((رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ
وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))[إبراهيم:37]
وهــو مـرتـكــز دعـوي يـوضــح أهمـيـة استشعار عمق جذور هذه الدعوة وبعدها التاريخي السحيق، ومعنى أن المسلم يردد في صلـواتـــه الخمس، ويؤكد على هذه الصلة القوية بين حلقات الدعوة : (اللهم صلِّ على محمد، وعـلـى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلـى آل مـحـمــد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)(1).
ويـفـخـــر المسلم بأنه حلقة في سلسلة الخير؛ وذلك عندما يطّلع على ما ورد في معنى "آل محمد"، (قيل : هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني عبد المطلب، وقيل : هم ذريـتـه وأزواجــــــه، وقيل : هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة، وقيل : هم المتقون من أمته)(2).
علامة النضج :
تنمية روح الارتباط بالفـكـرة: عـندما نستمر في قراءة التاريخ، من خلال سيرة تلك العائلة المباركة، ونتذكر كيف أن إبراهيم عليه السلام امتثل لأمر الله -عز وجل- ووحيه، وأخذ وحيده إسماعيل عليه السلام وزوجـتـه هاجر وذهب بهما إلى مكة، (وكانت مكة يومئذ لا نبت فيها ولا ماء)، وأنزلهما بمكة في موضع زمزم، ومضى لا يلوي على شيء. ودعا دعاءه الخاشع الراضي، وانصرف إلى أهله بالـشــــام، وترك هاجر وولدها الذي طالما دعا الله - سبحانه - أن يرزقه به. كم كانت تضحية كـبـيـرة! أبَعْدَ أن يُرزق الولد، ويراه بين يديه، وتقر عينه برؤيته، يُحرم منه وهو حي يرزق؟! والأعـجــــب من هذا أن يحرم منه طائعاً مختاراً نزولاً على أمر الله - عز وجل((3).
من خلال هذه اللمحة التاريخية ندرك أن تلك العقبة أو الخطــوة الابتلائية في حياة أبي الأنبياء عليه السلام تمثل معلماً في طريق الدعاة، ولنا أن نسمـيـه ما شئنا : نسميه ابتلاء، نسميه تضحية، ولكن الأهم من ذلك أنه يمثل قمة النضج في حياة الإنسان عندما يصل إلى مرحلة الترتيب الصحيح لأولوياته، فتصبح الفكرة مقدمة على أي أمر أو مصلحة أو ارتباط آخر في حياته.
فإذا كان الطفل يمر بمراحـل اجتماعية نفسية ثلاث هي : مرحلة التمحور حول الأشياء، ثـم مـرحـلــة الـتـمـحـــور حول الأشخاص، ثم مرحلة التمحور حول الأفـكـار. فـكـذلـك المجتمعات، تمر بالمراحل نفسها في تطورها الحضاري (4). فنحن نؤكد أن ذلك واقع أيضاً في حياة الداعية، وأن تـطــــوره الـتـربوي والدعوي يمر بالمراحل نفسها! حيث يبلغ قمة النضج، عندما يصبح تمحوره حول الفـكـرة التي يؤمن بها، والمبدأ الذي يحمله، ويتعدى مرحلة التأثر والتمحور حول الوسائل والأشـيـاء والـمـاديـات، ومـرحـلـــة التمحور حول الأشخاص.
وتأمل تلك التضحية في سبيل الفكرة التي لا تمثل قمة النضج فقط، بل إن الموت في سبيلها كان من أعظم صور النصر، وذلك بانتصار الفكرة، حين مات الغلام على يد الساحر؛ كما جاء في قصة )الغلام والراهب((5). وتدبر مغزى هذا التوجيه الرباني، لخـيـر الأجـيــال، حينما أصابهم الخور عندما سرت إشاعة مقتله -صلى الله عليه وسلم- أثناء محنة أُحـُد؛ وذلك حتى يرتبطوا بالفكرة لا بالشخص ولو كان خير من وطئ الحصى -صلى الله عليـه وسـلــم- : ((ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ومَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ))[آل عمران : 144].
وتدبر أيـضــاً سنة الله - عز وجل - في هذا القانون الشاق، (قانون الخروج)، أو المرحلة التي لا بد منها، في طريق أصحاب الدعوات، والذي لفت إليه نظر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عــن طريق ورقة بن نوفل، في أول خطواته الدعوية، عندما )قال : يا ليتني فيها جذعاً - أي شاباً جلداً - إذ يخرجك قومك، قال : أو مخرجي هم؟! قال : لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي((6).
وتدبر كذلك قصة يوسف عليه السلام وما تمثله من نموذج للخروج والابتلاء قبل التمكين، ومغزى نزولها في الفترة الحرجة من عمر الدعوة بين عام الحزن، وبين بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، التي جـعـل فيهما الفرج والمخرج لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللعصبة المؤمنة معه وللدعوة الإسلامية، بالخروج والهجرة إلى المدينة.
وهو المعلم التربوي العظيم، الذي يوضح أن الداعية لا بد أن يعيد ترتيب أولوياته، ويدرك أن قمة النضج الدعوي، في حياة الدعاة، وأصحاب المبادئ، لا تكون إلا بالتطور والخروج بمعناه الراحب اللاحب، الـخروج من أسر الوسائل والأشياء والماديات، ومن التأثر بالشخصيات، إلى التمحور حول الفكرة التي يؤمن بها والمبدأ الذي يحمله.
اعقلها... وتوكل :
علامة توازن الحركة الدعوية : عندما صدع إبراهيم عليه السلام بأمر ربه، وترك هاجر ووحيدها، ومضى بعد أن وضع عندهما جراباً - وهو الوعاء الذي يحفظ فيه الزاد ونحوه فيه تمر، وسقاء : وهو القربة الصغيرة فيها ماء - فكانت هاجر تأكل التمر، وتشرب الماء، وترضع وليدها.
وهذا السلوك العظيم في حياة الأنبياء والدعاة على مر التاريخ يوضح أن خلق التوكل على الله - عز وجل لا ينافي مبدأ الأخذ بالأسباب.
وتدبر خطة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم، حينما هاجر من المدينة، وكيف أخذ كل الأسباب. وكذلك كان ديـدنـه -صلى الله عليه وسلم- في كل غزواته؛ بل وفي كل أموره.
وضوابط التوكل عليه - سبحانه - وأهمها الأخذ بالأسباب، هذه الضوابط وردت في أكثر من وصية عنه -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث : )جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله! أعقلها وأتـوكــل، أو أطـلـقـهـا وأتوكل؟ قال : )اعقلها وتوكل((7).
وهـــذا المعلم الدعوي، أو الركيزة التربوية، توضح أهمية وجود التوازن في حركة الأفراد الدعويـة، بين جناحي الحركة الإيجابية، وهما : الأخذ بالأسباب الشرعية، ثم التوكل عليه - سبحانه .
منارة... لا تنطفئ :
الثبات على الحق : عندما مضى الخليل عليه السلام قافلاً إلى الشام بعد أن ترك هاجر لوليدها، )فتبعته أم إسماعيل، فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها !!، فقالت : آلله الذي أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت((8).
تدبر هــــذا الموقف العصيب، وتلك التجربة المريرة، في حياة تلك الأسرة المؤمنة المباركة، وتدبر هـذه الزوجة البارة الصالحة الممتحنة، وهي تتعقب زوجها، وتصف له الوادي. وتدبر مغزى هذا الوصف لحالها : )فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها !!
ولـعـــــل وصف الحديث لعظمة هذا الموقف، ليس فقط في استجابة وامتثال الخليل عليه السلام لوحيه - سبحانه -، بل في بلوغه هذه القمة الشامخة في الثبات على الحق، رغم رجاء زوجته، مراراً. حقاً ((إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً))[النحل : 120].
وهذا الثبات، هو المعلم الدعوي البارز، والمنارة التي لا تنطفئ، تلك المنارة التي يشعلها السابقون للاحقين، على طريق الدعوة. وهو الإرث العظيم الذي يفخر به الأبناء السائرون على طريق الآباء والأجداد الهادين المهتدين، أولئك الرجال الصادقون الثابتون، الذين لم يبدلوا، إذ ((صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً))[الأحزاب :23].
عودة راضية... وانطلاق مطمئن :
أهمية وجــــود البيت المسلم : وفي موقف هاجر وهي تتبع زوجها عليه السلام وتلح عليه مراراً، ثم قـنـاعـتـهــــا بما فعله الخليل عليه السلام عندما علمت أن هذا أمر من الله - سبحانه -، وقالت قولتها الخالدة(إذاً لا يضيعنا).
تدبر هذا الموقف العصـيـب : زوجة ضعيفة، ووليد أضعف، بل ووحيد أبويه، يتركان في صحراء قاحلة، في واد لـيـس فـيــــه إنس ولا شيء! ثم يكون الاطمئنان، والقناعة بكلمة واحدة من زوجها عليه السلام عندما قال: (نعم) مجيباً على سؤالها الملهوف : (آلله الذي أمرك بهذا؟).
وكم ينقص الدعاة العاملين، من تربـيـة وجـهــــد، حتى تصل أسرهم أو تتشبه بمثل تلك القمم، قبل أن ينطلقوا، كما انطلق الخليل عليه السلام؟!
فالأم عندما تعرف وظيفتها الخالدة، وتعود لتـحـمـي الجـبـهــة الداخلية، راضية قانعة، عندها وعندها فقط يمكن للأب أن ينطلق مطمئناً.
إن وجـود الأسرة المسلمة، وتلك الجبهة الداخلية الربانية، في حياة الدعاة، لهي من أهم الركائز والمعالم في طريق الدعوة.
والحركـة الـدعـويـــة هي حركة مؤسسية جماعية، تعاونية تعاضدية، الفرد فيها يندمج اندماجاً كلياً، بنفسه وأهله؛ بل وفي كل شؤونه.
وأي خلل فردي ما هو إلا علامة من علامات تضييع الثغور. فإذا ضاع ثغر، أصاب الخطر المجموع، كما يـصـيـب الـفـرد. لذا؛ فإن الخلل الفردي يسأل عنه الجميع! ويجب أن لا ينطلق الداعية خارجياً إلى مهامه الكبار قبل أن يرسي قواعد قلعته داخلياً، ويضع عليها من يحرسها عن رضى وقناعة.
الركن الشديد :
تنمية فن استطار التوفيق الالهـي : عـنـدما انطلق الخليل عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية التي بأعلى مكة في طريق منى وعـرفــات وهو الموضع الذي دخل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة وأصبح لا يرونه، استقـبــل إبراهيم عليه السلام بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الكلمات ((رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِـيُـقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))
[ إبراهيم : 37].
عندما يتأمل المسلم هذه الوقفة الإبراهيمية التربوية، بعد أن صدع بأمر ربه، وأخذ بأسباب معيشة هاجر وابنها، وبعد أن أجاب على تساؤل هاجر، وطمأنها، واقتنعت ورضيت، ثم اتجــه إلى الركن الشديد، إليه - سبحانه - معلناً أنه قد أسكن بعض أبنائه بهذا الوادي المجـــدب الـمـقـفـر المجاور لبيت الله الحرام، ذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بهـــا، وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون هذه المشقة من أجلها، ثم دعا الحق - سبحانه - أن يرقـق قـلـوب الـبـشــر ويـضــع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق أهـــــل المـكـــان الخير مع هؤلاء القادمين، ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.
والتوفيق الإلهي هو الرصيد الأهم والمعلم الرئيس لأي حركة دعوية يقع على عاتقها إقامة مشروع الأمة الحضاري، وإيراده هنا حسب تسلسل القصة.
وهو رصيد يميز أهل الحق وأصحاب الدعوات عن غيرهم مـــــن أهل الباطل، وهو الركن الشديد الذي يلوذ به كل رسول وكل داعية؛ خاصة أثناء لحظات الدعوة الحرجة، وبعد أن تنقطع كل السبل وتتهاوى في الأسناد، وبعد الاجتهاد في الأخذ بكل الأسباب. وتدبر موقفه -صلى الله عليه وسلم- وهو عائد حزين من الطائف، وهــــو يؤكد لزيد بن حارثة رضي الله عنه على أهمية هذا المعلم الأساسي والركيزة الأهم لأصحـــاب الدعوات (يا زيد! إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه)(9).
لـذا؛ فإن الداعية مطالب باستشعار فضل القوة التي أنجت إبراهيم عليه السلام من النار، وموسى عليه السلام من فرعون، ويونس عليه السلام من بطن الحوت، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- في الغار وفي بدر وأثناء محنة حنين، وعليه أن يتذكر أنهم قد نجوا بالدعاء وطـلـب الـعــون مـنـــه - سبحانه - بعد الأخذ بالأسباب؛ وذلك حتى يكتمل تجردهم وخلوصهم من الركون إلى أي سبب دونه - جل وعلا- .
فلا يصح للداعية أن تـكــون نظرته للأحداث محدودة المدى وقاصرة التفسير، فأقداره - سبحانه - دائمة الأحداث، ودائمة الحركة، ((لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً)) [الطلاق:1]، والوجود كله من طبيعته التغير والتبدل، حسب (سنة التداول الإلهية) التي كان لها الأثر الطيب على النفوس المؤمنة التي خرجت لتوها من المحنة العظيمة والمصيبة الكبرى في أحد ((وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))[آل عمران :140].
والمؤمن دوماً يحدوه منهج الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه - في التعامل مع أقداره - سبحانه - عندما سئل : ما تشتهي؟ قال : ما يقضي الله - عز وجل .
ويغمره حسن الظن بربه، كـمـا وجهه الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله - عز وجل - في الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث ذكرني)(10).
وكذلك كان الخطاب القرآني واضحاً وصريحاً للمؤمنين، ليوجههم إلى حسن الظن بأقداره - سبحانه - فهي دوماً إلى خير ويسر (( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)) [الطلاق :7].
