بسم الله الرحمن الرحيم
( انتكاسة عقلية كبيرة في تاريخ البشرية )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .
لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا ودخله التبشير الأرثوذكسي ، إذ لم تكتف الكنيسة بتوزيع المنشورات في الشوارع على عامة الناس بما فيهم نساء المسلمين المحجبات ، ولم تكتف بالصحف الخاصة والقومية ، ولا بقناوات البث الخاصة ، فطالبت الدولة بإطلالة على 96% من سكانها ـ وهم المسلمون ـ عبر التليفزيون الرسمي وفي برامج تدخل كل بيت .
وهكذا رضيت الدولة بمناكفة القساوسة لسكانها بالطعن في أخص ما يعتقدون ، (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ )) [سورة الإخلاص : 1-4]
إذ لا تكاد تجد طفلاً مسلماً لا يحفظ سورة الإخلاص عن ظهر قلب ، ولا يعرف أن الله لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
واستعمل هؤلاء القساوسة المبشرون المراوغة وهم يعرضون على المسلمين تلك المعضلة باعتقادهم في الإله المصلوب ، الواحد بالشخص المتعدد الأشخاص في آن واحد .
ورضيت الدولة بإزالة الفرق في المعاني بين (( لا إله إلا الله )) و(( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد )) وبين (( بسم الآب ، والابن ، والروح القدوس ، إله واحد )) .
وكان ممن انتدب لبيان هذا الاعتقاد المعضلة الأنبا بيشوي كما قد تقدم ، ولم يتورع الأنبا الكذاب وهو يروج لاعتقاده بين المسلمين أن يستدل بالقرآن الكريم على ما يقول من التثليث ، فكذب الأنبا على القرآن .
وهاهو يدعي باستحالة أن يكون قوله تعالى : (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )) من عند الله ، ويطالبنا بالتصرف فيه .
ولأننا على اضطرار للدفاع عن ديننا وقرآننا .
ولأننا على اضطرار أن نبين للأنبا أن هذه الآية حق ، وأن نبين له لماذا وصف الله نيافته بالكفر !؟.
ولأننا على اضطرار أن نبين لإخواننا المسلمين حقيقة ما يبشرهم به هؤلاء القساوسة .
لأننا على اضطرار من كل ذلك فسنبين للأنبا الغشاش معنى ( بسم الآب ، والابن والروح القدوس ، إله واحد ) ومن أقوال إمامه الأكبر ، والله المستعان .
( مقدمة في معنى لفظ " شيء " )
كلمة " شيء " تطلق ويراد بها معنيان :
الأول : الموجود الثابت في الخارج ، وهو الكائن المخلوق .
الثاني : الثابت في العلم ، وهو المقدور الذي لم يُكَون بعد .
ومن هذا الثاني قوله تعالى : (( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) [سورة النحل : 40]
فباعتبار أنه مقدور مراد ثابت في علمه تعالى أنه كائن ، سماه تعالى شيئاً .
وثبوته في العلم غير وجوده في الخارج ، وخلط المعتزلة بين الثبوت في العلم وفي الخارج وهذا خطأ سلم منه أهل السنة .
وفي مقابلة هذا ـ الثابت في الخارج الكائن الموجود ـ وذاك ـ الثابت في العلم القابل للوجود ـ هناك الممتنع غير القابل للوجود وهو المحال لذاته ، كاجتماع النقيضين ، ككون الرب مربوباً ، والخالق مخلوقاً ، والعبد إلهاً ، إلى غير ذلك مما يقطع العقل بأنه محال يلزم منه المحال ، وهذا لم يختلف العقلاء بأنه لا يُسمى " شيئاً " .
فعندنا إذن الممكن ويعم الموجود بالفعل ، والقابل للوجود ، وهذا الثاني يشمل المقدور المراد الثابت في العلم أنه كائن وهذا بينٌ ، ويشمل أيضاً المقدور غير المراد الذي تقدم العلم بأنه لا يكون ، مثاله قوله تعالى : (( بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ )) [سورة القيامة : 4] . ونحو ذلك مما أخبر تعالى بقدرته على إيجاده وفعله مع أنه لا يفعله .
