الإســلام والديمقراطية
د. عبد الستار قاسم
الإسلام والديمقراطية صنوان.. هذا رأي بعض المفكرين المسلمين. بينما يرى المفكرون العلمانيون أن الإسلام والديمقراطية ضدان لا يلتقيان. ويحظى الفريق العلماني بتأييد شريحة من الإسلاميين المتشددين الذين يرون الديمقراطية كفرًا؛ لأنها تجعل الحاكمية للشعب، في حين ينبغي أن تكون هذه الحاكمية لله.
وبعض الإسلاميين يرى أن الإسلام له تصوره الخاص للحريات. وأن هذا التصور أرقى من التصور الديمقراطي، بحيث يصير من قبيل ظلم الشريعة وإحباط تميزها أن نقول بأن الإسلام ديمقراطي.
وشريحة رابعة من الإسلاميين ترى أن الإسلام وسّع نطاق الحقوق والحريات، لكنه جعل الحرية مسؤولة ومرتبطة بحدود الله وشرعته. وفصيل خامس من الإسلاميين قال: إنه لا قيد ألبتة في الإسلام على الحريات؛ لأن كل إنسان مطالب بعرض حججه، وتقديم بيناته وعلى كل مكلف أن يختار، حيث لا إجبار على عقيدة في الإسلام.
كما ترى أخي القارئ الكريم، التصور السياسي الإسلامي يتضمن اجتهادات إسلامية خمســـة فيما يتعلق بالديمقراطية وأطر الحريات. في هذه الورقة يقدم الكاتب الدكتور عبد الستار قاسم اجتهادًا يراه البعض ثورة في رؤية الإسلاميين للإسلام في علاقته بالديمقراطية. ما هو هذا الاجتهاد؟ وهل أصاب فيه الكاتب أم اخطأ؟ طالع معنا محاور هذه الرؤية:
==================
التصور الإسلامي بين الفردية والجماعية
قرأت في مواطن كثيرة أن من مهام المشروع الإسلامي تعزيز الديمقراطية. وبما أنني من طلاب الفكر السياسي وممن لديهم معرفة متواضعة بالفكر الإسلامي وجدت أن الجملة قد خرجت فلسفيًا عن السياق الإسلامي. وربما تم استحضارها تمشيًا مع موجة ترسيخ أو البحث عن الديمقراطية المشتعلة في العالم الآن. وفي هذا ما يدفعني إلى الكتابة حول الموضوع، محاولاً توضيح بعض الافتراضات الفلسفية الأساسية وما ينبثق عنها من مفاهيم واشتقاقات ذات انعكاس على أرض الواقع.
فالفكرة الديمقراطية تغزو العالم في الوقت الحاضر، وتجد لها مساحات واسعة في النشاطات الإعلامية والثقافية، سواء على مستوى الندوات أو المحاضرات أو اللقاءات المرئية أو صفحات الجرائد. ولا شك في أن للفكرة بريقًا قويًا خاصة بالنسبة للشعوب التي تعاني من القهر والاستبداد.
وقد حوّلها هذا البريق من بُعد فكري وإطار نظري لترتيب المجتمع السياسي إلى ممارسات عملية تتعلق بحريات أساسية ومنها حرية التعبير والتنقل والتنظيم. والناس عامة لا يكترثون في البحث عن الأسس الفلسفية التي تنطلق منها الديمقراطية بقدر ما يهتمون ببعض المظاهر والممارسات السياسية التي يرتاحون لها، ويثنون عليها، ويودون أن تكون جزءًا من واقعهم؛ علّهم ينعمون ببعض الخير الذي تنعم به الشعوب التي أقامت نظمًا سياسية ديمقراطية.
ساد هذا الانطباع الجماهيري العام عن الديمقراطية في العالم الإسلامي والوطن العربي حتى بات المفهوم الشعبي لها مرادفًا للحرية. ولا يقوم في أذهان الناس أن الحرية قد تكون أكثر شمولاً أو أقل اتساعاً من الديمقراطية، وأن لكل مفهومًا خاصًا ربما يتقاطع مع الآخر ولكن لا يتطابق بالضرورة معه.
