الصبر على المصيبة العامه - المصيبه الخاصه - المرض
9- عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عن الطاعون فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء فجعله الله تعالى رحمةً للمؤمنين فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد ) رواه البخارى
( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون )
و الطاعون قيل: أنه وباء معين
وقيل : انه كان وباء عام يحل بالأرض فيصيب أهلها ويموت الناس منه و سواء كان خاصاً أو وباء عام مثل الكوليرا و غيرها فإن هذا الطاعون رجس و عذاب أرسله الله عز وجل ولكنه رحمة للمؤمن إذا نزل بأرضه وبقي فيها صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له فإن الله يكتب له مثل أجر الشهيد .
و لهذا جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) :
(إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )
والمعنى : إذا وقع الطاعون في أرض فإننا لا نقدم عليها لأن الإقدام عليها إلقاء بالنفس إلى التهلكة و لكنه إذا وقع في أرض ونحن فيها لا نخرج منها فراراً منه لأنك مهما فررت من قدر الله إذا نزل بالأرض فإن هذا الفرار لن يغني عنك من الله شيئاً .
( فاخبرها انه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء ) أي من كافر أو عاصي بارتكاب كبيرة أو إصرار علي صغيرة .
( فجعل الله رحمة للمؤمنين ) أي من هذه الأمة
قال الشيخ زكريا في حاشية البخاري : أي غير مرتكبي الكبائر
و في حديث أبى عسيب عند أحمد : ( الطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر ) وهو صريح في أن هذا الحكم خاص بالمسلمين
أما إذا وقع الطاعون بالكفار فإنما هو عذاب يعجل لهم فى الدنيا قبل الآخرة
أما العاصي من هذه الأمة (والمراد به مرتكب الكبائر) إذا هجم عليه الطاعون و هو مُصِر على المعصيه (لم يتب):
قال ابن حجر في شرح صحيح البخاري : فانه يحتمل أن يقال انه لا يكرم بدرجة الشهادة لشئوم ما كان متلبساً به ،
قال تعالى "(أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"
( فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده ) أي التي وقع بها الطاعون ( صابراً ) أي غير منزعج ولا قلق بل مُسَلِماً لأمر الله راضياً بقضاءه .
وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون ، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فراراً منه .
( يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب له ) قيد آخر وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة أي تصف حاله حين إقامته فلو أنه مكث و هو قلق أو متندم على عدم الخروج ظناً أنه لو خرج لما وقع به أصلاً ورأساً و أنه باقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد و لو مات بالطاعون .
( إلا كان له مثل أجر الشهيد )
قال النووي في دليل الفالحين : أي وإن مات بغير الطاعون .
فإنه حيث كان موصوفاً بما أشار إليه الحديث من قصده ثواب الله و رجائه موعوده عارفاً أنه لو وقع فبتقدير الله وإن صُرف عنه فكذلك وهو غير متضجر لو وقع به معتمداً على ربه في حال صحته و سقمه كان له أجر الشهيد وإن مات بغير الطاعون كما هو ظاهر الحديث .
و يؤيده رواية ( من مات في الطاعون فهو شهيد ) و لم يقل بالطاعون ، كذا لو وجد من اتصف بهذه الصفات ثم مات بعد انقضاء زمن الطاعون فان ظاهر الحديث أنه شهيد و نية المؤمن ابلغ من عمله أما من لم يتصف بالصفات المذكورة فان مفهوم الحديث انه لا يكون شهيداً و إن مات بالطاعون .
* فوائد الحديث :
1- وجوب الإيمان بالقدر خيره و شره ، فإن كل ما يقع في الكون بإذن الله و تقديره خيراً كان أو شراً .
فالإنسان كلما كان إيمانه بأقدار الله أقوى كان صبره أتم وأكمل ، فإنك حين تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطئك لم يكن ليصيبك فسوف تستقبل أحداث الحياة بقلبٍ راضٍ مطمئن لاختيار الله وقضاءه لأنك تعلم أنه هو سبحانه الذي قدره عليك و لو شاء لصرفه عنك .