ويُستدل على إمكان الشيء إما بوقوعه فعلاً ، أو وقوع نظيره ، أو وقوع ما الشيء أولى بالإمكان منه ، يعني وقوع ما هو أكبر منه ، ومنه قوله تعالى (( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ )) [سورة النحل : 27] ، فإن دلالة القدرة على النشأة الأولى تقطع بإمكان النشأة الآخرة وأنها داخلة تحت قدرته تعالى (1) .
وفي مقابلة ما ذكرنا من أقسام الممكن هناك الممتنع الذي يقطع العقل بأنه لا يقبل الوجود ، وهو المحال لذاته كالجمع بين النقيضين وهذا كما تقدم لا يُسمى بـ " الشيء " أصلاً ، وعلى هذا يتضح معنى العموم في قوله تعالى (( والله على كل شيء قدير ))
معنى العموم في قوله تعالى (( والله على كل شيء قدير ))
هذا عموم لا يقبل التخصيص بحال ، فما من شيء إلا وهو معدود في أفراد هذا العموم ، ومن ثم فلا يخرج عن هذا العموم إلا المحال لذاته الذي لا يدخل في مسمى " شيء " .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وذلك أن الله على كل شيء قدير، وهذا لفظ عام لا تخصيص فيه، فأما الممتنع لذاته فليس بشيء باتفاق العقلاء، وذلك أنه متناقض لا يعقل وجوده؛ فلا يدخل في مسمى الشيء، حتى يكون داخلا في العموم مثل أن يقول القائل هل يقدر أن يعدم نفسه أو يخلق مثله!؟ ؛ فإن القدرة تستلزم وجود القادر وعدمه ينافي وجوده؛ فكأنه قيل هل يكون موجوداً معدوماً وهذا متناقض في نفسه لا حقيقة له وليس بشيء أصلاً، وكذلك وجود مثله يستلزم أن يكون الشيء موجوداً معدوماً ؛ فإن مثل الشيء ما يسد مسده ويقوم مقامه، فيجب أن يكون الشيء موجوداً معدوماً قبل وجوده مفتقراً مربوباً؛ فإذا قدر أنه مثل الخالق تعالى لزم أن يكون واجباً قديماً لم يزل موجوداً غنياً رباً ويكون الخالق فقيراً ممكناً معدوماً مفتقراً مربوباً ؛ فيكون الشيء الواحد قديماً محدثاً فقيراً مستغنياً واجباً ممكناً موجوداً معدوماً رباً مربوباً ، وهذا متناقض لا حقيقة له وليس بشيء أصلاً فلا يدخل في العموم وأمثال ذلك …"(2) اهـ.
( إيمان كيرلس القويم )
إن ما تقدم ذكره في الفقرتين السابقتين " معنى شيء " ومعنى العموم في قوله تعالى (( والله على كل شيء قدير )) من بدائه العقول ، والآن دع العقل فنحن على موعد مع كيرلس الأول عمود الدين في مخاصمة العقل ومعاندة ضروراته ، فاربط الحزام فسنسبح معه في فضاء من اللامعقول ، عبر عالم كامل من التوهم .
وكيرلس الأول هذا بحسب كتاب الكنيسة " السنكسار " هو البابا رقم 24 ( 444 ميلادية ) الملقب بـ " عمود الدين ومصباح الكنيسة الأرثوذكسية " .
ولقد كان لكيرلس الدور الحاسم والفاصل في تأليه المسيح عليه السلام ، بل قد اشتهرت في عهده عقائد لم تلق قبله مثل هذا الرواج ، مثل قوله في مريم بأنها " والدة الإله " ، وهو الذي تصدى لنسطور أحد أشهر من قال ببشرية المسيح عليه السلام ، فتغلب عليه بحيله حتى حُُرم ونُفي إلى صعيد مصر إلى أن مات .
