كتاب كامل هام
لا غنى عنه لمن يتصدون للإلحاد
الإسلام يتحدى
وحيد الدين خان
ترجمة ظفر الدين خان
مراجعة وتقديم د. عبد الصبور شاهين[/SIZE][/CENTER][/COLOR]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقديم الطبعة الأولى
بقلم الدكتور عبد الصبور شاهين
تمهــــــــيد
الباب الثالث
طريقة الاستدلال العلمي
لا غنى عنه لمن يتصدون للإلحاد
الإسلام يتحدى
وحيد الدين خان
ترجمة ظفر الدين خان
مراجعة وتقديم د. عبد الصبور شاهين[/SIZE][/CENTER][/COLOR]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقديم الطبعة الأولى
بقلم الدكتور عبد الصبور شاهين
ما أكثر ما يكتب عن الإسلام والمسلمين في مطبوعات هذا العصر في العربية وغير العربية وما أقل غناء أكثره.
قليل جدا من الكتابات الإسلامية هو الذي يعد إسهاما في معالجة مشكلات عالمنا الإسلامي إسهاما جادا مخلصا من أجل عودته وتقدمه.
وكثير جدا ما نقرؤه من تلك الكتابات التقريرية أو الرثائية الوعظية التي تخطها أقلام إن كانت تتاجر بالدين فلا غرابة في عالم يقوم على المتاجرة حتى بالقيم فأما إذا كانت معروفة بالعلم والذكاء ، فذلك هو داعي الحسرة والإشفاق في أنفسنا على علمائنا الأذكياء.
أيمكن أن نتصور عالم الفكر الإسلامي مجرد أقاصيص تحكى للبهر ، أو مقالات يجتهد أصحابها في تدبيج مقدماتها وسياقاتها لننتهي بعد قر ائتها إلى هز الرءوس ولوك عبارات الثناء والإعجاب؟
هذا على حين يتشاغل كتاب الفلسفات المادية برسم تطلعات العصر وعلاج مشكلات التطبيق على مستوى عالمي ، حتى ليحس المرء بعد مطالعة بحث من هذه البحوث بحاجته إلى أن ينزوي نفسيا في ركن من أركان اليأس والقنوط ، لأنه غائب تماما عن المعركة الحاضرة! ! .
تلك محنة الوجدان والعقل المسلم الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص ، ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته ، فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء واجترار بضعة خيالات محلقة في سماوات التيه ، ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير ثم يسرح بها بعيدا بعيدا في أحلام الماضي وتصوراته.
ومن البله أن نظن أن أخبار السلف هدف ثقافي يقصد لذاته كمتعة عقلية دون أن يكون من وراء ذلك مشروع إنهاض وخطة توعية من أجل صنع الحاضر والتأثير في الأجيال القادمة ، حسب هؤلاء السلف أنهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم وتوجيه معاصريهم ، ثم مضوا عليهم من الله رضوان ومن الناس سلام.
وجاء من بعدهم خلف أصبح بعد حين سلفا بعد أن مضى إلى الرفيق الأعلى مخلفا كذلك تركة من السلوك ومن الكفاح هي جزء من تاريخ أمتنا.
وجاء جيلنا ليتوهم أو ليراد له أن يتوهم أنه مجرد وارث لأجيال سابقة عليه أن يستغل تركتها في خلق ملذاته ، فإذا ما جوبه بتحديات عصره لجأ إلى المباهاة بتراثه ، المباهاة وحدها المتمثلة في أكثر الكتابات المنشورة التي لا تمل أن تحكى وتحكى ، حكايات في حكايات ، وتقف أحيانا مستعلية من فوق منبر لتمطر على الحضور وعظا في وعظ دون أن تبلغ في ظن الجماهير أن تهز وجدانا أو حتى تحرك قشة.
إن أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء ، وليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعة دائما كالأشياء ، فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة ترى في الأفكار سلعة ينبغي أن تتغير كل يوم كما تتغير طرز الأشياء ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجودات الفكر الواردة من الخارج ماذا يأخذون ، وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرءون ، وماذا يترجمون؟ . . ولا شيء أكثر من هذا. . . يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار دون أن يكون عليهم أن يواجهوها ، أو ينقدوها ، فهم إلى أن يصوغوا نقدا معينا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبيا يكون الوقت قد فات ، وتقادم بمرور الزمن من ينقدون ، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانا وأكثر جاذبية وإشعاعا.
ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف-تصدير- الأفكار ، نظرا إلى موقعه وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة ، أو بعبارة أخرى: مراكز الإنتاج ، والهدف من وراء التصدير واحد لدى كل هذه المراكز: أن يبقى هذا العالم مفتقرا إليها على اختلافها ، وأن يحال بينه وبين أفكاره الأصيلة التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد ، وتحقق له الاكتفاء الذاتي.
ومن المعروف في دوائر الاقتصاد أن الاحتكار إذا تحقق لمركز إنتاجي في سوق معينة فإن من المتوقع أن يبدأ المنتج في إفساد السلعة ، بتقليل جودتها اعتادا على الاحتكار المتاح له وطمعا في ربح أوفر.
وسوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات وأكثرها تقبلا للتزيف والإفساد ، ومن ثم حفلت أسواقنا بما هو أشد فتكا من السموم ، وأعظم انتشارا من الهواء يتخلل كل خلية وينخر في كل بناء. . أفكار ترتدي أثوابا أو تحمل شعارات أو ترفع مشاعل ليس الثوب فيها أو الشعار أو المشعل إلا قناعا يستر الزيف والخطر.
وليس من الممكن أن نفهم موجات السيطرة الخارجية على مجتمعاتنا إلا إذا لاحظنا مثلا تبعية الفتاة المسلمة في كثير من بلاد الشرق العربي لكل ما يظهر في أوروبا أو أمريكا من أزياء ، فما إن ترتدى الزي إحدى (المانيكان) قصيرا بمقدار سنتيمتر واحد حتى تبادر فتياتنا إلى تقصير أثوابهن بمقدار شبر واحد! !
ليس المهم ملاحظة أن تقصر الفتاة أو تطول ثوبها بحكم (الموضة) الشائعة فإذا لم تفعل عدت متخلفة وإنما المهم ملاحظة هذه السيطرة التي توفرت لملوك الأزياء وأكثرهم صهيونيون ، على فتياتنا المثقفات بخاصة ، حتى كأنهن جميعا أعضاء في جوقة موسيقية واحدة وأمامهن (مايسترو) كلما أشار بإصبعه أو بعصاه تحرك العازفون والعازفات في اتجاه العصا كالقطيع.
ودلالة هذه التبعية أخطر مما قد يبدو في ظاهر الأمر لأن تأثيرها كل القيم التي يقدسها المجتمع في شخص المرأة قيم الحياء ، والأنوثة الواعية ، والجسد غير المتعرض لذباب الأعين ، وقيم التماسك ، والالتزام في تربيتها ، وقيم الجيل الناشئ على يديها وهو الذي ننشده لغد هذه الأرض ومستقبل هذا الدين وبكلمة واحدة وبلا مغالاة: نحن هكذا محكومون من عمق مجتمعنا لملوك الأزياء ودولة المانيكان.
ومع ذلك قد يقال: إن مسألة الزي أقل خطرا من غيرها فهي على أية حال مسألة غلاف. . . أما غيرها كقضية المعتقدات التي تزيف للأجيال الناشئة وجوهرها تحطيم لدينها. . .
وقضية الروح المنهزمة أمام انتصارات العلم في غير بلاد الإسلام ، الروح التي تقف متضعضعة مبهورة أمام منجزات الإنسان الأوروبي أو الأمريكي.
وقضية الحرية الفكرية المعدومة في فلسفة التربية حتى أصبح كل هم المدارس إنتاج نماذج مصبوبة في بوتقة التبعية والتقليد. . وقضايا أخرى كثيرة كلها أهم من قضية المني جيب ؛ أو الميكرو جيب.
وبرعم ذلك لا نكاد نلمح أدنى فاصل بين هذه القضايا جميعا فالمصنع المنتج واحد وهدف التصدير واحد والمستهلك المستهلك واحد أيضا هو الإنسان المسلم.
والمشكلة بالإضافة إلى هذا كله أن أكثر كتابنا أصبحوا يرون في قيام هذه الحالات شيئا مألوفا غير جدير بالمناقشة إما زهدا في الدنيا وإما يأسا من الإصلاح وإما تعودوا على المشاهدة اليومية كما يتعود المدمن تأثير المخدر. وكأنهم المعنيون بقول الشاعر :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجـرح بميـت إيـلام
وأقول: (أكثر كتابنا) لأن هنالك (قلة) نصبن أقلامها للذود عن المستقبل والدفاع ضد التيار المخرب متحملة في ذلك عنت الفساد وسلطانه ومتحدية في المجتمع مراكز استيراد الأفكار وعناصر اللامبالاة وهؤلاء القلة لا تكاد –والحمد لله- تخلو منهم أرض الإسلام ، يكتبون بكل لغة ويحاربون في كل معركة إيمانا منهم بوحدة المقاتلين أمام الخطر الزاحف.
ومن هؤلاء القلة مؤلفنا هذا الذي يدخل اسمه لأول مرة حقل اللغة العربية بنشر ذلك الكتاب: (الإسلام يتحدى) وإن كان لاسمه رنين مدو في شبه القارة الهندية باعتباره ثالث اثنين يتولون قضية الإسلام المعاصر في وجه الزحف الفكري: أبو الأعلى المودودى ، وأبو الحسن الندوي ، ووحيد الدين خان.
والحق أن علماء باكستان الهند المسلمين قد أتيح لهم أن يتصلوا اتصالا مباشرا بمصادر المعرفة الحديثة حتى أصبحوا من أعلامها ، وهم في هذا يضارعون أكثر علمائنا العرب اتصالا بثقافة الغرب مع فارق جوهري في رأينا هو أن الأولين الذين نشير إليهم لم يغرقوا أنفسهم في المعرفة الأكاديمية ، لتستولي من بعد على عقولهم وأقلامهم وليصبحوا مجرد ناشرين أو مفسرين أو حتى معلقين على ما يقدمون من فكر الغرب وعلومه.
لقد وقف هؤلاء عمالقة في وجه التيار وانغمسوا في مشكلات الجماهير وحاولوا أن يقدموا لهم تصوراتهم من أجل المستقبل و من أجل تحريك الثورة الفكرية في كيان الإنسان المسلم فهم في الحقيقة كتاب ثوريون ذوو أصالة ووعي وإيمان.
وليس من السهل أن نقول : إنهم جميعا يمثلون طريقة واحدة في الأداء برغم أن هدفهم واحد فإن لكل منهم أداءه الخاص وطريقته الفذة التي عرفته بها الجماهير المسلمة.
وحسبنا أن نقرأ هذا الكتاب الجديد لندرك أنه يمثل عقلا وثقافة ومنهجا يختلف بها مؤلفه عن جميع من عرفنا من الكتاب المعاصرين.
ولعل من المناسب أن أورد هنا ما كتبه المؤلف في صحيفته (الجمعيت الأسبوعية) في عدد 7 من فبراير 1969 ، موضحا الدور الذي يحاول أن يقوم به قال :
(إن المشكلات التي يواجهها الإسلام في هذا العصر ، منها ما هو علمي يوجه إليه بلغة العلم ومصطلحاته ولذلك كان لزاما أن نضع إجاباتنا في مواجهة هذه الحملات المسعورة بنفس المصطلحات العقلية والعلمية التي يستخدمها المعارضون للدين. ولازال هذا الميدان منذ أمد طويل مجالا لنشاطي واهتمامي حتى كان آخر ما كتبت : (الإسلام يتحدى). والميدان الثاني لنشاطي هو ما نسميه بميدان بناء الأمة الإسلامية وتعميرها والعمل على نهضتها وعلينا في هذا المجال أن نكشف العلل ونمحص الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدت إلى سوء أحوال المسلمين ثم وضع خريطة للمستقبل بعد الوقوف على أسباب النكسة التي أصابتها وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين (في شبه القارة الهندية) ليربط بين مختلف أنشطتهم فيجعلها مجموعة معنوية متكاملة وحثهم على مواصلة الجهد لتكون منهم أمة قوية جامعة في العالم.
(وبكلمة أخرى نحن نصبو إلى بعث الأحلام التي رآها أسلافنا خلال كفاحهم وتحقيقها لإعلاء شأن الأمة المسلمة وهى الأحلام التي لم تتحقق لسبب أو لآخر.
(وهذه هي المهمة الفكرية التي تضطلع بها صحيفتنا (الجمعيت الأسبوعية) ويمكننا أن نقول بحق: إن هذه المهمة قد أصبحت أكبر ميزة خاصة لجريدتنا في المجال الصحفي في هذا العصر على حين أصبحت الصحافة الإسلامية علما على الرثاء بل إن آخر ما تستطيعه هذه الصحافة هو مجرد التعليقات السياسية على الأحداث العامة وتقديم بعض المعلومات الطريفة التي يتشوق إليها العامة من القراء. ففي هذا المناخ الصحفي تعتبر (الجمعيت الأسبوعية9 الصحفية الوحيدة التي تعمل على إحياء وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين ، باحثة عن مواطن الخطأ في كفاحهم الحضاري ونحن لا نجد كلمات نشكر الله بها على أنه-سبحانه- اختارنا بمشيئته لسد هذا الفراغ).
فالرجل كما نرى صاحب دعوة يريد إبلاغها إلى ضمير الأمة المسلمة بلاغا يحركها نحو أهدافها ويوحدها أمام الأخطار ، وهى دعوة ذات شقين ، أحدهما يستنفد العمر كله ولكنه يعمل لتحقيق كليهما بوسائله المتاحة: أن يكتب كتبا ، وأن يسخر مجلة أسبوعية.
والواقع أن كتابه هذا يعتبر تحقيقا لحلم طالما راود كتاب العقيدة والمدافعين عنها ، فقد كانت محاولات السابقين للبرهنة على وجود الله ، وإثبات الرسالة وما يتصل بهما من حقائق ميتافيزيقية-قد وقفت عند جهود علماء الكلام باستخدام الأقيسة المنطقية التي بليت لطول مالاكتها الألسن ، وأصبح مجرد التحدث بها داعية إلى الملل منها ، بل إن لغتها لم تعد مفهومة لشباب الإسلام ، الذي يعيش في هذا العصر ظروفا تتغير من يوم لآخر ، وتطالعه ثقافات ذات جدلية ماهرة ومناهج علمية تجريبية لم يعد العقل يقنع بدونها.