2-قال ابن حجر: وفي الحديث: أن من رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يجعل لهم العقوبة في الدنيا ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة.
فقد أخرج الإمام احمد و صححه ابن حيان من حديث ابن عبيدة مرفوعاً :
" القتل ثلاثة : رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذاك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة ، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا وجاهد بنفسه وماله فى سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فانمحت خطاياه ، إن السيف محاء للخطايا . ورجل منافق جاهد بنفسه و ماله حتى يُقتل فهو في النار ، إن السيف لا يمحو النفاق" .
فمنه نأخذ أن الشدائد والمصائب في الدنيا هي كفارة للمؤمن وليس الأمر كذلك للكافر أو الفاسق المصر على معاصيه المجاهر بها فإنها لا تكون كفارة لخطاياه وإنما عذاب في الدنيا قبل الآخرة .
فكثير من المشهورين بالفسق المجاهرون به إذا مات الواحد منهم في صورة أعدها الشرع شهادة يعتقد الناس أنه مات شهيداً وهذا خطأ كما جاء في نفس الحديث السابق .
-------------------------------------------
10- عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إن الله عز وجل قال : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة " يريد عينيه . رواه البخاري
هذا حديث قدسي لأنه صلى الله عليه و سلم رواه عن ربه سبحانه أنه قال:
( إذا ابتليت عبدي ) أي عاملته معاملة المبتلي أي المختبر والابتلاء يكون في الخير و الشر .
( بحبيبتيه) أي عينيه .
( فصبر ) علي فقدهما محتسباً لأجرهما مدخراً له عند الله تعالى .
( عوضته خيراً منهما ) أي بدلهما ، فهو كقوله ( أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ) .
( الجنة ) أي مع الفائزين أو منازل مخصوصة منها .
قال النووي : يريد النبي صلى الله عليه وسلم بحبيبتيه ( عينيه ) فخصهما بهذا الوصف لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه و قد أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال صلي الله علية و سلم : ( يقول الله عز وجل : من أذهبت حبيبتيه فصبر و احتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة )
ووجه هذا الجزاء أن فاقدهما حبيس فالدنيا سجنه حتي يدخل الجنة علي ما ورد في الحديث ( الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر )
* فوائد الحديث :
1- فيه تسلية كل مصاب يصبر و يحتسب بالجنة و الجنة تساوي كل الدنيا بل قال النبي صلي الله عليه وسلم : ( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) أي مقدار متر ، ولأن ما في الآخرة باق لا يفنى ولا يزول والدنيا فانية وزائلة .
2- قال ابن عثيمين رحمه الله : واعلم أن الله سبحانه إذا قبض من الإنسان حاسة من حواسه فإن الغالب أن يعوضه في الحواس ما يخفف عليه ألم فقد هذه الحاسة التي فقدها .
فالأعمي يمن الله عليه بقوة الإحساس والإدراك حتى أن بعض الناس إذا كان أعمى تجده في السوق يمشي و كأنه مبصر يحس بالمنعطفات في الأسواق وبالمنحدرات و المرتفعات .
* ومنه تعلم أن الله سبحانه وتعالى عادة إذا ابتلي إنسان في شئ يعوضه في الدنيا بخير سواه ويعوضه في الآخرة بالأجر والثواب إذا صبر ، فإذا ابتلي الإنسان في جانب من جوانب حياته تجد هناك يسر في جانب آخر أكثر من غيره من الناس حتى لا يجمع عليه ما لا يطيق .
- فإن كان ابتلاه في أهله بما يسوؤه فتجده يرزق بصديق وقتي يحبه ويأنس به ويخفف عنه .
- وإذا ابتلي بالفقر يُعطي صحة وعافية ، و إذا ابتلي بكثرة الأولاد يُعطي المال .
- وإذا ابتلي في أكثر جوانب حياته فانه يُعطي ديناً قوياً وإيماناً صادقاً إن كان من أهل الإيمان .
