أعلام وأقزام في ميزان الإسلام
جمع وترتيب : الدكتور سيد بن حسين العفّاني
الجزء الأول
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 69 - 71].
أما بعد:
فزماننا هذا زمان تنطق فيه الرويبضة (1)، ويعلو التحوتُ الوعول فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون
__________
(1) الرُّوُيْبضة: تصغير الرابضة: وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، والتافه الخسيس الحقير.
(المقدمة/3)
________________________________________
فيها الأمين، وينطق فيها الرُّويبضة " قيل: وما الرويبضة؟ قال: " السفية يتكلم في أمر العامة " (1). * وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " من أشراط الساعة .. أن يعلو التحوتُ الوعول " أكذلك يا عبد الله بن مسعود سمعته من حبِّي؟ قال: نعم ورب الكعبة. قلنا وما التُّحوت؟ قال: " فسول الرجال، وأَهل البيوت الغامضة، يُرفعون فوق صالحيهم، والوعول أهل البيوت الصالحة " (2).
حينئذ تتحول الحياة إلى مستنقع آسن، وترتكس الدجاجلة ومعهم الغوغاء في الحمأة الوبيئة، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم، ويعلو أهل الله بمرتعهم الذكي، ومرتقاهم العالي، ونورهم الوضيء، فعيشهم عيش الملوك، بل أحلى، ودينهم دين الملائكة.
أي شيطان لئيم قاد خطا الجموع الشاردة عن منهج الله إلى هذا الجحيم.
لقد فسدت الأرض بالبعد عن الإسلام، وأسنت الحياة، وتعفنت قيادات الفكر من العمالقة الدجاجلة، والقمم الشامخة الزائفة، وذاقت البشرية الويلات من قيادات الفكر المتعفنة و " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس "، وكانت النكبة القاصمة لما نُحِّي الإسلام عن الحياة، وتطاول عليه الرعاع والغوغاء ممن يسمونهم قادة الفكر وأعلام الأدب
__________
(1) إسناده جيد: رواه أحمد في "مسنده"، وقال الشيخ أحمد شاكر (15/ 37 - 38): إسناده حسن ومتنه صحيح، وقال ابن كثير في " النهاية في الفتن والملاحم ": هذا إسناد جيد، ولم يخرجوه من هذا الوجه.
(2) ذكره ابن حجر في " الفتح " (13/ 15) من رواية الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة، وقال الهيثمي: حديث أبي هريرة وحده في "الصحيح" بعضه، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن الحارث وهو ثقة.
(المقدمة/4)
________________________________________
والصحافة وأهل الحداثة من التنويريين الإرهابيين التقدميين أعداء الإسلام الظلامي الذين تطاولوا على الله وسخروا من دينهم وأنكروا وتنكروا لكل معلوم من الدين بالضرورة، وارتفعت لهم راية وصوت، ونجحت عصابة المضللين الخادعين أعداء البشرية.
ارتقوا -كما يزعمون- في الإبداع المادي، وارتكسوا في المعنى الإنساني وذاق الغافلون على أيديهم القلق والحيرة والضياع، والشك.
عناد وجحود فكانت الشقوة النكدة، والخواء القاتل، والضياع الذي ما بعده ضياع.
جهل الدجاجلة من القمم الشوامخ وروّاد الفكر أن هذه البشرية -وهي من صنع الله- لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل الله في الإسلام مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}.
* وقال تعالى: {إِن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ولكن هؤلاء لا يريدون أن يردوا القفل إلى صانعه .. بل تطاولوا على هدي الإسلام وتطاولوا على الوحي المنزل من السماء، وتطاولوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سنته وشريعته، وتطاولوا على تاريخ الإسلام والصحابة، ووجهوا وجهتهم قبل الغرب.
يرمرم في فتات الغرب قوتًا ... ويشرب من كئوسهم الثمالة
يقبل راحة الإِفرنج دومًا ... ويلثم دونما خجلٍ نعاله
وأتى شعرهم وأدبهم بكل قبيح وبكل رذيلة وبكل دمار.
