يستشهد المسيحيون على ألوهية المسيح ببعض الأمور الواردة فى سفر الرؤيا , يمكننا أن نلخصها و نلخص الرد عليها كالتالى :
1- جلوس المسيح على العرش
الرد : المسيحيون الذين سيغلبون سيجلسون هم أيضا على العرش , و الغرض من هذا الجلوس هو تشريف البشر المؤمنين و أولهم المسيح الإنسان يسوع .
2- مشاركة المسيح لبعض الألقاب التى تخص الله مثل " الألف و الياء " , " البداية و النهاية " .
الرد : نقل الألقاب ل "وكيل الله " أمر معروف فى التقليد اليهودى , و لا يدل على أن هذا الوكيل هو الله و لا أن له طبيعة إلهية , بل يدل فقط على سلطته التى أعطاها الله له و أنه يعبر عن مشيئة الله الكاملة , و نجد نظيرا لهذا فى الأدبيات اليهودية مثل الملاك " يهوئيل " الذى يحمل اسم الله و " الميتاترون " الذى يوصف بأنه " يهوه الصغير " فى سفر أخنوخ الثالث .
3- العبادة المقدمة للمسيح
الرد : هذه العبادة المقدمة للمسيح ليست هى العبادة الخاصة بالله التى تقصر عليه فقط .
و لمزيد من التفصيل حول هذه النقاط الثلاث أترككم مع كلام العالم جيمس ماك جراث من كتابه
"The Only True God: Early Christian Monotheism in its Jewish Context"
__________________________
ليس ثمة شك بخصوص أهمية العبادة كموضوع فى سفر الرؤيا . فقط عند الأخذ فى الإعتبار معدل تكرار الفعل " يعبد " ( proskunien ) و مشتقاته – دون أن نأخذ فى اعتبارنا حتى الآن أية مصطلحات أو أفعال أخرى ذات صلة – نجد أن الفعل من الناحية الإحصائية يتكرر بنسبة عالية عندما نقارن هذا مع كتابات العهد الجديد الأخرى . إنه موجود فى أحد الأشكال فى سفر الرؤيا 3 – 9 , 4 – 10 , 9 – 20 , 11 – 1 , 13 – 8 و 12 و 15 , 14 – 7 و 9 و 11 , 15 – 4 , 16 – 2 , 19 – 10 و 20 , 22 – 8 و 9 . يمكننا أن نقول أن ذيوع و تكرر هذا المصطلح يمكن أن يعطينا مؤشرا مبدئيا عن أهمية هذا الموضوع فى هذا الكتاب . كان لموضوع رفض الملاك للعبادة أهمية فى الآونة الأخيرة , و هو الأمر الذى يعتبر عادة بالغ الأهمية عندما يقارن بالعبادة التى تقدم للمسيح المقام الممجد . على الرغم من ذلك , و قبل أن نلقى النظر على هذا الموضوع بالأخص , من الأهمية بمكان أن نفهم موضوع العبادة إجمالا , و دوره فى سفر الرؤيا .
لقد رأينا بالفعل التأكيد على أهمية موضوع " العبادة " فى النقاشات الحديثة المتعلقة بالتوحيد القديم فى اليهودية و المسيحية . على الرغم من ذلك , و كما لاحظنا , فإن نوعية " العبادة " التى تقدم لشخص ما لها أيضا أهمية قصوى , لأن الكلمة اليونانية التى تعنى " عبادة " تشمل فى معناها العديد من الممارسات , بدءا من مجرد الإنحناء أمام شخص آخر ( هذا هو المعنى الأساسى لهذا الفعل ) , وصولا الى العبادة الدينية التى تشمل الليتورجية و الصلاة و الذبيحة . عند أغلب الفرق اليهودية , يمكن للمعنى الأول أن يقدم لأشخاص آخرين غير الله العلىّ ( كما رأينا فى الفصول السابقة ) , بينما يبدو أن المعنى الأخير مقصور حصريا على إلههم , و بكل تأكيد كان تقديم الذبيحة كعبادة هى العلامه أو نقطة التمييز عند أغلب اليهود و المسيحيين . و بالتالى من الأهمية بمكان أن نرى نوع العبادة المقدمة ليسوع ( و الأشخاص الآخرين ) فى سفر الرؤيا , و أيضا الألقاب و الأفعال التى تتعلق بكل من الأشخاص محل النظر و بمن يعبدونهم .
لاحظ العالم " هرتادو " فى أحد كتبه الحديثة التى تتناول أهمية العبادة فى المسيحية القديمة و بالأخص الكريستولوجيا الأقدم , لاحظ سعة المعانى التى يحملها هذا الفعل ( proskunien ) , ثم أورد بعد ذلك قائمة بكلمات أخرى تعبر عن فعل أو نوع من العبادة مقصور على الإله فقط . من بين هذه الكلمات , الإسم ( latreia ) = يخدم , و هو الإسم الذى لا يرد فى سفر الرؤيا , و أيضا الفعل Latreuein الذى يرد مرتين فقط , أحدهما فى سفر الرؤيا 7 – 15 حيث نجد أن اسم الجلالة ( الله ) إعرابيا فى موضع المفعول به , و الموضع الآخر هو 22 – 3 , و الذى على الرغم من أن هناك اشارة تسبقه على الفور تشير الى عرش الله و للخروف , إلا أن المقصود به يحدد بقوله أن خدامه يعبدونه أو يخدمونه , و السياق يدل على أنه لا يمكن أن يشير سوى الى الله .
الأفعال الأخرى التى يوردها العالم " هرتادو " و التى تقتصر فى دلالتها على العبادة الدينية و الذبائحية لا ترد مطلقا فى سفر الرؤيا . إن هذه الأفعال بالطبع نادرة نسبيا فى العهد الجديد , باستثناء رسالة العبرانيين التى تدور فكرتها بالكامل حول مواضيع و لغة و تصاوير العبادة الدينية . على الرغم من ذلك , لو كان سفر الرؤيا يريد أن يوصل مفهوما كريستولوجيا من خلال اضفاء لغة العبادة على يسوع , تلك اللغة المقصورة على الله , اذن يمكن للمرء أن يقول أن السفر قد فوَّت العديد من الفرص لتوضيح هذه الفكرة بشكل واضح و غير غامض . حتى الفعل ( proskunien ) ذى المعنى الواسع لا يأتى لفظ المسيح معه فى موضع المفعول به إعرابيا فى سفر الرؤيا . إننا لا نجد أى شىء أكثر من أن آخرين خرّوا أمامه ( 1 – 17 , 5 – 8 ) . و على الرغم من القول بكل وضوح أن هذه العبادة أو هذا التوقير ليس من المناسب أن يقدمها البشر للملائكة , إلا أن هذا النوع من العبادة أو الإنحناء يقال أنه من المناسب تقديمه للمسيحيين كما ورد فى سفر الرؤيا 3 – 9 . و بالتالى , بينما من الواضح أن اللغة و المصطلحات الدالة على العبادة تلعب دورا هاما فى هذا الكتاب , إلا أن أهميتها على وجة الدقة و معناها لا يتضح على الفور , و بالتالى يتطلب دراسة أكثر حرصا , و التى ستكون هى هدفنا فى باقى هذا الفصل .
دعونا نبدأ بالنظر الى من يُعبد و من لا يُعبد فى سفر الرؤيا , و ما مدى أهمية ذلك بالنسبة لمفهوم الكاتب عن العلاقة بين يسوع و الله من ناحية , و بين يسوع و الملائكة و الأشخاص الآخرين من ناحية أخرى . أولا , و قبل أى شىء , و الأكثر وضوحا , هى العبادة التى تقدم لله , و الذى يوصف غالبا بأنه ( الجالس على العرش ) . إن الله هو الذى يتلقى أغلب العبادة المذكورة فى سفر الرؤيا , و أغلب إن لم يكن كل العبادة التى يُتحدث عنها بشكل إيجابى . إن الإصحاح الرابع يؤشِّر ببداية رحلة يوحنا السمائية , و قد كان أول شىء رآه هو مشهد للعبادة السمائية . إن وصف عبادة الله فى السماء الذى ورد فى رؤيا 4 – 1 الى 11 , يأتى تاليا له وصف الخروف الذى هو أيضا مستحق للمديح و الشرف و المجد و القوة ( رؤيا 5 – 1 الى 14 ) . إن العبادة فى الإصحاح الخامس تشمل الخروف بطرق سنتناولها بالأسفل , و لكن يستمر الله هو المتلقى للعبادة , و ربما يظل هو نقطة التركيز الرئيسية . بعد ذلك بقليل , فى رؤيا 7 – 9 الى 17 تقدم العبادة مرة أخرى لله و الخروف . و ترنيمات المديح و الصلوات تقدم لله فى رؤيا 11 – 15 الى 19 . بينما تقدم ترنيمات الشكر لكل من الله و الخروف و للخلاص الذى جلباه للبشرية , إلا أن الشخص الذى يتلقى العبادة و الصلاة بوضوح و دون غموض هو الله " الجالس على العرش " . إننا نرى هذا الأمر مرة ثانية فى رؤيا 15 – 2 الى 4 , حيث الترنيمة التى يرنم بها هى ترنيمة موسى و ترنيمة الخروف , و لكنها موجهة الى " الرب الإله القادر " , و الذى هو أيضا من توجه له الصلوات الواردة فى رؤيا 16 – 5 الى 7 . فى الإصحاح التاسع عشر يضاف مديح آخر , و الله هو المتلقى له . فى كل هذه المواضع التى تذكر فيها العبادة , نجد أنه حتى اذا كان الخلاص الذى أنجز بواسطة الخروف هو السبب و العامل المحرك للعبادة محل النظر , و بالتالى يتناول مشهد العبادة الخروف أيضا , إلا أنه على الرغم من ذلك يظل الله دائما هو المتلقى الوحيد أو الأساسى للعبادة المقدمة . يضاف على ما سبق , أنه فى كل المواضع التى ذكرناها حتى الآن , نجد أن العبادة المقدمة عبارة عن تقديم التمجيد و المدح , و لا تتضمن عناصر دينية أو ذبائحية .