أما إن كان من أهل الدنيا فانه يُعطي ويعوض بما لا يراه قلبه الميت ولكنه علي كل حال يستوفي حقه في الدنيا .
---------------------------------------
11- عن عطاء بن رباح قال : قال لي ابن عباس :
" ألا أُريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلت : بلي ، قال هذه المرأة السوداء أتت النبي (صلي الله عليه وسلم) فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف فادع الله تعالى لي ، قال: "إن شئت صبرت
ولك الجنة وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك " فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها " . متفق عليه
( ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلت بلي ، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ) مخبرة عما نزل بها من غير تبرم ولا تضجر لأن البر يهدي إلي البر طالبة منه الدعاء برفع دائها .
( إني اصرع ) من الصرع و هي علة معروفه .
( وإني أتكشف ) من التفعل أي ينكشف بعض بدني من الصرع ، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر .
( فادع الله لي ) أي برفع الصرع الناشئ عنه التكشف .
( قال إن شئت صبرت ) أي الصبر علي هذا الداء محتسبة الأجر عند الله .
( ولك الجنة ) جملة حالية أفادت فضل الصبر .
( وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) أي يرفع عنك هذا الداء .
( فقالت ) مختارة للبلاء والصبر علية لجزيل الثواب المرتب عليه .
( أصبر ) أي على الصرع لأنه يرجع إلي النفس ولما كان التكشف راجعاً لحق الله تعالى إذ هي مأمورة بستر جميع البدن لكونه عورة قالت : ( إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها ) فهي من أهل الجنة بوعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
* فوائد الحديث :
1- من قوله (ألا أريك امرأة من أهل الجنة ) يقول ابن عثيمين رحمه الله :
أهل الجنة قسمين :
* قسم نشهد لهم بالجنة بأوصافهم .
* وقسم نشهد لهم بالجنة بأعيانهم .
أ- أما الذين نشهد لهم بالجنة بأعيانهم : هم الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل العشرة المبشرون بالجنة وغيرهم ومثل هذه المرأة التي جاء ذكرها في الحديث فتقول مثلاً : نشهد بأن أبا بكر في الجنة ونشهد أن عمر في الجنة .
ب-أما الذين نشهد لهم بالجنة بأوصافهم : فهم كل مؤمن متقي لله يعمل الصالحات نشهد له بالجنة ولكن لا نقطع بذلك ، فلا تقول فلان في الجنة لأنك لا تدري ما يختم له ولا تدري هل باطنه كظاهره فلا تشهد له بعينه ، فإذا مات رجل مشهود له بالخير نقول : نرجو أن يكون من أهل الجنة .
2- قال ابن حجر : و في الحديث أن الصبر علي بلايا الدنيا يورث الجنة وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة .
3- قال ابن حجر : و فيه دليل علي علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية
ولكن إنما ينجح بأمرين :
أ- أحدهما من جهة المريض وهو : صدق القصد
ب- الآخر من جهة المداوي : وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل .
4- فيه بيان لفضيلة الحياء من المرأة وحرصها على الالتزام بما أمرها الله من الحجاب رغم أنها غير مقصرة باختيارها إلا إنها لم تستحل لنفسها التكشف وبحثت عن الشفاء من أجل ما يقع لها من التكشف أولاً وليس من أجل الخروج من بلاء الصرع فقط .
لذلك قالت : ( إني اصرع وإني أتكشف ) مبينة أن أشد ما يؤلمها في الصرع هو مسألة التكشف وحين عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصبر مقابل الجنة لم تجد نفسها معذورة في التكشف وترك التستر المأمورة به ، فطلبت منه أن يدعو لها حتى لا تتكشف .
فانظر لحرصها علي أداء أمر الله وانظر إلى غيرها ممن يتكشفن بإرادتهن بل يتفنن في إظهار زينتهن ، فحق لمثل هذه المرأة المؤمنة أن يبشرها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بالجنة ، وحق لغيرها ممن يبدين زينتهن باختيارهن أن يخبرهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويتوعدهن بأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها .
9- عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عن الطاعون فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء فجعله الله تعالى رحمةً للمؤمنين فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد ) رواه البخارى
( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون )
و الطاعون قيل: أنه وباء معين
وقيل : انه كان وباء عام يحل بالأرض فيصيب أهلها ويموت الناس منه و سواء كان خاصاً أو وباء عام مثل الكوليرا و غيرها فإن هذا الطاعون رجس و عذاب أرسله الله عز وجل ولكنه رحمة للمؤمن إذا نزل بأرضه وبقي فيها صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له فإن الله يكتب له مثل أجر الشهيد .
و لهذا جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) :
(إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )
والمعنى : إذا وقع الطاعون في أرض فإننا لا نقدم عليها لأن الإقدام عليها إلقاء بالنفس إلى التهلكة و لكنه إذا وقع في أرض ونحن فيها لا نخرج منها فراراً منه لأنك مهما فررت من قدر الله إذا نزل بالأرض فإن هذا الفرار لن يغني عنك من الله شيئاً .
( فاخبرها انه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء ) أي من كافر أو عاصي بارتكاب كبيرة أو إصرار علي صغيرة .
( فجعل الله رحمة للمؤمنين ) أي من هذه الأمة
قال الشيخ زكريا في حاشية البخاري : أي غير مرتكبي الكبائر
و في حديث أبى عسيب عند أحمد : ( الطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر ) وهو صريح في أن هذا الحكم خاص بالمسلمين
أما إذا وقع الطاعون بالكفار فإنما هو عذاب يعجل لهم فى الدنيا قبل الآخرة
أما العاصي من هذه الأمة (والمراد به مرتكب الكبائر) إذا هجم عليه الطاعون و هو مُصِر على المعصيه (لم يتب):
قال ابن حجر في شرح صحيح البخاري : فانه يحتمل أن يقال انه لا يكرم بدرجة الشهادة لشئوم ما كان متلبساً به ،
قال تعالى "(أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"
( فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده ) أي التي وقع بها الطاعون ( صابراً ) أي غير منزعج ولا قلق بل مُسَلِماً لأمر الله راضياً بقضاءه .
وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون ، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فراراً منه .
( يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب له ) قيد آخر وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة أي تصف حاله حين إقامته فلو أنه مكث و هو قلق أو متندم على عدم الخروج ظناً أنه لو خرج لما وقع به أصلاً ورأساً و أنه باقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد و لو مات بالطاعون .
( إلا كان له مثل أجر الشهيد )
قال النووي في دليل الفالحين : أي وإن مات بغير الطاعون .
فإنه حيث كان موصوفاً بما أشار إليه الحديث من قصده ثواب الله و رجائه موعوده عارفاً أنه لو وقع فبتقدير الله وإن صُرف عنه فكذلك وهو غير متضجر لو وقع به معتمداً على ربه في حال صحته و سقمه كان له أجر الشهيد وإن مات بغير الطاعون كما هو ظاهر الحديث .
و يؤيده رواية ( من مات في الطاعون فهو شهيد ) و لم يقل بالطاعون ، كذا لو وجد من اتصف بهذه الصفات ثم مات بعد انقضاء زمن الطاعون فان ظاهر الحديث أنه شهيد و نية المؤمن ابلغ من عمله أما من لم يتصف بالصفات المذكورة فان مفهوم الحديث انه لا يكون شهيداً و إن مات بالطاعون .
* فوائد الحديث :
1- وجوب الإيمان بالقدر خيره و شره ، فإن كل ما يقع في الكون بإذن الله و تقديره خيراً كان أو شراً .
فالإنسان كلما كان إيمانه بأقدار الله أقوى كان صبره أتم وأكمل ، فإنك حين تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطئك لم يكن ليصيبك فسوف تستقبل أحداث الحياة بقلبٍ راضٍ مطمئن لاختيار الله وقضاءه لأنك تعلم أنه هو سبحانه الذي قدره عليك و لو شاء لصرفه عنك .
