الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها
سعيد بن ناصر الغامدي
سعيد بن ناصر الغامدي
أعدها للعرض: محمد أمين
إن من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام لتحصيل مطالبهم الخبيثة, وتحقيق تلك المقاصد الضالة ما اتُّخذ في زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها الأدب والشعر والثقافة والنقد, وباطنها الكفر والشك والنفاق.
وقد استطاع أعداء الإسلام أن يبذروا في أرض المسلمين بذور حقدهم, ويستنبتوا فيها نباتات الشجرة الخبيثة, شجرة المادية, فإذا بالمسلمين يرون من ينادي بالكفر جهرة ويدعو إلى الضلال صراحة, ويروج للرذائل الفكرية والخلقية علانية, مرة تحت "الأدب الحديث" ومرة تحت شعار "الثقافة الإنسانية".
إن مختلف النظم الفكرية المعاصرة المستوردة, تحمل في طياتها ألوانًا عديدة من الانحرافات, ذلك لأنها إفراز نظريات مادية ذات جذور وثنية.
ومن أخطر هذه النظم المستوردة: النظام اللاديني المسمى بـ"العلمانية", وهؤلاء العلمانيون يذكرون أئمة الكفر بالذكر العطر, ويجعلون منهم قدوات, ويرسمونهم في أعين الأجيال بأحسن صورة وأجمل وصف.
وبين أيدينا كتاب بعنوان (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) للدكتور (سعيد بن ناصر الغامدي)، وهذا الكتاب في الأصل هو رسالة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة محمد بن سعود الإسلامية، وجاء هذا الكتاب ليبين بعض جوانب الخطورة في الأدب العربي المعاصر, وبيان انحرافه العقدي.
ويتكون من تمهيد وخمسة أبواب, أما التمهيد فقد تحدث المؤلف في بدايته عن شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه, وأن الله تعالى خلق الإنسان وأوجد فيه الإرادة والقدرة على العمل, وجعل له القلب والعقل والعاطفة والفكر, وأن الله تعالى قد بعث للناس من الأنبياء من يدعوهم إلى عبادته وتوحيده, فقد قال الله تعالى عن نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 25-27].
وقال عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 50-52]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات, أمهاتهم شتى ودينهم واحد) [رواه أحمد في المسند، (9508)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2182)].
وفي هذا دلالة كاملة على أن أم القضايا، وأصل الأصول هي قضية التوحيد ومقتضياته ولوازمه, وقد ذكر الدكتور أن الغاية التي من أجلها خلق الله الناس هي عبادته, فيقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]
ثم تناول المؤلف بعد ذلك علاقة الأدب بالاعتقاد, وأن أي إنتاج أدبي لابد أن يكون صاحبه ينطوي في قرارة نفسه على عقيدة معينة, وتجول في عقله أفكار معينة, ومن البديهي والمسلم به ـ كما قال المؤلف ـ أن هذه الأفكار وهذه العقيدة هي المحتضن الأساسي لما ينتجه الشاعر أو الناقد.
وفي هذا الصدد, ذكر المؤلف أن الناظر في نتاج الأدباء والقدماء والمعاصرين, سيجد تأثير العقائد في نتاجهم الأدبي جليًّا واضحًا, فمثلًا في عهد فلاسفة اليونان, تأثر أرسطو بفلسفة التطهير, وهي وجه من أوجه الالتزام الذي ينظر إلى العمل الأدبي بمنظار المنفعة ويدور معناه حول معالجة أمراض الناس وعيوبهم الخلقية من خلال المأساة وإثارة مشاعر الخوف والقلق والرحمة, وبلا شك أن كل ذلك ينبثق من العقيدة الوثنية القائمة على تعدد الآلهة, فهذا في الأدب القديم.
أما الأدب العربي المعاصر, فقد أكَّد المؤلف على أنه نموذج من نماذج التعبير عن العقائد الجديدة المستوردة من الغرب.
ومن ذلك: دعوتهم إلى التعددية الوثنية, ودعوتهم إلى استباحة المحرمات والتحرر من الضوابط, وإسقاط موازين الحلال والحرام, بالإضافة إلى الدعوة إلى تأليه العقل والعلم المادي والادعاء بأن حرية العقل أساس كل نهضة وتقدم.