لقد أصبح كل شيء موضع شك ، وبذلك سقطت القضايا القائمة على المسلمات المنطقية ،لأنه لا شيء في العقل الحديث بمسلم منطقيا إلا وله نقيض منطقي يمكن أن يحتمله العقل. أما التجربة فهي الدليل الذي لا يدفع على قضيته وما ينتج عن التجربة ليس مسلما منطقيا ولكنه حقيقة نسبية موضوعية وهذا شأن العلم. ومن هنا كان لابد من تغيير المناهج الكلامية لإشباع رغبات متجددة في اليقين تريد أن تؤسس موقفها على أرض من المعرفة الجديدة التي اخترقت الآفاق وقاست أبعاد النجوم وتغلغلت في أسرار المادة حتى حطمتها واستخرجت منها طاقات لا حدود لها.
وإذا قيل: إن قضايا علم الكلام هي قضايا الغيب المطلق المحجوب الأسرار ، ولا يعقل أن يكون للتجربة دور في معالجتها. تذكرنا في رد هذا الرأي ما قاله عربي يعيش على فطرته وينطق على سجيته دون أن يكون قد ألم بشيء من منطق أرسطو: (البعرة تدل على البعير ، وأثر السير يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل ذلك كله على الله اللطيف الخبير)؟ ؟
وكلمات هذا الأعرابي ألصق بالمنهج التجريبي القائم على الملاحظة وأقرب إلى التأثير في النفس وأقدر على إقناع العقل من أية صيغة قياسية-ما في ذلك شك.
لقد أصبح سيئا للغاية أن ينطق رجل الدين أمام الناس أو أمام الطلاب بقضايا متقادمة قال بها الأولون دون أن يحاول مزج المعرفة التقليدية بالجديد وأكثر ما تتجلى هذه المعرفة التقليدية في علم التوحيد أو الكلام أو مباحث العقيدة على اختلاف المصطلحات حيث يصر بعض الأساتذة على حكاية النزاع بين المعتزلة وأهل السنة ، والفرق بين الأشاعرة والماتريدية ، ووجهة نظر الخوارج والشيعة ، والخلاف بين الجبرية وغيرهم ، وتناقض ما بين العقل والنقل أو تساندهما ، وكل ذلك دائر فى حلقة مفرغة بعيدة عن مجال تفكير الشباب المتحول ، لأن هذا الكلام كله قد أدى وظيفته على خير وجه حين كان جزءا من صراع عصره حول المفاهيم والقيم ، فلما مضى عصره أصبح جزءا من تاريخ الفكر ، لا أساسا من أسس النقاش الحي النابعة من التجربة المعاشة.
ولذلك يعجز هذا الكلام عن إقناع ملحد حديث بخطئه لأن أسباب إلحاده ليست من موضوعات الكلام فالجدل الحديث لا يتناقش حول الجوهر والعرض ، ولا حول القدم والحدوث ، وإنما هو يتناقش حول حتمية المادة ووجود المادة الواقعية والمادة العقلية والعلاقة بين المادة والحركة ، حين ينتهي كل موجود مادي في حقيقته إلى حركة ، والاحتمالات الرياضية لتأثير الصدفة في نشأة الكون وامتداده حتمية التطور. وحقيقة الوجود في ضوء الإدراك الجديد لنسبية الظواهر الكونية وأهمها الزمان ، ذلك البعد الرابع الذي كشفه أينشتاين والتوقعات العلمية لوجود عالم أخرى غير عالمنا في سمائنا وفى السماوات الأخرى التي يدركها العلم أو يحدس بوجودها ويحاول معرفة شيء عنها. . .إلخ.
فإذا لم تكن هذه القضايا الجديدة هي محور النقاش في قاعات الدرس الجامعي. الذي يصوغ عقول الشباب فمعنى ذلك أن جامعاتنا تعمل في فراغ أيديولوجي وتخرج للمجتمع نماذج خربة واهنة أو مشوشة أو يائسة من جدوى العقيدة في بناء المجتمع الجديد ، نماذج تحس في أعماقها بالجفاف الروحي فهي لم تظفر بأرضية من الفكر الديني تقف عليها مطمئنة في مواجهة رياح التغيير العاصفة ، وإما لأنها محرومة من هذا اللون من الدراسة وإما-وهو الأخطر-لأنها غير مقتنعة بما عرض عليها من موضوعاته. وينتهى الأمر بهذه إلى أن تتبعثر في الفراغ ، وتحس باللامبالاة تجاه مسائل العقيدة ، لأن أسلم الطرق ألا تبالي ، فالهرب أسلم المسالك.
والغريب أن هذه الحال قد طفحت على سطح المجتمع منذ أوائل القرن التاسع عشر ، حين بدأ اللقاء والاصطدام بين ثقافتي الشرق والغرب يواجه مبعوثين إلى أوربا ، على عهد محمد على-في مصر-وتعرضت أعمال روائية منذ ذلك العهد وحتى يومنا هذا لتصوير التمزق الفكري الذي يعانيه هؤلاء المبعوثون ، من أمثال: تخليص الإبريز-لرفاعة الطهطاوى ، وعلم الدين- لعلى مبارك ، وحديث عيسى بن هشام-لمحمد المويلحى ، وقنديل أم هاشم-ليحيى حقي ، وعصفور من الشرق-لتوفيق الحكيم ، ومليم الأكبر-لعادل كامل فانوس ، أي أن المشكلة ثائرة وملحة من قديم ، دارت حولها روايات قديمة. ومع ذلك لم يبحث لها المفكرون الدينيون عن حل ولم يعرضوا لها بمناقشة لاستكناه أسبابها ، على حين اكتفت الأعمال الروائية بالتقاطها وتصويرها. والخطر بهذه السلبية إلى تفاقم ، والخراب إلى استفحال ، والضحية دائما هو الإنسان المسلم.
أليس غريبا أن يكون عتاة الملاحدة في مجتمعاتنا ممن يمتون إلى أسر ذات اتصال بالدراسات الدينية؟ ! ! وأن تنشر مجلة أسبوعية أن إحدى المانيكان تمثل جامعة الأزهر الشريف ثم تأتى بصورتها فإذا هي ترتدى ما ترتديه بنات باريس(1) ! ! ودعك من أن تكون إحداهن فتاة غلاف تنشر لها صورة عارية أشبه بصور السابحات الفاتنات ، وهى من بنات العلماء؟ (2) إنهم جميعا وأضرابهم نتاج هذا الانفصام بين الفكر الديني وقضايا العصر بحيث لم يأخذ هذا الفكر شكل ثقافة حية تجمع بين المعرفة والسلوك ، أي أن هناك عجزا شائنا في الثقافة المستخدمة للإقناع ، على حين استطاعت الثقافات الأخرى أن تحتازهم لمعسكرها لأنها صادفت فراغا فتمكنت ، بصرف النظر عن جدية الأشخاص أو هزليتهم وتفاهتهم ، وأحد أسباب هذا الانفصام أيضا أن من يتولون سدانة الفكر الديني لم ينهضوا لمواجهة تحدى العصر ربما لأنهم فعلا غير فاهمين لرسالاتهم إلا على أنها استحضار لماض أثرى لا علاقة له بحاضر ، وربما لتوهمهم أنه لا تحدى أصلا ، بل كل شيء هادئ على الجبهة! ! والدنيا بخير والحمد لله! ! . . فالمشكلة من هذه الوجهة أزمة في الشعور الذي يؤدى حين يكون سويا إلى الأرق المنتج ، والقلق الخلاق ، فأما حين يكون هناك شعور فإن الدين يتحول عند بعض رجاله إلى باب سخي للوجاهة والارتزاق ، وعند بعضهم إلى سلبية قاتلة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولست أنكر أن محاولات جادة قام بها بعض العلماء القلقين على مصير الإنسان في الشرق والغرب من أجل البرهنة على وجود الله على أساس علمي ، ولكن قضية الدين ليست هي قضية (وجود الله) فحسب. لا مراء في أن الإيمان بوجود الله سبحانه أساس ومنبع ولكنه يستتبع الإيمان بقيم أخرى ومبادئ دعا إليها الرسل. وحثت عليها الأديان وأهمها ضرورة الإيمان بوجود كائنات غير الإنسان ، دل عليها الدين وسماها (الملائكة) الملهمين الخير ، وكائنات أخرى غير الإنسان والملائكة دل عليها الدين وسماها الجن ومنهم (الشياطين)-النازغون بالشر وضرورة الإيمان بالغيب ، وباليوم الآخر. وما يتصل به من جنة ونار وحساب وثواب وعقاب ، بل ما يسبق ذلك من قيامة هي في حقيقتها دمار للدنيا وتحطم للكواكب والنجوم ، وضرورة التزام شريعة الله الى جاء بها الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، متى صح الإيمان بوجود الله مالك الملك ، ومنزل التشريع بالحلال والحرام وفى كلمة واحدة: ضرورة إقرار ما علم من الدين بالضرورة.
وهكذا نجدنا أمام كل مترابط لا يمكن انفصام أجزائه إلا على طريقة بنى إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ولقد وجد في المجتمع الإسلامي فعلا هذا الصنف من الناس الذين يحدثونك بأنهم مؤمنون بالله ، وكفى ولا داعي لمطالبتهم بأكثر من هذا! ! وهم يواجهون من يدعوهم إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه: بأن الهدف من هذه هو تزكية النفس وعدم إيذاء العباد ، فإذا تحقق هذا الهدف بوسيلة أخرى كالثقافة مثلا كان في ذلك غنى عن الالتزام بالتكاليف لأن هذه هي روح الدين! ! . . وغاب عنهم أو تجاهلوا أن العبادة في حقيقتها ثمرة الإيمان بالله وتأكيد لعبودية الإنسان له ، وأن الله سبحانه قد اختار لعباده أن يخاطبوه ويقدسوه بكيفية معينة لا خيار لهم فيها ، بصرف النظر عن تحقيق مصلحة معينة لهم من العبادة أو عدم تحققها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(3) فمصلحة الإنسان العليا في أن يرضى خالقه بإنفاذ أمره والتزام طاعته.
فهذا صنف من الناس يجتزئ من الدين بما لا يقتضيه تكلفة : أن يقول : آمنت بالله-فحسب ، وهو يستعمل مسألة تسليمه بوجود الله-عز وجل- ذريعة إلى التحلل والانعتاق من سائر قضايا الدين والصدود عنها وهو أمر ينبغي أن يلحظ على أنه من صميم أزمة الدين في أنفس المثقفين المعاصرين ، لأن الثقافات الإلحادية قد اتخذت لنفسها خطة لئيمة ، فحواها أن دعوة المسلم إلى الفكر تلقى نفورا في المجتمع الإسلامي ، ويكاد يكون من المحال إحراز تقدم فيه باعتناق هذه الدعوة ، ولذا ينبغي أن تكون الخطة –أولا- تجريد شخص المسلم من الالتزام بالتكاليف ، وتحطيم قيم الدين الأساسية في نفسه بدعوى العلمية والتقدم دون مساس بقضية الإلهية مؤقتا لأنها ذات حساسية خاصة ، وبمرور الزمن ، ومع إلف المسلم لهذا التجريد يسهل في نهاية الأمر تحطيم فكرة الإلهية أساسا في عقله ووجدانه –وإذا بقيت افتراضا فلا ضرر منها ولا خطر ، لأنها حينئذ لن تكون إلا بقايا دين كان موجودا ذات يوم بعيد.
وهكذا يحكم أعداء الإسلام مخططاتهم ويدبرون لتدمير الدين ومبادئه ، ابتداء من أبسط السنن والواجبات وانتهاء إلى قضية القضايا : وجود الله ذاته.
فإذا أفرد بعض العلماء مسألة وجود الخالق بالعلاج العلمي فقليل منهم- فيما أعلم- من تصدى لعلاج هذه القضايا جميعا ، وبخاصة هذا الكتاب : (الإسلام يتحدى) . وأحسب أنه من هذه الناحية سوف يصبح – متى بلغ عمق المجتمع – دستور الإقناع الديني ، أو كما يعبر العنوان الفرعي الذي تخيرناه له : (مدخلا علميا إلى الإيمان).
وقد كان المؤلف منطقيا مع عصره إلى أبعد الحدود ، فإذا كان أقطاب الإلحاد في الفلسفة الحديثة قد وضعوا لضحاياهم مدخلا علميا إلى الفكر ، فلا مناص من أن يحاول هو بحسه الصادق ، ووعيه بحاجة المسلمين – وضع مدخل علمي إلى الإيمان يعتبر أساسا لعلم الكلام ، أو علم توحيد جديد. وهذا هو الاعتبار الذي كان من وراء الحماس المخلص ، بذله مترجم الكتاب الأستاذ ظفر الإسلام خان ، نجل المؤلف ، واقتضاني أن أعكف شهورا تبلغ سنوات على مراجعته وتحقيق نصوصه الدينية.
ولذلك سوف نجده يعرض (قضية معارضي الدين) بكل حيدة وأمانة ، حتى لا يتهم من أول لحظة بمخالفة المنهج العلمي ، ثم يبدأ في مناقشتها معتمدا في الأساس على الإنتاج الفكري الغربي من باب (وشهد شاهد من أهلها)(4) ، مرجئا مسألة استخدام الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية في آراء الأعداء قبل الأصدقاء.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن المؤلف رجل دين متحمس ، يبشر بدعوة الإسلام بأسلوب جديد ، إنه مفكر مصلح يعمل بالصحافة ، رئيسا لتحرير مجلة (الجمعيت الأسبوعية) وما عرضته هنا هو نتيجة تأمل واهتمام مؤرق بمشكلات الشباب المسلم ، حتى أصدر كتابه هذا عام 1966 ، ومازال وفيا لقضيته ، مجاهدا في سبيلها.
ولئن كنا قد ألمحنا قبل بضعة أسطر إلى بعض ملامح منهجه ، فإن تنظيم هذا المنهج قد اقتضاه أن يضع قضاياه في ترتيب منطقي :
فهو قد وضع كتابه علاجا للمشكلات العقيدية التي تواجه البشر ، ولما كان المتوارد على مسرح الأحداث ، مبدأ الدين ، ومبدأ الإلحاد ، وكان هو من معسكر الدين – وجب عليه أن يدلف إلى هدفه من خلال دعاوى الخصوم ، حتى لا يتهم بتجاهلها ، فعرض فكرة معارضي الدين وبين أسسها البيولوجية والنفسية والتاريخية. ومعنى ذلك أنه يعرض جوهر فلسفات ثلاثة : الداروينية ، والفرويدية ، والماركسية ، وهي المبادئ التي قادت في مجموعها قطعانا من البشر في وادي الإلحاد ، وإنكار وجود الله ، وتأليه المادة.
