تجديد الخطاب الدينى المسيحى
الخميس، 24 يونيو 2010 - 19:42
كتبت فى 22 فبراير الماضى، مقالا بعنوان "لماذا تجديد الخطاب الدينا"، حيث تناولت أسباب ضرورة تجديد الخطاب الدينى المسلم. ومع تطور الأحداث صُدمت، بل قُل صُدمنا، برؤية الخطاب الدينى المسيحى المُعاصر، فى جوهره. وبالطبع قرأت لأعرف، من أين جاء هذا الخطاب، لأمضى وراء الخيوط التى أرشدتنى إلى هوية الكنيسة المرقسية منذ أن أعتلى البابا شنودة كرسى الباباوية، وسمعت من أقباط حدثونى حول "أجندة" الكنيسة فى عصر الرجل، وتاريخ قداسته شخصياً، لأجد أشياء، أعترف أنها شكلت بالنسبة لى مُفاجأة طاغية!
لقد نهض السيد حبيب جرجس، رائد النهضة القبطية فى العصر الحديث، بالكنيسة المرقسية فى نواحى التعليم، إلا أنه وفى الوقت نفسه أنشأ مصطلح "الأمة القبطية"، حيث أصبح المصطلح موازٍ لمصطلح الأمة المصرية، ويجوز بالفعل تحديد الوطن بالأمة، بينما إصطلاح الدين فى إطار أمة، مثل الأمة القبطية والأمة الإسلامية، إنما هى أمور تجعل الدين مؤطرا، وهو الذى يُفترض أن يكون للعالم كله!! كما أن مصطلح كهذا يشمل أصحاب دين ما، فى وطن يشمل أكثر من دين، إنما يؤكد عُزلتهم. إلا أننا نرى أن الإصطلاح، إنما جاء فى لحظة ما، لمواجهة "الإرساليات" الغربية القادمة من الخارج، وبالتالى، كان مناسب لعصر معين، بينما لم يكن كذلك فيما بعد!
لقد آمن البابا شنودة بتلك الدعوة: دعوة "الأمة القبطية" وضرورة إصلاح الكنيسة المصرية والخطاب الدينى المسيحى، أيامها، لقد مثل هو تيار التجديد، ولكن هذا التيار حاد عن الهدف، عندما أُنشئت جماعة، تُدعى "جماعة الأمة القبطية" فى أواخر سنة 1952 وقد سُجلت فى وزارة الشئون الاجتماعية، لقد أكدت تلك الجماعة ضمن أهدافها، أهداف مشروعة للغاية، كانت: إصلاح شئون الكنيسة القبطية، نشر تعاليم الكتاب المقدس والتمسك بجميع أحكامه، تعليم اللغة القبطية وتاريخ الكنيسة والتمسك بعادات وتقاليد "الأمة القبطية".
أما الحث على إحلال اللغة القبطية محل اللغة العربية، فلم يكن بالطبع إلا خروج على الأمة المصرية وإسراف فى التناول وتعصب فى الرغبة بالخروج عن الإجماع الوطنى! وكان شعار الجماعة "الإنجيل دستورنا والموت فى سبيل المسيح أسمى أمانينا" ويتضح بالطبع، أنه الشعار المقابل لشعار جماعة الإخوان المسلمين! لقد أعلنت تلك الجماعة عن نفسها "بخطفها" للبابا يوساب الثانى فى 1954، وإجبار الشباب القبطى الذى قام بذلك، إياه على التنازل عن كرسيه وتوقيعه على مطالبهم الإصلاحية!! ولتفكروا الآن معى، كيف سيكون الحال، لو أن مجموعة مماثلة من شباب الأقباط طالبوا بعزل البابا شنودة الذى أيد عزل البابا يوساب فيما بعد؟؟ ماذا عسى أن يحدث من قبل البابا اليوم لمن ينادى ويؤيد بعزله من الأقباط، كما فعل هو فيما يخص البابا يوساب؟ بالتأكيد ووفقاً لتاريخه فى الكنيسة، سيشلحه، إن كان من الأكليروس (من يعمل بالنظام الكهنوتى الخاص بالكنيسة) أو سيحرمهم من التناول، لو كان من الأقباط العاديين فى الشعب المصرى.. هذا رغم أنه هو ذاته كان من التيار الإصلاحى فى الماضى الذى طالب بعزل البابا يوساب!!!