ثم ختم المؤلف التمهيد بالحديث عن نبذة من الانحرافات المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب، وفيه عرض المؤلف الملامح الأساسية في مجال الفكر والأدب, ومنها:
1.إجماع المؤرخين لحركة التحولات الفكرية والأدبية المعاصرة, أن خليل مطران هو رائد هذه التحولات, وطليعة التوجهات الحداثية وأستاذ الدعوة للعصرية المنافية للقديم, وكبير دعاة التحرر من الأساليب القديمة ومن كل ما يذكر بها, ومن المروجين الأوائل لقضية التجديد في المضامين والتغيير الدائم.
2.جماعة الديوان, والتي أسسها عبد الرحمن شكري, وعباس العقاد, وإبراهيم المازني, وقد سعت تلك الجماعة إلى تقليد المدرسة الإنجليزية, والسير خلف مفاهيمها, وفق سلوكياتها.
وقد أورد المؤلف وصف أدونيس الملحد فكرَ المؤسسين الثلاثة لهذه الجماعة, فقال: "ويشترك هؤلاء الثلاثة من الناحية السياسية الاجتماعية, برفضهم الوضع السائد, وطموحهم إلى ما هو أفضل, ومن الناحية الثقافية بانحيازهم إلى الثقافة الإنكليزية, ومن الناحية المنهجية الفكرية بتغليبهم العقل".
3.جماعة أبولو, والتي أسسها أحمد زكي أبو شادي, وكان من أعضائها: إبراهيم ناجي, وعلي محمود طه, وأبي القاسم الشابي, وقد تأثرت هذه الجماعة بالنزعة الغربية، ولخَّص رئيسها مبادئها, فقال: "إنما جاء عن طريق التحرر الفني والطلاقة البيانية, والاعتزاز بالشخصية الأدبية المستقلة والجرأة على الابتداع مع التمكُّن من وسائله, لا عن طريق المجاراة للقديم المطروق, والعبودية للرواشم المحفوظة, والتقديس للتقاليد المأثورة".
وبعد انتهاء التمهيد, انتقل بنا الكتاب بعد ذلك للحديث عن الباب الأول, وهو يتحدث عن الانحرافات المتعلقة بالله سبحانه وتعالى, فبدأ الدكتور بالحديث عن الانحرافات المتعلقة بتوحيد الربوبية.
ومعنى توحيد الربوبية كما ذكر المؤلف, هو الاعتقاد الجازم بأن الله هو الخالق المالك المتصرف فهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء وحده, ولا خالق سواه, كما قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
وقد ذكر المؤلف أسماء مجرمي الإلحاد، والذين تتردد في كتب الأدباء المعاصرين والذين تتحول عندهم إلى رموز مقدسة وشخصيات متبعة, ومن هؤلاء الملحدين:
1.توماس هوبز: وهو فيلسوف إنجليزي, ومن أوائل الماديين المحدثين, ويعتبر ناقلًا لأفكار الماديين اليونان ديموقريطس وأبيقور الذين هم جذور الإلحاد الفلسفي الغربي المعاصر, وكان هوبز يحمل عداءً شديدًا للدين والكنيسة ورجال الدين, وليس في فلسفته ما هو جديد على أفكار الماديين اليونان إلا ما قام به من إحياء لهذه المادية إليها.
2.فيورباخ: فيلسوف مادي ألماني ملحد, اشتهر بنقده للدين وتنحي فلسفته إلى تأليه الإنسان.
3.داروين: هو عالم أحياء, تفلسف في قضية الوجود فكانت فلسفته مادية إلحادية, وهو صاحب نظرية الانتخاب الطبيعي التي يزعم فيها أن الكائنات الحية تنزع إلى الابتعاد في سماتها عن أصولها وتتطور, ويدَّعي أن الحياة يحكمها قانون الانتخاب الطبيعي, وقد رفض داروين الأديان وجميع مضامينها وخاصة عن وجود الإنسان, وتقوم نظريته على أن الطبيعة وهبت الخلايا القوية عوامل البقاء والنمو والتكيُّف, وقد أدت نظريته إلى انتشار الإلحاد بصورة أكبر في أوروبا, وتخلَّت جموع كثيرة بسببها عن الإيمان بوجود الله تخليًا تامًا أو شبه تام.