وربما هذا ما قاد بعض المفكرين أو الكتاب المسلمين إلى القول بأن الإسلام ديمقراطي، وأن القيم الديمقراطية قيم إسلامية يجب الدفاع عنها. وبدل أن يركزوا على البحث في مجال الحريات في الإسلام انطلقوا يحدثون عن الحداثة الإسلامية بثوب ديمقراطي، بينما انبرى آخرون للهجوم على الديمقراطية على اعتبار أنها نظام كفر وعرّفوا الحرية بالإيمان الذي يتقيد بالكثير من الأوامر والنواهي إلى درجة لم يعد المرء يفرّق بين الحرية والقفص.
من منطلق معرفتي المتواضعة بالنظام الديمقراطي والنظام الإسلامي أسوق المقارنات المختصرة التالية، والتي يمكن أن تشكل أساسًا لكتاب في الحريات المقارنة. وقد أعطيت أهمية في البداية لبعض الافتراضات الأساسية، وانتقلت بعدها إلى بعض المقارنات التطبيقية.
الفردية والجماعية
تنطلق الديمقراطية كنظام سياسي من مبدأين رئيسين هما الفردية والتحررية. كنظام منبثق أصلاً من حصيلة التجربة السياسية الغربية استندت على مجمل التفاعلات الفلسفية التي زخرت بها التجربة الغربية على مدى سنين، وعلى العلاقة الجدلية الديناميكية بين هذه التفاعلات وحركة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الغربي. تميزت هذه التفاعلات بقطبية ثنائية شهدت مشادة ما بين الفردية والجماعية، والتي حسمت في هذه المرحلة التاريخية لصالح الفردية.
باختصار كبير تقول الفردية بأن الفرد هو أساس المجتمع وليس العكس، وهو سابق على المجتمع عمليًا من ناحية الولادة ونظريًا من ناحية الاستقلالية كشخص غير تابع لتصورات أو أفكار مسبقة. والسلوك الاجتماعي عبارة عن سلوك فردي ويمكن تفسيره بناء على دوافع واستعدادات الأفراد وميولهم. وكل وضع اجتماعي أو حدث عبارة عن نتيجة لتشكيل محدد من قبل الأشخاص وليس بمبادرات جماعية تعكس مصلحة عامة. وإبداعات المجتمع هي في الأساس إبداعات الأفراد، وكل عقبة أمام تقدم الفرد هي بالتأكيد عقبة أمام المجتمع ككل. فصالح المجتمع يتحقق من خلال تحقيق كل فرد لمصلحته ولما يعتقد أنه صالحه. وعليه فإن مؤسسات المجتمع تقوم على افتراضات فردية. إنها تفترض أن الفرد يستجيب للثواب والعقاب، سواء كانا نفسيين أو ماديين.
ولذا فإن الأفراد يسلكون حسب القواعد المتبعة؛ لأن موافقتهم تؤدي إلى المكافأة وعدم الالتزام يؤدي إلى العقاب.
تعدد الانتماءات واقتسام الولاءات
ينتمي الفرد إلى عدد من التجمعات والجمعيات والمؤسسات، وبذلك يكون له عدد من الولاءات تبعًا للأهداف المختلفة التي تعمل على تحقيقها. وهو بالتالي يتصرف بطرق مختلفة وحسب الدور المتوقع منه، وسلوكه يتغير تبعًا لتغير القواعد. وهذا هو السلوك الاجتماعي للفرد. إنه يتغير مع تغير المعايير والنظم والضوابط والظروف. ولهذا فإنه ليس من المستبعد أن يتصادم الفرد مع نفسه؛ لأن مصالح المجتمعات والمؤسسات قد تتضارب. وفي هذا ما يدفع الفرد للعمل على إيجاد نقطة التوازن من خلال تكيفه مع مختلف الأوضاع والتجمعات.
أما التحررية فتفترض انطلاق الفرد عندما يخرج من دائرة العام إلى الموقع الخاص. في موقعه العام يتقيد الفرد بسلوكيات أو قواعد يضعها هذا الموقع؛ لأنه هو الذي اختار أن يكون ضمن الموقع ولم يجبر على ذلك، أما في الموقع الخاص فهو الذي يقرر بماذا يتقيد وبماذا لا يتقيد. القيم التي تحكمه في موقعه الخاص قيم ذاتية بحتة، يضعها هو لنفسه، وبالطريقة التي يراها مناسبة في نسج علاقاته الخاصة، وفي توجهه نحو اختيار الموقع العام. فإذا رأى أن الإباحية مثلاً هي القيمة العليا المحمودة فلا كوابح على ترتيب شؤونه الخاصة بهذا الاتجاه، ولا كوابح أمامه للعمل في مؤسسة أو الانتماء لجماعة تتخذ الإباحية قيمتها العليا. وإذا رأى أن الحياة لا تسمو إلا بمقيدات أخلاقية ذات بُعد عام فله أن يرتب أموره حسبها. ومثلما يتمكن الفرد من صياغة شؤونه بصورة ديناميكية دون الافتراض بثبات الأرضية الأخلاقية التي ينطلق منها، تستطيع المؤسسة أن تفعل ذلك أيضًا، إنما دون الإخلال بالقانون المعمول به والمصادق عليه ضمن أطر سياسية تقوم على الفردية التي تفترضها الديمقراطية.
