رئاسة الدولة بين الأنظمة الوضعية والأحكام الشرعية
رئاسة الدولة من القضايا المهمة في أي نظام سياسي، لما تمثله من ثقل ولما يترتب عليها من أحكام، وبناء على طبيعة النظام والأسس التي قام عليها يتحدد نوع الرئاسة في الدولة، وسوف نحاول بعون الله وتوفيقه أن نتناول هذه القضية من وجهة نظر مقارنة بين ما جاء في الأنظمة الوضعية، وبين ما جاء في الأحكام الشرعية، وذلك من حيث الصفات والشروط، ومن حيث كيفية التولية.
رئاسة الدولة (تعريف): يراد برئيس الدولة من حيث الفعل والتصرف-وليس من حيث المسمى-الكيان الذي له أعلى سلطة تنفيذية في قيادة الدولة وإدارتها، "فرئيس الدولة هو الرئيس المباشر لدولته ورمز سيادتها"[1]، وهذه تختلف من نظام إلى نظام، فقد يكون رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، وذلك في النظام الديمقراطي الرئاسي كما في النظام الفرنسي والنظام الأمريكي، كما يكون الملك هو رئيس الدولة وذلك في النظام الملكي، كما في النظام المغربي والنظام الأردني، ويكون رئيس الوزراء هو رئيس الدولة الفعلي-وإن لم يكن الاسمي- وذلك في النظام الديمقراطي البرلماني كما في النظام الإيطالي، أو النظام البريطاني، (رغم أن النظام الديمقراطي البرلماني يوجد فيه مسمى منصب رئيس الدولة سواء كان رئيسا أو ملكا أو امبراطورا، لكنها رئاسة شرفية، أو رئاسة تنفيذ إجراءات محددة بظروف معينة منصوص عليها في الدستور).
كما يكون الكيان في غالب الأمر شخصا واحدا حتى وإن اتخذ له أعوانا ومستشارين، كما يكون الكيان مجموعة أشخاص اثنين أو أكثر فتكون القيادة جماعية، وذلك في حالة نظام حكومة الجمعية كما في النظام السويسري.
أما رئيس الدولة في النظام الإسلامي فله مسمى واحد وهو الخليفة أو مرادفه الإمام، الذي يتمتع بكافة الصلاحيات لإدارة الحكم والرعية في الدولة، لا يدانيه في منزلته أحد، وقد عرف أهل العلم الخلافة أو الإمامة بعدة تعاريف متآلفة غير متعارضة، وقد يكشف بعض التعاريف عن شيء من خصوصها لم يكشفه التعريف الآخر أو يؤكد عليه، بل تركه اعتمادا على أن ذلك من مشهور الأمر لدى المسلمين، ويوشك أن يكون كل عالم أكد في تعريفه على الجانب الذي يراه مستحقا للتنويه به من غير أن ينكر الجوانب الأخرى.
فقد عرفها الماوردي بقوله: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"[2]، ولعله نظر في تعريفها إلى مسألة المستند أو المرجعية التي تؤوب إليها كأهم ما يميزها، فبين أن مستندها ومرجعيتها الشريعة لأنها خلافة النبوة، ثم بين وظائفها أو مهامها فذكر أنها تشمل حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، فالدين هو الأصل والعصام.
وعرفها إمام الحرمين أبو المعالي الجويني فقال: "الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة من مهمات الدين والدنيا"[3]، ولعله نظر في تعريفه إلى مسألة مدى واتساع صلاحياته فبين أنها رياسة تامة وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، وأن متعلقها مهمات الدين والدنيا.
وعرفها أحمد بن يحيي بن المرتضي فقال: "والإمامة رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوقها يد"[4]، ولعله نظر في تعريفه إلى مسألة تعددية أو واحدية القيادة فبين أنها لشخص مخصوص بحكم الشرع، ما يعني واحدية شخص الخليفة فالخلافة ليست هيئة مكونة من اثنين أو جماعة من الناس.