4.كارل ماركس: وهو مؤسس الشيوعية وفيلسوف الإلحاد المسمى بالمادية الجدلية والداعي إلى الاشتراكية العلمية, وقد قامت الفلسفة الماركسية على أساس إنكار وجود الله والقول بأزلية وأبدية المادة وجعلها كل شيء في الوجود, وتفسير حركتها تفسيرًا ماديًا بحتًا, قد تأثر جملة من أدباء الحداثة العربية بالماركسية فكرًا وفلسفة وعقيدة, ودافعوا عنها وسعوا إلى نشرها, ومن هؤلاء الأدباء العرب كما ذكر المؤلف: توفيق زياد, سميح القاسم, محمود درويش, عبد الرحمن الخميس, وأحمد سليمان الأحمد.
ثم بعد ذلك انتقل المؤلف للحديث عن أنواع الانحراف الاعتقادي في الأدب المعاصر في توحيد الربوبية, ومنها:
1.نفي الحداثيين لوجود الله تعالى, أو التشكيك في ذلك:
وذكر المؤلف عدة أدباء قد وقعوا في هذا الانحراف, ومنهم علاء حامد وهو روائي ملحد, وقد ظهر إلحاده في رواية "مسافة في عقل رجل", ويقول في إحدى مقاطع كتابه: "الإنسان ليس سوى نظرية مادية بحتة, وجد بالصدفة وسيموت بالصدفة, وبموته يصبح مجرد ذكرى في أروقة الحياة, فلا إله ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار... والرسل ليسوا سوى مجموعة من الدجالين, والأديان صيغ بشرية ذكية, والإنسان ابن الطبيعة, خالق نفسه, هو الأوحد والأقوى والأفضل, والجبار والمتكبر", تعالى الله عما يقول علوًا كبيرًا.
2.نسبة الخلق إلى غير الله, وتسمية غير الله خالقًا:
وذكر الباحث أن تسمية غير الله خالقًا ونسبة الخلق لغير الله أمور شديدة الخطورة, وهذه من رواسب ذلك الفكر الإلحادي المادي, وبقية من رعونات التصورات الضالة التي تردَّى فيها أصحاب الزيغ والهوس الدنيوي الدهري.
وتعتبر هذه القضية نسبة الخلق إلى غير الله وتسمية غير الله خالقًا ما هو إلا اقتباس من الوثنيات اليونانية الإغريقية, التي قامت على تعدد الأرباب, وهؤلاء الذين يزعمون التحرر من التقليدية والنمطية والماضوية (حسب تعبيراتهم), نجدهم ـ كما يقول المؤلف ـ يرتمون في تقليد الهوس الوثني والخيال الأسطوري, ثم يزعمون بعد ذلك أنهم قد قطعوا شوطًا في التقدم والارتقاء, وذلك بإحلال التنوع والتمايز مكان الواحدية وإحلال المتغيرات مكان الثوابت وفك الاشتباك بين الطبقات والمؤسسات والعقائد.
وانتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن الانحرافات المتعلقة بالألوهية.
وذكر أن توحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة والطاعة، بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحدًا يعبده ويخضع لحكمه وشرعه. ومن مظاهر خبثهم وأباطيلهم في توحيد الألوهية, نفي ألوهية الله تعالى مطلقًا, ويكفي في هذا المظهر أن نذكر ما كتبه المؤلف عن علاء حامد الملحد, والذي كتب في روايته الكافرة "مسافة في عقل رجل": "فلنبدأ بلفظ الله, الذي اختلفت فيه لغات العالم مما جعل البعض يردد أنه لو كان الله موجودًا لأطلق على نفسه لقبًا تشترك في نطقه كل لغات العالم بلهجاتها المختلفة, ولكن لفظ الله يختلف من لغة إلى أخرى ويدللون بهذا على أن الله كجوهر أيضًا صيغة بشرية من اختراع الإنسان، اللفظ والجوهر معًا", جل الله عن ذلك وتعالى.
والمظهر الثاني من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية, نفي بعض خصائص الألوهية, ومنها: نفي حق الله تعالى في حكم عباده والتشريع لهم, باعتقاد العلمانية دينًا, وبالزعم بأن دين الله تعالى لا يصلح لهذا الزمان, وأن أحكامه بشعة وغير ذلك من سعيهم في آيات الله معاجزين, وقد ذكر المؤلف قول نصر حامد أبو زيد (وهو أشد عتاة أعداء الإسلام المعاصرين): "وإذا كنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية, فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي إيديلوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر؛ بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وحقائق النصوص ذاتها".
ويضيف قائلًا: "وحين يحصر الخطاب الديني العلاقة بين الله والإنسان في بعد العبودية وحده؛ فإنه لا يستحضر المعنى المجازي للعبودية, بل يصر على تأكيد الدلالة الحرفية, وهي الدلالة التي تتأكد بطريقة حاسمة حين توضع في سياق التأويل الحر لصورة الإله الملك صاحب العرش والكرسي والصولجان والجنود التي لا حصر لها".