لكل ثغرة... سامري :
الدور التفقدي للقيادة والمتابعة المستمرة : وتذكر تلك اللمحة التاريخية أن الخليل عليه السلام استأذن سارة أن يذهب لزيارة هاجر وإسماعيل عليه السلام فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فركب البراق، وتوجه نحو مكة، وقصد المكان الذي تركهما فيه، فوجد هاجر قد ماتت، ولم يجد إسماعيل عليه السلام فسأل امرأته عنه وعن أحوالهم، فأخبرته أن زوجها خرج للرزق، وشكت له سوء الحال، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام وأن يغير عتبة بابه، ففهم الابن أن والده قد زاره ويأمره أن يطلق زوجته ففعل، وفي الزيارة الثانية قابلته الزوجة الثانية بترحاب وأدب، ولم تشك سوء الحال، وأثنت على الله -سبحانه- وأحـسـنـت إلـى الأب، فـأخـبـرهــا أن تقرئ زوجها السلام، وتخبره أن عتبة بابـه قــد استقامت، ففهم الابن رسالة الوالد، وأنــه طمأنه على حاله وعلى أهله. من هذه اللمحة التربوية الإبراهيمية، ندرك أهمية الدور التفقدي الاجتماعي للأب، حيال أسرته، رغم بعد المسافات، ويتبين مدى الرقي في سلوك الخليل عليه السلام وهو يراعي شعور زوجته سارة، وهو يستأذنها، ويراعي الطبيعة البشـريـة، وغريزة الغيرة، ولم يمنعه ذلك من أن يتفقد باقي أحوال الأسرة الطيبة المباركة - عليهم السلام - جميعاً.
ونحن نتجاوز هذا المعنى القريب، إلى المجال الأوســـع، إلـى مــا يهمنا في هذا البحث المتواضع، وهو مدى أهمية الدور التفقدي للقيادة لكل الأفراد، وأن لا تحابي أحداً على حساب أحد.
ويتبين مدى أهمية المتابعة لكل الأفراد، ولو كان في ذلك مشقة، حتى ولو كان هناك من الأمور العظيمة، التي تشغلها؛ فالتوازن بين الواجبات مطلوب.
ولـقــد كــان هذا الدور من الأركان البارزة في سيرته -صلى الله عليه وسلم- ومـنـهـجــه التربوي، سواء في المجال الاجتماعي الحياتي، أو في المجال العسكري.
وتدبر موقفه عندما زوج -صلى الله عليه وسلم- جليبيباً الأنصاري من إحدى بنات بني الحارث بن الخزرج - رضي الله عنهم - دعا لزوجه دعاء طيباً (اللهم صب عليها الخير صباً صباً ولا تجعل عيشها كداً كداً). ثم افتقده في إحدى المغازي له فقال(هل تفقدون من أحد؟ قـالـــوا : نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ونفقد فلاناً. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا : نفقد فلاناً ونـفـقــد فـلانـــاً. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا : لا. قال : لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه في القـتلى. فـنـظــروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : هـــذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنــا مـنـه. فوضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ساعديه ثم حفروا له، وما له سرير إلا ســاعدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى وضعه في قبره. قال ثابت : فما في الأنصار أيم أنفق منها)(11).
هذا الدور القيادي من الخطورة بمكان؛ ليس على الأفراد المعنيين فقط، بل على المجموع.
وتدبر هذه الحادثة المشهورة التي حدثت أثناء الاسـتـعــداد لغزوة (تبوك)، حيث حكى كعب بن مالك -رضوان الله عليه - عن هذه القاصمة قائلا(ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثير ولا يجمعهم كتاب حافــظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب : فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى بــــه ما لم ينزل فيه وحي من الله) (12) فتأمل هذا الموقف الذي شعر به هذا الصحابي الجلـيـل : فالعدد كثير، وليس هناك كتاب، مما يشعر المرء بأنه ليس هناك من يلاحظ تغيبه، ويـتـابـعــه، ولكن وجود المربي الواعي المتفقد كان العاصمة التي قال عنها كعب رضي الله عنه (ولـم يـذكـرنـي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال - وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟) (13).
لـهــــذا لم يـعـبـث الـمـبـطـلون بتركته -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتعرض قومه لغواية الشياطين، ولم يجد الـسـامـريـون أي ثغرة ليدخلوا منها إلى الصف، كما حدث مع موسى عليه السلام.
وعلى الداعية، أن يحذر السامريين، فيهتم بالتوازن بين الواجبات الملقاة على عاتقه،نحو دعـوتــــه وأهله ونفسه، فلا ينشغل بجانب على حساب الآخر، لأن كل واجب إنما هو ثغرة، ولـكــل ثـغــــــرة سامري يتربص بها إذا انشغل أو غاب عنها، ولم تشفع له نيته الحسنة، ولا سمو المهمة التي شغلته عنها، أن يضع نفسه في موقف المؤاخذة والحساب.
الشرط النوعي... الرواحل :
من فقه المرحلة... اختيار افرادها: قد طلب الخليل من إسماعيل - عليهما السلام - في زيارته التفقدية الأولى أن يطلق زوجته الأولى، وطلب منه أن يبقي معه زوجته الثانية في زيارته الثانية.
من خــلال هــذه الصفـحـــة الناصعة من سيرة تلك الأسرة المباركة، يتبين لنا عدة ملامح تربوية: منها مدى العلاقة الـقــويـــــة بين أفراد تلك الأسرة المباركة، ومنها مدى الحب والود والرعاية التي يكنها الوالد لولـــده، ومدى الاحترام والطاعة من الابن تجاه الأب، وعظم مقدار الثقة المتبادلة بين الوالد وولده.
وكذلك نتبين الملمح التربوي العظيم، وهو أن هذه الأسرة مقبلة على مرحلة عظيمة تتطلب نوعية معينة من الأفراد، للقيام بها والمشاركة في صنعها، وتحمل أعبائها.
وعندما يدرك الداعية عظم المهمة الملقاة على عاتقه، عليه أولاً وقبل أن يرفع يديه بالدعاء العظيم (( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِــنـَـــا وذُرِّيَّــاتِـنَـــــا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً)) [الفرقان:74]، عليه أن يدرك خطورة الاختيار، اخـتـيـــار المشاركين معه المهمة الإمامة والقيادة للبشر، فيدقق في اختيار من ستشاركه الطريق، بل ويدرك مسؤوليته في اختيار من سيشاركن ذريته مسؤولية أن يكونوا للمتقين إماماً، ويرى كما )رأى إبراهيم عليه السلام أن هذه المرأة لا تصلح أن تكون زوجة لنبي رسول يُعد لأن يـســود ويقود ويربي أهله وأولاده والناس من حوله، فالزوجة التي تطيل الشكوى، وتكثر الـتـبـرم لا يمكنها أن تكون عوناً لزوجها على المهمات الكبار التي يُعد لها((14).
أمــــا بالنسـبـة للمجال الدعوي، فهي القضية نفسها بالنسبة للداعية، فإذا أدرك مهمته والدور الملقى عـلـى عاتقه، فإن من فقه الطريق أن يهتم ببناء العلاقة القوية داخل الصف التي لا تقوم حتى يدرك كل فرد دوره المطلوب، ثم يؤديه بفاعلية ورغبة، وهذا بدوره لا يتم حتى تشيع روح البذل والعطاء الذي يرويه وينميه ماء الثقة بين الأفراد.
ومن فقه المرحلية: أولاً : أن يركز على (الشرط النوعي)، بأن يدقق في اختيار نوعية أفراد كل مرحلة، ورجــــــال كل مهمة، أولئك الرجال الذين يكثرون عند المغرم، ويقلون عند المغنم، أولئك الرجال الذين يطمعون في إنجاز معالي الأمور، )وهم الذين يبحث عنهم عمر بن الخطاب رضي الله عـنــه حين قال لجلسائه : تمنوا! فتمنى كل واحد أمنيته، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ولكني أتمنى بيتاً مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة؛ إن سالماً كان شديداً في ذات الله ولو لم يخف الله ما أطاعه((15).
نعم لا بد من الرجال، فمن اسـتـعـــــان بصغار رجاله على كبار أعماله ضيع العمل(16)، فالأعمال الكبار يطلب لها كبار الرجال. قال رجل لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : أتيتك في حاجة صغيرة، قال : فاطلب لها رجلاً صغيراً "(17) (18).
فالطريق طويل، والسفر موحش، والكـيـد الشـيـطـاني منظم ومركب، ولا يطيق التحدي إلا الرواحل، تلك النوعية المنشودة، والعملة النادرة،(إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)(19).
إيجابية منضبطة :
المؤمنون سـتـار لـقـدر الله (( وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُــلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَـهِـيـمَــةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ))[الحج:26-29].
بتوجيه منه - سبحانه - وبإعانة وتوفيق إلهي كانت البداية، وكان التكليف، بأن ينشأ هذا البيت على يد إبراهيم عليه السلام، حيث عرَّفه الحق - سبحانه - مكانه، كما ورد في بعض الروايات عن طـريـــق جبريل عليه السلام وملكه أمره ليقيمه على أساس قاعدة التوحيد، فيكون خالصاً له - سبحانه - وحده، وأن يجهزه تجهيزاً خاصاً، بأن يطهره من الشرك، وأن يجعله للناس جـمـيـعـــــاً، لكل الناس، سواء المقيم فيه والطارئ عليه، فيخصص للطائفين به والقائمين لله فيه.
ثم أمره بعد ذلك أن ينادي في الناس بالحج وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيد، مشاة على أرجلهم، وركوباً على كل بعير مهرول من بعد المشقة.
وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوي إليه، تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام.
ونستطيع أن نستشف هذا التفاعل من الآتي : أنه - سبحانه - أوحى إلى إبراهيم عليه السلام أن يسكن ذريته في هذا المكان القريب من البيت الحرام بالذات، فقام الخليل عليه السلام بنقل هاجر وابنها بجهده البشري.
ثم أراد الحق - سبحانه - أن يعمر هذا المكان بالبشر فكان جهاد هاجر من أجل الماء، ثم تفجر ماء زمزم.
ثم أراد الحق - جل وعلا - أن يُعد هذه الأسرة لمهمة عظيمة، يتوارث آثارها الأجيال، فكان تفقد إبراهيم عليه السلام لأسرته، وأمره ولده أن يعيد اختيار الزوجة التي ستشاركهم، هذا العمل الكبير.
ثم أراد - سبحانه - أن يُبنى البيت، فدل إبراهيم عليه السلام على مكانه، فقام الخليل وإسماعيل - عليهما السلام - بالبناء.
وعندما أراد الحق - سبحانه - إعمار هذا البيت أمر إبراهيم عليه السلام أن يقوم بدوره فيؤذن، وينادي في الناس، ويدعوهم. ووعده الحق - سبحانه - أن الناس من كل مكان وفي كل عصر سيلبون ذلك النداء الجليل. لذا يتبين لنا أن إرادة الله - عز وجل - لتحقيق عمل ما تقوم على دعامتين أساسيتين ومتلازمتين :
1- المدد الإلهي.
2- الجهد البشري.
لأن (الله - سبحانه - يساعد من يجاهد للهدى (( والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت : 69]، وأنه يغيير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد : 11]،، وأن هناك علاقة بين الجهد البشري الذي يبذله الناس، وعون الله ومدده الذي يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من الخير والصلاح والفلاح، وأن إرادة الله هي الفاعلة في النهاية، وبدونها لا يبلغ الإنسان بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها ويجاهد في الله ليبلغ رضاه. وقدر الله - مع هذا كله - هو الذي يحيط بالناس والأحداث، وهو الذي يتم وفقه ما يتم من ابتلاء، ومن خير يصيبه الناجحون في هذا الابتلاء)(20).
فتدبر دور قدر الله - سبحانه - في ناموس التغيير التاريخي، والتحول الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر؛ بل يضبط حركته الإيجابية، فيتوافق ويتناغم معه.
ركيزة التجميع :
الاهتمام بدور الإرادة الربانية : لقد أمر الحق - سبحانه - الخليل عليه السلام أن يحدد الغاية المرادة من إقامة هذا البيت (( أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))[الحج : 26]، ((وعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة : 125].
أي أن يقوم هذا العمل العظيم الخالد على التوحيد الخالص، فيبنى البيت الحرام على اسمه - تعالى - وحده، وأن يُطهر من الشرك بلا إله إلا الله، ويكون خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، أولئك الذين يأتون من غربة، والمقيمون فيه، والمصلون.
من هذه اللمحة التاريخية، نعلم أن القضية العظيمة التي أرادها الحق - سبحانه - وذلك بعد أن بين مكان البيت باعتبارها نقطة انطلاق هي توحيده - سبحانه- ..
فالتوحيد هو الأمر الرباني، الذي من شأنه أن يجمع البشر، كل البشر، ويوحد الناس، كل الناس.
كانت البداية هي أن تنبعث تلك الفكرة العظيمة، من قلب رجل عظيم، فيتحرك بها، ويحرك بها غيره.
وهذه هي سنة الله - عز وجل - في نشوء الأعمال العظيمة، بل وفي بناء الحضارات الإنسانية.
وهو دور الفكرة، والمنهج في التغيير الحضاري، وناموس الحركة التاريخية.
فالأفكار لها أهميتها، ووظيفتها الحتمية في بناء الحضارة الإنسانية.
وذلك لأن )أيــة أمة من الأمم لا بد أن تنطلق في دربها الحضاري من مجموعة من الأفكار، وسلوك الأفراد فـي مجـتـمـــع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا السبب نجد أن المجتمعات تسمو وتنمو أو تنحط أو تبيد تبعاً لطبيعة الأفكار التي يعتنقها أبناؤها، والـفـكـــــرة لا بد لها - لكي تفعل فعلها - من جهد بشري مكافئ يترجمها إلى فعل. ولا بد من عامــــل ثالث مكمل لهما، وهو أن تكون الفكرة قابلة للتنفيذ العملي، أي أن تكون موافقة لسنة أو قانــون مـن الـسـنـن الـتي فـطـــر الله عـلـيـهـا أمور الخلق((21).
