
وإلى هنا نحسب أننا ألممنا بأهم الفروض التى خطرت على الأذهان فى تعليل العقيدة الدينية,أو تعليل نشأتها الأولى ..
وجملة ما يقال فيها أننا لا نجد فرضا منها يستوعب أسباب العقيدة كلها ويغنينا عن التطلع إلى غيره .. وجملة ما نفهمه من ذلك أن مسألة العقيدة أكبر من أن يحصرها تعليل واحد وأنها قد تتسع لجميع تلك التعليلات معا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات .
ولا بد أن تمتزج هذه الصلة بالوعى والشعور متى كان الموجود من أصحاب الوعى والشعور . ومن العجيب أن يعرف العلماء شيئا يسمى الغريزة النوعية . بل شيئا يسمى غريزة الكونية , أو ما شاءوا من الأسماء .. فمن المحقق فمن المحقق ان الصلة بين الكون وموجوداته ماثلة فى جميع الموجودات . ومن المحقق أن الوعى لا يخلو من ترجمان لهذه الصلة لا يحصره العقل . لأنه سابق له محيط به غالب عليه .. ومن المحقق أن الوعى الكونى ملكة قابلة للترقى والإتساع , لأن الحقائق التى تقبل الفهم فى الكون لا تزال على اتساع وارتفاع يفوقان كل وعى ترقى إليه بنو الإنسان .. بل هذه الحواس الجسدية ـ ودع عنك الحقائق المادية ـ لا تحيط بكل ما تحسه العيون والأنوف والآذان , فبعض الحيوان يستنشىء الرائحة على بعد أميال وهى كالعدم فى أنف حيوان آخر ولو كانت منه على مدى قراريط . وبعض الأصوات تلتقطها من وراء البحار والقفار وقد كان الظن قبل العصر الحاضر أن الصوت ( عدم) على مد البصر القريب . ومن زعم أن الموجود هو ما تناوله الحس دون غيره كذبه الحس نفسه وقامت عليه الحجة من العيون والأنوف والآذان , فضلا عن البصائر والعقول .
ففى الكون مجال للوعى الكونى أوسع من مجال الحواس والملكات وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلابد من دخولها فى نطاق وعيه على مثال من الأمثلة ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التى تطيقها ملكات الجنس البشرى, ومنها ملكة الإعتقاد والإيمان .
وفى الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلى الآن. .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أطوار العقيدة الالهية
يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب :
وهي دور التعددPolytheism
ودور التنيز والترجيحHenotheism
ودور الوحدانيةMonotheism
ففي دور التعدد كانت القبائل الأولي تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات وقد تتجاوز العشرات إلي المئات ، ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة رب تعبده أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور وتقبل الصلوات والقرابين .
وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقي الأرباب علي كثرتها ويأخذ رب منها في البروز والرجحان علي سائرها . إما لأنه رب القبيلة الكبري التي تدين لها القبائل الأخري بالزعامة وتعتمد عليها في شئون الدفاع والمعاش ، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة .
وفي الدور الثالث توحد الأمة فتجتمع إلي عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها علي غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها .
والرأي الأرجح عند علماء المقابلة بين الأديان أن الاعتقاد بالثنائيةDualism يأتي أحيانا كثيرة بعد اعتقاد الوحدانية علي الصورة التي أجملناها ، وهي الوحدانية الناقصة التي تأذن لوجود الأرباب معها أو بتنازع الوحدانية بين إله دولة وإله دولة أخري .
وهم يعللون ظهور الثنائية بعد الوحدانية بأن الإنسان يترقي في هذا الطور فيحاول تفسير الشر في الوجود بنسبة إلي إله غير إله الخير ، ولا هذا يكون من قبيل النكسة في عقيدته . لأنه لا يزال يسيغ تعدد الأرباب ويسيغ التمايز والترجيح بينها والتفاوت بين درجاتها وطبائعها .
وأثبت من هذا عندهم –أي عند علماء المقابلة بين الأديان- أن وحدة الوجود Pantheism تأتي بعد جميع هذه الأطوار توفيقا بين النقائض والضرورات ، وإثبتا لوجود الله من طريق الثبوت الذي لا شك فيه ، وهو ثبوت الكون بالحس والعقل والإيمان .
ولم تكن أرباب الأمم الماضية في جميع أطوارها نوعا واحدا أو مثلا لفكرة واحدة ، ولكنها أنواع شتي يمكن أن نجمعها في الأنواع الآتية :
وهي:
1- أرباب الطبيعة أو الأرباب التي تتمثل فيها مشاهد الطبيعة وقواها كالرعد والبرق والمطر والفجر والظلام والينابيع والبحار والشمس والقمر والسماء والربيع .
2- وأرباب الإنسانية وهي الأرباب التي تقترن بأسماء الأبطال والقادة المحبوبين والمرهوبين ، ويحسبهم عبادهم من القادرين علي الخوارق والمعجزات .
3- وأرباب وأرباب الأسرة وهم الأسلاف الغابرون ، يعبدهم أبناؤهم وأحفادهم ويحيون ذكراهم بالحفلات والمواسم المشهودة كما يحيي الناس ذكري الموتى في هذا الزمان ويزورونهم بالأقوات والألطاف ، ولكن مع هذا الفارق البين : وهو أن الرجل الهمجي لا يمنعه مانع أن يجعل الذكري عبادة وأن يجعل هدايا القبر في حكم الضحايا والقرابين .
4- أرباب المعاني كرب العشق ورب الحرب ورب الصيد ورب العدل ورب الإحسان ورب السلام .
5-أرباب البيت كرب الموقد ورب البئر ورب الجرن ورب الطعام .
6- وأرباب النسل والخصب وهي علي الأغلب الأعم في صورة الإناث ويسمونها بالأمهات الخالدات ، وقد ترقت مع الزمن إلي واهبات الخلود بعد هبة الحياة .
7- وآلهة الخلق التي ينسب إليها خلق السماوات والأرض والإنسان والحيوان .
8- والآلهة العليا وهي آلهة الخلق التي تدين عبادتها بشرائع الخير وتحاسبهم عليها وتجمع المثل العليا للمحاسن والأخلاق ، وتضمن السعادة الأبدية للأرواح في عالم البقاء .
وهذه الطبقة من طبقات العبادة هي أرقي ما بلغته الإنسانية في أطوارها المتوالية ، واستعدت بعده للإيمان بإله واحد لجميع الأكوان والمخلوقات بغير استثناء أمة من الناس .
* * *
ومن العسير جدا أن نبني من هذه الأطوار جميعا سلما متعاقب الدرجات لا تتقدم فيه درجة علي درجة ولا يتلاقي فيه نوعان أو أكثر من نوعين من المعبودات .
فقبائل الهوتنتوت الأفريقية التي لم تفارق مرتبة الهمجية حتي اليوم ، ولا يزال أناس منها يأكلون لحوم البشر تعرف إلها واحدا فوق جميع الآلهة يسمي أبا الآباء .
وقبائل البانتو الأفريقيون يقسمون المعبودات ي ثلاث أنواع : نوع هو بمثابة الأطياف الإنسانية الراحلة وهو الذي يسمونه ميزيمو Mizimu ونوع هو أرواح لم تكن قط في أجساد البشر وهو الذي يسمونه Pepo ويزعمونه قابلا للتفاهم والاتصال بالعرافين والحكماء ، ونوع مفرد لا جمع له وليس من الأطياف ولا من الأرواح المتعددة ويسمونه مولنجو Mulungo .
