الجنيه في إنتظار التخريم..!
بقلم/ مصطفى قيسون
بقلم/ مصطفى قيسون
بعد تحويل الجنيه الورقى إلى معدن مثل الربع جنيه بعد أن تآكل بفعل نمور الفساد وفئران الغلاء وارتفاع سعر (الكوسة) ودلع (البامية) وجنون (القوطة) أصبح من السهل التنبؤ بإحداث ثقب فى مركز الجنيه المعدنى أسوة بما سبقه من عملات ولن يعفيه من إحداث هذا (الخرم) شكله الذهبى وصغر حجمه فلم يعد شيئا فى الوجود فى معزل عن التخريم.. حتى طبقة الأوزون لم تسلم من التخريم لكننا نحمد الله أن عقولنا مازالت تعمل رغم كل هذه الثقوب!..
فى فترة الستينيات كنا نحصل على الجريدة اليومية نظير قرشا واحدا وكان يسمى قرش صاغ ولا أعلم ما معنى هذه (الصاغ) فى الوقت الذى كان سعر الكيلو من اللحم المعتبر يقترب من الأربعين قرشا مما سبب هلع المواطنين خوفا أن يأتى اليوم الذى يصل فيه سعر كيلو اللحم إلى سقف الجنيه الذى كان مثل اللحاف يكفى لتغطيتك فيقيك شر العوز! فكان سعر الجريدة منذ نصف قرن 1 إلى 60 من سعر كيلو اللحم.. وللحق قد احتفظت الجريدة بسعرها إلى يومنا هذا فلا زالت تشكل نفس النسبة من سعر اللحم حيث تحصل عليها بجنيه واحد عندما وصل سعر كيلو اللحم إلى ستين جنيها بعد أن أصبح الجنيه من الهيافة بحيث لايكفى لتغطية رأسك لاتقاء أشعة الشمس! فإن كان اللحم قد عز علينا فلدينا ورق أكثر من خمس وعشرين جريدة يومية وأسبوعية تنتشر على الأرصفة بخلاف المجلات يستطيع جهازنا الهضمى التأقلم معها مثل الماعز! فنأكل الورق مع كلام الجرايد عن رفع المعاناة عن الجماهير!
من مفاخر أهل الفهلوة من المصريين أنهم قد قاموا بتعبئة الشمس فى (أزايز) ودهان الهواء (بالدوكو) وينسبون لأنفسهم بأنهم الذين قاموا بسك التعربفة القديم وليس مصلحة سك العملة وخرجوا بالنشيد القومى الشهير "إحنا اللى خرمنا التعريفة" فذاع صيتهم بين كل جهابذة الفهلوة فى العالم.. وتكملة للمسيرة (الفهلوية) والأعمال الخارقة للفهلوة المصرية ونتيجة للأزمة الطاحنة فى سوق الورق إمتدت أيدينا إلى عملة أكبر وتساوى خمسون تعريفة فحولنا الربع جنيه الورقى إلى عملة معدنية حتى يتسنى لنا ثقبه فى مركزه تشبها بالتعريفة الذى اشتقنا إليه فأردنا أن نستعيد ذكراه لأنه أحيانا عندما يصاب المرأ بقلة الحيلة تشتد رغبته فى انتكاسته إلى طفولته مثل ما ينادى البعض الجملة المشهورة "حضارة 7000 سنة" حتى يختبئ بعقله فى حضارة الماضى السحيق طالما لم يستطع أن يعيد أمجاد الأجداد فيستريح ويصل إلى حالة الصلح مع النفس!.. رغم أن استحضار الماضى له حسناته إذ يجعلنا نشحذ الهمة.. ومعاذ الله أن أبغى من وراء ذلك جلدا للذات بل هي مجرد (زغزغة) حتى نفيق من الغفوة!.. وربما كانت فكرة تحويل العملة الورقية إلى معدنية من أجل توفير الورق للصحف المطبوعة حتى تستطيع أن تجد المساحة الكافية لنشر صور المسئولين لإكساب التصريحات العنترية بعض الشرعية لما تحويه من شبهة التدليس!.. حيث فقدنا الإحساس بالوقت ولم نعلم أنه قد مر أكثر من نصف قرن على سكك حديد مصر دون تطوير يذكر وأخيرا تذكرنا ذلك بصدمة! وكأنه قد كتب القدر علينا ألا نفيق من الثبات إلا بكارثة!.. لكن ما علينا...
لما أصبح الربع جنيه عملة معدنية وتم ثقبه فلماذا لايحذو حذوه الجنيه فيرتدى الزي المعدني تمهيدا لثقبه هو الآخر فيخرج علينا أحد المطربين الذين امتلأت بهم الساحة ويقلدون القرود فى حركاتهم بأغنية جديدة "إحنا اللى خرمنا الجنيه!.. إيــــــــه!!!"..