الهوامش :
(1) أخرجه مسلم في الصلاة (406).
(2) فقه السنة : سيد سابق، طبعة دار الكتاب العربي، 1 /153.
(3) نظرات في أحسن القصص : د. محمد السيد الوكيل، 1/185 - 186 بتصرف.
(4) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي : مالك بن نبي طبعة دار الفكر، 26 - 40 بتصرف.
(5) في الحديث الذي رواه مسلم /ح./3005، وأحمد (23413)، والترمذي (3340).
(6) نور اليقين في سيرة خير المرسلين : الخضري 27 - 28 بتصرف.
(7) رواه الترمذي، ح./ 2517 عن أنس وسنده حسن.
(8) رواه البخاري، ح. /3364.
(9) زاد المعاد، ابن القيم، 3/33.
(10) البخاري، ح./ 7405، ومسلم، ح./2675.
(11) صفوة الصفوة : ابن الجوزي : 1 /310 - 311.
(12، 13) البخاري، ح. / 4418.
(14) صحيح القصص النبوي : د. عمر الأشقر طبعة دار النفائس، 46.
(15) تهذيب رجال دمشق : ابن عساكر، 8/164.
(16) رسائل الثعالبي : الثعالبي، 81.
(17) بهجة المجالس وأنس المجالس، 1 /321.
(18) القيادة : جاسم المهلهل، 16.
(19) صحيح البخاري، 8/ 130.
(20) هذا الدين : سيد قطب، 64 - 65 بتصرف.
(21) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د. أحمد محمد كنعان، 31 32 بتصرف.
في الحلقة الأولى وقف الكاتب مع قـصـة إبراهيم - عليه السلام - وأحداثها سواءً مع ابنه وزوجه أو أبيه وقومه؛ يقتبس الدرس تلو الدرس، والعظة بعد العظة مفصلاً الكلام مع كل وقفة. وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب باقي الوقفات.
-البيان-
الشرط الكمي... الجماعية:
تنمية روح الجماعية: عندما جاء إبراهيم عليه السلام في المرة الثالثة يزور ابنه، ويستطلع أحواله، وجده هذه المرة في الديار جالساً يبري نبله تحـت تلك الدوحة التي تركه تحتها صغيراً عندما جاء به أول مرة لتلك الديار، فقام إسماعـيـل عليه السلام فـصـنـعا ما يصنع الوالد بــالـولــــد والولد بالوالد من التسليم والمعانقة والتقبيل ونحو ذلك، ثــم قال إبراهيم عـلـيـه الـسـلام: (يــا إســمـاعيل إن الله أمرني بأمر!! قال: فاصنع ما أمركَ ربُكَ. قال: وتـعـيـنـنـي؟ قال: وأعينُكَ. قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ها هنا ـ وأشار إلى أكمةٍ(1) مـرتـفـعــةٍ على مـــا حـولـهــا ـ فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهـيـــم يـبـني، حتى إذا ارتفع البناء، جاءَ بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني ـ أثناء البناء، وهو مقام إبراهيم الآن ـ وإسمـــاعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنـتَ الـسَّـمِـيـــعُ العَلِيمُ)). [ البقرة: 127](2).
من هذه الحادثــة، في تاريـخ تشـيـيد هـذا البيت، نستشعر كيف أن الخليل عليه السلام بعد أن عرّفـه الحـق ـ سبحانه ـ مكان البيت، ثم أوحى إليه ـ سبحانه ـ بأن يبنيه، ذهب إلى المكان، ثم طلب معونة ابـنـــه ـ عليـهـما السلام ـ والذي لم يتردد كالعهد به دائماً مع والده، فبادر وشاركه في بناء هذا الصرح العظيم.
وهكذا انتقل هذا الـمـشــروع العظيم إلى مرحلة جديدة، وآن لحامل تلك المهمة العظيمة أن يـنـتـقـل بـهـــا إلى أرض الواقع؛ إلى التطبيق. لقد انبعثت من قلب الخليل عليه السلام ، وبوحيٍ من الله ـ سبحانه ـ، لتترجم إلى عمل عظيم، وكان من ضروريات الحركة في مجال الـتـطـبـيـق أن تـقـوم على عمل جماعي يشارك فيه كل من يقدر عليه، وذلك بعد إعداده وإعداد أسرته لتحمل التبعات.
ومن هذه اللمحة الإبراهـيـمـيــة التربوية، يستشعر الداعية أهمية (الشرط الكمي) للمشروع الحضاري المنشود لإنقاذ الأمـــــة، أي ضــــــرورة العمل الجماعي، وأهمية انتقاء الأفراد المشاركين؛ فالتنفيذ يستلزم جماعية، والجماعية لا يقوم عليها إلا من أعد لها.
وهذا الملمح يرسم تحذيراً يربأ بالداعية عن خـطـر الفردية، ويذكره بمصير الشاة القاصية، كما حذّر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسـلــــم-: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، وإياكم والشـعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)(3).
وهو أيضاً، يرسم ويخط أملاً عظيماً، وغاية مـنـشــــودة: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)(4).
الشرط المكاني... الأرض:
أهمية وجود نقطة تجميع وانطلاق: وهـذا المرتكز الدعوي والمعلم المهم نستشعره مـن قوله ـ سـبـحـانـــــه ـ وهو يقص على أجيال حملة المنهج الإلهي في كل عصر وفي كل مكان تلك الخطوة الـمـهـمة في تاريخ هذا العمل العظيم، والمشروع الكبير: ((وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ)) [الحج: 26]، ((وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ)) [البقرة: 127].
هكذا أراد الحق ـ سـبـحـانـه ـ أن تكون الخطوة العظيمة في هذا العمل العظيم، أن يُحدد المكان المختار، وأن تُحدد له الأرض التي سيقام عليها.
فلا بد من مركز تجميع وانـطــــلاق، مركز يجتمع حوله المؤمنون بالفكرة، ويثوبون إليه، ويحتمون به. وهو في الوقت نفـســـه مركز لانطلاق الفكرة؛ فراية الخير تحتاج إلى مكان توضع عليه، ويُعرف بها.
وأي فكرة وإن كانت صحيحة وأصيلة لا بد لها من عوامل تجعلها فعالة، ولا بد لها من شروط تجعلها قابلة للتنفيذ.
وأهم هذه الشروط هو وجود الأرض التي ستترجم عليها عملياً، ثم تنطلق منها.
هكذا فهمها رائـــد الـدعاة وسيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم-؛ وكان مشروع الهجرة الكبير إلى المديــنــة، ليجعل منها ـ وذلك بعد دراسة وتخطيط ـ مرتكزاً للانطلاق، ومركزاً للإشعاع الحضاري، وأرضــاً صالحة ثابتة راسية توضع على قمتها علامة التجميع ومنارة الهدى، وتثبت فوقها راية الخير.
وعـلـى الـمـربـيـن أن يـركــزوا على أهمية هذا المَعْلم الدعوي العظيم الذي يعتبر من أخطر المنعطفات في سير الدعوة؛ لأهميته بالنسبة للفكرة ولحامليها.
ظاهرة التآكل الروحي:
تـنـمـيـة الجانـب الروحي: ورد عن الخليل عليه السلام في سياق قصة بناء البيت الحرام عديد من المواقف التي كان يداوم فيها على التوجه إليه ـ سبحانه ـ بالأدعية الطيبة التي شـهــدت لها الأحــداث بعدها بالقبول والاستجابة، منها: ((رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بــِــوَادٍ غَـيـْـرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) [ابراهيم: 37].
ومنها: ((وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ)) [البقرة: 126].
ومنها: ((وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)) [البقرة: 127 - 129].
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء وأن يعمقه في قـلـوبـهـم ومشاعرهم. إنه طلب القبول؛ هذه هي الغاية؛ فهو عمل خالص لله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول؛ والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع الدعاء.
ثـم تـأتــي الـدعــوة الـتـي تـكـشـف عن اهتمامات القلب المؤمن؛ فإن أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول، وهو الـشــعـور بنعمة الإيمان الذي دفعهما ـ عليهما السلام ـ إلى الـحـرص عـلـيـهــا في عقبهما، وإلى دعاء ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام، وهو نعمة الإيــمـان، وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم؛ لأنه هو التواب الرحيم، وألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة بأن يبعث في أهل بيته رســولاً منهم، فـاسـتـجـاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله، الوارثة لدينه. وكانت الاستجابة بعد قرون وقرون؛ إن الدعوة المستجابة تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته؛ غير أن الناس يستعجلون(5).
من هذا الملمح الـطــيـــب، يمكننا أن نتبين أهمية تلك الدعامة المهمة التي ذكرناها تحت الركيزة الثامنة التي تـدعـو إلى وجوب (تنمية فن استمطار التوفيق الإلهي)، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده وحسن الظن به ـ سبحانه ـ ولذلك فإننا نقول: إن دعائم طريق الداعية ثلاث: الفكرة الربانية، والعمل الدؤوب، والدعاء الخاشع.
إنها أسرار مباركة للدعــاء، لا يشعر بها إلا من مر بتجربة خاصة يستشعر فيها كيف أن الحق ـ سبحانه ـ يمن عـلـى عـبــــاده المتقربين إليه، المتذللين له بأنواع العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة. وبذلك يُفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب التربية الروحية.
ولـقـد كـانـت وصايا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء وآثاره القوية العظيمة تفوق الحصر، مـنـها: (لا يُغني حذرٌ من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)(6).
من هذه اللمحة التربوية، نستطيع أن نضع أيدينا على بعض الحلول التي تفيدنا في علاج ظاهرة تربوية مرضية وهي (ظاهرة الـتـآكـــل الروحي) عند الداعية، وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح؛ حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعـمـــال الـعـبد مثل التفريط في بعض الفرائض وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، كالذكر والـدعــاء والاسـتـغفـار، وتلاوة القرآن، ويـنــشــأ نـــوع من الانـفـصــام المركب: داخلياً يستشعر فيه العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه، وخارجياً يستشعر فيه قسوةً وجفاءً مع الوجود كله، فيتنكران له؛ فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي يعرفهما. وخطورة هذه الظاهرة هو أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يبني الربانيين الذين سيحملون القول الثقيل ليس إلى البشرية فقط، بل إلى الوجود كله، وتدبر مغزى هذه التوجيهات الكريــمـــة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: ((يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ(1)قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً(2)نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً(4)إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5)إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)) [المزمل: 1 - 6].
العلاقات الصحيحة:
أهمية بناء الثقة بين الأفراد: وفي تدبرنا لطبيعة العلاقات الداخلية بين أفراد هذه الأسرة المباركة الطيبة؛ وذلك من خلال قراءتنا لمواقفهم في كل مراحل بناء البيت الحرام، يمكننا ملاحظة الآتي:
1- عــلاقــة الزوج والأب بالأفــراد: وبتأملنا سيرة الخليل عليه السلام مع أسرته، نجد العلامة الواضــحـــة فيها هي بروز الدور التفقدي والراعي لهم جميعاً، دون محاباة لأحد على حساب أحد، ولــكــن مـــا يهمنا هنا هو ثقة إبراهيم عليه السلام في زوجته؛ بحيث يستأمنها على وليده ووحيده، وينطلق وكله ثقة في رعايتها له في تلك الظروف الصعبة، ثم ثقته في ولده عليه السلام عندما طــلـــب مـــنـه تغيير زوجته، ثم مشاركته في بناء البيت الحرام.
2- علاقة الزوجة بزوجها: فتدبر تلك القـنـاعـة الرفيعة، وذلك الرضى السابغ الذي ملأ قلب هاجر المؤمنة الصابرة حين تركها وولـيـدها وحيدين في الصحراء؛ وهذا لا ينشأ إلا في ذلك الجو الصحي الذي يظلل العلاقة بينها وبين زوجها؛ ذلك الجو أو البيئة التي تقطر ثقة واحتراماً.
3- علاقة الابن بوالده: في المواقف المخـتـلـفـة لإسماعيل مع والده ـ عليهما السلام ـ أثناء زيارة الخليل عليه السلام الأولى إلى أسرته في مكة، وقصده المكان الذي تركهما فيه.
فتدبر هذين الموقفين العظيمين من إسماعيل مع أبيه ـ عليهما السلام ـ وهو يطيع توجيهاته كما تصله من زوجته، وما يوحيانه في النفس مـن إكـبــار وإجلال لتلك العلاقة القدوة بين الابن وأبيه، والمبنية على الثقة والاحترام.
ثم في أثناء الزيارة الثالثة، عندما قصده والده ـ عليهما السلام ـ لإعانته على بناء البيت.
وعندما نأتي إلى قمة المحنة؛ حيث تعرضت هذ العلاقة لاختبار عظيم، عندما أمر الله ـ عز وجل ـ إبراهـيـم عألأيه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام: ((قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) [الصافات: 102].
فتدبر أيضاً هذه المبادرة إلى الطاعة بمجرد أن يأمر الــوالــــد ولــده، وذلك في كلا الموقفين العصيبين، وما كانت هذه الطاعة لولد إلا في أجواء الثقة العميقة.
ونـسـتـزيــد من سيرة القيادة العظيمة في مجال آخر، من مواقف الحبيب -صلى الله عليه وسلم- والجنود من حوله، ونستشعر مدى الثقة العظيمة المتبادلة التي كانت تظلل العلاقة بينهم، وما تؤدي إليه من حب للبذل، واستشرافٍ للعطاء، وقوةٍ في البناء.
لأنه (على قـــدر الـثـقــة المـتـبـادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب، ((فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ)) [محمد: 20، 21]، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات)(7).
ولنا أعظم مثال في ثـقـة الجندي في قيادته ما كان من موقف أبي بكر ـ رضوان الله عليه ـ عندما سعى إليه رجال يسألونه عن حادث الإسراء والمعراج، فقال قولته الخالدة: (إن كان قال ذلك فقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك. فسُمي من ذلك اليوم صديقاً)(8).
