بسم الله الرحمن الرحيم
( جحر الضب الخرب وأمة الإسلام )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .( جحر الضب الخرب وأمة الإسلام )
أخرج البخاري (ح/3456) ، ومسلم (ح/2669) من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه . قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن )) .
إذن فقد حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من طرق اليهود والنصارى ، وأخبرنا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى أن من أمته من سيتبعهم إلى جحورهم الخربة وقد كان ، فقد ولج النصارى ـ على سبيل المثال ـ إلى ثلاثة جحور بعضها أخرب من بعض ، فتبعهم إليها جميعاً بعض الغلاة من هذه الأمة .
أما الجحر الأول وهو أخربها فالقول بالوحدة بين الله عز وجل وعيسى عليه السلام ، وقد كتبنا عن هذا هنا :
انتكاسة عقلية كبيرة في تاريخ البشرية
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=33572
كيرلس الأول وبدائه العقول :
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=33504
القول بالوحدة أصل كل شرك وضلال :
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=33508
ورأينا كيف أن القول بهذه الوحدة فوق أنه أصلٌ في الشرك ، مسقطٌ لقاعدة العقل إلى جميع معارفه والتي لا يصح مع جحدها شيء في العقول .
أما الجحر الخرب الثاني فهو القول بالحلول ، حلول الله عز وجل في عيسى عليه السلام ، وقد تعرضنا قبل إلى الخلاف الذي وقع في القرن الخامس الميلادي بين كل من كيرلس رأس كنيسة الاسكندرية ونسطوريوس رأس كنيسة القسطنطينية .
ففي مقابلة ضلال كيرلس الذي انخرط بقوله بالوحدة في بحث مزري بالعقل البشري نجد نسطوريوس قد خطى خطوة كبيرة نحو العقل بالفصل بين خصائص كل من الإلهية ( الإله الخالق القدير العليم الحكيم الذي لم يزل ولا يزال فلم يسبقه عدم ولا يلحقه فناء ) والبشرية ، فقال إن المسيح عليه السلام من طبيعة واحدة، بشر خالص، ناسوت ليس فيه شيء من خصائص اللاهوت؛ لأن الله لا يمكن أن تلده امرأة، فيدفعه المخاض من بطن أمه إلى العالم، ويبول في فراشه فيحتاج إلى القمط، ويجوع فيلتقط صدر أمه ليسكن، ومن ثم فمريم والدة المسيح (ثيؤفورن )، وليست والدة الله (ثيوتوكس) كما يزعم كيرلس، ورفض نسطور بطبيعة الحال أن يقدر البشر على صلب إلههم ، وكان يُعيّر كيرلس بقوله " أنت تؤلم الله " يعني أن تجير قدرة البشر على إلام خالقهم .
لكن نسطور خرق هذه المعرفة خرقاً عظيماً ومن جهتين :
الأولى قوله بحلول الله عز وجل في المسيح ـ عليه السلام ـ فزعم أن المسيح الذي ولد بشراً كاملاً وناسوتاً خالصاً قد حل الله فيه ، لكن بصلبه ـ بزعمه وما صُلب عيسى أبداً ـ ارتفع ما حل فيه من خصائص الإلهية ؛ لأن الآلام والصلب والموت لا يمكن أن تقع على الله عز وجل ، وهكذا رجع المسيح ناسوتاً خالصاً وبشراً كاملاً كما ولِد، وهذا كله بحسب كلام نسطوريوس .
أما الخرق العظيم الثاني : فهو قوله بعبادة المسيح ـ عليه السلام ـ مع إقراره ببشريته ؛ لأجل ما حل فيه من الكرامة والاحترام ، فهذا كما ترى مبني على القول الأول بالحلول ، والنص الانجليزي لقوله هو :
(Because of the divine conjoining let us reverence the man worshiped together with the almighty god)
وترجمتها ( بسب الاتصال الإلهي دعنا نبجل الإنسان المعبود مع الله القدير ) .