ومع أن نسطور هذا يقول ببشرية المسيح إلا أنه كان مشركاً بالله يعبد المسيح مع الله ، ولكن كلامه أقل معاندة لبدائه العقول من كلام كيرلس ، والكفر دركات ، وبعض الشرك أجلى من بعض ، وبعض الشر أهون من بعض .
وسنعرض هنا إحدى رسائل (3)كيرلس لنسطور والتي عرض فيها عليه إيمانه القويم وهو يدعوه إلى القول به حرفياً وإلا حُرم وطُرد ، وكلام كيرلس باللون الأحمر أما ما بين [ ] مختلطاً بكلام كيرلس فهو من كلامي ، والآن هيا إلى كيرلس وإيمانه القويم .
يقول كيرلس في رسالته إلى نسطوريوس مبيناً صفة اتحاد اللاهوت بالناسوت :" وقد تجسد [يعني الله سبحانه وتعالى عما يقول] وتأنس أعني أنه اتخذ جسداً من العذراء القديسة جاعلاً إياه جسده من البطن فعرض نفسه للولادة لأجلنا وولد إنساناً من امرأة "أهـ.
قلت : هنا يقول كيرلس : " فعرض نفسه للولادة من أجلنا وولد إنساناً من امرأة " فهو مولود الإنسان لذلك سمى كيرلس مريم بأنها والدة الإله ، يقول : " مادامت العذراء القديسة ولدت بالجسد الله الذي صار واحداً مع الجسد بحسب الطبيعة ، لهذا السبب ندعوها والدة الإله " اهـ.
وهذا يفضح كذب بيشوي على المسلمين وهو ينفي أن الإله ولد ولادة حسية ، فها هو كيرلس يقول أنه خرج إلى الدنيا مختلطاً بدم أمه مريم والدة الإله كسائر المواليد .
ومع ذلك فإنه أيضاً المولود الإله الذي ولده الله في الأزل ، ولكنه أيضاً الإله الوالد يقول كيرلس : " لأنه قال إن الله أبوه مع أنه هو الله بطبيعته وجوهره "أهـ.
فهو الله الآب ، وهو الله الابن ، وهو نفسه الله المولود من مريم ـ عليها السلام ـ يقول كيرلس : " فالمسيح إذن هو نفسه الابن والرب " أهـ.
وهو إله كامل وإنسان كامل يقول كيرلس : " ومع ذلك لا نجهل أنه مع بقائه إلهاً صار هو أيضاً إنساناً خاضعاً لله حسب الشريعة الملائمة للناسوت " أهـ.
فهو الله، وهو خاضع لله أيضاً بحسب شريعة الناسوت ، والخضوع لشريعة الناسوت يعني أنه مربوب ، فهو الله الرب ، وهو أيضاً الله المربوب ؛ لأنه ليس هناك فصل بين الطبيعتين يقول كيرلس : " وولد إنساناً من امرأة دون أن ينزع عنه طبيعته [ يعني الإلهية] التي كانت له ، ومع أنه اتخذ جسداً ودماً بقي كما كان إلهاً في الجوهر والحقيقة فلا نقول إن الجسد تحول إلى الطبيعة الإلهية [يعني لأنها باقية] ، ولا أن طبيعة كلمة الله التي لا يمكن وصفها عزلت جانباً من أجل الطبيعة البشرية ؛ لأنه غير متغير [ يعني عن صفته الإلهية ] ولا يعتريه التغير على الإطلاق " أهـ.
المشكلة أن كيرلس رفض في الأول أن يكون الله إلهاً لنفسه ورباً لنفسه يقول كيرلس :" على أنه ليس عبداً لنفسه ولا رباً لنفسه، فإن تعليماً كهذا يعد حماقة وكفراً" أهـ.