وتدبر ثقة القيادة المتبادلة، في جـنـودها وأنصارها، فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قــال: قــال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بينا راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب ـ أي هـجـم عـلـيـه ـ فـأخذ منه شاة، فطلبه الراعي ـ أي أراد إنقاذ الشاة منه ـ حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ـ أي عند الفتن حين يتركها الناس نهبة للسباع ـ، يوم ليس لها راع غيري؟!) فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)(9).
وظيفة عظيمة... وأجرٌ أعظم!
أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود: لقد أمر الحق ـ سـبـحانه ـ الخليل ا أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم؛ ووعده بالإجابة: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحج: 27]، (أي: نـــادِ في الناس بالحج داعياً لهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فُذكر أنه قـــال: يا رب كيف أبلّغ الناسَ صوتي ولا ينفذهم. فقال: نادِ وعلينا البلاغ. فقام على مـقـامـه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجّوه. فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسـمــع مــن فـي الأرحـــام والأصـــــلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك)(10).
من هذه اللمحة التاريخيـة، يـمـكـنـنـا أن نــضـع أيدينـا علـى قاعـدة ذهبيـة مـن قـواعد الدعـوة إلى الله ـ عز وجل ـ وركيزة هامة من ركائز البناء.
ونحن نضيف بها مَعْلَماً جديداً، وهو أن حَمَلَة هــــذه الفكرة الربانية العظيمة، ودعاة هذا المشروع الحضاري، قد كلفهم الحق ـ سبحانه ـ بوظيفة ووعدهم بالأجر العظيم على حسن أداء تلك الوظيفة.
أما الوظيفة: فهي هداية الناس إلى هذا المـنـهــج، وإرشادهم إلى الحق والهدى، وهو دور عظيم يقع بمجرد البلاغ: ((فَهَلْ عَلَى الــرُّسُــلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ)) [النحل: 35]، ويتضح ذلك في أمره ـ سبحانه ـ لإبراهيم عليه السلام: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)).
وأما الأجر: فهو عظيم وشامل وســابــــغ، ويمتد من الدنيا إلى الآخرة، فيبدأ من تضاعف الــثــواب : (مــن دل على خــيـر فله مثل أجر فاعله)(11) ويرقى إلى بلوغ مقام الخيرية والشهادة على الخلق؛ لأن خيرية هذه الأمة، إنما كانت بخروجها إلى الناس، والاختلاط بهم، ودعوتهم إلى الخير، ونهيهم عن الشر، وإيمانها بالله ـ سبحانه ـ: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران: 110].
ثم يصل إلى الجزاء العظيم؛ وهو النجاة في الدنيا والآخرة: ((وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ)) [ هود: 58].
وهذا الأجر يقع بمجرد الدعوة، ولا يتوقف على الاستجابة: ((فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ)) [الشورى: 48]؛ لأن أمر الهداية بيده ـ سبحانه ـ: ((إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ)) [القصص: 56].
إذن فلا حرج على الداعية ولا تثريب ولا إحباط إذا لم يثمر بلاغه، ولم يستجيبوا له: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْســَـكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً))[الكهف: 6]، وتدبر أمـــر الـحـــق ـ سـبـحانه ـ للخليل عليه السلام: (نادِ وعلينا البلاغ). أي أدّ دورك بأمثل طريقة، ودع النتائج عليه ـ سبحانه ـ.
والداعية يخرج من هــذا الملمح التربوي الفريد بسهام وافرة الغنائم حول فقه هذه الوظيفة من حيث ماهيتها ومنهجية تنفيذها والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي التكاليف وحسن تنفيذها، وحسن عــرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة استشعار خطورة بلوغ درجة البلاغ المبين للفكرة، وفهم الدور المطلوب، واستشعار عظم الأجر.
ثم ـ وهذا هو الأهم ـ اســـتـشـعـار هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر ودور المدد الرباني في تنفيذ المشروع الـحـضـاري المنشود. وهذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل للعاملين، وهي العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع المغايرة.
السنن الإلهية... وحماقة الوعل(*)!
أهمية فقه سنة المرحلية والتدرج: هكذا كان منهج التكليف يسير بتدرج ليس فيه تعسف، وبمرحلية ليس فيها تعجل، وبـخـطـة تأخذ في الاعتبار سمو الهدف، ومبلغ الإمكانيات، وكثرة المعوقات.
لقد أمر الحق ـ سبحانه ـ إبراهيم عـلـيــه الـســلام أن يُسْكن زوجه وولده في ذلك الوادي المقفر، ثم تركهم وكرر زياراته لهذا المكان لـيـتـفـقـد أحــوال أسرته المباركة المرشحة لهذا العمل والمشروع العظيم، وكانت تلك هي مرحلة الإعداد والتهيئة.
وبعد ذلك عرّفه الحق ـ سبحانه ـ مكان البيت، وسلمه له، وملكه أمره؛ فكانت هذه مرحلة إعلان نقطة الانطلاق.
ثم أمره أن يقيم البيت على أساس قاعدة التوحيد؛ فيكون خالصاً له ـ سبحانه ـ وحده، وأن يجهزه تجهيزاً خاصاً، وكانت هذه بمثابة مرحلة إعلان الفكرة العظيمة للمشروع العظيم.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الانطلاق والدعوة للفكرة العظيمة؛ حيث أمره أن ينادي في الناس بالحج، وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيدة، مشاةًَ على أرجلهم، وركوباً على كل بعير مهزول من بُعْد الشقة. وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدة من الناس تهوي إليه تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام؛ وذلك حتى يتحقق المطلوب، وتتحقق غايات هذا اللقاء السنوي العظيم.
وهكذا الشأن في أمر الأعمال الكبرى، والمشاريع الحضارية العظيمة أن تسير في مراحل، وكل مرحلة لها فقهها ولها ظروفها، وأن تتم هذه المرحلية في تدرج ومنهجية حتى تبلغ الهدف المنشود؛ وذلك؛ لأن (التدرج سنة كونية، وسنة شرعية أيضاً. ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادراً أن يقـول: كـوني فتكـون؛ ولكنه خلقها في أيام ستة مـن أيـام الله ـ تعالى ـ أي في ستة أطـوار أو أزمنة يعلمها الله. وفي هذا المعنى تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ واصفة تدرج التشريع ونزول القرآن: (إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحـرام، ولو نزل أول شـيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنـوا لقالوا: لا نـدع الخمر ولا الزنـى أبداً))(12)(13).
وقد يستعجل بعض الناس الخُطى، كما استعجل ذلك الفتى الصالح المتحمس عبد الملك بن عمـر بن عبد العزيز ـ رضوان الله عليهما ـ عندما دخل على والده مستبطئاً ومستعجباً من سياسة والده التدرجية، فقال: (يا أبت! ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟! فوالله ما كنتُ أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني! إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب ـ أي الجمل الفحل العنيد ـ إني أريدُ أن أحيي الأمـر مـن العدل فأؤخـر ذلك حتى أخـرج معه طمعاً مـن طمـع الدنيـا، فينفـروا مـن هـذه، ويسكنـوا لهـذا)(14).
حتى إذا عاوده الاستغراب كرر محاولته ودخل على أبيه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعة فلم تُمِتها، أو سنة فلم تُحْيِها؟! فقال أبـوه: رحمك الله مـن ولد خير. يا بُني! إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدة، وعروةً عروة، ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يُهراق في سببي محجمة من دم، أَوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يُميتُ فيه بدعة ويُحيي فيه سنةً؟!(15).
لهذا كان على المربين من الدعاة ألا يغفلوا هذه الركيزة، وذلك المعلم الدعوي المهم، والسنة الإلهية العظيمة، ولا يتعجلهم متعجل، ولا يستبطئهم مستبطئ.
ظاهرة بخس الناس أشياءهم:
بث روح التقدير والتشجيع: وعندما نستمر في قراءتنا لهذه الأوراق، فإنه يستوقفنا على إحدى صفحات الملف هذا المعلم القرآني الفريد: ((وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً)) [مريم: 41]، وهي دعوة قرآنية تدعو الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وكل من سار على دربه أن يستزيدوا من سيرة الخليل عليه السلام بقراءة دعوته، والاستفادة من منهجيته. وتتجاوز هذه الدعوة عمقها التربوي العظيم بهذا التقدير والتشريف الكريم؛ حيث وسمت ملف الخليل عليه السلام بختم رباني وعلامة مميزة يُعرف بها، وهي: ((إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً)) أي كثير الصدق أو كثير التصديق.
وفي موضع آخر أثناء الحديث عن الخليل عليه السلام، نعرف أحد أسباب هذا التقدير والتشريف الموحى به عن خليل الرحمن: ((وَإبْرَاهِيمَ الَذِي وَفَّى)) [النجم: 37]، قال سعيد بن جبير والثوري: أي بلّغ جميع ما أُمر به. وقال ابن عباس: ((وَفَّى)) لله البلاغ، وقال سعيد بن جبير: ((وَفَّى)) ما أمر به، وقال قتادة: ((وَفَّى)) طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله ـ تعالى ـ: ((وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً)) [البقرة: 124]، فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الـرسـالـة على التمام والكمال؛ فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يُقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله)(16).
فتدبر هذا التكريم والـتـشـريف والتقدير الإلهي للخليل عليه السلام الذي وفّى كل ما أُمـر به، وقدّم نموذجاً طيباً في البذل، وفي إنشاء مشروع حضاري متكامل.
وتــأمــلْ كـيـف أن إبراهيم عليه السلام ـ وهو من هو ـ كان في حاجة للطيفة ربانية تشعره بالتقدير لـتـاريخه الناصع، وكذلك بالامتنان على دوره الدعوي، وعلى طاعته لربه ـ جل وعــلا ـ فما بــالـك بمن هو دون تلك القمة، ويـسـكـن السفح؟! ويكون في مسيس الحاجة لكلمات تقديرية بسيطة.
من هذه اللـطـيـفـة الـربـانية الكريمة، نستشف مدى السمو والرقي الأخلاقي الذي يتعلمه الناس من هذا القرآن؛ حـيـث ورد في غـيـر موضع لمحات تربوية قرآنية كلها تحث على وجوب بث روح التقدير وتنمية خلـق التشجيـع؛ وذلك لكل مـن شارك في أي بذل، وفـي أي مجـال من شأنه أن يُسـدي خيـراً للنـاس.
وعلى هذا النهج التربوي، ومن هذا المـعــيـن الصافي نجد أن حَمَلَةَ مشعل الدعوة على مـر الـتـاريـخ الـبـشــري، ورواد مسيرة الحركة الدعوية قد خَطّوا معالم خالدة في هذا الباب، ويـقـف فـي الـمـقـدمـة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في وصيته الرائعة: (أنزِلوا الناس منازلهم)(17).
ولو تدبـرنـا الجانب الأخلاقـي في دعـوة نبـي الله شعيب عليه السلام لوجدنـاه يتمثل في قـوله - تعالى -: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ))، وهي دعوة كريمة، إلى عدم بخس أشياء الـنـاس؛ ولـو استشعرنا مغزاها التربوي البعيد لوجدناه يشمل عدم بخس أي شيء من أي نوع مثل: تقدمهم في العمر، ومكانتهم، وسبقهم الدعوي، ودورهم الريادي، وتقدير كل ما يقدمونه من خير، وكذلك تشجيعهم على أي عمل أو بذل، بل أيضاً بمدح ما يسعدهم من صفاتهم!
وخطر تجاهل هذا المعلم تربوياً من شأنه أن يؤدي إلى ظاهرة دعوية مرضية تسمى: (ظاهرة بخس أشياء الناس) والتي من أدنى مـظاهرها تجاهل أعمال الآخر، ومن أعلاها التجريح لأعماله وصــفـاتـه، ومن أبـســط آثـارها على الآخر هو الإحباط، والتثبيط، ومن أخطرها الجروح النفسية التي قد تستعصي على العلاج! ومن آثارها على صاحب هذا السلوك أنه من جهـة: يصنف نفسه مـع نوعية مذمومة سلوكياً قال عنها ـ سبحانه ـ: ((كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا)) [الأعراف: 38]، ومن جهة أخرى: أنه يظلم نفسه، ويحرمها من أن يــضــمـهـا ركب نوعية ممدوحة؛ حيث ينسى أنه (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل).
الهوامش:
(1) الأكمة: التل.
(2) رواه البخاري، ح/ 3364، وأحمد، ح/2285.
(3) رواه أحمد، ح/21524، وصححه الألباني.
(4) رواه الترمذي: جزء من حديث حسن صحيح غريب 2254، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري 6/385.
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/114 ـ 115 بتصرف.
(6) رواه أحمد، 5/234، وقال الألباني في صحيح الجامع 7739: حسن.
(7) مجموعة الرسائل ـ التعاليم، الإمام حسن البنا، 364 بتصرف.
(8) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، الخضري، طبعة دار الجيل 68.
(9) رواه مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة 2388، والترمذي ـ كتاب الفتن 9/29، وأحمد في مسنده 3/84.
(10) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/226.
(11) رواه مسلم، ح/ 1893.
(*) حماقة الوعل: إشارة إلى قول الشاعر:
كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوهنهـا فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
(12) رواه البخاري، ح/4993.
(13) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: د. يوسف القرضاوي، 104 ـ 105 بتصرف.
(14) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخلال 99.
(15) تاريخ الخلفاء: السيوطي 240.
(16) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/276.
(17) رواه أبو داود، ح/4842.
وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))[إبراهيم:37]
د.حمدي شعيب
من خلال هذه اللمحة القرآنية التاريخـيـــة يرنـو المسلم بفكره، ويتذكر تاريخ تلك العائلة المباركة، ويسمع الخليل إبراهيم عليه الســلام وهو يتجه إلى ربه معلناً أنه قد أسكن بعض أهله بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبـيت الله الحرام، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها، وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون من أجلها هذه المشقة، ثم دعا الحق سبحانه أن يرقق قلوب البشر، ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق أهل الـمـكــان الـخـيـر مع هؤلاء القادمين؛ ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.وهــو مـرتـكــز دعـوي يـوضــح أهمـيـة استشعار عمق جذور هذه الدعوة وبعدها التاريخي السحيق، ومعنى أن المسلم يردد في صلـواتـــه الخمس، ويؤكد على هذه الصلة القوية بين حلقات الدعوة : (اللهم صلِّ على محمد، وعـلـى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلـى آل مـحـمــد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)(1).
ويـفـخـــر المسلم بأنه حلقة في سلسلة الخير؛ وذلك عندما يطّلع على ما ورد في معنى "آل محمد"، (قيل : هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني عبد المطلب، وقيل : هم ذريـتـه وأزواجــــــه، وقيل : هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة، وقيل : هم المتقون من أمته)(2).
علامة النضج :
تنمية روح الارتباط بالفـكـرة: عـندما نستمر في قراءة التاريخ، من خلال سيرة تلك العائلة المباركة، ونتذكر كيف أن إبراهيم عليه السلام امتثل لأمر الله -عز وجل- ووحيه، وأخذ وحيده إسماعيل عليه السلام وزوجـتـه هاجر وذهب بهما إلى مكة، (وكانت مكة يومئذ لا نبت فيها ولا ماء)، وأنزلهما بمكة في موضع زمزم، ومضى لا يلوي على شيء. ودعا دعاءه الخاشع الراضي، وانصرف إلى أهله بالـشــــام، وترك هاجر وولدها الذي طالما دعا الله - سبحانه - أن يرزقه به. كم كانت تضحية كـبـيـرة! أبَعْدَ أن يُرزق الولد، ويراه بين يديه، وتقر عينه برؤيته، يُحرم منه وهو حي يرزق؟! والأعـجــــب من هذا أن يحرم منه طائعاً مختاراً نزولاً على أمر الله - عز وجل((3).
من خلال هذه اللمحة التاريخية ندرك أن تلك العقبة أو الخطــوة الابتلائية في حياة أبي الأنبياء عليه السلام تمثل معلماً في طريق الدعاة، ولنا أن نسمـيـه ما شئنا : نسميه ابتلاء، نسميه تضحية، ولكن الأهم من ذلك أنه يمثل قمة النضج في حياة الإنسان عندما يصل إلى مرحلة الترتيب الصحيح لأولوياته، فتصبح الفكرة مقدمة على أي أمر أو مصلحة أو ارتباط آخر في حياته.
فإذا كان الطفل يمر بمراحـل اجتماعية نفسية ثلاث هي : مرحلة التمحور حول الأشياء، ثـم مـرحـلــة الـتـمـحـــور حول الأشخاص، ثم مرحلة التمحور حول الأفـكـار. فـكـذلـك المجتمعات، تمر بالمراحل نفسها في تطورها الحضاري (4). فنحن نؤكد أن ذلك واقع أيضاً في حياة الداعية، وأن تـطــــوره الـتـربوي والدعوي يمر بالمراحل نفسها! حيث يبلغ قمة النضج، عندما يصبح تمحوره حول الفـكـرة التي يؤمن بها، والمبدأ الذي يحمله، ويتعدى مرحلة التأثر والتمحور حول الوسائل والأشـيـاء والـمـاديـات، ومـرحـلـــة التمحور حول الأشخاص.
وتأمل تلك التضحية في سبيل الفكرة التي لا تمثل قمة النضج فقط، بل إن الموت في سبيلها كان من أعظم صور النصر، وذلك بانتصار الفكرة، حين مات الغلام على يد الساحر؛ كما جاء في قصة )الغلام والراهب((5). وتدبر مغزى هذا التوجيه الرباني، لخـيـر الأجـيــال، حينما أصابهم الخور عندما سرت إشاعة مقتله -صلى الله عليه وسلم- أثناء محنة أُحـُد؛ وذلك حتى يرتبطوا بالفكرة لا بالشخص ولو كان خير من وطئ الحصى -صلى الله عليـه وسـلــم- : ((ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ومَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ))[آل عمران : 144].
وتدبر أيـضــاً سنة الله - عز وجل - في هذا القانون الشاق، (قانون الخروج)، أو المرحلة التي لا بد منها، في طريق أصحاب الدعوات، والذي لفت إليه نظر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عــن طريق ورقة بن نوفل، في أول خطواته الدعوية، عندما )قال : يا ليتني فيها جذعاً - أي شاباً جلداً - إذ يخرجك قومك، قال : أو مخرجي هم؟! قال : لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي((6).
وتدبر كذلك قصة يوسف عليه السلام وما تمثله من نموذج للخروج والابتلاء قبل التمكين، ومغزى نزولها في الفترة الحرجة من عمر الدعوة بين عام الحزن، وبين بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، التي جـعـل فيهما الفرج والمخرج لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللعصبة المؤمنة معه وللدعوة الإسلامية، بالخروج والهجرة إلى المدينة.
وهو المعلم التربوي العظيم، الذي يوضح أن الداعية لا بد أن يعيد ترتيب أولوياته، ويدرك أن قمة النضج الدعوي، في حياة الدعاة، وأصحاب المبادئ، لا تكون إلا بالتطور والخروج بمعناه الراحب اللاحب، الـخروج من أسر الوسائل والأشياء والماديات، ومن التأثر بالشخصيات، إلى التمحور حول الفكرة التي يؤمن بها والمبدأ الذي يحمله.
اعقلها... وتوكل :
علامة توازن الحركة الدعوية : عندما صدع إبراهيم عليه السلام بأمر ربه، وترك هاجر ووحيدها، ومضى بعد أن وضع عندهما جراباً - وهو الوعاء الذي يحفظ فيه الزاد ونحوه فيه تمر، وسقاء : وهو القربة الصغيرة فيها ماء - فكانت هاجر تأكل التمر، وتشرب الماء، وترضع وليدها.
وهذا السلوك العظيم في حياة الأنبياء والدعاة على مر التاريخ يوضح أن خلق التوكل على الله - عز وجل لا ينافي مبدأ الأخذ بالأسباب.
وتدبر خطة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم، حينما هاجر من المدينة، وكيف أخذ كل الأسباب. وكذلك كان ديـدنـه -صلى الله عليه وسلم- في كل غزواته؛ بل وفي كل أموره.
وضوابط التوكل عليه - سبحانه - وأهمها الأخذ بالأسباب، هذه الضوابط وردت في أكثر من وصية عنه -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث : )جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله! أعقلها وأتـوكــل، أو أطـلـقـهـا وأتوكل؟ قال : )اعقلها وتوكل((7).
وهـــذا المعلم الدعوي، أو الركيزة التربوية، توضح أهمية وجود التوازن في حركة الأفراد الدعويـة، بين جناحي الحركة الإيجابية، وهما : الأخذ بالأسباب الشرعية، ثم التوكل عليه - سبحانه .
منارة... لا تنطفئ :
الثبات على الحق : عندما مضى الخليل عليه السلام قافلاً إلى الشام بعد أن ترك هاجر لوليدها، )فتبعته أم إسماعيل، فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها !!، فقالت : آلله الذي أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت((8).
تدبر هــــذا الموقف العصيب، وتلك التجربة المريرة، في حياة تلك الأسرة المؤمنة المباركة، وتدبر هـذه الزوجة البارة الصالحة الممتحنة، وهي تتعقب زوجها، وتصف له الوادي. وتدبر مغزى هذا الوصف لحالها : )فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها !!
ولـعـــــل وصف الحديث لعظمة هذا الموقف، ليس فقط في استجابة وامتثال الخليل عليه السلام لوحيه - سبحانه -، بل في بلوغه هذه القمة الشامخة في الثبات على الحق، رغم رجاء زوجته، مراراً. حقاً ((إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً))[النحل : 120].
وهذا الثبات، هو المعلم الدعوي البارز، والمنارة التي لا تنطفئ، تلك المنارة التي يشعلها السابقون للاحقين، على طريق الدعوة. وهو الإرث العظيم الذي يفخر به الأبناء السائرون على طريق الآباء والأجداد الهادين المهتدين، أولئك الرجال الصادقون الثابتون، الذين لم يبدلوا، إذ ((صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً))[الأحزاب :23].
عودة راضية... وانطلاق مطمئن :
أهمية وجــــود البيت المسلم : وفي موقف هاجر وهي تتبع زوجها عليه السلام وتلح عليه مراراً، ثم قـنـاعـتـهــــا بما فعله الخليل عليه السلام عندما علمت أن هذا أمر من الله - سبحانه -، وقالت قولتها الخالدة(إذاً لا يضيعنا).
تدبر هذا الموقف العصـيـب : زوجة ضعيفة، ووليد أضعف، بل ووحيد أبويه، يتركان في صحراء قاحلة، في واد لـيـس فـيــــه إنس ولا شيء! ثم يكون الاطمئنان، والقناعة بكلمة واحدة من زوجها عليه السلام عندما قال: (نعم) مجيباً على سؤالها الملهوف : (آلله الذي أمرك بهذا؟).
وكم ينقص الدعاة العاملين، من تربـيـة وجـهــــد، حتى تصل أسرهم أو تتشبه بمثل تلك القمم، قبل أن ينطلقوا، كما انطلق الخليل عليه السلام؟!
فالأم عندما تعرف وظيفتها الخالدة، وتعود لتـحـمـي الجـبـهــة الداخلية، راضية قانعة، عندها وعندها فقط يمكن للأب أن ينطلق مطمئناً.
إن وجـود الأسرة المسلمة، وتلك الجبهة الداخلية الربانية، في حياة الدعاة، لهي من أهم الركائز والمعالم في طريق الدعوة.
والحركـة الـدعـويـــة هي حركة مؤسسية جماعية، تعاونية تعاضدية، الفرد فيها يندمج اندماجاً كلياً، بنفسه وأهله؛ بل وفي كل شؤونه.
وأي خلل فردي ما هو إلا علامة من علامات تضييع الثغور. فإذا ضاع ثغر، أصاب الخطر المجموع، كما يـصـيـب الـفـرد. لذا؛ فإن الخلل الفردي يسأل عنه الجميع! ويجب أن لا ينطلق الداعية خارجياً إلى مهامه الكبار قبل أن يرسي قواعد قلعته داخلياً، ويضع عليها من يحرسها عن رضى وقناعة.
الركن الشديد :
تنمية فن استطار التوفيق الالهـي : عـنـدما انطلق الخليل عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية التي بأعلى مكة في طريق منى وعـرفــات وهو الموضع الذي دخل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة وأصبح لا يرونه، استقـبــل إبراهيم عليه السلام بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الكلمات ((رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِـيُـقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))
[ إبراهيم : 37].
عندما يتأمل المسلم هذه الوقفة الإبراهيمية التربوية، بعد أن صدع بأمر ربه، وأخذ بأسباب معيشة هاجر وابنها، وبعد أن أجاب على تساؤل هاجر، وطمأنها، واقتنعت ورضيت، ثم اتجــه إلى الركن الشديد، إليه - سبحانه - معلناً أنه قد أسكن بعض أبنائه بهذا الوادي المجـــدب الـمـقـفـر المجاور لبيت الله الحرام، ذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بهـــا، وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون هذه المشقة من أجلها، ثم دعا الحق - سبحانه - أن يرقـق قـلـوب الـبـشــر ويـضــع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق أهـــــل المـكـــان الخير مع هؤلاء القادمين، ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.
والتوفيق الإلهي هو الرصيد الأهم والمعلم الرئيس لأي حركة دعوية يقع على عاتقها إقامة مشروع الأمة الحضاري، وإيراده هنا حسب تسلسل القصة.
وهو رصيد يميز أهل الحق وأصحاب الدعوات عن غيرهم مـــــن أهل الباطل، وهو الركن الشديد الذي يلوذ به كل رسول وكل داعية؛ خاصة أثناء لحظات الدعوة الحرجة، وبعد أن تنقطع كل السبل وتتهاوى في الأسناد، وبعد الاجتهاد في الأخذ بكل الأسباب. وتدبر موقفه -صلى الله عليه وسلم- وهو عائد حزين من الطائف، وهــــو يؤكد لزيد بن حارثة رضي الله عنه على أهمية هذا المعلم الأساسي والركيزة الأهم لأصحـــاب الدعوات (يا زيد! إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه)(9).
لـذا؛ فإن الداعية مطالب باستشعار فضل القوة التي أنجت إبراهيم عليه السلام من النار، وموسى عليه السلام من فرعون، ويونس عليه السلام من بطن الحوت، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- في الغار وفي بدر وأثناء محنة حنين، وعليه أن يتذكر أنهم قد نجوا بالدعاء وطـلـب الـعــون مـنـــه - سبحانه - بعد الأخذ بالأسباب؛ وذلك حتى يكتمل تجردهم وخلوصهم من الركون إلى أي سبب دونه - جل وعلا- .
فلا يصح للداعية أن تـكــون نظرته للأحداث محدودة المدى وقاصرة التفسير، فأقداره - سبحانه - دائمة الأحداث، ودائمة الحركة، ((لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً)) [الطلاق:1]، والوجود كله من طبيعته التغير والتبدل، حسب (سنة التداول الإلهية) التي كان لها الأثر الطيب على النفوس المؤمنة التي خرجت لتوها من المحنة العظيمة والمصيبة الكبرى في أحد ((وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))[آل عمران :140].
والمؤمن دوماً يحدوه منهج الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه - في التعامل مع أقداره - سبحانه - عندما سئل : ما تشتهي؟ قال : ما يقضي الله - عز وجل .
ويغمره حسن الظن بربه، كـمـا وجهه الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله - عز وجل - في الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث ذكرني)(10).
