بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .
(بولس الرسول يؤسس للدولة العلمانية)
الدين ما يدان به الناس حقاً كان أو باطلاً ، والدين عقيدة وشريعة وسلوك ، وكلامنا هنا في الشريعة التي تحكم دنيا الناس وتسوس مجتمعاتهم ، وقد ذكرنا في المقال السابق أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لم يطالب في خطبة ولايته بسلطان مطلق وتفويض بلا قيد ، بل وقف يتعاقد مع أصحابه على شريعة معلومة مكتوبة .
وهنا يجدر التنبيه إلى مسألة مهمة ، فإن فعل أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ هذا هو تشريع للأمة ومن وجهين :
الأول : قول النبي صلى الله عليه وسلم (( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ))، فهذا مستند من السنة لهذا التشريع الإسلامي لشكل الحكم .
أما الثاني : فدلالة الإجماع على هذا التعاقد ، إجماع قد تقدم مستنده من السنة ، ؛ إذ لم ينقض عصر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلا وهذا العقد محل رضاهم في سائر الأقطار وبلا خلاف بينهم ، ومثل هذا الاتفاق في هذا الأمر الشائع المنتشر التي تتوافر همم الصحابة ودواعيهم على إنكاره لو كان مخالفاً للشرع إجماعٌ لا يتطرق لحجيته أدنى شك .
إن هذا يدلنا على مغالطة درج عليها كثير من المنافقين وهم يفسرون هذا التشريع الإسلامي الراقي لشكل الحكم بأنه مجرد سلوك شخصي لأبي بكر وعمر ـ ـ أساسه الزهد والورع لا التشريع ، وهذا جهل مزري ومغرض بأصول التشريع وطرق إثبات الأحكام في الإسلام .
إن هذا الإجماع على التعاقد بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحاكمهم يجعل الاستبداد السياسي الذي اعترى الدولة الإسلامية في بعض عصورها نوعاً من الفشل في التطبيق لا غياب التأصيل ، وفرق بين البحث في ضمانات التطبيق وبين إهدار التأصيل بالكلية .
والمقصود أن الشريعة عنصر جوهري في وصف الدولة بأنها دينية ، إذ لا يكفي في تحقيق هذا الوصف أن يحكم الدولة رجل دين ـ مع تحفظنا على هذا الوصف ـ فقد كان النجاشي مسلماً ، وكان يحكم دولة كافرة مخالفة لملته ، كما لا يكفي في وصف الدولة الدينية النص على هويتها ككونها دولة مسلمة أو مسيحية ، ودونك دستور مصر المحروسة ، فإن النص على أن الدولة مسلمة دينها الرسمي الإسلام لم يزحزحها كثيراً عن حقيقتها العلمانية .
نعم يظل الحكم باسم الدين عنصراً أساسياً في وصف الدولة بأنها دينية ، باعتباره مصدر الإلزام بالطاعة ، ونحن نسلم بهذا تسليماً تاماً ، ولكن غياب الشريعة يضفي على هذا الوصف ضرباً من التجوز ، طالما ليس هناك دين ـ شريعة ـ أصلاً يدان الناس به فيما بينهم حكاماً كانوا أو محكومين .
إن هذا يقربنا بعض الشيء من عنوان هذا المقال الذي يبدو لمن لم يتأمله غريباً عجيباً مع أنه صحيح دقيق ، نعم فإن وصف دولة الكنيسة بالدولة الدينية وصف لم يخل من شيء من التجوز ، وهذا لابد أن يردنا إلى بولس الرسول باعتباره المؤسس الأول لمسيحية ما بعد المسيح ـ عليه السلام ـ ؛ فإن بولس الذي قاد انقلاباً ثورياً على تعاليم المسيح عليه السلام ، لم يكتف بسهمه المسموم إلى العقيدة والذي أحدث مخاصمة أبدية بين العقل والإيمان ، حتى صوب سهماً مسموماً آخر إلى قلب الشريعة ، فنادى بإسقاطها بالكلية كضرورة إيمانية لا تنفك عن الاعتقاد ، فصرح بولس بأنه لا لزوم للعمل بالشريعة ، وأن الإيمان بالإله المصلوب كافٍ وحده في رفع اللعنة عمن ترك العمل بكل الشريعة .
