رياض الصالحين
باب الصبر
ما هو الصبر؟
قال العلماء:
الصبر: هو ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة
باعث الدين : هو ما هدى إليه الإنسان من معرفة الله ورسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب ، وهي الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات.
باعث الهوى : هو مطالبة الشهوات بمقتضاها .
- وبهذا نعلم أن حقيقة الصبر: هي ثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى .
ولكي تفهم هذا المعنى ، ينبغي أن تعرف ما هو مصدر هذان الباعثان في الإنسان ، باعث الدين وباعث الهوى .
يقول تعالى (وَنَفْسٍ وَمَـا سَوَّاهَـا فَـألْـهَمَها فُجُورَها وتـَقْوَاهَا)
فالنفس البشرية ركب الله فيها ميول للخير ورغبة فيه ، وجعل فيها أيضاً ميل للشر ورغبة فيه .
باعث الدين : منشأه من استجابة النفس لنزعة الخير التي خلقت فيها ،
وباعث الهوى : منشأه من استجابة النفس لنزعة الشر التي وجدت فيها ،
وكلما كانت الاستجابة أعلى كان الباعث أقوى.
* الإنسان مكون من جزئين : جزء مادي ومحله الجسد ، وجزء روحي ومحله القلب، ولكل جزء منهما غذاء يقوى به إذا تعاطاه ، ويضعف إذا حُرم منه.
● فغذاء الجسد من الأرض التي خلق منها كجميع أنواع الطعام والشراب ، وكلما انتقص هذا الغذاء ضعف الجسد، وإذا حُرمه لفترة طويلة هلك .
● وغذاء الروح من السماء، فكل ما يصلك بالله تعالى هو غذاء للروح وصحة وقوة للقلب، مثل الذكر والصلاة والصيام والنية الحسنة وحب ما يحبه الله وبغض ما يبغض الله.
فليس الغذاء متوقف على ما يصدر من الجوارح ، وإنما المشاعر التي تربطك بالله هي كذلك من غذاء الروح ، كالحب في الله ، والبغض فيه ، والفرح بالطاعة ، والحزن على إتيان المعصية.
وكلما قلَّ هذا الغذاء ضعف القلب. وكلما زاد حرمانه من الغذاء لمدة طويلة ، قد يموت هذا القلب ، فلا يستقبح قبيحاً ولا يستحسن معروفاً، فقد عُدِمَ الإحساس تماماً مثل الميت.
* ولكن موت القلب ليس كموت الجسد
فالجسد إذا مات ، أي لم تعد فيه حياة ، فإنه لا مرد للحياة فيه إلا يوم النشور، أما القلب فإذا مات ، فهو كالأرض إذا ماتت فلم يعد بها حياة ولم تعد صالحه للإنبات .. ولكن إذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج .
كذلك القلب إذا مات ثم جاءه نور من الله فإنه يحيا بهذا النور ، وتعود إليه قوته وصحته.
نقول هذا حتى إذا زاد بُعْدُ الإنسان عن ربه ، وأيقن بموت قلبه ، لا ييأس، فليس موت القلب كموت الجسد.
لذلك عندما دعا الله تعالى أصحاب القلوب القاسية للخشوع فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)
قال بعدها :
( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ... فما علاقة الأرض بالقلب؟
إشارةً إلى أن القادر على أن يحيي الأرض بعد موتها هو قادر على أن يحيي القلوب بعد موتها ، حتى لا نيأس من رحمته.
ومنه نفهم أيضاً :
أن الإنسان كلما اهتم بغذاء جسده مع إهمال غذاء الروح فإن هذا يزيد من جاذبية الأرض له لأنه منها خلق فيكون مجذوب دائماً للشهوات حتى وإن رفضها بعقله.
وإذا اهتم الإنسان بغذاء روحه فإن جسده يخف لأن الروح ستنجذب إلي أعلى ويقل انجذاب الجسد إلي أسفل فيسهل عليه فعل الطاعات وترك الشهوات.
* فالإنسان إما مجذوب إلي أعلى وإما مجذوب إلي أسفل ، فكل مهموم بالدنيا منجذب إليها وكل مهموم بالآخرة منجذب إليها .
لذلك الذي يشتكي من قوة إقباله ورغبته في المعصية رغم أنه يعلم ضررها ويرفضها بعقله نقول له:
اهتم بغذاء القلب حتى يسهل عليك ترك الشهوة ، فإن انقيادك للشهوة وشدة تعلقك بها إنما يكون لشدة الجذبة إلي الأرض وضعف الجذبة إلي أعلى ، فقوى قلبك حتى تنجذب إلي أعلى ويقوى باعث الدين على باعث الهوى فيتمكن من مقاومته.