يحدد القانون مسألة الحلال والحرام، أما ما يقع خارجه فهو من حرية الفرد.
على مستوى الجماعية، يسود في الأوساط الفلسفية تعبير العضوية كمصطلح يدلل على أن الجماعية ليست مجرد نسيج قانوني وسياسي، وإنما عبارة عن كل حي تتشابك فيه الحيوات والنشاطات ويشكل قاعدة التقدم وإطاره.
يفترض العضويون أن الدولة أو المجتمع عبارة عن كائن حي متكامل ولا يختلف جوهريًا عن أي كائن حي آخر. الدولة أو المجتمع عبارة عن كائن حي ومميز، وأن أجزاء هذا الكائن (الأفراد والمؤسسات) تعتمد على بعضها البعض اعتمادًا متبادلاً، وأن هذه الأجزاء لا قيمة لها ولا معنى بدون الكل، ولا يكون لها هدف إلا من خلال الكل. وعليه فإن كل جزء منها يعمل على القيام بوظيفته أو واجبه خير قيام، تمامًا كالجسد الإنساني الذي يتكون من أجزاء تعتمد على بعضها البعض في تحقيق المعنى والهدف والقيام بالوظيفة. وحتى يتم تحقيق دولة كهذه لا بد من منهاج تربوي ينشئ الفرد على ما ينسجم مع القانون الطبيعي العضوي.
منطلقات مختلفة للإسلام
يختلف الإسلام في افتراضه الأساسي عن النظم الفردية والجماعية بحيث إنه يجمع بين الفردية والجماعية، الأمر الذي يعتبر غريبًا على تاريخ الفلسفة السياسية. من ناحية الجماعية، واضح من القرآن الكريم أن الله خلقنا أزواجًا كحالة طبيعية ولم يخلق الناس فرادى. تقول الآية: "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى" (النجم، 45)، لم يخلق الله سبحانه فردًا ذكرًا وفردًا أنثى، وإنما خلق الناس زوجين: زوج ذكر وزوج أنثى. وتنص آية أخرى: "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" (الذاريات، 49)؛ حتى أن خلق الزوجين كان من ذات النفس وذلك حسب الآية: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون" (يس، 36)، وآية أخرى تؤكد الخلق من نفس واحدة وجَعٌل (الخلق ليس ابتداء) الزوجية: "خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج..." (الزمر، 14).
الزوج ليس فردًا وإنما مكمل لآخر، وبذلك يكون غير مهيأ لأن يبقى منفردًا، وليس بإمكانه أن يفعل ذلك حسب خلقه الذي هو طبيعته. من الممكن أن يعيش المرء وحيدًا تحت سقف معين لكن هذا لا يفقده أهليته الطبيعية، وإذا حاول أن يكون فردًا فإنه يحاول أن ينفي أهليته الطبيعية إلا إذا كان معبرًا عن وضع يصدف أن يكون فيه وليس عن حالة ذهنية أو نفسية.
لا يقف الأمر عند الأزواج، بل يتعداه إلى جعل الناس شعوبًا وقبائل. جعل الله (أي خلقهم بمعنى أضاف خلقًا على خلق) الناس شعوبًا وقبائل وذلك حسب الآية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الحجرات، 13)، في هذه الآية ما يقطع بصورة باتة أن الإنسان لا يمكن أن يكون فردًا؛ لأنه بالخلق عبارة عن زوج، وبالجعل عبارة عن عضو في قبيلة أو شعب. وفي هذا ما يبين موقف الإسلام من أطروحات تكوين المجتمعات، والتي اعتمدت لدى أغلب الفلاسفة على مبدأ الحاجة أو الضرورة.