وهذا كما قال المؤلف, نموذج من نماذج الانحراف العقدي, وفيه أكبر شاهد على أوهام المادية الجدلية وأكاذيب الإلحاد, والحرب الموجهة ضد الإسلام عقيدة وشريعة, وإن إسقاط حق العبودية لله تعالى أحد أظهر دلالات الاتجاه الحداثي العلماني, ومنه يتسرب جحدهم لحق الله تعالى في الحكم والتشريع وغير ذلك.
ومن مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية أيضًا, العبودية لغير الله تعالى: فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]
فالله تعالى يجرد جميع الآلهة الذين يُتَّخذون من دونه من كل خصائص الألوهية, فهم لا يخلقون شيئًا ولا يستطيعون خلق شيء, بل هذه الآلهة المدعاة مخلوقة بعد أن لم تكن موجودة.
ومن أقوالهم في ذلك الصدد ما قاله نزار قباني: "كل كلمة شعرية تتحول في النهاية إلى طقس من طقوس العبادة والكشف والتجلي, كل شيء يتحول بالشعر إلى ديانة حتى الجنس يصير دينًا, والسرير يصير مذبحًا وغرف اعتراف".
ومن مظاهر الانحراف والتي ذكرها المؤلف في توحيد الألوهية, السخرية والتدنيس والاستخفاف بالله سبحانه وتعالى, وكما قال المؤلف أنه جب عفن خاضوا في قعره وماضوا, واسترسلوا مع نجاسته, وشربوا منه حتى تضلعوا.
وها هم الملحدون يتفقون في إلحادهم ضد خالقهم وبارئهم, فيقول جبران خليل عن النصراني الآخر توفيق صايغ: "كان توفيق شخصًا مختلفًا عن خليل وكان يعبر عن حسه الفاجع, أو حسه بالعقم, بشكل آخر لا عن طريق الغضب بل عن طريق المحاججة الدينية, كان يجادل الله, يجادل المسيح, يجادل نفسه, يجادل مجتمعه, وكان دائمًا يخرج بنتيجة أن هذه القوى كلها لا تؤدي به أو لا تتخطى به العقم الذي يرفضه هو", وهذا الاجتراء الله تعالى, دليل على ازدراء جبران وأمثاله والاستخفاف بمقام الله تعالى, ثم الوصول إلى النتيجة الإلحادية أن الله تعالى والإيمان به لا يتخطى به العقم, تعالى الله عن ذلك.
ثم انتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات، ومن أمثلة الانحراف التي ذكرها المؤلف المتعلقة بهذا النوع من التوحيد, وصف الله تعالى وتسميته بأسماء وأوصاف النقص ووصفه بما لم يصف به نفسه, ووصفه بما نفاه عن نفسه وإضافة أشياء إليه تهكمًا بالله تعالى أو تشريفًا لأشياء لم يشرفها الله تعالى.
ومن الافتراءات في هذا الانحراف:
1.الزعم بأن المعاني التي تداولها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ليست من وحي الله، وإنما هي من المحيط الذي عاشوه.
2.تقوم فلسفة الحداثة في نفي صفات الله تعالى أو وصفه بما لا يليق به جل وعلا, على أساس نظرتهم الإلحادية لنصوص الوحي المعصوم.
ومن أقوال الملاحدة في صفات الله تعالى, ما ذكره المؤلف على لسان أحدهم وهو أنسي الحاج, وقد وصف الله تعالى بأنه قد قتل ومات, فيقول: "تقتل الكلمة جسد الله بعد قتل الله روحًا وجسدًا".
ويصف هذا المجرم الله تعالى بالدهشة حين خلق الخلق, وهو معنى تهكمي واضح, لأن الحاج وأمثاله من الملاحدة ينكرون أصلًا وجود الله تعالى, يقول الحاج: "العشق الأول, الأول, الأقرب ما يكون إلى دهشة الله الأولى بمن خلق".
وأما عن بقية الأبواب من هذه الرسالة الهامة، فسنذكرها بإذن الله في مرات القادمة، على أن نتعرض في الخلاصة القادمة لما تبقى من فصول في الباب الأول، ونعرض للباب الثاني والذي يتناول الانحرافات المتعلقة بالملائكة والكتب المنزلة والأنبياء، وكذلك نعرض للباب الثالث الذي يتناول الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر.