فإذا بدأ بمناقشة هذه المبادئ سلك نفس السبيل التي سلكتها. فاستقى أدلته من الطبيعة ، ومن البحوث النفسية ، والتاريخية.
وإذا كان أعظم قضايا الدين ، بعد الإيمان بالله ، الإيمان باليوم الآخر ، حقيقة غيبية ، لا مراء فيها ، وكانت أهم دعاوى الإلحاد قائمة على إنكار هذا اللقاء مع الخالق –فإن إثبات إمكان الآخرة بالأدلة الطبيعية والبيولوجية والتاريخية- هو أيضا من الأدلة القاطعة بصحة الدين وبوجود الله ومن ثم نجده متألقا في تبيان الحاجة إلى الآخرة نفسيا وأخلاقيا وسلوكيا ،حتى إذا استقر في وعي القارئ ضرورة الآخرة كان ذلك طريقا إلى إقرار ضرورة الإيمان بالله من جانب آخر ، فالآخرة إذن قضية وبرهان في آن.
والمؤلف لا يكتفي في هذا الباب بدليل واحد ، بل هو يقدم بحوثا قيمة في ضرورة الآخرة من الناحية الكونية ، ويسوق شهادات تجريبية ، وبحوثا نفسية وروحية ، تؤكد هذه الضرورة ، كما يزيد القارئ ثروة في المفاهيم ويفسح له آفاق الاقتناع.
ويأتي بعد ذلك دور الرسالة ، وهي الدليل التاريخي على الحقيقتين السالفتين لأن الرسل هم الذين دلوا عليهما ، قبل أن يخطو الإنسان هذه الخطوات الجبارة في ميدان العلم والتجربة.
ومن الضروري أن نلفت النظر هنا إلى أن المؤلف لا يعني بكلمة (الدين) إلا ما عناه الحق سبحانه بها في قوله : (إن الدين عند الله الإسلام)(5) ، فإذا تناول قضية الرسالة فمقصده قطعا قضية الإسلام ، وكتابها المعجز: القرآن.
ويعقد في هذا الباب عدة فصول يتحدث فيها عن إعجاز القرآن التاريخي والعلمي ، ويورد لمحات كثيرة عن تنبؤات القرآن ، وما تضمنته آياته من حقائق لم يكشف عنها إلا في العصر الحديث ، في الفلك ، وطبقات الأرض وغيرهما.
فإذا انتهى من إثبات هذه الصفة العلوية للقرآن ، وأكد به الحقيقة الأولى ، وهي وجود الله ، عقد بابا خاصا بعلاقة الدين بمشكلات الحضارة ، فتناول في جانب منه مشكلات التشريع ، وعناصره الأساسية ، وتحديد الدين لمفهوم الجريمة ، وعلاقة القانون بالأخلاق ، وبالفرد ، وبالعدل.
ولا يفوته أن يتحدث عن بعض مشكلات الحضارة الحديثة ، كمشكلة المرأة ، والتمدن، والملكية ، مقارنا في كل ذلك نظام الإسلام بنظامي الحكم المعاصرين: الرأسمالية والشيوعية.
ويأتي أخيرا حديثه عن مستقبل هذا العالم الإسلامي ، وما ينشده أبناؤه من أهداف سامية ، وما ينبغي أن يكون لهم من رسالة في هذا العالم الحائر ، بين مذاهب الإلحاد الواهية المتهاوية ، ودين الفطرة الذي جعله الله ختام الأديان ، وجعل نبيه خاتم المرسلين ، مبينا كيف أدى الإلحاد في المجتمعات الأوروبية إلى التحلل، والتمزق الأسري ، وتكون طبقات من المجرمين والشواذ ، وانتشار أعصى الأمراض النفسية والعصبية ، جراء الحرمان من الإيمان بالله ، خالقنا ومالكنا ، ويختار لخاتم كتابه كلمة قبسها عن الأستاذ أ.كريسي موريسون ، إذ قال:
(إن الاحتشام والاحترام والسخاء وعظمة الأخلاق والقيم والمشاعر السامية وكل ما يمكن اعتباره نفحات إلهية – لا يمكن الحصول عليها من طريق الإلحاد ، فالإلحاد نوع من الأنانية حيث يجلس (الإنسان) على كرسي (الله).)
(لسوف تقضى هذه الحضارة بدون العقيدة والدين.)
(سوف يتحول النظام إلى فوضى.)
(سوف ينعدم التوازن وضبط النفس والتمسك.)
(سوف يتفشى الشر في كل مكان.)
(إنها لحاجة ملحة أن نقوي من صلتنا وعلاقتنا بالله.)
فهذا هو منهج الكتاب في إيجاز شديد ، وهو منهج يشدني إلى ملاحظة هامة أحب أن أضعها بين يدي القارئ. ذلك أن خطوات هذا المنهج ، بنفس الترتيب تكاد تكون طبق الأصل من كتاب أخرجته من قبل مترجما عن الفرنسية ، هو كتاب ( الظاهرة القرآنية) ، للمفكر الجزائري مالك بن نبى ، وهي ملاحظة غريبة في المنهج ، لا تنصرف إلى مادة الكتابين ، لأن المؤلفين مختلفان في عقليتهما ، وثقافتهما ، وطريقة معالجتهما لهذه القضايا الدقيقة ، حتى إني أكاد أقطع بأن المحاولتين من حيث المصادر والمادة والأسلوب متباعدتان تماما ، إحداهما عن الأخرى ، بعد ما بين الجزائر والهند ، ولم يحدث أن التقى الرجلان في صعيد واحد ، فيما أعلم ، وتفسير هذا التوافق ينحصر في توارد الأفكار على مشكلة واحدة.
بيد أن ذلك لا يمنعني من إقرار أن كلا الكتابين صادر عن نفس الإحساس بضرورة وضع منهج جديد للإقناع الديني ، وكلاهما توفرت فيه المنهجية الحديثة ، وموضوعهما مشترك كذلك ، والروح الكامنة في مضمونهما روح ثائرة مؤمنة.
وحسب الشباب المسلم من هذه الملاحظة دليلا على أن روح الإسلام طاقة لا يمكن أن تخمد ، وستظل تصنع المعجزات ، برغم التفوق الماد الذي حققته مجتمعات الملاحدة المعاصرين.
نعم . . إن هذا التوافق العجيب بين مفكرين من أكابر مفكرينا يكاد أن يكون من بدائع الروح الخالدة ، روح الإسلام ، وأقول: الخالدة ، لأن الروح طاقة ، والطاقة لا تفنى ، وذلك وعد الله: (إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(6).
والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
وصلى الله على محمد خاتم النبيين.
عبد الصبور شاهين
الكويت – ديسمبر 1969
قليل جدا من الكتابات الإسلامية هو الذي يعد إسهاما في معالجة مشكلات عالمنا الإسلامي إسهاما جادا مخلصا من أجل عودته وتقدمه.
وكثير جدا ما نقرؤه من تلك الكتابات التقريرية أو الرثائية الوعظية التي تخطها أقلام إن كانت تتاجر بالدين فلا غرابة في عالم يقوم على المتاجرة حتى بالقيم فأما إذا كانت معروفة بالعلم والذكاء ، فذلك هو داعي الحسرة والإشفاق في أنفسنا على علمائنا الأذكياء.
أيمكن أن نتصور عالم الفكر الإسلامي مجرد أقاصيص تحكى للبهر ، أو مقالات يجتهد أصحابها في تدبيج مقدماتها وسياقاتها لننتهي بعد قر ائتها إلى هز الرءوس ولوك عبارات الثناء والإعجاب؟
هذا على حين يتشاغل كتاب الفلسفات المادية برسم تطلعات العصر وعلاج مشكلات التطبيق على مستوى عالمي ، حتى ليحس المرء بعد مطالعة بحث من هذه البحوث بحاجته إلى أن ينزوي نفسيا في ركن من أركان اليأس والقنوط ، لأنه غائب تماما عن المعركة الحاضرة! ! .
تلك محنة الوجدان والعقل المسلم الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص ، ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته ، فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء واجترار بضعة خيالات محلقة في سماوات التيه ، ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير ثم يسرح بها بعيدا بعيدا في أحلام الماضي وتصوراته.
ومن البله أن نظن أن أخبار السلف هدف ثقافي يقصد لذاته كمتعة عقلية دون أن يكون من وراء ذلك مشروع إنهاض وخطة توعية من أجل صنع الحاضر والتأثير في الأجيال القادمة ، حسب هؤلاء السلف أنهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم وتوجيه معاصريهم ، ثم مضوا عليهم من الله رضوان ومن الناس سلام.
وجاء من بعدهم خلف أصبح بعد حين سلفا بعد أن مضى إلى الرفيق الأعلى مخلفا كذلك تركة من السلوك ومن الكفاح هي جزء من تاريخ أمتنا.
وجاء جيلنا ليتوهم أو ليراد له أن يتوهم أنه مجرد وارث لأجيال سابقة عليه أن يستغل تركتها في خلق ملذاته ، فإذا ما جوبه بتحديات عصره لجأ إلى المباهاة بتراثه ، المباهاة وحدها المتمثلة في أكثر الكتابات المنشورة التي لا تمل أن تحكى وتحكى ، حكايات في حكايات ، وتقف أحيانا مستعلية من فوق منبر لتمطر على الحضور وعظا في وعظ دون أن تبلغ في ظن الجماهير أن تهز وجدانا أو حتى تحرك قشة.
إن أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء ، وليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعة دائما كالأشياء ، فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة ترى في الأفكار سلعة ينبغي أن تتغير كل يوم كما تتغير طرز الأشياء ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجودات الفكر الواردة من الخارج ماذا يأخذون ، وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرءون ، وماذا يترجمون؟ . . ولا شيء أكثر من هذا. . . يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار دون أن يكون عليهم أن يواجهوها ، أو ينقدوها ، فهم إلى أن يصوغوا نقدا معينا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبيا يكون الوقت قد فات ، وتقادم بمرور الزمن من ينقدون ، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانا وأكثر جاذبية وإشعاعا.
ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف-تصدير- الأفكار ، نظرا إلى موقعه وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة ، أو بعبارة أخرى: مراكز الإنتاج ، والهدف من وراء التصدير واحد لدى كل هذه المراكز: أن يبقى هذا العالم مفتقرا إليها على اختلافها ، وأن يحال بينه وبين أفكاره الأصيلة التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد ، وتحقق له الاكتفاء الذاتي.
ومن المعروف في دوائر الاقتصاد أن الاحتكار إذا تحقق لمركز إنتاجي في سوق معينة فإن من المتوقع أن يبدأ المنتج في إفساد السلعة ، بتقليل جودتها اعتادا على الاحتكار المتاح له وطمعا في ربح أوفر.
وسوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات وأكثرها تقبلا للتزيف والإفساد ، ومن ثم حفلت أسواقنا بما هو أشد فتكا من السموم ، وأعظم انتشارا من الهواء يتخلل كل خلية وينخر في كل بناء. . أفكار ترتدي أثوابا أو تحمل شعارات أو ترفع مشاعل ليس الثوب فيها أو الشعار أو المشعل إلا قناعا يستر الزيف والخطر.
وليس من الممكن أن نفهم موجات السيطرة الخارجية على مجتمعاتنا إلا إذا لاحظنا مثلا تبعية الفتاة المسلمة في كثير من بلاد الشرق العربي لكل ما يظهر في أوروبا أو أمريكا من أزياء ، فما إن ترتدى الزي إحدى (المانيكان) قصيرا بمقدار سنتيمتر واحد حتى تبادر فتياتنا إلى تقصير أثوابهن بمقدار شبر واحد! !
ليس المهم ملاحظة أن تقصر الفتاة أو تطول ثوبها بحكم (الموضة) الشائعة فإذا لم تفعل عدت متخلفة وإنما المهم ملاحظة هذه السيطرة التي توفرت لملوك الأزياء وأكثرهم صهيونيون ، على فتياتنا المثقفات بخاصة ، حتى كأنهن جميعا أعضاء في جوقة موسيقية واحدة وأمامهن (مايسترو) كلما أشار بإصبعه أو بعصاه تحرك العازفون والعازفات في اتجاه العصا كالقطيع.
ودلالة هذه التبعية أخطر مما قد يبدو في ظاهر الأمر لأن تأثيرها كل القيم التي يقدسها المجتمع في شخص المرأة قيم الحياء ، والأنوثة الواعية ، والجسد غير المتعرض لذباب الأعين ، وقيم التماسك ، والالتزام في تربيتها ، وقيم الجيل الناشئ على يديها وهو الذي ننشده لغد هذه الأرض ومستقبل هذا الدين وبكلمة واحدة وبلا مغالاة: نحن هكذا محكومون من عمق مجتمعنا لملوك الأزياء ودولة المانيكان.
ومع ذلك قد يقال: إن مسألة الزي أقل خطرا من غيرها فهي على أية حال مسألة غلاف. . . أما غيرها كقضية المعتقدات التي تزيف للأجيال الناشئة وجوهرها تحطيم لدينها. . .
وقضية الروح المنهزمة أمام انتصارات العلم في غير بلاد الإسلام ، الروح التي تقف متضعضعة مبهورة أمام منجزات الإنسان الأوروبي أو الأمريكي.
وقضية الحرية الفكرية المعدومة في فلسفة التربية حتى أصبح كل هم المدارس إنتاج نماذج مصبوبة في بوتقة التبعية والتقليد. . وقضايا أخرى كثيرة كلها أهم من قضية المني جيب ؛ أو الميكرو جيب.
وبرعم ذلك لا نكاد نلمح أدنى فاصل بين هذه القضايا جميعا فالمصنع المنتج واحد وهدف التصدير واحد والمستهلك المستهلك واحد أيضا هو الإنسان المسلم.
والمشكلة بالإضافة إلى هذا كله أن أكثر كتابنا أصبحوا يرون في قيام هذه الحالات شيئا مألوفا غير جدير بالمناقشة إما زهدا في الدنيا وإما يأسا من الإصلاح وإما تعودوا على المشاهدة اليومية كما يتعود المدمن تأثير المخدر. وكأنهم المعنيون بقول الشاعر :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجـرح بميـت إيـلام
وأقول: (أكثر كتابنا) لأن هنالك (قلة) نصبن أقلامها للذود عن المستقبل والدفاع ضد التيار المخرب متحملة في ذلك عنت الفساد وسلطانه ومتحدية في المجتمع مراكز استيراد الأفكار وعناصر اللامبالاة وهؤلاء القلة لا تكاد –والحمد لله- تخلو منهم أرض الإسلام ، يكتبون بكل لغة ويحاربون في كل معركة إيمانا منهم بوحدة المقاتلين أمام الخطر الزاحف.