من المفروض أن ينتبه المؤلفون إلى دقة التعبير في القرآن الكريم، وأن يتجنبوا الخلط بين الألفاظ والمعاني.
وقد قرأت لعدد لا بأس به من المؤلفين ووجدت من بينهم من يقول بأن الإسلام جماعي، ومنهم من يقول بأن الإسلام فردي، وذلك حسب تفسيرات من الصعب الأخذ بها. تارة يرى المؤلف أن الإسلام فيه شبه من الاشتراكية؛ لأنه جماعي، وتارة أخرى يظهر مؤلف ليقول بأن الإسلام ديمقراطي؛ لأنه فردي.
الإسلام ليس جماعيًا فقط، والدليل على ذلك أن المسؤولية تقع على الشخص الواحد، سواء في الدنيا أو الآخرة ويتلقى ثوابًا وعقابًا عما قام به من أفعال. والآيات حول هذا الأمر كثيرة أذكر منها: "كل نفس بما كسبت رهينة" (المدثر، 38)، و"لا تزر وازرة وزر أخرى* وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى" (النجم، 38ـ41). وما دام الحساب يقوم على أساس شخصي فإن الممارسة الشخصية في الحياة الدنيا تبقى حاسمة، وذلك لأن الحساب الشخصي يفترض أن الشخص مسؤول عن عمله. فإذا ذاب الشخص في جماعة أو أُجبر على ذلك فإنه يتحرر من مسؤوليته الذاتية، ويصبح أعضاء الجماعة أو الذين أجبروه على الذوبان هم موضوع الحساب. وبما أن الله يحاسب كل نفس على عملها باعتبارها مسؤولة عن كل ما تقوم به؛ فإنه لا يعقل أن يذيب الإسلام الإنسان الواحد في جماعة أو أن يجبره على ذلك. قال تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائرة في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا* اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا" (الإسراء، 13 - 14).
أي أن الإنسان فردي وجماعي في آن واحد، وفي هذا ينفرد الإسلام عن غيره من النظم العالمية. لكن هل من الممكن الجمع بين هذين النقيضين أو - إن شئت - الضدين؟ يجمع الإسلام بينهما على اعتبار أن العمل ضمن الجماعة عبارة عن فضيلة تعود بالنفع على الذات، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، ومن المحتمل في الدارين.
فالعمل للصالح العام مثل الإنفاق أو المساهمة العلمية أو الجهاد عبادة تعود على صاحبها بالثواب، وهو يحاسب على عدم القيام به. إنه واجب عليه لأن الله قد أوجبه عليه من حيث أنه عضو في جماعة، وهو حق للإنسان لأنه يرى نفسه من خلاله كعضو مشارك وفاعل ويجزى عليه الجزاء الأوفى. والعمل للصالح الفردي واجب وحق أيضًا لأن على المرء أن يعمل ويعتمد على نفسه، وله أيضًا أن يكون منتجًا حتى يكون لحياته معنى ومضمون، وهو أيضًا عمل من أعمال العبادة ويُثاب عليه. فعندما يقوم المرء بعمل لصالحه الذاتي تبقى عينه على الصالح العام فلا يلحق به ضررًا، بل يعززه، وعندما يقوم بعمل عام تبقى عينه على الصالح الخاص فلا يلحق به ضررًا، بل يعززه.
الفردي يكمل الجماعي فلا يطغى أحدهما على الآخر، وفي كل منهما خدمة للشخص بعينه وللمجتمع أو للأمة كل. يقع التكامل المتبادل هذا ضمن إطار عبادة هدفها تطبيق شريعة تعتمد نظامًا أخلاقيًا متكاملاً، سواء كان على مستوى العقيدة أو الحق والباطل أو الحلال والحرام. وهذا بالتحديد ما يميز المنطلق الأساسي الإسلامي عن المنطلق الديمقراطي أو الشيوعي أو الرأسمالي. إنه نظام يزاوج بين الشخص والجماعة، ولا يضعهما نقيضين، وإنما يعملان معًا، ليس ضمن تعايش، وإنما ضمن تكامل يحافظ على شخصية الإنسان؛ فلا يذيبه في الجماعة، ولا يغذي المصلحة الخاصة على العامة. إنه تكامل الأضداد الذي ينسجم تماما مع التكامل الكوني، سواء كان في إطار النواميس الجسمانية (البشرية) أو الإنسانية. إنه يحرص على الشخص ويحترم خصوصيته وطموحاته في التقدم والإنجاز، وعلى الجماعة فلا يطغى عليها الفرد ويسخرها لصالحه. إنه منطلق يميز الشخص عن الجماعة ولا يفصله عنها، أما المنطلق الديموقراطي فيميز الفرد ويفصله والمنطلق الشيوعي لا يميز الشخص ولا يفصله.
