العلمانية العربية تخلط أم تخطط؟!
د. يزيد حمزاوييَحَارُ المسلم اليوم أمامَ المنطق العلماني لبعض الْحَداثيين والعَصرانيين العرب، فهم يعملون جاهدين بأقلامهم ونفوذهم على تعطيلِ الإسلام، وسَحْبه من الحياة العامَّة، وحتى الخاصة للناس، وفي الوقت نفسه لا تزال رُبَّما بعض ذرَّات الخوفِ أو الحياء تمنعُهم من أن يُصرِّحوا برفْضهم المطْلَق للدِّين؛ حتى لا يَظهروا بمظهر الملاحِدة المحارِبين لكلِّ شَعيرة دينيَّة مَهْمَا كانتْ صغيرة، هذا إذا أحْسَنَّا الظنَّ بهم؛ لأنه قد يكون إحجامُهم عن رَفْض الدِّين علانية، بل وادِّعاؤهم في بعض الأحايين الدفاعَ عن الإسلام ضدَّ المحتكرين له من الإسلاميين، "تكتيكًا" مَرحليًّا سرعان ما سيصير إستراتيجيَّة استئصاليَّة لكلِّ ما هو مسلم أو إسلامي، حالَمَا يفقد المسلمون عمومًا والإسلاميون خصوصًا نفوذَهم الباقي.
بمنطق بعض هؤلاء العلمانيين والليبراليين - بحسب "تكتيكهم" المرحلي - فإنَّ المشكلة ليستْ في الشريعة الإسلامية، وإنَّما في الإسلاميين ذاتِهم الذين احتكروا الشريعة لأنفسهم؛ من حيث فَهْمها وتفسيرها، ومعاقبة كلِّ مَن يخالف ذلك التفسير، ويتراوح ذلك العقاب الذي يُمكن أن ينالَه مخالفوهم - كما يزعم أحدُهم - من القتْل وهَدْر الدم، إلى التكفير والتفسيق، مقارنًا الحالة الإسلاميَّة المتطرِّفة بحالة مَحاكِم التفتيش!
وللأسف أنَّ هؤلاء العلمانيين يختبئون وراء بعض مَن يُحسَبون على التيار الإسلامي "المعتدل"، أو بعض مَن يُسمون بالمفَكِّرين المسلمين العَصْريين والمتنوِّرين، وفي هذا الصدد يقول أحدُ رموز هذا التيار: "إنَّ مشكلة النصرانيَّة هي الصليبيَّة والكنيسة، ومشكلة اليهودية هي الصِّهْيَونيَّة، ومشكلة الإسلام هي الإسلاميون".
وفي السياق نفسه الذي يُلقَى فيه اللوم على الإسلاميين وعلماء الأُمَّة والدُّعاة إلى الله، ثَمَّة تفكيرٌ علماني، يحسبه المراقب للوهْلة الأولى متخبِّطًا لحدِّ التناقُض، نجده في ثنايا التصريحات والكتابات العلمانية المغْرِضة التي ترفض الشريعة، لكن بأسلوب تلفيقي مُخادِع.
كنتُ قبل مدة قد حضرتُ مؤتمرًا دوليًّا في "الجزائر"، كان عنوانه: "الخطاب الديني والتَّحديات المستقبليَّة" من أبرز مَن شارَك فيه بمحاضرة العَلماني الشهير حسن حنفي، وخلاصة محاضرته، كما فَهِم الحاضرون واستوضحتُه منه على انفراد أنَّه لا يوجد في الحقيقية دينٌ، وإنَّما توجد خطابات دينيَّة إسلاميَّة، والخطاب الديني عنده: هو التفسير الذي يقدِّمه كلُّ أحدٍ للنصوص، ومِن ثَمَّ كانتْ نتيجة كلامه هي ضرورة التقيُّد بالنصوص الشرعية كما هي؛ قطعًا للطريق على الإسلاميين؛ حتى لا يَفرضوا مفهومهم للنصوص وتفسيراتهم لها، فالنصوص في رأْيه كفيلة بأنْ تنبِئ بما تريد!
ولا أدري كيف يُمكن تصوُّر نصوص دينيَّة غير مقروءة مُجرَّدة في الهواء؛ لأنها في رأْيه بمجرَّد قراءتها تُصبح خطابًا دينيًّا وليس دينًا، كما حاوَل عبثًا إفهامي!
إنَّ هذا التوجُّه العلماني الجديد يرى أنَّ تفسيرات الإسلاميين المتعَصِّبة والمتطرِّفة: هي تحريفات للنصوص عن مدْلولها المنطوق به؛ مما أوْقَع الأُمَّة في الْحَرَج الشديد؛ حيث ضُيِّق مجال المباحات على الناس، ووُسِّع من مجال المكروهات والمحرَّمات، ويضربون على ذلك أمثلة، منها ما ذكرتْه إحدى العلمانيات المنادِيات بحقوق المرأة، إذ زعمتْ أن حجاب المرأة لَم يردْ في النصوص الشرعية، وإنَّما الذي ورَدَ في القرآن هو قوله - تعالى -: ﴿ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ [الأحزاب: 53].