ومن الغرائب أن هذا رائج ... تغدو به صحف النفاق وترجعُ
(المقدمة/5)
________________________________________
وله من العشاق ألف قبيلةٍ ... وله من الأبواق جيشٌ مقزِغُ
يجثو بأحضان الكبار مؤرَّباً ... وإذا مَشَوْا أومت إِليه الأصْبُعُ
إِن شرَّقوا فالشرق أقدس قِبْلةٍ ... أو غرّبوا فالغرب نعم الموضعُ
يجري مع التيار يعرف طبْعَه ... وعلى لحون العازفين يُوَقِّعُ
يمضي إِلى المأوى الحرام مُلَبِّيًا ... ويَؤُمُّ حانات المساء ويكرَعُ
هل يستوي الشعران: شعر مؤمن ... ومدجج بالكفر لا يتورَّعُ؟!
هل يستوي البحران هذا ماؤه ... عذب وذاك الآسن المُستنقع؟! (1)
ولله در العشماوي حين يقول فيهم:
كم شاعر جعل الإِلحاد منهجه ... تواثبوا نحوه بالشوق واعتنقوا
ساروا وفي دربهم وحلٌ فإِن وقفوا ... غاصوا وإن حرّكوا أقدامهم زلقوا
أبناء جلدتنا لكنهم هجروا ... وأهل ملتنا لكنهم مَرَقُوا (2)
لقد مسخوا عقل الأمة وضميرها وفكرها ويومها ومستقبلها وأضاعوا شباب الأمة ووقعوا في التيه الكبير .. لقد قالوا في الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يستحي منه كبار الشياطين وزعموا أن الأديان من نبت الأرض، وأن القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا فصل الإسلام ومنهجه عن الحياة فصلاً تامًا، فتصدت لهم الأقلام المتوضئة.
كتائب الأحرف البيضاء قادمة ... يزفُّها قلم يزهو به ورقُ
صهيله قلم يُصغي الزمان له ... ونقعه لحجاب الشمس يخترق
وسرجه كلمات لا يخالطها ... زيف ولا يرتمي في حضنها نزقُ
__________
(1) من ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة" لمحمود مفلح (ص 8) - دار الوفاء.
(2) من قصيدة "جولة مع جواد الشعر" من ديوان "شموخ في زمن الانكسار" للعشماوي (ص51) - مكتبة الأديب.
(المقدمة/6)
________________________________________
مسافر والأماني البيض لاهثة ... وراءه وبحار الشوق تصطفِقُ
* وهذا لون من أشرف أنواع الجهاد قال الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} [التحريم: 9].
فلا يترك دجاجلة الفكر، والعناصر المفسدة الجائرة الظالمة تهاجم إله الكون والإسلام والشرع من داخل مجتمع المسلمين دون أن يتصدى لهم أهل الله -وحواريو الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين يذبون عن الوحي والسنة .. فهذا أخص أنواع الجهاد، فجهاد الكفار بالسيف والسنان، وجهاد الزنادقة والذين يطعنون في الإسلام يكون بالقلم واللسان، وهو جهاد الخاصة يردون الشبه في وجوه الكالحين الكارهين للإسلام الكريهين، المبغضين للإسلام البغيضين .. الفاسدين المفسدين قال تعالى عن القرآن: {وجاهدهم به جهادًا كبيرًا} فاللهم اكتب لنا بجمعنا هذا نصيبًا من هذ الجهاد وارزقنا فيه النية الصادقة.
إن هذا الجمع لسحق كل نابح ناعق يتطاول على الإسلام، ولسحق كل حية وأفعى تبث السم في الدسم، ولفضح كل دجال وكل مهرج من الحواة.
نعلم أن الرفعة كل الرفعة في اتباع هدي نبينًا - صلى الله عليه وسلم - وأن الذلة كل الذلة في المحادة لله ورسوله وإن قال عنهم الناس أنهُم القمم الشوامخ وعمالقة الأدب والفكر وأساتذة الأجيال وعرّابو الحداثة والقوِمية والشعوبية قال تعالى: {إِن الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسولَهُ كبُِتُوا كمَا كُبِتَ الَذِين مِن قَبلِهِم .. } الآية إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 5: 20].
فلكل محاد كبت وقهر وذل ومهانة جزاء التبجح والجحود - وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانًا من الظاهر الذي يخالف الوعد الصادق.