ولكنه عاد تحت قهر إقراره بخضوع الرب لشريعة الناسوت خضوعاً كاملاً فقبل أن يعلل سبب هذا الكفر وتلك الحماقة فقال كيرلس بعد سطرين فقط : " ولكن كيف يكون إلهاً ورباً لنفسه ؟ [ثم علل ذلك فقال ] إنه بسب أنه إنسان وبسبب مقدار خضوعه قيل أنه مساو لنا في خضوعه لله فصار هكذا تحت الشريعة في حين أنه وهو الله كان واضع الشريعة ومعطيها " أهـ.
إنه كما ترى بحسب كيرلس تحت الشريعة باعتبار خضوعه لله ، وهو أيضاً فوق الشريعة باعتبار أنه هو الله ذاته ، وبهذا الاتحاد فسر كيرلس توحيد العبادة فقال :" فنعبد الشخص الواحد الابن والرب يسوع المسيح ؛ إننا لا نفصل الله عن الإنسان ولا نقسمه إلى أجزاء "أهـ.
لذلك فكل ما سيقع على الجسد واقع على الله بما في ذلك آلام الصلب ؛ لأنه هو والجسد شيء واحد لا يتجزأ يقول كيرلس : " أننا نعترف أنه الابن المولود من الله الآب [وهو كما مر الآب نفسه] الابن الوحيد لله، مع أنه بحسب طبيعته هذه [يعني الألهية] لم يكن عرضة للألم فقد تألم مع ذلك من أجلنا في الجسد على ما جاء في الكتب " أهـ.
بل سيقع على الله الموت ثلاثة أيام أيضاً يقول كيرلس : " إنه ذاق الموت عن الجميع وقدم [يعني الله ] لذلك جسده الخاص مع أنه كان هو نفسه بطبيعته [الإلهية] الحياة والقيامة " أهـ.
ويبالغ كيرلس في الوحدة والعلاقة بينها وبين توحيد العبادة فيقول : " إننا نبذل عناية فائقة فيما نقوله عن المسيح " إنني أعبد الواحد الذي اُتخذ بسبب الواحد الذي اتخذه " أو " أعبد المنظور بسبب الواحد غير المنظور " إنه لفظيع أن نقول في هذا الشأن هكذا [يعني أن هذه الجمل ليست تعبر عن إيمان كيرلس القويم] إن من اتخذ ، ومن اُتخذ كلاهما يدعى الله " لأن مثل هذا القول يقسم المسيح أيضاً إلى اثنين ويجعل كلاً من الإنسان والله منفصلاً بذاته ؛ لأن هذا القول ينكر صراحة الوحدة ويكون الواحد بموجبه غير مسجود له في الآخر ولا الله موجوداً مع الآخر على أن يسوع يعتبر واحداً الابن الوحيد الذي يجب أن يسجد له ولجسده الإنساني سجوداً واحداً " أهـ.
ومع أن كيرلس رمى البشرية بسؤال حائر : كيف يصرف الرب مقاليد الكون وهو مربوب يتقلب في الدم في بطن مريم ـ عليها السلام ـ ثم وهو طفل يبول في فراشه ويحتاج إلى القمط ؟
هذا السؤال الذي وضع كيرلس مادته أمامنا، فقال : " لأنه وإن كان منظوراً وطفلاً ملفوفاً في أقمطة ، وإن كان في بطن العذراء أمه ، فهو مالئ الخليقة كلها إلهاً وسيداً للخليقة ومساو للذي ولده " أهـ.
والذي ولده هو الله ـ بحسب كيرلس ـ فهو الله الوالد ، وهو الله المولود ، وهو الله خالق مريم ، والتي هي أمه التي ولدته .
لكن كيرلس قدم للبشرية الجواب فقال معللاً : " لأن الإله الرأس لا وصف له ولا امتداد ولا حدود " أهـ.