وكذلك كان الخطاب القرآني واضحاً وصريحاً للمؤمنين، ليوجههم إلى حسن الظن بأقداره - سبحانه - فهي دوماً إلى خير ويسر (( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)) [الطلاق :7].
لكل ثغرة... سامري :
الدور التفقدي للقيادة والمتابعة المستمرة : وتذكر تلك اللمحة التاريخية أن الخليل عليه السلام استأذن سارة أن يذهب لزيارة هاجر وإسماعيل عليه السلام فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فركب البراق، وتوجه نحو مكة، وقصد المكان الذي تركهما فيه، فوجد هاجر قد ماتت، ولم يجد إسماعيل عليه السلام فسأل امرأته عنه وعن أحوالهم، فأخبرته أن زوجها خرج للرزق، وشكت له سوء الحال، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام وأن يغير عتبة بابه، ففهم الابن أن والده قد زاره ويأمره أن يطلق زوجته ففعل، وفي الزيارة الثانية قابلته الزوجة الثانية بترحاب وأدب، ولم تشك سوء الحال، وأثنت على الله -سبحانه- وأحـسـنـت إلـى الأب، فـأخـبـرهــا أن تقرئ زوجها السلام، وتخبره أن عتبة بابـه قــد استقامت، ففهم الابن رسالة الوالد، وأنــه طمأنه على حاله وعلى أهله. من هذه اللمحة التربوية الإبراهيمية، ندرك أهمية الدور التفقدي الاجتماعي للأب، حيال أسرته، رغم بعد المسافات، ويتبين مدى الرقي في سلوك الخليل عليه السلام وهو يراعي شعور زوجته سارة، وهو يستأذنها، ويراعي الطبيعة البشـريـة، وغريزة الغيرة، ولم يمنعه ذلك من أن يتفقد باقي أحوال الأسرة الطيبة المباركة - عليهم السلام - جميعاً.
ونحن نتجاوز هذا المعنى القريب، إلى المجال الأوســـع، إلـى مــا يهمنا في هذا البحث المتواضع، وهو مدى أهمية الدور التفقدي للقيادة لكل الأفراد، وأن لا تحابي أحداً على حساب أحد.
ويتبين مدى أهمية المتابعة لكل الأفراد، ولو كان في ذلك مشقة، حتى ولو كان هناك من الأمور العظيمة، التي تشغلها؛ فالتوازن بين الواجبات مطلوب.
ولـقــد كــان هذا الدور من الأركان البارزة في سيرته -صلى الله عليه وسلم- ومـنـهـجــه التربوي، سواء في المجال الاجتماعي الحياتي، أو في المجال العسكري.
وتدبر موقفه عندما زوج -صلى الله عليه وسلم- جليبيباً الأنصاري من إحدى بنات بني الحارث بن الخزرج - رضي الله عنهم - دعا لزوجه دعاء طيباً (اللهم صب عليها الخير صباً صباً ولا تجعل عيشها كداً كداً). ثم افتقده في إحدى المغازي له فقال(هل تفقدون من أحد؟ قـالـــوا : نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ونفقد فلاناً. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا : نفقد فلاناً ونـفـقــد فـلانـــاً. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا : لا. قال : لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه في القـتلى. فـنـظــروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : هـــذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنــا مـنـه. فوضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ساعديه ثم حفروا له، وما له سرير إلا ســاعدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى وضعه في قبره. قال ثابت : فما في الأنصار أيم أنفق منها)(11).
هذا الدور القيادي من الخطورة بمكان؛ ليس على الأفراد المعنيين فقط، بل على المجموع.
وتدبر هذه الحادثة المشهورة التي حدثت أثناء الاسـتـعــداد لغزوة (تبوك)، حيث حكى كعب بن مالك -رضوان الله عليه - عن هذه القاصمة قائلا(ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثير ولا يجمعهم كتاب حافــظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب : فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى بــــه ما لم ينزل فيه وحي من الله) (12) فتأمل هذا الموقف الذي شعر به هذا الصحابي الجلـيـل : فالعدد كثير، وليس هناك كتاب، مما يشعر المرء بأنه ليس هناك من يلاحظ تغيبه، ويـتـابـعــه، ولكن وجود المربي الواعي المتفقد كان العاصمة التي قال عنها كعب رضي الله عنه (ولـم يـذكـرنـي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال - وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟) (13).
لـهــــذا لم يـعـبـث الـمـبـطـلون بتركته -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتعرض قومه لغواية الشياطين، ولم يجد الـسـامـريـون أي ثغرة ليدخلوا منها إلى الصف، كما حدث مع موسى عليه السلام.
وعلى الداعية، أن يحذر السامريين، فيهتم بالتوازن بين الواجبات الملقاة على عاتقه،نحو دعـوتــــه وأهله ونفسه، فلا ينشغل بجانب على حساب الآخر، لأن كل واجب إنما هو ثغرة، ولـكــل ثـغــــــرة سامري يتربص بها إذا انشغل أو غاب عنها، ولم تشفع له نيته الحسنة، ولا سمو المهمة التي شغلته عنها، أن يضع نفسه في موقف المؤاخذة والحساب.
الشرط النوعي... الرواحل :
من فقه المرحلة... اختيار افرادها: قد طلب الخليل من إسماعيل - عليهما السلام - في زيارته التفقدية الأولى أن يطلق زوجته الأولى، وطلب منه أن يبقي معه زوجته الثانية في زيارته الثانية.
من خــلال هــذه الصفـحـــة الناصعة من سيرة تلك الأسرة المباركة، يتبين لنا عدة ملامح تربوية: منها مدى العلاقة الـقــويـــــة بين أفراد تلك الأسرة المباركة، ومنها مدى الحب والود والرعاية التي يكنها الوالد لولـــده، ومدى الاحترام والطاعة من الابن تجاه الأب، وعظم مقدار الثقة المتبادلة بين الوالد وولده.
وكذلك نتبين الملمح التربوي العظيم، وهو أن هذه الأسرة مقبلة على مرحلة عظيمة تتطلب نوعية معينة من الأفراد، للقيام بها والمشاركة في صنعها، وتحمل أعبائها.
وعندما يدرك الداعية عظم المهمة الملقاة على عاتقه، عليه أولاً وقبل أن يرفع يديه بالدعاء العظيم (( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِــنـَـــا وذُرِّيَّــاتِـنَـــــا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً)) [الفرقان:74]، عليه أن يدرك خطورة الاختيار، اخـتـيـــار المشاركين معه المهمة الإمامة والقيادة للبشر، فيدقق في اختيار من ستشاركه الطريق، بل ويدرك مسؤوليته في اختيار من سيشاركن ذريته مسؤولية أن يكونوا للمتقين إماماً، ويرى كما )رأى إبراهيم عليه السلام أن هذه المرأة لا تصلح أن تكون زوجة لنبي رسول يُعد لأن يـســود ويقود ويربي أهله وأولاده والناس من حوله، فالزوجة التي تطيل الشكوى، وتكثر الـتـبـرم لا يمكنها أن تكون عوناً لزوجها على المهمات الكبار التي يُعد لها((14).
أمــــا بالنسـبـة للمجال الدعوي، فهي القضية نفسها بالنسبة للداعية، فإذا أدرك مهمته والدور الملقى عـلـى عاتقه، فإن من فقه الطريق أن يهتم ببناء العلاقة القوية داخل الصف التي لا تقوم حتى يدرك كل فرد دوره المطلوب، ثم يؤديه بفاعلية ورغبة، وهذا بدوره لا يتم حتى تشيع روح البذل والعطاء الذي يرويه وينميه ماء الثقة بين الأفراد.
ومن فقه المرحلية: أولاً : أن يركز على (الشرط النوعي)، بأن يدقق في اختيار نوعية أفراد كل مرحلة، ورجــــــال كل مهمة، أولئك الرجال الذين يكثرون عند المغرم، ويقلون عند المغنم، أولئك الرجال الذين يطمعون في إنجاز معالي الأمور، )وهم الذين يبحث عنهم عمر بن الخطاب رضي الله عـنــه حين قال لجلسائه : تمنوا! فتمنى كل واحد أمنيته، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ولكني أتمنى بيتاً مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة؛ إن سالماً كان شديداً في ذات الله ولو لم يخف الله ما أطاعه((15).
نعم لا بد من الرجال، فمن اسـتـعـــــان بصغار رجاله على كبار أعماله ضيع العمل(16)، فالأعمال الكبار يطلب لها كبار الرجال. قال رجل لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : أتيتك في حاجة صغيرة، قال : فاطلب لها رجلاً صغيراً "(17) (18).
فالطريق طويل، والسفر موحش، والكـيـد الشـيـطـاني منظم ومركب، ولا يطيق التحدي إلا الرواحل، تلك النوعية المنشودة، والعملة النادرة،(إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)(19).
إيجابية منضبطة :
المؤمنون سـتـار لـقـدر الله (( وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُــلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَـهِـيـمَــةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ))[الحج:26-29].
بتوجيه منه - سبحانه - وبإعانة وتوفيق إلهي كانت البداية، وكان التكليف، بأن ينشأ هذا البيت على يد إبراهيم عليه السلام، حيث عرَّفه الحق - سبحانه - مكانه، كما ورد في بعض الروايات عن طـريـــق جبريل عليه السلام وملكه أمره ليقيمه على أساس قاعدة التوحيد، فيكون خالصاً له - سبحانه - وحده، وأن يجهزه تجهيزاً خاصاً، بأن يطهره من الشرك، وأن يجعله للناس جـمـيـعـــــاً، لكل الناس، سواء المقيم فيه والطارئ عليه، فيخصص للطائفين به والقائمين لله فيه.
ثم أمره بعد ذلك أن ينادي في الناس بالحج وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيد، مشاة على أرجلهم، وركوباً على كل بعير مهرول من بعد المشقة.
وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوي إليه، تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام.
ونستطيع أن نستشف هذا التفاعل من الآتي : أنه - سبحانه - أوحى إلى إبراهيم عليه السلام أن يسكن ذريته في هذا المكان القريب من البيت الحرام بالذات، فقام الخليل عليه السلام بنقل هاجر وابنها بجهده البشري.
ثم أراد الحق - سبحانه - أن يعمر هذا المكان بالبشر فكان جهاد هاجر من أجل الماء، ثم تفجر ماء زمزم.
ثم أراد الحق - جل وعلا - أن يُعد هذه الأسرة لمهمة عظيمة، يتوارث آثارها الأجيال، فكان تفقد إبراهيم عليه السلام لأسرته، وأمره ولده أن يعيد اختيار الزوجة التي ستشاركهم، هذا العمل الكبير.
ثم أراد - سبحانه - أن يُبنى البيت، فدل إبراهيم عليه السلام على مكانه، فقام الخليل وإسماعيل - عليهما السلام - بالبناء.
وعندما أراد الحق - سبحانه - إعمار هذا البيت أمر إبراهيم عليه السلام أن يقوم بدوره فيؤذن، وينادي في الناس، ويدعوهم. ووعده الحق - سبحانه - أن الناس من كل مكان وفي كل عصر سيلبون ذلك النداء الجليل. لذا يتبين لنا أن إرادة الله - عز وجل - لتحقيق عمل ما تقوم على دعامتين أساسيتين ومتلازمتين :
1- المدد الإلهي.
2- الجهد البشري.
لأن (الله - سبحانه - يساعد من يجاهد للهدى (( والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت : 69]، وأنه يغيير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد : 11]،، وأن هناك علاقة بين الجهد البشري الذي يبذله الناس، وعون الله ومدده الذي يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من الخير والصلاح والفلاح، وأن إرادة الله هي الفاعلة في النهاية، وبدونها لا يبلغ الإنسان بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها ويجاهد في الله ليبلغ رضاه. وقدر الله - مع هذا كله - هو الذي يحيط بالناس والأحداث، وهو الذي يتم وفقه ما يتم من ابتلاء، ومن خير يصيبه الناجحون في هذا الابتلاء)(20).
فتدبر دور قدر الله - سبحانه - في ناموس التغيير التاريخي، والتحول الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر؛ بل يضبط حركته الإيجابية، فيتوافق ويتناغم معه.
ركيزة التجميع :
الاهتمام بدور الإرادة الربانية : لقد أمر الحق - سبحانه - الخليل عليه السلام أن يحدد الغاية المرادة من إقامة هذا البيت (( أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))[الحج : 26]، ((وعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة : 125].
أي أن يقوم هذا العمل العظيم الخالد على التوحيد الخالص، فيبنى البيت الحرام على اسمه - تعالى - وحده، وأن يُطهر من الشرك بلا إله إلا الله، ويكون خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، أولئك الذين يأتون من غربة، والمقيمون فيه، والمصلون.
من هذه اللمحة التاريخية، نعلم أن القضية العظيمة التي أرادها الحق - سبحانه - وذلك بعد أن بين مكان البيت باعتبارها نقطة انطلاق هي توحيده - سبحانه- ..
فالتوحيد هو الأمر الرباني، الذي من شأنه أن يجمع البشر، كل البشر، ويوحد الناس، كل الناس.
كانت البداية هي أن تنبعث تلك الفكرة العظيمة، من قلب رجل عظيم، فيتحرك بها، ويحرك بها غيره.
وهذه هي سنة الله - عز وجل - في نشوء الأعمال العظيمة، بل وفي بناء الحضارات الإنسانية.
وهو دور الفكرة، والمنهج في التغيير الحضاري، وناموس الحركة التاريخية.
فالأفكار لها أهميتها، ووظيفتها الحتمية في بناء الحضارة الإنسانية.