(المقدمة/7)
________________________________________
إن المؤمن لا يخالجه شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون وأن الله ورسوله هم الغالبون. وأن هذا هو الكائن ولا بد أن يكون، ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون! .. هذا في الدنيا أما في الآخرة فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين ثم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" (1) اقرءوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}.
هؤلاء الذين تكبروا على الله ورسوله وشرعه مآلهم كما ورد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يُسمّى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقَوْن من عصارة أهل النار، طينة الخبال" (2).
فيا أمثال الذر اخسئوا فلن تعدوا قدركم. يا من تزدحم أنفسكم باللدد والخصومة لله ورسوله وشرعه مهما أتقنتم الدجل والكذب والتمويه والدهان فإن الله سيفضح نياتكم وسيراها الناس في محيا وجوهكم .. إن الناس فترة من الزمان خدعها منكم زلاقة اللسان، ونعومة الدهان ثم كشف الله ما تخفي سرائركم، وما عاد الناس ينخدعون بظواهركم بعد أن ثاب الناس إلى ربهم وعادوا وتمسكوا بهدي نبيهم.
* قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) حسن: رواه أحمد في " مسنده "، والترمذي، وحسنه ابن حجر في "المطالب العالية"، والألباني في " صحيح الجامع " (7896)، و "تخريج المشكاة" (2/ 51).
(المقدمة/8)
________________________________________
الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]
هذا هو وحي السماء إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان، هذا الزبد نافش راب منتفخ .. ولكنه بعد غثاء .. والماء من تحته سارب ساكن هادئ .. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة، .. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصُاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة فإن الخبث يطفو، وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنه بعدُ خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء ..
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيًا طافيًا ولكنه بعد زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحًا لا حقيقة له ولا تماسك فيه .. والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار، أو ضاع أو مات .. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس.
كذلك يضرب الله الأمثال، وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات ومصائر الأعمال والأقوال.
* قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].
فالعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.
إنه ليس أشقى على وجه الأرض من هؤلاء الدجاجلة الذي حُرموا طمأنينة الأنس بالله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله
(المقدمة/9)
________________________________________
خالق الكون.
ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة، يشق طريقة في الحياة فريدًا وحيدًا شاردًا في فلاة بعد أن بعد عن هدي السماء.
* قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
جاء الحق بقوته وصدقه وثباته، وزهق الباطل واندحر وذهب الدجاجلة من أساتذة الجيل الزائفين إلى مزابل التاريخ، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق.
إنها حقيقة لدنية {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة، فالباطل ينتفخ وينتفج وينفش؛ لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة، ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيمًا كبيرًا ضخماً راسخًا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليًا ثم تخبو سريعاً وتستحيل إلى رماد؛ بينما الجمرة الذكية تدفئ وتنفع وتبقى، وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
* قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كانَ زَهُوقًا} .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمر حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار، فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده، وقد تقف ضده الأهواء والظروف والقوى، ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى، ويكفل له البقاء؛ لأنه من عند الله الذي جعل " الحق " من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول.
* قال تعالى: {إِن الباطِلَ كانَ زَهُوقًا} ومن ورائه شياطين الإنس والجن، فوعد الله أصدق وسلطان الله أقوى، وما من مؤمن ذاق طعم
(المقدمة/10)
________________________________________
الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد، ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثًا؟
وفي القرآن والإسلام شفاء ورحمة، شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيسكن ويطمئن، ويرضى فيستروح الرضا من الله والرضا عن الحياة؛ والقلق مرض، والحيرة نَصَب، والوسوسة داء، ومن ثم فهو رحمة للمؤمنين.
وفي الإسلام شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير ممن سنعرض نماذج منهم شطوا وبالغوا في شططهم وشطحهم، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن .. مغلوبون من أهل الله قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين" (1).
والمسلم ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمن، وعقيدة الإسلام هي وطنه وهي قومه، وهي أهله، ومن ثم يتجمع الطيبون الطاهرون القانتون العابدون عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج.
إن المسلم واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام {وإِن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
* ويبقى الميزان الدقيق للإيمان في النفوس قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
__________
(1) رواه مسلم وابن ماجه عن عمر.