ومن هؤلاء القلة مؤلفنا هذا الذي يدخل اسمه لأول مرة حقل اللغة العربية بنشر ذلك الكتاب: (الإسلام يتحدى) وإن كان لاسمه رنين مدو في شبه القارة الهندية باعتباره ثالث اثنين يتولون قضية الإسلام المعاصر في وجه الزحف الفكري: أبو الأعلى المودودى ، وأبو الحسن الندوي ، ووحيد الدين خان.
والحق أن علماء باكستان الهند المسلمين قد أتيح لهم أن يتصلوا اتصالا مباشرا بمصادر المعرفة الحديثة حتى أصبحوا من أعلامها ، وهم في هذا يضارعون أكثر علمائنا العرب اتصالا بثقافة الغرب مع فارق جوهري في رأينا هو أن الأولين الذين نشير إليهم لم يغرقوا أنفسهم في المعرفة الأكاديمية ، لتستولي من بعد على عقولهم وأقلامهم وليصبحوا مجرد ناشرين أو مفسرين أو حتى معلقين على ما يقدمون من فكر الغرب وعلومه.
لقد وقف هؤلاء عمالقة في وجه التيار وانغمسوا في مشكلات الجماهير وحاولوا أن يقدموا لهم تصوراتهم من أجل المستقبل و من أجل تحريك الثورة الفكرية في كيان الإنسان المسلم فهم في الحقيقة كتاب ثوريون ذوو أصالة ووعي وإيمان.
وليس من السهل أن نقول : إنهم جميعا يمثلون طريقة واحدة في الأداء برغم أن هدفهم واحد فإن لكل منهم أداءه الخاص وطريقته الفذة التي عرفته بها الجماهير المسلمة.
وحسبنا أن نقرأ هذا الكتاب الجديد لندرك أنه يمثل عقلا وثقافة ومنهجا يختلف بها مؤلفه عن جميع من عرفنا من الكتاب المعاصرين.
ولعل من المناسب أن أورد هنا ما كتبه المؤلف في صحيفته (الجمعيت الأسبوعية) في عدد 7 من فبراير 1969 ، موضحا الدور الذي يحاول أن يقوم به قال :
(إن المشكلات التي يواجهها الإسلام في هذا العصر ، منها ما هو علمي يوجه إليه بلغة العلم ومصطلحاته ولذلك كان لزاما أن نضع إجاباتنا في مواجهة هذه الحملات المسعورة بنفس المصطلحات العقلية والعلمية التي يستخدمها المعارضون للدين. ولازال هذا الميدان منذ أمد طويل مجالا لنشاطي واهتمامي حتى كان آخر ما كتبت : (الإسلام يتحدى). والميدان الثاني لنشاطي هو ما نسميه بميدان بناء الأمة الإسلامية وتعميرها والعمل على نهضتها وعلينا في هذا المجال أن نكشف العلل ونمحص الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدت إلى سوء أحوال المسلمين ثم وضع خريطة للمستقبل بعد الوقوف على أسباب النكسة التي أصابتها وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين (في شبه القارة الهندية) ليربط بين مختلف أنشطتهم فيجعلها مجموعة معنوية متكاملة وحثهم على مواصلة الجهد لتكون منهم أمة قوية جامعة في العالم.
(وبكلمة أخرى نحن نصبو إلى بعث الأحلام التي رآها أسلافنا خلال كفاحهم وتحقيقها لإعلاء شأن الأمة المسلمة وهى الأحلام التي لم تتحقق لسبب أو لآخر.
(وهذه هي المهمة الفكرية التي تضطلع بها صحيفتنا (الجمعيت الأسبوعية) ويمكننا أن نقول بحق: إن هذه المهمة قد أصبحت أكبر ميزة خاصة لجريدتنا في المجال الصحفي في هذا العصر على حين أصبحت الصحافة الإسلامية علما على الرثاء بل إن آخر ما تستطيعه هذه الصحافة هو مجرد التعليقات السياسية على الأحداث العامة وتقديم بعض المعلومات الطريفة التي يتشوق إليها العامة من القراء. ففي هذا المناخ الصحفي تعتبر (الجمعيت الأسبوعية9 الصحفية الوحيدة التي تعمل على إحياء وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين ، باحثة عن مواطن الخطأ في كفاحهم الحضاري ونحن لا نجد كلمات نشكر الله بها على أنه-سبحانه- اختارنا بمشيئته لسد هذا الفراغ).
فالرجل كما نرى صاحب دعوة يريد إبلاغها إلى ضمير الأمة المسلمة بلاغا يحركها نحو أهدافها ويوحدها أمام الأخطار ، وهى دعوة ذات شقين ، أحدهما يستنفد العمر كله ولكنه يعمل لتحقيق كليهما بوسائله المتاحة: أن يكتب كتبا ، وأن يسخر مجلة أسبوعية.
والواقع أن كتابه هذا يعتبر تحقيقا لحلم طالما راود كتاب العقيدة والمدافعين عنها ، فقد كانت محاولات السابقين للبرهنة على وجود الله ، وإثبات الرسالة وما يتصل بهما من حقائق ميتافيزيقية-قد وقفت عند جهود علماء الكلام باستخدام الأقيسة المنطقية التي بليت لطول مالاكتها الألسن ، وأصبح مجرد التحدث بها داعية إلى الملل منها ، بل إن لغتها لم تعد مفهومة لشباب الإسلام ، الذي يعيش في هذا العصر ظروفا تتغير من يوم لآخر ، وتطالعه ثقافات ذات جدلية ماهرة ومناهج علمية تجريبية لم يعد العقل يقنع بدونها.
لقد أصبح كل شيء موضع شك ، وبذلك سقطت القضايا القائمة على المسلمات المنطقية ،لأنه لا شيء في العقل الحديث بمسلم منطقيا إلا وله نقيض منطقي يمكن أن يحتمله العقل. أما التجربة فهي الدليل الذي لا يدفع على قضيته وما ينتج عن التجربة ليس مسلما منطقيا ولكنه حقيقة نسبية موضوعية وهذا شأن العلم. ومن هنا كان لابد من تغيير المناهج الكلامية لإشباع رغبات متجددة في اليقين تريد أن تؤسس موقفها على أرض من المعرفة الجديدة التي اخترقت الآفاق وقاست أبعاد النجوم وتغلغلت في أسرار المادة حتى حطمتها واستخرجت منها طاقات لا حدود لها.
وإذا قيل: إن قضايا علم الكلام هي قضايا الغيب المطلق المحجوب الأسرار ، ولا يعقل أن يكون للتجربة دور في معالجتها. تذكرنا في رد هذا الرأي ما قاله عربي يعيش على فطرته وينطق على سجيته دون أن يكون قد ألم بشيء من منطق أرسطو: (البعرة تدل على البعير ، وأثر السير يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل ذلك كله على الله اللطيف الخبير)؟ ؟
وكلمات هذا الأعرابي ألصق بالمنهج التجريبي القائم على الملاحظة وأقرب إلى التأثير في النفس وأقدر على إقناع العقل من أية صيغة قياسية-ما في ذلك شك.
لقد أصبح سيئا للغاية أن ينطق رجل الدين أمام الناس أو أمام الطلاب بقضايا متقادمة قال بها الأولون دون أن يحاول مزج المعرفة التقليدية بالجديد وأكثر ما تتجلى هذه المعرفة التقليدية في علم التوحيد أو الكلام أو مباحث العقيدة على اختلاف المصطلحات حيث يصر بعض الأساتذة على حكاية النزاع بين المعتزلة وأهل السنة ، والفرق بين الأشاعرة والماتريدية ، ووجهة نظر الخوارج والشيعة ، والخلاف بين الجبرية وغيرهم ، وتناقض ما بين العقل والنقل أو تساندهما ، وكل ذلك دائر فى حلقة مفرغة بعيدة عن مجال تفكير الشباب المتحول ، لأن هذا الكلام كله قد أدى وظيفته على خير وجه حين كان جزءا من صراع عصره حول المفاهيم والقيم ، فلما مضى عصره أصبح جزءا من تاريخ الفكر ، لا أساسا من أسس النقاش الحي النابعة من التجربة المعاشة.
ولذلك يعجز هذا الكلام عن إقناع ملحد حديث بخطئه لأن أسباب إلحاده ليست من موضوعات الكلام فالجدل الحديث لا يتناقش حول الجوهر والعرض ، ولا حول القدم والحدوث ، وإنما هو يتناقش حول حتمية المادة ووجود المادة الواقعية والمادة العقلية والعلاقة بين المادة والحركة ، حين ينتهي كل موجود مادي في حقيقته إلى حركة ، والاحتمالات الرياضية لتأثير الصدفة في نشأة الكون وامتداده حتمية التطور. وحقيقة الوجود في ضوء الإدراك الجديد لنسبية الظواهر الكونية وأهمها الزمان ، ذلك البعد الرابع الذي كشفه أينشتاين والتوقعات العلمية لوجود عالم أخرى غير عالمنا في سمائنا وفى السماوات الأخرى التي يدركها العلم أو يحدس بوجودها ويحاول معرفة شيء عنها. . .إلخ.
فإذا لم تكن هذه القضايا الجديدة هي محور النقاش في قاعات الدرس الجامعي. الذي يصوغ عقول الشباب فمعنى ذلك أن جامعاتنا تعمل في فراغ أيديولوجي وتخرج للمجتمع نماذج خربة واهنة أو مشوشة أو يائسة من جدوى العقيدة في بناء المجتمع الجديد ، نماذج تحس في أعماقها بالجفاف الروحي فهي لم تظفر بأرضية من الفكر الديني تقف عليها مطمئنة في مواجهة رياح التغيير العاصفة ، وإما لأنها محرومة من هذا اللون من الدراسة وإما-وهو الأخطر-لأنها غير مقتنعة بما عرض عليها من موضوعاته. وينتهى الأمر بهذه إلى أن تتبعثر في الفراغ ، وتحس باللامبالاة تجاه مسائل العقيدة ، لأن أسلم الطرق ألا تبالي ، فالهرب أسلم المسالك.
والغريب أن هذه الحال قد طفحت على سطح المجتمع منذ أوائل القرن التاسع عشر ، حين بدأ اللقاء والاصطدام بين ثقافتي الشرق والغرب يواجه مبعوثين إلى أوربا ، على عهد محمد على-في مصر-وتعرضت أعمال روائية منذ ذلك العهد وحتى يومنا هذا لتصوير التمزق الفكري الذي يعانيه هؤلاء المبعوثون ، من أمثال: تخليص الإبريز-لرفاعة الطهطاوى ، وعلم الدين- لعلى مبارك ، وحديث عيسى بن هشام-لمحمد المويلحى ، وقنديل أم هاشم-ليحيى حقي ، وعصفور من الشرق-لتوفيق الحكيم ، ومليم الأكبر-لعادل كامل فانوس ، أي أن المشكلة ثائرة وملحة من قديم ، دارت حولها روايات قديمة. ومع ذلك لم يبحث لها المفكرون الدينيون عن حل ولم يعرضوا لها بمناقشة لاستكناه أسبابها ، على حين اكتفت الأعمال الروائية بالتقاطها وتصويرها. والخطر بهذه السلبية إلى تفاقم ، والخراب إلى استفحال ، والضحية دائما هو الإنسان المسلم.
أليس غريبا أن يكون عتاة الملاحدة في مجتمعاتنا ممن يمتون إلى أسر ذات اتصال بالدراسات الدينية؟ ! ! وأن تنشر مجلة أسبوعية أن إحدى المانيكان تمثل جامعة الأزهر الشريف ثم تأتى بصورتها فإذا هي ترتدى ما ترتديه بنات باريس(1) ! ! ودعك من أن تكون إحداهن فتاة غلاف تنشر لها صورة عارية أشبه بصور السابحات الفاتنات ، وهى من بنات العلماء؟ (2) إنهم جميعا وأضرابهم نتاج هذا الانفصام بين الفكر الديني وقضايا العصر بحيث لم يأخذ هذا الفكر شكل ثقافة حية تجمع بين المعرفة والسلوك ، أي أن هناك عجزا شائنا في الثقافة المستخدمة للإقناع ، على حين استطاعت الثقافات الأخرى أن تحتازهم لمعسكرها لأنها صادفت فراغا فتمكنت ، بصرف النظر عن جدية الأشخاص أو هزليتهم وتفاهتهم ، وأحد أسباب هذا الانفصام أيضا أن من يتولون سدانة الفكر الديني لم ينهضوا لمواجهة تحدى العصر ربما لأنهم فعلا غير فاهمين لرسالاتهم إلا على أنها استحضار لماض أثرى لا علاقة له بحاضر ، وربما لتوهمهم أنه لا تحدى أصلا ، بل كل شيء هادئ على الجبهة! ! والدنيا بخير والحمد لله! ! . . فالمشكلة من هذه الوجهة أزمة في الشعور الذي يؤدى حين يكون سويا إلى الأرق المنتج ، والقلق الخلاق ، فأما حين يكون هناك شعور فإن الدين يتحول عند بعض رجاله إلى باب سخي للوجاهة والارتزاق ، وعند بعضهم إلى سلبية قاتلة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولست أنكر أن محاولات جادة قام بها بعض العلماء القلقين على مصير الإنسان في الشرق والغرب من أجل البرهنة على وجود الله على أساس علمي ، ولكن قضية الدين ليست هي قضية (وجود الله) فحسب. لا مراء في أن الإيمان بوجود الله سبحانه أساس ومنبع ولكنه يستتبع الإيمان بقيم أخرى ومبادئ دعا إليها الرسل. وحثت عليها الأديان وأهمها ضرورة الإيمان بوجود كائنات غير الإنسان ، دل عليها الدين وسماها (الملائكة) الملهمين الخير ، وكائنات أخرى غير الإنسان والملائكة دل عليها الدين وسماها الجن ومنهم (الشياطين)-النازغون بالشر وضرورة الإيمان بالغيب ، وباليوم الآخر. وما يتصل به من جنة ونار وحساب وثواب وعقاب ، بل ما يسبق ذلك من قيامة هي في حقيقتها دمار للدنيا وتحطم للكواكب والنجوم ، وضرورة التزام شريعة الله الى جاء بها الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، متى صح الإيمان بوجود الله مالك الملك ، ومنزل التشريع بالحلال والحرام وفى كلمة واحدة: ضرورة إقرار ما علم من الدين بالضرورة.