وثمت تعريفات أخر أغلبها تدور في فلك التعريفات السابقة، إما بزيادة وإما بنقص مع عدم إنكار الجوانب الأخرى.
وبالإمكان أن نحدد مما تقدم ثلاثة عناصر واضحة في تعريف الخلافة:
1-المستند أو المرجع الذي تصدر عنه: وهو الشريعة
2-المجال أو المدي الذي تغطيه: وهو خاصة الناس وعامتهم في أمورهم الدينية والدنيوية
3-الكيان القائم بها: وهو فرد واحد، لا يشركه في منزلته أحد، حتى وإن كان ممن يعينه ويساعده، فهو داخل تحت طاعته.
ولعل التعريف الذي يجمع بين هذه المكونات الثلاث هو أولى التعريفات بذلك، ولعل التعريف لها بالقول: "هي خلافة عن صاحب الشرع لشخص صالح لها بحكم الشريعة، تتعلق بالخاصة والعامة من مهمات الدين والدنيا"، يحقق المكونات الثلاث التي مر ذكرها.
شروط رئيس الدولة:
بينما نجد شروط رئيس الدولة في الأنظمة المعاصرة التي تلتزم بالدساتير الوضعية لا تتجاوز أمورا أقرب ما تكون إلى الشكلية، فإننا نجد في المقابل في النظام الإسلامي-إلى جانب الشروط الشكلية-الشروط الموضوعية التي تصف بدقة الصورة التي ينبغي أن يكون عليها رئيس الدولة.
تدور شروط رئيس الدولة في الدساتير الوضعية على:
1-تحديد سن من يتبوأ هذا المنصب، وفي غالب الأحيان يكون أربعين سنة فما فوق
2-التمتع بجنسية البلد التي يكون رئيسا لها، هو وبعض آبائه
3-التمتع بممارسة الحقوق السياسية فلا يكون محروما من ممارستها.
فهذه هي مجمل الشروط في رئيس الدولة، وهي كما يتبين للناظر لا تكفل الاتيان بصالح لهذا المنصب حتى مع توفرها فيمن يتولاها.
وهناك بعض الشروط التي ربما ينص عليها في دستور ولا ينص عليها في الدستور الآخر، وهي مع ذلك غير كافية في اختيار صالح لهذا المنصب .
وعلى سبيل المثال ففي المادة رقم 75 في دستور دولة عربية: "يشترط فيمن ينتخب رئيسا للجمهورية أن يكون
1-(وطنيا)[5] من أبوين (وطنيين)
2- وأن يكون متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية
3-وألا تقل سنه عن أربعين سنة ميلادية"،
وفي المادة رقم 53 في دستور دولة ثانية: "يجب أن تتوفر في المرشح لمنصب رئيس الجمهورية الشروط التالية:
1-أن يكون (وطنيا) بالميلاد
2-أن يكون سليم العقل
3-ألا يقل عمره عن أربعين عاما
4-أن يكون ملما بالقراءة والكتابة
5-ألا يكون قد أدين في جريمة تتعلق بالأمانة أو الفساد الأخلاقي
وفي المادة رقم 30 من دستور دولة أخرى: "يشترط في المرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون:
1-(وطنيا)بالولادة ومن أبوين (وطنيين)
2-كامل الأهلية وأتم الأربعين سنة من عمره
3-ذا سمعة حسنة ومشهودا له بالنزاهة والاستقامة والعدالة والإخلاص للوطن"
وفي المقابل نجد أن الشروط المطلوبة من وجهة نظر الشريعة في رئيس الدولة تتجاوز هذه الأمور الشكلية إلى الشروط الموضوعية التي على أساسها يتبين مدى صلاحية رئيس الدولة الحقيقية لأن يكون في هذا المنصب الرفيع، والتي تؤهله حقية للقيام بوظيفته على نحو يسمح له بدرجة كبيرة جدا بتحقيق الأهداف والغايات المتوخاة من نصبه:
1- فأول هذه الشروط وأهمها أن يكون رئيس الدولة مسلما عند التولية وأثنائها، فلو طرأ عليه كفر أو ارتد-عياذا بالله من ذلك-انعزل ولم تعد له ولاية، والأدلة على وجوب كونه مسلما كثيرة مشهورة، ويكفي في ذلك أن نذكر الإجماع، قال ابن المنذر: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال"[6]، وقال القاضي عياض: "أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل"[7]، وهذا الشرط يكشف بوضوح وجلاء عن طبيعة هذه الدولة، ويبين أنها دولة الشريعة، حيث يبين وجهتها، وأن دور الشعب: حاكما ومحكوما، هو دور المتبع الذي لا يملك الخروج عما حدته له أحكام الشرع، وهذا الشرط مما ليس له وجود في بعض دساتير الدول العربية، ووجوده في البعض الآخر لا يتضمن الالتزام بشرائع الإسلام وإنما هو وجود اسمي.