(المقدمة/11)
________________________________________
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
فلله در من وقف تحت راية الحق والعقيدة .. لا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن، ولا جنس، ولا عصبية ولا قومية .. وإنما الإسلام والإسلام فقط " إنه الإسلام أمي وأبي " حين تكون المحادة لله ولرسوله تنبتُّ كل الوشائج من أرض وجنس ووطن ولون وعشيرة ونسب وصهر إذا انبتت الوشيجة الأولى وشيجة الإسلام .. فالولاء لله ولرسوله .. وما نرضى بغير كتابة الإيمان من الرحمن فى قلوب اشتاقت إلى الأنهار والجنان وقد ذكرت في جمعي رموزًا وعمالقةً وقممًا زائفة منهم من تزندق وتطاول وأتى بالكفر البيّن، ومنهم من انحرف عن الجادة كثيرًا، ومنهم من خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا وهو بهذا الخلط يموه على عوام المسلمين فأغلظنا القول لمن تزندق ومرق غيرة على ديننا فهو أحب إلينا من ذواتنا من ذواتنا.
أدافع عن دين عظيم وهبته ... عطاء مُقِلٍّ مهجتي وفؤاديا
نحمله في شغاف قلوبنا وحبات أعيننا نشرف بحمله.
وقد بينت في جمعي هذا زيف الدجاجلة، وبسطنا القول في بيان باطلهم والرد عليهم مما جمعناه وأطلنا فيه النفس من الغيورين على دينهم كالأستاذ أنور الجندي الذي يحتوي جمعي هذا الكثير والكثير من ترجمته لأهل الباطل والرد عليهم وعزوت إليه كلامه، فإن من بركة العلم عزوه إلى قائله، رحمه الله وشكر الله له وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" (1).
__________
(1) صحيح: رواه أحمد، والترمذي، والضياء عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6417)، و"الأحاديث الصحيحة" (471).
(المقدمة/12)
________________________
وهناك وقفة هامة لا بد من بيانها أنا لا نقطع لمعين من المسلمين بالنار إلا من حدده الشارع وأن هناك فرق كبير بين كفر النوع وكفر العين، وأنه ليس من قصد الحق كمن تعمّد قصد الباطل- فمن بين هذه التراجم من يصدق عليهم القول {هم العدو فاحذرهم} وهناك منهم من دافعوا عن الإسلام في بعض الميادين وتصدوا لشانئيه ولكنهم في ميدان آخر شطوا فكان لا بد من بيان خطئهم كمحمد عبده، والعقاد، ومحمد عمارة، ومحمد إقبال .. وعسى أن يمتد العمر بالمرء فيضعهم كلهم في هذا الفصل "إسلاميون ولكن" فالله وحده يعلم في أي ظرف يخرج هذا الكتاب.
ولقد أحلنا على المراجع قدر الطاقة وأقسم بالله أني ما أتيت بكلمة إلا من كلام الثقات وأحلت إلى المصادر مثل ترجمة عرابي فقد ذكرت مواقفه الموجودة في ثبت المصادر والمراجع كقول الشيخ محب الدين الخطيب والدكتور محمد محمد حسين والشيخ الجنبيهي وهو من كبار علماء الأزهر ..
اللهم وأنت العليم بالنيات .. أجعل هذا العمل وهذا الجمع كله خالصاً لوجهك الكريم فما كان لك يا مولاي سيبقى وما كان لغيرك يضمحل ويفنى.
اللهم وارزقني ثواب المجاهدين الذين يذبون عن شرعك ودينك وارزقني الغيرة على إسلامك وهدي نبيك - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم استرني بالعافية، واعصمني بهدي نبيك، اعصمني واحرسني بعينك التي لا تنام.
يا حي يا قيوم برحمتك استغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ..
اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات
(المقدمة/13)
________________________________________
والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم صل على محمد وآله وارزقني أفضل الشهادة في سبيلك، وارزقني أعالى الجنان وجوار نبيك - صلى الله عليه وسلم - واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا ولا تجعل الحياة علي نكدا ..
اللَّهم اجعل كل أنفاسي وقفًا على الذب عن دينك، واحفظني بالإسلام واقفًا، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بي عدواً حاسدًا.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه.
اللهم إني أسالك لذة العيش بعد الموت وحسن النظر إلى وجهك الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
العفاني
***
(المقدمة/14)
________________________________________
جمع وترتيب : الدكتور سيد بن حسين العفّاني
الجزء الأول
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 69 - 71].