فرد كيرلس الذي يعبد المسيح الإله على نسطوريوس الذي يعبد المسيح الإنسان قائلاً : إذا أنت تعبد المسيح الإنسان فأنت مشرك بالله في عبادته .
أما جحر الضب الخرب الثالث فهو إسقاط بولس العمل بالشريعة بالكلية، والاكتفاء بالإيمان بالمسيح الإله المصلوب لفداء البشرية وتحريرها من لعنة ترك العمل بالناموس، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى هنا :
http://magdaldenebnahmadalabbar.maktoobblog.com/1510385/بولس-الرسول-يؤسس-للدولة-العلمانية/
فهذه جحور النصارى الخربة الثلاثة وقد تبعهم إليها جميعاً بعض الغلاة من هذه الأمة ، بل قد زادوا على النصارى زيادات كثيرة منكرة جداً .
فإذا كان النصارى قد قصروا القول بالوحدة بين الخالق والمخلوق على عيسى ـ عليه السلام ـ فقد عم غلاة الصوفية من هذه الأمة كل شيء بالوحدة ، فأسقطوا الوجود الخاص للأشياء ، وقالوا بأن كل شيء هو عين ذات الله عز وجل ، فيما يُعرف بوحدة الوجود ، حتى قال رأسهم ابن عربي :
ما الكلب والخنزير إلا إلهنا …. وما الله إلا راهب في الكنيسة
وهو عند أتباعه الشيخ الأكبر ، وحقه أن يكون الشيخ الأكفر ، فهذا كفر يربو بكثير جداً على كفر النصارى ، فلا جرم أن تتابع عدد من أئمة الإسلام على القول بتكفيره ، وأي شيء ينفعه قوله لا إله إلا الله مادام يصرح بأن إلهه هو الكلب والخنزير ، وقد سمعت بنفسي بابا الأرثوذكس شنودة وهو يصف أتباع هذا المذهب في الوحدة بالضلال ، فخيبة لهؤلاء بمذهب يتبرأ منه النصارى . ومن أشهر أتباع هذا المذهب في المعاصرين الخميني الرافضي ، وأحمد بن الصديق الغماري الصوفي ، وفي الجملة فإن القول بالوحدة أحد أخطر ما اجتمع عليه غلاة الصوفية والرافضة في القديم والحديث .
وإذا كان نسطوريوس قد قصر القول بالحلول على المسيح ـ عليه السلام ـ فقد قال بعض غلاة الصوفية من هذه الأمة بحلول الله عز وجل في كل ما استحسنوه ، بل منهم من قال بحلوله عز وجل في كل شيء حتى الأماكن المستقذرة .
قال أبو الحسن الأشعري: " وفي النساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن الباري يحل في الأشخاص ، وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك ، وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئاً يستحسنونه قالوا : لا ندري لعل الله حالٌّ فيه ، ومالوا إلى إطراح الشرائع، وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده " (1) اهـ.
ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " ولهذا كان هؤلاء الاتحادية والحلولية يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة ويصرحون بذلك ، وهؤلاء من أعظم الناس كفراً وشتماً لله وسباً لله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، وحصل بما ذكره الأئمة أن هؤلاء الجهمية أصل قولهم الذي به يموهون على الناس إنما هو التنزيه ، ويسمون أنفسهم المنزهون وهم أبعد الخلق عن تنزيه الله، وأقرب الناس لتنجيس تقديسه ، وهذا يظهر بوجوه كثيرة لكن المذكور هنا كونهم يقولون إنه في كل مكان من الأمكنة النجسة القذرة ، فأي تنزيه وتقديس يكون مع جعلهم له في النجاسات والقاذورات والكلاب والخنازير ، بل وتصريحهم بذلك حتى حدثني من شهد أحذق محققيهم التلمساني وآخر من طواغيتهم وقد اجتاز بكلب جرب ميت فقال ذلك للتلمساني وهذا الكلب ايضاً ذلك [يعني أنه الذات المقدسة تعالى الله عما يقولون ] !؟ فقال أو ثم شيء خارج عن الذات " (2) اهـ.