اذن , هل هناك أمثلة عن تصاوير دينية أو ذبائحية تستخدم فى العبادة المقدمة للمسيح ؟ هناك فقرتان لا بد من تناولهما . فى رؤيا 14 – 4 , هناك استعارة قوية مهمة , حيث يقال أن البقية الطاهرة من شعب اسرائيل تقدم " كباكورة " لله و الخروف . نجد هنا استخداما لإستعارة مهمة فى الإشارة الى الله و الخروف , مع ذكر الخروف بجوار الله على أنه يستقبل هذه التقدمة . على الرغم من ذلك , و لأن هذا استخدام مجازى , ينبغى ألا يبالغ فى تصوير أهميته . إن السياق لا يدل على أكثر من أن هذه المجموعة تمثل مقدمة مجموعة أكبر تكرَّس لله و للخروف .
نجد صورة دينية أخرى تشمل الله و الخروف فى سفر الرؤيا 20 – 6 . إن أولئك الذين يشتركون فى القيامة الأولى , يقال عنهم أنهم كهنة لله و للمسيح . بما أن " كهنة الله " تشير فى العادة لأولئك الذين يقدمون العبادة الدينية فى الهيكل , فمن المشروع أن نتساءل عن المعنى الذى تعنيه عبارة " كهنة المسيح " فى هذا السياق . هنا أيضا من غير المحتمل أن تكون المعانى الدينية الكاملة و الواجبات التقليدية للكهنوت هى المقصودة . فى سفر الرؤيا 21 – 22 و 23 , النموذج الخاص بالمؤلف يعبر عنه بأورشليم التى لن يُحتاج فيها الى هيكل , لأن الله و الخروف هما هيكلها و ضوءها . أيا ما تكون هذه الفترة الألفية تنذر به أو ترمز له , فإن أفضل شىء هو أن تفهم لغة الكهنوت هنا بمعنى أوسع , دون أن تشير الى نشاط دينى أو عبادة ذبائحية بالمعنى الحرفى . يتضح جدا أن المقصود فقط هو المعنى المجازى الواسع , عندما نأخذ فى اعتبارنا أن المشار اليهم بهذه الطريقة هم شهداء المسيحيين . و مع ذلك , يقال أنهم سوف يصيرون كهنة , و ليس يقال أنهم الآن كهنة . بعبارة أخرى , لو كان المؤلف يرغب فى أن يصور أن الخروف تقدم له عبادة ذبائحية , لكانت هذه الفرصة فرصة ممتازة , لأنه كان بوسعه أن يصور ميتات الشهداء عند هذه النقطة على أنها ذبائح نقدم لله و للخروف . إن المؤلف على الرغم من ذلك يختار ألا يفعل هذا . أيضا من المهم أن نشير الى أن النتيجة الوحيدة التى تذكر بوضوح و التى تترتب على كونهم كهنة هى أنهم سوف يَملِكون . ربما أن الفكرة القائلة بأن شعب الله مخصص ك " مملكة كهنة " تقدم لنا الخلفية للغة المستخدمة هنا . فى ضوء هذه الإعتبارات , فالفكرة هنا بكل بساطة هو أن هؤلاء الأشخاص مخصصون لخدمة الله و المسيح أثناء الحكم الألفى .
اذن لا نجد فى سفر الرؤيا أن العبادة الذبائحية التى تقدم لله فقط يشترك فيها أى شخص آخر . إن الأمر الذى فيه اشتراك هو العرش الإلهى و الألقاب الإلهية . اذا كان قد ورد فى أول الكتاب عبارة " الجالس على العرش " كوصف لله بالمقارنة بالخروف , فإننا نجد فى نهاية الكتاب أن العرش يوصف بأنه " عرش الله و الخروف " ( رؤيا 22 – 1 و 3 ) . هناك أيضا اشتراك واضح فى نفس الألقاب بين الله و المسيح _ خصيصا " الألف و الياء " ( 21 – 6 , 22 – 13 ) , و " الأول و الآخر " ( 21 – 6 , 22 – 13 ) . إن هذه المشاركة فى الألقاب تقع فى إطار " التقليد اليهودى عن الوكاله agency " , الذى ينقل الألقاب للمبعوث كوسيلة لإظهار سلطته فى الكلام و الفعل نيابة عن الشخص الذى أرسله . أى أننا لسنا بحاجة أن نتساءل عما تعنيه هذه الألقاب عندما تقال على المسيح , أكثر من أن نكون محتاجين للتساؤل عما يعنيه " اسم الله " عندما يحمله الملاك " يهوئيل " yahoel , أو ما الذى يعنيه وصف " يهوه الصغير " little Yehweh عندما يقال عن " الميتاترون " Metatron الوارد ذكره فى سفر أخنوخ الثالث . إن نقل الإسم أو اللقب يجعل هذا الشخص مميزا بأنه الوكيل الإلهى الذى يمثل مشيئة الله بشكل كامل . عندما نقرأ الأمر من موضعنا نحن فى التاريخ , ربما يجد البعض مشكلة فى هذه الأفكار , و فى الواقع , فإن هذا هو السبب الذى دفع الأحبار المتأخرين أن يأخذوا خطوات تحُدُّ من التأملات حول كائن إلهى رئيسى . و لكن من المهم ألا نقرأ نصوصا مثل سفر الرؤيا فى ضوء تعريفات عقيدة التوحيد التى لم تنشأ إلا لاحقا . إن هذا النقل للألقاب لوكيل الله ( بما فى ذلك الألقاب التى عادة تخص الله فقط ) سمة متكررة فى النصوص اليهودية و المسيحية التى تنتمى لهذه الفترة . و بالتالى ليس ثمة حاجة أن نقحم مصطلحات جديدة مثل " الهوية الإلهية " divine identity كما فعل العالم بوكهام Bauckham . إن التعبيرات و التصنيفات الموجودة بالفعل عن " الوكالة " agency تعمل بكفاءة مع هذه الظاهرة الملحوظة .
أحيانا يثار تساؤل عما اذا كان لقب " البداية و النهاية " عندما يقال على المسيح يشير الى دوره فى الخلق الأول أو فى الخلق الجديد . و لكن كما نجد فى النصوص الأخرى المقارنة التى تتحدث عن " الوكالة " , ليس المستهدف هو نفس المعنى و لا هو معنى مختلف يحمله الإسم أو اللقب الإلهى عندما يحمله " الوكيل " , بل المستهدف على وجه الدقة هو الحقيقة القائلة بأن هذه الأسماء أو الألقاب تؤشر بسهم يخرج من " الوكيل " باتجاه مصدر سلطته , أى الشخص الذى أرسله . إن الأمثلة التى نجدها فى سفر الرؤيا تماثل تماما انتقال الأدوار و الصفات بين المرسِل و المرسَل , بين الله و بين وكيله , تلك التى نجدها فى أماكن أخرى فى الأدب اليهودى . اذن هذه التعبيرات و التصاوير المستخدمة متسقة تماما داخل حدود ما يمكن أن نتوقعه فى سياق يهودى يستجيب لوصول مخلص الله الإسخاتولوجى . إن الحقيقة القائلة بأن نفس هذا التشارك فى العرش و السيادة يقال بوضوح أنه سوف يمتد ليشمل المسيحيين أيضا , ليس من دون أهمية .
على الرغم من أن يوحنا قد خرّ أمام يسوع الممجد فى رؤيا 1 – 17 , إلا أن أول موضع فِعلىّ يَرِدُ فيه الفعل proskuneo نجده فى رؤيا 3 – 9 أمام المسيحيين الذين سوف يعبدونهم أولئك الذين من " مجمع الشيطان " . عندما نأخذ هذا الأمر سويا مع النقاط التى أشرنا لها سابقا , يتضح أن التشارك فى العرش أو استقبال العبادة لم يكن أمرا قصره المؤلف على الله فقط , أو حتى قصره على الله و المسيح . و بالتالى من المستبعد أن يكون المؤلف قد استخدم موضوع " العبادة " فى سفر الرؤيا ليؤسس فكرة كريستولوجية غير ملحوظة . إن العبادة أو الإنحناء أمام شخص آخر علامة على الخضوع , تعبر عن الإعتراف بمكانة هذا الشخص على أنه مستحق للمجد . من المفترض أن المسيحيين الجارى الحديث عنهم كانت لهم صلات مع مجمع شعروا أنه يحتقرهم . هنا يصور المسيح الممجد على أنه يَعِدُ الكنيسة أن خصومهم سوف يُظهرون لهم الإحترام فى نهاية المطاف و يعترفون أنهم كانوا على صواب .