لقد فعل بولس هذا مع تأكيد كتابه المقدس بعهديه القديم والجديد على قضية الالتزام بالشريعة ، ففي العهد القديم مما ينسب للرب عز وجل قوله لموسى ـ عليه السلام ـ :
[ (26) ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها. ويقول جميع الشعب آمين ]
( تثنية 26 )
ومما ينسب إلى المسيح ـ عليه السلام ـ في العهد الجديد : [ (17) لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة ( الناموس ) أو الأنبياء. ما جئت لألغي بل لأكمّـل (18) فالحق أقول لكم : " إلى أن تزول الأرض والسماء ، لن يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة ، حتى يتم كل شيء ]
( متى 5 : 17 -18)
[ إن السماء والأرض تزولان ، ولكن كلامي لا يزول ]
(متى : 24-25)
لكن بولس أسقط هذه اللعنة ، لعنة ترك العمل بالشريعة ، وأسقط الالتزام بها ، وهنا يجدر التنبيه إلى أن الالتزام هنا وهو إيجاب طاعة الله عز وجل على النفس أكبر من الطاعة نفسها ، كما أن ترك الالتزام بالطاعة أكبر من العمل بالمعصية لدواعي الضعف والشهوة ، فترك الالتزام استحلال للمعصية وهذا كفر بلا خلاف .
يقول بولس : " [ إذا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان (25) ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب ]
( غلاطية 3 : 24 – 25 )
ويقول : [ مبطلاً بجسده [ يقصد المصلوب ] ناموس الوصايا [ يعني الشريعة ] .. ]
( أفسس 2 : 15 )
ويقول : [ [ (16) .. إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر [ يحصل على البر ] بأعمال الناموس [ الشريعة ] ، بل بإيمان بيسوع المسيح آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس ، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما ]
( غلاطية 2 : 16 )
ويقول : [.. أبناموس الأعمال؟ كلا. بل بناموس الإيمان (27) إذاً نحسب أن الإنسان يتبرر [ أ يحصل على البر ] بالإيمان بدون أعمال الناموس ( الشريعة ) ]
(رومية 3 : 27 – 28 )
وليس مقصود بولس التأكيد على ضرورة الإيمان لقبول الأعمال ، هذا لو كان ما يعتقده في الإله المصلوب إيماناً ، ولكن مقصوده ـ على وجه القطع ـ أن العمل بالشريعة لا لزوم له بعد الإيمان بالإله المصلوب ، مما يدلك على هذا جرأته على لعن المسيح ذاته، إذ وصفه بأنه ملعون ، وأن لعنته كانت فداء للعنة من ترك العمل بالشريعة .
يقول بولس : [ (13) إن المسيح حررنا بالفداء من لعنة الشريعة ، إذ صار لعنة عوضاً عنا ، لأنه قد كتب : " ملعون كل من علق على خشبة " ]
( غلاطية 3 : 13 )
إذن فاللعنة على طرح الشريعة مرفوعة والذنوب مهما عظمت مغفورة قد تحملها عنا الإله المصلوب سلفاً .
لقد كان لإسقاط الشريعة على النحو الذي جاء به بولس أثراً وحشياً على الفكر الإنساني ؛ إذ كان في حقيقته نوعاً من استحلال الفواحش باسم الإيمان ، فالإيمان بالإله المصلوب صك غفران من سائر الخطايا والذنوب ، وهذا قد حمل قدراً هائلاً من التتشوه والتناقض إلى العقل البشري ؛ إذ هو تحرير لأحط غرائز الإنسان البهيمية والسبعية باسم الدين والإيمان ؛ مما كان له أبشع الأثر على الفرد والمجتمع والدولة وسائر الأمم ، ولقد فتح هذه الإيمان المشوه الطريق أمام النظريات الفلسفية التي مجدت القوة وشرعت اغتصاب ما لدى سائر الأمم الضعيفة من الخيرات ؛ باعتبار هذا الاغتصاب قانوناً طبيعياً ، وعلى هذه الخلفية الإيمانية المشوهة يمكن تفسير كثيراً من التصرفات البربرية للغرب وشعوبه تجاه أمم الأرض المستضعفة .
ولقد مهد إسقاط الشريعة المكتوبة الطريق أمام أشد صور الاستبداد السياسي وذلك بتنزلة رأي الحاكم وطريقة حكمه للدولة منزلة الشريعة المقدسة ؛ وذلك باعتبار الحاكم نفسه مرتباً ترتيباً مباشراً من الله عز وجل ، ومن ثم فلا سبيل إلى التشكيك في صحة كل ما يأتي به .
يقول بولس : " لتخضع كل نفس للسلاطين العالية ، فإنه لا سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله ، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله ، والمقاومون يأخذون دينونة " [رسالته لأهل رومية 13/1]
وقد مهد إسقاط الشريعة الطريق وبقوة أمام الفكر العلماني الذي يستقي تصوراته عن الدولة والقانون والأخلاق من عناصر القوة الأرضية في كل مجتمع ؛ إذ ليس بعد إسقاط الشريعة الإلهية سوى العلمانية ، منهجان لا ثالث لهما .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبه مجد الدين بن أحمد الآبار
تعليق