على هامش القمع ..
بقلم / مُعتز أبو عين ..
كانَ الجلادُ يسيرُ في ساحةِ السجنِ الكبرى أو المَسْلخ (كما كانَ يسميه المواطنونَ في تلك العنابرِ) ،
وكانَ يُردد بهستيريا :
عِلاجُكم هو الجوع ، دواؤكم هو الذلُ ،الفقرُ ، الجَلْد يا قرود ..
أنا من سَيشفيكم !!
اعتادَ المواطنون صبيحةَ كُلِّ يومٍ أن يسمعوا (سيمفونية) الآلامِ تلك؛ إلاَّ أنهم اعتادوها كما اعتادوا الجوعَ والعريَّ؛ فالساحةُ كانت عبارةً عن سورٍ إسمنتي قَديم، تتباينُ من خلاله بعضُ قطع الطوب المختلطةِ بعرقِ المواطنين ودماءِ المسجونين، وكان بين كل عشرة طوبات قطعة حديدية حمراء اللون من الصَدأ والدم، وقد عُلِّق عليها أحدهم من يَديه، وهكذا إلى باقي السور، وكان قَد فُرض عليهم المكوث هنالك طوالَ اليومِ بحَرهِ وبردِه ..
ألم يَجرؤوا أن يطلبوا زيادةً على كِسرة الخبز اليومية؟!
إذاً فهم يستحقونَ ذلك!!
لم يَكن الخمرُ هو الذي قادَ الجلاد إلى حتفه، ولا مَالُه أو غِناه، ولا تلك الطاولةُ التي كانَ يضعها في نصفِ الساحة وعليها أشهى أصنَاف الطعامِ والفاكهةِ والمشروباتِ، بينما كانَ يَطوفُ أحد أعوان الجلادِ بكيسٍ أسودٍ ممتلئ بكَسَرَاتِ الخبزِ اليابِسة، وفي شِماله قارورةُ ماءٍ في قاعِها حفنةٌ مِن تراب الوطن ..
يُوزعها مُشمئزاً على هَؤلاء الثوار المُعلَّقينَ على سور السجن، كلا !!
إنَّ الجوعَ نفسه هو الذي أعادَ لهم الشِّبع ..
الذلُ عينُه هو الذي وهَبَ لهُم العِزة ..
الهَوانُ نفسهُ هو مَن قادَهم إلى الكرامةِ ..
وحدَثَ ما لم يَكُن بالحُسبانِ !!
مَضى على الناسِ وهم مُقيدونَ أكثر من شهر، فأصبَحت وجوههم كالحة محروقة، وأصبَحت عِظامُهم تَظهرُ من بَينِ لحمهم، وصارت عُيونُهم تَدخلُ إلى جَماجِمهم يوماً بعدَ يوم، حتى كادوا يَهلَكون ..
لكنَّ الثورةَ حدثت في لحظة!!
عادَ الجلادُ بعد ليلِ طويل أشبع فيهِ المساجينَ شَتماً وجوعاً وذُلاً لو قُسِّمَ على سُكانِ البلدةِ كُلِّها لنالَ الرضَّعَ مِنها نصيبٌ!!
عادَ إلى فِراشه الحريري الذي كان داخل السجنِ نفسه،ثم وضَع زُجاجةَ الخمرِ وقَدحَ الذهبِ على طاوِلةِ الفضةِ أمامَهُ، ثم تَلفَع بالحَريرِ وغرق في نومٍ عَميق ..
كانوا مُعلقينَ، لكنَّهم أحياء يَتنفسُونَ بصعوبةٍ بالغة، لقد تَمزقت جُلودُهم، إلا أنهم بقوا يتَهامسونَ فِي ما بَينهم، وكَانَ صوتُ صدى وقع خُطى الجَلادينَ وضحِكاتهم ورائحَةُ سجائرهم قد هَمدت قَليلاً ..
فعمَّ السكون في أرجاءِ الساحةِ، وما هي إلا لحظات وإذا بأحد المُعلَّقينَ-وهو أكثرُ من جُوِّع- قدْ سَقَطَ على الأرضِ، فَقَامَ مَرعُوباً لا يَدري ماذا حَدث؟!
فَنظرَ وتأملَ قليلاً و السعادةُ تَغمُرهُ !!
فإذا بالقيدِ الذي كانت يَداه به مَوثقتانِ قَد صَغُرت على مِعصميه!!
لَقد ضَعُفَ لحَمُهُ مِن الجُوع حتى نَفذ، نَعم !!
لم يَبقَ مِن اللحم والدهن ما يمسك القَيدُ بِه يدَه، فَسقطَ. لقد سقطَ إلى الحُريةِ، ثُم ذَهبَ بهيكلهِ وما تَبقى عليهِ من الجلدِ إلى باقي الموثقين على ذلك السورِ يُخبرهُم بالسرِ الذي نَجاهُ، فنظرَ بعضهم إلى بَعضٍ، تأملوا حاَلهم، وإذا بِهم كُلهم يَفكونَ قَيودهم بالجوعِ، ويسقُطونَ إلى أرضِ الوطنِ من سورِ الوطن الدامي، ويُهرعون بالمئاتِ كالأمواتِ إلى بابِ الجلادِ، ويهتفُونَ بِشعاراتِ الجلاد ذاتِها : (الجوعُ عالجنا ... الذل أنقذنا... الفقرُ خلصنا) ، وإذا بهم يجرفون في طريقهم كل الحراس والسجانين، حتى وصلوا إلى غُرفةِ الجلاد، فأخذوهُ ولم يَسمعوا وعوده في (الإصلاحِ والتجديد) ..
أخذوه إلى طَاولته في الساحةِ وعلقوه بإحدى الحدائدِ تلك، ثم طافوا عليهِ بكلِ أصناف الطعامِ والشراب حتى امتلاءَ بطنهُ، ثم قادوهُ إلى غُرفتهِ، وعلقوهُ في سقفِ الغرفةِ على طاولتِه الفضيةِ، ثم شَنقوهُ في دثاره الحريريّ ..
تعليق