فإن تعجب فعجب قول مَنْ يُكفر النصارى الذين قصروا قولهم بالوحدة والحلول في المسيح عليه السلام ، ثم هو يتوقف في تكفير من أطلق القول بالوحدة والحلول في كل المخلوقات ولم يستثن حتى الكلاب والخنازير والكنف بل صرح ، ومن هؤلاء الواقفة من جره مذهبه هذا إلى التوقف في تكفير النصارى أنفسهم ، ثم راح يستر فضيحته بأنه يكفرهم بالنوع لا بالعين ، ومنهم شيخ سوء مفضوح لم يعد يبالي بخرق صريح القرآن والإجماع المعلوم بالضرورة من دين المسلمين، فينفي كفر النصارى جملة وتفصيلاً نوعاً وعيناً ، فنعوذ بالله من الضلال كله ومن جميع أهله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
أما ما سلف من قول أبي الحسن : " ومالوا إلى إطراح الشرائع، وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده " فيأخذك إلى جحر بولس الخرب في إسقاط الشرائع فإنه نفسه ، بل وفي هذه الأمة مَن صرح بأكثر مما صرح به بولس ، فمنهم من أسقط الأمر والنهي والوعد والوعيد بالكلية مع قول بالإباحة كالقرامطة ، وانظر إلى قول علي بن الفضل الحميري القرمطي الذي ادعى النبوة فأسقط الشرائع وأباح الخمر ونكاح المحارم تعرف ، فقد تغلب على اليمن عام (263هـ) فصعد المنير وأنشد يقول(3) :
خُذي الدُّفَّ يا هذه واضربي *** وغَنِّى هَزَاريكِ ثم اطربي
تولى نبي بنو هاشم *** وهذا نبي بني يَعْرُبِ
لكل نبي مضى شِرْعَةٌ **** وهاتان شرْعَةُ هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة *** وفرض الصيام ولم يُعْقِبِ
إذا الناس صلوا فلا تنهضي *** وإن صاموا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا والمروة *** ولا زَوْرَةَ القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسين *** من الأقربين مع الأجنبي
فبم ذا حللت لهذا الغريب *** وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربه *** وأسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء *** محل فقدست من مذهب
وهؤلاء كفار أكفر من اليهود والنصارى وإن شهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وفي غلاة الصوفية طرف لا بأس به من هذه اللوثة ، لكن لا يتسع له هذا المقال ، وقد سمعنا من المفتي علي جمعة عن الأولياء الذي يشربون الخمر ويزنون .
ووقع في أمة الإسلام أيضاً شيء دون ذلك ، وهو تأخير الأعمال عن أن تكون إيماناً ، وهو المذهب المعروف بالإرجاء ، وهو متفاوت المراتب ، ويُحكى من غير تعيين عمن يقول " لا يضر مع الإيمان ذنب " .
قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ في عقيدته : " ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله " .
وهذه المقالة هي عين قول بولس ، وروي بسند ضعيف عن ابن عباس ـ ـ قال " اتقوا هذا الإرجاء فإن شعبة من النصرانية " .
فهذه جحور النصارى الثلاثة الخربة ذكرناها من باب النصيحة والتنبيه لإخواننا المسلمين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .
يتبع إن شاء الله .
ــــــــــــــــــــــ
(1) مقالات الإسلاميين ص13-14.
(2) بيان تلبيس الجهمية (2/538) .
(3) انظر السلوك في طبقات العلماء والملوك (1/206) ، وسمط النجوم العوالي (4/190) .
(1) مقالات الإسلاميين ص13-14.
(2) بيان تلبيس الجهمية (2/538) .
(3) انظر السلوك في طبقات العلماء والملوك (1/206) ، وسمط النجوم العوالي (4/190) .