وهكذا نجدنا أمام كل مترابط لا يمكن انفصام أجزائه إلا على طريقة بنى إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ولقد وجد في المجتمع الإسلامي فعلا هذا الصنف من الناس الذين يحدثونك بأنهم مؤمنون بالله ، وكفى ولا داعي لمطالبتهم بأكثر من هذا! ! وهم يواجهون من يدعوهم إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه: بأن الهدف من هذه هو تزكية النفس وعدم إيذاء العباد ، فإذا تحقق هذا الهدف بوسيلة أخرى كالثقافة مثلا كان في ذلك غنى عن الالتزام بالتكاليف لأن هذه هي روح الدين! ! . . وغاب عنهم أو تجاهلوا أن العبادة في حقيقتها ثمرة الإيمان بالله وتأكيد لعبودية الإنسان له ، وأن الله سبحانه قد اختار لعباده أن يخاطبوه ويقدسوه بكيفية معينة لا خيار لهم فيها ، بصرف النظر عن تحقيق مصلحة معينة لهم من العبادة أو عدم تحققها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(3) فمصلحة الإنسان العليا في أن يرضى خالقه بإنفاذ أمره والتزام طاعته.
فهذا صنف من الناس يجتزئ من الدين بما لا يقتضيه تكلفة : أن يقول : آمنت بالله-فحسب ، وهو يستعمل مسألة تسليمه بوجود الله-عز وجل- ذريعة إلى التحلل والانعتاق من سائر قضايا الدين والصدود عنها وهو أمر ينبغي أن يلحظ على أنه من صميم أزمة الدين في أنفس المثقفين المعاصرين ، لأن الثقافات الإلحادية قد اتخذت لنفسها خطة لئيمة ، فحواها أن دعوة المسلم إلى الفكر تلقى نفورا في المجتمع الإسلامي ، ويكاد يكون من المحال إحراز تقدم فيه باعتناق هذه الدعوة ، ولذا ينبغي أن تكون الخطة –أولا- تجريد شخص المسلم من الالتزام بالتكاليف ، وتحطيم قيم الدين الأساسية في نفسه بدعوى العلمية والتقدم دون مساس بقضية الإلهية مؤقتا لأنها ذات حساسية خاصة ، وبمرور الزمن ، ومع إلف المسلم لهذا التجريد يسهل في نهاية الأمر تحطيم فكرة الإلهية أساسا في عقله ووجدانه –وإذا بقيت افتراضا فلا ضرر منها ولا خطر ، لأنها حينئذ لن تكون إلا بقايا دين كان موجودا ذات يوم بعيد.
وهكذا يحكم أعداء الإسلام مخططاتهم ويدبرون لتدمير الدين ومبادئه ، ابتداء من أبسط السنن والواجبات وانتهاء إلى قضية القضايا : وجود الله ذاته.
فإذا أفرد بعض العلماء مسألة وجود الخالق بالعلاج العلمي فقليل منهم- فيما أعلم- من تصدى لعلاج هذه القضايا جميعا ، وبخاصة هذا الكتاب : (الإسلام يتحدى) . وأحسب أنه من هذه الناحية سوف يصبح – متى بلغ عمق المجتمع – دستور الإقناع الديني ، أو كما يعبر العنوان الفرعي الذي تخيرناه له : (مدخلا علميا إلى الإيمان).
وقد كان المؤلف منطقيا مع عصره إلى أبعد الحدود ، فإذا كان أقطاب الإلحاد في الفلسفة الحديثة قد وضعوا لضحاياهم مدخلا علميا إلى الفكر ، فلا مناص من أن يحاول هو بحسه الصادق ، ووعيه بحاجة المسلمين – وضع مدخل علمي إلى الإيمان يعتبر أساسا لعلم الكلام ، أو علم توحيد جديد. وهذا هو الاعتبار الذي كان من وراء الحماس المخلص ، بذله مترجم الكتاب الأستاذ ظفر الإسلام خان ، نجل المؤلف ، واقتضاني أن أعكف شهورا تبلغ سنوات على مراجعته وتحقيق نصوصه الدينية.
ولذلك سوف نجده يعرض (قضية معارضي الدين) بكل حيدة وأمانة ، حتى لا يتهم من أول لحظة بمخالفة المنهج العلمي ، ثم يبدأ في مناقشتها معتمدا في الأساس على الإنتاج الفكري الغربي من باب (وشهد شاهد من أهلها)(4) ، مرجئا مسألة استخدام الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية في آراء الأعداء قبل الأصدقاء.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن المؤلف رجل دين متحمس ، يبشر بدعوة الإسلام بأسلوب جديد ، إنه مفكر مصلح يعمل بالصحافة ، رئيسا لتحرير مجلة (الجمعيت الأسبوعية) وما عرضته هنا هو نتيجة تأمل واهتمام مؤرق بمشكلات الشباب المسلم ، حتى أصدر كتابه هذا عام 1966 ، ومازال وفيا لقضيته ، مجاهدا في سبيلها.
ولئن كنا قد ألمحنا قبل بضعة أسطر إلى بعض ملامح منهجه ، فإن تنظيم هذا المنهج قد اقتضاه أن يضع قضاياه في ترتيب منطقي :
فهو قد وضع كتابه علاجا للمشكلات العقيدية التي تواجه البشر ، ولما كان المتوارد على مسرح الأحداث ، مبدأ الدين ، ومبدأ الإلحاد ، وكان هو من معسكر الدين – وجب عليه أن يدلف إلى هدفه من خلال دعاوى الخصوم ، حتى لا يتهم بتجاهلها ، فعرض فكرة معارضي الدين وبين أسسها البيولوجية والنفسية والتاريخية. ومعنى ذلك أنه يعرض جوهر فلسفات ثلاثة : الداروينية ، والفرويدية ، والماركسية ، وهي المبادئ التي قادت في مجموعها قطعانا من البشر في وادي الإلحاد ، وإنكار وجود الله ، وتأليه المادة.
فإذا بدأ بمناقشة هذه المبادئ سلك نفس السبيل التي سلكتها. فاستقى أدلته من الطبيعة ، ومن البحوث النفسية ، والتاريخية.
وإذا كان أعظم قضايا الدين ، بعد الإيمان بالله ، الإيمان باليوم الآخر ، حقيقة غيبية ، لا مراء فيها ، وكانت أهم دعاوى الإلحاد قائمة على إنكار هذا اللقاء مع الخالق –فإن إثبات إمكان الآخرة بالأدلة الطبيعية والبيولوجية والتاريخية- هو أيضا من الأدلة القاطعة بصحة الدين وبوجود الله ومن ثم نجده متألقا في تبيان الحاجة إلى الآخرة نفسيا وأخلاقيا وسلوكيا ،حتى إذا استقر في وعي القارئ ضرورة الآخرة كان ذلك طريقا إلى إقرار ضرورة الإيمان بالله من جانب آخر ، فالآخرة إذن قضية وبرهان في آن.
والمؤلف لا يكتفي في هذا الباب بدليل واحد ، بل هو يقدم بحوثا قيمة في ضرورة الآخرة من الناحية الكونية ، ويسوق شهادات تجريبية ، وبحوثا نفسية وروحية ، تؤكد هذه الضرورة ، كما يزيد القارئ ثروة في المفاهيم ويفسح له آفاق الاقتناع.
ويأتي بعد ذلك دور الرسالة ، وهي الدليل التاريخي على الحقيقتين السالفتين لأن الرسل هم الذين دلوا عليهما ، قبل أن يخطو الإنسان هذه الخطوات الجبارة في ميدان العلم والتجربة.
ومن الضروري أن نلفت النظر هنا إلى أن المؤلف لا يعني بكلمة (الدين) إلا ما عناه الحق سبحانه بها في قوله : (إن الدين عند الله الإسلام)(5) ، فإذا تناول قضية الرسالة فمقصده قطعا قضية الإسلام ، وكتابها المعجز: القرآن.
ويعقد في هذا الباب عدة فصول يتحدث فيها عن إعجاز القرآن التاريخي والعلمي ، ويورد لمحات كثيرة عن تنبؤات القرآن ، وما تضمنته آياته من حقائق لم يكشف عنها إلا في العصر الحديث ، في الفلك ، وطبقات الأرض وغيرهما.
فإذا انتهى من إثبات هذه الصفة العلوية للقرآن ، وأكد به الحقيقة الأولى ، وهي وجود الله ، عقد بابا خاصا بعلاقة الدين بمشكلات الحضارة ، فتناول في جانب منه مشكلات التشريع ، وعناصره الأساسية ، وتحديد الدين لمفهوم الجريمة ، وعلاقة القانون بالأخلاق ، وبالفرد ، وبالعدل.
ولا يفوته أن يتحدث عن بعض مشكلات الحضارة الحديثة ، كمشكلة المرأة ، والتمدن، والملكية ، مقارنا في كل ذلك نظام الإسلام بنظامي الحكم المعاصرين: الرأسمالية والشيوعية.
ويأتي أخيرا حديثه عن مستقبل هذا العالم الإسلامي ، وما ينشده أبناؤه من أهداف سامية ، وما ينبغي أن يكون لهم من رسالة في هذا العالم الحائر ، بين مذاهب الإلحاد الواهية المتهاوية ، ودين الفطرة الذي جعله الله ختام الأديان ، وجعل نبيه خاتم المرسلين ، مبينا كيف أدى الإلحاد في المجتمعات الأوروبية إلى التحلل، والتمزق الأسري ، وتكون طبقات من المجرمين والشواذ ، وانتشار أعصى الأمراض النفسية والعصبية ، جراء الحرمان من الإيمان بالله ، خالقنا ومالكنا ، ويختار لخاتم كتابه كلمة قبسها عن الأستاذ أ.كريسي موريسون ، إذ قال:
(إن الاحتشام والاحترام والسخاء وعظمة الأخلاق والقيم والمشاعر السامية وكل ما يمكن اعتباره نفحات إلهية – لا يمكن الحصول عليها من طريق الإلحاد ، فالإلحاد نوع من الأنانية حيث يجلس (الإنسان) على كرسي (الله).)
(لسوف تقضى هذه الحضارة بدون العقيدة والدين.)
(سوف يتحول النظام إلى فوضى.)
(سوف ينعدم التوازن وضبط النفس والتمسك.)
(سوف يتفشى الشر في كل مكان.)
(إنها لحاجة ملحة أن نقوي من صلتنا وعلاقتنا بالله.)
فهذا هو منهج الكتاب في إيجاز شديد ، وهو منهج يشدني إلى ملاحظة هامة أحب أن أضعها بين يدي القارئ. ذلك أن خطوات هذا المنهج ، بنفس الترتيب تكاد تكون طبق الأصل من كتاب أخرجته من قبل مترجما عن الفرنسية ، هو كتاب ( الظاهرة القرآنية) ، للمفكر الجزائري مالك بن نبى ، وهي ملاحظة غريبة في المنهج ، لا تنصرف إلى مادة الكتابين ، لأن المؤلفين مختلفان في عقليتهما ، وثقافتهما ، وطريقة معالجتهما لهذه القضايا الدقيقة ، حتى إني أكاد أقطع بأن المحاولتين من حيث المصادر والمادة والأسلوب متباعدتان تماما ، إحداهما عن الأخرى ، بعد ما بين الجزائر والهند ، ولم يحدث أن التقى الرجلان في صعيد واحد ، فيما أعلم ، وتفسير هذا التوافق ينحصر في توارد الأفكار على مشكلة واحدة.
بيد أن ذلك لا يمنعني من إقرار أن كلا الكتابين صادر عن نفس الإحساس بضرورة وضع منهج جديد للإقناع الديني ، وكلاهما توفرت فيه المنهجية الحديثة ، وموضوعهما مشترك كذلك ، والروح الكامنة في مضمونهما روح ثائرة مؤمنة.
وحسب الشباب المسلم من هذه الملاحظة دليلا على أن روح الإسلام طاقة لا يمكن أن تخمد ، وستظل تصنع المعجزات ، برغم التفوق الماد الذي حققته مجتمعات الملاحدة المعاصرين.
نعم . . إن هذا التوافق العجيب بين مفكرين من أكابر مفكرينا يكاد أن يكون من بدائع الروح الخالدة ، روح الإسلام ، وأقول: الخالدة ، لأن الروح طاقة ، والطاقة لا تفنى ، وذلك وعد الله: (إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(6).
والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
وصلى الله على محمد خاتم النبيين.
عبد الصبور شاهين
الكويت – ديسمبر 1969
تمهــــــــيد
الموضوع الذي سندرسه في الصفحات التالية ليس بجديد بالنسبة إلى اللغة الأردية ، ولكن المؤلف يشعر بأنه لا يزال ناقصا ، رغم الجهود الطيبة التي بذلها بعض الكتاب.
والعصر الحديث يسمى : (عصر الإلحاد)، لإنكاره الدين. وهذا الإلحاد ليس محض ادعاء. بل يثرى أصحاب نظريته أنها طريقة بحث ودراسة ، اهتدى إليها الإنسان ، بعد التطور الحديث فى ميادين العلم المختلفة ، وهذه(الدراسة التطورية) لا تهدف إلى إثبات نظرية ما أو إنكارها ، وإنما هى منهج خالص فى البحث ، أثبت لأصحابه أن الدين باطل ، ويمكن أن نفهم هذه الطريقة الجديدة فيما قاله ت.ر..مايلز:
(إن الدراسة الجديدة هى تكنيك ومنهج ونمط معين لمواجهة الأسئلة ، وهى لا تستهدف وضع إجابات قطعية. وهو –من هذا الوجه- تغير هام طرأ على الفلسفة فى النصف الأخير من هذا القرن ، ولسوف يبقى هذا التغير مستمرا ، دون أمل فى توقفه على المدى(1) البعيد).
ولابد لباحثينا إذا ما أرادوا البحث فى العلوم الحديثة ، دفاعا عن الدين ، ألا يغيب عن أذهانهم هذا التفسير ، سواء اعتبرناه تفسيرا علميا محضا توصل إليه المفكرون المحدثون ، أو اعتبرناه مجرد ملجأ جميل ركنوا إليه حين أخفقوا فى البحث عن التفسير المادي للكون بعد إنكار الدين.