إن من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام لتحصيل مطالبهم الخبيثة, وتحقيق تلك المقاصد الضالة ما اتُّخذ في زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها الأدب والشعر والثقافة والنقد, وباطنها الكفر والشك والنفاق.
وقد استطاع أعداء الإسلام أن يبذروا في أرض المسلمين بذور حقدهم, ويستنبتوا فيها نباتات الشجرة الخبيثة, شجرة المادية, فإذا بالمسلمين يرون من ينادي بالكفر جهرة ويدعو إلى الضلال صراحة, ويروج للرذائل الفكرية والخلقية علانية, مرة تحت "الأدب الحديث" ومرة تحت شعار "الثقافة الإنسانية".
إن مختلف النظم الفكرية المعاصرة المستوردة, تحمل في طياتها ألوانًا عديدة من الانحرافات, ذلك لأنها إفراز نظريات مادية ذات جذور وثنية.
ومن أخطر هذه النظم المستوردة: النظام اللاديني المسمى بـ"العلمانية", وهؤلاء العلمانيون يذكرون أئمة الكفر بالذكر العطر, ويجعلون منهم قدوات, ويرسمونهم في أعين الأجيال بأحسن صورة وأجمل وصف.
وبين أيدينا كتاب بعنوان (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) للدكتور (سعيد بن ناصر الغامدي)، وهذا الكتاب في الأصل هو رسالة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة محمد بن سعود الإسلامية، وجاء هذا الكتاب ليبين بعض جوانب الخطورة في الأدب العربي المعاصر, وبيان انحرافه العقدي.
ويتكون من تمهيد وخمسة أبواب, أما التمهيد فقد تحدث المؤلف في بدايته عن شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه, وأن الله تعالى خلق الإنسان وأوجد فيه الإرادة والقدرة على العمل, وجعل له القلب والعقل والعاطفة والفكر, وأن الله تعالى قد بعث للناس من الأنبياء من يدعوهم إلى عبادته وتوحيده, فقد قال الله تعالى عن نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 25-27].
وقال عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 50-52]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات, أمهاتهم شتى ودينهم واحد) [رواه أحمد في المسند، (9508)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2182)].
وفي هذا دلالة كاملة على أن أم القضايا، وأصل الأصول هي قضية التوحيد ومقتضياته ولوازمه, وقد ذكر الدكتور أن الغاية التي من أجلها خلق الله الناس هي عبادته, فيقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]
ثم تناول المؤلف بعد ذلك علاقة الأدب بالاعتقاد, وأن أي إنتاج أدبي لابد أن يكون صاحبه ينطوي في قرارة نفسه على عقيدة معينة, وتجول في عقله أفكار معينة, ومن البديهي والمسلم به ـ كما قال المؤلف ـ أن هذه الأفكار وهذه العقيدة هي المحتضن الأساسي لما ينتجه الشاعر أو الناقد.
وفي هذا الصدد, ذكر المؤلف أن الناظر في نتاج الأدباء والقدماء والمعاصرين, سيجد تأثير العقائد في نتاجهم الأدبي جليًّا واضحًا, فمثلًا في عهد فلاسفة اليونان, تأثر أرسطو بفلسفة التطهير, وهي وجه من أوجه الالتزام الذي ينظر إلى العمل الأدبي بمنظار المنفعة ويدور معناه حول معالجة أمراض الناس وعيوبهم الخلقية من خلال المأساة وإثارة مشاعر الخوف والقلق والرحمة, وبلا شك أن كل ذلك ينبثق من العقيدة الوثنية القائمة على تعدد الآلهة, فهذا في الأدب القديم.
أما الأدب العربي المعاصر, فقد أكَّد المؤلف على أنه نموذج من نماذج التعبير عن العقائد الجديدة المستوردة من الغرب.
ومن ذلك: دعوتهم إلى التعددية الوثنية, ودعوتهم إلى استباحة المحرمات والتحرر من الضوابط, وإسقاط موازين الحلال والحرام, بالإضافة إلى الدعوة إلى تأليه العقل والعلم المادي والادعاء بأن حرية العقل أساس كل نهضة وتقدم.