بعد أن تغلب على الموت و أظهر أنه مستحق أن يفتح السفر , يقال عن الخروف أنه وقف فى منتصف العرش , و أنه تلقى العبادة عن طريق الإنحناء و الترانيم ( رؤيا 5 – 6 الى 14 ) . إن أهم نقطة تهمنا فى هذه الفقرة هى ذكر الشيوخ ممسكين ليس فقط بالقيثارات بل و أيضا ممسكين بطاسات البخور " التى هى صلوات القديسين " . إن الصلوات – البخور التى تذكر ههنا , بينما هى من أدوات العبادة بكل وضوح و تستخدم فى محضر الخروف , إلا أنه لا يقال فى أى موضع أنها تقدم مباشرة للخروف . و بالتالى فمن الممكن أن المؤلف قد افترض أن هذه الصلوات تقدم لله شكرا على المسيح , أو أنها تقدم لله من خلال المسيح , تماما كما أن الشيوخ يبدو أنهم الوسطاء للصلوات يجلبونها و يقدمونها أمام الله و الخروف . إن الوصف الوارد فى رؤيا 8 – 3 و 4 عن ملاك يقدم هذه الصلوات – البخور أمام الله , دون أى ذكر للخروف , يؤكد المعنى الذى طرحناه لفهم هذا النص .
يُقترح عادة أن العبادة السمائية التى توصف فى سفر الرؤيا قد أُطِّرت على نسق شعائر العبادة التى مارستها المجتمعات المسيحية الأقدم . اذا كان هذا صحيحا , اذن فوصف صلوات القديسين بأنه بخور قد يشير الى قناعة بأن العبادة فى الكنائس المسيحية قد حلت محل –بشكل ما – العبادة فى هيكل أورشليم . من المفترض أن مؤلف سفر الرؤيا كان بوسعه أن يزعم نفس هذه الفكرة أيضا بالمقارنة مع العبادة فى المجامع , لأن بعض التراتيل الواردة فى سفر الرؤيا تظهر تشابها قويا مع التراتيل التى كانت تستخدم فى ليتورجية المجامع فى الأزمنة الأخيرة . على الرغم من هذا , ربما أن هذا يعود سببه بكل بساطة الى حقيقة معروفة و هى أن العبادة فى الكنائس المسيحية تدين لمثيلاتها فى الأنماط اليهودية , دون أن يكون المقصود من هذا أى أغراض جدلية .
إن انضمام وكيل الله المُعيَّن بجوار الله كمتلقى للحمد أمر جدير بالملاحظة , و لكن هذا ليس أمرا فريدا و ليس من دون سابقة . لقد جرى التنبؤ بمثل هذا التطور نوعا ما , و ربما كان رد فعل يُتوقع صدوره من الناس تجاه ظهور وكيل الله لينفذ الخلاص الإسخاتولوجى . حتى الآن , لم نلاحظ أن الكاتب قد نسب للخروف بشكل غير غامض أى فعل تعبدى كان مقصورا على الله فقط . لا يوجد فى أى تصرف من التصرفات التى درسناها أى شىء غير متوافق مع حدود التوحيد اليهودى القديم , كما تشهد بذلك المصادر التى بحوذتنا من هذه الفترة . و بالتالى فإن صورة المسيح التى يعرضها لنا سفر الرؤيا تمثل تطورا داخل سياق التوحيد اليهودى و ليس تطورا يبتعد عن الولاء اليهودى لإله واحد فقط .
علينا الآن أن نلتفت الى مثالين آخرين من العبادة وردا فى سفر الرؤيا : العبادة الغير شرعية للوحش و للملاك . هذان المثالان السلبيان عبارة عن شىء ذى طبيعة مغايرة المقصود منها حسبما يفترض إظهار أهمية تلك العبادة التى يعتبرها مؤلف سفر الرؤيا شرعية . دعونا نبدأ بالعبادة المقدمة للوحش , و التى يفترض أنها تصور الوضع الذى نشأ جرّاء تعرض المسيحيين لضغوط شديدة ليقدموا ذبيحة للإمبراطور و – أو الآلهة الوثنية ( انظر رؤيا 12 – 8 , 15 – 17 ) . إن هذه العبادة هى أحد الأسباب التى أدت لوقوع دينونة الله على الإمبراطورية و على البشر , كما يوصف فى جزء لاحق من سفر الرؤيا . بينما أن الطبيعة المبهمة لبعض الألغاز المصاحبة لهذه العبادة قد تجهض أية محاولة لتقديم تفسير مفصل , إلا أن الشىء الواضح دون أى غموض هو أن العبادة السمائية لله و للخروف توصف بشكل إيجابى بينما أن العبادة الأرضية للوحش تقع فى الجانب المظلم . إن هذه المقارنة متعمدة دون شك . الشىء الذى له أهمية خاصه , هو أن هذا الدليل يقترح بأن العبادة المقدمة للمسيح لم تؤطر تبعا لأطر غير يهودية . بل على العكس , ففى هذا العمل المتشرب بالصبغة اليهودية , نجد رفضا واضحا للعبادات اليونانية – الرومانية جنبا الى جنب مع تضمين يسوع فى العبادة السمائية ( و يفترض أن هذا بالتبعية يعكس تضمينه فى العبادات الأرضية التى تمارسها الكنائس المسيحية ) . إن هذا يؤكد ( إن كان ثمة شك ) أن عبادة الخروف لم تضف بجوار عبادة اله اسرائيل الواحد من أجل تشكيل نوع ما من بانثيون مسيحى Christian pantheon . بل إن الخروف يشترك فى عرش الله و ألقابه و صفاته الأخرى بطريقة تشبه ما نجده فى باقى الأدبيات اليهودية التى تستخدم " نموذج الوكالة " agency model فى نسبتها مثل هذه الأشياء لأشخاص آخرين بشكل مشابه .
إن تصوير " عبادة الوحش " على أنها تعتبر تجديفا يظهر أيضا الحساسية المفرطة فى اليهودية و المسيحية بخصوص وجود عبادة طائفية ( ذبائحية ) لشخص آخر . كانت الإضطهادات التى مارستها السلطات الرومانية على المسيحيين فى القرون التالية تركز بإنتظام على عبادة من هذا النوع , و هو الموقف الذى قاومه الشهداء . لم يكن لإله آخر أو لشخص آخر أن يتلقى هذه العبادة . لقد استمرت هذه الحساسية لزمن طويل بعد توقف العبادة الذبائحية التى تقدم لإلههم فى هيكل أورشليم . إن هذا يؤكد أكثر و أكثر على أن العلماء هرتادو و بوكهام و آخرون محقون فى اعتبارهم " العبادة " هى الخط الفاصل ( أو على الأقل أهم خط فاصل ) الذى يميز التوحيد اليهودى فى تلك الفترة . على الرغم من ذلك , يبدو أن " العبادة الذبائحية " بشكل خاص توحى بأن الأنواع الأخرى من " العبادة " لا تجدى نفعا فى تأسيس مفهوم كريستولوجى يشير الى ألوهية المسيح . بما أن موت المسيح كان ينظر اليه على أنه العبادة الذبائحية بامتياز التى قدمت لله , فإنه لا توجد وسيلة حقيقية يمكن أن ترسم المسيح على أنه الشخص الذى يقدم هذه العبادة الذبائحية و فى ذات الوقت ترسمه على أنه الشخص الذى يتلقى هذه العبادة . و بالتالى , بينما أن مفهوم " العبادة " مهم فى فهم عقيدة التوحيد فى تلك الفترة , إلا أنه من المستبعد أن يكشف لنا كيف تطورت الكريستولوجيا القديمة الى أن وصلت الى عقيدة التثليث المتأخرة . لا بد أن نؤكد أيضا على أن الحساسية اليهودية القديمة المتعلقة بأمر العبادة فى معناها الأوسع يتعلق بشكل كبير ب " من هو " الشخص الذى يُكرَّم بهذا الشكل . إن الإحترام و السجود أمام وكيل الله الذى ينهض بمهمة الخلاص يعتبر أمرا لائقا فى الغالب , و لكن إظهار نفس هذا الإحترام لملك وثنى لا يكرم الله أو لإله آخر غير الله الواحد الحقيقى كان أمرا غير مقبول و تجديف .
ماذا اذن عن العبادة التى قدمت للملاك و رفضها ؟ فى النصين 19 – 10 و 22 – 9 نجد أن الرائى يخرُّ أمام الملاك ليعبده . إن هذا الأمر الوارد فى سفر الرؤيا كان مثار اهتمام كبير عند العلماء فى الوقت المعاصر . يُظن كثيرا أن مزاوجة المؤلف بين هذا الموضوع سويا مع ما ذكره عن عبادة يسوع يشير الى مفهوم كريستولوجى , هو أن يسوع الآن يقع فى الجانب الإلهى على جانب الخط الذى يفصل بين الله و الخلق , و لهذا فإنه يتلقى العبادة التى كانت سلفا مقصورة على الله نفسه فقط . فى ضوء الأدلة التى قمنا باستقصائها , يبدو أن هذا التفسير به مبالغة . إن العبادة – السجود الذى قدم ليسوع ليس من دون نظير فى اليهودية , و من المستبعد أن يرى معظم اليهود هذا أمرا مرفوضا بحد ذاته . اذن ما الذى يعنيه رفض الملاك للعبادة ؟ اذا كان مثل هذا السجود أمام شخص آخر أمرا مقبولا فى الغالب و مسموحا به كما يدل سفر الرؤيا نفسه حينما قُدِّم هذا السجود للمسيحيين ( سفر الرؤيا 3 – 9 ) , اذن من المفترض أن المسألة لا تتعلق بالعبادة بحد ذاتها , بل تتعلق بشكل خاص بأهمية عبادة انسان لملاك .