وعلى سبيل المثال : إن الأعمال التى قام بها علماؤنا لإثبات النبوة تفترض مقدما أن العصر الحديث يدعى : أن محمدا صلى الله عليه وسلم (كان نبيا كاذبا) ، فيبدءون فى جمع كميات كبيرة من المواد التى تثبت أن محمدا كان (نبيا صادقا). ومغزى القول :(كان محمد نبيا كاذبا) هو أن هناك أنبياء آخرين صادقين ؛ على حين يشك الإنسان الجديد فى المبدأ نفسه فهو لا يؤمن بالنبوة أصلا. فأما (النبي الكاذب) False Prophet فهو اعتراض قديم جاء به اليهود والنصارى الذين يؤمنون بأنبيائهم وينكرون نبى الإسلام. وأما العقل الحديث فلا يبحث عما إذا كان محمد نبيا(صادقا أو كاذبا) ، وإنما يبحث عن منبع كلامه النبوي وينتهي اعتمادا على المناهج المعروفة إلى أن مصدر هذا الكلام الغريب هو : (اللاشعور). . . وهو يرى أن التعبير عن كلام اللاشعور بالوحى والإلهام يصلح أن يكون استعارة جميلة ولكنه يستحيل اعتباره واقعا حقيقيا.
ولذا فإن مهمتنا لا تنتهي عند إثبات صدق نبوة رسول الإسلام ، بل علينا أن نضطلع بالبحث عن الوحي والإلهام ونثبت أن الوحي ينزل على أناس معينين ، من بينهم نبي الإسلام.
* * *
كان هذا موقف من يتصدى لنقد الفكر الحديث دون فهم موقفه من القضية. وهناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين ، ولكنه لشدة تأثرهم بالفكر الحديث يرون أن كل ما توصل إليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية) ، ومن ثم تقتصر بطولتهم على إثبات أن هذه النظريات التى سلم بها علماء الغرب هى نفس ما ورد فى القرآن الكريم وكتب الأحاديث الأخرى. وهذه الطريقة فى التطبيق والتوفيق بين الإسلام وغيره هى نفس الطريقة التى تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة. وأية نظرية تقدم على هذا النحو يمكنها أن تكون تابعة ولكنها لا يمكن أن تكون رائدة! ولو خيل إلى أحدنا أنه يستطيع أن يغير مجال الفكر فى العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية ليشرق على البشرية نور الحق فهو هائم ولا شك فى عالم خيالي لا يمت إلى الحقائق بسبب. .فإن تغيير الأفكار والمعتقدات لا يأتي من طريق التلفيق ، بل عن طريق الثورة الفكرية.
وهذه الحالة تورطنا بصورة أكبر عندما تتعلق المسألة بجانب أساسي وهام من أفكار الدين ، فلا بأس بأن يقوم أحدنا بتفسير جديد لظاهرة (الشهاب الثاقب) التي وردت فى القرآن حين يجد كشفا جديدا فى علم الفلك الحديث ولكننا لو قبلنا نظرية كلية شاملة وذات علاقة بالمشكلات الأخرى التى تثار حول الدين فسوف يكون لذلك تأثير عميق وكلى فى هيكل الفلسفة الدينية نفسه.
وأوضح مثال فى هذا هو تلك الجماعة من علمائنا الذين قبلوا (نظرية النشوء والارتقاء) لأن علماء الغرب أعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها بعد دراستهم ومشاهدتهم. . واضطروا بناء على هذا إلى تفسير جديد للإسلام فى ضوء النظرية الجديدة ، وحين احتاجوا إلى لباس جديد قاموا بتفصيل ثوب الإسلام مرة أخرى ولكنه ثوب مشوه المعالم لا أثر فيه من روح الإسلام التي ضاعت مع الأجزاء المقطعة فى عملية التلفيق الجديدة.
إن نظرية النشوء والارتقاء تستهدف إقرار فكرة التطور بصفة مستمرة بحيث تبلغ الحياة أوجها عند النهاية. وبناء على هذا: لابد من أن تحدث الأحوال السيئة فى الماضي لا فى المستقبل. ويروق لهذه النظرية حياة الخلود فى الجنة ولكنها لا تقبل الخلود فى نار الجحيم. ولذا ادعى العلماء المسلمون الذين قبلوا هذه النظرية أن الجحيم ليست مكانا للعذاب وإنما هى مركز للتربية والتزكية. فالحياة تواصل مسيرتها فى مواجهة الصعاب والمشكلات. والذين لم يستطيعوا مواصلة مسيرتهم بسبب عوائق الذنوب سوف يمرون بأحوال الجحيم الصعبة حتى يواصلوا رحلتهم التطورية خلال الحياة القادمة. ومن هنا ترى هذه الطائفة أن قوانين الملكية-مثلا-فى الإسلام ليست إلا (أحكاما مؤقتة) فإن هذه القوانين لا تتفق ونظرية التطور الاجتماعي.
ويمكن فهم نوعية الأعمال التى قام بها بعض علماؤنا من المثالين المذكورين ، فهى أعمال ناقصة رغم الجهود التى بذلت فى صوغها. ولا يدعى المؤلف أن محاولته تخلوا من النقائص ولكنه يقول: إن المحرك الحقيقي لمحاولته هو شعوره بأن عملا من هذا القبيل كان لابد أن يكون.
* * *
إن الطريقة التى يتبعها الكتاب للدفاع عن الدين ذات وجهين: فكرية وتجريبية ؛ وبعبارة أخرى: فلسفية وعلمية إن صح التعبير. وقد راعى المؤلف الطريقة الثانية وهى التجريبية أو العلمية. والسبب فى دلك أن مكتبتنا تذخر بمجلدات ضخمة من الكتب التى وضعت على المنهج الأول على حين يوجد نقص شديد فى الكتب من المنهج الثاني.
وإنني لأشعر بأن المضمار الفسيح الذى هيأته الدراسات العلمية الحديثة لإثبات الدين هو تصديق لما جاء فى القرآن فى سورة النمل:(وقل الحمد لله ، سيريكم آياته فتعرفونها). وهذا الكتاب محاولة لاستغلال الإمكانات الجديدة لصالح الدين بطريقة منتظمة.
* * *
وهذا الكتاب ليس دراسة موضوعية بل هو دراسة ذاتية بناء على التقسيم الجديد للكتب. وهذا الواقع كما يرى العقل الحديث هو من تلقاء نفسه صوت ضد الكتاب! فكيف يمكن الاعتماد على دراسة ذاتية قدمها عقل يستهدف اتجاها معينا؟ و جوابا على هذا الاعتراض الذى قد يثار ، أنقل هنا عبارة للمستشرق النمسوي المسلم محمد أسد فى مقدمة أحد كتبه:
(إن هذا الكتاب لا يستهدف مسحا محايدا للمسائل بل هو عرض لقضية هي قضية الإسلام في مواجهة الحضارة الغربية)(2).
وعلى الرغم من الأحكام التى قدمها علم النفس حول إمكان أن يكون المرء محايدا فى أبحاثه أو لا ، فإنني أسلم-نظريا-بأنه لابد لكل مؤلف أن يبذل قصارى جهده لكى يكون محايدا من أجل الوصول إلى نتيجة ما ، وهذا هو ما يقصده كل كاتب أمين. لكن هذا الكاتب نفسه عندما يجلس إلى مكتبه-فى الواقع-لا نجده باحثا عن الحقيقة أثناء كتابته بل يكون قد توصل إلى أحكام محددة المعالم.
وهناك طريقة أخرى هى أن يسرد المؤلف قصة بحثه بجميع مراحلها غير أن اعتبار مثل هذا الكتاب محايدا لا يعدو أن يكون قناعا مزركشا تختبئ تحته أهداف المؤلف. فليس هناك من كاتب يبدأ دراسته عندما يبدأ الكتابة ، وإنما هو يعرض نتائج بحثه في كتابه. فالكتاب إنما يكون ذاتيا أو موضوعيا بالنظر إلي طريقة ترتيبه للموضوعات ولا علاقة لهذا الترتيب بحياد البحث أو موضوعيته.
* * *
لقد وردت كلمة (الدين) كثيرا فى هذا الكتاب وليس لأحد أن يغالط فى هذا الموضوع. . فإن الكتاب يدور حول موضوع عام ولذلك كان لاستعمال الكلمة العامة أهميته. أما ذهن المؤلف فإنه لا يقصد بالكلمة شيئا وهميا وإنما يعنى (الدين) المعتمد عند الله تعالى الآن وهو دين الإسلام. وأنا حين أطالب مواطنا هنديا بمراعاة القانون فليس معنى ذلك أنه تكفيه مراعاة قانون ما أو أى جزء من دستور الهند ، وإنما عليه مراعاة ذلك القانون الذى يعتبر دستور البلاد الرسمي. وهكذا فالمراد بالدين العملي اليوم هو الإسلام مع أنه من الممكن إطلاقه على أى شيء عرف فى التاريخ بذلك الاسم ولكن الدين الذى يجلب رضا الله تبارك وتعالى والذي يكفل لمعتنقيه نجاة الآخرة ، هو الإسلام لا غير. .
* * *
لقد تعرضت لسؤال بعد محاضرة ألقيتها فى إحدى الجامعات ذات مرة ، وكنت أشرت فى محاضرتي إلى مقال لفرويد ، فوقف أستاذ فى علم النفس أثناء فترة الأسئلة وقال: (لقد أشرتم فى مقال لفرويد تأييدا لنظرية دينية على حين يعارض (فرويد) معارضة كاملة تلك النظرية التى تمثلونها)
ومن الممكن إثارة هذا السؤال حول هذا الكتاب على نطاق واسع ، فهناك اقتباسات كثيرة وردت فيه ومن الجائز ألا يوافق أصحابها على النتائج التي توصلت إليها. وعلى سبيل المثال:الاقتباس الذي ورد في آخر الباب الخامس (دليل الآخرة) ، ولكن هذا الاعتراض غير ذي موضوع ، لأن المؤلف لا يدعى أن هذه الشخصيات تؤيد قضاياه ، وبكلمة أخرى لم يقل المؤلف: إن هذه القضية أو تلك صادقة لأن فلانا يصدقها أو يؤيدها. وعلى العكس من ذلك فإن جميع هذه الاقتباسات قد استعملت توضيحا لدليل أو قضية ، فقد يعبر المؤلف عن قضية معينة بألفاظه تارة وقد يستعير ألفاظ الآخرين حتى يتبين الموضوع تارة أخرى.
والاتجاهات التى تمثلها هذه الاقتباسات ليست بآراء ذاتية لأصحابها وإنما هى كشوف علمية يمنحها الملحدون معاني مختلفة. أما نحن فقد جمعناها حين شعرنا أنها فى صالح الدين ، وأما الاقتباسات التى تؤيد الدين صراحة فأكثرها لعلماء يدينون بالمسيحية ؛ ولا عجب فهم يشاركوننا فى كثير من العقائد السماوية.
* * *
وواضح من عنوان الكتاب أنه يهدف إلى إثبات أحقية الدين أمام الفكر المادي الجديد. وهذا الإثبات يتخذ لنفسه أسلوبين ، أولهما: أن نستدل بأن الدين ليس (ماديا) بل فوق المادة ن وبناء على ذلك ليس للعلوم المادية أن تعترض طريق الدين ، وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية القوة ؛ حيث إن العلماء قد اعترفوا في هذا القرن: (بأن العلوم المادية لا تعطى إلا علما جزئيا عن الحقائق) ، ومغزاه أنه بناء على اعتراف هذه العلوم نفسها هناك حقائق أخرى لا تستطيع العلوم المادية الوصول إليها ، ومنها حقائق الدين. ويعتبر كتاب (ج.و.ن. سوليفان) خير محاولة في هذا الموضوع وسوف نستعرضه في الباب السابع من هذا الكتاب.
وأما الطريقة الأخرى لإثبات حقائق الدين فهي اتباع نفس الطرق العلمية التي يتبعها العلماء الملحدون لإثبات معتقداتهم. وقد ركز المؤلف أهمية أكثر على هذا الجانب ، فهو يرى أنه لابد من اتباع نفس أساليب الاستدلال التي يستغلها الملحدون حتى يمكن إثبات حقية الدين.
* * *
وهناك ناحية أخرى لابد من توضيحها هي أن الأسلوب الذي سلكه الكتاب قد يكون غريبا على بعض الأذهان من علماء الدين ، وإذا كان الأمر كذلك فإنى أقول: إنه لابد من مراعاة حقيقة هي أن هذا الكتاب لا يستهدف تفسير الدين بل هو وليد ضرورة كلامية ؛ فالأسلوب الذي يسلك عند تفسير الدين أمام أصحاب الفطر الدينية المؤمنة غير الاسلوب الذي يستخدم عندما يكون الحاضرون ممن يزعمون أن الدين خدعة وأضحوكة وتخدير للشعوب ، فكلما أردنا مواجهة الأسئلة التي تثار ضد الدين ، كان لابد من تغيير لهجتنا ولغتنا بتلك التي يستغلها الأعداء حتى نستطيع أن نقف أمام العواصف. وعلينا ألا ننسى أن طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيرا بتغير الزمن ، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدى العصر الحديث. .
* * *
وقبل أن أختم هذا الحديث أرى لزاما على أن أعترف بجميل زميلين من الرفاق-مهديا إليهما هذا الكتاب- وهما من الشخصيات اللامعة التي عرفت بخدمة الإسلام في الربع الأخير من هذا القرن. . وهما:مولانا أبو الأعلى المودودى ، ومولانا السيد أبو الحسن على الحسنى الندوى. فالفضل يرجع إلى الأستاذ المودودى في أنه كان المحرك الذي حثني- بطريقة غير مباشرة-على أن أضحى بحياتي لخدمة الإسلام منذ خمسة عشر عاما ، في أدق مرحلة من مراحل حياتي. . وأما الأستاذ الندوى فهو الذي حملني على القيام بهذا العمل ، فجزاهما الله خير جزاء. .
لكناؤ
في 26 أغسطس 1964
وحيد الدين خان
الباب الأول
قضية معارضي الدين
والعصر الحديث يسمى : (عصر الإلحاد)، لإنكاره الدين. وهذا الإلحاد ليس محض ادعاء. بل يثرى أصحاب نظريته أنها طريقة بحث ودراسة ، اهتدى إليها الإنسان ، بعد التطور الحديث فى ميادين العلم المختلفة ، وهذه(الدراسة التطورية) لا تهدف إلى إثبات نظرية ما أو إنكارها ، وإنما هى منهج خالص فى البحث ، أثبت لأصحابه أن الدين باطل ، ويمكن أن نفهم هذه الطريقة الجديدة فيما قاله ت.ر..مايلز:
(إن الدراسة الجديدة هى تكنيك ومنهج ونمط معين لمواجهة الأسئلة ، وهى لا تستهدف وضع إجابات قطعية. وهو –من هذا الوجه- تغير هام طرأ على الفلسفة فى النصف الأخير من هذا القرن ، ولسوف يبقى هذا التغير مستمرا ، دون أمل فى توقفه على المدى(1) البعيد).