أما بعد:
فزماننا هذا زمان تنطق فيه الرويبضة (1)، ويعلو التحوتُ الوعول فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون
__________
(1) الرُّوُيْبضة: تصغير الرابضة: وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، والتافه الخسيس الحقير.
(المقدمة/3)
________________________________________
فيها الأمين، وينطق فيها الرُّويبضة " قيل: وما الرويبضة؟ قال: " السفية يتكلم في أمر العامة " (1). * وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " من أشراط الساعة .. أن يعلو التحوتُ الوعول " أكذلك يا عبد الله بن مسعود سمعته من حبِّي؟ قال: نعم ورب الكعبة. قلنا وما التُّحوت؟ قال: " فسول الرجال، وأَهل البيوت الغامضة، يُرفعون فوق صالحيهم، والوعول أهل البيوت الصالحة " (2).
حينئذ تتحول الحياة إلى مستنقع آسن، وترتكس الدجاجلة ومعهم الغوغاء في الحمأة الوبيئة، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم، ويعلو أهل الله بمرتعهم الذكي، ومرتقاهم العالي، ونورهم الوضيء، فعيشهم عيش الملوك، بل أحلى، ودينهم دين الملائكة.
أي شيطان لئيم قاد خطا الجموع الشاردة عن منهج الله إلى هذا الجحيم.
لقد فسدت الأرض بالبعد عن الإسلام، وأسنت الحياة، وتعفنت قيادات الفكر من العمالقة الدجاجلة، والقمم الشامخة الزائفة، وذاقت البشرية الويلات من قيادات الفكر المتعفنة و " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس "، وكانت النكبة القاصمة لما نُحِّي الإسلام عن الحياة، وتطاول عليه الرعاع والغوغاء ممن يسمونهم قادة الفكر وأعلام الأدب
__________
(1) إسناده جيد: رواه أحمد في "مسنده"، وقال الشيخ أحمد شاكر (15/ 37 - 38): إسناده حسن ومتنه صحيح، وقال ابن كثير في " النهاية في الفتن والملاحم ": هذا إسناد جيد، ولم يخرجوه من هذا الوجه.
(2) ذكره ابن حجر في " الفتح " (13/ 15) من رواية الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة، وقال الهيثمي: حديث أبي هريرة وحده في "الصحيح" بعضه، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن الحارث وهو ثقة.
(المقدمة/4)
________________________________________
والصحافة وأهل الحداثة من التنويريين الإرهابيين التقدميين أعداء الإسلام الظلامي الذين تطاولوا على الله وسخروا من دينهم وأنكروا وتنكروا لكل معلوم من الدين بالضرورة، وارتفعت لهم راية وصوت، ونجحت عصابة المضللين الخادعين أعداء البشرية.
ارتقوا -كما يزعمون- في الإبداع المادي، وارتكسوا في المعنى الإنساني وذاق الغافلون على أيديهم القلق والحيرة والضياع، والشك.
عناد وجحود فكانت الشقوة النكدة، والخواء القاتل، والضياع الذي ما بعده ضياع.
جهل الدجاجلة من القمم الشوامخ وروّاد الفكر أن هذه البشرية -وهي من صنع الله- لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل الله في الإسلام مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}.
* وقال تعالى: {إِن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ولكن هؤلاء لا يريدون أن يردوا القفل إلى صانعه .. بل تطاولوا على هدي الإسلام وتطاولوا على الوحي المنزل من السماء، وتطاولوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سنته وشريعته، وتطاولوا على تاريخ الإسلام والصحابة، ووجهوا وجهتهم قبل الغرب.
يرمرم في فتات الغرب قوتًا ... ويشرب من كئوسهم الثمالة
يقبل راحة الإِفرنج دومًا ... ويلثم دونما خجلٍ نعاله
وأتى شعرهم وأدبهم بكل قبيح وبكل رذيلة وبكل دمار.