قبل أن نمضى فى حديثنا , من المهم أن نتساءل عما اذا كانت هناك أية أهمية فى حقيقة " تكرار " رفض الملاك للعبادة . إنه ليس مجرد تأكيد عن طريق التكرار فيما يتعلق بهذا الأمر المتعلق بالعبادة , بل إن التكرار جزء من هيكل تكوينى و لغوى أكبر يناظِر بين فقرتين , هما سفر الرؤيا 17 – 1 الى 19 – 10 , و 21 – 9 الى 22 – 9 كما أوضح العالم Aune . و بالتالى فإن التكرار لهذا العنصر بالذات ليس سوى طريقة يلفت بها المؤلف الإنتباه للتناظر بين هاتين الفقرتين , و ليس غرضه أن يلفت الإنتباه الى رفض الملاك للعبادة بحد ذاته .
فى الأدبيات التى تنتمى لهذه الفترة , هناك عدد من المواضع تظهر فيها وجهة نظر تقول بأن الملائكة و الشخصيات السمائية الأخرى معادية للبشر . علينا هنا ألا نربط بين سفر الرؤيا و الكتابات المهمة المتأخرة عنه , مثل أدبيات الأحبار و كتاب " حياة آدم و حواء " . على الرغم من أن هذه الكتب تقدم بعض أكثر المواضع المتناظرة إثارة للإهتمام و المقارنة , إلا أنها تبعد جدا من الناحية الزمنية عن الوقت الذى كتب فيه سفر الرؤيا , و بالتالى لا تصلح أن يستشهد بها فى بحثنا المعرفى عن الخلفية التى كتب فى إطارها سفر الرؤيا . إلا أنه على الرغم من ذلك , فإن الفكرة عن نوع ما من معاداة الملائكة للبشر يُشهد لها بوضوح فى العهد الجديد ( فى سفر الرؤيا نفسه و خارجه ) و فى لفائف البحر الميت . و بالتالى فليس ثمة حاجة تدعونا لأن نعتمد على أو نستشهد بالكتب المتأخرة التى تعرض هذه الأفكار بشكل أكثر تطورا و التى من المفترض أنها تعرض تطورات أكثر فى نفس الخط مثل سفر الرؤيا .
فى الكتابات الغنوصية و الميستيكية التى أتت فى القرون اللاحقة , تظهر دائما عداوة القوى السمائية عندما يسعى المرء لأن يصعد فوقها . بالمقارنة , و كما أصاب العالم Aune فى اشارته , فإن الكوزمولوجيا cosmology التى تتحدث عن سماء متعددة الأقسام و التى تميز هذه التقاليد التى تحكى عن الصعود الى السماء ليست موجودة إطلاقا فى سفر الرؤيا . لا توجد أية إشارة الى وجود عدة سماوات , و لا لأى شىء يمكن أن يشير الى أن وجود عدة سماوات أمر مفترض فى الذهن . على الرغم من ذلك , و كما فى الأعمال الأدبية التى تفترض فى الذهن الكوزمولوجيا الأفلاطونية Ptolemaic cosmology فإن سفر الرؤيا لا ينظر للسماء باعتبارها مسكن الله و حلفائه فقط , بل و أيضا مسكن القوى السمائية المعادية . و لهذا فإن الشيطان هو الذى " سيطرح الى الأرض " فى نهاية المطاف بعد الحرب التى اشترك فيها فى السماء ( سفر الرؤيا 12 – 7 الى 13 ) . يبدو أن مؤلف سفر الرؤيا يعتنق نفس وجهة النظر الرؤوية التى تقول بأن الصراعات التى يخوضها شعب الله على الأرض تناظر الصراعات السمائية التى تحدث . لا يمكن التقليل من دور الملائكة فى سفر الرؤيا . إنها تقوم طوال السِفر بدور من يوقع قضاء الله على الأرض , و بدءا من الإصحاح الثانى عشر ( على الرغم من وجود اشارات فى المواضع 2 – 9 و 13 و 24 , 3 – 9 مع اشاراتها للشيطان ) يتضح بشكل متزايد أن صراع الكنيسة ليس فقط بين المسيحيين و السلطات الأرضية , بل إن هناك أيضا بعدا روحيا سمائيا أيضا . فى ضوء هذا السياق , فإن العلاقة بين البشر و الملائكة كانت مهمة . إننا نجد فى سفر الرؤيا الإستخدامات التالية لموضوع " العبادة " , و سوف يتضح على الفور كيف يمكن أن يكون هذا أمرا ذا صلة بالعلاقة بين الملائكة و البشر :
1- إن المسيحيين سيُعبَدون من خصومهم البشريين ( رؤيا 3 – 9 ) .
2- الله و الخروف سيعبدهم البشر و الملائكة ( الإصحاحات 4 و 5 ) .
3- البشر العصاه سيعبدون الوحش و-أو صورته ( رؤيا 13 – 8 و 15 )
4- البشر مثل يوحنا ينبغى عليهم ألا يعبدوا الملائكة لأنهم عبيد لله معهم ( 19 – 10 , 22 – 9 ) .
من المحتمل أن المعنى المقصود من رفض الملاك للعبادة لا علاقة له بتمييز المسيح عن الملائكة , و لا علاقة له بتأسيس مفهوم غير ملحوظ يتعلق بالتوحيد و الكريستولوجيا . بل إن هذا الرفض له علاقة بالفكرة التى يقول بها الملاك نفسه حسبما يحكى سفر الرؤيا : الفكرة التى تقول أن الملائكة عبيد لله سويا مع المسيحيين , و بالتالى على المسيحيين أن ينظروا لأنفسهم على أنهم على قدم المساواة معهم . فى سياق أحداث الإضطهاد التى كتب سفر الرؤيا أثنائها , بدا العالم كله ضد المسيحيين , و قد اعتقد المسيحيون أنهم مستهدفون من هجوم تشنه عليهم قوى سمائية حاقدة . فى إطار هذا السياق , فمن المفترض أن التأكيد على كرامة و تساوى البشر بين خلق الله كان له أثر تشجيعى عظيم . و بدلا من أن يضطر المسيحيون للعيش خاضعين لنزوات و هجمات القوى السمائية المعادية , شُجِّع المسيحيون على الإيمان بأن الله و المسيح هما الحاكمان على الخلق . إن هذا المفهوم تنطق به كتابات مسيحية قديمة أخرى أيضا , و على الأخص رسالة كولوسى . هنا فى سفر الرؤيا يجرى التأكيد على هذا المفهوم أكثر بأن البشر لا يعتبرون أقل من الملائكة . إن العبادة المقدمة للمسيح قد أكدت هذا المفهوم أيضا : إن الموجود فى السماء , و الجالس على العرش , ذلك العرش الذى سيشترك فيه المسيحيون الذين سيغلبون , و المتلقى للعبادة من كل الخلق ( البشر و الملائكة سويا ) هو إنسان , هو يسوع المسيح . ربما أن هذه أحد الأفكار المحورية التى أراد المؤلف أن يعرضها من خلال استخدامه المتعدد الأوجه لصور العبادة العديدة فى سفر الرؤيا . لقد كانت هذه الأفكار جديدة بكل تأكيد و متميزة جدا فى المسيحية . على الرغم من ذلك , فإن دعاويها المميزة قد قيلت بطريقة لم تفارق بأى شكل واضح أو مهم المفهوم اليهودى عن الولاء لله الواحد فقط .
فى الفصل القادم , سوف نقفز للأمام عددا من القرون من عصر كتابات العهد الجديد الى عصر أدبيات أحبار اليهود , كمحاولة منا أن نحدد متى بدء الخلاف حقا بين اليهود و المسيحيين حول عقيدة التوحيد . و لكن قبل أن نمضى , من الجدير بالملاحظة أنه حتى فى القرن الثانى الميلادى , عندما اعتبر يوستينوس الشهيد ( نأخذه كمثال مناسب ) بشكل واضح أن يسوع هو تجسد ل " اللوجوس " الشخصى ذى الوجود السابق , فإنه لم يجادل ضد اتهامات يهودية تقول بأنه ( و غيره ممن هم مثله ) قد أنكر أو ترك عقيدة التوحيد . لقد جادل فى حواره مع تريفون اليهودى عما اذا كان يسوع هو المسيا , و عما اذا كان المسيا سيكون شخصا ذى وجود سابق , و عما اذا كان اللوجوس ذو الوجود السابق سيصير انسانا و سيعانى , و لكن فكرة وجود مثل هذا اللوجوس لم تكن بحد ذاتها موضع جدل . و بالتالى يبدو أن الإتفاق بين اليهود و المسيحيين حول عقيدة التوحيد قد ظل فيما وراء فترة العهد الجديد . ما المدة التى دام فيها هذا الإتفاق ؟ هذا هو السؤال الذى سنتعرض له فى الفصل التالى .
