بسم الله الرحمن الرحيم
( الدولة المدنية وتحالف النصارى والعلمانيين )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .( الدولة المدنية وتحالف النصارى والعلمانيين )
مصر المحروسة تمر الآن بمشاهد كثيرة مربكة تجعل الحليم حيراناً ، أحدها تحالف النصارى مع العلمانيين، وهذا لمن تأمله أقرب للجمع بين ضدين أصل وجود أحدهما عدم الآخر ؛ فما قامت الدولة المدنية العلمانية إلا على أنقاض دولة الكنيسة ، فعلام يجتمع المشرقي مع المغربي !؟
وبينما يعاين المصريون في حزن وأسى ما تبقى لهم من المحروسة بعد ستين عاماً من القهر المنظم ، يتسلل النصارى والعلمانيون معاً يصرخون بين الصفوف " نعم للدولة المدنية لا للدولة الدينية " .
وهذا بلا شك نوع من إدارة الدجل في توجيه مشاعر الجماهير إلى الموضع الخطأ وصرف عقولهم وإرادتهم بعيداً عن الصواب وعودة الوعي ، وإلا فأي دولة مدنية يريد النصارى !؟ أهي دولة كنيستهم ذات السلوك الامبراطوري المفعم بالكبر والطائفية !؟
وأي دولة دينية تلك التي يَحذر العلمانيون !؟
أهي دولة حلفائهم الطائفيين ذات الطابع الكنسي، التي يَحرم رأسها من شاء من الأبدية ويلقيه في الجحيم ، ثم لم يكتف بجحيم السماوات حتى أقام على الأرض سجناً وجحيماً لنساء مستضعفات خالفن إرادته فأسلمن، مما حط من رتبة الدولة المصرية إلى مرتبة العصابات !؟
انظر هنا :
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=33498
ثم هؤلاء جميعاً يصرخون " نريد الدولة المدنية " وكأن الدولة التي سامت المصريين سوء العذاب عبر ستين عاماً من القهر لم تكن دولة مدنية !. يصرخون وكأنهم قد خرجوا للتو من كهوف الدولة الدينية .
إنه مشهد مربك حقاً فلابد من تحليل مفرداته للقارئ الكريم .
لابد إذن أن نشير إلى تاريخ هذا المصطلح " الدولة المدنية " ، الذي اجتمع عليه النصارى والعلمانيون ، وإلى الأصول التاريخية لعلاقة كل منهما به ، وهذا يستلزم النظر في نشأته وظروف تلك النشأة ، ومراد أهله منه .
وسنبين أيضاً ومن تأصيلات فلاسفة الدولة المدنية إلى أنه لا تلازم بين أصول هذه الدولة وبين العدالة الاجتماعية والسياسية ، فقد تكون أصولاً شمولية ضاربة بجذورها في أرض الاستبداد ، المشرع المطلق فيها هو السيد الحاكم الذي يصدر القرارات والقوانين ، ولا يجوز نقده أو مساءلته عن طريق القانون .
ولقد أصَّل الفليسوف الانجليزي توماس هوبز (1588-1679م) وهو من كبار فلاسفة الدولة المدنية لعقد إذعان يدعو إلى توحش الدولة بابتلاع السلطة الحاكمة لكافة حقوق المواطنين ، حتى سمى دولته تلك بالوحش أو التنين " leviathan " ، ويأتيك البيان إن شاء الله في حينه ، وقد تبعه على هذا الفكر فريق من رواد الدولة المدنية .
فهذه صورة من صور الدولة المدنية تجعل الدولة البوليسية المصرية جنة أرضية وارفة الظلال .
ولأن الدولة الدينية هي الدولة المقابلة للدولة المدنية فلابد من الإشارة إلى مصطلح الدولة الدينية ، وقد أشرنا هنا :
(( أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يسقط الوثنية السياسية للكنيسة ))
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=33298
وهنا :
(( بولس الرسول يؤسس للدولة العلمانية ))
https://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=33413
إلى نموذجين لمصطلح " الدولة الدينية " : الدولة الدينية المسيحية الثيوقراطية ، والدولة الدينية الإسلامية ، وأشرنا إلى بعض الفروق الأساسية ، فمن ذلك أن الدولة الدينية الإسلامية تحكمها نصوص مكتوبة معلومة تنظم الحقوق والواجبات ، وفي المقابل نجد الدولة الدينية المسيحية بلا شريعة مكتوبة ، فدينها ما يراه الملك ، وهذا في معيار الإسلام شرك بالله عز وجل .