لا يمثلونه في وثن ولا تعويذة ولا تفلح فيه رقية الساحر ولا حيلة العراف ، وفي يديه الحياة والسطوة ووسائل النجاح في الأعمال ، ويصفونه بأعلي ما في وسعهم من صفات التجريد والتفرد والكمال .
وكفار العرب كانوا قبيل البعثة المحمدية يدين أناس منهم بالمسيحية وأناس باليهودية ويذكرون (الله) علي ألسنتهم ويسمون أبناءهم بعبد الله وتيم الله .. ويعبدون مع ذلك أسلافهم فيقولون إن أصنام الكعبة تماثيل قوم صالحين ، كانوا يطعمون الطعام ويصلحون بين الخصوم فماتوا فحزن أبناؤهم وإخوانهم عليهم وصنعوا تلك الأصنام علي مثالهم وعبدوهم من فرط الحب والذكري ، ولكنهم لم يعبدونهم إلا ليقربوهم إلي الله زلفي .
ووصل المصريون إلي التوحيد ، وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة علي حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله . فكان أوزيرس هو إله الشمس باسم توت وهو في الوقت نفسه إله العالم الآخر وإله الخلق أيضا حيث ينبت منه الزرع ويصورونه في كتاب الموتي جسدا راقدا في صورة الأرض تخرج منه السنابل والحبوب ، وكانوا بعد كل هذه الأطوار يرسمون أوزيرس علي مثال مومياء محنطة ويردون أصله إلي العرابة المدفونة . كأنهم لم ينسوا بعد عبادة الإله الواحد الخالق للكون كله – عبادة الموتي أو الأسلاف .
واليهود عبدوا العجل بعد عبادة الله الواحد ، وسموا الإله الواحد باسم الجمع وهو في العبرية (الوهيم) أو الآلهة .. ثم أصبح الجمع علامة التعظيم .
فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه ، ولكنه لم يكن علي سلم واحد متعاقب الدرجات . بل كان علي سلالم مختلفة تصعد من ناحية وتهبط من ناحية أخري .
إلا أن المشاهدات التي أحصاها علماء المقابلة قد تتوافي كلها إلي نتيجة يجمعون عليها ، وهي : أن الإيمان بالأرواح شائع في جميع الأمم البدائية ، وأن الأمم التي جاوزت هذا الطور إلي أطوار الحضارة وإقامة الدول لا تخلو من مظاهر العبادة الطبيعية أو عبادة الكواكب علي الخصوص وفي طليعتها الشمس والقمر والسيارات المعروفة ، وأن عبادة الأسلاف تتخلل هذه الأطوار المتتابعة عل أنماط أنماط تناسب كل طور منها حسب نصيبه من العلم والمدنية .
أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبري . فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو علي الآلهة قدرا وقدره وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتي تزول أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله الأعلي .
لكن الأديان الكتابية –بعد كل هذا- هي التي بلغت بالتوحيد غاية مرتقاة وعلمت الناس شيئ فشيئا عبادة الإله (الأحد) الذي خلق الوجود من العدم ووسعت قدرته كل موجود في السماوات والأرضين ، ولم يكن له شريك في الخلق ولا في القضاء .
وذاك التوحيد الإلهي الذي نشأ من توحيد الدولة لم يعرض لخلق الكون كله ، ولم يذهب بفكرة التكوين إلي أبعد من خلق الإنسان من مادة موجودة لا حاجة بها إلي موجد . ولما بحثوا في خلق الأرض والسماء كانت فكرة الخلق عندهم بمثابة فكرة التنظيم والتجميل ، لأنهم نظروا إلي مادة الأرضين والسماوات كأنها حقيقة راهنة ماثلة للحس والنظر في غني عن المبدع ولا حاجة بها إلي شيء غير التركيب والتنسيق ، وفرضوا لتركيبها أسلوبا من الصناعة كأسلوب الإنسان في تركيب مصنوعاته من موادها الحاضرة بين يديه . وظل العقل البشري محصورا في هذا الأفق إلي عهد الديانة الإغريقية قبيل الدعوة المسيحية بل بعد الدعوة المسيحية في بعض الجهات بزمن غير قليل . فلم يكن (زوس) كبير الآلهة خالقها ولا خالق الكون بما رحبمن أرض وسماء ولكنه كان بينها كرب الأسرة بين الأبناء والأحفاد ، أو كالسيد المطاع بين الأعوان والأتباع ، وبلغ من سريان هذه (الحالة العقلية) في الأزهان أن الفلاسفة أنفسهم لم يجهدوا عقولهم في البحث عن أصل للمادة الأولي أو الهيولي . كان وجودها حقيقة مفروغ منها لا توقف علي مشيئة خارجة عنها . فلما ترقي الإنسان فجاء تفكيره في خلق الكون من طريق تعظيمه لقدرة الله وإفراده بالوجود الصحيح والقدرة السرمدية علي الإيجاد فاقتحم بالإيمان بابا لم يقتحمه بالتأمل والتفكير .
فالإيمان بالأرواح كان أشيع إيمان وألزمه لبديهة الإنسان في مبدأ هدايته للتدين والاعتقاد .
ولا مانع من تعليل اهتدائه إلي (الروح) بالعلة التي شرحها سبنسر وتيلور : وهي الأحلام واستيحاء الجماد ، إذ لم يكن في طاقته أن يفهم الروح فهما أصلح من هذا الفهم في ظلمات الجاهلية وعثرات النظر بين غياهب تلك الظلمات .
فكان ينام ويري أنه كان يعدو ويرقص ويأكل ويشرب ويقاتل في منامه ، ثم يستيقظ فإذا هو في مكانه لم ينتقل منه قيد خطوة إلي مكان غيره ، فيقع في حدسه أنه فعل ذلك بالروح الذي يسكن جسده ويتركه أو يعود إليه حين يريد . وكان يري الموتي في منامه فيحسبهم أحياء يتحركون مثله كما تحرك بروحه وهو نائم بجسده وراقب الموتي فرأي أنهم يفقدون النفس حين يموتون . فوقع في حدسه من ذاك أن النفس هي الروح والنفس والنسمة ، وكلمة بسيشيPsyche اليونانية معناها النفس كمعني سبريتSpirit في اللغات الأوربية الحديثة .. وفي ذلك دلالة لا شك فيها علي أصلها الأول من بداهة الإنسان .
ونحن الآن نفهم الظل الذي يلا زمنا ونفهم الصورة التي تتراءي لنا حين ننظر في الماء ، ولكن الهمجي لم يكن يفهم هذه الظلال ولا هذه الصور كما نفهمها الآن ، بل كان يحسبها نسخا حية منه يصاب من جهتها بالسحر والطلاسم ، ويصونها من كيد أعدائه كما يصون أعضاء جثمانه ، ويحار في هذا الازدواج فيلحقه بازدواج الأشباح والأجساد علي نحو من الأنحاء .
ولم يكن جهله بالأشياء دون جهله بالظلال والأشباح . فلا يستغرب منه أن يلبسها ثوب الحياة كما يفعل الطفل حين يعطف علي ماحوله من الأشياء أو يقابلها بالرهبة والإحجام ، وكثيرون من الراشدين المثقفين في عصرنا هذا يهتاجون فيخاطبون الجماد بالزجر والسباب كما يخاطبون الأحياء وتغلبهم عاطفة الحزن أو الوجد فيعتبون علي الشيء الذي لا حس له كأنه يحس منهم العتب والدعاء .
والمهم أن الإنسان الأول قد اهتدي إلي فكرة (الروح) من نواحيه التي تلائمه ، فكانت الهداية مفرق الطريق في اغلثقافة الإنسانية سواء منها ثقافة العقل أو ثقافة الضمير .
فتسني له بذلك أن يفتح لعقله منفذا إلي ما وراء المادة المطبقة علي حسة وفكره ، ولو ظلت مطبقة عليه هذا الإطباق لفاته العلم كما فاته الدين .
وتبدلت قيم الحياة كلها منذ دخل في روعه إمكان الوجود لما لم يلمس باليد وينظر بالعين . فمن هنا كل تفرقة بين الروح والجسد ، وبين العقل والمادة وبين الحركة والجمود وبين الخير والشر ، وبين النور والظلام وبين المعاني المجردة والأجسام المحسوسة ، ومن هنا كل اتساع في أفق النظر وراء الحيوان .
وإذا حسب الإنسان مكسبه من هذه الهداية فلا ينبغي أن يحسبه بما قصد بل بما وجد ، ولا ينبغي أن يقيسه علي خطئه في التعليل بل علي صوابه بعد ذلك في التوفيق بين العلل والمعلولات .
وينفعنا هنا أن نذكر قصة الأب الذي أوصي أبناءه وهو يودعهم ويودع الحياة أن ينبشوا الأرض عن كنز دفنه فيها ونسي مخبأه منها ، فلما نبشوا الأرض لم يجدوا كنزا من الذهب أو الفضة ، ووجدوا كنزا يساوي الذهب والفضة ، ويثمر لهم في كل عام كنوزا بعد كنوز . فلما وقع الإنسان الأول علي فكرة الروح وقع عليها خطأ لا شك فيه ، ولكنه خطأ توقف عليه إلهام الصواب في عالم العقل وعالم الضمير .
* * *
وقد امتزجت عقيدة الروح بكل عقيدة دينية بعد أطوار العقيدة البدائية وفي أثنائها ، فعبادة الأسلاف لا تخطر علي بال ما لم تخطر معها فكرة بقاء الأرواح ، وإنما تترقي الأ؟نماط علي حسب الترقي في المعارف والمعقولات . فالهمجي الذي جهل أسرار التناسل قد يتخذ له جدا معبودا يتمثله في شبح الأسد أو الكلب أو الصقر أو العقاب ، ولا ينكر أن يكون أبوه من سلالة الحيوان جسدا وروحا بغير مجاز ، لأنه لا يفقه المانع الذي يمنع الروح أن تسكن جسم حيوان كما تسكن جسم إنسان . والحضري الذي تهذب واستطلع أسرار الخليقة بعض الاستطلاع يجعل أباه روحا تتجلي في الشمس ويفرق بين أبوهالأجساد وأبوه الأرواح ، وعلي هذا المثال ولا ريب زعم الكهنة أن هذا الفرعون أو ذاك من الفراعين ابن الشمس أو ابن أوزيريس ، ولم يفهموا ولا فهم أحد من ذلك أنهم ينكرون أبوته الجسدية المسجلة بالميراث ، وبحقها يجلس علي عرش أبيه .
ولا يري علماء المقابلة أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة ، ولكنهم يقررون أن (ديانة الشمس) لم تنتشر في تلك الأطوار لأنها تستلزم درجة من الثقافة العلمية والأدبية لا تتيسر للهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ . فلا بد قبل ذلك من نظرة فلكية عالمية تحيط بعض الشيء بنظام الأفلاك وعلاقة الشمس بالفصول ومواعيد السنين .
وتستدعي ديانة الشمس غير هذا أن يرتفع العقل البشري بفكرة الخلق من أفق الأرض القريب إلي الآفاق العليا في السماوات فتتسع دنياه وتتعاظم فيها دواعي الحركة والسكون والحياة والموت ، ويقترب من الأوج الذي يستوعب فيه الكون بنظرة شاملة ، ويلتمس له سببا واحدا (للحصول) كما حصل بعد أن أصبح الكون كله في في حاجة إلي التعليل . فإنه كان قبل ذلك يعلل حياته بهذه القوة أو تلك من العلل الكونية . فإذا بالكون كله لا يستغني عن تعليل مريح .
فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح لأنها أكبر ما تقع عليه العين وتعلل به الخليقة والحياة ، فإذا دخلت هي أيضا في عداد المعلولات فقد أصبح الكون كله في حاجة إلي خالق موجد للأرض والسماء والكواكب والأقمار . وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق علي فحوي قصة إبراهيم في القرآن الكريم (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ، فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون) .
ولا تزال بداءة التوحيد من طريق تأليه الشمس مسألة تخمين لا مسألة يقين . فالحضارات القديمة في الدول قد عمت الأقطار الشرقية بين مصر وبابل وفارس والهند ثمانية آلاف سنة أو تزيد ، وكلها قد عبدت الشمس وميزتها بالعبادة في دور من الأدوار . فأيها هي الأمة السابقة إلي التوحيد أهي فارس أم الهند أم بابل أم أشور أم مصر أم اليابان في مجاهل القدم قبل اتصالها بالحضارة الآسيوية ؟ ليس الجواب علي هذا كما أسلفنا مسألة يقين بل مسألة تخمين . وأغلب الظنون المدعمة بالقرائن المعقولة أن مصر بدأت بتوحيد الدين كما بدأت بتوحيد الدولة . فالمؤرخ هيرودوت القديم يقول إن الإغريق تعلموا أمور الدين من المصريين والسير اليوت سميث –وهو مرجع موثوق به في تاريخ مصر- يقول إن شعائر الهند القديمة في الجنائز نسخة محكية من كتاب الموتي ، وتفرق الديانات معقول في الدول الأخري ولكنه غير معقول في قطر يجري فيه نيل واحد ويتحد وجهاه قبل خمسة آلاف سنة علي أقل تقدير .
* * *
وجملة القول أن أطوار العقيدة الإلهية تشعبت بين الناس فلم تطرد علي مراحل متشابهة في جميع الأمم ولا في جميع الأزمان . ولكننا إذا أحطنا بوجهتها العظمي وجدنا أن عقيدة الأرواح لم تفارق أطوارها الأولي ، وأن عبادة الأسلاف امتزجت بعقيدة الأرواح ، ثم اتسعت نظرة الإنسان إلي دنياه حتي التمس لها علة في السماء فكانت الشمس هي أكبر ما رآه وتوجه إليه بالعبادة ثم أصبحت الشمس رمزا للخالق حين تجاوزت الإنسان بنظرة إلي ما هو أعظم منها وأعلي . فهي القنطرة الأخيرة بين العدوتين : عدوة التعديد ، وعدوة التوحيد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الملكات النفسانية
الملكات النفسانية التي يدور عليها بحث العلماء في الوقت الحاضر أكثر من نوع واحد في أفعالها وتجاوزها لمألوفات الحواس الإنسانية والحيوانية ، ولكنها تتلخص في بضعة أنواع هي :
الشعور علي البعد أوالـTelepathy والتوجيه علي البعد أو الـ Telergy والتنويم المغناطيسي أو الـMagnetism وقراءة الأشياء أو معرفة الأخبار عن الإنسان من ملامسة بعض متعلقاته كمنديل أو قلم أو خاتم أو علبة أو ما شاكل هذه المتعلقات Object, reading or psychometry وتفسير الأحلام Dream Interpretation والاستحياء الباطني أوAutomatism والوسواس أو Hallucination واستطلاع المستقبل أو Precognition واستطلاع الماضي أو Retrocognitlion والكشف Clairvoyance وتحضير الأرواح Spiritualism .
وكل هذه الملكات قديم معهود في جميع الأجيال والعصور لم يجد عليه إلا التسمية العصرية ومحاولة العلماء أن يحققوه بالتجربة والاستقصاء .
وربما كان أشيع هذه الملكات وأقربها إلي الثبوت وأغناها عن أدوات المعالجة والتناول بأساليب التلقين والتدريب هو الشعور هو الشعور علي البعد أو (التلباثي) كما سمي في أواخر القرن التاسع عشر –تركيبا مزجيا من كلمتي البعد والشعور في اللغة اليونانية .
وقد تواترت أحاديث الناس في (الشعور علي البعد) ، فرويت فيه روايات كثيرة يتفق أصحابها في أقوال متقاربة . وفحواها أنهم يستحضرون في أخلادهم سيرة إنسان بعيد لغير سبب يعلمونه فإذا هو ماثل أمامهم ساعة استحضار ، أو يقلقون لغير سبب في لحظة من اللحظات ثم يعلمون بعد ذلك أن إنسانا عزيزا عليهم كان يتألم أو يذكرهم في تلك اللحظة وهو في ضيق وتغويث ، وقد يسمعون هاتفا يلقي إليهم بعض الكلمات ثم يقال لهم أن هذه الكلمات قد هتف بها مريض يحبهم ويحبونه وهو غائب عن وعيه ، وندر من الناس في الحواضر والقري من لم يسمع برواية من هذا القبيل .
وقد جرب الشعور علي البعد باحثون ممتخلفون ، منهم المؤمن بالنفس ومنهم الملحد الذي لا يؤمن بغير المادة ، ومنهم المتدين الذي يلتمس لهذا الشعور علة من العلل الطبيعية ، ولا يري ضرورة للرجوع به إلي عالم الروح والعقل المجرد .
فالنفساني الكبير وليام مكدوجال –وهو من المؤمنين بالعقل المجرد- يقول في خطاب الرياسة لجامعة البحوث النفسية سنة 1920 : (إنني أعتقد أن التلباثي وشيك جدا أن يتقرر بصفة نهائية في إعداد الحقائق المعترف بها عمليا بفضل هذه الجماعة علي الأكثر ، ومتي بلغنا هذه النتيجة فإن خطرها من الوجهتين العلمية والفلسفية سيربي كثيرا عل جملة المسائل التي أدركتها معاهد التحقيق النفساني في جامعات القارتين) .
وفي سنة 1927 قال الدكتور ت و متشل في خطابه المباحث النفسية في المعهد البريطاني : (لا بد من الاعتراف بالتلباثي أو بوسيلة من الوسائل التي نسميها الآن خارقة للعادة . لأننا إذا أنكرناه وقفنا حائرين بين يدي الظواهر المعززة بأدلة الثبوت ، مما لا نستطيع له نفيا ولا تعليلا) .
والكاتب الأمريكي المشهور ابتون سنكلر Upton Sinclair يؤمن بالفلسفة المادية دون غيرها ويجرب الشعور علي البعد بينه وبين زوجته علي ملأ من الشهود والمتعقبين ، ويقرر أنه أجري مائتين وتسعين تجربة يعتبر يعتبر ثلاثا وعشرين منها ناجحة كل النجاح وثلاثا وخمسين منها ناجحة بعض النجاح وأربعا وعشرين منها مخفقة كل الإخفاق ، ويقول الدكتور والتر فرانكلين برنس صاحب كتاب ما وراء المعرفة المألوفة Beyond Normal cognition هو من المتعقبين لسنكلر وغيره من أصحاب التجارب في هذا الموضوع – (إنني –بعد سنوات من التجارب في تفسير مئات من الألغاز الإنسانية التي تشتمل عل الغش المقصود وغير المقصود وعلي الوهم والضلال- أسجل هنا اعتقادي أن سنكلر وزوجته قد أقاما الشواهد إقامة وافية علي الظاهرة المعروفة بالتلباثي) .
وقد كانت تجارب سنكلر يدور معظمها علي الرسول والأشكال فليطلب من بعض الحاضرين أن يختار له سكلا هندسيا أو حيوانيا ثم يحضر ذهنه فيه ، وزوجته في بلد آخر تتلقي عنه شعوره في تلك اللحظة . فإذا هي ترسم الشكل بعينه ، وقلما يكون الاختلاف في غير الحجم أو درجة الإتقان .
وقد سمي سنكلر هذه الظاهرة بظاهرة الإشعاع الإنساني Human Radio لأنه لا يؤمن بأسباب لنقل الأفكار والأحاسيس غير الأسباب التي من قبيل البرق والمذياع .
ومن أصحاب التجارب المتعددة في هذه المسائل جوزف سينل Joseph Sinel صاحب كتلب الحاسة السادسة(1) الذي يدل اسمه علي رأي صاحبه في تعليل هذه القدرة علي الكشف والتلقي والإيحاء وما شابهها من الصلات النفسية عن طريق غير طريق الحواس المعروفة .
فهو يقرر أن الأجسام المادية يمكن أن تحس من بعيدة لأنها تبعث حولها ذبذبات متلاحقة تسري إلي مسافات بعيدة . وقد تخترق الحوائل كم تفعل الأشعة السينية ، ويعلل غرائز الأحياء التي تهتدي إلي أمثالها أو إلي الأماكن المحجوبة عنها علي المسافات الطويلة بحاسة تتلقي هذه الذبذبات وتتبعها إلي مصادرها . أما الإنسان وسائر الحيوانات الفقارية فهي تعتمد علي الجسم الصنوبري في الدماغ للشعور بالأشياء التي لا تنتقل إليه بحاسة النظر أو الشم أو السمع أو الملامسة ، ويستبعد الأستاذ سينل أن يخلق هذا الجسم الصنوبري عطلا يغير عمل في جميع الأحياء الفقارية ،لأن ملاحظاته الدقيقة عن موضع هذا الجسم في الدماغ واختلاف حجمه بين الأحياء قد دلته علي تفسير عمله حسب اختلاف موضعه وحجمه . فهو في الأنثي أكبر منه في الذكر وفي الهمجي أكبر منه في المتحضر وفي الطفل أكبر منه في الرجل ، وفي الحيوان أكبر منه في الإنسان . وهو قريب إلي فتحات الرأس في بعض الأحياء التي تعول علي التحسس البعيد ولا تستغني عنه بالقياس العقلي أو بالرسائل الصناعية كما يفعل الإنسان ، وكلما انصرف الحي من استخدام هذا الجسم الصنوبري ضمر واقترن ضموره بضعف الشعور بالذبذبات والرسائل المتنقلة من المسافات القصيرة .
قال الأستاذ سينل : (أما الكشف كما أعرفه أنا –وكما ينبغي أن يعرف- فهو إدراك الأشعة المغنطيسية أو قل الموجات المغنطيسية المنبعثة من الأجسام المحيطة بنا والتي من شأنها أن تخترق كل جسم يعترضها بدون حاجة إلي الاستعانة بأي عنصر من أعضاء الحس المعروفة . والكاشف في رأيي هو كل من يستطيع أن يضبط جانبا من مخه ويعده لكي يستقبل الإشعاع الصادر عن الحاجز ، يعني من شيء ما بعد استبعاده كل أشعة أخري ، شأنه في ذلك شأن الجهاز اللاسلكي الذييضبط لكي يستقبل موجة منبعثة من محطة ما مع استبعاد كل موجة أخري سواها) .
وفي حسبان الأستاد سينل أن تلقي الأحاسيس علي البعد ضرورة حيوية في الأحياء الدنيا ، فهي من أجل هذا أقدر علي استخدام هذه الحاسة . ومما نقله عن العالم الطبيعي الفرنسي الكبير جان هنري فابر Fabre (إنه وجد ذات يوم يرقة نوع كبير من الحشرات فحملها إلي منزله ووضعها داخل صندوق في غرفة مكتبه ، وبينما هو جالس في غرفة الطعام ذات ليلة اذ دخل عليه خادمه فزعا وأخبره أن غرفة مكتبه امتلأت بفوج كبير من الذباب الضخم فلما ذهب ليري ما حدث وجد أن يرقته -وكانت أنثي- قد خرجت من هذا الطور وأن عددا كبيرا من ذكورها يحوم حول الصندوق . واما كانت كلها من نوع غير مألوف في هذه المنطقة فقد حكم بأنه لابد جائت من مكان سحيق . فأغلق النافذة وأمسك بها جميعا وعددها خمسة عشر ذكرا . وأراد أن يعرف هل استعانت هذه الذكور في حضورها بحاسة الشم أو لم تستعن بها ، فنزع منها ملامسها ، وهي الأعضاء التي تحمل هذه الحاسة ، ثم وضع الذكور في كيس ووضع الكيس في قمطر ، وفي صباح اليوم التالي نقلها إلي غابة تبعد نحو الميلين ، وأطلق سراح الذكران جميعا ، ولكنها لم تلبس بعد الغسق أن شوهدت كلها متجمهرة في حجرة مكتبه لم يتخلف واحد منها . عندئذ أيقن أن حاسة الشم ام تكن النبراس الذي اهتدت به الذكور إلي مكان الأنثي)(2) .
فالأستاذ سينل كما نري لا يتأثر في إ_ثباته لقدرة الكشف والشعور علي البعد بإيمانه بوجود الروح أو العقل المجرد ، ولا يعتمد في تجربة من تجاربه الكثيرة علي تعليل غير التعليل الجسدي والمباحث الطبيعية ، وقد سبقه إلي التنويه بشأن الحسم الصنوبري فيلسوف كبير من المؤمنين بالقوة الروحية والقائلين بالتفرقة بينها وبين الكائنات المادية ، وهو رينيه ديكارت الذي يلقب بأبي الفلسفة الحديثة ، فإنه اعتقد أن الجسم الصنوبري هو الجهاز (الموصل) بين الروح والجسد ، أو هو موضع التلاقي بين حركة الفكر وحركة الأعضاء .
أما الذين اعتقدوا أن الجسم الصنوبري غدة منظمة للوظائف الجنسية أو أطوار النمو الأخري فالأستاذ سينل يرد عليهم قائلا : (إذا كان هذا الجسم غدة وظيفتها تنظيم التطور أو الأمور الجنسيةكما يقولون فكيف صح أن يكون مقره وسط المخ بين المراكز التي تستقبل المرئيات ؟ ولماذا هو محمول علي ساق ؟ .. ولماذا كان في الفقاريات الدنيا فتحة تشبه النافذة في الجمجمة فتسمح لهذه الحيوانات بالاتصال بما حولها قدر المستطاع ؟) .
علي أننا إذا راجعنا أنواع التجارب التي سجلها النفسانيون لم نستغن بفكرة الإشعاع ولا بفكرة الجسم الصنوبري عن تعليل آخر يتصل بالفعل أو الروح .
فنحن نفهم أن الإشعاع ينقل المجسمات والمحسوسات ولكننا لا نفهم أن الإشعاع ينقل الفكرة أو الصورة المتخيلة ، فإذا تذبذب الشعاع بحركة الكلمات الملفوظة وصلت هذه الكلمة بحروفها و أصدائها إلي جهاز التلقي فنسمعها كلمات كما فاه بها المتكلم من محطة الإرسال ، ولكن الفكرة التي في الدماغ لا تتحول إلي كلمات بحروفها و أصدائها ولا تتأتي من تحولها حركة تهز الأثير كما تهزه حركات الأفواه . فكيف تنتقل الفكر بالأشعة من دماغ إلي دماغ ؟
وإذا فكر أحد في صورة هندسية أو حيوانية فكيف تصبح هذه الصورة حركة إشعاع كحركة المذياع ؟ لقد شوهد كثيرا أن الذي ينتقل في هذه الحالة هو معني الصورة لا شكلها ولا خطوطها التي تكونها : فإذا كان المرسل يفكر في عصفور ولا يحسن رسمه فإن المتلقي يحسن رسم العصفور إن كان من الحاذقين للرسم ولا ينقله نقلا آليا كما تمثل في الذهن الذي أرسل الصورة إليه ، وكذلك يحدث في أشكال المثلثات والدوائر والمستطيلات ، وكل شكل يختلف بالحجم والإتقان ويحافظ علي معناه مع هذا الاختلاف .
فإذا ثبت الكشف والشعور علي البعد بالتجربة التي لا شك فيها فلا بد من إثبات الأشعة العقلية أو الروحية لتعليل انتقال الأفكار بغير ألفاظ ، والصور بغير حركات في الأثير .
أما الجسم الصنوبري فإذا كان عضوا طبيعيا وجب أن يكون عمله علي أشده وأصحه في أصحاب الأجساد الطبيعية والأمزجة السوية ، ولكن الذي يشاهد في أصحاب القدرة علي التلقي أنهم يشذون عن سواء المزاج المعهود في الأصحاء ، وأن هذه الملكة فيهم لا تحيا كما تحيا الأعضاء الأثرية المهملة بل تحيا كما تحيا العبقريات الخلاقة لمعاني الفنون ومبتكرات الفهم والخيال ، وأن الذي يمتاز بها لا يكون أقرب إلي الحيوان بل أقرب إلي المثل الإنسانية التي تتجافي كثيرا عن الغرائز الحيوانية والنوازع الجسدية .
وإذا كان الجسم الصنوبري متلقيا للحس علي أسلوب العيون والآذان و الأنوف وجب أن تتساوي عنده جميع المرسلات ، و ألا يميز ذبذبة عن ذبذبة ولا مكانا عن مكان . ووجب عند جلوس عشرة في بقعة واحدة أن يتلقوا جميعا صوت الاستغاثة المنبعث من الأماكن القصية ، لأن هذا الصوت حركة مادية والأجسام الضنوبرية عند هؤلاء العشرة أجسام مادية تهتز بتلك الحركة علي السواء ، ولا يقال أن الذي يعنيه الخبر هو الذي يسمعه ، لأن العناية تتولد من سماع الخبر لا قبل سماعه ، وقد يكون المقصود بالخبر غافلا عنه غير متهيئ لسماعه في تلك اللحظة ، وإذا كانت العناية من الجانبين تضيف شيئا إلي قوة الحس فهي إذن شيء (عقلي إرادي) ينحصر في العقل والإرادة ولا يعم كل حركة تخطر في الأثير .
ولا غرابة في ندرة الظواهر الروحية بين العوامل المادية ، فيحس بالآثار الروحية آحاد ولا يحس بها الأكثرون ، لأننا قد تعودنا أن نري كائنات لا تحصي بمعزل عن فعل العقل أو الروح ولكن الغرابة البالغة أن يكون في كل دماغ جسم صنوبري وأن تنبعث الذبذبات من جميع الأجساد بغير انقطاع ثم تنحصر ظواهر الكشف أو الشعور البعيد قي آحاد معدودين .
ولا يصح أن يقاس هذا علي أجهزة المذيلع التي تسكن عن الإذاعة بغير تحريك أو توجيه ، لأن امتناع هذه الآلات عن الحركة بغير مدير يعرف تركيبها هو الحالة الطبيعية التي لا يتصور لها العقل حالة سواها . أما الأحياء فإنهم هو المحركون والمتحركون ، وهم المفاتيح ومديرو المفاتيح . فامتناع العمل الطبيعي فهم مع شيوع أسبابه عجب يحتاج إلي تفسير .
وحسب الناظر في الأمر بعد هذا أن يعرف أن تجارب الشعور البعيد وما جري مجراه تثبت عن أناس لا يعللونها بالروح ولا بالعقل المجرد ، لينتفي من ذهنه أنها وهم من أوهام العقيدة وأنها خرافة متفق عليها فلا تستحق الجد في دراستها من طلاب الحقائق علي سنن العلماء .
ويبدو للأكثرين من مراقبي هذه الظواهر النفسانية أن التنويم المغناطيسي أثبت من الشعور علي البعد وأشيع منه وأقرب إلي التصديق والتعليل ، وهو فيما نري يعرض لنا أمثلة كثيرة لا نصادفها في ظاهرة الشعور علي البعد لإثبات الاتصال العقلي بوسيلة غير وسيلة الذبذبات واستخدام الأجسام الصنوبرية . لأن النائم يتلقي عن نومه صورا لا يأتي تعليلها بالإشعاع أو ما شابهه من التيارات المادية . وكثيرا ما تكون الرسائل المغناطيسية قائمة علي تخيل لا وجود له في عالم الحس ولكنه ينتقل إلي ذهن النائم لأن المنوم لفقه وأمره يتلقيه وتصديقه . وهو يري ما في خيال المنوم ولا يري ما في خيال غيره ولو كان معه في حجرة واحدة . وقد تعددت تعليلات الاتصال بين فكر وفكر بالوسائل المغناطيسية ولكنها جميعا أعجب من القول بإمكان الاتصال بين العقل المجرد والعقل المجرد بمعزل عن الحواس والوسائط المادية . ويكفي في التجارب المتواترة أن يلقي المنوم نظرة علي كلمة مكتوبة أو صورة مرسومة أو يستحضر الكلمة أو الصورة في خلده ليراها النائم كما رآها المنوم أو تخيلها تخيلا لا يمثله شكل محسوس قابل لتحريك الأشعة أو التيارات . ولا ندري لماذا لا يتأتي تنويم الحيوان الأعجم ونقل المحسوسات إلي دماغه إذا كانت المسألة كلها مسألة الحواس والأعصاب والتيارات التي تنتقل كما ينتقل الشعاع .
ومما لا نزاع فيه أن حق الفكر الإنساني في قبول هذه الظواهر أرجح جدا من حقه في إنكارها ، والبت باستحالتها كأنها شيء لا يتأتي وقوعه بحال من الأحوال . فلا استحالة في ظاهرة من هذه الظواهر ، غير مستثني منها النادر المستغرب بالغا ما بلغ من الندرة والغرابة في جميع الأزمان .
فالاطلاع علي المستقبل غريب لم تثبته تجربةعلمية قابلة للتكرار ، ولكننا لا نستطيع أن نجزم باستحالته إلا إذا استطعنا أن نجزم بحقيقة الزمن وحقيقة المستقبل ثم جزمنا بأن هذه الحقيقة تناقض العلم بشيء قبل أن يأتي أوانه ويجري في مجراه .
فما هو الزمن ؟
نحن نتخيله في أوهامنا علي صور كثيرة لا تخلو إحداها من نقص ومناقضة لبقية المقررات المسلمة لدينا .
فنحن تارة نتخيل الزمن كأنه بحر يزداد قطرة في كل لحظة ويمتلئ شيئا فشيئا ، ويزال فيه فراغ مهيأ للامتلاء ، وهو فراغ المستقبل المعدوم . ولكن هل الماضي إذن هو الموجود ؟ وهل هو الحاصل المتجمع في بحر الزمان والمستقبل هو المعدوم ؟ وما هو (الآن) الذي ليس بماض ولا بمستقبل ولا يوصف إلا بأنه حاضر غير ماض ولا آت ؟
وتارة نتخيل الزمن كأنه خط ممتد والأوقات المتتابعة كالنقط المنطوية فيه ، ولكننا إذا تتبعنا هذا الخيال لم يذهب بنا إلي بعيد ، لأن الخط ممتد في كل جانب متعمق في كل باطن ، فلا تشابه به بينه وبين الخطوط .
وتارة نتخيل الزمن قابلا للتجزئةولكننا لا نستقر علي المقياس الذي يحكم لنا بالقرب أو البعد أو العمق بين مسافات الأجزاء .
وإذا جزأنا الزمن حكمنا بأن الزمان كله محدود لأن مجموع المحدود محدود ، ولكن ما هي حدود الحاضر ، وما هو الخارج منه والداخل فيه وما هو الفرق بين حاضر وحاضر بمقياس الزمان أو بمقياس الفضاء ؟
علي أنه إذا كان الزمان أجزاء وكان محدودا كأجزائه فقد بقي أمامنا (الأبد) الذي لا ماضي فيه ولا حاضر و مستقبل ولا ينقسم إلا أجزاء ولا يدرك له ابتداء ولا انتهاء ولا حركة بين الابتداء والانتهاء .
فمن الجائز أن (المستقبل) معدوم في الزمان المنقطع موجود في الأبد الذي ليس له انقطاع .
ومن الجائز أن يكون الزمن نفسه متعدد الأبعاد فيتلاقي فيه شيء من الحاضر وشيء من الماضي وشيء من المستقبل في بعض تلك الأبعاد .
ومن الجائز أن المستقبل يتكشف لعقل الإنسان من إيحاء العقل الأبدي المطلع عليه كما يتطلع علي ما حصل وما هو حاصل بلا اختلاف . وقد جاز أن ينتقل علم من عقل إنسان إلي عقل إنسان فينطبع فيه بالتوجيه وإيحاءكأنه منظور ومسموع . فلماذا لا يجوز أن تنتقل وقائع المستقبل إلي علم الإنسان من العقل الأبدي ؟ وهل نستطيع أن نقرر وجود العقل الأبدي دون أن نقرر أنه مطلع علي كل ما يقع في الأبد الأبيد ؟
فالذي يجزم باستحالة الاطلاع علي المستقبل عليه أولا أن يجزم بالصورة الصحيحة للزمن ويجزم بأنها لا توافق الاعتراف بوجود المستقبل علي وجه من الوجوه .
وعليه (ثانيا) أن يجزم باستحالة (العقل الأبدي) واستحالة الإيحاء منه إلي العقول الإنسانية .
وعليه أن يقوم الدليل علي هذا المستحيل أو ذاك المستحيل ، ولا دليل . وربما خطر لبعضهم -عند النظرة الأولي أن استطلاع الماضي Retrocognition ظاهرة لا تثير الاعتراض ممن يعترضون علي العلم بما سيكون . لأننا نعلم حوادث التاريخ كأنها من حوادث الوقت الحاضرالتي تنقل إلينا من مكان بعيد ، ولأن حوادث الماضي متفق علي وجودها في زمانها ، ولا اتفاق علي وجود ما سيكون قبل أن يكون .
ولكن الحقيقة أن استطلاع الماضي واستطلاع المستقبل علي حد سواء في طبيعة الملكة التي تقدر عليه . لأن القائلين بهذه الملكة لا يقصدون معرفة الماضي كما نعرف روايات التاريخ أو روايات الشهود . ولكنهم يقصدون أن صاحب هذه الملكة ينكشف له منظر مضي دون أن يبلغه من طريق القراءة والسماع . فيشهد مثلا مجلسا من المجالس المجهولة عنده وعند غيره ، ويبصر كل جالس في مكانه الذي كان فيه ، ويسمع ما قالوه ولو لم تدونه الكتب وتردده أقوال الرواة .
فالكشف عن الماضي محتاج إذن إلي التعليل الذي يحتاج إليه الكشف عن المستقبل ، لأنه دائما يتأتي بايحاء عقل إلي عقل ، أو بتقدير صوره للزمن لا ينفي فيها الماضي ولا المستقبل كل الانتفاء .
وهذه الظواهر كلها -أغربها وأقربها معا- ليست بالشيء الجديد في تاريخ الإنسان . وإنما الجديد عليها في زماننا هذا أنها دخلت في متناول البحوث العلمية ، وأن الباحثين يتخذون منها شيئا فشيئا مواقف من العطف والفهم أقرب من مواقفهم الأولي في مطلع (الثورة العلمية) علي سلطان رجال الدين .
ففي الأزمنة الماضية كان النس يصدقون هذه الظواهر بغير بحث في حقيقتها وحقيقة من يدعونها ، أو كانوا يكذبونها تكذيبا باتا بغير بحث كما يفعل المصدقون .
ومضي زمن كان العالم الطبيعي فيه يحسب الإنكار المطبق أمام هذه الظواهر أجدر شيء بوقار العلم وكرامة المباحث العلمية . ومن هؤلاء عالم في طبقة اللورد كلفن Kelvin الذي قال في بعض خطبه سنة 1883 : (والآن قد أومأت إلي حاسة سابعة محتملة وأعنى بها الحاسة المغناطيسية , ولنفاسة الوقت وضيقه عن الاستطراد وابتعاد الموضوع عما نحن بصدده أود أن أدفع الظن ـ بأننى على نحو من الأنحاء ـ أومىء إلى شيء من قبيل تلك الخرافة التعسة : خرافة المغناطيسية الحيوانية وتحرك الموائد وتحضير الأرواح ومناجاتها والتنويم المغناطيسى المعروف بالسمرية والكشف والتخاطب بالدقات والنقرات وما إلى ذلك مما سمعنا عنه فى الزمن الأخير . فليس هناك حاسة سابعة من هذا النوع الغامض ، و إنما الكشف وما إليه نتيجة خطأ في الملاحظة علي الأكثر يمتزج أحيانا بالتزوير المتعمد علي عقل بسيط نجاح إلي التصديق .. ) .
ولكن هذا الموقف يتغير عليالتدريج ، ولا يشعر العالم اليوم أنه يعطي العلمحقه من الوقار حين يبتدئ بالإنكار في هذا المجال ، أو يرجح الإنكار بغير دليل قاطع يقاوم أدلة التصديق . فمن لم يقبلها من العلماء لم يأنف من اعتبارها صالحة للقبول مع توافر الأدلة وتمحيص التجربة من الوهم وخطأ الملاحظة .
علي أنها -سواء دخلت في مقررات العلم أو لم تدخل إلي حاسة في الإنسان غير العلم بالشئ الذي هو موضوع الإيمان ، لأن الإنسان لا يؤمن علي قدر علمه وإنما يؤمن علي قدر شعوره بما يعتقد ومجاوبته النفسية لموضوع الاعتقاد ، وطبيعة الاعتقاد في هذه الخصلة مقاربة لطبيعة اثنان أمام صورة واحدة يعلمان كل شيء عنها وعن صاحبها وعن أدواتها وألوانها وتاريخها لم يكن شرطا لزاما أن يتساويا في الإعجاب بها والشعور بمحاسنها كما يتساويان في العلم بكل مجهول عنها ، وصدق من قال أن القداسة مزيج من العجب والرهبة ، ولا يتوقف العجب من الأمر المقدس علي استكناه كل ما ينطوي عليه .
وستظل هذه الظواهر تفصيلا يجوز الشك فيه لقاعدة مقررة لا يجوز الشك فيها : ونعني بالقاعدة المقررة أن الموجودات أعلم من المحسوسات .
فهناك موجودات أكثر مما نحس بل هناك موجودات قابلة للإحاطة بها من طريق الإحساس أكثر مما نحسه الآن بالآلات ووسائل التقريب والتضخيم .
ولا تزال غرائزالحيوان تدلنا علي ضروب من الإحساس الخفي لا يعللها العلماء بأكثر من تسميتها باسم الغريزة ، كأنهم إذا لجأوا إلي كلمة مبهمة لا يفهمونها كانوا أجدر بكرامة العلم من الجاهل الذي يفسر الأمر كله بقدرة إله .
وفي الغريزة عبر كثيرة لا تنسي في صدد الكلام عن الحاسة الدينية وخطأ الإنسان في التعبير عنها وتمثيل موضوعاتها .
فقد يساء استخدام الغريزة ولا يقدح ذلك في نشأتها ولا في وجهتها ، كالطير الذي يهاجر للسلام أو للغذاء فيسقط في البحر من الإعياء لأنه يختار طريقا انقطع بطغيان البحر عليه منذ عصور . فباعث الغريزة موجود ومعقول ، وحب السلامة موجود ومعقول ، وخطأ المحاولة في استخدام الغريزة لا ينفي صدق هذا ولا صدق ذاك .
والإنسان في غريزته النوعية يخدم نفسه ويضل عن الغاية من حيث يشعر أو لا يشعر بانخداعه وضلاله : يخدع نفسه حين يحسب أنه يمل للذاته أو يعمل للذته ، ويضل ضلالا بعيدا حين يقتل عشرين رجلا كبيرا ليكفل القوت أو السلامة لطفل واحد هو ابنه الذي لم يلده إل لبقاء النوع كله . يقتل عشرين رجلا مخلوقا ناميا من النوع لبقاء مخلوق منه غير موثوق بنمائه ، وهو يطاوع الغريزة النوعية بذلك ولا يناقضها في نهاية المطاف . لأن حب الأبناء لو توقف علي الحساب العددي والموازنة بين الكثرة والقلة لما حرص أناس علي الأبناء ولا ظفر النوع بالبقاء .
وأدخل من ذلك في ضلال الغريزية وثبوتها في وقت واحد أن الأب الذي يدس عليه طفل غير ابنه ولا يخالجه الشك فيه يحبه ويرعاه ويفتدي بقاءه ببقاء الكثيرين ، ولا يجوز من أجل ذلكأن يقال أن الغريزة النوعية (غير صحيحة) لأن الولد (غير صحيح) .
فالتعبيرات عن الحاسة الدينية تقبل الخطأ الكثير ، ولا يستفاد من ذلك أن الحاسة الدينية غير لازمة أو أنها مكذوبة النشأة في أساس التكوين .
وهذا الذي سميناه (بالوعي الكوني) هو الذي يحس بوطأة الكون فيترجمها علي قدر حظه من التصور والتصوير ، فيقع الخطأ الكثير في التعبير وفي محاولة التعبير ، ولا يمتنع من أجل ذلك أن نتلقي الكون بوعي لا شك في بواعثه وغاياته ، وإن أحاطت بتعبيراته شكوك وراء شكوك .