يعني لا تسل عن الكيف فإن الإله له أن يفعل ما يشاء ، حتى المزج بين أخص صفات الألوهية وهو الغنى المطلق ، وبين أخص خصوصيات البشرية وهي الولادة التي تعني الفقر المطلق بشقيه الحاجة والنقص ، بل إلى حد الموت ثلاثة أيام كاملة بلياليهن مروراً بتلقي الصلب والصفع والضرب ممن خلقهم ، لكن لا إشكال لأن الذي أقدرهم على هذا كله هو الله ذاته المصفوع والمصلوب والميت .
يقول كيرلس : " إنه ذاق الموت عن كل إنسان وبعد ثلاثة أيام نهض ثانية وقد سبى الجحيم " أهـ.
إن الله بحسب إيمان كيرلس أراد شرعاً وقدراً أن يقتل نفسه ، فأقدر خلقه على صلبه وقتله ، ولولا أنه أقدرهم على ذلك لما قدروا وما استطاعوا ، أفلا يعد هذا نوعاً من الانتحار !؟ .
وهكذا عبر كيرلس بمؤمنيه من إله يصرف الكون وهو يتقلب في الدم في بطن أمه التي خلقها ، إلى حال تصريفه الكون وهو يبول في القمط ، إلى حال تصريفه للكون وهو ميت ثلاثة أيام كاملة بلياليهن . كل ذلك بلا كيف .
يقول كيرلس : " وإذا شاء [يعني الله تعالى عما يقول] أن يواضع نفسه بمشيئته لأجلنا ، فما الذي يحمل شخص على رفض هذه الأقوال الملائمة لهذا التنازل " أهـ.
ببساطة كيرلس يتمادى في الترقي بإيمان المؤمنين بقدرة إلهه الخاص فيقول :
إذا أراد الإله أن يتجسد فمن يقدر على منعه؟ وفي أيامنا هذه يقول زكريا بطرس الذي يسب نبينا خير البرية : " لو تجسد الله في بقرة لعبدناها " صدق الله عز وجل لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (( [الكوثر : 3] ، إن مبغضك هو الأذل الأقل ، فسبحان من ابتلى بطرس بهذه المقالة المشينة المهينة .
ثم تقدم صاحب التثليث كثيراً فقال : إذا أراد أن يُصلب على خشبة بعد أن يضرب ويصفع ويفعل به الأفاعيل فمن يقدر على منعه ؟
ثم قفز قفزة هائلة : بل إذا أراد أن يموت فمن يحق له منعه ؟.
أليس الله على كل شيء قدير ؟.
قلنا : بلى الله على كل شيء قدير ، لكن شرط الوقوع تحت القدرة أن يكون هناك مسمى ( الشيء ) ، وكل واحد من هذه الحزمة الكبيرة من اللامعقول لا يُسمى شيئاً ، إنما هي خيالات فاسدة من المحال الممتنع وهذا ليس بشيء باتفاق العقلاء .
فـولادة إله من إله مع أنهما واحد ـ ثم ولادة الإله من أمه التي خلقها ـ وتقلب الإله في البشرية المناقضة للإلهية وبلا فصل بين الطبيعتين ـ ثم صلب الإله الخالق العليم القدير الحكيم وموته، إلى غير ذلك من الخيالات الوثنية الفاسدة المعاندة لضرورة العقل ، لا يمكن أن ترقى إلى مسمى الشيء حتى تتعلق بها القدرة !.
والقاعدة أن صفة الله الملازمة لذاته هي الغنى المطلق ، وصفة المخلوق الملازمة لذاته هي الفقر المطلق ، وهما متناقضان فلا يجتمعان في ذات واحدة ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )) [سورة فاطر : 15] ، وكل ما يناقض هذا الغنى المطلق محال لذاته ، وهو الممتنع المعدوم الذي لا يدخل تحت قدرة لأنه ليس بشيء أصلاً .
ولما كانت الولادة مرتبطة بالنقص والحاجة ، كانت من أعظم صور الفقر ، فنزه الباري سبحانه نفسه عن ذلك . قال تعالى : (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ )) [سورة الإخلاص : 1-4].
