تفسير سورة "مريم " من كتاب في ظلال القرآن

تقليص

عن الكاتب

تقليص

ندى الصباح الحمد لله على نعمة الاسلام اكتشف المزيد حول ندى الصباح
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ندى الصباح
    2- عضو مشارك
    • 23 ينا, 2010
    • 222
    • بدون
    • الحمد لله على نعمة الاسلام

    تفسير سورة "مريم " من كتاب في ظلال القرآن

    تفسير سورة مريم من الظلال


    يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد؛ ونفي الولد والشريك؛ ويلم بقضية البعث القائمة على قضية التوحيد..
    هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة، كالشأن في السورة المكية غالباً.

    والقصص هو مادة هذه السورة. فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى. فقصة مريم ومولد عيسى. فطرف من قصة إبراهيم مع أبيه..
    ثم تعقبها إشارات إلى النبيين: إسحاق ويعقوب، وموسى وهرون، وإسماعيل، وإدريس. وآدم ونوح. ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة.
    ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث، ونفي الولد والشريك، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين.

    ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث.

    واستنكار للشرك ودعوى الولد؛ وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة..

    وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل.

    وللسورة، كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها، ويتمشى في موضوعاتها..

    إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية.. الانفعالات في النفس البشرية، وفي " نفس " الكون من حولها.
    فهذا الكون الذي نتصوره جماداً لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجو العام للسورة.

    حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكاراً:


    { أن دعوا للرحمـن ولداً وما ينبغي للرحمـن أن يتخذ ولدا }

    أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيسي فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة.
    وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى.

    والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } وهو يناجي ربه نجاء:
    { إذ نادى ربه نداء خفياً }.. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيراً. ويكثر فيها اسم { الرحمن }.
    ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود:

    { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمـن ودا }


    ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حناناً { وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً }. ومن نعمة الله على عيسى أن جعله براً بوالدته وديعاً لطيفاً:
    { وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً }..

    وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال. كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته..
    كذلك تحس أن للسورة إيقاعاً موسيقياً خاصاً. فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق: رضيا. سريا. حفيا. نجياً..
    فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشددة دالاً في الغالب. مدّاً. ضداً. إدّاً، هدّاً، أو زاياً: عزّا. أزّاً.

    وتنوع الإيقاع الموسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جلياً في هذه السورة.


    فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا:

    { ذكر رحمة ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفياً... الخ }.

    وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه:

    { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً.. الخ }

    إلى أن ينتهي القصص، ويجيء التعقيب، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم، وللفصل في قضية بنوته. فيختلف نظام الفواصل والقوافي.. تطول الفاصلة، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية. على النحو التالي: { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.
    ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.. الخ }.

    حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة:


    { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً. إذ قال لابيه: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً.. }


    حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام، تغير الإيقاع الموسيقي وجرس القافية:


    { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمـن مداً. حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً... الخ }

    وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال:

    { وقالوا: اتخذ الرحمـن ولداً. لقد جئتم شيئا إدا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.. الخ }
    وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو؛ ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة،
    وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى.

    ويسير السياق مع موضوعات السورة في أشواط ثلاثة:

    الشوط الأول يتضمن قصة زكريا ويحيى، وقصة مريم وعيسى. والتعقيب على هذه القصة بالفصل في قضية عيسى التي كثر فيها الجدل، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى.

    والشوط الثاني يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك أمة.

    ثم إشارات إلى قصص النبيين، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء. وينتهي بإعلان الربوبية الواحدة، التي تعبد بلا شريك:


    { رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً؟ }

    والشوط الثالث والأخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث، ويستعرض بعض مشاهد القيامة. ويعرض صورة من استنكار الكون كله لدعوى الشرك، وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون!

    { وكم أهلكنا قبلهم من قرن. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً }


    الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور، والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن، فتجيء نسقاً جديداً لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن.

    وبعدها تبدأ القصة الأولى. قصة زكريا ويحيى. والرحمة قوامها. والرحمة تظللها. ومن ثم يتقدمها ذكر الرحمة: { ذكر رحمة ربك عبده زكريا }..