ومن الغرائب أن هذا رائج ... تغدو به صحف النفاق وترجعُ
(المقدمة/5)
________________________________________
وله من العشاق ألف قبيلةٍ ... وله من الأبواق جيشٌ مقزِغُ
يجثو بأحضان الكبار مؤرَّباً ... وإذا مَشَوْا أومت إِليه الأصْبُعُ
إِن شرَّقوا فالشرق أقدس قِبْلةٍ ... أو غرّبوا فالغرب نعم الموضعُ
يجري مع التيار يعرف طبْعَه ... وعلى لحون العازفين يُوَقِّعُ
يمضي إِلى المأوى الحرام مُلَبِّيًا ... ويَؤُمُّ حانات المساء ويكرَعُ
هل يستوي الشعران: شعر مؤمن ... ومدجج بالكفر لا يتورَّعُ؟!
هل يستوي البحران هذا ماؤه ... عذب وذاك الآسن المُستنقع؟! (1)
ولله در العشماوي حين يقول فيهم:
كم شاعر جعل الإِلحاد منهجه ... تواثبوا نحوه بالشوق واعتنقوا
ساروا وفي دربهم وحلٌ فإِن وقفوا ... غاصوا وإن حرّكوا أقدامهم زلقوا
أبناء جلدتنا لكنهم هجروا ... وأهل ملتنا لكنهم مَرَقُوا (2)
لقد مسخوا عقل الأمة وضميرها وفكرها ويومها ومستقبلها وأضاعوا شباب الأمة ووقعوا في التيه الكبير .. لقد قالوا في الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يستحي منه كبار الشياطين وزعموا أن الأديان من نبت الأرض، وأن القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا فصل الإسلام ومنهجه عن الحياة فصلاً تامًا، فتصدت لهم الأقلام المتوضئة.
كتائب الأحرف البيضاء قادمة ... يزفُّها قلم يزهو به ورقُ
صهيله قلم يُصغي الزمان له ... ونقعه لحجاب الشمس يخترق
وسرجه كلمات لا يخالطها ... زيف ولا يرتمي في حضنها نزقُ
__________
(1) من ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة" لمحمود مفلح (ص 8) - دار الوفاء.
(2) من قصيدة "جولة مع جواد الشعر" من ديوان "شموخ في زمن الانكسار" للعشماوي (ص51) - مكتبة الأديب.
(المقدمة/6)
________________________________________
مسافر والأماني البيض لاهثة ... وراءه وبحار الشوق تصطفِقُ
* وهذا لون من أشرف أنواع الجهاد قال الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} [التحريم: 9].
فلا يترك دجاجلة الفكر، والعناصر المفسدة الجائرة الظالمة تهاجم إله الكون والإسلام والشرع من داخل مجتمع المسلمين دون أن يتصدى لهم أهل الله -وحواريو الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين يذبون عن الوحي والسنة .. فهذا أخص أنواع الجهاد، فجهاد الكفار بالسيف والسنان، وجهاد الزنادقة والذين يطعنون في الإسلام يكون بالقلم واللسان، وهو جهاد الخاصة يردون الشبه في وجوه الكالحين الكارهين للإسلام الكريهين، المبغضين للإسلام البغيضين .. الفاسدين المفسدين قال تعالى عن القرآن: {وجاهدهم به جهادًا كبيرًا} فاللهم اكتب لنا بجمعنا هذا نصيبًا من هذ الجهاد وارزقنا فيه النية الصادقة.
إن هذا الجمع لسحق كل نابح ناعق يتطاول على الإسلام، ولسحق كل حية وأفعى تبث السم في الدسم، ولفضح كل دجال وكل مهرج من الحواة.
نعلم أن الرفعة كل الرفعة في اتباع هدي نبينًا - صلى الله عليه وسلم - وأن الذلة كل الذلة في المحادة لله ورسوله وإن قال عنهم الناس أنهُم القمم الشوامخ وعمالقة الأدب والفكر وأساتذة الأجيال وعرّابو الحداثة والقوِمية والشعوبية قال تعالى: {إِن الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسولَهُ كبُِتُوا كمَا كُبِتَ الَذِين مِن قَبلِهِم .. } الآية إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 5: 20].
فلكل محاد كبت وقهر وذل ومهانة جزاء التبجح والجحود - وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانًا من الظاهر الذي يخالف الوعد الصادق.