فالمقدس في الدولة الإسلامية هو النص الإلهي ، بينما المقدس هناك هو الملك ذاته باعتباره مرتب من الله عز وجل ترتيباً مباشراً ، كما تقدم من كلام بولس (1) ويقول الآب جاك بوسيه ( 1627- 1704) : " الله الذي يعين الملك ويضعه على العرش لكي يعمل على ازدهار المصلحة العامة وكذلك لحماية المتواضعين من الرعايا " (2)اهـ.
فهذه إشارة لمصطلح الدولة الدينية .
أما مصطلح " الدولة المدنية " فهو مصطلح غربي خالص ، سواء باعتبار الظهور أو الجذور أو الجوهر ، أما باعتبار الظهور فقد ظهر على خلفية التمرد على الدولة الدينية المسيحية التي قامت على نظرية الحكم الإلهي للحاكم ، حتى أصبح هذا التمرد معياراً لمدنية الدولة .
أما باعتبار الأصول فجذور هذا المصطلح تجدها في الحضارة الاغريقية القديمة ، والحق أن ثالوث العقل الغربي هو : الحضارة الاغريقية ، والعسكرية الرومانية ، ومسيحية بولس ، وتظل القراءة الصحيحة لهذا العقل رهن النظر في هذا الإرث التراكمي .
أما باعتبار جوهر المصطلح فإنه يعنى بأصل قيام الممالك والمدن والجمهوريات ببحث أساس الفلسفة السياسية للسلطة والسيادة التي تضمن تنفيذ القوانين في هذه التجمعات الإنسانية ؛ يعني من أين تستمد هذه السلطة الحاكمة سلطتها وسيادتها!؟
فبينما كان أساس هذه السلطة في الدولة الدينية المسيحية هو الحق الإلهي للملوك وأن الملك مرتب مباشرة من الله عز وجل ، نجد فلاسفة الدولة المدنية قد شيدوا أساس السلطة على نظرية العقد الاجتماعي .
وقبل أن نتكلم عن طبيعة هذا العقد وصوره ، والفرق بينه وبين عقد الدولة الإسلامية ، نود أن نشير إلى العلاقة بين الدولة المدنية والكنيسة ، لعل هذا يساعد الكنيسة المصرية على تبين موقع سلوكهم الطائفي من الدولة المدنية التي يطالبون بها .
( العلاقة بين الدولة المدنية والكنيسة )
لقد عاشت أوربا أحداثاً حالكة السواد وانحطاطاً سياسياً مزرياً في ظل السلطة المطلقة للكنيسة ؛ فلم يكن بد من تحطيم هذه السلطة المطلقة بالبحث في أساس فلسفي لقيام الدول يسقط نظرية الحكم الإلهي ويغل يد الكنيسة عن الدولة ، لقد كان تمرداً متفاوت المراتب اختلف فيه موقف فلاسفة الدولة المدنية من سلطة الكنيسة ما بين الإلغاء التام لهذه السلطة أو الحد منها وتقييدها .وحتى نفرغ لصقور الدولة المدنية ، فلنبدأ بحمائمها الذين طالبوا بتقييد سلطة الكنيسة لا تقويضها .
يقول جون لوك ( 1632- 1704) وهو من أهم فلاسفة الدولة المدنية : " كل ما أريد قوله هو أياً كان مصدر السلطة فإن السلطة مادامت ذات طابع كنسي فيجب أن تكون مقيدة بحدود الكنيسة ، إذ ليس في إمكانها بأي حال من الأحوال أن تمتد إلى الشؤون الدنيوية ؛ لأن الكنيسة ذاتها منفصلة عن الدولة ، ومتميزة عنها تماماً ، فالحدود بينهما ثابتة ومستقرة ، ومن يخلط بين هذين المجتمعين كمن يخلط بين السماء والأرض وهما متمايزان أشد التمايز متضادان أشد التضاد ، إذ هما في أصلهما وغايتهما وأعمالهما وفي كل شيء متمايزان تماماً ومتباينان بلا حدود " (3)اهـ.