والمقصود هو: الرداء الذي يوضَع على الباب بين غُرفة وأخرى ونحوه، لكنَّ الإسلاميين تَجَاوَزُوا النصَّ، فحرَّفوا معناه، فجعلوه حجابًا يغطِّي رأْس المرأة... مُتجاهلة الآيات الأخرى والأحاديث التي تبيِّن حُكْمَ الإسلام في الحجاب.
ومن الأمثلة الأخرى ما يُسمَّى الاختلاط بين الجنسين، فقد ذَكَر أحدُهم أنَّ الاختلاط الذي يحرِّمه الإسلاميون في العمل والجامعات والمجتمع كله هو من اختلاقهم، ولم يأتِ به شرْعٌ بنصٍّ صريح، وإنَّما قاسوا الاختلاط على الخلوة التي حرَّمها الله، فلو اقتصرَ الإسلاميون على النصوص - كما جاءتْ - لَمَا وجدْنا قوانينَ الحظر هذه التي تخنقُ المجتمع - على حدِّ تعبيره!
قالتْ إحدى العلمانيات البحرينيَّات، لَمَّا سُئلتْ عن بعض الأحكام الإسلاميَّة التي تريد إلغاءَها من المجتمع: "إنَّ النصوص الشرعية على "عيني ورأْسي"، لكنَّ المشكلة في الدُّعاة والإسلاميين، فَهم كلُّهم ذكور؛ لذلك هم يفسرون تلك النصوص تفسيرًا ذكوريًّا، يخدم مصلحتَهم كذكور ورجال، ولا يبالون بتحريف النصِّ، ونحن نقفُ ضدَّ هؤلاء، ولا نقف ضدَّ النصوص".
إنَّ هذه الجماعة من العلمانيين تدعونا إلى أن نترُكَ المفهوم في تدبُّر النصوص الشرعية، ونكتفي بالمنطوق؛ لتغلقَ بذلك بابَ الاجتهاد وإعمال العقْل الذي أكرمَنا به ربُّنا - جل وعلا - وكون هذا العقل لا يفسِّر النصوص إلاَّ بِما يخدم الذكور؛ لذلك فالتفسيرُ العقلي الإسْلامي مَرْدودٌ على أصحابه.
في المقابل يفاجئنا علمانيون آخرون بنقيضِ ذلك الرأْي، فبالنسبة لهم، فإنَّ مشكلة الإسلاميين مع النصوص هي العكس تمامًا، فهم منغلقون عليها، يقفلون بابَ الاجتهاد في تفسيرها وفَهْمها؛ مما يقيِّدهم في حَرْفيَّة النصوص، فهم محجوبون عن فَهْم المقاصد والمدلولات، والمفهومات التي تتضمَّنها الآيات، والأحاديث التي لا يُمكن فَهْمها دون مَلَكَة العقْل المستنير والنظر الثاقب، الذي يستنبط الأحكامَ مِن وراء السطور، ومن بين الكلمات.
لهذا، فإنَّ آفة الإسلاميين مع الوحْي أنَّهم أسْرَى النصوص الدينيَّة، ولا يتجاوزون ظاهرَ النص القرآني أو السُّنِّي في استنباط الأحكام الشرعيَّة والفتوى، يقول أحدُهم في جريدة الأهرام، وهو مِن الذين يُعَدُّون مُحَلِّلين علمانيين للقضايا الإسلامية: "نُعاني مِن تزمُّتِ وجُمُودِ مَنْ تمسَّكوا بحَرْفيَّة النصوص، متناسين النظرَ العقلي، وتقديم العقْل على ظاهر النصِّ".
ويصفُ هذا الكاتب في الأهرام دُعاة الإسلام الذين يُفْتون بما لا يَروق له ولجماعته التي ينطق باسمها: "بأنَّهم جماعة تفرِض هَيْمنة الخطاب الديني التقليدي غير المتسامح الرافض للآخر، المنغلِق على نفسه، الرافض للانفتاح، لا يقرأ النصوص الشرعيَّة برُوح معاصرة"، وتَعني الرُّوح المعاصرة عنده: إلغاء التفسيرات النصيَّة، واستبدالها بالنظر العقلي المنفَتِح الذي "يُعَصْرِن" النصوص؛ باستحلال المحرَّم وتحريم المباح، بل الواجب إرضاء نزوات العقْل، وفلتات الفكْر، وشطحات مُنَظِّرين مُنْبَهرين بنموذج العلمانية الأوروبيَّة التي فعلتْ ذاتَ الأمر مع نصوص الكتاب المقدَّس.