    تبدأ القصة بمشهد الدعاء. دعاء زكريا لربه في ضراعة وفي خفية:

    { إذ نادى ربه نداء خفياً. قال: رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، ولم أكن بدعائك رب شقياً. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً، فهب لي من لدنك ولياً، يرثني ويرث من آل يعقوب، واجعله رب رضياً }..

    إنه يناجي ربه بعيداً عن عيون الناس، بعيداً عن أسماعهم. في عزلة يخلص فيها لربه، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال: { رب.. } بلا واسطة حتى ولا حرف النداء. وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث، ويحتاج إلى الشكوى. والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر، فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم.


    { وقال ربكـم ادعوني أستجب لكم }

    ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر؛ وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من يتوكل عليه.

    وزكريا يشكو إلى ربه وهن العظم. وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن. فالعظم هو أصلب ما فيه، وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه. ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا. والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد.

    ووهن العظم واشتعال الرأس شيباً كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه..

    ثم يعقب عليه بقوله: { ولم أكن بدعائك رب شقياً } معترفاً بأن الله قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه، فلم يشق مع دعائه لربه، وهو في فتوته وقوته. فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه.

    فإذا صور حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه، وعرض ما يطلبه.. إنه يخشى من بعده. يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه. وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها ـ وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين ـ وأهله الذين يرعاهم ـ ومنهم مريم التي كان قيماً عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه ـ وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه


    وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته.. قيل لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث..

    { وكانت امرأتي عاقراً }.. لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده لوراثته وخلافته.

    ذلك ما يخشاه. فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح، الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه وتراث النبوة من آبائه وأجداده:
    { فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب }.

    ولا ينسى زكريا، النبي الصالح، أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته: { واجعله رب رضيا } لا جباراً ولا غليظاً، ولا متبطراً ولا طموعاً.
    ولفظة { رضي } تلقي هذه الظلال. فالرضي الذي يرضى ويرضي. وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله.

    ذلك دعاء زكريا لربه في ضراعة وخفية. والألفاظ والمعاني والظلال والإيقاع الرخي. كلها تشارك في تصوير مشهد الدعاء.

    ثم ترتسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضى.. فالرب ينادي من الملأ الأعلى: { يا زكريا }.. ويعجل له البشرى: { إنا نبشرك بغلام } ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشره به: { اسمه يحيى }. وهو اسم فذ غير مسبوق: { لم نجعل له من قبل سمياً }..

    إنه فيض الكرم الإلهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة، وناجاه في خفية، وكشف له عما يخشى، وتوجه إليه فيما يرجو. والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث العقيدة وعلى تدبير المال والقيام على الأهل بما يرضي الله. وعلم الله ذلك من نيته فأغدق عليه وأرضاه.

    وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء. فإذا هو يواجه الواقع.. إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتياً، وهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه: فكيف يا ترى سيكون له غلام؟ إنه ليريد أن يطمئن، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام: { قال: رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً؟ }.

    إنه يواجه الواقع، ويواجه معه وعد الله. وإنه ليثق بالوعد، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه.
    وهي حالة نفسية طبيعية. في مثل موقف زكريا النبي الصالح. الإنسان! الذي لا يملك أن يغفل الواقع، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله!

    هنا يأتيه الجواب عن سؤاله: أن هذا هين على الله سهل. ويذكره بمثل قريب في نفسه: في خلقته هو وإيجاده بعد أن لم يكن. وهو مثل لكل حي، ولكل شيء في هذا الوجود:

    { قال: كذلك قال ربك: هو عليَّ هين. وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً }.

    وليس في الخلق هين وصعب على الله. ووسيلة الخلق للصغير والكبير، وللحقير والجليل واحدة: كن. فيكون.

    والله هو الذي جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل؛ وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل. وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء. وإن كان كل شيء هيناً على القدرة: إعادة أو إنشاء.

    ومع ذلك فإن لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلامة على تحقق البشرى فعلاً. فأعطاه الله آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الاستجابة.. ويؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غلاماً.. وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع الله ثلاث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه، ويحتبس إذا كلم الناس، وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ولا آفة.

    { قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً }..

    وكان ذلك:

    { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً }..

    ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه، وليشكروا الله معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده.

    ويترك السياق زكريا في صمته وتسبيحه، ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة الجديدة على يحيى؛ يناديه ربه من الملأ الأعلى:

    { يا يحيى خذ الكتاب بقوة.. }.

    لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبياً، في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين. على طريقة القرآن في عرضه الفني للقصص، ليبرز أهم الحلقات والمشاهد، وأشدها حيوية وحركة.

    وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة. لأن مشهد النداء مشهد رائع عظيم، يدل على مكانة يحيى، وعلى استجابة الله لزكريا، في أن يجعل له من ذريته ولياً، يحسن الخلافة بعده في العقيدة وفي العشيرة. فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى. { يا يحيى خذ الكتاب بقوة }.. والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى، وعليه كان يقوم انبياؤهم يعلمون به ويحكمون. وقد ورث يحيى أباه زكريا، ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة..

    وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى:

    { وآتيناه الحكم صبياً. وحناناً من لدنا وزكاة، وكان تقياً }..

    فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عندما ناداه..

    آتاه الحكمة صبياً. فكان فذاً في زاده، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده. فالحكمة تأتي متأخرة. ولكن يحيى قد زود بها صبياً.

    وآتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه؛ إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به.


    والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق.

    وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع؛ يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها.

    { وكان تقياً } موصولاً بالله، متحرجاً معه، مراقباً له، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه.

    ذلك هو الزاد الذي آتاه الله يحيى في صباه، ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا. فاستجاب له ربه ووهب له غلاماً زكياً..

    وهنا يسدل الستار على يحيى كما أسدل من قبل على زكريا. وقد رسم الخط الرئيسي في حياته، وفي منهجه، وفي اتجاهه.
    وبرزت العبرة من القصة في دعاء زكريا واستجابة ربه له، وفي نداء يحيى وما زوده الله به. ولم يعد في تفصيلات القصة بعد ذلك ما يزيد شيئاً في عبرتها ومغزاها..

    والآن فإلى قصة أعجب من قصة ميلاد يحيى.. إنها قصة ميلاد عيسى. وقد تدرج السياق من القصة الأولى ووجه العجب فيها هو ولادة العاقر من بعلها الشيخ، إلى الثانية ووجه العجب فيها هو ولادة العذراء من غير بعل! وهي أعجب وأغرب.


    وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلاً وإنشائه على هذه الصورة، فإن حادث ولادة عيسى ابن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله،
    ويكون حادثاً فذاً لا نظير له من قبله ولا من بعده.

    والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها! لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب وأم، وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث؛ فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب، على غير السنة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر؛ ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها الأجيال، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان!

    لقد جرت بسنة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث.. جرت هذه السنة أحقاباً طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول. حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها. ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلماً بارزاً على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس { ولنجعله آية للناس }.



    ونظراً لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ صفات ألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، ـ وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد ـ تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد.


    والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير.

    والسياق يخرج القصة في مشاهد مثيرة، حافلة بالعواطف والانفعالات، التي تهز من يقرؤها هزاً كأنما هو يشهدها:

    { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجاباً. فأرسلنا إليها روحنا، فتمثل لها بشراً سوياً. قالت: إني أعوذ بالرحمـن منك إن كنت تقياً. قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً؟ قال: كذلكِ قال ربكِ هو عليَّ هين، ولنجعله آية للناس ورحمة منا.. وكان أمراً مقضياً }..

    فهذا المشهد الأول ـ فتاة عذراء. قديسة، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد. لا يعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد الإسرائيلي المتطهرين ـ ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح من قديم.

    ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والاحتجاب عن أنظارهم.. ولا يحدد السياق هذا الشأن، ربما لأنه شأن خاص جداً من خصوصيات الفتاة..

    وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها. ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة.. إنه رجل مكتمل سوي: { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً }.. وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي: { قالت: إني أعوذ بالرحمـن منك إن كنت تقياً } فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان..

    وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة، التي نشأت في وسط صالح، وكفلها زكريا، بعد أن نذرت لله جنينا.. وهذه هي الهزة الأولى.

    { قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا }.. وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل. وهذا الرجل السوي ـ الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها ـ فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها ـ يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاماً، وهما في خلوة ـ وهذه هي الهزة الثانية.


    ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في صراحة: كيف؟

    { قالت: أنى يكون لي غلام، ولم يمسسني بشر، ولم أك بغياً؟ }.. هكذا في صراحة. وبالألفاظ المكشوفة. فهي والرجل في خلوة. والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفاً. فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاماً؟ وما يخفف من روع الموقف ان يقول لها: { إنما أنا رسول ربك } ولا أنه مرسل ليهب لها غلاماً طاهراً غير مدنس المولد، ولا مدنس السيرة، ليطمئن بالها. لا. فالحياء هنا لا يجدي، والصراحة أولى.. كيف؟ وهي عذراء لم يمسسها بشر، وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام!

    ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاماً إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر ولأنثى. وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري.

    { قال: كذلك قال ربك: هو عليَّ هين. ولنجعله آية للناس، ورحمة منا }..

    فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين، سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره. والروح يخبرها بأن ربها يخبّرها بأن هذا هين عليه. وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته. ورحمة لبني إسرائيل أولاً وللبشرية جميعاً، بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه.

    بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء.. ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار، فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة. ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله. أن هذا قد انتهى أمره، وتحقق وقوعه: { وكان أمراً مقضياً } كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئاً.

    ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها؛ فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولاً: { فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة؛ قالت: يا ليتني مت قبل هـذا وكنت نسياً منسياً }..

    وهذه هي الهزة الثالثة..

    إن السياق لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته. هل كان حملاً عادياً كما تحمل النساء وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز. فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية.. كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصاراً؛ ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة.

    ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين. فلا نجري طويلاً وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها.. فلنشهد مريم تنتبذ مكاناً قصياً عن أهلها، في موقف أشد هولاً من موقفها الذي أسلفنا. فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي { أجاءها } إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطراراً إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء.. فإذا هي قالت: { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً } فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت { نسياً }: تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى!

    وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى:

    { فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً. وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكلي واشربي وقري عيناً، فإما ترين من البشر أحداً فقولي: إني نذرت للرحمـن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا }..

    يا لله! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها. ويدلها على حجتها وبرهانها!

    لا تحزني.. { قد جعل ربك تحتك سرياً } فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولاً سارياً ـ الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل ـ وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطباً. فهذا طعام وذاك شراب. والطعام الحلو مناسب للنفساء. والرطب والتمر من أجود طعام النفساء. { فكلي واشربي } هنيئاً. { وقري عيناً } واطمئني قلباً. فأما إذا واجهت أحداً فأعلنيه بطريقة غير الكلام، أنك نذرت للرحمن صوماً عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة. ولا تجيبي أحداً عن سؤال..

    ونحسبها قد دهشت طويلاً، وبهتت طويلاً، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطباً جنياً.. ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها. وإلى أن حجتها معها.. هذا الطفل الذي ينطلق في المهد.. فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها..

    { فأتت به قومها تحمله..! }.. فلنشهد هذا المشهد المثير:

    إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم ـ ويبدو أنهم أهل بيتها الأقربون في نطاق ضيق محدود ـ وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة.. يرونها تحمل طفلاً!

    { قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا. يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغياً! }

    إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب: { يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً } فظيعاً مستنكراً.

    ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير: { يا أخت هارون } النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل. فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه! { ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغياً } حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا!

    وتنفذ مريم وصية الطفل العجيب التي لقنها إياها:

    { فأشارت إليه }.. فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء تواجههم بطفل؛ ثم تتبجح فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها!

    { قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ }.

    ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى:

    { قال: إني عبد الله، آتاني الكتاب، وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أين ما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً }.

    وهكذا يعلن عيسى ـ عليه السلام ـ عبوديته لله. فليس هو ابنه كما تدعي فرقة. وليس هو إلهاً كما تدعي فرقة. وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة. ويعلن أن الله جعله نبياً، لا ولداً ولا شريكاً. وبارك فيه، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته. والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته. فله إذن حياة محدودة ذات أمد. وهو يموت ويبعث. وقد قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً..

    والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه. وهو لا يحتمل تأويلاً في هذه الحقيقة ولا جدالاً.