2-قال ابن حجر: وفي الحديث: أن من رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يجعل لهم العقوبة في الدنيا ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة.
فقد أخرج الإمام احمد و صححه ابن حيان من حديث ابن عبيدة مرفوعاً :
" القتل ثلاثة : رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذاك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة ، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا وجاهد بنفسه وماله فى سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فانمحت خطاياه ، إن السيف محاء للخطايا . ورجل منافق جاهد بنفسه و ماله حتى يُقتل فهو في النار ، إن السيف لا يمحو النفاق" .
فمنه نأخذ أن الشدائد والمصائب في الدنيا هي كفارة للمؤمن وليس الأمر كذلك للكافر أو الفاسق المصر على معاصيه المجاهر بها فإنها لا تكون كفارة لخطاياه وإنما عذاب في الدنيا قبل الآخرة .
فكثير من المشهورين بالفسق المجاهرون به إذا مات الواحد منهم في صورة أعدها الشرع شهادة يعتقد الناس أنه مات شهيداً وهذا خطأ كما جاء في نفس الحديث السابق .
-------------------------------------------
10- عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إن الله عز وجل قال : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة " يريد عينيه . رواه البخاري
هذا حديث قدسي لأنه صلى الله عليه و سلم رواه عن ربه سبحانه أنه قال:
( إذا ابتليت عبدي ) أي عاملته معاملة المبتلي أي المختبر والابتلاء يكون في الخير و الشر .
( بحبيبتيه) أي عينيه .
( فصبر ) علي فقدهما محتسباً لأجرهما مدخراً له عند الله تعالى .
( عوضته خيراً منهما ) أي بدلهما ، فهو كقوله ( أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ) .
( الجنة ) أي مع الفائزين أو منازل مخصوصة منها .
قال النووي : يريد النبي صلى الله عليه وسلم بحبيبتيه ( عينيه ) فخصهما بهذا الوصف لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه و قد أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال صلي الله علية و سلم : ( يقول الله عز وجل : من أذهبت حبيبتيه فصبر و احتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة )
ووجه هذا الجزاء أن فاقدهما حبيس فالدنيا سجنه حتي يدخل الجنة علي ما ورد في الحديث ( الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر )
* فوائد الحديث :
1- فيه تسلية كل مصاب يصبر و يحتسب بالجنة و الجنة تساوي كل الدنيا بل قال النبي صلي الله عليه وسلم : ( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) أي مقدار متر ، ولأن ما في الآخرة باق لا يفنى ولا يزول والدنيا فانية وزائلة .
2- قال ابن عثيمين رحمه الله : واعلم أن الله سبحانه إذا قبض من الإنسان حاسة من حواسه فإن الغالب أن يعوضه في الحواس ما يخفف عليه ألم فقد هذه الحاسة التي فقدها .
فالأعمي يمن الله عليه بقوة الإحساس والإدراك حتى أن بعض الناس إذا كان أعمى تجده في السوق يمشي و كأنه مبصر يحس بالمنعطفات في الأسواق وبالمنحدرات و المرتفعات .
* ومنه تعلم أن الله سبحانه وتعالى عادة إذا ابتلي إنسان في شئ يعوضه في الدنيا بخير سواه ويعوضه في الآخرة بالأجر والثواب إذا صبر ، فإذا ابتلي الإنسان في جانب من جوانب حياته تجد هناك يسر في جانب آخر أكثر من غيره من الناس حتى لا يجمع عليه ما لا يطيق .
- فإن كان ابتلاه في أهله بما يسوؤه فتجده يرزق بصديق وقتي يحبه ويأنس به ويخفف عنه .
- وإذا ابتلي بالفقر يُعطي صحة وعافية ، و إذا ابتلي بكثرة الأولاد يُعطي المال .
- وإذا ابتلي في أكثر جوانب حياته فانه يُعطي ديناً قوياً وإيماناً صادقاً إن كان من أهل الإيمان .