ولابد لباحثينا إذا ما أرادوا البحث فى العلوم الحديثة ، دفاعا عن الدين ، ألا يغيب عن أذهانهم هذا التفسير ، سواء اعتبرناه تفسيرا علميا محضا توصل إليه المفكرون المحدثون ، أو اعتبرناه مجرد ملجأ جميل ركنوا إليه حين أخفقوا فى البحث عن التفسير المادي للكون بعد إنكار الدين.
وعلى سبيل المثال : إن الأعمال التى قام بها علماؤنا لإثبات النبوة تفترض مقدما أن العصر الحديث يدعى : أن محمدا صلى الله عليه وسلم (كان نبيا كاذبا) ، فيبدءون فى جمع كميات كبيرة من المواد التى تثبت أن محمدا كان (نبيا صادقا). ومغزى القول :(كان محمد نبيا كاذبا) هو أن هناك أنبياء آخرين صادقين ؛ على حين يشك الإنسان الجديد فى المبدأ نفسه فهو لا يؤمن بالنبوة أصلا. فأما (النبي الكاذب) False Prophet فهو اعتراض قديم جاء به اليهود والنصارى الذين يؤمنون بأنبيائهم وينكرون نبى الإسلام. وأما العقل الحديث فلا يبحث عما إذا كان محمد نبيا(صادقا أو كاذبا) ، وإنما يبحث عن منبع كلامه النبوي وينتهي اعتمادا على المناهج المعروفة إلى أن مصدر هذا الكلام الغريب هو : (اللاشعور). . . وهو يرى أن التعبير عن كلام اللاشعور بالوحى والإلهام يصلح أن يكون استعارة جميلة ولكنه يستحيل اعتباره واقعا حقيقيا.
ولذا فإن مهمتنا لا تنتهي عند إثبات صدق نبوة رسول الإسلام ، بل علينا أن نضطلع بالبحث عن الوحي والإلهام ونثبت أن الوحي ينزل على أناس معينين ، من بينهم نبي الإسلام.
* * *
كان هذا موقف من يتصدى لنقد الفكر الحديث دون فهم موقفه من القضية. وهناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين ، ولكنه لشدة تأثرهم بالفكر الحديث يرون أن كل ما توصل إليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية) ، ومن ثم تقتصر بطولتهم على إثبات أن هذه النظريات التى سلم بها علماء الغرب هى نفس ما ورد فى القرآن الكريم وكتب الأحاديث الأخرى. وهذه الطريقة فى التطبيق والتوفيق بين الإسلام وغيره هى نفس الطريقة التى تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة. وأية نظرية تقدم على هذا النحو يمكنها أن تكون تابعة ولكنها لا يمكن أن تكون رائدة! ولو خيل إلى أحدنا أنه يستطيع أن يغير مجال الفكر فى العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية ليشرق على البشرية نور الحق فهو هائم ولا شك فى عالم خيالي لا يمت إلى الحقائق بسبب. .فإن تغيير الأفكار والمعتقدات لا يأتي من طريق التلفيق ، بل عن طريق الثورة الفكرية.
وهذه الحالة تورطنا بصورة أكبر عندما تتعلق المسألة بجانب أساسي وهام من أفكار الدين ، فلا بأس بأن يقوم أحدنا بتفسير جديد لظاهرة (الشهاب الثاقب) التي وردت فى القرآن حين يجد كشفا جديدا فى علم الفلك الحديث ولكننا لو قبلنا نظرية كلية شاملة وذات علاقة بالمشكلات الأخرى التى تثار حول الدين فسوف يكون لذلك تأثير عميق وكلى فى هيكل الفلسفة الدينية نفسه.
وأوضح مثال فى هذا هو تلك الجماعة من علمائنا الذين قبلوا (نظرية النشوء والارتقاء) لأن علماء الغرب أعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها بعد دراستهم ومشاهدتهم. . واضطروا بناء على هذا إلى تفسير جديد للإسلام فى ضوء النظرية الجديدة ، وحين احتاجوا إلى لباس جديد قاموا بتفصيل ثوب الإسلام مرة أخرى ولكنه ثوب مشوه المعالم لا أثر فيه من روح الإسلام التي ضاعت مع الأجزاء المقطعة فى عملية التلفيق الجديدة.
إن نظرية النشوء والارتقاء تستهدف إقرار فكرة التطور بصفة مستمرة بحيث تبلغ الحياة أوجها عند النهاية. وبناء على هذا: لابد من أن تحدث الأحوال السيئة فى الماضي لا فى المستقبل. ويروق لهذه النظرية حياة الخلود فى الجنة ولكنها لا تقبل الخلود فى نار الجحيم. ولذا ادعى العلماء المسلمون الذين قبلوا هذه النظرية أن الجحيم ليست مكانا للعذاب وإنما هى مركز للتربية والتزكية. فالحياة تواصل مسيرتها فى مواجهة الصعاب والمشكلات. والذين لم يستطيعوا مواصلة مسيرتهم بسبب عوائق الذنوب سوف يمرون بأحوال الجحيم الصعبة حتى يواصلوا رحلتهم التطورية خلال الحياة القادمة. ومن هنا ترى هذه الطائفة أن قوانين الملكية-مثلا-فى الإسلام ليست إلا (أحكاما مؤقتة) فإن هذه القوانين لا تتفق ونظرية التطور الاجتماعي.
ويمكن فهم نوعية الأعمال التى قام بها بعض علماؤنا من المثالين المذكورين ، فهى أعمال ناقصة رغم الجهود التى بذلت فى صوغها. ولا يدعى المؤلف أن محاولته تخلوا من النقائص ولكنه يقول: إن المحرك الحقيقي لمحاولته هو شعوره بأن عملا من هذا القبيل كان لابد أن يكون.
* * *
إن الطريقة التى يتبعها الكتاب للدفاع عن الدين ذات وجهين: فكرية وتجريبية ؛ وبعبارة أخرى: فلسفية وعلمية إن صح التعبير. وقد راعى المؤلف الطريقة الثانية وهى التجريبية أو العلمية. والسبب فى دلك أن مكتبتنا تذخر بمجلدات ضخمة من الكتب التى وضعت على المنهج الأول على حين يوجد نقص شديد فى الكتب من المنهج الثاني.
وإنني لأشعر بأن المضمار الفسيح الذى هيأته الدراسات العلمية الحديثة لإثبات الدين هو تصديق لما جاء فى القرآن فى سورة النمل:(وقل الحمد لله ، سيريكم آياته فتعرفونها). وهذا الكتاب محاولة لاستغلال الإمكانات الجديدة لصالح الدين بطريقة منتظمة.
* * *
وهذا الكتاب ليس دراسة موضوعية بل هو دراسة ذاتية بناء على التقسيم الجديد للكتب. وهذا الواقع كما يرى العقل الحديث هو من تلقاء نفسه صوت ضد الكتاب! فكيف يمكن الاعتماد على دراسة ذاتية قدمها عقل يستهدف اتجاها معينا؟ و جوابا على هذا الاعتراض الذى قد يثار ، أنقل هنا عبارة للمستشرق النمسوي المسلم محمد أسد فى مقدمة أحد كتبه:
(إن هذا الكتاب لا يستهدف مسحا محايدا للمسائل بل هو عرض لقضية هي قضية الإسلام في مواجهة الحضارة الغربية)(2).
وعلى الرغم من الأحكام التى قدمها علم النفس حول إمكان أن يكون المرء محايدا فى أبحاثه أو لا ، فإنني أسلم-نظريا-بأنه لابد لكل مؤلف أن يبذل قصارى جهده لكى يكون محايدا من أجل الوصول إلى نتيجة ما ، وهذا هو ما يقصده كل كاتب أمين. لكن هذا الكاتب نفسه عندما يجلس إلى مكتبه-فى الواقع-لا نجده باحثا عن الحقيقة أثناء كتابته بل يكون قد توصل إلى أحكام محددة المعالم.
وهناك طريقة أخرى هى أن يسرد المؤلف قصة بحثه بجميع مراحلها غير أن اعتبار مثل هذا الكتاب محايدا لا يعدو أن يكون قناعا مزركشا تختبئ تحته أهداف المؤلف. فليس هناك من كاتب يبدأ دراسته عندما يبدأ الكتابة ، وإنما هو يعرض نتائج بحثه في كتابه. فالكتاب إنما يكون ذاتيا أو موضوعيا بالنظر إلي طريقة ترتيبه للموضوعات ولا علاقة لهذا الترتيب بحياد البحث أو موضوعيته.
* * *
لقد وردت كلمة (الدين) كثيرا فى هذا الكتاب وليس لأحد أن يغالط فى هذا الموضوع. . فإن الكتاب يدور حول موضوع عام ولذلك كان لاستعمال الكلمة العامة أهميته. أما ذهن المؤلف فإنه لا يقصد بالكلمة شيئا وهميا وإنما يعنى (الدين) المعتمد عند الله تعالى الآن وهو دين الإسلام. وأنا حين أطالب مواطنا هنديا بمراعاة القانون فليس معنى ذلك أنه تكفيه مراعاة قانون ما أو أى جزء من دستور الهند ، وإنما عليه مراعاة ذلك القانون الذى يعتبر دستور البلاد الرسمي. وهكذا فالمراد بالدين العملي اليوم هو الإسلام مع أنه من الممكن إطلاقه على أى شيء عرف فى التاريخ بذلك الاسم ولكن الدين الذى يجلب رضا الله تبارك وتعالى والذي يكفل لمعتنقيه نجاة الآخرة ، هو الإسلام لا غير. .
* * *
لقد تعرضت لسؤال بعد محاضرة ألقيتها فى إحدى الجامعات ذات مرة ، وكنت أشرت فى محاضرتي إلى مقال لفرويد ، فوقف أستاذ فى علم النفس أثناء فترة الأسئلة وقال: (لقد أشرتم فى مقال لفرويد تأييدا لنظرية دينية على حين يعارض (فرويد) معارضة كاملة تلك النظرية التى تمثلونها)
ومن الممكن إثارة هذا السؤال حول هذا الكتاب على نطاق واسع ، فهناك اقتباسات كثيرة وردت فيه ومن الجائز ألا يوافق أصحابها على النتائج التي توصلت إليها. وعلى سبيل المثال:الاقتباس الذي ورد في آخر الباب الخامس (دليل الآخرة) ، ولكن هذا الاعتراض غير ذي موضوع ، لأن المؤلف لا يدعى أن هذه الشخصيات تؤيد قضاياه ، وبكلمة أخرى لم يقل المؤلف: إن هذه القضية أو تلك صادقة لأن فلانا يصدقها أو يؤيدها. وعلى العكس من ذلك فإن جميع هذه الاقتباسات قد استعملت توضيحا لدليل أو قضية ، فقد يعبر المؤلف عن قضية معينة بألفاظه تارة وقد يستعير ألفاظ الآخرين حتى يتبين الموضوع تارة أخرى.
والاتجاهات التى تمثلها هذه الاقتباسات ليست بآراء ذاتية لأصحابها وإنما هى كشوف علمية يمنحها الملحدون معاني مختلفة. أما نحن فقد جمعناها حين شعرنا أنها فى صالح الدين ، وأما الاقتباسات التى تؤيد الدين صراحة فأكثرها لعلماء يدينون بالمسيحية ؛ ولا عجب فهم يشاركوننا فى كثير من العقائد السماوية.
* * *
وواضح من عنوان الكتاب أنه يهدف إلى إثبات أحقية الدين أمام الفكر المادي الجديد. وهذا الإثبات يتخذ لنفسه أسلوبين ، أولهما: أن نستدل بأن الدين ليس (ماديا) بل فوق المادة ن وبناء على ذلك ليس للعلوم المادية أن تعترض طريق الدين ، وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية القوة ؛ حيث إن العلماء قد اعترفوا في هذا القرن: (بأن العلوم المادية لا تعطى إلا علما جزئيا عن الحقائق) ، ومغزاه أنه بناء على اعتراف هذه العلوم نفسها هناك حقائق أخرى لا تستطيع العلوم المادية الوصول إليها ، ومنها حقائق الدين. ويعتبر كتاب (ج.و.ن. سوليفان) خير محاولة في هذا الموضوع وسوف نستعرضه في الباب السابع من هذا الكتاب.
وأما الطريقة الأخرى لإثبات حقائق الدين فهي اتباع نفس الطرق العلمية التي يتبعها العلماء الملحدون لإثبات معتقداتهم. وقد ركز المؤلف أهمية أكثر على هذا الجانب ، فهو يرى أنه لابد من اتباع نفس أساليب الاستدلال التي يستغلها الملحدون حتى يمكن إثبات حقية الدين.
* * *
وهناك ناحية أخرى لابد من توضيحها هي أن الأسلوب الذي سلكه الكتاب قد يكون غريبا على بعض الأذهان من علماء الدين ، وإذا كان الأمر كذلك فإنى أقول: إنه لابد من مراعاة حقيقة هي أن هذا الكتاب لا يستهدف تفسير الدين بل هو وليد ضرورة كلامية ؛ فالأسلوب الذي يسلك عند تفسير الدين أمام أصحاب الفطر الدينية المؤمنة غير الاسلوب الذي يستخدم عندما يكون الحاضرون ممن يزعمون أن الدين خدعة وأضحوكة وتخدير للشعوب ، فكلما أردنا مواجهة الأسئلة التي تثار ضد الدين ، كان لابد من تغيير لهجتنا ولغتنا بتلك التي يستغلها الأعداء حتى نستطيع أن نقف أمام العواصف. وعلينا ألا ننسى أن طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيرا بتغير الزمن ، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدى العصر الحديث. .
* * *
وقبل أن أختم هذا الحديث أرى لزاما على أن أعترف بجميل زميلين من الرفاق-مهديا إليهما هذا الكتاب- وهما من الشخصيات اللامعة التي عرفت بخدمة الإسلام في الربع الأخير من هذا القرن. . وهما:مولانا أبو الأعلى المودودى ، ومولانا السيد أبو الحسن على الحسنى الندوى. فالفضل يرجع إلى الأستاذ المودودى في أنه كان المحرك الذي حثني- بطريقة غير مباشرة-على أن أضحى بحياتي لخدمة الإسلام منذ خمسة عشر عاما ، في أدق مرحلة من مراحل حياتي. . وأما الأستاذ الندوى فهو الذي حملني على القيام بهذا العمل ، فجزاهما الله خير جزاء. .