(المقدمة/7)
________________________________________
إن المؤمن لا يخالجه شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون وأن الله ورسوله هم الغالبون. وأن هذا هو الكائن ولا بد أن يكون، ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون! .. هذا في الدنيا أما في الآخرة فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين ثم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" (1) اقرءوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}.
هؤلاء الذين تكبروا على الله ورسوله وشرعه مآلهم كما ورد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يُسمّى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقَوْن من عصارة أهل النار، طينة الخبال" (2).
فيا أمثال الذر اخسئوا فلن تعدوا قدركم. يا من تزدحم أنفسكم باللدد والخصومة لله ورسوله وشرعه مهما أتقنتم الدجل والكذب والتمويه والدهان فإن الله سيفضح نياتكم وسيراها الناس في محيا وجوهكم .. إن الناس فترة من الزمان خدعها منكم زلاقة اللسان، ونعومة الدهان ثم كشف الله ما تخفي سرائركم، وما عاد الناس ينخدعون بظواهركم بعد أن ثاب الناس إلى ربهم وعادوا وتمسكوا بهدي نبيهم.
* قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) حسن: رواه أحمد في " مسنده "، والترمذي، وحسنه ابن حجر في "المطالب العالية"، والألباني في " صحيح الجامع " (7896)، و "تخريج المشكاة" (2/ 51).
(المقدمة/8)
________________________________________
الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]
هذا هو وحي السماء إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان، هذا الزبد نافش راب منتفخ .. ولكنه بعد غثاء .. والماء من تحته سارب ساكن هادئ .. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة، .. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصُاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة فإن الخبث يطفو، وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنه بعدُ خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء ..
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيًا طافيًا ولكنه بعد زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحًا لا حقيقة له ولا تماسك فيه .. والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار، أو ضاع أو مات .. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس.
كذلك يضرب الله الأمثال، وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات ومصائر الأعمال والأقوال.
* قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].
فالعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.
إنه ليس أشقى على وجه الأرض من هؤلاء الدجاجلة الذي حُرموا طمأنينة الأنس بالله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله
(المقدمة/9)
________________________________________
خالق الكون.
ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة، يشق طريقة في الحياة فريدًا وحيدًا شاردًا في فلاة بعد أن بعد عن هدي السماء.
* قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
جاء الحق بقوته وصدقه وثباته، وزهق الباطل واندحر وذهب الدجاجلة من أساتذة الجيل الزائفين إلى مزابل التاريخ، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق.
إنها حقيقة لدنية {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة، فالباطل ينتفخ وينتفج وينفش؛ لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة، ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيمًا كبيرًا ضخماً راسخًا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليًا ثم تخبو سريعاً وتستحيل إلى رماد؛ بينما الجمرة الذكية تدفئ وتنفع وتبقى، وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
* قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كانَ زَهُوقًا} .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمر حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار، فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده، وقد تقف ضده الأهواء والظروف والقوى، ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى، ويكفل له البقاء؛ لأنه من عند الله الذي جعل " الحق " من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول.
* قال تعالى: {إِن الباطِلَ كانَ زَهُوقًا} ومن ورائه شياطين الإنس والجن، فوعد الله أصدق وسلطان الله أقوى، وما من مؤمن ذاق طعم
(المقدمة/10)
________________________________________
الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد، ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثًا؟
وفي القرآن والإسلام شفاء ورحمة، شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيسكن ويطمئن، ويرضى فيستروح الرضا من الله والرضا عن الحياة؛ والقلق مرض، والحيرة نَصَب، والوسوسة داء، ومن ثم فهو رحمة للمؤمنين.
وفي الإسلام شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير ممن سنعرض نماذج منهم شطوا وبالغوا في شططهم وشطحهم، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن .. مغلوبون من أهل الله قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين" (1).
والمسلم ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمن، وعقيدة الإسلام هي وطنه وهي قومه، وهي أهله، ومن ثم يتجمع الطيبون الطاهرون القانتون العابدون عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج.
إن المسلم واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام {وإِن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
* ويبقى الميزان الدقيق للإيمان في النفوس قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
__________
(1) رواه مسلم وابن ماجه عن عمر.