2- العلم وهذا منظور إليه من ناحية العلم الشرعي، وذلك نابع من طبيعة الدولة في الإسلام وأنها دولة الشريعة، وقد اختلف أقوال أهل العلم في الحد الذي ينبغي أن يحصله الخليفة من العلم على قولين:1- أن يكون الإمام قد بلغ مرتبة الاجتهاد 2-لا يشترط بلوغ رتبة الاجتهاد، ولكن يكفي أن يحصل من العلوم ما يتمكن به من فهم المشكلات، ويقدر على الموازنة بين الآراء المختلفة المتعارضة ليتوصل إلى أقرب الآراء للصواب، وأيا ما كان الأمر فإن الخليفة لا يستغني عن مراجعة العلماء فيما يشكل من الأمور والنوازل.
والعناية بالعلم الشرعي لا يعني أن يكون الإمام عاريا من العلوم الأخرى، وإنما ينبغي أن يكون له بصر نافذ في الحادثات وقدرة على السياسة، وهذا الشرط مما ليس له وجود أو نظير في الدساتير العربية مما يسمح بأن يرقى لهذا المنصب العالي الجهلاء وأشباههم، فبعض الدساتير لم تشر لذلك البتة، والبعض الآخر اشترط أن يكون ملما بالقراءة والكتابة
3- العدالة: صفة تجعل المتحلي بها في مقام بحيث يكون مؤديا للفرائض مجتنبا لكبائر الذنوب، غير مجاهر ولا مصر على صغائرها، فهي تجمع العديد من الصفات الحسنة كالتقوى والأمانة والصدق، وتنفي الصفات السئية كالكذب والغش والخيانة، بل إنها تحمل صاحبها على بلوغ درجات عليا من العدالة ليست بواجبة كالحياء الذي يدفع صاحبه إلى هجر بعض المباحات، أو البعد عن الانهماك فيها، لما يدل الانغماس فيها على ضعف جانب الزهد في مباهج الحياة الدنيا، كما تحمله العدالة على مراعاة الآداب العامة وومراعاة العرف، ولا شك أن الفسق على الضد من العدالة، ومن ثم لا يجوز عقد الإمامة للفاسق ابتداء، فالإمام ينصب لحفظ الدين وسياسة الدنيا به وإقامة العدل بين الناس ودفع الظلم، وما به من فسق يقعده في غالب أمره عن القيام بذلك.
4- جودة الرأي التي تفضي إلى السياسة الحسنة للرعية، وتدبير المصالح في السلم والحرب على نحو يتمكن به من القدرة الكاملة على سرعة البت في الأمور الهامة التي تتعلق بها مصالح الرعية.
5- سلامة الحواس والأعضاء حيث تمكنه من سرعة الانتهاض في الملمات والتي يؤثر فقدانها على قيام الإمام بمهام ومتطلبات وظيفته، سواء بالعجز عن القيام بها أو الضعف في استيفائها، لأن مقصود الإمامة لا يتم مع فقد هذه الأشياء.