ثم ختم المؤلف التمهيد بالحديث عن نبذة من الانحرافات المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب، وفيه عرض المؤلف الملامح الأساسية في مجال الفكر والأدب, ومنها:
1.إجماع المؤرخين لحركة التحولات الفكرية والأدبية المعاصرة, أن خليل مطران هو رائد هذه التحولات, وطليعة التوجهات الحداثية وأستاذ الدعوة للعصرية المنافية للقديم, وكبير دعاة التحرر من الأساليب القديمة ومن كل ما يذكر بها, ومن المروجين الأوائل لقضية التجديد في المضامين والتغيير الدائم.
2.جماعة الديوان, والتي أسسها عبد الرحمن شكري, وعباس العقاد, وإبراهيم المازني, وقد سعت تلك الجماعة إلى تقليد المدرسة الإنجليزية, والسير خلف مفاهيمها, وفق سلوكياتها.
وقد أورد المؤلف وصف أدونيس الملحد فكرَ المؤسسين الثلاثة لهذه الجماعة, فقال: "ويشترك هؤلاء الثلاثة من الناحية السياسية الاجتماعية, برفضهم الوضع السائد, وطموحهم إلى ما هو أفضل, ومن الناحية الثقافية بانحيازهم إلى الثقافة الإنكليزية, ومن الناحية المنهجية الفكرية بتغليبهم العقل".
3.جماعة أبولو, والتي أسسها أحمد زكي أبو شادي, وكان من أعضائها: إبراهيم ناجي, وعلي محمود طه, وأبي القاسم الشابي, وقد تأثرت هذه الجماعة بالنزعة الغربية، ولخَّص رئيسها مبادئها, فقال: "إنما جاء عن طريق التحرر الفني والطلاقة البيانية, والاعتزاز بالشخصية الأدبية المستقلة والجرأة على الابتداع مع التمكُّن من وسائله, لا عن طريق المجاراة للقديم المطروق, والعبودية للرواشم المحفوظة, والتقديس للتقاليد المأثورة".
وبعد انتهاء التمهيد, انتقل بنا الكتاب بعد ذلك للحديث عن الباب الأول, وهو يتحدث عن الانحرافات المتعلقة بالله سبحانه وتعالى, فبدأ الدكتور بالحديث عن الانحرافات المتعلقة بتوحيد الربوبية.
ومعنى توحيد الربوبية كما ذكر المؤلف, هو الاعتقاد الجازم بأن الله هو الخالق المالك المتصرف فهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء وحده, ولا خالق سواه, كما قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
وقد ذكر المؤلف أسماء مجرمي الإلحاد، والذين تتردد في كتب الأدباء المعاصرين والذين تتحول عندهم إلى رموز مقدسة وشخصيات متبعة, ومن هؤلاء الملحدين:
1.توماس هوبز: وهو فيلسوف إنجليزي, ومن أوائل الماديين المحدثين, ويعتبر ناقلًا لأفكار الماديين اليونان ديموقريطس وأبيقور الذين هم جذور الإلحاد الفلسفي الغربي المعاصر, وكان هوبز يحمل عداءً شديدًا للدين والكنيسة ورجال الدين, وليس في فلسفته ما هو جديد على أفكار الماديين اليونان إلا ما قام به من إحياء لهذه المادية إليها.
2.فيورباخ: فيلسوف مادي ألماني ملحد, اشتهر بنقده للدين وتنحي فلسفته إلى تأليه الإنسان.
3.داروين: هو عالم أحياء, تفلسف في قضية الوجود فكانت فلسفته مادية إلحادية, وهو صاحب نظرية الانتخاب الطبيعي التي يزعم فيها أن الكائنات الحية تنزع إلى الابتعاد في سماتها عن أصولها وتتطور, ويدَّعي أن الحياة يحكمها قانون الانتخاب الطبيعي, وقد رفض داروين الأديان وجميع مضامينها وخاصة عن وجود الإنسان, وتقوم نظريته على أن الطبيعة وهبت الخلايا القوية عوامل البقاء والنمو والتكيُّف, وقد أدت نظريته إلى انتشار الإلحاد بصورة أكبر في أوروبا, وتخلَّت جموع كثيرة بسببها عن الإيمان بوجود الله تخليًا تامًا أو شبه تام.
4.كارل ماركس: وهو مؤسس الشيوعية وفيلسوف الإلحاد المسمى بالمادية الجدلية والداعي إلى الاشتراكية العلمية, وقد قامت الفلسفة الماركسية على أساس إنكار وجود الله والقول بأزلية وأبدية المادة وجعلها كل شيء في الوجود, وتفسير حركتها تفسيرًا ماديًا بحتًا, قد تأثر جملة من أدباء الحداثة العربية بالماركسية فكرًا وفلسفة وعقيدة, ودافعوا عنها وسعوا إلى نشرها, ومن هؤلاء الأدباء العرب كما ذكر المؤلف: توفيق زياد, سميح القاسم, محمود درويش, عبد الرحمن الخميس, وأحمد سليمان الأحمد.