أما إن كان من أهل الدنيا فانه يُعطي ويعوض بما لا يراه قلبه الميت ولكنه علي كل حال يستوفي حقه في الدنيا .
---------------------------------------
11- عن عطاء بن رباح قال : قال لي ابن عباس :
" ألا أُريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلت : بلي ، قال هذه المرأة السوداء أتت النبي (صلي الله عليه وسلم) فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف فادع الله تعالى لي ، قال: "إن شئت صبرت
ولك الجنة وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك " فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها " . متفق عليه
( ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلت بلي ، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ) مخبرة عما نزل بها من غير تبرم ولا تضجر لأن البر يهدي إلي البر طالبة منه الدعاء برفع دائها .
( إني اصرع ) من الصرع و هي علة معروفه .
( وإني أتكشف ) من التفعل أي ينكشف بعض بدني من الصرع ، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر .
( فادع الله لي ) أي برفع الصرع الناشئ عنه التكشف .
( قال إن شئت صبرت ) أي الصبر علي هذا الداء محتسبة الأجر عند الله .
( ولك الجنة ) جملة حالية أفادت فضل الصبر .
( وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) أي يرفع عنك هذا الداء .
( فقالت ) مختارة للبلاء والصبر علية لجزيل الثواب المرتب عليه .
( أصبر ) أي على الصرع لأنه يرجع إلي النفس ولما كان التكشف راجعاً لحق الله تعالى إذ هي مأمورة بستر جميع البدن لكونه عورة قالت : ( إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها ) فهي من أهل الجنة بوعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
* فوائد الحديث :
1- من قوله (ألا أريك امرأة من أهل الجنة ) يقول ابن عثيمين رحمه الله :
أهل الجنة قسمين :
* قسم نشهد لهم بالجنة بأوصافهم .
* وقسم نشهد لهم بالجنة بأعيانهم .
أ- أما الذين نشهد لهم بالجنة بأعيانهم : هم الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل العشرة المبشرون بالجنة وغيرهم ومثل هذه المرأة التي جاء ذكرها في الحديث فتقول مثلاً : نشهد بأن أبا بكر في الجنة ونشهد أن عمر في الجنة .
ب-أما الذين نشهد لهم بالجنة بأوصافهم : فهم كل مؤمن متقي لله يعمل الصالحات نشهد له بالجنة ولكن لا نقطع بذلك ، فلا تقول فلان في الجنة لأنك لا تدري ما يختم له ولا تدري هل باطنه كظاهره فلا تشهد له بعينه ، فإذا مات رجل مشهود له بالخير نقول : نرجو أن يكون من أهل الجنة .
2- قال ابن حجر : و في الحديث أن الصبر علي بلايا الدنيا يورث الجنة وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة .
3- قال ابن حجر : و فيه دليل علي علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية
ولكن إنما ينجح بأمرين :
أ- أحدهما من جهة المريض وهو : صدق القصد
ب- الآخر من جهة المداوي : وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل .
4- فيه بيان لفضيلة الحياء من المرأة وحرصها على الالتزام بما أمرها الله من الحجاب رغم أنها غير مقصرة باختيارها إلا إنها لم تستحل لنفسها التكشف وبحثت عن الشفاء من أجل ما يقع لها من التكشف أولاً وليس من أجل الخروج من بلاء الصرع فقط .
لذلك قالت : ( إني اصرع وإني أتكشف ) مبينة أن أشد ما يؤلمها في الصرع هو مسألة التكشف وحين عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصبر مقابل الجنة لم تجد نفسها معذورة في التكشف وترك التستر المأمورة به ، فطلبت منه أن يدعو لها حتى لا تتكشف .
فانظر لحرصها علي أداء أمر الله وانظر إلى غيرها ممن يتكشفن بإرادتهن بل يتفنن في إظهار زينتهن ، فحق لمثل هذه المرأة المؤمنة أن يبشرها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بالجنة ، وحق لغيرها ممن يبدين زينتهن باختيارهن أن يخبرهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويتوعدهن بأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها .
تعليق