6- الشجاعة والجرأة التي تحمل الإمام على الإقدام على ما فيه تحصيل المصالح العامة للأمة بغير خوف ولا اضطراب أو تردد
7- الذكورة: فالإمام ينبغي أن يكون ذكرا حيث إن مهام الإمامة لا يقدر على القيام بها على وجهها إلا الرجال الأقوياء جسدا وعقلا وقلبا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"[8] وهي من المسائل التي انعقد الإجماع عليها، وهذا ليس فيه حط على المرأة أو إزراء بها كما يصور ذلك الذين لا يعقلون، فإن كل عمل من الأعمال يتطلب وجود صفات تناسبه، ومن المتفق عليه عند العقلاء أنه ليس من الحكمة تكليف المرء بما لا يناسبه أو يخالف طبيعته، وقد قضى الله تعالى أن يرسل إلى خلقه رسلا وأنبياء يبلغون الناس الرجال والنساء عنه ما أراده منهم، ومع ذلك فما أرسل إليهم إلا الرجال
8-9- البلوغ والعقل: وهذان شرطان لازمان في الولايات كلها وفي التكاليف جميعها، والعقل المطلوب ليس فقط العقل الذي تجب به التكاليف، "بل لا بد أن يكون على درجة عالية من الذكاء والفطنة تمكنه من التفكير في قضايا الأمة وإيجاد الحلول المناسبة لها"[9]، فهذا مجمل الصفات المطلوبة في الإمام، وأما الحديث عن شرط القرشية فذاك مطلوب في الخليفة أو الإمام، أما رؤساء الدول التي ليست بخلافة فلا يشترط فيها ذلك.
وقد أجمل الماوردي تلك الشروط فقال: "وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة:
أحدها: العدالة على شروطها الجامعة .
والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام .
والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها .
والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض .
والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح .
والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو .
والسابع: النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه"[10]
نصب رئيس الدولة:
في الأنظمة الجمهورية: تعتمد الأنظمة الجمهورية-ولو من الناحية النظرية- الترشيح من قبل طلاب هذا المنصب، والانتخاب من قبل الشعب، وسيلة الوصول إلى هذا المنصب، فهو مكون من شقين:
1- طالب أو مترشح يدعو الناس إلى اختياره.
2- المنتخبين-وهم من يمكن أن يطلق عليهم الشعب السياسي-الذين يمنحون اصواتهم لأحد المترشحين.
يفوز بهذا المنصب من يحصل على أغلبية أصوات الناخبين، والناخبون إما أن يختاروا رئيس الدولة مباشرة، وإما أن يختاروا طائفة من الناس، وهي التي تقوم بانتخاب الرئيس على اختلاف الأنظمة.
والغالب على الأنظمة العربية اختيار الطريقة الأولى والتي يقوم فيها المنتخبون بانتخاب الرئيس مباشرة بغير واسطة.
ويؤخذ على هذه الطريقة في شقها الأول أنها تعتمد على أن يطلب الإنسان من الآخرين اختياره لهذا المنصب، وهو في سبيل ذلك سوف يقدم لهم من الأسباب التي تدعوهم إلى اختياره دون غيره من المترشحين، مما يحمله في غالب شأنه على أن يشهد بالكذب لنفسه وبالكذب على غيره، فليس كل ما يذكره من مميزات لنفسه صحيحة، كما أنه ليس كل ما يذكره من سيئات الآخرين صحيحة، وعلى ذلك فهذه الطريق تشرع في ضمن ما تشرع الكذب والدجل ولو بطريق غير مباشر، ومثل هذا من طبيعة الدعاية التي لا بد منها لمن يرشح نفسه، إضافة إلى التكلفة المالية الضخمة التي يحتاج إليها المترشح لكي يدعو إلى نفسه مما يعيق الوصول الحقيقي لغير الأغنياء ومن ليس لديهم وفرة مالية لهذا المنصب ولو كانت لديهم الكفاءة الحقيقية لهذا المنصب، إضافة إلى الوعود التي يقطعها طالب المنصب على نفسه إذا أختير، وهي وعود يراعي فيها في المقام الأول جذب الناخبين والتأثير في قناعاتهم ومن ثم قرارهم، أكثر من تحري تحقيق المصالح العامة للدولة والرعية.
