الأدلة السالمة عن المعارض
الشبهة محل الرد هنا هى شبهة حول الفاروق رضى الله تعالى عنه لا غير .. ويجب التنبيه على ذلك لأن الزميل : طالب نقاش حضارى قد حاول مرارا التشغيب على هذا الأمر بتحويل الشبهة إلى شبهة حول صحيح البخارى مرة أو شبهة حول الصحابة الأطهار مرة أو السنة النبوية مرة مع العلم أن الرواية محل الاشتباه لم يقتصر ورودها على صحيح البخارى وحده كما سنرى فى النقطة الثانية الاعتراضات والردود .. أما بخصوص الأدلة التى ساقها الحراس وبقيت سالمة عن المعارض فلم يستطع الزميل جحدها أو إبطالها فنقول وبالله التوفيق .
أولا : فضل عمر رضى الله عنه وأرضاه
يبقى الأصل الأصيل فى هذه الموضوع هو تواتر الأدلة من كتاب الله تعالى وصحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فضل عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فاروق هذه الأمة وهو ما يناقض دعوى الزميل بكونه رضى الله عنه قد ردَّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعنى سقوط هذا التفسير للرواية لمناقضته للكتاب والسنة فيكون مدار الأمر بعد ذلك على فهم المضمون الصحيح للنص فى ضوء النص نفسه .. ولا تحتاج هذه النقطة إلى كثير تفصيل .
ثانيا : استدل الحراس برواية الإمام البخارى للحديث وقبل الزميل منهم هذا الاستدلال بل واحتج به عليهم ونص الرواية كما جاءت فى صحيح الإمام البخارى ( حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال "هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده" قال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال "قوموا عني" قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم)
والأوجه السالمة عن المُعارض التى استدل بها الحراس من الحديث هى
الوجه الأول : صرحت الرواية باختلاف أهل البيت الكرام وأن منهم من قال مثل ما قال عمر- أى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وأن حسبنا كتاب الله - ومنهم من يقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والحاصل من هذا الاختلاف أنه كان له موجب يقتضيه كما كان فى كل مسألة اختلف فيها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كالصلاة فى بنى قريظة .. وإلا استلزم القول بنقيض ذلك وقوع بعض أهل البيت فى نفس الإثم وهو مالم يقل به أحد فاستلزم ذلك اعتبار المسألة مسألة اجتهادية كان لها موجبها كما سيأتى .
الوجه الثانى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من كتابة الكتاب قول عمر وإنما امتنع لاختلاف أهل البيت رضى الله عنهم جميعا وهذا هو الظاهر من لفظ الحديث ( فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال "قوموا عني" ) وهذا ما يتفق مع النصوص الشرعية التى توجب على المسلمين احترام مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) ) [ الحجرات ] .
الوجه الثالث : يدل على نفس ما دل عليه الوجه السابق من قول ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ( إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) وهو صريح فى أن ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابة الكتاب هو إكثار اللغط والاختلاف وليس قول عمر .
الوجه الرابع : سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقريع الفاروق يدل على عدم مجيئه رضى الله عنه بشئ يُعاب عليه أو يُذمُّ ومعلوم أن سكوته صلى الله عليه وسلم فى معرض الحاجة إلى البيان بيان .
الوجه الخامس : سكوت جميع الصحابة الكرام الأطهار وعلى رأسهم آل بيت المصطفى العدنان عن ذكر قول عمر رضى الله عنه بشر أو الادعاء عليه بإنكار السنة أو ردِّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الشهود الحاضرون الذين لا يخشون فى الله تعالى لومة لائم ولا يكتمون الشهادة التى لا يكتمها إلا من كان آثما قلبه - وحاشاهم - .. ويدعم ذلك حكاية ابن عباس رضى الله تعالى عنه للرواية وتعليقه على اختلاف أهل البيت ولغطهم دون أى مساس بجانب الفاروق رضى الله عنه .. فكيف يُترك كل هذا ليؤخذ التفسير من أفراد لم يحضروا الموقف ولم يعاينوا الأمر ولم يقل بكلامهم واحد ممن حضروه .
الوجه السادس : حصول الشبهة التى تنفى عن الفاروق رضى الله عنه هذا الإثم وهى شدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل لذلك أنه رضى الله عنه قال "إن النبى صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع" بمحضر من أهل البيت ولم ينكر عليه أحدهم ذلك قائلا - مثلا - "ألا تراه صحيحا لا يتألم ولا يتوجع" بل قال بعضهم مثل ما قال ولم ينكر عليه ولا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فدل ذلك على كونه صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه الوجع فى ذلك الوقت بأبى هو وأمى .. وهذه كانت مظنة الاجتهاد الذى كان مدعاة الخلاف بين من قالوا "حسبنا كتاب الله" ومن قالوا "قربوا كتابا لرسول الله" فمنهم من نظر إلى شدة وجعه صلى الله عليه وسلم وراعى ألمه ولم يشأ إجهاده بذلك ومنهم من نظر إلى مصلحة المسلمين فى هذا الكتاب وكلاهما مأجور بإذن الله تعالى لسكوت النبى صلى الله عليه وسلم عن تعديل رأى وجرح آخر - والسكوت - مرة أخرى - فى معرض الحاجة إلى البيان بيان .
يتبع بإذن الله ...
تعليق