(المقدمة/11)
________________________________________
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
فلله در من وقف تحت راية الحق والعقيدة .. لا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن، ولا جنس، ولا عصبية ولا قومية .. وإنما الإسلام والإسلام فقط " إنه الإسلام أمي وأبي " حين تكون المحادة لله ولرسوله تنبتُّ كل الوشائج من أرض وجنس ووطن ولون وعشيرة ونسب وصهر إذا انبتت الوشيجة الأولى وشيجة الإسلام .. فالولاء لله ولرسوله .. وما نرضى بغير كتابة الإيمان من الرحمن فى قلوب اشتاقت إلى الأنهار والجنان وقد ذكرت في جمعي رموزًا وعمالقةً وقممًا زائفة منهم من تزندق وتطاول وأتى بالكفر البيّن، ومنهم من انحرف عن الجادة كثيرًا، ومنهم من خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا وهو بهذا الخلط يموه على عوام المسلمين فأغلظنا القول لمن تزندق ومرق غيرة على ديننا فهو أحب إلينا من ذواتنا من ذواتنا.
أدافع عن دين عظيم وهبته ... عطاء مُقِلٍّ مهجتي وفؤاديا
نحمله في شغاف قلوبنا وحبات أعيننا نشرف بحمله.
وقد بينت في جمعي هذا زيف الدجاجلة، وبسطنا القول في بيان باطلهم والرد عليهم مما جمعناه وأطلنا فيه النفس من الغيورين على دينهم كالأستاذ أنور الجندي الذي يحتوي جمعي هذا الكثير والكثير من ترجمته لأهل الباطل والرد عليهم وعزوت إليه كلامه، فإن من بركة العلم عزوه إلى قائله، رحمه الله وشكر الله له وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" (1).
__________
(1) صحيح: رواه أحمد، والترمذي، والضياء عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6417)، و"الأحاديث الصحيحة" (471).
(المقدمة/12)
________________________
وقفة
وهناك وقفة هامة لا بد من بيانها أنا لا نقطع لمعين من المسلمين بالنار إلا من حدده الشارع وأن هناك فرق كبير بين كفر النوع وكفر العين، وأنه ليس من قصد الحق كمن تعمّد قصد الباطل- فمن بين هذه التراجم من يصدق عليهم القول {هم العدو فاحذرهم} وهناك منهم من دافعوا عن الإسلام في بعض الميادين وتصدوا لشانئيه ولكنهم في ميدان آخر شطوا فكان لا بد من بيان خطئهم كمحمد عبده، والعقاد، ومحمد عمارة، ومحمد إقبال .. وعسى أن يمتد العمر بالمرء فيضعهم كلهم في هذا الفصل "إسلاميون ولكن" فالله وحده يعلم في أي ظرف يخرج هذا الكتاب.
ولقد أحلنا على المراجع قدر الطاقة وأقسم بالله أني ما أتيت بكلمة إلا من كلام الثقات وأحلت إلى المصادر مثل ترجمة عرابي فقد ذكرت مواقفه الموجودة في ثبت المصادر والمراجع كقول الشيخ محب الدين الخطيب والدكتور محمد محمد حسين والشيخ الجنبيهي وهو من كبار علماء الأزهر ..
اللهم وأنت العليم بالنيات .. أجعل هذا العمل وهذا الجمع كله خالصاً لوجهك الكريم فما كان لك يا مولاي سيبقى وما كان لغيرك يضمحل ويفنى.
اللهم وارزقني ثواب المجاهدين الذين يذبون عن شرعك ودينك وارزقني الغيرة على إسلامك وهدي نبيك - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم استرني بالعافية، واعصمني بهدي نبيك، اعصمني واحرسني بعينك التي لا تنام.
يا حي يا قيوم برحمتك استغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ..
اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات
(المقدمة/13)
________________________________________
والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم صل على محمد وآله وارزقني أفضل الشهادة في سبيلك، وارزقني أعالى الجنان وجوار نبيك - صلى الله عليه وسلم - واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا ولا تجعل الحياة علي نكدا ..
اللَّهم اجعل كل أنفاسي وقفًا على الذب عن دينك، واحفظني بالإسلام واقفًا، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بي عدواً حاسدًا.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه.
اللهم إني أسالك لذة العيش بعد الموت وحسن النظر إلى وجهك الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
العفاني
***
(المقدمة/14)
________________________________________
تعليق