لهذا قال العلماء: إن باعث الدين له مع باعث الهوى ثلاثة أحوال :
1) أن يقهر باعث الدين باعث الهوى فلا تبقى له قوة
والواصلون إلي هذه الرتبة هم الأقلون وهم الصدقيون المقربون ( الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا )
وهم الذين يناديهم المنادي : " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ُ"
2) أن يغلب باعث الهوى باعث الدين فيُسلم نفسه إلي جند الشياطين ولا يجاهد ليأسه من هذه المجاهدة.
وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون وصاحب هذه الحالة يقول أريد أن أتوب لكني لا أقدر على التوبة ، أو يقول أن الله غفور رحيم كريم لا حاجة به إلى توبتي، قد صار عقله ذليلاً لشهوته لا يستعمله إلا في الحيل التي يتوصل بها إلي قضاء شهوته.
3) أن يكون الحرب سجالاً بين الجندين تارة له وتارة عليه
وأهل هذه الحالة هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وأخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم.
■ ويكون الحال يوم القيامة موازي لهذه الأحوال الثلاثة :
● فمن الناس من يدخل الجنة ولا يدخل النار (الصنف الأول)
● ومنهم من يدخل النار ولا يدخل الجنة (الصنف الثاني)
● ومنهم من يدخل النار ثم يدخل الجنة (الصنف الثالث)
* ومنه نعلم أيضاً: أن من الناس من يصبر بجهد ومشقة ، ومنهم من يصبر بأدنى حمل على النفس.
ومثال الأول: كرجل صارع رجلاً شديداً فلا يقهره ألا بتعب ومشقة
ومثال الثاني: كرجل صارع رجلاً ضعيفاً فإنه يصرعه بغير مشقة
ذكر أبي الدنيا عن بعض السلف:
" أن شيطاناً لقى شيطاناً فقال مالي أراك شحيبا ً؟
فقال: إني مع رجل إن أكل ذكر الله فلا آكل معه ، وإن شرب ذكر اسم الله فلا أشرب معه ، وإن دخل بيته ذكر اسم الله فأبيت خارج الدار.
فقال الآخر: لكني مع رجل إن أكل لم يسم الله فآكل أنا وهو جميعاً، وإن شرب لم يسم الله فاشرب معه، وإن دخل داره لم يسم الله فادخل معه ، وإن جامع امرأته لم يسم الله فأجامعها "
فمن اعتاد الصبر هابه عدوه ومن عز عليه الصبر طمع فيه عدوه وأوشك أن ينال منه غرضه.
* طرق تحصيل الصبر :
الصبر عبارة عن مصارعة باعث الدين باعث الهوى
فإذا أردنا أن يغلب أحد المتصارعين الآخر فلابد من تقوية من أردنا له النصر وتضعيف الأخر.
فيكون طريق تحصيل الصبر: بتقوية باعث الدين وتضعيف باعث الهوى
1) تضعيف باعث الهوى:
إن كان الهوى شهوة : فسبيل تضعيف باعث الشهوة الآتي:
1- أن ننظر إلي مادة قوتها وهي الأغذية المحركة للشهوة (من حيث كثرتها ومن حيث نوعها) ونقطعها
فمن الأغذية المحركة للشهوة: كثرة الطعام، الخلطة الفاسدة، كثرة النوم
لذلك كان الصوم من الأدوية الموصوفة لمقاومة الشهوة لأن فيه قطع لمادة من مواد قوتها وهي كثرة الطعام.
2- قطع أسبابه المهيجة في الحال .. مثل النظر
فالشهوة تهيج بالنظر إلي مظان الشهوة ، إذ النظر يحرك القلب والقلب يحرك الشهوة ، وهذا يحصل بالعزلة والاحتراز من وقوع البصر على الصور المشتهاه والفرار منها .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم مسموم من سهام أبليس"
3- تسلية النفس بالمباح من الجنس الذي يشتهيه وذلك بالنكاح لمن يعاني من شهوة النظر إلي النساء فإن كل ما يشتهيه الطبع ففي المباحات من جنسه ما يُغني عن المحظورات منه.
2) تقوية باعث الدين : بطريقين :
أ- إطعامه من فوائد المجاهدة وثمراتها بكثرة الإطلاع على الأخبار الواردة في فضلالصبر .
ب- أن يُعَوِّد هذا الباعث مصارعة الهوى تدريجياً قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر بها فيقوى على مصارعتها .
فمن عود نفسه مخالفة الهوى غلبها متى أراد (أي غلب نفسه) .
يتبع ..
تعليق