=====================
رؤية تأسيسية لحـرية الاخـــتيار
بتكامل الفردي والجماعي يتكامل السلوكي والخلقي، التشريعي والكوني، الذاتي والموضوعي. وبما أن الإنسان جماعي بالخلق وبما أن التشريع يُلزم المرء بأن لا يفرِّط في هذا أو ذاك وأن يكون وسطًا بحيث لا يفقد التوازن بين الذاتي والموضوعي، فإن الإسلام يؤسس لسلوك لا يتناقض مع الخلق بل ينسجم معه. وهذا من الناحية الفلسفية في غاية الإحكام لأن الذي خلق الكون ضمن نواميس وقواعد محددة لا يمكن أن يشرع سلوكيًا بصورة متناقضة مع الطبائع التي فطر الله تعالى الكون عليها. علمًا أن الذات الإلهية ليست خاضعة لعقلانية أو منطقية، وتبقى المسألة ضمن قدرتنا النسبية على صياغة الأمور صياغة منطقية، واستيعابها عقليًا.
يقودنا هذا إلى إشكالية حرية الاختيار. يقول الغربيون: إن الديمقراطية وحدها هي التي تكفل حرية الاختيار وتدافع عنها. أما الإسلام حسب عدد من مؤلفيهم لا يكفل هذه الحرية، ويصر على تسيير الإنسان حسب قواعد جامدة تسلبه حريته وقدرته على الإبداع والمشاركة في أعمال المجتمع. ويعزز بعض الإسلاميين الذين يتعاملون مع الإسلام على أنه شيء من الماضي هذه النظرة ويقولون بأن الإسلام قد وضع حلولاً لكل المشاكل، وما يطرأ من أمور، وأن المسلم لا يحتاج إلى إبداع وإنما إلى معرفة التفاصيل الشرعية، وإذا كان له أن يُعمل عقله فإن له ذلك ولكن بحدود القواعد الشرعية وتفصيلها، وعدم الانطلاق نحو إبداعات أو اجتهادات قد تخطّئ الماضي. ويعزز بعض المجددين الإسلاميين هذه النظرة أيضًا بجنوحهم نحو تمجيد الديمقراطية، وذلك على اعتبار أن الإسلام لا يتناقض معها، ويجعلونها - بقصد أو بغير قصد - المرجعية التي يمكن قياس التعاليم والسلوكيات الإسلامية حسبها.
فارق جوهري وحاسم
حرية الاختيار في الإسلام خَلٌقية أما في الديمقراطية فتاريخية اجتماعية، والفرق بين الحريتين كبير جدًا ولا يمكن تجسيره. إنهما ذواتا منطلقين مختلفين تمامًا على الرغم من تشابه أو تطابق بعض انعكاساتهما العملية. حرية الاختيار في الإسلام خلقية لأن القدرة على التمييز خلقية، إنها مترتبة على قدرة فطر الله الإنسان عليها.
قال تعالى: "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" (الشمس، 7-10)، وقال: "وهديناه النجدين" (البلد، 8). فالإنسان عاقل، ويفكر، ويستطيع أن يقرر عن نفسه ولنفسه، وأن يميز الأشياء طيبها وخبيثها، خيرها وشرها. تأكيدًا على عقلانيته طلب منه الله سبحانه في القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا أن يتفكر ويتعقل بآيات الله ليدرك المعجزة الإلهية وليفقه وتتطور لديه الحكمة. فمثلاً خاطبه الله بالقول: "فلينظر الإنسان مم خلق". (الطارق، 5)، وخاطبه أيضًا: "فلينظر الإنسان إلى طعامه" (عبس، 24). إنه خطاب موجه إلى عاقل من أجل استخلاص العبر والحكم والارتقاء بالمعارف والعلوم من خلال اكتشاف أسرار الكون ونواميسه الإلهية. فلا يكتفي الخالق جل وعلا بالقول بخلق الإنسان من طين؛ بل عليه أن يبحث في هذه المسألة ليصل إلى نتائج، ولا يكفي أن ينظر إلى أصناف الطعام ويتعجب بل عليه أن ينظر في مكوناتها وأسرارها. إنه قادر على فعل ذلك لأنه خُلق وفيه القوة التي تؤهله للقيام بذلك. والإنسان يتذكر ما يعمل مما يعزز عقلانيته. قال تعالى:"يوم يتذكر الإنسان ما سعى" (النازعات، 35). وهو لا يتوقف عند التذكر، بل هو قادر على وزن أعماله وإصدار حكم حولها. إنه يعرف ما يقوم به من عمل ومدى جنوحه عن الطريق الحق، فتقول الآية: "بل الإنسان على نفسه بصيرة" (القيامة: 10). إنه قادر على محاكمة نفسه ومحاسبتها.