وسمة كل ما في الوجود الفقر إلى الله تعالى سواء في الإيجاد أو البقاء ، فلولا الله لزال قال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )) [سورة فاطر : 41] .
من أجل ذلك نزه الباري سبحانه نفسه عن النوم وما دونه من السِنة قال تعالى : (( اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ )) [سورة البقرة : 255] ؛ فإن بقاء كل ما في الكون رهن قيوميته ؛ فأي انتكاسة عقلية تلك التي جرأت كيرلس على تبشيره بالإله المصلوب الميت بعد أن جعله يدور في مجاري الدم في بطن أمه ثم إلى العالم طفلاً يبول في فراشه ويلف في القمط !؟
لاشك أن كيرلس رمى البشرية بحزمة كبيرة جداً من اللامعقول ، وبلغز غير قابل للحل : فهو الله وهو ابنه وهو روح القدس ، وهو رب نفسه ، ومربوب نفسه ، وإله نفسه ، فلابد أنه عابد نفسه ، وقبل كل ذلك والد نفسه ، وابن نفسه ، وكما هو إله كامل فهو بشر كامل وبلا فصل ، ومن ثم فهو ابن مريم التي تقلب في بطنها ثم أرضعته ، وهي في أثناء ذلك مربوبته التي خلقها ، وهو تحت الشريعة وهو فوقها . وهو المصلوب الذي خلق الصلب والصليب ومن صلبه ، وهو الإله الميت الذي يصرف الكون ثلاثة أيام ولياليهن .
وليس هذا الخيال الفاسد المحال من جنس ما يحار فيه العقل مما أخبرت عنه الرسل من الغيب كصفة الجنة والنار والملائكة ، إذ ليس فيما أخبرت عنه الرسل ما يدل العقل على امتناعه ، بل وفي العقل دليل جملي كلي على إمكانه ، وهذا بخلاف معضلات كيرلس هذه وما كان مثلها ؛ فإن العقل يدرك من أول وهلة بأنها من التناقض الذي ركب الله في عقول عباده القطع باستحالته ، وفرق بين ما يعجز العقل عن الإحاطة به مع إمكان وجوده ، وبين ما يعلم العقل بطلانه ويقطع بامتناعه ، وأنه من جنس تخييل الشيطان وتلاعبه ببني آدم ، وأنه لا شيء أكثر من ذلك .
لقد سمعنا أن الكنيسة كانت تستعين على عقل الأسيرة كاميليا شحاتة بحبوب الهلوسة في محاولة لردها إلى إيمان كيرلس القويم ، فلعلك علمت الآن سبب ذلك ؟
فإن الأسيرة التي استردت وعيها من غيبوبة المتابعة والتقليد للآباء والأجداد قد رجع إليها سلطانها على عقلها ، ولا يمكن لعقل متماسك أن يقبل مثل هذه الحزمة الكبيرة جداً من اللامعقول ، فلابد إذاً من وسيلة لتفكيك العقل وتغييبه مرة أخرى حتى يتسلل إليه إيمان كيرلس القويم ، وحبوب الهلوسة تفكك العقل وتفسده .
ولعلك الآن وقفت على أثر تقليد الآباء والأجداد وقدرته على تمرير ما يناقض بدائه العقول ، وإلا فانظر إلى هذا الذي صنع الطائرة والصاروخ ثم هو يعبد البقرة ، ويتتبعها ليتضمخ ببولها وروثها تبركاً ببقايا إلهه .
فالحمد لله على نعمة الإسلام الذي حرص على الرقي بالعقل ولم يخاصم بينه وبين الإيمان بل ودعى إلى النظر والتأمل كطريق للإيمان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل 1/32 .
(2) انظر بيان تلبيس الجهمية 2/349
(3) مجموعة الشرح الكنسي حنانيا إلياس كساب ص 301-306.
تعليق