ولو قدر أن هناك ظروفا استثنائية قد تدعو إلى أن يرشح أحد الناس نفسه، لكن ليس من الصواب في شيء أن يؤسس نظام وطريق على أساس حالة استثنائية، ذلك أن الاستثناء خروج عن الأصل وابتعاد عنه، والاستثناء في غالب أمره حالة طارئة لا تلبث أن تزول، فكيف يبنى نظام وطريق يطبق في كل حالة اعتمادا على وضع استثنائي لا يلبث أن يزول.
ومع ذلك فهناك نصوص شرعية تبين فساد هذا الطريق وذلك من ثلاث جهات:
1- النصوص التي تنهى عن طلب الولاية، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أُعطيتها من غير مسألة، أُعنت عليها"[11]، وعن أبى ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « يا أبا ذر إنى أراك ضعيفا وإنى أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم»[12].
2- النصوص التي تبين أن طالبها لا يعان وإنما يترك لنفسه، وفيها حديث عبد الرحمن بن سمرة السابق
3- النصوص التي تبين أنه لا ينبغي أن تعطى لمن يطلبها، عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه"[13].
وغير ذلك من الأحاديث التي تبين خطورة التعرض لهذا المنصب، وأن السلامة في الابتعاد عنه بحيث لا يدخل فيه إلا مضطرا مدفوعا من الآخرين لقبول ذلك، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة"[14]، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء"[15].
وأما ما ورد من أدلة يمكن أن يستدل بها البعض على جواز الدعاء إلى النفس والتعرض لطلب الولاية، فهذه أدلة تكتنفها ظروف خاصة وأحوال استثنائية، وليست أحوالا عامة وما كان بتلك المثابة فلا يمكن أن يقام على أساسه نظام مطرد.
وأما من ناحية المنتخبين فإن الانظمة الانتخابية لا تشترط في المنتخب أية شروط تبين مدى قدرته على الاختيار السليم من حيث العلم أو المعرفة بواجبات الرئيس ومسئولياته التي تسمح له بمعرفة القادر على القيام بها من بين المترشحين، كما لا تشترط فيه أي قدر من الإيمان أو التقوى او العدالة التي تجعله يتقي الله تعالى فيمن يختار، كما لم تشترط فيه أي قدر من الفطنة التي تحميه من أن يكون نهبا للدعايات الكاذبة أو المغرضة.
وقد ورد في قوانين مباشرة الحقوق السياسية في الأنظمة الوضعية تحديد الناخبين الذين يحق لهم اختيار رئيس الدولة بما يلي:
1-أن يكون (وطنيا)
2-أن يكون قد بلغ سنا معينة في غالب الأمر 18 عاما.
3-أن لا يكون محروما من حق الاختيار
وهذه الشروط كما يتبين لا يمكن أن تنتج شخصا قادرا على الاختيار السليم، وخاصة في أمر عظيم مثل رئاسة الدولة.
في النظام الإسلامي:
نصب رئيس الدولة في النظام الإسلامي يعتمد على الصدق في أحقية من يختار لهذا المنصب، وعلى أن حق الاختيار مكفول لمن يملك القدرة على الاختيار الصحيح، ويعتمد النظام الإسلامي في تحقيق ذلك على أمرين:
أولا: لا يتقدم أحد من الصالحين لهذا المنصب ولا يطلبه لنفسه، ومن النصوص الدالة على ذلك قوله المتقدم صلى الله عليه وسلم: "لا تسأل الإمارة"، وقوله: "لا تأمرن على اثنين"، وهذا يقضي على المفاسد الناجمة عن شعور البعض بأحقيتهم لهذا المنصب على غيرهم بما في ذلك من عجب وغرور والشعور بالاستعلاء على الآخرين، كما يتخلص من الكذب والدجل والقدح في الآخرين المصاحب لعملية الدعاية، وكذلك عدم الاضطرار أو الحاجة إلى إعطاء وعود للشعوب بتحقيق بعض ما يبغونه مكافأة على انتخابهم إياه.