القدرة التمييزية خلقية وحرية الاختيار مترتبة عليها، وإلا انتفت حكمة التمييز وانتفت معها صلاحية بعض التشريعات الإسلامية، مثل حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وانتفت معها أيضًا مسؤولية الإنسان عما يقوم به من أفعال وأعمال.
الحرية الخلقية تعني أن الإنسان لم يختر أن يكون حرًا، وإنما قدّر الله له أن يكون حرًا. ولم يخترع فكرة الاختيار، وإنما ولد وهي جزء لا يتجزأ من تركيبته النفسية الذهنية. إنها قدر إلهي كما أن كل نواميس الكون قدر إلهي لا رادّ لها ولا يملك الإنسان طاقة أو قدرة على إلغائها أو تخفيفها أو تجنبها. إنها ناموس كوني ثابت لا يملك الإنسان إلا دراسته، ومحاولة اكتشاف أسراره وتبعاته، والعوامل التي تؤدي إلى رقي الإفادة منه، وصقل الطاقات الإنسانية نحو مزيد من الاكتشاف والابتكار والمعرفة. أما محاولة القفز عن هذا القَدَر أو الحقيقة الخلقية أو إلغائه لا تقود فقط إلى إلحاق أضرار بالإنسان والمجتمع؛ وإنما تشكل اعتداء على ما قدّر الله.
ولقد تعزز خلق الله للحرية مع خلقه الإنسان نفسه بتشريعات واضحة، حيث تقول الآية الكريمة: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف، 29)، وتقول أخرى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى…" (البقرة، 256): بمعنى أن سلب حرية الاختيار من الناحية التشريعية عبارة عن اعتداء على حدود من شأنها تنظيم العلاقات بين الناس.
إذا تمت ترجمة الطبيعة الخَلقِية في حرية الاختيار إلى فكر سياسي نجد أن فهمنا لها يمنعنا من ممارسة كبت الحريات؛ لأن ذلك عبارة عن تعرض لمسألة خلقية لها علاقة بالإرادة الإلهية، وفي هذا عبث. إنه من السذاجة والغباء أن يقف امرؤ في وجه قدر إلهي أو إرادة إلهية؛ لأنه لن يقدر على أية مقاومة أو تغيير. وهو بذلك كمن يحاول طي الشمس لتظهر علينا من الغرب أو الجنوب. أما إذا حاول أحد القيام بذلك، وقد تمت المحاولات تاريخيًا في كل مكان، فإنه يصنع أجواء غير صحية تتميز بالكبت والقهر والظلم والشعور بالضعة والهوان والكراهية والتآمر وعدم الاستقرار... إلخ. والثابت تاريخيًا فشل محاولات حرمان الناس من حريتهم في الاختيار في الاستمرار، وأن هذه المحاولات العقيمة ولدَّت ردود فعل متعددة الأنواع، وانتهت إلى التغيير.
إسلاميًا، السبب واضح وهو أن الاعتداء على حرية الاختيار عبارة عن اعتداء على شيء طبيعي خلق به الإنسان؛ مما يولد تناقضًا ما بين الطبيعي والاجتماعي. وبما أن الطبيعي متأصل، فإن الإنسان، رضي أم لم يرض، سيثور حتمًا ضد ما يناقض طبيعته مهما طال الزمن. قد يطول عمر الممارسة الاجتماعية السلبية، والتي هي في هذه الحالة الاستبداد والطغيان، لكنها لن تعمر أبدًا، وتبقى تناقضاتها مع الحالة الموضوعية الخَلقِية مصدرًا للمشاكل والهموم والآلام. فمهما استعمل الحاكم أو المسؤول من قوة للموقوف في وجه ما فُطر الإنسان عليه فإن حكمه لن يدوم. أي أن عوامل الدفع باتجاه التمشي مع ما هو طبيعي فاعلة وقوية ولا تختفي أو تموت.