___________________________________________
المصدر :
McGrath, James F. The Only True God: Early Christian Monotheism
in its Jewish Context. Urbana: University of Illinois Press, 2009.
p.71-80
1- جلوس المسيح على العرش
الرد : المسيحيون الذين سيغلبون سيجلسون هم أيضا على العرش , و الغرض من هذا الجلوس هو تشريف البشر المؤمنين و أولهم المسيح الإنسان يسوع .
2- مشاركة المسيح لبعض الألقاب التى تخص الله مثل " الألف و الياء " , " البداية و النهاية " .
الرد : نقل الألقاب ل "وكيل الله " أمر معروف فى التقليد اليهودى , و لا يدل على أن هذا الوكيل هو الله و لا أن له طبيعة إلهية , بل يدل فقط على سلطته التى أعطاها الله له و أنه يعبر عن مشيئة الله الكاملة , و نجد نظيرا لهذا فى الأدبيات اليهودية مثل الملاك " يهوئيل " الذى يحمل اسم الله و " الميتاترون " الذى يوصف بأنه " يهوه الصغير " فى سفر أخنوخ الثالث .
3- العبادة المقدمة للمسيح
الرد : هذه العبادة المقدمة للمسيح ليست هى العبادة الخاصة بالله التى تقصر عليه فقط .
و لمزيد من التفصيل حول هذه النقاط الثلاث أترككم مع كلام العالم جيمس ماك جراث من كتابه
"The Only True God: Early Christian Monotheism in its Jewish Context"
__________________________
ليس ثمة شك بخصوص أهمية العبادة كموضوع فى سفر الرؤيا . فقط عند الأخذ فى الإعتبار معدل تكرار الفعل " يعبد " ( proskunien ) و مشتقاته – دون أن نأخذ فى اعتبارنا حتى الآن أية مصطلحات أو أفعال أخرى ذات صلة – نجد أن الفعل من الناحية الإحصائية يتكرر بنسبة عالية عندما نقارن هذا مع كتابات العهد الجديد الأخرى . إنه موجود فى أحد الأشكال فى سفر الرؤيا 3 – 9 , 4 – 10 , 9 – 20 , 11 – 1 , 13 – 8 و 12 و 15 , 14 – 7 و 9 و 11 , 15 – 4 , 16 – 2 , 19 – 10 و 20 , 22 – 8 و 9 . يمكننا أن نقول أن ذيوع و تكرر هذا المصطلح يمكن أن يعطينا مؤشرا مبدئيا عن أهمية هذا الموضوع فى هذا الكتاب . كان لموضوع رفض الملاك للعبادة أهمية فى الآونة الأخيرة , و هو الأمر الذى يعتبر عادة بالغ الأهمية عندما يقارن بالعبادة التى تقدم للمسيح المقام الممجد . على الرغم من ذلك , و قبل أن نلقى النظر على هذا الموضوع بالأخص , من الأهمية بمكان أن نفهم موضوع العبادة إجمالا , و دوره فى سفر الرؤيا .
لقد رأينا بالفعل التأكيد على أهمية موضوع " العبادة " فى النقاشات الحديثة المتعلقة بالتوحيد القديم فى اليهودية و المسيحية . على الرغم من ذلك , و كما لاحظنا , فإن نوعية " العبادة " التى تقدم لشخص ما لها أيضا أهمية قصوى , لأن الكلمة اليونانية التى تعنى " عبادة " تشمل فى معناها العديد من الممارسات , بدءا من مجرد الإنحناء أمام شخص آخر ( هذا هو المعنى الأساسى لهذا الفعل ) , وصولا الى العبادة الدينية التى تشمل الليتورجية و الصلاة و الذبيحة . عند أغلب الفرق اليهودية , يمكن للمعنى الأول أن يقدم لأشخاص آخرين غير الله العلىّ ( كما رأينا فى الفصول السابقة ) , بينما يبدو أن المعنى الأخير مقصور حصريا على إلههم , و بكل تأكيد كان تقديم الذبيحة كعبادة هى العلامه أو نقطة التمييز عند أغلب اليهود و المسيحيين . و بالتالى من الأهمية بمكان أن نرى نوع العبادة المقدمة ليسوع ( و الأشخاص الآخرين ) فى سفر الرؤيا , و أيضا الألقاب و الأفعال التى تتعلق بكل من الأشخاص محل النظر و بمن يعبدونهم .
لاحظ العالم " هرتادو " فى أحد كتبه الحديثة التى تتناول أهمية العبادة فى المسيحية القديمة و بالأخص الكريستولوجيا الأقدم , لاحظ سعة المعانى التى يحملها هذا الفعل ( proskunien ) , ثم أورد بعد ذلك قائمة بكلمات أخرى تعبر عن فعل أو نوع من العبادة مقصور على الإله فقط . من بين هذه الكلمات , الإسم ( latreia ) = يخدم , و هو الإسم الذى لا يرد فى سفر الرؤيا , و أيضا الفعل Latreuein الذى يرد مرتين فقط , أحدهما فى سفر الرؤيا 7 – 15 حيث نجد أن اسم الجلالة ( الله ) إعرابيا فى موضع المفعول به , و الموضع الآخر هو 22 – 3 , و الذى على الرغم من أن هناك اشارة تسبقه على الفور تشير الى عرش الله و للخروف , إلا أن المقصود به يحدد بقوله أن خدامه يعبدونه أو يخدمونه , و السياق يدل على أنه لا يمكن أن يشير سوى الى الله .
الأفعال الأخرى التى يوردها العالم " هرتادو " و التى تقتصر فى دلالتها على العبادة الدينية و الذبائحية لا ترد مطلقا فى سفر الرؤيا . إن هذه الأفعال بالطبع نادرة نسبيا فى العهد الجديد , باستثناء رسالة العبرانيين التى تدور فكرتها بالكامل حول مواضيع و لغة و تصاوير العبادة الدينية . على الرغم من ذلك , لو كان سفر الرؤيا يريد أن يوصل مفهوما كريستولوجيا من خلال اضفاء لغة العبادة على يسوع , تلك اللغة المقصورة على الله , اذن يمكن للمرء أن يقول أن السفر قد فوَّت العديد من الفرص لتوضيح هذه الفكرة بشكل واضح و غير غامض . حتى الفعل ( proskunien ) ذى المعنى الواسع لا يأتى لفظ المسيح معه فى موضع المفعول به إعرابيا فى سفر الرؤيا . إننا لا نجد أى شىء أكثر من أن آخرين خرّوا أمامه ( 1 – 17 , 5 – 8 ) . و على الرغم من القول بكل وضوح أن هذه العبادة أو هذا التوقير ليس من المناسب أن يقدمها البشر للملائكة , إلا أن هذا النوع من العبادة أو الإنحناء يقال أنه من المناسب تقديمه للمسيحيين كما ورد فى سفر الرؤيا 3 – 9 . و بالتالى , بينما من الواضح أن اللغة و المصطلحات الدالة على العبادة تلعب دورا هاما فى هذا الكتاب , إلا أن أهميتها على وجة الدقة و معناها لا يتضح على الفور , و بالتالى يتطلب دراسة أكثر حرصا , و التى ستكون هى هدفنا فى باقى هذا الفصل .
دعونا نبدأ بالنظر الى من يُعبد و من لا يُعبد فى سفر الرؤيا , و ما مدى أهمية ذلك بالنسبة لمفهوم الكاتب عن العلاقة بين يسوع و الله من ناحية , و بين يسوع و الملائكة و الأشخاص الآخرين من ناحية أخرى . أولا , و قبل أى شىء , و الأكثر وضوحا , هى العبادة التى تقدم لله , و الذى يوصف غالبا بأنه ( الجالس على العرش ) . إن الله هو الذى يتلقى أغلب العبادة المذكورة فى سفر الرؤيا , و أغلب إن لم يكن كل العبادة التى يُتحدث عنها بشكل إيجابى . إن الإصحاح الرابع يؤشِّر ببداية رحلة يوحنا السمائية , و قد كان أول شىء رآه هو مشهد للعبادة السمائية . إن وصف عبادة الله فى السماء الذى ورد فى رؤيا 4 – 1 الى 11 , يأتى تاليا له وصف الخروف الذى هو أيضا مستحق للمديح و الشرف و المجد و القوة ( رؤيا 5 – 1 الى 14 ) . إن العبادة فى الإصحاح الخامس تشمل الخروف بطرق سنتناولها بالأسفل , و لكن يستمر الله هو المتلقى للعبادة , و ربما يظل هو نقطة التركيز الرئيسية . بعد ذلك بقليل , فى رؤيا 7 – 9 الى 17 تقدم العبادة مرة أخرى لله و الخروف . و ترنيمات المديح و الصلوات تقدم لله فى رؤيا 11 – 15 الى 19 . بينما تقدم ترنيمات الشكر لكل من الله و الخروف و للخلاص الذى جلباه للبشرية , إلا أن الشخص الذى يتلقى العبادة و الصلاة بوضوح و دون غموض هو الله " الجالس على العرش " . إننا نرى هذا الأمر مرة ثانية فى رؤيا 15 – 2 الى 4 , حيث الترنيمة التى يرنم بها هى ترنيمة موسى و ترنيمة الخروف , و لكنها موجهة الى " الرب الإله القادر " , و الذى هو أيضا من توجه له الصلوات الواردة فى رؤيا 16 – 5 الى 7 . فى الإصحاح التاسع عشر يضاف مديح آخر , و الله هو المتلقى له . فى كل هذه المواضع التى تذكر فيها العبادة , نجد أنه حتى اذا كان الخلاص الذى أنجز بواسطة الخروف هو السبب و العامل المحرك للعبادة محل النظر , و بالتالى يتناول مشهد العبادة الخروف أيضا , إلا أنه على الرغم من ذلك يظل الله دائما هو المتلقى الوحيد أو الأساسى للعبادة المقدمة . يضاف على ما سبق , أنه فى كل المواضع التى ذكرناها حتى الآن , نجد أن العبادة المقدمة عبارة عن تقديم التمجيد و المدح , و لا تتضمن عناصر دينية أو ذبائحية .