أنت تلحظ هنا اعترافاً صريحاً بسلطة الكنيسة ، وأنها سلطة منفصلة ومتميزة عن سلطة الدولة ، ولكنه يعود ويرسم حدود هذه السلطة بدقة ويحددها بقضايا الإيمان وأشكال العبادة والخلاص .
يقول لوك : " أود أن أقول أن سلطة الحاكم لا تمتد إلى تأسيس أي بنود تتعلق بالإيمان أو بأشكال العبادة استناداً إلى قوة القوانين "(4) اهـ.
ويقول لوك : " الكنيسة والدولة إذا قنع كل منهما بالبقاء في داخل حدوده ، الدولة ترعى الرفاهية الداخلية للدولة ، والكنيسة تشتغل بخلاص النفوس ، فإنه من المحال أن يحدث بينهما شقاق " (5)اهـ.
وفي المقابل تجده يشدد في حرمان مجتمع الكنيسة من عناصر القوة المادية أو المالية باعتبار أن هذه القوة من سلطة الحاكم المدني وأدواته في إدارة الدولة ، يقول لوك : " كما لا ينبغي لهذا المجتمع الكنسي، بل ليس في إمكانه أن ينشغل بامتلاك الخيرات المدنية والدنيوية ، ولا يمكن من استخدام القوة في أي مناسبة مهما تكن ؛ لأن القوة تخص الحاكم المدني ، وملكية الخيرات البرانية(6) تقع تحت سلطان تشريعه "(7) اهـ.
ويقول أيضاً : " إن السلطة الكنسية سواء أدارها شخص واحد أو عدة أشخاص هي هي في كل مكان إنها لا تشرع للأمور المدنية وليس لها أية قوة قهرية ولا علاقة لها بالثروات والدخول "(8) اهـ.
ولأن لوك هو أكثر فلاسفة الدولة المدنية اعتدالاً وتسامحاً مع الكنيسة ، فلابد لنا إذن من مقارنة لطيفة بين عبارات لوك القاطعة " كما لا ينبغي لهذا المجتمع الكنسي، بل ليس في إمكانه " في تحريم امتلاك الكنيسة للقوة بعناصرها المادية والسياسية والمالية وبين سلوك الكنيسة المصرية التي خرج قساوستها بالسلاح " الرشاشات " للاستيلاء على مزيد من أراضي الدولة ، وضمها لأملاك الأديرة المترامية الأطراف .
ولابد هنا من المقارنة بين حدود لوك التي رسمها للكنيسة وبين استقلال الكنيسة المصرية بمحابس خاصة مستقلة عن سلطة الدولة .
والمقارنة بين نص لوك على أن ما هو قانوني لا يجوز للكنيسة أن تمنعه أو تحرمه وبين منازعة رأس الكنيسة المصرية لأرفع سلطات الدولة القضائية .
هذا رأي فليسوف الاعتدال والتسامح مع الكنيسة ، فلنر رأي الصقور .
( صقور الدولة المدنية )
لقد بنى هؤلاء الفلاسفة وهم من كبار منظري الدولة المدنية موقفهم من الكنيسة على أنه لا يمكن التأكيد على مدنية الدولة إلا بإلغاء سلطة الكنيسة بالكلية ، ولقد بلغ تأصيلهم لدمج الكنيسة في الدولة إلى شيء أبعد من التأميم ، وإليك بعض أقوالهم .يقرر الفليسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632ـ 1677م) موقفه من تنظيم شئون الكنيسة فيقول : " وإن أحداً ليس له الحق أو القدرة إلا باسم السلطة أو بموافقة منها على تنظيم هذه الأمور أو اختيار القائمين على شعائر العبادة أو تحديد أسس عقائد الكنيسة وإقامتها ، أو إصدار حكم على الأعمال والعبادات التي تتسم بالتقوى أو القبول داخل الكنيسة أو الحرمان منها أو رعاية حاجات الفقراء "(9) اهـ.