وذلك لأن )أيــة أمة من الأمم لا بد أن تنطلق في دربها الحضاري من مجموعة من الأفكار، وسلوك الأفراد فـي مجـتـمـــع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا السبب نجد أن المجتمعات تسمو وتنمو أو تنحط أو تبيد تبعاً لطبيعة الأفكار التي يعتنقها أبناؤها، والـفـكـــــرة لا بد لها - لكي تفعل فعلها - من جهد بشري مكافئ يترجمها إلى فعل. ولا بد من عامــــل ثالث مكمل لهما، وهو أن تكون الفكرة قابلة للتنفيذ العملي، أي أن تكون موافقة لسنة أو قانــون مـن الـسـنـن الـتي فـطـــر الله عـلـيـهـا أمور الخلق((21).
الهوامش :
(1) أخرجه مسلم في الصلاة (406).
(2) فقه السنة : سيد سابق، طبعة دار الكتاب العربي، 1 /153.
(3) نظرات في أحسن القصص : د. محمد السيد الوكيل، 1/185 - 186 بتصرف.
(4) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي : مالك بن نبي طبعة دار الفكر، 26 - 40 بتصرف.
(5) في الحديث الذي رواه مسلم /ح./3005، وأحمد (23413)، والترمذي (3340).
(6) نور اليقين في سيرة خير المرسلين : الخضري 27 - 28 بتصرف.
(7) رواه الترمذي، ح./ 2517 عن أنس وسنده حسن.
(8) رواه البخاري، ح. /3364.
(9) زاد المعاد، ابن القيم، 3/33.
(10) البخاري، ح./ 7405، ومسلم، ح./2675.
(11) صفوة الصفوة : ابن الجوزي : 1 /310 - 311.
(12، 13) البخاري، ح. / 4418.
(14) صحيح القصص النبوي : د. عمر الأشقر طبعة دار النفائس، 46.
(15) تهذيب رجال دمشق : ابن عساكر، 8/164.
(16) رسائل الثعالبي : الثعالبي، 81.
(17) بهجة المجالس وأنس المجالس، 1 /321.
(18) القيادة : جاسم المهلهل، 16.
(19) صحيح البخاري، 8/ 130.
(20) هذا الدين : سيد قطب، 64 - 65 بتصرف.
(21) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د. أحمد محمد كنعان، 31 32 بتصرف.
في الحلقة الأولى وقف الكاتب مع قـصـة إبراهيم - عليه السلام - وأحداثها سواءً مع ابنه وزوجه أو أبيه وقومه؛ يقتبس الدرس تلو الدرس، والعظة بعد العظة مفصلاً الكلام مع كل وقفة. وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب باقي الوقفات.
-البيان-
الشرط الكمي... الجماعية:
تنمية روح الجماعية: عندما جاء إبراهيم عليه السلام في المرة الثالثة يزور ابنه، ويستطلع أحواله، وجده هذه المرة في الديار جالساً يبري نبله تحـت تلك الدوحة التي تركه تحتها صغيراً عندما جاء به أول مرة لتلك الديار، فقام إسماعـيـل عليه السلام فـصـنـعا ما يصنع الوالد بــالـولــــد والولد بالوالد من التسليم والمعانقة والتقبيل ونحو ذلك، ثــم قال إبراهيم عـلـيـه الـسـلام: (يــا إســمـاعيل إن الله أمرني بأمر!! قال: فاصنع ما أمركَ ربُكَ. قال: وتـعـيـنـنـي؟ قال: وأعينُكَ. قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ها هنا ـ وأشار إلى أكمةٍ(1) مـرتـفـعــةٍ على مـــا حـولـهــا ـ فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهـيـــم يـبـني، حتى إذا ارتفع البناء، جاءَ بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني ـ أثناء البناء، وهو مقام إبراهيم الآن ـ وإسمـــاعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنـتَ الـسَّـمِـيـــعُ العَلِيمُ)). [ البقرة: 127](2).
من هذه الحادثــة، في تاريـخ تشـيـيد هـذا البيت، نستشعر كيف أن الخليل عليه السلام بعد أن عرّفـه الحـق ـ سبحانه ـ مكان البيت، ثم أوحى إليه ـ سبحانه ـ بأن يبنيه، ذهب إلى المكان، ثم طلب معونة ابـنـــه ـ عليـهـما السلام ـ والذي لم يتردد كالعهد به دائماً مع والده، فبادر وشاركه في بناء هذا الصرح العظيم.
وهكذا انتقل هذا الـمـشــروع العظيم إلى مرحلة جديدة، وآن لحامل تلك المهمة العظيمة أن يـنـتـقـل بـهـــا إلى أرض الواقع؛ إلى التطبيق. لقد انبعثت من قلب الخليل عليه السلام ، وبوحيٍ من الله ـ سبحانه ـ، لتترجم إلى عمل عظيم، وكان من ضروريات الحركة في مجال الـتـطـبـيـق أن تـقـوم على عمل جماعي يشارك فيه كل من يقدر عليه، وذلك بعد إعداده وإعداد أسرته لتحمل التبعات.
ومن هذه اللمحة الإبراهـيـمـيــة التربوية، يستشعر الداعية أهمية (الشرط الكمي) للمشروع الحضاري المنشود لإنقاذ الأمـــــة، أي ضــــــرورة العمل الجماعي، وأهمية انتقاء الأفراد المشاركين؛ فالتنفيذ يستلزم جماعية، والجماعية لا يقوم عليها إلا من أعد لها.
وهذا الملمح يرسم تحذيراً يربأ بالداعية عن خـطـر الفردية، ويذكره بمصير الشاة القاصية، كما حذّر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسـلــــم-: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، وإياكم والشـعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)(3).
وهو أيضاً، يرسم ويخط أملاً عظيماً، وغاية مـنـشــــودة: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)(4).
الشرط المكاني... الأرض:
أهمية وجود نقطة تجميع وانطلاق: وهـذا المرتكز الدعوي والمعلم المهم نستشعره مـن قوله ـ سـبـحـانـــــه ـ وهو يقص على أجيال حملة المنهج الإلهي في كل عصر وفي كل مكان تلك الخطوة الـمـهـمة في تاريخ هذا العمل العظيم، والمشروع الكبير: ((وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ)) [الحج: 26]، ((وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ)) [البقرة: 127].
هكذا أراد الحق ـ سـبـحـانـه ـ أن تكون الخطوة العظيمة في هذا العمل العظيم، أن يُحدد المكان المختار، وأن تُحدد له الأرض التي سيقام عليها.
فلا بد من مركز تجميع وانـطــــلاق، مركز يجتمع حوله المؤمنون بالفكرة، ويثوبون إليه، ويحتمون به. وهو في الوقت نفـســـه مركز لانطلاق الفكرة؛ فراية الخير تحتاج إلى مكان توضع عليه، ويُعرف بها.
وأي فكرة وإن كانت صحيحة وأصيلة لا بد لها من عوامل تجعلها فعالة، ولا بد لها من شروط تجعلها قابلة للتنفيذ.
وأهم هذه الشروط هو وجود الأرض التي ستترجم عليها عملياً، ثم تنطلق منها.
هكذا فهمها رائـــد الـدعاة وسيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم-؛ وكان مشروع الهجرة الكبير إلى المديــنــة، ليجعل منها ـ وذلك بعد دراسة وتخطيط ـ مرتكزاً للانطلاق، ومركزاً للإشعاع الحضاري، وأرضــاً صالحة ثابتة راسية توضع على قمتها علامة التجميع ومنارة الهدى، وتثبت فوقها راية الخير.
وعـلـى الـمـربـيـن أن يـركــزوا على أهمية هذا المَعْلم الدعوي العظيم الذي يعتبر من أخطر المنعطفات في سير الدعوة؛ لأهميته بالنسبة للفكرة ولحامليها.
ظاهرة التآكل الروحي:
تـنـمـيـة الجانـب الروحي: ورد عن الخليل عليه السلام في سياق قصة بناء البيت الحرام عديد من المواقف التي كان يداوم فيها على التوجه إليه ـ سبحانه ـ بالأدعية الطيبة التي شـهــدت لها الأحــداث بعدها بالقبول والاستجابة، منها: ((رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بــِــوَادٍ غَـيـْـرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) [ابراهيم: 37].
ومنها: ((وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ)) [البقرة: 126].
ومنها: ((وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)) [البقرة: 127 - 129].
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء وأن يعمقه في قـلـوبـهـم ومشاعرهم. إنه طلب القبول؛ هذه هي الغاية؛ فهو عمل خالص لله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول؛ والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع الدعاء.
ثـم تـأتــي الـدعــوة الـتـي تـكـشـف عن اهتمامات القلب المؤمن؛ فإن أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول، وهو الـشــعـور بنعمة الإيمان الذي دفعهما ـ عليهما السلام ـ إلى الـحـرص عـلـيـهــا في عقبهما، وإلى دعاء ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام، وهو نعمة الإيــمـان، وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم؛ لأنه هو التواب الرحيم، وألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة بأن يبعث في أهل بيته رســولاً منهم، فـاسـتـجـاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله، الوارثة لدينه. وكانت الاستجابة بعد قرون وقرون؛ إن الدعوة المستجابة تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته؛ غير أن الناس يستعجلون(5).
من هذا الملمح الـطــيـــب، يمكننا أن نتبين أهمية تلك الدعامة المهمة التي ذكرناها تحت الركيزة الثامنة التي تـدعـو إلى وجوب (تنمية فن استمطار التوفيق الإلهي)، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده وحسن الظن به ـ سبحانه ـ ولذلك فإننا نقول: إن دعائم طريق الداعية ثلاث: الفكرة الربانية، والعمل الدؤوب، والدعاء الخاشع.
إنها أسرار مباركة للدعــاء، لا يشعر بها إلا من مر بتجربة خاصة يستشعر فيها كيف أن الحق ـ سبحانه ـ يمن عـلـى عـبــــاده المتقربين إليه، المتذللين له بأنواع العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة. وبذلك يُفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب التربية الروحية.
ولـقـد كـانـت وصايا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء وآثاره القوية العظيمة تفوق الحصر، مـنـها: (لا يُغني حذرٌ من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)(6).
من هذه اللمحة التربوية، نستطيع أن نضع أيدينا على بعض الحلول التي تفيدنا في علاج ظاهرة تربوية مرضية وهي (ظاهرة الـتـآكـــل الروحي) عند الداعية، وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة وهي: طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح؛ حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعـمـــال الـعـبد مثل التفريط في بعض الفرائض وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، كالذكر والـدعــاء والاسـتـغفـار، وتلاوة القرآن، ويـنــشــأ نـــوع من الانـفـصــام المركب: داخلياً يستشعر فيه العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه، وخارجياً يستشعر فيه قسوةً وجفاءً مع الوجود كله، فيتنكران له؛ فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي يعرفهما. وخطورة هذه الظاهرة هو أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يبني الربانيين الذين سيحملون القول الثقيل ليس إلى البشرية فقط، بل إلى الوجود كله، وتدبر مغزى هذه التوجيهات الكريــمـــة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: ((يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ(1)قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً(2)نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً(4)إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5)إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)) [المزمل: 1 - 6].
العلاقات الصحيحة:
أهمية بناء الثقة بين الأفراد: وفي تدبرنا لطبيعة العلاقات الداخلية بين أفراد هذه الأسرة المباركة الطيبة؛ وذلك من خلال قراءتنا لمواقفهم في كل مراحل بناء البيت الحرام، يمكننا ملاحظة الآتي:
1- عــلاقــة الزوج والأب بالأفــراد: وبتأملنا سيرة الخليل عليه السلام مع أسرته، نجد العلامة الواضــحـــة فيها هي بروز الدور التفقدي والراعي لهم جميعاً، دون محاباة لأحد على حساب أحد، ولــكــن مـــا يهمنا هنا هو ثقة إبراهيم عليه السلام في زوجته؛ بحيث يستأمنها على وليده ووحيده، وينطلق وكله ثقة في رعايتها له في تلك الظروف الصعبة، ثم ثقته في ولده عليه السلام عندما طــلـــب مـــنـه تغيير زوجته، ثم مشاركته في بناء البيت الحرام.
2- علاقة الزوجة بزوجها: فتدبر تلك القـنـاعـة الرفيعة، وذلك الرضى السابغ الذي ملأ قلب هاجر المؤمنة الصابرة حين تركها وولـيـدها وحيدين في الصحراء؛ وهذا لا ينشأ إلا في ذلك الجو الصحي الذي يظلل العلاقة بينها وبين زوجها؛ ذلك الجو أو البيئة التي تقطر ثقة واحتراماً.
3- علاقة الابن بوالده: في المواقف المخـتـلـفـة لإسماعيل مع والده ـ عليهما السلام ـ أثناء زيارة الخليل عليه السلام الأولى إلى أسرته في مكة، وقصده المكان الذي تركهما فيه.
فتدبر هذين الموقفين العظيمين من إسماعيل مع أبيه ـ عليهما السلام ـ وهو يطيع توجيهاته كما تصله من زوجته، وما يوحيانه في النفس مـن إكـبــار وإجلال لتلك العلاقة القدوة بين الابن وأبيه، والمبنية على الثقة والاحترام.
ثم في أثناء الزيارة الثالثة، عندما قصده والده ـ عليهما السلام ـ لإعانته على بناء البيت.
وعندما نأتي إلى قمة المحنة؛ حيث تعرضت هذ العلاقة لاختبار عظيم، عندما أمر الله ـ عز وجل ـ إبراهـيـم عألأيه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام: ((قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) [الصافات: 102].
فتدبر أيضاً هذه المبادرة إلى الطاعة بمجرد أن يأمر الــوالــــد ولــده، وذلك في كلا الموقفين العصيبين، وما كانت هذه الطاعة لولد إلا في أجواء الثقة العميقة.
ونـسـتـزيــد من سيرة القيادة العظيمة في مجال آخر، من مواقف الحبيب -صلى الله عليه وسلم- والجنود من حوله، ونستشعر مدى الثقة العظيمة المتبادلة التي كانت تظلل العلاقة بينهم، وما تؤدي إليه من حب للبذل، واستشرافٍ للعطاء، وقوةٍ في البناء.