ثانيا: أن أهل الاختيار هم الذين يقومون باختيار من يصلح لهذا المنصب، أو باختيار أكثرهم صلاحا عند تعدد الصالحين للمنصب، ولا يصلح أن يختار من ليس أهلا للاختيار ولا أن يستبد فرد أو مجموعة من الناس بالاختيار-حتى وإن كانوا صالحين للاختيار-بدون الرجوع إلى أهل الاختيار الذين إليهم الحل والعقد في هذه الأمور ونحوها، ومن النصوص الدالة على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال مشيرا لخلافة أبي بكر: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" فقوله "يأبي الله" يستفاد منه الأمر القدري الذي قدره الله تعالى، وقوله "والمؤمنون" يستفاد منه مكانة المؤمنين في التولية من الناحية الشرعية، وإن إسناد منصب الرئاسة لمن يستحقها إنما هو للمؤمنين، كما يدل له قول عمر رضي الله تعالى عنه: "من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا"[16] وهذا يكفل الصدق في الاختيار، كما يكفل أن يكون المختار بارزا مشهورا بأقواله وأفعاله الحميدة.
شروط أهل الاختيار:
وقد أجمل الماوردي هذه الشروط بقوله: «فأما أهل الاختيار[17]؛ فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:
أحدها: العدالة الجامعة لشروطها.
والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف»([18]).
فالعدالة: تشمل الإسلام والعقل والبلوغ، واجتناب كبائر الذنوب، وعدم التظاهر بصغائرها.
والعلم: يشمل العلم بالأحكام المتعلقة بالسياسة الشرعية، ومعرفة الشروط المعتبرة التي ينبغي وجودها في المختار للخلافة، ومعرفة ما يؤثر فقده منها وما لا يؤثر، وكيفية التحقق من وجود هذه الشروط فيمن يختار للخلافة، مع قدرة على الفهم والاستباط وفهم الدليل.
والرأي والحكمة: يراد بهما معرفة المصالح والمفاسد، والطرق المؤدية لتحقيق المصالح أو درء المفاسد، والقدرة على الموازنة بين الأمور وترجيح الراجح منها، واختيار أصلح الصالحين للإمامة ممن هو أعرف بالسياسة وأقدر على تحقيق أعلى المصلحتين ودرء أفسد المفسدتين، مع مراعاة الظروف المحيطة بذلك من اعتبار الزمان والمكان والأحوال.
الشوكة:
وقد أضاف بعض أهل العلم لهذه الشروط ما رأوه كفيلا بتحقيق رؤية أهل الحل والعقد في أرض الواقع، بحيث لا يكون رأيهم مجرد توصيات أو توجيهات، بل تكون لهم القدرة على تحقيق وتنفيذ ما يرون في أرض الواقع، وهذا الشرط هو شرط الشوكة: وهي أن تكون لهم القوة والقدرة على فرض إرادتهم على المعارض، ويقول ابن تيمية عن أهل الشوكة هم "الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة"[19]، وقال في مكان آخر: "الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة"[20]، وهذه الشوكة هي التي عناها ابن خلدون بالعصبية، وهذا الشرط مستفاد من بيعة عمر لأبي بكر-رضي الله عنهما-، وتتابع المسلمين في السقيفة على بيعة أبي بكر بعدها، فمن بايعه فيها كانوا هم أهل الشوكة والقادرين على إنفاذ ما رأوه بحيث لا يستطيع أن يغالبهم في ذلك معارض لهم، فالعاقدون-أهل الحل والعقد-للرئيس ينبغي أن تكون لهم شوكة ظاهرة وقوة قاهرة؛ بحيث لو فرض حدوث خلاف لتمكنوا من إمضاء بيعتهم وتنفيذها[21]،
ويمكننا القول: إن هذه الشروط-باستثناء شرط العدالة-لا تتطلب كل واحدة منها في كل واحد من أهل الحل والعقد على انفراد، ولكن قد يكون من الأوفق أن نقول: ينبغي وجود هذه الشروط في أهل الحل والعقد من حيث المجموع وليس من حيث الانفراد، فيكون فيهم جماعة من العلماء، وجماعة من الخبراء أو السياسين أو أصحاب الراي والتدبير، وجماعة من أهل الشوكة المطاعين كرؤساء القبائل والوجهاء وقادة وحدات الجيش.