فانظر كيف غل يد الكنيسة عن العقائد والعبادات ومن يقيمها، وتحديد ما هو خير وتقوى من الأعمال وما هو شر، وتأمل كيف كسر سلاح الحرمان الذي يتسلح به رأس الكنيسة المصرية في مواجهة من يعارضه ، وتأمل كيف حرم سبينوزا الكنيسة حتى من رعاية الفقراء حتى لا يكون لها تأثير اجتماعي بين الناس ، ثم انظر كيف حرمها من تفسير النص الإلهي إذ يقول : " ومجمل القول أننا سواء نظرنا إلى الأمر من زاوية الحقيقة أو سلامة الدولة أو مصلحة الدين يجب أن نسلم بأن القانون الإلهي أي المنظم لشئون الدين يعتمد مباشرة على مشيئة السلطة العليا الحاكمة ، وبأن هذه هي التي يجب أن تقوم بمهمة تفسيره وحمايته " (10)اهـ.
ويقول : " عندما قلت سابقاً : إن لأصحاب السلطة الحق في تنظيم كل شيء وأن كل قانون رهن بإرادتهم ، لم أكن أعني القانون المدني وحده بل كنت أعني أيضاً القانون المتعلق بالشئون الدينية الذي ينبغي أن يكونوا هم أيضاً المفسرين له والمدافعين عنه ، وسأحاول في هذا الفصل أن أوضح ذلك وأبينه صراحة ؛ لأن كثيراً من الكتاب يرفضون الاعتراف للسلطة العليا الحاكمة بحقها في تنظيم الشئون الدينية ويأبون عليها تفسير القانون المقدس " (11)اهـ.
وعلى نفس خطى سبينوزا مضى الفليسوف الانجليزي توماس هوبز (1588-1679م) ، ولقد اعتنى توماس في كتابه " المواطن " الذي وضعه عام 1642م بتأصيل فكرة مدنية الدولة وإسقاط سلطة الكنيسة وإخضاعها خضوعاً تاماً لحاكم الدولة ، يقول توماس : " إن الكنيسة المسيحية والدولة المسيحية شيء واحد وهيئة واحدة رئيسها الحاكم ، ولهذا فإن حق الحاكم أن يفسر الكتاب المقدس ، وأن يفصل في المنازعات الدينية وأن يحدد أشكال العبادات العامة " (12)
وقد رد هذا الفريق بحدة على أنصار الرأي الأول القائلين بالفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة ، يقول سبينوزا : " أما أنصار الدعوة المعارضة التي تفرق بين القانون الوضعي والقانون الديني ويجعلون الأول من حق الحاكم وحده ، والثاني من حق الكنيسة الشاملة فقد قدموا حججاً لن أقف عندها لأنها تافهة لا تستحق الرد "(13) اهـ.
هل هذه هي الدولة المدنية التي يطالب بها نصارى مصر !؟ سبحان الله ألم تكن الدولة الإسلامية في جميع مراحلها أرحم بالكنيسة وأهلها من بني جلدتهم !؟.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
يتبع إن شاء الله .
كتبهمجد الدين بن أحمد الآبار
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر مقالي " بولس الرسول يؤسس للدولة العلمانية " .
(2) كتاب الطاغية للدكتور إمام عبد الفتاح إمام ص57 .
(3) رسالة في التسامح ص 36.
(4) المصدر السابق ص 26.
(5) المصدر السابق ص 65.
(6) يعني الظاهرة مقابل الباطنة .
(7) رسالة في التسامح ص 30.
(8) المصدر السابق ص 60.
(9) رسالة في اللاهوت والسياسة ص 429.
(10) المصدر السابق ص 431.
(11) المصدر السابق ص 421.
(12) الموسوعة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي (2/554) .
(13) رسالة في اللاهوت والسياسة ص428 .
تعليق