ثم بعد ذلك انتقل المؤلف للحديث عن أنواع الانحراف الاعتقادي في الأدب المعاصر في توحيد الربوبية, ومنها:
1.نفي الحداثيين لوجود الله تعالى, أو التشكيك في ذلك:
وذكر المؤلف عدة أدباء قد وقعوا في هذا الانحراف, ومنهم علاء حامد وهو روائي ملحد, وقد ظهر إلحاده في رواية "مسافة في عقل رجل", ويقول في إحدى مقاطع كتابه: "الإنسان ليس سوى نظرية مادية بحتة, وجد بالصدفة وسيموت بالصدفة, وبموته يصبح مجرد ذكرى في أروقة الحياة, فلا إله ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار... والرسل ليسوا سوى مجموعة من الدجالين, والأديان صيغ بشرية ذكية, والإنسان ابن الطبيعة, خالق نفسه, هو الأوحد والأقوى والأفضل, والجبار والمتكبر", تعالى الله عما يقول علوًا كبيرًا.
2.نسبة الخلق إلى غير الله, وتسمية غير الله خالقًا:
وذكر الباحث أن تسمية غير الله خالقًا ونسبة الخلق لغير الله أمور شديدة الخطورة, وهذه من رواسب ذلك الفكر الإلحادي المادي, وبقية من رعونات التصورات الضالة التي تردَّى فيها أصحاب الزيغ والهوس الدنيوي الدهري.
وتعتبر هذه القضية نسبة الخلق إلى غير الله وتسمية غير الله خالقًا ما هو إلا اقتباس من الوثنيات اليونانية الإغريقية, التي قامت على تعدد الأرباب, وهؤلاء الذين يزعمون التحرر من التقليدية والنمطية والماضوية (حسب تعبيراتهم), نجدهم ـ كما يقول المؤلف ـ يرتمون في تقليد الهوس الوثني والخيال الأسطوري, ثم يزعمون بعد ذلك أنهم قد قطعوا شوطًا في التقدم والارتقاء, وذلك بإحلال التنوع والتمايز مكان الواحدية وإحلال المتغيرات مكان الثوابت وفك الاشتباك بين الطبقات والمؤسسات والعقائد.
وانتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن الانحرافات المتعلقة بالألوهية.
وذكر أن توحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة والطاعة، بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحدًا يعبده ويخضع لحكمه وشرعه. ومن مظاهر خبثهم وأباطيلهم في توحيد الألوهية, نفي ألوهية الله تعالى مطلقًا, ويكفي في هذا المظهر أن نذكر ما كتبه المؤلف عن علاء حامد الملحد, والذي كتب في روايته الكافرة "مسافة في عقل رجل": "فلنبدأ بلفظ الله, الذي اختلفت فيه لغات العالم مما جعل البعض يردد أنه لو كان الله موجودًا لأطلق على نفسه لقبًا تشترك في نطقه كل لغات العالم بلهجاتها المختلفة, ولكن لفظ الله يختلف من لغة إلى أخرى ويدللون بهذا على أن الله كجوهر أيضًا صيغة بشرية من اختراع الإنسان، اللفظ والجوهر معًا", جل الله عن ذلك وتعالى.
والمظهر الثاني من مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية, نفي بعض خصائص الألوهية, ومنها: نفي حق الله تعالى في حكم عباده والتشريع لهم, باعتقاد العلمانية دينًا, وبالزعم بأن دين الله تعالى لا يصلح لهذا الزمان, وأن أحكامه بشعة وغير ذلك من سعيهم في آيات الله معاجزين, وقد ذكر المؤلف قول نصر حامد أبو زيد (وهو أشد عتاة أعداء الإسلام المعاصرين): "وإذا كنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية, فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي إيديلوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر؛ بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وحقائق النصوص ذاتها".
ويضيف قائلًا: "وحين يحصر الخطاب الديني العلاقة بين الله والإنسان في بعد العبودية وحده؛ فإنه لا يستحضر المعنى المجازي للعبودية, بل يصر على تأكيد الدلالة الحرفية, وهي الدلالة التي تتأكد بطريقة حاسمة حين توضع في سياق التأويل الحر لصورة الإله الملك صاحب العرش والكرسي والصولجان والجنود التي لا حصر لها".
