نصيحة مهمة في ثلاث قضايا 1-رجب-1432هـ 2-يونيو-2011
كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه نصيحة مهمة في ثلاث قضايا يجب استصحابها في مسيرتنا الدعوية وبخاصة هذه الآونة التي تشهد انطلاقة مباركة للدعوة السلفية وصلت إلى كل رقعة آهلة من مصرنا الحبيبة -حفظها الله بالإسلام-، والحمد لله مظهر دينه، ومعز أوليائه.
وتشهد أيضًا- حربًا ضروسًا من خصوم الدعوة الذين هم خصوم الإسلام في الحقيقة؛ لأن الدعوة السلفية دعوة إلى العمل بالإسلام النقي الذي بُعث به محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في آخر عقيدته التي كتبها إلى أهل "واسط":
"وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا -صلى الله عليه و سلم-، لكن لما أخبر النبي -صلى الله عليه و سلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولوا المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال(1)، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- :
(لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةٌ لاَ يَضُرُهُمْ مِنْ خَالَفَهُمْ وَلاَ مَنْ خَذلَهُمْ حَتَّى تَقُومُ السَّاعَةُ)، فنسأل الله أن يجعلنا منهم..." ا.هـ.
وهذا الصراع سنة الله -تعالى- تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يجعل الله العاقبة الحميدة لعباده المتقين، قال -تعالىت: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (محمد:4)، وقال -تعالى-:
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) (الأنبياء: 105-106)، لكن لهذه العاقبة شرائطها وأسبابها من الاستقامة على التوحيد والأمر والنهي، والصبر على ذلك، والصبر على أقدار الله المؤلمة، والبذل والتضحية في سبيل الله -تعالى-، والثقة واليقين والتوكل على الله -تعالى-.
قال -تعالى-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:128-129).
وقد فعل -سبحانه وتعالى- ومكَّن لدينه ولعباده المؤمنين المستضعفين، وجعلهم خلائف؛ لينظر ماذا يعملون؟ قال -سبحانه وتعالى-:
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف:137).
ونحن في مسيرتنا الدعوية المباركة -الآن- نحتاج أشد مما سبق إلى التذكير بكثير من القضايا المهمة، منها:
أولاً: التبين والتثبت:
ومن أحكامه:
1- عدم قبول أخبار الفساق والكذابين إلا بعد التبين، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله: الفاسق: الكذاب.
وقال أبو الحسن الوراق: المعلن بالذنب.
وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله.
ذكر غير واحد من السلف أنها نزلت في الوليد بن عقبة -رضي الله عنه- حين بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها: ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" من رواية الحارث بن ضرار ملك بني المصطلق.
وهناك رواية مرسلة عن مجاهد وقتادة أذكرها؛ لتعلقها بسبب المقالة:
عن قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث الوليد بن عقبة مُصَّدِّقًا(2) إلى بني المصطلق، فلما أبصروه؛ أقبلوا نحوه، فهابهم -وفي رواية: لإحنة(3) كانت بينه وبينهم-، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت ولا يَعْجَل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً، فبعث عُيونه، فلما جاءوا؛ أخبروا خالدًا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا؛ أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (التَّأَنِّي مِن الله والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ).
وعليه؛ فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم كاذب أو معلن بالذنب بخبر فتثبتوا؛ لئلا تصيبوا قومًا بخطأ؛ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين بسبب العجلة وترك التأني.
قال القرطبي: "وفي الآية دليل على قبول إذا كان عدلًا؛ لأنه أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه؛ بطل قوله في الأخبار إجماعًا؛ لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يُبطلها..." راجع تفسير ابن كثير والقرطبي.
فهذا هو منهج أحدنا عند تلقي الأخبار: التأني والتريث والتثبت!!!