لأنه (على قـــدر الـثـقــة المـتـبـادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب، ((فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ)) [محمد: 20، 21]، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات)(7).
ولنا أعظم مثال في ثـقـة الجندي في قيادته ما كان من موقف أبي بكر ـ رضوان الله عليه ـ عندما سعى إليه رجال يسألونه عن حادث الإسراء والمعراج، فقال قولته الخالدة: (إن كان قال ذلك فقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك. فسُمي من ذلك اليوم صديقاً)(8).
وتدبر ثقة القيادة المتبادلة، في جـنـودها وأنصارها، فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قــال: قــال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بينا راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب ـ أي هـجـم عـلـيـه ـ فـأخذ منه شاة، فطلبه الراعي ـ أي أراد إنقاذ الشاة منه ـ حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ـ أي عند الفتن حين يتركها الناس نهبة للسباع ـ، يوم ليس لها راع غيري؟!) فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)(9).
وظيفة عظيمة... وأجرٌ أعظم!
أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود: لقد أمر الحق ـ سـبـحانه ـ الخليل ا أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم؛ ووعده بالإجابة: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحج: 27]، (أي: نـــادِ في الناس بالحج داعياً لهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فُذكر أنه قـــال: يا رب كيف أبلّغ الناسَ صوتي ولا ينفذهم. فقال: نادِ وعلينا البلاغ. فقام على مـقـامـه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجّوه. فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسـمــع مــن فـي الأرحـــام والأصـــــلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك)(10).
من هذه اللمحة التاريخيـة، يـمـكـنـنـا أن نــضـع أيدينـا علـى قاعـدة ذهبيـة مـن قـواعد الدعـوة إلى الله ـ عز وجل ـ وركيزة هامة من ركائز البناء.
ونحن نضيف بها مَعْلَماً جديداً، وهو أن حَمَلَة هــــذه الفكرة الربانية العظيمة، ودعاة هذا المشروع الحضاري، قد كلفهم الحق ـ سبحانه ـ بوظيفة ووعدهم بالأجر العظيم على حسن أداء تلك الوظيفة.
أما الوظيفة: فهي هداية الناس إلى هذا المـنـهــج، وإرشادهم إلى الحق والهدى، وهو دور عظيم يقع بمجرد البلاغ: ((فَهَلْ عَلَى الــرُّسُــلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ)) [النحل: 35]، ويتضح ذلك في أمره ـ سبحانه ـ لإبراهيم عليه السلام: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)).
وأما الأجر: فهو عظيم وشامل وســابــــغ، ويمتد من الدنيا إلى الآخرة، فيبدأ من تضاعف الــثــواب : (مــن دل على خــيـر فله مثل أجر فاعله)(11) ويرقى إلى بلوغ مقام الخيرية والشهادة على الخلق؛ لأن خيرية هذه الأمة، إنما كانت بخروجها إلى الناس، والاختلاط بهم، ودعوتهم إلى الخير، ونهيهم عن الشر، وإيمانها بالله ـ سبحانه ـ: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران: 110].
ثم يصل إلى الجزاء العظيم؛ وهو النجاة في الدنيا والآخرة: ((وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ)) [ هود: 58].
وهذا الأجر يقع بمجرد الدعوة، ولا يتوقف على الاستجابة: ((فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ)) [الشورى: 48]؛ لأن أمر الهداية بيده ـ سبحانه ـ: ((إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ)) [القصص: 56].
إذن فلا حرج على الداعية ولا تثريب ولا إحباط إذا لم يثمر بلاغه، ولم يستجيبوا له: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْســَـكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً))[الكهف: 6]، وتدبر أمـــر الـحـــق ـ سـبـحانه ـ للخليل عليه السلام: (نادِ وعلينا البلاغ). أي أدّ دورك بأمثل طريقة، ودع النتائج عليه ـ سبحانه ـ.
والداعية يخرج من هــذا الملمح التربوي الفريد بسهام وافرة الغنائم حول فقه هذه الوظيفة من حيث ماهيتها ومنهجية تنفيذها والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي التكاليف وحسن تنفيذها، وحسن عــرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة استشعار خطورة بلوغ درجة البلاغ المبين للفكرة، وفهم الدور المطلوب، واستشعار عظم الأجر.
ثم ـ وهذا هو الأهم ـ اســـتـشـعـار هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر ودور المدد الرباني في تنفيذ المشروع الـحـضـاري المنشود. وهذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل للعاملين، وهي العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع المغايرة.
السنن الإلهية... وحماقة الوعل(*)!
أهمية فقه سنة المرحلية والتدرج: هكذا كان منهج التكليف يسير بتدرج ليس فيه تعسف، وبمرحلية ليس فيها تعجل، وبـخـطـة تأخذ في الاعتبار سمو الهدف، ومبلغ الإمكانيات، وكثرة المعوقات.
لقد أمر الحق ـ سبحانه ـ إبراهيم عـلـيــه الـســلام أن يُسْكن زوجه وولده في ذلك الوادي المقفر، ثم تركهم وكرر زياراته لهذا المكان لـيـتـفـقـد أحــوال أسرته المباركة المرشحة لهذا العمل والمشروع العظيم، وكانت تلك هي مرحلة الإعداد والتهيئة.
وبعد ذلك عرّفه الحق ـ سبحانه ـ مكان البيت، وسلمه له، وملكه أمره؛ فكانت هذه مرحلة إعلان نقطة الانطلاق.
ثم أمره أن يقيم البيت على أساس قاعدة التوحيد؛ فيكون خالصاً له ـ سبحانه ـ وحده، وأن يجهزه تجهيزاً خاصاً، وكانت هذه بمثابة مرحلة إعلان الفكرة العظيمة للمشروع العظيم.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الانطلاق والدعوة للفكرة العظيمة؛ حيث أمره أن ينادي في الناس بالحج، وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيدة، مشاةًَ على أرجلهم، وركوباً على كل بعير مهزول من بُعْد الشقة. وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدة من الناس تهوي إليه تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام؛ وذلك حتى يتحقق المطلوب، وتتحقق غايات هذا اللقاء السنوي العظيم.
وهكذا الشأن في أمر الأعمال الكبرى، والمشاريع الحضارية العظيمة أن تسير في مراحل، وكل مرحلة لها فقهها ولها ظروفها، وأن تتم هذه المرحلية في تدرج ومنهجية حتى تبلغ الهدف المنشود؛ وذلك؛ لأن (التدرج سنة كونية، وسنة شرعية أيضاً. ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادراً أن يقـول: كـوني فتكـون؛ ولكنه خلقها في أيام ستة مـن أيـام الله ـ تعالى ـ أي في ستة أطـوار أو أزمنة يعلمها الله. وفي هذا المعنى تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ واصفة تدرج التشريع ونزول القرآن: (إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحـرام، ولو نزل أول شـيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنـوا لقالوا: لا نـدع الخمر ولا الزنـى أبداً))(12)(13).
وقد يستعجل بعض الناس الخُطى، كما استعجل ذلك الفتى الصالح المتحمس عبد الملك بن عمـر بن عبد العزيز ـ رضوان الله عليهما ـ عندما دخل على والده مستبطئاً ومستعجباً من سياسة والده التدرجية، فقال: (يا أبت! ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟! فوالله ما كنتُ أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني! إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب ـ أي الجمل الفحل العنيد ـ إني أريدُ أن أحيي الأمـر مـن العدل فأؤخـر ذلك حتى أخـرج معه طمعاً مـن طمـع الدنيـا، فينفـروا مـن هـذه، ويسكنـوا لهـذا)(14).
حتى إذا عاوده الاستغراب كرر محاولته ودخل على أبيه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعة فلم تُمِتها، أو سنة فلم تُحْيِها؟! فقال أبـوه: رحمك الله مـن ولد خير. يا بُني! إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدة، وعروةً عروة، ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يُهراق في سببي محجمة من دم، أَوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يُميتُ فيه بدعة ويُحيي فيه سنةً؟!(15).
لهذا كان على المربين من الدعاة ألا يغفلوا هذه الركيزة، وذلك المعلم الدعوي المهم، والسنة الإلهية العظيمة، ولا يتعجلهم متعجل، ولا يستبطئهم مستبطئ.
ظاهرة بخس الناس أشياءهم:
بث روح التقدير والتشجيع: وعندما نستمر في قراءتنا لهذه الأوراق، فإنه يستوقفنا على إحدى صفحات الملف هذا المعلم القرآني الفريد: ((وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً)) [مريم: 41]، وهي دعوة قرآنية تدعو الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وكل من سار على دربه أن يستزيدوا من سيرة الخليل عليه السلام بقراءة دعوته، والاستفادة من منهجيته. وتتجاوز هذه الدعوة عمقها التربوي العظيم بهذا التقدير والتشريف الكريم؛ حيث وسمت ملف الخليل عليه السلام بختم رباني وعلامة مميزة يُعرف بها، وهي: ((إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً)) أي كثير الصدق أو كثير التصديق.
وفي موضع آخر أثناء الحديث عن الخليل عليه السلام، نعرف أحد أسباب هذا التقدير والتشريف الموحى به عن خليل الرحمن: ((وَإبْرَاهِيمَ الَذِي وَفَّى)) [النجم: 37]، قال سعيد بن جبير والثوري: أي بلّغ جميع ما أُمر به. وقال ابن عباس: ((وَفَّى)) لله البلاغ، وقال سعيد بن جبير: ((وَفَّى)) ما أمر به، وقال قتادة: ((وَفَّى)) طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله ـ تعالى ـ: ((وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً)) [البقرة: 124]، فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الـرسـالـة على التمام والكمال؛ فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يُقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله)(16).
فتدبر هذا التكريم والـتـشـريف والتقدير الإلهي للخليل عليه السلام الذي وفّى كل ما أُمـر به، وقدّم نموذجاً طيباً في البذل، وفي إنشاء مشروع حضاري متكامل.
وتــأمــلْ كـيـف أن إبراهيم عليه السلام ـ وهو من هو ـ كان في حاجة للطيفة ربانية تشعره بالتقدير لـتـاريخه الناصع، وكذلك بالامتنان على دوره الدعوي، وعلى طاعته لربه ـ جل وعــلا ـ فما بــالـك بمن هو دون تلك القمة، ويـسـكـن السفح؟! ويكون في مسيس الحاجة لكلمات تقديرية بسيطة.
من هذه اللـطـيـفـة الـربـانية الكريمة، نستشف مدى السمو والرقي الأخلاقي الذي يتعلمه الناس من هذا القرآن؛ حـيـث ورد في غـيـر موضع لمحات تربوية قرآنية كلها تحث على وجوب بث روح التقدير وتنمية خلـق التشجيـع؛ وذلك لكل مـن شارك في أي بذل، وفـي أي مجـال من شأنه أن يُسـدي خيـراً للنـاس.
وعلى هذا النهج التربوي، ومن هذا المـعــيـن الصافي نجد أن حَمَلَةَ مشعل الدعوة على مـر الـتـاريـخ الـبـشــري، ورواد مسيرة الحركة الدعوية قد خَطّوا معالم خالدة في هذا الباب، ويـقـف فـي الـمـقـدمـة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في وصيته الرائعة: (أنزِلوا الناس منازلهم)(17).
ولو تدبـرنـا الجانب الأخلاقـي في دعـوة نبـي الله شعيب عليه السلام لوجدنـاه يتمثل في قـوله - تعالى -: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ))، وهي دعوة كريمة، إلى عدم بخس أشياء الـنـاس؛ ولـو استشعرنا مغزاها التربوي البعيد لوجدناه يشمل عدم بخس أي شيء من أي نوع مثل: تقدمهم في العمر، ومكانتهم، وسبقهم الدعوي، ودورهم الريادي، وتقدير كل ما يقدمونه من خير، وكذلك تشجيعهم على أي عمل أو بذل، بل أيضاً بمدح ما يسعدهم من صفاتهم!
وخطر تجاهل هذا المعلم تربوياً من شأنه أن يؤدي إلى ظاهرة دعوية مرضية تسمى: (ظاهرة بخس أشياء الناس) والتي من أدنى مـظاهرها تجاهل أعمال الآخر، ومن أعلاها التجريح لأعماله وصــفـاتـه، ومن أبـســط آثـارها على الآخر هو الإحباط، والتثبيط، ومن أخطرها الجروح النفسية التي قد تستعصي على العلاج! ومن آثارها على صاحب هذا السلوك أنه من جهـة: يصنف نفسه مـع نوعية مذمومة سلوكياً قال عنها ـ سبحانه ـ: ((كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا)) [الأعراف: 38]، ومن جهة أخرى: أنه يظلم نفسه، ويحرمها من أن يــضــمـهـا ركب نوعية ممدوحة؛ حيث ينسى أنه (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل).
الهوامش:
(1) الأكمة: التل.
(2) رواه البخاري، ح/ 3364، وأحمد، ح/2285.
(3) رواه أحمد، ح/21524، وصححه الألباني.
(4) رواه الترمذي: جزء من حديث حسن صحيح غريب 2254، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري 6/385.
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/114 ـ 115 بتصرف.
(6) رواه أحمد، 5/234، وقال الألباني في صحيح الجامع 7739: حسن.
(7) مجموعة الرسائل ـ التعاليم، الإمام حسن البنا، 364 بتصرف.
(8) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، الخضري، طبعة دار الجيل 68.
(9) رواه مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة 2388، والترمذي ـ كتاب الفتن 9/29، وأحمد في مسنده 3/84.
(10) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/226.
(11) رواه مسلم، ح/ 1893.
(*) حماقة الوعل: إشارة إلى قول الشاعر:
كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوهنهـا فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
(12) رواه البخاري، ح/4993.
(13) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: د. يوسف القرضاوي، 104 ـ 105 بتصرف.
(14) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخلال 99.
(15) تاريخ الخلفاء: السيوطي 240.
(16) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/276.
(17) رواه أبو داود، ح/4842.