اذن , هل هناك أمثلة عن تصاوير دينية أو ذبائحية تستخدم فى العبادة المقدمة للمسيح ؟ هناك فقرتان لا بد من تناولهما . فى رؤيا 14 – 4 , هناك استعارة قوية مهمة , حيث يقال أن البقية الطاهرة من شعب اسرائيل تقدم " كباكورة " لله و الخروف . نجد هنا استخداما لإستعارة مهمة فى الإشارة الى الله و الخروف , مع ذكر الخروف بجوار الله على أنه يستقبل هذه التقدمة . على الرغم من ذلك , و لأن هذا استخدام مجازى , ينبغى ألا يبالغ فى تصوير أهميته . إن السياق لا يدل على أكثر من أن هذه المجموعة تمثل مقدمة مجموعة أكبر تكرَّس لله و للخروف .
نجد صورة دينية أخرى تشمل الله و الخروف فى سفر الرؤيا 20 – 6 . إن أولئك الذين يشتركون فى القيامة الأولى , يقال عنهم أنهم كهنة لله و للمسيح . بما أن " كهنة الله " تشير فى العادة لأولئك الذين يقدمون العبادة الدينية فى الهيكل , فمن المشروع أن نتساءل عن المعنى الذى تعنيه عبارة " كهنة المسيح " فى هذا السياق . هنا أيضا من غير المحتمل أن تكون المعانى الدينية الكاملة و الواجبات التقليدية للكهنوت هى المقصودة . فى سفر الرؤيا 21 – 22 و 23 , النموذج الخاص بالمؤلف يعبر عنه بأورشليم التى لن يُحتاج فيها الى هيكل , لأن الله و الخروف هما هيكلها و ضوءها . أيا ما تكون هذه الفترة الألفية تنذر به أو ترمز له , فإن أفضل شىء هو أن تفهم لغة الكهنوت هنا بمعنى أوسع , دون أن تشير الى نشاط دينى أو عبادة ذبائحية بالمعنى الحرفى . يتضح جدا أن المقصود فقط هو المعنى المجازى الواسع , عندما نأخذ فى اعتبارنا أن المشار اليهم بهذه الطريقة هم شهداء المسيحيين . و مع ذلك , يقال أنهم سوف يصيرون كهنة , و ليس يقال أنهم الآن كهنة . بعبارة أخرى , لو كان المؤلف يرغب فى أن يصور أن الخروف تقدم له عبادة ذبائحية , لكانت هذه الفرصة فرصة ممتازة , لأنه كان بوسعه أن يصور ميتات الشهداء عند هذه النقطة على أنها ذبائح نقدم لله و للخروف . إن المؤلف على الرغم من ذلك يختار ألا يفعل هذا . أيضا من المهم أن نشير الى أن النتيجة الوحيدة التى تذكر بوضوح و التى تترتب على كونهم كهنة هى أنهم سوف يَملِكون . ربما أن الفكرة القائلة بأن شعب الله مخصص ك " مملكة كهنة " تقدم لنا الخلفية للغة المستخدمة هنا . فى ضوء هذه الإعتبارات , فالفكرة هنا بكل بساطة هو أن هؤلاء الأشخاص مخصصون لخدمة الله و المسيح أثناء الحكم الألفى .
اذن لا نجد فى سفر الرؤيا أن العبادة الذبائحية التى تقدم لله فقط يشترك فيها أى شخص آخر . إن الأمر الذى فيه اشتراك هو العرش الإلهى و الألقاب الإلهية . اذا كان قد ورد فى أول الكتاب عبارة " الجالس على العرش " كوصف لله بالمقارنة بالخروف , فإننا نجد فى نهاية الكتاب أن العرش يوصف بأنه " عرش الله و الخروف " ( رؤيا 22 – 1 و 3 ) . هناك أيضا اشتراك واضح فى نفس الألقاب بين الله و المسيح _ خصيصا " الألف و الياء " ( 21 – 6 , 22 – 13 ) , و " الأول و الآخر " ( 21 – 6 , 22 – 13 ) . إن هذه المشاركة فى الألقاب تقع فى إطار " التقليد اليهودى عن الوكاله agency " , الذى ينقل الألقاب للمبعوث كوسيلة لإظهار سلطته فى الكلام و الفعل نيابة عن الشخص الذى أرسله . أى أننا لسنا بحاجة أن نتساءل عما تعنيه هذه الألقاب عندما تقال على المسيح , أكثر من أن نكون محتاجين للتساؤل عما يعنيه " اسم الله " عندما يحمله الملاك " يهوئيل " yahoel , أو ما الذى يعنيه وصف " يهوه الصغير " little Yehweh عندما يقال عن " الميتاترون " Metatron الوارد ذكره فى سفر أخنوخ الثالث . إن نقل الإسم أو اللقب يجعل هذا الشخص مميزا بأنه الوكيل الإلهى الذى يمثل مشيئة الله بشكل كامل . عندما نقرأ الأمر من موضعنا نحن فى التاريخ , ربما يجد البعض مشكلة فى هذه الأفكار , و فى الواقع , فإن هذا هو السبب الذى دفع الأحبار المتأخرين أن يأخذوا خطوات تحُدُّ من التأملات حول كائن إلهى رئيسى . و لكن من المهم ألا نقرأ نصوصا مثل سفر الرؤيا فى ضوء تعريفات عقيدة التوحيد التى لم تنشأ إلا لاحقا . إن هذا النقل للألقاب لوكيل الله ( بما فى ذلك الألقاب التى عادة تخص الله فقط ) سمة متكررة فى النصوص اليهودية و المسيحية التى تنتمى لهذه الفترة . و بالتالى ليس ثمة حاجة أن نقحم مصطلحات جديدة مثل " الهوية الإلهية " divine identity كما فعل العالم بوكهام Bauckham . إن التعبيرات و التصنيفات الموجودة بالفعل عن " الوكالة " agency تعمل بكفاءة مع هذه الظاهرة الملحوظة .
أحيانا يثار تساؤل عما اذا كان لقب " البداية و النهاية " عندما يقال على المسيح يشير الى دوره فى الخلق الأول أو فى الخلق الجديد . و لكن كما نجد فى النصوص الأخرى المقارنة التى تتحدث عن " الوكالة " , ليس المستهدف هو نفس المعنى و لا هو معنى مختلف يحمله الإسم أو اللقب الإلهى عندما يحمله " الوكيل " , بل المستهدف على وجه الدقة هو الحقيقة القائلة بأن هذه الأسماء أو الألقاب تؤشر بسهم يخرج من " الوكيل " باتجاه مصدر سلطته , أى الشخص الذى أرسله . إن الأمثلة التى نجدها فى سفر الرؤيا تماثل تماما انتقال الأدوار و الصفات بين المرسِل و المرسَل , بين الله و بين وكيله , تلك التى نجدها فى أماكن أخرى فى الأدب اليهودى . اذن هذه التعبيرات و التصاوير المستخدمة متسقة تماما داخل حدود ما يمكن أن نتوقعه فى سياق يهودى يستجيب لوصول مخلص الله الإسخاتولوجى . إن الحقيقة القائلة بأن نفس هذا التشارك فى العرش و السيادة يقال بوضوح أنه سوف يمتد ليشمل المسيحيين أيضا , ليس من دون أهمية .
على الرغم من أن يوحنا قد خرّ أمام يسوع الممجد فى رؤيا 1 – 17 , إلا أن أول موضع فِعلىّ يَرِدُ فيه الفعل proskuneo نجده فى رؤيا 3 – 9 أمام المسيحيين الذين سوف يعبدونهم أولئك الذين من " مجمع الشيطان " . عندما نأخذ هذا الأمر سويا مع النقاط التى أشرنا لها سابقا , يتضح أن التشارك فى العرش أو استقبال العبادة لم يكن أمرا قصره المؤلف على الله فقط , أو حتى قصره على الله و المسيح . و بالتالى من المستبعد أن يكون المؤلف قد استخدم موضوع " العبادة " فى سفر الرؤيا ليؤسس فكرة كريستولوجية غير ملحوظة . إن العبادة أو الإنحناء أمام شخص آخر علامة على الخضوع , تعبر عن الإعتراف بمكانة هذا الشخص على أنه مستحق للمجد . من المفترض أن المسيحيين الجارى الحديث عنهم كانت لهم صلات مع مجمع شعروا أنه يحتقرهم . هنا يصور المسيح الممجد على أنه يَعِدُ الكنيسة أن خصومهم سوف يُظهرون لهم الإحترام فى نهاية المطاف و يعترفون أنهم كانوا على صواب .