2- أخذ الخبر من مصدره الأصلي -إن أمكن-:
وإلا فمن أهل المكان الثِّقات، وتعضيد الشاهد بآخر؛ لأنه ربما يخطئ الواحد أو يقل ضبطه، وكم من حادثة مرت بي ومن ثقة أمين إلا أنه لم يضبط، فعلمتني ما ذكرته هنا وأؤكد عليه، ولا ينافي ذلك قبول خبر الواحد العدل، وإنما هو مزيد توثيق؛ لتغيرُّ الزمان خاصة الأخبار الخطيرة المتعلق بمآل الدعوة.
فلقد كان القاضي أبو يوسف -رحمه الله- يطلب تزكية الشهود لتغير الزمان، وضعف الديانة، وتفشَّي الكذب.
"وكان عمر ن عبد العزيز يقضي في المدينة بشاهد واحد ويمين، فلما صار إلى الشام؛ لم يقبل إلا شاهدين لما رآه من تغيرُّ عما عرفه من أهل المدينة". انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (3/85).
ثم رد الخبر إلى أهل العلم والخبرة، وهذه هي:
القضية الثانية: قضية المرجعية!
قال -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء:83).
هذه الآية الكريمة أصل في قضية المرجعية، وأنه لا بد للناس من مرجع يرجعون إليه، قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينكر -تعالى- على من يبادر إلى إشاعة الأمور قبل تحققها، فيُخبر بها، ويُفشيها، وينشرها، وقد لا يكون لها أصل من الصحة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك: (نهى عن قيل وقال) (متفق عليه).
أي: كثرة الحديث عما يقوله الناس دون تثبت أو تدبر أو تبين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم).
وقال: (بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ: زَعَمُوا) (رواه أبو داود).
وقد جاء في الحديث المتفق على صحته أن عمر -رضي الله عنه- لما بلغه خبر تطليق النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه؛ جاء من منزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستفهمه: أطلقت نساءك؟! فقال: (لاَ)، قال: فقلت: الله أكبر.
وعند "مسلم": "فقلت: أطلقتهن؟ قال: (لاَ)، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه، ونزلت هذه الآية:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر".
ومعني: (يَسْتَنْبِطُونَهُ) أي: يستخرجونه من معادنه(4)" اهـ. بتصرف من تفسير ابن كثير.
ونبهت خاتمة الآية على أن الخروج عن هذه المرجعية له آثاره السيئة، فقال -تعالى-: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) أي: ولولا فضل الله عليكم ورحمته -أيها المؤمنون- بهذا التوجيه العظيم؛ لكان هناك خروج واتباع للشيطان -والعياذ بالله تعالى-.
وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..." وفيه: قال حذيفة: "وهل بعد ذلك الخير من شر؟!" قال: (نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا؛ قَذَفُوهُ فِيهَا) قلت: صفهم لنا، قال: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟، قال: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) (متفق عليه).
وجماعة المسلمين الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بلزومهم هم: أهل العلم المستمسكون بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم-.
سئل إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عن الجماعة، فقال: "عالم متمسك بأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقه، فمن كان معه وتبعه؛ فهو الجماعة"، ثم قال: "لم أسمع عالمًا منذ خمسين سنة كان أشد تمسكًا بأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- من محمد بن أسلم".
وسئل ابن المبارك عن الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؛ قال: "أبو بكر وعمر" فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد، قيل: من الأحياء؟ قال: "أبو حمزة السكري".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك". راجع "الاعتصام" للشاطبي -رحمه الله-.
ومن فوائد المرجعية: اجتماع الكلمة، وتأمين الدعوة، والمآل الحميد، وهذه هي:
القضية الثالثة: قضية المآل:
أي: فقه ما تؤول إليه الأمور، قال الشاطبي -رحمه الله-: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك...".
وهي قاعدة متفق عليها بين العلماء، قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-:
"وهي قاعدة متفق عليها بين العلماء، فافهموها وادخروها".
"وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة" راجع "الموافقات" (4/432).