لقد عبر بعد ذلك، البابا شنودة عن اعتراضاته الشديدة حيال البابا كيرلس السادس، وكانت بينهم معارك فكرية كبيرة. ومرة أخرى، لو كان البابا شنودة محل البابا كيرلس وقتها والبابا كيرلس مكانه، لكان البابا شنودة شلحه لاعتراضه عليه، كما حدث مع "كل" معترض على رأيه منذ أن تولى شئون الكنيسة، ليصبح الآمر بأمره ومالك كل شىء فى تلك المؤسسة، ويصبح هو صوت الإصلاح الوحيد، وما دونه لا يمكن سماعه! لقد تجسد هو فى الكنيسة وتجسدت الكنيسة فيه، بحيث لا يمكن لشخص فيها أن يخرج عن رأيه، وكأنه المقابل السياسى، لأى ديكتاتور سياسى، يخرس ألسن وأصوات الإصلاح فى أى دولة!
لقد جلس البابا شنودة على الكرسى الباباوى قُرابة 40 عاماً اليوم، وبالتأكيد استجدت ثقافة الأقباط وتغيرت الحياة كثيراً فى تلك الفترة الكبيرة. وبالطبع، ليست مسألة الزواج والطلاق فقط، هما المشاكل الوحيدة داخل الكنيسة المرقسية، ولكن هناك الكثير من المشاكل التى يُعانيها الأقباط. أهم تلك المشاكل على الإطلاق، فى كنف الوطن، هو رؤيتهم الدينية فوق مستوى رؤيتهم الوطنية، بحيث أصبح ولائهم الأول للكنيسة وفى القلب من الكنيسة للبابا شنودة، وليس لمصر كما يُزعم! ولقد عشت الاختبار، ورأيت أن سب مصر لا يهم الكثيرين منهم، ولكن التعرض للبابا يحولهم لوحوش.. وياللسخرية، فإن التعرض للمسيح عليه السلام، لا يؤثر كثيراً فيهم على عكس البابا شنودة التى أصبحت كلماته، أهم من الإنجيل للكثيرين منهم!
أنى لأدرك تماماً، فى ظل كل تلك الحقائق، أن تجديد الخطاب الدينى المسيحى (وهو ليس تغيير للعقيدة المسيحية، ولكن خلق المرونة بها لتواكب العصر من منطلق النصوص)، أمر غاية فى الصعوبة. إلا أن العمل على تجديد الخطاب المسلم، يجب وأن يواكبه تجديد فى الخطاب الدينى المسيحى، وإلا استمر الأقباط دوماً يشعرون بالاضطهاد. إن النجاح النسبى فى تجديد الخطاب الدينى الإسلامى، دون أى نسبة لنجاح التجديد بالخطاب الدينى المسيحى بالتوازي، سيجعل الأقباط لا يشعرون بالتجديد المقابل، لأنهم سيستمرون فى الشعور بالقهر والاضطهاد، لأنهم يتبعون الكنيسة، بأكثر مما يتبعون الوطن. إننى وفى تعاملاتى مع الأقباط الذين يشعرون بمصريتهم أكثر من كنيستهم، رغم تدينهم، إنما لا أجد فرقاً بيننا وكأننى أتعامل مع مصريين مسلمين، .. بل إن قضية الدين لا تطرأ إلا فى مناقشات "توعوية" لمعرفة كل منا دين الآخر، مع احترامنا للدينين، ولكن كل من يتعامل من منطلق كونه ينتمى إلى دين ما بتشدد، إنما يحسب كل "صيحة" عليه!! إنه يصير حساس للغاية حيال كل كلمة وكل فعل. لو أنى حمدت دينى الإسلامى، يشعر وكأننى أسب فى دينه المسيحى! إنه يشعر عندما أصلى وكأننى أضطهده، وعندما أصوم وكأننى أستهدفه! إنه يشعر بإسلاميتى المتشددة، حتى وإن كنت معتدلا!! لماذا؟ لأنه "قيل" له، بأنى (فى العام وليس المقصود بها شخصى) أهدف "كمسلم"، إلى بناء دولة دينية تستهدف عبادته، ولأنه لا يشعر بكونه مصرى مثلى.. بل يشعر بأنه مصرى "أكثر" منى!!! وقد يقول البعض بأنى أهول، ولكن مؤتمر الأقباط الذى دعا له البابا شنودة يوم 17 يناير 1977، للرد على الأزهر فى ندائه بتطبيق حد الردة (وهو ما أرفضه أيضاً) قال فى نص بيانه: "أن المجتمعين وضعوا نصب أعينهم الإيمان الراسخ بالكنيسة القبطية وتضحيات شهدائها، والأمانة الكاملة للوطن المفدّى الذى يمثل الأقباط أقدم وأعرق سلالاته، حتى أنه لا يوجد شعب فى العالم له ارتباط بتراب أرضه وبقوميته مثل ارتباط القبط بمصر العزيزة"!! وبالطبع فإن رؤية الكنيسة للأقباط وكأنهم "أكثر" انتماء ممن دونهم بهذا الوطن "من المسلمين"، يُعد رؤية ذاتية "عنصرية" مبالغ فيها من قبل الكنيسة، لها دلالات كثيرة، لن نخوض فيها، حتى لا نزيد الطين بلة!