بعد أن تغلب على الموت و أظهر أنه مستحق أن يفتح السفر , يقال عن الخروف أنه وقف فى منتصف العرش , و أنه تلقى العبادة عن طريق الإنحناء و الترانيم ( رؤيا 5 – 6 الى 14 ) . إن أهم نقطة تهمنا فى هذه الفقرة هى ذكر الشيوخ ممسكين ليس فقط بالقيثارات بل و أيضا ممسكين بطاسات البخور " التى هى صلوات القديسين " . إن الصلوات – البخور التى تذكر ههنا , بينما هى من أدوات العبادة بكل وضوح و تستخدم فى محضر الخروف , إلا أنه لا يقال فى أى موضع أنها تقدم مباشرة للخروف . و بالتالى فمن الممكن أن المؤلف قد افترض أن هذه الصلوات تقدم لله شكرا على المسيح , أو أنها تقدم لله من خلال المسيح , تماما كما أن الشيوخ يبدو أنهم الوسطاء للصلوات يجلبونها و يقدمونها أمام الله و الخروف . إن الوصف الوارد فى رؤيا 8 – 3 و 4 عن ملاك يقدم هذه الصلوات – البخور أمام الله , دون أى ذكر للخروف , يؤكد المعنى الذى طرحناه لفهم هذا النص .
يُقترح عادة أن العبادة السمائية التى توصف فى سفر الرؤيا قد أُطِّرت على نسق شعائر العبادة التى مارستها المجتمعات المسيحية الأقدم . اذا كان هذا صحيحا , اذن فوصف صلوات القديسين بأنه بخور قد يشير الى قناعة بأن العبادة فى الكنائس المسيحية قد حلت محل –بشكل ما – العبادة فى هيكل أورشليم . من المفترض أن مؤلف سفر الرؤيا كان بوسعه أن يزعم نفس هذه الفكرة أيضا بالمقارنة مع العبادة فى المجامع , لأن بعض التراتيل الواردة فى سفر الرؤيا تظهر تشابها قويا مع التراتيل التى كانت تستخدم فى ليتورجية المجامع فى الأزمنة الأخيرة . على الرغم من هذا , ربما أن هذا يعود سببه بكل بساطة الى حقيقة معروفة و هى أن العبادة فى الكنائس المسيحية تدين لمثيلاتها فى الأنماط اليهودية , دون أن يكون المقصود من هذا أى أغراض جدلية .
إن انضمام وكيل الله المُعيَّن بجوار الله كمتلقى للحمد أمر جدير بالملاحظة , و لكن هذا ليس أمرا فريدا و ليس من دون سابقة . لقد جرى التنبؤ بمثل هذا التطور نوعا ما , و ربما كان رد فعل يُتوقع صدوره من الناس تجاه ظهور وكيل الله لينفذ الخلاص الإسخاتولوجى . حتى الآن , لم نلاحظ أن الكاتب قد نسب للخروف بشكل غير غامض أى فعل تعبدى كان مقصورا على الله فقط . لا يوجد فى أى تصرف من التصرفات التى درسناها أى شىء غير متوافق مع حدود التوحيد اليهودى القديم , كما تشهد بذلك المصادر التى بحوذتنا من هذه الفترة . و بالتالى فإن صورة المسيح التى يعرضها لنا سفر الرؤيا تمثل تطورا داخل سياق التوحيد اليهودى و ليس تطورا يبتعد عن الولاء اليهودى لإله واحد فقط .
علينا الآن أن نلتفت الى مثالين آخرين من العبادة وردا فى سفر الرؤيا : العبادة الغير شرعية للوحش و للملاك . هذان المثالان السلبيان عبارة عن شىء ذى طبيعة مغايرة المقصود منها حسبما يفترض إظهار أهمية تلك العبادة التى يعتبرها مؤلف سفر الرؤيا شرعية . دعونا نبدأ بالعبادة المقدمة للوحش , و التى يفترض أنها تصور الوضع الذى نشأ جرّاء تعرض المسيحيين لضغوط شديدة ليقدموا ذبيحة للإمبراطور و – أو الآلهة الوثنية ( انظر رؤيا 12 – 8 , 15 – 17 ) . إن هذه العبادة هى أحد الأسباب التى أدت لوقوع دينونة الله على الإمبراطورية و على البشر , كما يوصف فى جزء لاحق من سفر الرؤيا . بينما أن الطبيعة المبهمة لبعض الألغاز المصاحبة لهذه العبادة قد تجهض أية محاولة لتقديم تفسير مفصل , إلا أن الشىء الواضح دون أى غموض هو أن العبادة السمائية لله و للخروف توصف بشكل إيجابى بينما أن العبادة الأرضية للوحش تقع فى الجانب المظلم . إن هذه المقارنة متعمدة دون شك . الشىء الذى له أهمية خاصه , هو أن هذا الدليل يقترح بأن العبادة المقدمة للمسيح لم تؤطر تبعا لأطر غير يهودية . بل على العكس , ففى هذا العمل المتشرب بالصبغة اليهودية , نجد رفضا واضحا للعبادات اليونانية – الرومانية جنبا الى جنب مع تضمين يسوع فى العبادة السمائية ( و يفترض أن هذا بالتبعية يعكس تضمينه فى العبادات الأرضية التى تمارسها الكنائس المسيحية ) . إن هذا يؤكد ( إن كان ثمة شك ) أن عبادة الخروف لم تضف بجوار عبادة اله اسرائيل الواحد من أجل تشكيل نوع ما من بانثيون مسيحى Christian pantheon . بل إن الخروف يشترك فى عرش الله و ألقابه و صفاته الأخرى بطريقة تشبه ما نجده فى باقى الأدبيات اليهودية التى تستخدم " نموذج الوكالة " agency model فى نسبتها مثل هذه الأشياء لأشخاص آخرين بشكل مشابه .
إن تصوير " عبادة الوحش " على أنها تعتبر تجديفا يظهر أيضا الحساسية المفرطة فى اليهودية و المسيحية بخصوص وجود عبادة طائفية ( ذبائحية ) لشخص آخر . كانت الإضطهادات التى مارستها السلطات الرومانية على المسيحيين فى القرون التالية تركز بإنتظام على عبادة من هذا النوع , و هو الموقف الذى قاومه الشهداء . لم يكن لإله آخر أو لشخص آخر أن يتلقى هذه العبادة . لقد استمرت هذه الحساسية لزمن طويل بعد توقف العبادة الذبائحية التى تقدم لإلههم فى هيكل أورشليم . إن هذا يؤكد أكثر و أكثر على أن العلماء هرتادو و بوكهام و آخرون محقون فى اعتبارهم " العبادة " هى الخط الفاصل ( أو على الأقل أهم خط فاصل ) الذى يميز التوحيد اليهودى فى تلك الفترة . على الرغم من ذلك , يبدو أن " العبادة الذبائحية " بشكل خاص توحى بأن الأنواع الأخرى من " العبادة " لا تجدى نفعا فى تأسيس مفهوم كريستولوجى يشير الى ألوهية المسيح . بما أن موت المسيح كان ينظر اليه على أنه العبادة الذبائحية بامتياز التى قدمت لله , فإنه لا توجد وسيلة حقيقية يمكن أن ترسم المسيح على أنه الشخص الذى يقدم هذه العبادة الذبائحية و فى ذات الوقت ترسمه على أنه الشخص الذى يتلقى هذه العبادة . و بالتالى , بينما أن مفهوم " العبادة " مهم فى فهم عقيدة التوحيد فى تلك الفترة , إلا أنه من المستبعد أن يكشف لنا كيف تطورت الكريستولوجيا القديمة الى أن وصلت الى عقيدة التثليث المتأخرة . لا بد أن نؤكد أيضا على أن الحساسية اليهودية القديمة المتعلقة بأمر العبادة فى معناها الأوسع يتعلق بشكل كبير ب " من هو " الشخص الذى يُكرَّم بهذا الشكل . إن الإحترام و السجود أمام وكيل الله الذى ينهض بمهمة الخلاص يعتبر أمرا لائقا فى الغالب , و لكن إظهار نفس هذا الإحترام لملك وثنى لا يكرم الله أو لإله آخر غير الله الواحد الحقيقى كان أمرا غير مقبول و تجديف .
ماذا اذن عن العبادة التى قدمت للملاك و رفضها ؟ فى النصين 19 – 10 و 22 – 9 نجد أن الرائى يخرُّ أمام الملاك ليعبده . إن هذا الأمر الوارد فى سفر الرؤيا كان مثار اهتمام كبير عند العلماء فى الوقت المعاصر . يُظن كثيرا أن مزاوجة المؤلف بين هذا الموضوع سويا مع ما ذكره عن عبادة يسوع يشير الى مفهوم كريستولوجى , هو أن يسوع الآن يقع فى الجانب الإلهى على جانب الخط الذى يفصل بين الله و الخلق , و لهذا فإنه يتلقى العبادة التى كانت سلفا مقصورة على الله نفسه فقط . فى ضوء الأدلة التى قمنا باستقصائها , يبدو أن هذا التفسير به مبالغة . إن العبادة – السجود الذى قدم ليسوع ليس من دون نظير فى اليهودية , و من المستبعد أن يرى معظم اليهود هذا أمرا مرفوضا بحد ذاته . اذن ما الذى يعنيه رفض الملاك للعبادة ؟ اذا كان مثل هذا السجود أمام شخص آخر أمرا مقبولا فى الغالب و مسموحا به كما يدل سفر الرؤيا نفسه حينما قُدِّم هذا السجود للمسيحيين ( سفر الرؤيا 3 – 9 ) , اذن من المفترض أن المسألة لا تتعلق بالعبادة بحد ذاتها , بل تتعلق بشكل خاص بأهمية عبادة انسان لملاك .