لذلك؛ فهو يحتاج إلى دقة نظر، وعمق بحث فيما يستجد أو ينزل من الأمور سواء الأقوال أو الأفعال، فإن كانت نتائجها تتفق مع مقصد الشارع من تشريعها؛ أمر بها، وإن كانت لا تتفق؛ منعها ابتداء؛ لأن الدفع أسهل من الرفع.
وضوابط هذا النظر:
1- ترجُّح حصول المآل سواء أكان مصلحة أم مفسدة، وذلك بغلبة الظن على أقل تقدير.
2- أن يكون النظر على وفق مقاصد الشريعة.
3- أن يكون المآل المتوقع منضبطًا في علته وحكمه.
ومثالاً من كتاب الله -تعالى-: قوله -عز وجل-:
(وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام:108).
حيث نهى الله -تعالى- عن سب معبودات المشركين مع أن فيه مصلحة، وهي تخذيل المشركين، وتوهين أمر الشرك، لكن لما وُجد له مآل آخرٍ مراعاتُه أرجح، وهو: سبهم الله -تعالى- وملء ما في السماوات والأرض سبًّا في الأوثان لا يزن انحرافهم بكلمة واحدة في شأن الرب -سبحانه- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببًا في مصلحة، ومأذونًا فيه؛ لولا هذا المآل".
قال النووي -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث...إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة؛ بدئ بالأهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي: خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا؛ فتركها -صلى الله عليه وسلم-..." اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "يستفاد من هذا الحديث: ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه: ترك إنكار المنكر؛ خشية الوقوع في أنكر من" اهـ.
وقد عمل أهل العلم في كل زمان ومكان بهذه القاعدة فيما نزل بهم من نوازل التي هي من أسس السياسة الشرعية، وأعجبني -أيضًا- ما فعله المسلمون في "هولندا" إبان عرض النائب الهولندي "فيلدرز" فيلمه المعادي للإسلام: "فتنة"!
أولاً: دعت جمعية الأئمة كل المسلمين شيوخًا وشبابًا إلى الرزانة والهدوء والتعقل، وأن يتوخوا الحكمة في الردود، وحذرتهم من القيام بأفعال سلبية تعود بالضرر عليهم، وعلى المجتمع عمومًا.
قالت في بيان لها: "إن أي رد فعل عنيف يخدم أعداء الله الإسلام، ويصب في نفس الهدف الذي يريد "فيلدرز" نفسه، وهو زرع فتيل الصراع بين أفراد المجتمع".
قلت: وهو ما يريده خصوم الدعوة؛ الآن، فالحذر ولزوم ركب العلماء، وإرجاع الأمور إليهم كما أمرنا شرعًا.
ثانيًا: عقد شباب مسلمون من أبناء الجيل الثاني ورشة عمل حوارية في ضاحية "بأمستردام"؛ لاحتواء تداعيات الفيلم الذين شاهدوا عرضًا له، وفي أثناء هذه الورشة أشهر أحد الهولنديين إسلامه؛ ليصبح ثالث شخص دخل في الإسلام خلال أسبوع واحد ردًا على عبارة انتهى بها الفيلم تقول: "أوقفوا أسلمة أوروبا".
ثالثًا: فتحت جميع المساجد الهولندية أبوابها للرد على استفسارات الهولنديين بشأن القرآن الكريم والإسلام.
وقامت مؤسسة النشر السعودية: "دار البينة" بإعلان بدء مشروع توزيع الكتاب الخيري باللغة الهولندية تحت شعار: "نصرة القرآن الكريم من الانفعال للفعل"، وتعدى الاهتمام والإقبال المتزايد طور التوزيع إلى طور الشراء حتى نفدت تقريبًا الكتب والمصاحف الإلكترونية المترجمة. راجع موقع: "مفكرة الإسلام".
وهكذا يكون موقفنا: "من الانفعال للفعل" بالحكمة والموعظة الحسنة!، والله -تعالى- أعلم، وصلى الله على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه نصيحة مهمة في ثلاث قضايا يجب استصحابها في مسيرتنا الدعوية وبخاصة هذه الآونة التي تشهد انطلاقة مباركة للدعوة السلفية وصلت إلى كل رقعة آهلة من مصرنا الحبيبة -حفظها الله بالإسلام-، والحمد لله مظهر دينه، ومعز أوليائه.
وتشهد أيضًا- حربًا ضروسًا من خصوم الدعوة الذين هم خصوم الإسلام في الحقيقة؛ لأن الدعوة السلفية دعوة إلى العمل بالإسلام النقي الذي بُعث به محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في آخر عقيدته التي كتبها إلى أهل "واسط":
"وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا -صلى الله عليه و سلم-، لكن لما أخبر النبي -صلى الله عليه و سلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولوا المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال(1)، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- :
(لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةٌ لاَ يَضُرُهُمْ مِنْ خَالَفَهُمْ وَلاَ مَنْ خَذلَهُمْ حَتَّى تَقُومُ السَّاعَةُ)، فنسأل الله أن يجعلنا منهم..." ا.هـ.
وهذا الصراع سنة الله -تعالى- تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يجعل الله العاقبة الحميدة لعباده المتقين، قال -تعالىت: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (محمد:4)، وقال -تعالى-:
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) (الأنبياء: 105-106)، لكن لهذه العاقبة شرائطها وأسبابها من الاستقامة على التوحيد والأمر والنهي، والصبر على ذلك، والصبر على أقدار الله المؤلمة، والبذل والتضحية في سبيل الله -تعالى-، والثقة واليقين والتوكل على الله -تعالى-.
قال -تعالى-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:128-129).
وقد فعل -سبحانه وتعالى- ومكَّن لدينه ولعباده المؤمنين المستضعفين، وجعلهم خلائف؛ لينظر ماذا يعملون؟ قال -سبحانه وتعالى-:
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف:137).
ونحن في مسيرتنا الدعوية المباركة -الآن- نحتاج أشد مما سبق إلى التذكير بكثير من القضايا المهمة، منها:
أولاً: التبين والتثبت:
ومن أحكامه:
1- عدم قبول أخبار الفساق والكذابين إلا بعد التبين، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله: الفاسق: الكذاب.
وقال أبو الحسن الوراق: المعلن بالذنب.
وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله.
ذكر غير واحد من السلف أنها نزلت في الوليد بن عقبة -رضي الله عنه- حين بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها: ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" من رواية الحارث بن ضرار ملك بني المصطلق.
وهناك رواية مرسلة عن مجاهد وقتادة أذكرها؛ لتعلقها بسبب المقالة:
عن قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث الوليد بن عقبة مُصَّدِّقًا(2) إلى بني المصطلق، فلما أبصروه؛ أقبلوا نحوه، فهابهم -وفي رواية: لإحنة(3) كانت بينه وبينهم-، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت ولا يَعْجَل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً، فبعث عُيونه، فلما جاءوا؛ أخبروا خالدًا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا؛ أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (التَّأَنِّي مِن الله والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ).
وعليه؛ فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم كاذب أو معلن بالذنب بخبر فتثبتوا؛ لئلا تصيبوا قومًا بخطأ؛ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين بسبب العجلة وترك التأني.
قال القرطبي: "وفي الآية دليل على قبول إذا كان عدلًا؛ لأنه أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه؛ بطل قوله في الأخبار إجماعًا؛ لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يُبطلها..." راجع تفسير ابن كثير والقرطبي.
فهذا هو منهج أحدنا عند تلقي الأخبار: التأني والتريث والتثبت!!!