وقبل سنوات نَهقتْ علمانية خليجيَّة ممن أُشْرِب قلبُها حِقدًا على شيخ الأُمَّة وإمام عصره العلاَّمة ابن باز - رحمه الله - لَمَّا ذُكِرتْ لها بعضُ فتاويه الداعية إلى الفضيلة، والتي تمنع المرأة من التفسُّخ والخروج عن العِفَّة، تقول بلا أدبٍ ولا خُلق ولا مُروءة: "... الشيخ أعمى، فهو لا يرى الحضارة، وإنَّما يحفظُ نصوصًا صمَّاءَ قديمة ويردِّدُها، ونحن اليوم في القرن العشرين لا يجوز أنْ يكونَ مُفْتِينا أعمى".
وقد انتشرتْ بين هؤلاء في السنين الأخيرة بدعة الإسلام الْحَدَاثي المستنير، و"موضة" الإسلام المعتَدِل، وشقشقة الفَهم العَصْري للنصوص، والادِّعاء العريض بالقُدْرة على إدراك أغوار النَّص الديني، والإتيان بما لم تأتِ به الأوائل، حتى كأنَّهم أشدُّ استيعابًا وفَهْمًا واجتهادًا من السابقين، من أمثال: مالك، والشافعي، والشاطبي، وابن تيميَّة، وابن دقيق العيد،... وغيرهم، مع أنَّ أكثرَهم لا يُحْسِن التحدُّث بلغة العرب، ولا يُفَرِّق في استدلالاته بين نصوص القرآن ونصوص السُّنة، والأمثال الشعبيَّة وقصص كَليلة ودِمنة، كما أنَّ بعضَهم مجرَّد إعلاميين أو كُتَّاب أعمدة، أو ممن يحملُ درجة دكتوراه هزيلة، لا تبلغ قيمتُها قيمةَ الورق الذي طبعتْ عليه.
ولله دَرُّ القائل الهازل:
لَقَدْ هَزُلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا
كَلاَهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ
كما أنَّ بعضَهم ممن تدفع لهم الدوائر الغربيَّة مالاً مقابل مواقف فِكْرية وسياسيَّة، مثل: أولئك الذي سَلَختْهم قناةُ "الحرَّة" الأمريكيَّة عن حُريَّتهم؛ حتى أضحوا أشبهَ بالعبيد الذين يتبجَّحون بتحرير المرأة، وتحرير العقْلِ العربي، وتحريرِ المجتمع الإسلامي مِن قَبضة الإسلاميين، لكن هَيْهَات؛ فأنَى للعبيد أن يُحَرِّروا عصفورًا صغيرًا من قَفَصه قبل أن يُحرِّروا أنفسَهم مِن براثن السجَّانين الْجُدد!!
هؤلاء هم العلمانيون في عالَمنا؛ العربي والإسلامي، مرة يطالبوننا بالاكتفاء بحَرْفيَّة النصوص، وذلك إذا لم تخدمِ التفسيرات مَصالِحَهم، بل مصالح أسيادهم، ومرة يطالبوننا بإعمال العقْل المستنير، والاجتهاد لفَهم النصوص، وذلك إذا لَم تخدمْ حَرْفيَّة النصوص مصالِحَ أسيادهم!
هل هي علمانية متخبِّطة ومُخلطة؟ أو أنَّها علمانية مُخطَّطة؟
والجواب: أنَّها علمانية تشعر بالألْغام مِن حولها؛ لذا فهي تعرف أين تضعُ قَدَميها، وتتبنَّى سياسة الخطوة خُطوة؛ انتظارًا للقفزة النهائيَّة على الإسلام وأصحابه؟
أيها العلمانيون العرب، كونوا أكثر شجاعة، وتخلوا عن "تكتيك" العلمانية، وأسفروا عن وجْه إستراتيجيَّة إلْحَادِكم القبيح، وإذا كان نموذجُكم الذي تقتفونه حذو القُذَّة بالقُذَّة هو العلمانية التي نجحتْ نسبيًّا في الغرب، فنُعْلِمكم ونُذكركم ونبشِّركم أنَّكم ستفشلون في منطقتنا؛ لأنكم لن تواجهوا هنا كنيسة مُهْتَرئة و"إكليريوسًا" فاسدًا، وكتابًا مُحَرَّفًا، وإنما ستُواجِهون هنا ربَّ العالمين وقرآنَه المبين، وسُنَّة نبيِّه الأمين، وأهْل السُّنة والجماعة الميامِين.
عودوا إلى رُشْدكم قبل الهزيمة، وإن كنتُم في ريبٍ مما نقول، فاسْمعوا قولَ الله - تعالى -: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].
وإنْ ركبتُم رؤوسَكم، وأبيتُم إلاَّ الإصرار، فأبشروا بالنتيجة الحتميَّة الخائبة لخُططِكم؛ قال - جلَّ وعلا -: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].