الأهم في هذا الباب هو معرفة آراء المتخصصين في علوم هاتيك المخطوطات .. وهذا يحتاج إلى إجادة الإنجليزية .. وسيكون الإلمام بمبادئ اللغتين - العبرانية واليونانية القديمتين - متممـًا للإفادة ..

أما إجادة اللغتين والبدء بدراسة مخطوطات العهدين كأننا نريد "تحقيق" نسخة .. فهذا - على مشقته الشديدة - قليل الثمرة.

والله أعلى وأعلم، بغيبه وأحكم.

عن هذه وتلك ..

خبرتي في "تحقيق المخطوطات" هي أني امتهنت هذه المهنة أعوامـًا معدودات ، ومن فضل الله عليَّ أن تدربت مرتين على يد كبير المحققين واللغوين العرب في زمانه "د. رمضان عبد التواب" رحمه الله ، وهو كان أستاذي في كلية الآداب على مدار أربع سنين .. ومادة "تحقيق المخطوطات" كانت ضمن دراستي الجامعية .. بقي أن أقول إني عاشق لهذا المجال منذ أن عرفته إلى الآن.

لست محققـًا ذا شأن لو دار ببالك هذا ، لكني أحب مطالعة ما يجري على ساحته الشيقة باستمرار.

طبعًا في الممارسة العملية لم أتعرض لتحقيق مخطوطة غير عربية ، إذا تسامحنا مع محاولات فاشلة جدًا لتحقيق مخطوطة فارسية !

هذا عن المخطوطات .. وأما عن اللغات فقد كانت العبرية اختياري للغة الشرقية أثناء دراستي في كلية دار العلوم ، وكانت شكوى "دكتور" المادة مني مستمرة لسؤالي الدائم عن كل قاعدة أو ظاهرة لغوية يشرحها : هل هي في العبرية الحديثة فقط أم هي في العبرانية القديمة أيضـًا ؟! .. لأني لاحظت أن أكثر الجهات والهيئات والكتب تخلط كثيرًا في دراستها للعبرية بين القديمة والحديثة .. أعني بين عبرية العهد القديم (إن كانت واحدة) ، وبين العبرية الحديثة في صورتها الأخيرة.

المشقة التي أشرت إليها لم أكن أعني بها مشقة دراسة اللغتين ، وإنما قصدت بها مشقة تحقيق المخطوطات ..

مشقة دراسة اللغة - أي لغة - نسبية .. بعض الناس موهوبون في دراسة اللغات يستطيعون الإلمام بمبادئها خلال أسبوع فقط ، وقد رأيت هذا بعيني .. وبعض الناس يقضون السنوات العجاف لا يكادون يظفرون بشيء .. الاستعداد الشخصي هنا له الدور الأكبر بعد عون الله تعالى ..

أما مشقة تحقيق المخطوطات فحدث ولا حرج ..

الرسالة القصيرة ، التي لا تتعدى خمسين ورقة مثلاً ، إذا كان لها ثلاث مخطوطات ، فتحقيق هذه الرسالة يحتاج زمانـًا كبيرًا مهما كانت مقدرتك العلمية وخبرتك في هذا المجال .. فما بالك بأسفار كاملة ، مئات الورقات ، نسخها المخطوطة بالمئات دعك من الترجمات ..

المشكلة هنا أنه لا يمكنك أن تتجاهل مخطوطة واحدة حتى لو كانت حديثة .. لأن هذه الحديثة قد تكون منسوخة عن أخرى قديمة مفقودة ..

فتخيل نفسك تتعرض لتحقيق سفر من هاتيك الأسفار ، فتجمع بين يديك مئات المخطوطات ، عليك قراءتها واحدة واحدة ، كلمة بكلمة ، حرفـًا بحرف ، تجعل إحداهن رئيسة ، ثم تقابلها على كل مخطوطة أخرى بين يديك .. وتثبت الفروقات بين النسخ ، تمهيدًا لإعمال آلة الفكر والنظر الاجتهاد والترجيح بعد ذلك .. واصل التخيل فقط لتعلم مدى مشقة ذلك فما بالك بالتجربة الفعلية ..

وعلى فرض أن المسلم ارتكب هذه المشقة ، فما الفائدة المرجوة ؟! .. هل مهمته مثلاً أن يخرج لنا نسخة محققة لهذا السفر أو ذاك ؟!

هذا بعيد .. لأن المسلم - أو غيره - سيكتشف أنه يدور في دائرة محدودة ، وأن الكثرة الكاثرة من هاتيك المخطوطات لا تخرج عن الأزمان المتأخرة ، والمخطوطات القديمة "لقيطة" ، مجهولة المصدر ، معدومة النسب أو مدخولة بالشك ..

وأقصى فائدة تتحصل من هذا : أن يقول النصراني : العبارة الفلانية تخدم التثليث ، فيرد المسلم عليه قائلاً : في المخطوطات صياغة أخرى للعبارة هي الأدق وهي لا تخدم التثليث ..

وهذه الثمرة - على أهميتها - يمكن اقتناصها من طريق آخر أسهل وأيسر .. لا يضطر فيه المسلم إلى مباشرة التحقيق المجهد بنفسه ..

والطريق الآخر الأسهل الذي أعنيه ، هو أن يعتمد المسلم على المجهودات السابقة ..

فهذه المخطوطات الهائلة العدد ، قد جمعتها هيئات عديدة وقابلت بينها كلمة بكلمة وحرفـًا بحرف .. فالأولى أن نعتمد على هذه المجهودات بدلاً من قيامنا بها مرة أخرى ..

نعم، هذه المجهودات تفاوتت في الدقة والاتجاه ، لكن معالجة الترجيح بين هذه النتائج النهائية أيسر آلاف المرات من بداية الأمر من أوله ..

وهناك نتائج مُرضية جدًا - لنا كمسلمين - اتفق عليها النصارى والملاحدة .. وأرى فيها الكفاية وزيادة لإقامة الحجة على النصارى .. دون الاحتياج إلى بذل المجهودات الخرافية في التحقيق العلمي السليم لأسفار القوم ..

هذه النتائج تحتاج إلى إجادة الإنجليزية ، وربما بعض مبادئ العبرانية واليونانية القديمتين .. وهذا طريق غير بعيد والله أعلم.


هذا المجال - كأي مجال - فيه المتخصصون بحق ، وفيه الأدعياء .. وبينهم درجات ..

لكن علينا أن نفرق بين "المعلومات" وبين "التفسير والترجيح" ..
"ميتزجر" مثلاً قام مع فريقه بمجهود رائع في تحقيق العهد الجديد .. هم يقولون لك : هذه الكلمة كذا في المتن ، ثم يخبرونك في الهامش بأنها وردت بصيغ أخرى أو لم ترد أصلاً في المخطوطات كذا وكذا ..
"ميتزجر" قام هنا بأمرين :
الأول : أخبرك بالمعلومة .. أخبرك ماذا يوجد في المخطوطات التي قد لا تستطيع جمعها بين يديك للمقابلة لو أردت ..
الثاني : "رجح" القراءة التي يراها صحيحة .. هنا نقول "لميتزجر" : قف ! .. بأي منهج رجحت ؟ .. وتعال نمتحن منهجك هل فيه خلل وقصور أم لا.