وهذه الشروط هي بالنسبة إلى أهل الحل والعقد أنفسهم، وهناك شرط آخر منظور إليه من قِبَل المسلمين؛ وهو أن يكونوا ممن يسرع الناس إلى موافقتهم وقبول اختيارهم لثقتهم في دينهم وعلمهم وعنايتهم بمصالح الناس، وهذا يؤدي بنا إلى التعرف على مكانة هؤلاء في مجتمع الناس، وذلك أن الناس لا تسرع إلى موافقة وقبول اختيار إلا من تعلمه وتراه بارزاً مشهوراً مشاركاً في مصالح الناس، وعلى ذلك فإن أهل الحل والعقد ليسوا مجرد أُناس عاكفين على العلم والمعرفة منقطعين عن الناس وعن واقع الحياة، فإن هؤلاء أكثرهم مجهول بالنسبة لعموم الناس، فالخامل ـ وإن كان عالماً الذي لا ذكر له ولا جهد في حركة المجتمع أنَّى ينتبه الناس له؟!
وأما العدد الذي تنعقد به بيعتهم؛ فليس لذلك حد معلوم؛ إذ لم يثبت بذلك نص، والمتيقن منه في ذلك أن حصول الإجماع ليس شرطاً في ذلك، كما أن الواحد والاثنين اللذين يعقدان مـن غــير مشـورة المســلمين لا يصلح ذلك منهما، وقد استعرض أبو المعالي الجويني الأقوال الواردة في ذلك، وخلص إلى القول: «فالوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة»([22])، وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنّة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بُويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم، بحيث يصير ملكاً بذلك ... فمن قال إنه يصير إماماً بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين أو العشرة يضر فقد غلط»([23]).
ووجود هذه الشروط فيمن يختار الرئيس ويعقد له كفيلة باختيار أفضل الموجودين كما هي كفيلة بإمضاء بيعتهم وإلزام المخالفين لها بها .
نسال الله تعالى من فضله أن يعين من أحب من عباده على القيام بهذه الفريضة
---------------------------------
[1] موسوعة علم السياسة د/ناظم عبد الواحد الجاسور ص 201
[2] الأحكام السلطانية للماوردي ص 7
[3] غياث الأمم في التياث الظلم للجويني ص73
[4] البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار 374/5
[5] وطنيا: نسبة إلى الوطن الموضوع له الدستور
[6] أحكام أهل الذمو لابن القيم 465/1 طبعة دار الكتب العلمية بلبنان
[7] شرح النووي على صحيح مسلم 229/12
[8] أخرجه البخاري رقم 4073
[9] الإمامة العظمى 240 د/عبد الله الدميجي
[10] الأحكام السلطانية ص8
[11] أخرجه البخاري رقم6227 ومسلم رقم 3120
[12] أخرجه مسلم رقم 3405
[13] أخرجه الخاري رقم 6616 ومسلم رقم 3402
[14] أخرجه البخاري رقم6615 ومسلم رقم
[15] أخرجه أحمد في المسند رقم 8273
[16] أخرجه البخاري رقم 6328، تغرة: حذرا
[17] هم الذين يختارون الخليفة.، وهم الذين يسمون في كتب السياسة الشرعية بأهل الحل والعقد
[18] - الأحكام السلطانية،(ص 8).
[19] منهاج السنة النبوية 1/364
[20] منهاج السنة النبوية 8/238
[21] انظر: غياث الأمم، (ص 55 ـ 56)، منهاج السنة، (1/ 526)،
[22] - غياث الأمم (ص 56).
[23] - منهاج السنة النبوية، (1/ 526 ـ 531).
تعليق