البعد المؤسسي لتنظيم الحرية في الإسلام
في هذا الإطار لدينا محور هام من محاور الاختلافات بين الإسلام والديمقراطية، تفسر الديمقراطية تطورها على أنه نتاج تفاعلات تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية ديناميكية وحيوية ومتشابكة التشعبات، وأنها مرتبطة بتطور الفكر الإنساني الذي أدرك عبر العصور أن نظام المصالحة والتسامح أفضل بدرجات من أنظمة الأيديولوجيا والفرد الواحد وسيادة الرأي الواحد على الآراء الأخرى. وبناء على هذا التفسير الذي يأخذ الأبعاد التاريخية والوعي الإنساني كركائز أساسية في تفسير الظاهرة السياسية تبني الديمقراطية مؤسساتها وتضع دساتيرها وقوانينها وتعليماتها.
أما الإسلام، إذا أراد المتمسكون به النجاح، فلا بد أن يبنوا مؤسساتهم بطريقة مختلفة لأن منطلقاتهم الفلسفية مختلفة. فما يصلح من ضوابط وتعليمات لقاعدة تقوم على بُعد اجتماعي لا يصلح لقاعدة تقوم على أبعاد أخرى.
لكن الإسلام لم يتجاهل الوعي الإنساني؛ فزاوجه مع المسألة الخَلقِية، وذلك من خلال التشريع. لقد ترك التشريع للإنسان حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، التوحيد والشرك، الهداية والغواية، وحمله مسؤولية هذا الاختيار. ووضع الإسلام تعليمات وضوابط ومحفزات ومثبطات تُعنى بمختلف أوضاع السلوك الإنساني، وشجّع الإنسان على توخي الحذر والتفكير بمختلف البينات والأحكام؛ ليكون قادرًا على تكوين رأي يحكم سلوكه الذي قد يقوده إلى فوز في الدنيا والآخرة أو فوز في الدنيا وخسران في الآخرة أو خسران في الدنيا والآخرة: أي أن الشارع الإسلامي عمل على تحفيز المسلم نحو مراكمة الوعي الذي يقود التوجهات ويبرر التصرفات. وهذا واضح مثلاً في سورة النبأ التي ورد فيها:"وبنينا فوقكم سبعًا شدادا، وجعلنا سراجًا وهاجًا، وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجا، لنخرج به حبًا ونباتا" (النبأ، 12-15)، وفي سور أخرى متعددة كالانفطار والتكوير وعبس وغيرها. وهناك آيات كثيرة تتحدث عن ميزات الإيمان ومساوئ الكفر والعصيان.
ضمانة حرية الاختيار في الإسلام
يزاوج الإسلام بين الخَلق والتشريع، بين الموضوعي الذي هو إرادة الله وبين الوعي الذي من المفروض أن يتراكم حتى يدرك الموضوعي، ويدعم الخلق والتشريع. أما الديمقراطية فلا تفعل ذلك وتتجاهل القضية الخلقية. والفرق هنا واضح في عمق الطرح، وهو أن الإسلام لا يُخضِع قضية حرية الاختيار لأحوال اجتماعية وظروف متغيرة، لكنه لا يترك الإنسان كالدابة يُساق دون علم ومعرفة، فيخاطبه عقليًا ليكون على وعي بكيفية ترتيب حياته على مختلف الصعد. فقد تتغير حدة الوعي وتتبدل مع الزمن وتبعًا للظروف. لكن حرية الاختيار تبقى قائمة حتى في ظل أقسى أوقات التخلف الإنساني. أما الديمقراطية فلا تضع معيار طبيعيًا لحرية الإنسان في الاختيار وتترك المسألة ضمن سياق تاريخي ـ اجتماعي معرّض للتبدُّل والتغيير. فأي النظامين يعطي هذه الحرية الضمان الأوفى؟ وأيهما تبعًا لذلك يمكن أن يتسع صدره لحريات أوسع؟.