عندما وعينا على الحياة أيام المليم والتعريفة والقرش والنص فرنك كان أول من تم ثقبه على ماأذكر هو التعريفه وكان شكله يتسم بالفن الجميل الذى يوحى بالعز والرفاهية وكان له ثقله حتى أنك لا تخشى على تسربه من جيبك لأنه يستقر تماما فى ثنايا القماش! وكانت بعض الأسر فى الريف تمرر فيه (فتلة) لتعلقه فى رقاب الصبية كتميمة وحرز لحماية الولد من الحسد من أجل أن يعيش ولايلتهمه وباء الكوليرا الذى كان يحصد المصريين فى الزمن الغابر لأن لكل زمن وباء! فوباء زماننا الآن هو حوادث القطارات والسيارات التى تحصد الأرواح عفانا الله وإياكم.. وكان بقال القرية وبقال الأحياء الشعبية يقوم بتجميل (البنك) الخشبى فى مقدمة الدكان بدق مجموعة من عملة التعريفه بالمسامير بشكل ظاهر على بنكه الخشبى تيمنا بهذه العملة!.. أما المليم والذى لا يعرفه هذا الجيل فقد كان أصغر أخواته المعدنية من حيث القيمة لكنه كان يتفوق على إخوته من حيث الحجم مما يؤكد أن القوة ليست بقياس الحجم وهاهي إسرائيل بحجمها الضئيل يخشاها حكام العالم وعلى رأسهم الكراسى العربية.. أما لون المليم فكان يتميز بلونه البرونزى الجميل يذكرك بآخر مرة كنت تختلس النظر من خلف نظارتك إلى فتاة بالبكينى تمرح على الشاطئ وقد أكسبت الشمس بشرتها بلون المليم لذلك فقد رفض المليم تماما حكاية التخريم هذه وظل يجاور الجنيه فى دفاتر التجار والمحاسبين وفواتير الكهرباء والتليفون إلى أن قضى عليه الغلاء بوحشية!
ولعشق المصريين للتعريفة ابتدعوا النشيد السالف الذكر "إحنا اللى خرمنا التعريفة"! لكن مع مرور الوقت وزيادة الأسعار لم يعد التعريفه قادرا على الصمود فى الأسواق الملتهبه فرحل عنا وانسحب وترك الساحة للربع جنيه المخروم الذى باع جلده الورقى وانسلخ من ثوبه وتحول إلى مسخة مخرومة يستخدمها البعض أحيانا كوردة للمسمار!.. وربما استمرأ المصريون عملية التخريم هذه حتى أدخلها مؤلفوا الأغانى فى أشعارهم "كوز المحبة (اتخرم) وعايز له بنطة لحام!" فربما تصبح هذه الأشعار يوما ما من الفلكلور الشعبى!.. لذا لانستبعد أبدا أن يقوم المصريون بتخريم الجنيه إما عن دراسة لحالة السوق وأن الربع جنيه المخروم لم يملأ فراغ التعريفة أو لأن الجنيه يستغيث بالحكومة لكى يقوموا بثقبه حتى يبتعد عن دائرة الذل أمام العملات الأخرى والمسماة (الحرة) كما أن المصريين أنفسهم قد اشتركوا فى بهدلة الجنيه بالتعامل معه بشكل غير حضارى فيتناولونه بالثنى و(الكرمشة) والتمزيق ولم يعد يفلح الشريط اللاصق لمعالجته بل أصبح الجنيه المسكين يحتاج أحيانا لجبيره تستر عظمه وتفرد طوله مثل الدولار الذى يقولون عليه عملة صعبة ربما لأنها صعبة المنال أو (يصعب) على المصريين تناوله بالاستخفاف والبهدلة ولايضعه بائع الخضار فى (الشكارة)!.. ولايكتب عليه (واحد أهبل) إسمه وعنوانه استعطافا لبنت الجيران!
وفى هذا المجال لنا اقتراح أرجو أن يوافق عليه (الجنيه) حتى نحفظ له ماء وجهه خاصة وأن حجمه يوحى بالإستهتار ولايرقى مطلقا لحجم وشكل الريال الفضى الذى انقرض هو الآخر!..
أولا: نقوم بإلغاء عملة الخمسة قروش (الشلن) حيث أصبح شكل الخمسة قروش مثل زرار القميص! ونلغى أيضا عملة العشرة قروش (البريزة) حتى لايختلط على الجمهور الأمر بعد أن أطلق الحرفيون على الخمسة جنيهات لفظ (الشلن) وعلى العشرة جنيهات لفظ (البريزة) فقد كان لهم بعد نظر وفكر ثاقب غاب عن جهابذة الإقتصاد! ونستبدل بدلا من عملتى الشلن والبريزة المعدنية عملة نطلق عليها (مليم) لاستعادة ذكراه!
ثانيا: إلغاء العملة الورقية ذات الربع جنيه ونكتفى بالعملة المعدنية له على أن نكتب عليها (خمسة مليمات) مثل التعريفة.. وإلغاء العملة الورقية ذات النصف جنيه والمكتوب عليها (خمسون قرشا) فقد فات على الحكومة أن القرش قد انقرض ولايجب أن ننسب شيئا معلوما لآخر مجهولا!.. ونستحدث بدلا من (النصف جنيه) عملة معدنية نكتب عليها (عشرة مليمات) فتكون هى القرش!
ثالثا: تخليدا لذكرى الجنيه يتم إلغاء عملة الخمسين جنيه والمائة جنيه ويتم استبدال عملة المائة جنيه بعملة ورقية جديدة (لها نفس القيمة الشرائية) ونكتب عليها (جنيه واحد)! لسبب له وجاهته أن ما كان يشترى بجنيه منذ ثلاثين عاما نشتريه الآن بمائة جنيه!.. وبهذا نستطيع أن نفخر نحن المصريون بأن الجنيه فى سوق العملة أكثر من الجنيه الإسترلينى! ويعود رجال المال من محاسبين ومراجعين إلى الزمن الجميل فيكتبون فى صدر صفحات دفاتر المحاسبة (دفتر اليومية ودفتر الأستاذ) المصطلحات الرائعة (مليم... جنيه)!..
ليس هذا ردة للماضى لكنها محاولة لإنقاذ الجنيه من السقوط حيث:
كان الجنيه بالذهب وخمسة تعريفه
والنهــارده: مايسـاوى حتى تعريفه!!
المصدر /مجلة أبناء مصر
تعليق