2- أخذ الخبر من مصدره الأصلي -إن أمكن-:
وإلا فمن أهل المكان الثِّقات، وتعضيد الشاهد بآخر؛ لأنه ربما يخطئ الواحد أو يقل ضبطه، وكم من حادثة مرت بي ومن ثقة أمين إلا أنه لم يضبط، فعلمتني ما ذكرته هنا وأؤكد عليه، ولا ينافي ذلك قبول خبر الواحد العدل، وإنما هو مزيد توثيق؛ لتغيرُّ الزمان خاصة الأخبار الخطيرة المتعلق بمآل الدعوة.
فلقد كان القاضي أبو يوسف -رحمه الله- يطلب تزكية الشهود لتغير الزمان، وضعف الديانة، وتفشَّي الكذب.
"وكان عمر ن عبد العزيز يقضي في المدينة بشاهد واحد ويمين، فلما صار إلى الشام؛ لم يقبل إلا شاهدين لما رآه من تغيرُّ عما عرفه من أهل المدينة". انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (3/85).
ثم رد الخبر إلى أهل العلم والخبرة، وهذه هي:
القضية الثانية: قضية المرجعية!
قال -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء:83).
هذه الآية الكريمة أصل في قضية المرجعية، وأنه لا بد للناس من مرجع يرجعون إليه، قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينكر -تعالى- على من يبادر إلى إشاعة الأمور قبل تحققها، فيُخبر بها، ويُفشيها، وينشرها، وقد لا يكون لها أصل من الصحة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك: (نهى عن قيل وقال) (متفق عليه).
أي: كثرة الحديث عما يقوله الناس دون تثبت أو تدبر أو تبين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم).
وقال: (بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ: زَعَمُوا) (رواه أبو داود).
وقد جاء في الحديث المتفق على صحته أن عمر -رضي الله عنه- لما بلغه خبر تطليق النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه؛ جاء من منزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستفهمه: أطلقت نساءك؟! فقال: (لاَ)، قال: فقلت: الله أكبر.
وعند "مسلم": "فقلت: أطلقتهن؟ قال: (لاَ)، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه، ونزلت هذه الآية:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر".
ومعني: (يَسْتَنْبِطُونَهُ) أي: يستخرجونه من معادنه(4)" اهـ. بتصرف من تفسير ابن كثير.
ونبهت خاتمة الآية على أن الخروج عن هذه المرجعية له آثاره السيئة، فقال -تعالى-: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) أي: ولولا فضل الله عليكم ورحمته -أيها المؤمنون- بهذا التوجيه العظيم؛ لكان هناك خروج واتباع للشيطان -والعياذ بالله تعالى-.
وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..." وفيه: قال حذيفة: "وهل بعد ذلك الخير من شر؟!" قال: (نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا؛ قَذَفُوهُ فِيهَا) قلت: صفهم لنا، قال: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟، قال: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) (متفق عليه).
وجماعة المسلمين الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بلزومهم هم: أهل العلم المستمسكون بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم-.
سئل إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عن الجماعة، فقال: "عالم متمسك بأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقه، فمن كان معه وتبعه؛ فهو الجماعة"، ثم قال: "لم أسمع عالمًا منذ خمسين سنة كان أشد تمسكًا بأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- من محمد بن أسلم".
وسئل ابن المبارك عن الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؛ قال: "أبو بكر وعمر" فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد، قيل: من الأحياء؟ قال: "أبو حمزة السكري".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك". راجع "الاعتصام" للشاطبي -رحمه الله-.
ومن فوائد المرجعية: اجتماع الكلمة، وتأمين الدعوة، والمآل الحميد، وهذه هي:
القضية الثالثة: قضية المآل:
أي: فقه ما تؤول إليه الأمور، قال الشاطبي -رحمه الله-: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك...".
وهي قاعدة متفق عليها بين العلماء، قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-:
"وهي قاعدة متفق عليها بين العلماء، فافهموها وادخروها".
"وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة" راجع "الموافقات" (4/432).
لذلك؛ فهو يحتاج إلى دقة نظر، وعمق بحث فيما يستجد أو ينزل من الأمور سواء الأقوال أو الأفعال، فإن كانت نتائجها تتفق مع مقصد الشارع من تشريعها؛ أمر بها، وإن كانت لا تتفق؛ منعها ابتداء؛ لأن الدفع أسهل من الرفع.
وضوابط هذا النظر:
1- ترجُّح حصول المآل سواء أكان مصلحة أم مفسدة، وذلك بغلبة الظن على أقل تقدير.
2- أن يكون النظر على وفق مقاصد الشريعة.
3- أن يكون المآل المتوقع منضبطًا في علته وحكمه.
ومثالاً من كتاب الله -تعالى-: قوله -عز وجل-:
(وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام:108).
حيث نهى الله -تعالى- عن سب معبودات المشركين مع أن فيه مصلحة، وهي تخذيل المشركين، وتوهين أمر الشرك، لكن لما وُجد له مآل آخرٍ مراعاتُه أرجح، وهو: سبهم الله -تعالى- وملء ما في السماوات والأرض سبًّا في الأوثان لا يزن انحرافهم بكلمة واحدة في شأن الرب -سبحانه- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببًا في مصلحة، ومأذونًا فيه؛ لولا هذا المآل".
قال النووي -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث...إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة؛ بدئ بالأهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي: خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا؛ فتركها -صلى الله عليه وسلم-..." اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "يستفاد من هذا الحديث: ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه: ترك إنكار المنكر؛ خشية الوقوع في أنكر من" اهـ.
وقد عمل أهل العلم في كل زمان ومكان بهذه القاعدة فيما نزل بهم من نوازل التي هي من أسس السياسة الشرعية، وأعجبني -أيضًا- ما فعله المسلمون في "هولندا" إبان عرض النائب الهولندي "فيلدرز" فيلمه المعادي للإسلام: "فتنة"!
أولاً: دعت جمعية الأئمة كل المسلمين شيوخًا وشبابًا إلى الرزانة والهدوء والتعقل، وأن يتوخوا الحكمة في الردود، وحذرتهم من القيام بأفعال سلبية تعود بالضرر عليهم، وعلى المجتمع عمومًا.
قالت في بيان لها: "إن أي رد فعل عنيف يخدم أعداء الله الإسلام، ويصب في نفس الهدف الذي يريد "فيلدرز" نفسه، وهو زرع فتيل الصراع بين أفراد المجتمع".
قلت: وهو ما يريده خصوم الدعوة؛ الآن، فالحذر ولزوم ركب العلماء، وإرجاع الأمور إليهم كما أمرنا شرعًا.
ثانيًا: عقد شباب مسلمون من أبناء الجيل الثاني ورشة عمل حوارية في ضاحية "بأمستردام"؛ لاحتواء تداعيات الفيلم الذين شاهدوا عرضًا له، وفي أثناء هذه الورشة أشهر أحد الهولنديين إسلامه؛ ليصبح ثالث شخص دخل في الإسلام خلال أسبوع واحد ردًا على عبارة انتهى بها الفيلم تقول: "أوقفوا أسلمة أوروبا".
ثالثًا: فتحت جميع المساجد الهولندية أبوابها للرد على استفسارات الهولنديين بشأن القرآن الكريم والإسلام.
وقامت مؤسسة النشر السعودية: "دار البينة" بإعلان بدء مشروع توزيع الكتاب الخيري باللغة الهولندية تحت شعار: "نصرة القرآن الكريم من الانفعال للفعل"، وتعدى الاهتمام والإقبال المتزايد طور التوزيع إلى طور الشراء حتى نفدت تقريبًا الكتب والمصاحف الإلكترونية المترجمة. راجع موقع: "مفكرة الإسلام".
وهكذا يكون موقفنا: "من الانفعال للفعل" بالحكمة والموعظة الحسنة!، والله -تعالى- أعلم، وصلى الله على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تعليق