وهذا كما قال المؤلف, نموذج من نماذج الانحراف العقدي, وفيه أكبر شاهد على أوهام المادية الجدلية وأكاذيب الإلحاد, والحرب الموجهة ضد الإسلام عقيدة وشريعة, وإن إسقاط حق العبودية لله تعالى أحد أظهر دلالات الاتجاه الحداثي العلماني, ومنه يتسرب جحدهم لحق الله تعالى في الحكم والتشريع وغير ذلك.
ومن مظاهر الانحراف في توحيد الألوهية أيضًا, العبودية لغير الله تعالى: فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]
فالله تعالى يجرد جميع الآلهة الذين يُتَّخذون من دونه من كل خصائص الألوهية, فهم لا يخلقون شيئًا ولا يستطيعون خلق شيء, بل هذه الآلهة المدعاة مخلوقة بعد أن لم تكن موجودة.
ومن أقوالهم في ذلك الصدد ما قاله نزار قباني: "كل كلمة شعرية تتحول في النهاية إلى طقس من طقوس العبادة والكشف والتجلي, كل شيء يتحول بالشعر إلى ديانة حتى الجنس يصير دينًا, والسرير يصير مذبحًا وغرف اعتراف".
ومن مظاهر الانحراف والتي ذكرها المؤلف في توحيد الألوهية, السخرية والتدنيس والاستخفاف بالله سبحانه وتعالى, وكما قال المؤلف أنه جب عفن خاضوا في قعره وماضوا, واسترسلوا مع نجاسته, وشربوا منه حتى تضلعوا.
وها هم الملحدون يتفقون في إلحادهم ضد خالقهم وبارئهم, فيقول جبران خليل عن النصراني الآخر توفيق صايغ: "كان توفيق شخصًا مختلفًا عن خليل وكان يعبر عن حسه الفاجع, أو حسه بالعقم, بشكل آخر لا عن طريق الغضب بل عن طريق المحاججة الدينية, كان يجادل الله, يجادل المسيح, يجادل نفسه, يجادل مجتمعه, وكان دائمًا يخرج بنتيجة أن هذه القوى كلها لا تؤدي به أو لا تتخطى به العقم الذي يرفضه هو", وهذا الاجتراء الله تعالى, دليل على ازدراء جبران وأمثاله والاستخفاف بمقام الله تعالى, ثم الوصول إلى النتيجة الإلحادية أن الله تعالى والإيمان به لا يتخطى به العقم, تعالى الله عن ذلك.
ثم انتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات، ومن أمثلة الانحراف التي ذكرها المؤلف المتعلقة بهذا النوع من التوحيد, وصف الله تعالى وتسميته بأسماء وأوصاف النقص ووصفه بما لم يصف به نفسه, ووصفه بما نفاه عن نفسه وإضافة أشياء إليه تهكمًا بالله تعالى أو تشريفًا لأشياء لم يشرفها الله تعالى.
ومن الافتراءات في هذا الانحراف:
1.الزعم بأن المعاني التي تداولها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ليست من وحي الله، وإنما هي من المحيط الذي عاشوه.
2.تقوم فلسفة الحداثة في نفي صفات الله تعالى أو وصفه بما لا يليق به جل وعلا, على أساس نظرتهم الإلحادية لنصوص الوحي المعصوم.
ومن أقوال الملاحدة في صفات الله تعالى, ما ذكره المؤلف على لسان أحدهم وهو أنسي الحاج, وقد وصف الله تعالى بأنه قد قتل ومات, فيقول: "تقتل الكلمة جسد الله بعد قتل الله روحًا وجسدًا".
ويصف هذا المجرم الله تعالى بالدهشة حين خلق الخلق, وهو معنى تهكمي واضح, لأن الحاج وأمثاله من الملاحدة ينكرون أصلًا وجود الله تعالى, يقول الحاج: "العشق الأول, الأول, الأقرب ما يكون إلى دهشة الله الأولى بمن خلق".
وأما عن بقية الأبواب من هذه الرسالة الهامة، فسنذكرها بإذن الله في مرات القادمة، على أن نتعرض في الخلاصة القادمة لما تبقى من فصول في الباب الأول، ونعرض للباب الثاني والذي يتناول الانحرافات المتعلقة بالملائكة والكتب المنزلة والأنبياء، وكذلك نعرض للباب الثالث الذي يتناول الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر.