قال علمانية قال!
مصعب الخالدبسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وسار على هديه وهداه إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
يستعرُّ السِّجال الفكري يومًا بعد يوم بين تيارينِ فِكْريين، يقدِّم كلٌّ منهما نموذجًا حضاريًّا يُحاول نشره، فإسلاميٌّ يبحث عن إحياء تلك القوة الإسلامية التي عاشتْ لتُقَدِّم للعالَم أروع صور الحضارة الإنسانية الراقية، وعلماني يُحاول تسويق الصُّورة الحضاريَّة الغربيَّة القائمة على الفِكر العلماني، ويعتمد على قوة إعلاميَّة رهيبة، تجعل خصمه يبدو كجيش بلا أسلحة.
نعم، ربما نعيش زمانًا مرعبًا حقًّا، وننتمي لأمة تَتَعَرَّض لأبشع أنواع الحروب، مع قليل من الملح يَتَجَلَّى في فتن طائفية، وحروب أهلية، ونزاعات إقليمية معقَّدة جدًّا، إلى جانب سعيٍ غربي حثيثٍ لتحطيم سلطان الدين.
ولكن هل من وقفة مصارحة في حال الأمة اليوم، لا سيما المعركة الفكرية الرهيبة بين الإسلام والعلمانية؟
هذه المعركة التي امتدتْ سنين طويلة، وعاش في رَهَجها أجيال كثيرة منَ المسلمين، مَن كان المنتصر فيها بعد هذه السنين الطوال؟
وأيُّ الفريقين نجح في إثبات نفسه؟
ومن الطرف الذي ما زال بعد هذه المعارك يملك نفس المعدن الجميل، والصورة البهيَّة التي لم يلوثها غُبار الحرب؟
لقد عاشتِ العلمانية ما يزيد على ثلاثة قرون، وبلغتْ ذروتها، إلا أنها - وعلى الرغم من النجاحات المادية التي حققتها - بقيتْ منهجًا فكريًّا ضعيفًا في صياغة المجتمعِ الإنسانيِّ الراقي العادل، منهارًا أمام أمراض يولدها هو والمادية الإلحادية المنبثقة عنه في المجتمعات التي يحكمها، وليس السقوط المدوي للإمبراطورية الرأسمالية في الآونة الأخيرة إلاَّ دليلاً حقيقيًّا على حجم الدَّمار الذي أصاب هذا الفكر وقوانينه الوضعية، وقد شاء الله تعالى أن يكون الدمار هذه المرة مُتَجَلِّيًا في القوة المالية التي ربط الغربيون أنفسهم بها، بعيدًا عنِ المجتمعات وأخلاقها، والتي لم تُشكِّل بالنسبة للفكر الغربي اهتمامًا كبيرًا.
يقول "مرماديوك باكتول" - وهو أحد الزعماء الغربيين -: "المسلمون يُمكنهم أن ينشروا حضارتهم بنفس السرعة التي نشروها بها سابقًا، بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول؛ لأن هذا العالَم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم"، وهذا الكلام من هذا الزعيم نابع من وحي معرفة بالخواء الروحي الذي يعاني منه العالَم تحت وطأة الفكر العلماني، ولكن ماذا عن الإسلام والفكر الإسلامي؟
يقول تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 18، 19]، فديننا نزل من ربنا - تبارك وتعالى - وحمل منه - جل جلاله - القوانين التي تتوافَق والفطرة الإنسانية التي فطر اللهُ تعالى البشريَّة عليها، وبالتالي فإنَّ الحُكم بالدين وتطبيق شريعته لم يكونا يومًا سببًا في تخلُّف المسلمين، بل هما أساس التقدُّم؛ لأنَّ الدِّين الإسلامي بشريعته وفكره يُعطي بفضل الله تعالى كل فرد من أفراد المجتمع المعنى الذي يعيش لأجله، والغرض الذي خُلِق له، بداية من عبادة الله تعالى، مرورًا بتعبيد الدُّنيا للواحد القهار - جلَّ جلاله - وانتهاء بنيل الأجر العظيم، والثواب الجزيل منه – سبحانه - وبذلك فالإسلام يولِّد لنا بفضْلِه - عزَّ وجل - مجتمعًا تسُودُه قِيَم التقوى والرحمة والمحبَّة والعدل، حيث يحصل كل فرد من أفراده على حقِّه كاملاً غير منقوص، ويا له من موقف رائع، حين يخرج - صلى الله عليه وسلم - لزيارة جاره اليهودي وقد علِم أن ابن هذا الجار مريض، فذهب يعوده!
يقول "برنارد شو" - وهو المفكر الغربي الكبير، والأديب الأوروبي المعروف -: "فإنه أقوى دين - يقصد الإسلام - على هضم جميع المدنيات، خالدًا خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا مِن بني قومي قد دخلوا هذا الدِّين على بَيِّنة، وسيجد هذا الدِّين مجاله الفسيح في هذه القارة - يعني أوروبا"، وقد عاش هذا الرجل في زمان افتقر إلى فكر إسلامي حي، وهذا كلامه في ذلك الوقت يدل على سمو الإسلام على العلمانية.
ونزداد افتخارًا والتزامًا بديننا وفكرنا الإسلاميين ونحن نقرأ في أنفس أعدائنا الخوف من إسلامنا، والخشية منه، وهذا نصٌّ من كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" من ترجمة الدكتور "إحسان حقّي"، يقول: "بفضل الإيمان يُمكن قيادة الشعب، على أيدي علماء الدين، ويمكن للشعب أن ينعم بهدوء في الطاعة بإدارة رؤسائه الروحيين، وذلك بقبول القواعد التي سنَّها الله في الأرض؛ ولذا يجب علينا أن نقضي على كل الأديان، وأن ننزع من عقول الناس الاعتقاد بالله وبالروح، وأن نحل محلهما صيغًا حسابية وحاجات ماديَّة"، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما دل على قوة الإسلام وتمكُّنه من توفير الأمن والأمان، والتقدم والرخاء لشعوبه، وبذلك بات من أهم أهداف الصهاينة والماسونيين.
إن العَلمانية أثْبَتَتْ مع الأيام أنها غير قادِرة على تحقيق الكثير أمام الفِكر الإسلامي، وإنما كان تقدُّمها المؤقت عليه في بعض الأقطار الإسلامية؛ بسبب إهمال المسلمين، وعدم اتخاذهم الأسباب المشروعة لتحقيق التقدُّم وإنشاء الحضارة، والدليل تجلى في نفس هذه الأمصار الإسلامية التي تعلمنت، ثم تراجعتْ ؛كتركيا مثلاً، بل تجلى انتصار الفكر الإسلامي في اليابان، وفرنسا، وبريطانيا، ودول علمانية، كافرة أخرى، حيثُ انتصر الفكر الإسلامي في إثبات صحة قانونه بِخُصوص المُعامَلات البنكيَّة الرِّبوية المحرَّمة، وفي ضرورة فصل الجنسين في المدارس والأماكن العامة ووسائل النقل.
وفي أحكام إسلامية أخرى احتاج إليها الغَرْبُ لتدعيم أنظمته القانونية المتهالِكة، وفي ذلك يقول "ويليامز" - كبير أساقِفة كنيسة كانتبيري -: "لا مفَرَّ مِن تطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلاميَّة في بريطانيا"، وبالتالي فإنه لم يبقَ أمام الإسلام إلا أن يضربَ العلمانية الضربة القاصمة، ولن يكون ذلك إلا بالتطبيق العملي للدين في الحياة، والاجتهاد في نشره والذبِّ عنه، وإبراز مواطن قُوّته وتميُّزه، ونحن ننتظر مِن علمائنا ومفكّرينا ودعاتنا وأكاديميينا الكثير والكثير في هذا المجال، فالأمة ودينها يتعرَّضان لحرب فكريَّة شعواء، وعلينا أن نرد النار بالنار، فنُظهر ما في إسلامنا من دُرر وننخر بنيان العلمانية الذي بنوه وعبدوه، كاشفين عوار نظامهم وفكرهم، ولنجتهدَ في تحقيق نهضة علميَّة في أمتنا، ولنقدم كل ما لدينا في سبيل ذلك؛ خدمة للإسلام ونُصرة له، وحينها تنسدل الستارة على المسرحية الغربية الهزلية، مسرحية العلمانية.
وسواء في دول الخليج أم غيرها، فإنَّ العلمانية غير قادرة على تحقيق نجاحات الماضي، فالواقعُ يرسم لها صورة قاتمة جدًّا، تجلى فيما ذُكر من أزمات، ولكن هناك مَن يحاول إنقاذ العلمانية بإبعاد الشبه عنها، وعلينا أن نفتحَ على هؤلاء وما يسعون إليه نيران مدافعنا الفكرية، حتى يَتَحَطَّمَ كلُّ أمل لديهم في إعادة بناء علمانيتهم، ولنجتهد في ذلك يدًا بيد مع حكَّامنا، ونتعاون معهم على تطبيق الشريعة والتناصح، ونحتسب الأجر من الله تعالى.
بلَّغَنا الله تعالى وإياكم نصر الإسلام وارتفاع رايته... والسلام.
تعليق