لقد عملت الكنيسة المصرية وفقاً لرؤية وبرنامج إصلاحى من قبل شخص واحد على مدى السنوات من 1971 وحتى اليوم، ولم يُتح لبقية رجال الأكليروس أو للمسيحيين المصريين، فى مجموعهم، المساهمة فى التجديد، مما جعل الكنيسة، دولة أخرى داخل الدولة، ذات رئيس مشابه للزعماء التاريخيين، الذين ينظر إليهم التابعين لهم، وكأنهم لا يأتيهم الباطل من بين يديهم ولا من خلفهم!! هذا رغم أنه كان مسئولاً عن الكثير، منذ أحداث الخانكة 1972 وحتى اليوم، لأنه دخل الكنيسة بآجندة "مُسيسة"، هى أجندة "جماعة الأمة القبطية" ورؤيتها للإصلاح، وفقاً لمرحلة بعيدة وغير متوافقة مع حال اليوم ولا 1971 وما بعدها، أو مع حال الشباب القبطى الذى تطور مع الزمن، ويرى فيمن يساهم فى تفرقته عمن يحيا معهم، الشر! لقد عملت الكنيسة كثيراً بعيداً عن النص، ووفقا لرؤية البابا ومشاعره، عندما حرمت أُناس، اختلف معهم البابا، مثل نظمى لوقا، لأنه كتب كتاب مدح فيه الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - وموسى صبرى، لأنه كان ذا ولاء لرئيس الجمهورية، وكأن الرسالة كانت، "فليختلف الأقباط عمن سواهم من مصريين ولا يمدحوا مقدسات المسلمين ولا يكون ولاؤهم الأول للشرعية الدستورية بالبلاد"، بينما يحل ذلك فى إفطارات رمضان التى تُدعى بافطارات "الوحدة الوطنية" والتى تعكس لنا الكاميرات كم نفاقها، بشكل لا يمكن أن يفوت على أحد!
يجب أن يعمل الأقباط على تجديد الخطاب الدينى المسيحي، بحيث يزيد إنتمائهم لمصر بعيداً عن التمثيليات المملة، ولكى يبعدوا عن الشعور بالإضطهاد، الذى لن يروه طالما شعروا بمصريتهم "المقبطة" أكثر من أى شىء آخر!! عليهم بالنظر فى قوانينهم السابقة فى المجامع المسكونية الماضية التى كانت أكثر تطوراً من "إصلاح" البابا شنودة الذى أخذ الكنيسة إلى عصر الشعور بالإضطهاد ويُعلن لهم كما قال بعضهم لى، بأن "عصر الاستشهاد قادم" (الاستشهاد المسيحى غير الاستشهاد المسلم، بحيث يُشعر البابا المسيحيين المصريين أن المسلمين المصريين، سيقتلونهم ليصبحوا شُهداء)، مُفتتاً بذلك "الأمة المصرية"، التى لا يعلوها شىء ولو كره الكارهون!
يا مسيحيو مصر لا تعتكفوا كما يفعل للى الأيدى! ولا تنضموا إلى جماعة خارج سياق الوطن، كما فعل، ولتعودوا إلى مصر وإن كان لزاماً الإصلاح فانتهجوا نهجه كما فعل هو ضد البابا يوساب الثان وبالتالى، لن آطالبكم بنهجٍ آخر، غير نهج البابا شنودة نفسه، ولن أصبح مُعاديا له ولنهجه، كما سيرى المغيبون منكم!!!
جددوا الخطاب الدينى المسيحى يا مسيحيى مصر! إن الإصلاح لديكم هو الحل حتى نخرج من النفق المظلم الخاص بالاضطهاد وتصبح مصر موحدة بشعبها دون تفرقة بالفعل.. فإن لم تفعلوا، فلا تشكوا بعد ذلك من دولة تريد لكم "الخلاص" فترفضونه، وكأنكم عصفور فُتح له باب القفص، ولكنه اعتاد البقاء خلف القضبان! ولكن أشكوا نهج "جماعة الأمة القبطية" الذى ولى زمانه، وستظل مصر فوق رءوس العباد ورئيس الجمهورية أياً كان هو السلطة السياسية الوحيدة فيها!
• أستاذ علوم سياسية.http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=245356
تعليق