إن مزاوجة الإسلام للخَلق والتشريع من أجل ترسيخ الموضوعي والذاتي مزاوجة عقلانية. الله هو خالق هذا الكون وهو الذي أتقن خلق كل شيء تبعًا لنواميس دقيقة تكمل بعضها بعضًا بحيث أنها تشكل كلاً متكاملاً بنواحيه المادية والمعنوية. إنه كون لا تتناقض مكوناته، وإنما تنسجم مع بعضها البعض، فتشكل منظومة لا تنفصل أجزاؤها على الرغم من تميزها. الإنسان جزء من هذا الكون ولا بد أن النواميس التي تحكم وجوده الجسدي والمعنوي منسجمة مع مختلف النواميس الكونية ولا تتناقض معها. أي أن الإنسان في نشاطاته المختلفة المادية والذهنية والنفسية يبقى ضمن الإطار الكوني العام الذي أبدع الله صنعه. ولهذا لا يمكن أن يأتي التشريع مناقضًا للنواميس التي خلقها الله سبحانه، ولا بد أن يصب ضمن القاعدة الأمثل التي تضع الإنسان في عجلة الانسجام الكوني.
أصف هنا التشريع بالذاتي لأن تطبيقه منوط بالإنسان وليس لأنه يحتمل التبديل والتغيير. إنه ذاتي لأن اجتهاد الإنسان يُعمل عليه ولأن للإنسان أن يختار بين تطبيقه والتخلي عنه. من خلال التشريع. يقول الله سبحانه للإنسان بأن هذا هو التشريع الإلهي الذي ينسجم مع النواميس الكونية وله أن يطبقه إن شاء مع العلم بأن لاختياره عاقبة. فإن اتبع الإنسان التشريع يكون قد انسجم مع نفسه (التوافق مع الذات) ومع العالم خارج ذاته (التوافق مع الموضوع)؛ لأن التشريع يعكس التناغم الذي يجب أن يتوفر بين الطاقات الداخلية للإنسان ذاتها، وبينها وبين العالم خارجها، وبه يتحقق التلاؤم والانسجام الطبيعيين. أي أن الإنسان يتصرف طبيعيًا عند التزامه بالتشريع وهذه هي حريته، ويخرج عن الطبيعة التي فُطر عليها إذا خالف التشريع ويكون بذلك قد قيَّد نفسه ووقف ضد حريته.
الاجتهاد ومشكلة الذاتية والموضوعية
لكن تبقى هناك مشكلة وهي متعلقة بتفسير التشريع. التشريع مطلق نصا لأنه من الله سبحانه والإنسان نسبي، ولا يمكن للنسبي أن يدرك المطلق. وأرجو ألا يتسرع أحد ويقول بأن هذه جملة خاطئة ويرد بأن النسبي يدرك المطلق. من الناحية الفيزيائية ومن ناحية الإيمان لا يمكن أن يتم هذا. فعلى الصعيد الفيزيائي، نجد أن النسبي ينتمي إلى عالم مختلف الأبعاد عن المطلق، وعلى الصعيد الإيماني ينتقص هذا القول (القول بإمكانية إدراك النسبي للمطلق) من قدر صاحب الحكمة المطلقة والتعظيم والرحمانية وهو الله سبحانه. في أحسن الحالات، يصر النسبي على تطوير معارفه بحيث يقترب رويدًا رويدًا من إدراك المطلق، الإدراك الذي لن يكتمل ضمن البعد الإنساني إلا يوم الدين. ولهذا أكثر القرآن الكريم من أوامر التدبر والتفكر والنظر والتعقل، ولم يأمر الإنسان بالتوقف عن البحث والتنقيب لأن الحقيقة بكل تفاصيلها قد أصبحت جاهزة بين يديه، ومهما اتسعت معارف الإنسان ومداركه، ومهما تعددت وسائله يبقى أمامه الكثير الذي لا ينتهي. قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (محمد، 24)، في إشارة واضحة إلى أن الذين يعزفون عن تدبر القرآن (أي دراسته والتمعن فيه) إنما هم كالأنعام لا يفقهون.
إن الإسلام ثنائي في بنيته. وهو يختلف في هذا عن كل الفلسفات التي أعرفها. فالإسلام يوحد بين الطبيعي والاجتماعي، بين المطلق والنسبي، بين الخلقي والتشريعي، بين الفردي والجماعي، بين الداخلي والخارجي، بين الموضوعي والذاتي. ولا يمكن لدين أن يكون دينًا بدون هذا الجمع المحكم؛ لأن الخالق لا يزرع متناقضات لا يمكنها أن تحوز الانسجام فيما بينها.