وربما كان هذا (الوعي الكوني) فرضا صادقا أو راجحا ثم ينتهي به الأمر عند ذلك ، لو لم تكن ظاهرة التدين التي تترجم عنه ملازمة لبني آدم في جميع الأماكنومن أقدم الأزمان ، ولو لم ينبغ في الناس أفراد من ذويالعبقرية تملأهم روعة المجهول .. ولكن الأديات تعم البشر ولا تغنيهم عنها غريزة حب البقاء أو غريزة حب النوع أو حب المعرفة أو دواعي السياسة الاجتماعية . وقد وجدت أديان تبشر بالفناء ولا تبشر بالبقاء وتحرم علي كهانها النسل ولا تعدهم شيئا في السماء . فهي -أي الأديان- من وعي غير وعي التحفظ والسلامة وغير وعي السياسة ودواعي الاجتماع . وقام في العالم عباقرة دينيون لا يهدأون بما يجيش في نفوسهم من قوة الشعور بالمجهول . ولو كان هذا المجهول المغيب عن النس لا يستحق أن تجيش به نفس إنسانية لصرفنا سيرة هؤلاء العباقرة بكلمة واحدة : هي كلمة الجنون الذي وصفوا به كلما ظهروا بين قبيل من المعاندين ، ولكن (المجهول المغيب) أحق من جميع الموجودات بهذا الجيشان العظيم ، فالطبائع التي امتازت باستيعابه واتسعت لدوافعه لا تمتاز بخلل خلو من المعني ، بل تمتاز باستقامة في التكوين فيها كل معني كبير من معاني الشعور العميق .
وقد أحسن الإنسان قبل أن يفكر . فلا جرم ينقضي عليه ردح من الدهر في بداءة نشأته وهو يفكر حسيا أو يفكر (لمسيا) فلا يعرف معني الموجود إلا مرادفا لمعني المحسوس أو الملموس . فكل ما هو منظور أو ملموس أو مسموع فهو واقع لا شك فيه ، وكل ما خفي علي النظر أو دق عن السمع واللمس فهو والمعدوم سواء .
وقد كان (للحاسة الدينية) فضل الإنقاذ الاول من هذه الجهالة الحيوانية . لأنها جعلت عالم الخفاء مستقر وجود ، ولم تتركه مستقر فناء في الأخلاد والأوهام . فتعلم الإنسان أن يؤمن بوجود شيء لا يراه ولا يلمسه بيديه . وكان هذا (فتحا علميا) علي نحو من الأنحاء ولم ينحصر أمره في عالم التدين والاعتقاد . لأنه وسع آفاق الوجود وفتح البصيرة للبحث عنه في عالم غير عالم المحسوسات والملموسات ، ولو ظل الإنسان ينكر كل شيء لا يحسه لما خسر بذلك الديانات وحدها ، بل خسر معها العلوم والمعارف وقيم الآداب والأخلاق .
ويجيء الماديون في الزمن الأخير فيحسبون أنهم جماعة تقدم وإصلاح للعقول وتقويم لمبادئ التفكير . والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقري إلي أعرق العصور في القدم ، ليقولوا للناس مرة أخري أن الموجود هو المحسوس وأن المعدوم في الأنظار والأسماع معدوم كذلك في ظاهر الوجود وخافيه ، وكل ما بينهم وبين همج البداءة من الفرق فيهذا الخطأ -أن حسبهم الحديث يلبس النظارة علي عينيه ويضع المسماع علي أذنيه !
ويحسبون علي هذا أنهم يلتزمون حدود العلم الأمين حين يلتزمون حدود النفي ويصرون عليه في مسألة المسائل الكبري ، وهي مسألة الوجود ، بل مسألة الآبادالتي لا ينقطعالكشف عن حقائقها في مئات السنين ولا ألوف السنين ولا ملايين السنين .
(لا) إلي آخر الزمان في هذه المسألة الكبري ... ونحن لا نستطيع أن نقول (لا) إلي آخر الزمان في مسألة من مسائل الحجارة أو المعادن أو الأعشاب أو مسائل البيطرة وعلاج الأجسام .
وليس النوع البشري علي أبواب محكمة يخاصم فيها من يثبتون أو ينكرون ويتحداهم وهو جالس في مكانه أن يثبتوا له ما ينفيه ولا يهتدي إليه بالعين والمجهار . ولكنه علي الأقل أمام (معمل للتجارب) يبدأ فيه البحث ويعيده ثم يبدأويعيد في كل عصر علي ضوء جديد ، وهو أمام الكون خاصة لم يكد يبدأ البحث في مسألة الآباد إلا منذ مئات معدودة من السنين . فيا له من علم بديع هذا العلم الذي يقطع بالنفي إلي آخر الزمان .. دون أن يتردد أو ينتظر مفاجآت الزمان .
والواقع أن العلم كله يقوم علي أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم علي أساس النفي والإصرار . وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوي في سجلها تاريخا طويلا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوت ، وإن تكررت دواعي الشك بل دواعي القنوط . فبحث الإنسان عن العقاقير وبحث عن المعادن وبحث عن الثمرات والغلات بروح ترتقب ويجابا وثبوتا ولا تنتقل من نفي إلي نفي ومن إصرار إلي إصرار ، وهذه روح العلم أمام الصغائر من شئون البيوت والأسواق ، فلماذا تكون روح العلم إصرار محضا وإنكارا متلاحقا علي غير أساس ويعقب ترقب أو انتظار في نفي كبري المسائل علي الإطلاق ؟
وأجدر الأزمنة أن تبدل فيه هذا الموقف هو الزمن الذي تكشف فيه الأجسام من عنصرها الأول ، فإذا هو إشعاع أو حركة في فضاء . فاقترب الوجود المادي نفسه من عالم المعقولات والمقدورات ، وتقرر لنا أن الحواس لا تستوعب معني الوجود في الصميم ، لأن زوال العدم هي الصفة الوحيدة اللازمة للوجود ، ولا يستلزم زوال العدم تجسما ولا تجرما ولا كثافة من هذه الكثافات التي تتمثل بها الأجسام للحواس بل يكفي فيه حركة مقدورة أو معني كأنه من طبيعة المعقولات . فما أضدق النطاق الذي بقي للحس الظاهر من أسرار الوجود . وما أحرانا أن نفسح للوعي الكوني وللبداهة مجالا يتسع مع الزمان ، ولا نحبسه في نطاق معين يضيق ثم يضيق حتي يسقط من الحسبان .
والإنسان قد رأي نور الشموس والكواكب بعينه منذ مئات الألوف من السنين ، ولو يقبس نور الكهرباء من ينبوع الضياء الكوني إلا في القرنالأخير . فتدرج من قدح الحجر إلي حك الحطب إلي فتيلة الدهن إلي غاز الاستصباح إلي نور الكهرباء في هذا الأمد الطويل من الدهور وراء الدهور .
فوعيه الباطن لم يقصر عن وعي عينيه في هذا الشوط البعيد ، لأنه تنقل من عبادة الحصي والحشرات إلي عبادة الإله الواحد في بضعة آلاف من الدورات الشمسية ، وجاز لنا أن نقول أن ضميره كان أسرع من عينيه إلي اقتباس الضياء ، وكان أقدر من فكره علي مغالبة الظلام . ورأي ظلام ؟ إنه لم يكن ظلاما كظلام الليالي والكهوف يسلم مقاده لكل قادح زند أو نافخ عود ، ولكنه كان ضلااما تجوس فيه مردة الجهل وشياطين العادات وأبالسة المطامع والشهوات . فإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي حاجة الضمير إلي ذلك النور الذي اهتدي به ، وأهتدي إليه .
تعليق