قبل أن نمضى فى حديثنا , من المهم أن نتساءل عما اذا كانت هناك أية أهمية فى حقيقة " تكرار " رفض الملاك للعبادة . إنه ليس مجرد تأكيد عن طريق التكرار فيما يتعلق بهذا الأمر المتعلق بالعبادة , بل إن التكرار جزء من هيكل تكوينى و لغوى أكبر يناظِر بين فقرتين , هما سفر الرؤيا 17 – 1 الى 19 – 10 , و 21 – 9 الى 22 – 9 كما أوضح العالم Aune . و بالتالى فإن التكرار لهذا العنصر بالذات ليس سوى طريقة يلفت بها المؤلف الإنتباه للتناظر بين هاتين الفقرتين , و ليس غرضه أن يلفت الإنتباه الى رفض الملاك للعبادة بحد ذاته .
فى الأدبيات التى تنتمى لهذه الفترة , هناك عدد من المواضع تظهر فيها وجهة نظر تقول بأن الملائكة و الشخصيات السمائية الأخرى معادية للبشر . علينا هنا ألا نربط بين سفر الرؤيا و الكتابات المهمة المتأخرة عنه , مثل أدبيات الأحبار و كتاب " حياة آدم و حواء " . على الرغم من أن هذه الكتب تقدم بعض أكثر المواضع المتناظرة إثارة للإهتمام و المقارنة , إلا أنها تبعد جدا من الناحية الزمنية عن الوقت الذى كتب فيه سفر الرؤيا , و بالتالى لا تصلح أن يستشهد بها فى بحثنا المعرفى عن الخلفية التى كتب فى إطارها سفر الرؤيا . إلا أنه على الرغم من ذلك , فإن الفكرة عن نوع ما من معاداة الملائكة للبشر يُشهد لها بوضوح فى العهد الجديد ( فى سفر الرؤيا نفسه و خارجه ) و فى لفائف البحر الميت . و بالتالى فليس ثمة حاجة تدعونا لأن نعتمد على أو نستشهد بالكتب المتأخرة التى تعرض هذه الأفكار بشكل أكثر تطورا و التى من المفترض أنها تعرض تطورات أكثر فى نفس الخط مثل سفر الرؤيا .
فى الكتابات الغنوصية و الميستيكية التى أتت فى القرون اللاحقة , تظهر دائما عداوة القوى السمائية عندما يسعى المرء لأن يصعد فوقها . بالمقارنة , و كما أصاب العالم Aune فى اشارته , فإن الكوزمولوجيا cosmology التى تتحدث عن سماء متعددة الأقسام و التى تميز هذه التقاليد التى تحكى عن الصعود الى السماء ليست موجودة إطلاقا فى سفر الرؤيا . لا توجد أية إشارة الى وجود عدة سماوات , و لا لأى شىء يمكن أن يشير الى أن وجود عدة سماوات أمر مفترض فى الذهن . على الرغم من ذلك , و كما فى الأعمال الأدبية التى تفترض فى الذهن الكوزمولوجيا الأفلاطونية Ptolemaic cosmology فإن سفر الرؤيا لا ينظر للسماء باعتبارها مسكن الله و حلفائه فقط , بل و أيضا مسكن القوى السمائية المعادية . و لهذا فإن الشيطان هو الذى " سيطرح الى الأرض " فى نهاية المطاف بعد الحرب التى اشترك فيها فى السماء ( سفر الرؤيا 12 – 7 الى 13 ) . يبدو أن مؤلف سفر الرؤيا يعتنق نفس وجهة النظر الرؤوية التى تقول بأن الصراعات التى يخوضها شعب الله على الأرض تناظر الصراعات السمائية التى تحدث . لا يمكن التقليل من دور الملائكة فى سفر الرؤيا . إنها تقوم طوال السِفر بدور من يوقع قضاء الله على الأرض , و بدءا من الإصحاح الثانى عشر ( على الرغم من وجود اشارات فى المواضع 2 – 9 و 13 و 24 , 3 – 9 مع اشاراتها للشيطان ) يتضح بشكل متزايد أن صراع الكنيسة ليس فقط بين المسيحيين و السلطات الأرضية , بل إن هناك أيضا بعدا روحيا سمائيا أيضا . فى ضوء هذا السياق , فإن العلاقة بين البشر و الملائكة كانت مهمة . إننا نجد فى سفر الرؤيا الإستخدامات التالية لموضوع " العبادة " , و سوف يتضح على الفور كيف يمكن أن يكون هذا أمرا ذا صلة بالعلاقة بين الملائكة و البشر :
1- إن المسيحيين سيُعبَدون من خصومهم البشريين ( رؤيا 3 – 9 ) .
2- الله و الخروف سيعبدهم البشر و الملائكة ( الإصحاحات 4 و 5 ) .
3- البشر العصاه سيعبدون الوحش و-أو صورته ( رؤيا 13 – 8 و 15 )
4- البشر مثل يوحنا ينبغى عليهم ألا يعبدوا الملائكة لأنهم عبيد لله معهم ( 19 – 10 , 22 – 9 ) .
من المحتمل أن المعنى المقصود من رفض الملاك للعبادة لا علاقة له بتمييز المسيح عن الملائكة , و لا علاقة له بتأسيس مفهوم غير ملحوظ يتعلق بالتوحيد و الكريستولوجيا . بل إن هذا الرفض له علاقة بالفكرة التى يقول بها الملاك نفسه حسبما يحكى سفر الرؤيا : الفكرة التى تقول أن الملائكة عبيد لله سويا مع المسيحيين , و بالتالى على المسيحيين أن ينظروا لأنفسهم على أنهم على قدم المساواة معهم . فى سياق أحداث الإضطهاد التى كتب سفر الرؤيا أثنائها , بدا العالم كله ضد المسيحيين , و قد اعتقد المسيحيون أنهم مستهدفون من هجوم تشنه عليهم قوى سمائية حاقدة . فى إطار هذا السياق , فمن المفترض أن التأكيد على كرامة و تساوى البشر بين خلق الله كان له أثر تشجيعى عظيم . و بدلا من أن يضطر المسيحيون للعيش خاضعين لنزوات و هجمات القوى السمائية المعادية , شُجِّع المسيحيون على الإيمان بأن الله و المسيح هما الحاكمان على الخلق . إن هذا المفهوم تنطق به كتابات مسيحية قديمة أخرى أيضا , و على الأخص رسالة كولوسى . هنا فى سفر الرؤيا يجرى التأكيد على هذا المفهوم أكثر بأن البشر لا يعتبرون أقل من الملائكة . إن العبادة المقدمة للمسيح قد أكدت هذا المفهوم أيضا : إن الموجود فى السماء , و الجالس على العرش , ذلك العرش الذى سيشترك فيه المسيحيون الذين سيغلبون , و المتلقى للعبادة من كل الخلق ( البشر و الملائكة سويا ) هو إنسان , هو يسوع المسيح . ربما أن هذه أحد الأفكار المحورية التى أراد المؤلف أن يعرضها من خلال استخدامه المتعدد الأوجه لصور العبادة العديدة فى سفر الرؤيا . لقد كانت هذه الأفكار جديدة بكل تأكيد و متميزة جدا فى المسيحية . على الرغم من ذلك , فإن دعاويها المميزة قد قيلت بطريقة لم تفارق بأى شكل واضح أو مهم المفهوم اليهودى عن الولاء لله الواحد فقط .
فى الفصل القادم , سوف نقفز للأمام عددا من القرون من عصر كتابات العهد الجديد الى عصر أدبيات أحبار اليهود , كمحاولة منا أن نحدد متى بدء الخلاف حقا بين اليهود و المسيحيين حول عقيدة التوحيد . و لكن قبل أن نمضى , من الجدير بالملاحظة أنه حتى فى القرن الثانى الميلادى , عندما اعتبر يوستينوس الشهيد ( نأخذه كمثال مناسب ) بشكل واضح أن يسوع هو تجسد ل " اللوجوس " الشخصى ذى الوجود السابق , فإنه لم يجادل ضد اتهامات يهودية تقول بأنه ( و غيره ممن هم مثله ) قد أنكر أو ترك عقيدة التوحيد . لقد جادل فى حواره مع تريفون اليهودى عما اذا كان يسوع هو المسيا , و عما اذا كان المسيا سيكون شخصا ذى وجود سابق , و عما اذا كان اللوجوس ذو الوجود السابق سيصير انسانا و سيعانى , و لكن فكرة وجود مثل هذا اللوجوس لم تكن بحد ذاتها موضع جدل . و بالتالى يبدو أن الإتفاق بين اليهود و المسيحيين حول عقيدة التوحيد قد ظل فيما وراء فترة العهد الجديد . ما المدة التى دام فيها هذا الإتفاق ؟ هذا هو السؤال الذى سنتعرض له فى الفصل التالى .
___________________________________________
المصدر :
McGrath, James F. The Only True God: Early Christian Monotheism
in its Jewish Context. Urbana: University of Illinois Press, 2009.
p.71-80
تعليق