    ولا يزيد السياق القرآني شيئاً على هذا المشهد. لا يقول: كيف استقبل القوم هذه الخارقة. ولا ماذا كان بعدها من أمر مريم وابنها العجيب. ولا متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو يقول:

    { آتاني الكتاب وجعلني نبياً }.. ذلك أن حادث ميلاد عيسى هو المقصود في هذا الموضع. فحين يصل به السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في أنسب موضع من السياق، بلهجة التقرير، وإيقاع التقرير:

    { ذلك عيسى ابن مريم. قول الحق الذي فيه يمترون. ما كان لله أن يتخذ من ولد. سبحانه. إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون. وإن الله ربي وربكم فاعبدوه. هـذا صراط مستقيم }..

    ذلك عيسى ابن مريم، لا ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لأمه في مولده.. ذلك هو في حقيقته وذلك واقع نشأته. ذلك هو يقول قول الحق الذي فيه يمترون ويشكون. يقولها لسانه ويقولها الحال في قصته: { ما كان لله أن يتخذ من ولد } تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولداً.

    والولد إنما يتخذه الفانون للامتداد، ويتخذه الضعاف للنصرة. والله باق لا يخشى فناء، قادر لا يحتاج معيناً. والكائنات كلها توجد بكلمة كن. وإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.. فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين.. وينتهي ما يقوله عيسى ـ عليه السلام ـ ويقوله حاله بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد بلا شريك: { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم }.. فلا يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للأوهام والأساطير.. وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير.

    وبعد هذا التقرير يعرض اختلاف الفرق والأحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الاختلاف مستنكراً نابياً في ظل هذه الحقيقة الناصعة:

    { فاختلف الأحزاب من بينهم }..

    ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعاً من الأساقفة ـ وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة ـ بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفاً فاختلفوا في عيسى اختلافاً شديداً، وقالت كل فرقة فيه قولاً.. قال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء. وقال بعضهم: هو ابن الله، وقال بعضهم: هو أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والروح القدس. وقال بعضهم: هو ثالث ثلاثة: الله إله وهو إله وأمه إله. وقال بعضهم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته. وقالت فرق أخرى أقوالاً أخرى. ولم يجتمع على مقالة واحدة اكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول. فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين.

    ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله، ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين:

    { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم. أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا، لـكن الظالمون اليوم في ضلال مبين. وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون }.

    ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم. بهذا التنكير للتفخيم والتهويل. المشهد الذي يشهده الثقلان: الإنس والجن، وتشهده الملائكة، في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار.

    ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا. وهم في ذلك المشهد أسمع الناس وأبصر الناس:

    { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا، لـكن الظالمون اليوم في ضلال مبين }..

    فما أعجب حالهم!.. لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم!

    { وأنذرهم يوم الحسرة }.. يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، فهي الغالبة على جوه، البارزة فيه. أنذرهم هذا اليوم الذي لا تنفع فيه الحسرات: { إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم، موصول بالغفلة التي هم فيها سادرون.

    أنذرهم ذلك اليوم الذي لا شك فيه؛ فكل ما على الأرض ومن على الأرض عائد إلى الله، عودة الميراث كله إلى الوارث الوحيد!:

    { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون }..
  • ندى الصباح
    2- عضو مشارك
    • 23 ينا, 2010
    • 222
    • بدون
    • الحمد لله على نعمة الاسلام

    #2

    تلاوه مترجمه بالفرنسيه

    تعليق

    مواضيع ذات صلة

    تقليص

    المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
    ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 9 أغس, 2023, 11:28 م
    ردود 0
    69 مشاهدات
    0 ردود الفعل
    آخر مشاركة د.أمير عبدالله
    ابتدأ بواسطة عادل خراط, 17 أكت, 2022, 01:16 م
    ردود 112
    230 مشاهدات
    0 ردود الفعل
    آخر مشاركة عادل خراط
    بواسطة عادل خراط
    ابتدأ بواسطة اسلام الكبابى, 30 يون, 2022, 04:29 م
    ردود 3
    48 مشاهدات
    0 ردود الفعل
    آخر مشاركة عاشق طيبة
    بواسطة عاشق طيبة
    ابتدأ بواسطة عادل خراط, 28 أكت, 2021, 02:21 م
    ردود 0
    146 مشاهدات
    0 ردود الفعل
    آخر مشاركة عادل خراط
    بواسطة عادل خراط
    ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 01:31 م
    ردود 3
    104 مشاهدات
    0 ردود الفعل
    آخر مشاركة عادل خراط
    بواسطة عادل خراط
    يعمل...