لكناؤ
في 26 أغسطس 1964
وحيد الدين خان
الباب الأول
قضية معارضي الدين
(تعتبر التطورات العلمية التي حدثت في القرن الماضي (انفجارا معرفيا) Knowledge Explosionفي وجه جميع الأساطير الإنسانية عن الآلهة والدين كما تفجرت الأفكار القديمة عن المادة ونسفت بمجرد تفجير الذرة). . هذه هي قضية العلم الحديث الموجهة إلى الدين كما يقول البروفيسور حوليان هكسلى(3).وتعتبر الصفحات التالية ردا على هذا التحدي ؛ فلقد كشفت أضواء العلم الحديث عن حقائق الدين ولم تنجح من أية ناحية في الإساءة إليه ، بل إن جميع ما وصل أو سيصل إليه العلم الحديث هو بمثابة تصديق لما أسماه الإسلام: (بالحقيقة الأخيرة) قبل أربعة عشر قرنا من الزمان:
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)(4).
* * *
والدين كما يزعم الملحدون من العلماء شيء لا حقيقة له ، وهو مظهر للغريزة الإنسانية الباحثة عن حقائق الكون والتي تحاول تفسيره. إن هذه الغريزة الإنسانية في ذاتها شيء مستحسن ، ولكن المعلومات والوسائل المحدودة قد انتهت بأجدادنا إلى إجابات غير صحيحة وهى التي تحتويها الآن أفكارهم عن الإله والدين. أما اليوم وبعدما توفرت لدينا الوسائل العلمية وأصلحت المعلومات الحديثة شئ كثيرا من معتقداتنا الاجتماعية والحضارية ، فقد حان الوقت لنعيد النظر في جميع ما وصل إليه أجدادنا من أفكار.
* * *
ويذهب الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت) –الذي نشأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر- إلى أن تاريخ تطور الفكر الإنساني ينقسم إلى ثلاث مراحل:
الأولى: المرحلة اللاهوتية (Theological Stage) والتي فسرت الأحداث فيها باسم الإله.
والثانية: المرحلة الميتافيزيقية وفيها فسر الإنسان الأحداث باسم (عناصر خارجية) لا يعلمها ولكنه لا يذكر اسم الإله.
والثالثة: المرحلة الوضعية (Positive Stage) التي أخذ الإنسان يفسر فيها الأحداث باعتبارها عناصر خاضعة لقوانين عامة يمكن إدراكها بالمطالعة أو بالمشاهدة العلمية. وفى هذه المرحلة لا تذكر (الأرواح والآلهة والقوى المطلقة). ونحن بناء على هذا نعيش في المرحلة الثالثة التي تسمى في الفلسفة الحديثة بالوضعية المنطقية (Logical Positivisn). إن نظرية (الوضعية المنطقية) أو التجريبية العلمية (Scientific Empiricism) لم تعرف كحركة علمية عالمية إلا خلال العقد الرابع من القرن الحاضر ولكنها كفكرة نشأت قبل ذلك بسنين طويلة. وعلى ظهر هذه الفكرة نجد أسماء كبار العلماء والفلاسفة من أمثال: هيوم ، وميل ، إلى برتراندرسل. وقد أصبحت هذه الفكرة اليوم بفضل العدد الكبير من المؤسسات العلمية التي تقوم بدور فعال في الدعاية لها من أهم الحركات العلمية الحديثة. ويقول أحد الباحثين:
(كل معرفة حقة مرتبطة بالتجارب بحيث يمكن فحصها أو إثباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة)(5).
وبناء على هذا يدعى معارضو الدين أن التطور الذي بلغ به الإنسان اليوم أعلى مستوى من الإنسانية هو نفى للدين من تلقاء نفسه. والسر في ذلك أن الأفكار المتطورة الحديثة تؤكد أن (الحقيقة) ليست إلا مل يمكن فحصه وتجربته علميا ، وبعبارة أخرى إن التفسير اللاهوتي للأحداث والوقائع لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية فهو باطل لا حقيقة له. ويترتب على هذا القول بأن: (الدين تفسير زائف لوقائع حقيقية) ؛ ذلك أن علم الإنسان القديم المحدود لم يقدم التفسير الحقيقي للأحداث ، على حين أن القانون العام للتطور أتاح لنا أن نبحث عن الحقائق بالوسائل التجريبية الصحيحة.
ويمكن أن نقول هذا الكلام بأسلوب آخر: إن موقف علماء الأديان القديمة أشبه برجل يكتب (شيكا لا رصيد له في المصرف) فهم قد صاغوا عبارات ليس ورائها حقائق علمية ، فعبارة (الحقيقة العليا غير المتغيرة) صحيحة نحوا ولكن ليس لها أي أساس علمي (6).
(لقد أثبت (نيوتن) أنه لا وجود لإله يحكم النجوم. وأكد (لابلاس) بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أي أسطورة لاهوتية. وقام بهذا الدور العالمان العظيمان (دارون) و (باستور) في ميدان البيولوجيا. وقد ذهب كل من علم النفس المتطور والمعلومات التاريخية الثمينة التي حصلناها في هذا القرن بمكان الإله الذي كان مفروضا أنه هو مدير شئون الحياة الإنسانية والتاريخ)(7).
لقد قامت قضية معارضي الدين على أسس ثلاثة:
الأساس الأول: بطل هذا الانقلاب في البيولوجيا هو (نيوتن) الذي عرض على الدنيا فكرة تثبت أن الكون مرتبط بقوانين ثابتة تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية. ثم جاء بعده آخرون فأعطوا هذه الفكرة مجالا علميا أوسع حتى قيل: إن كل ما يحدث في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة). فلم يبق للعلماء ما يقولون بعد هذا الكشف ، ويرى أن الإله كان هو المحرك الأول لهذا الكون. وضرب (والتير) مثلا في هذا الصدد: أن الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها. ثم جاء (هيوم) فتخلص من هذا الإله الميت ، وعلى حد قوله: (لقد رأينا الساعات وهى تصنع في المصانع ولكننا لم نرى الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا)؟
* * *
لقد جلى التطور العلمي للإنسان كثيرا من سلسلة الأحداث التي لم يشاهدها من قبل ، فهو لم يكن على علم بأسباب شروق الشمس وغروبها حتى زعم أن هناك قوة فوق الطبيعة تجعلها تشرق وتغرب. و ها قد عرفنا اليوم أن شروق الشمس وغروبها يحدث لدوران الأرض حول نفسها ، وبذلك انتهت ضرورة القول بهذه الطاقة تلقائيا بعدما عرفنا الأسباب المؤدية إلى هذه الحركة الكونية. (فإذا كان قوس قزح مظهرا لانكسار أشعة الشمس على المطر ، فماذا يدعونا إلى القول بأنها آية الله في السماء).
من أجل هذا كله وغيره قال هكسلى:
(إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة)(8).
* * *
والأساس الثاني: وقد ازداد العلماء يقينا بعد البحوث العلمية في ميدان علم النفس حين توصلوا إلى نتائج تثبت أن الدين نتاج اللا شعور الإنساني وليس انكشافا لواقع خارجي. ويقول عالم كبير من علماء النفس:
(God is nothing but a projection of man on a cosmic screen)
(ليس الإله سوى انعكاس للشخصية الإنسانية على شاشة الكون). وما عقيدة الدنيا والآخرة إلا صورة مثالية للأمانى الإنسانية ، وما الوحي والإلهام إلا إظهار غير عادى لأساطير الأطفال المكبوتة (Childhood Repression)(9).
* * *
ويرى علم النفس الحديث أن العقل الإنساني مركب من شيئين هما: (الشعور) وهو مركز الأفكار التي تخطر على قلوبنا في ظروف عادية ، و( اللاشعور) وهو مخزن الأفكار التي مرت بنا ونسيناها ولا تظهر إلا في أحوال غير عادية كالجنون والهستيريا. وهذا القسم الثاني أكبر بكثير من الأول ، ويمكن أن نمثل لهما بجبل من الجليد فلو قسمناه تسعة أجزاء لكان منها ثمانية في جوف البحر ولظهر جزء واحد على السطح.
اكتشف فرويد بعد جهد طويل أن اللا شعور قد يقبل أفكارا في الطفولة وتؤدى إلى أعمال غير عقلية وهذا ما يحدث بالنسبة إلى العقائد الدينية: فإن فكرة الجحيم والجنة ترجع إلى صدى الأماني التي تنشأ لدى الإنسان إبان طفولته ولكن لم تسنح له الفرصة لتحقيقها فتبقى دفينة في اللاشعور ثم يفرض اللاشعور بدوره حياة أخرى يتيسر له فيها تحصيل ما كان يتمناه شأن الرجل الذي قد لا يظفر بما يحب في الواقع فيحصله في المنام. وهكذا خرجت عقدة التفرقة بين الصغير والكبير(Father complex) من الجرائم الاجتماعية ، فصاغوا منها نظرية على مستوى الكون والسماء.
ويقول رالف لينتون:
(عن عقيدة القادر المطلق الظالم في نهاية الأمر الذي لا يرضى إلا بالطاعة الكاملة والوفاء ، كانت أول ما أنتجه نضام المجتمع السامي ، لقد خلق هذا النظام جبروتا غير عادى ، وكانت نتيجة أن شريعة موسى خرجت بقوائم ضخمة مفصلة عن المحرمات في كل مجال من الحياة الإنسانية ، وقد آمن بهذه القوائم الطويلة العوام الذين كانوا يتقبلون أحكام آبائهم العمياء ويطيعونها ، وما التصور الإلهي (اليهودي) إلا خيال مثالي لأب سامي ، مع شيء من المبالغة والتجريد في الأوصاف والطاقات)(10).
والأساس الثالث: لقضية معارضي الدين هو: (التاريخ) ، يقولون: إن القضية الدينية وجدت لأسباب تاريخية أحاطت بالإنسان ، فلم يكن في استطاعته أن يفلت من السهول والأعاصير والطوفانات والزلازل والأمراض فأوجد (قوى فرضية) يستغيثها لتنقذه من البلايا النازلة ، وهكذا ظهرت الحاجة إلى شيء يجتمع الناس حوله ولا يفترقون ، فاستغل اسم (الإله) الذي تفوق قوته قوة الإنسان ويهرع الجميع إلى رضاه.
يقول محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية تحت اسم (الدين):
(وبجانب المؤثرات الأخرى التي ساعدت في خلق الدين فإن إسهام الأحوال السياسية والمدنية عظيم جدا لهذا المجال. إن الأسماء الإلهية وصفاتها خرجت من الأحوال التي كانت تسود على ظهر الأرض ، فعقيدة كون الإله (الملك الأكبر) صورة أخرى للملكية الإنسانية ، كذلك الملكية السماوية صورة طبق الأصل للملكية الأرضية. وكان الملك الأرضي القاضي الأكبر ، فأصبح الإله يحمل هذه الصفات ولقب (بالقاضي الأكبر الأخير) الذي يجازى الإنسان على الخير والشر من أعماله ، وهذه العقيدة القضائية التي تؤمن بكون الإله محاسبا ومجازيا لا توجد في اليهودية فحسب ، وإنما لها مقامها الأساسي في العقائد الدينية المسيحية والإسلامية) (11).
* * *
(لقد خلق العقل الإنساني الدين وأتم خلقه في حالة جهل الإنسان وعجزه عن مواجهة القوى الخارجية). ويضيف جوليان هكسلى إلى هذا قوله:
(فالدين نتيجة لتعامل خاص بين الإنسان وبيئته)(12). ويقول أيضا:
(إن هذه البيئة قد فات أوانها أو كاد وقد كانت هي المسئولة عن هذا التعامل ، فأما بعد فنائها وانتهاء التعامل معها فلا داعي للدين) ، ويضيف: (لقد انتهت العقيدة الإلهية إلى آخر نقطة تفيدنا وهى لا تستطيع أن تقبل الآن أية تطورات ؛ لقد اخترع الإنسان قوة ما وراء الطبيعة لتحمل عبء الدين ؛ جاء بالسحر ثم بالعمليات الروحية ثم بالعقيدة الإلهية ، حتى اخترع فكرة (الإله الواحد). وقد وصل الدين بهذه التطورات إلى آخر مراحل حياته. ولا شك أن هذه العقائد كانت في وقت ما جزءا مفيدا من حضارتنا ، بيد أن هذه الأجزاء قد فقدت اليوم ضرورتها ومدى إفادتها للمجتمع الحاضر المتطور(13).)
* * *
وترى الفلسفة الشيوعية أن الدين (خدعة تاريخية) وهى تركز الأسباب في عوامل اقتصادية لأنها تنظر إلى التاريخ في ضوء الاقتصاد. وهى ترى أن العوامل التاريخية التي خلقت النظام البورجوازي الاستعماري القديم ، وهذا النظام القديم يلقى اليوم حتفه فلندع الدين أيضا يذهب معه.
يقول فيلسوف الشيوعية انجلز:
(إن كل القيم الأخلاقية هي في تحليلها الأخير من خلق الظروف الاقتصادية)(14)
فالتاريخ الإنساني هو تاريخ حروب الطبقات التي امتص فيها البورجوازيون دماء الفقراء وقد كانت الغاية من وضع الدين والأسس الأخلاقية حماية حقوق البورجوازيين.
ويقول البيان الشيوعي :(Communist Menifesto)
(إن الدستور والأخلاق والدين كلها خدعة البورجوازية ، وهى تتستر وراءها من أجل مطامعها).
ويقول لينين في خطاب له ألقاه في المؤتمر الثالث لمنظمة الشباب الشيوعي في أكتوبر سنة 1920 :
(إننا لا نؤمن بالإله ونحن نعرف كل المعرفة أن أرباب الكنيسة والإقطاعيين والبورجوازيين لا يخاطبوننا باسم الإله إلا استغلالا ومحافظة على مصالحهم ، إننا ننكر بشدة جميع هذه الأسس الأخلاقية التي صدرت عن طاقات وراء الطبيعة غير الإنسان والتي لا تتفق مع أفكارنا الطبقية ونؤكد أن كل هذا مكر وخداع وهو ستار على عقول الفلاحين والعمال لصالح الاستعمار والإقطاع ، ونعلن أن نظامنا لا يتبع إلا ثمرة النضال البروليتارى فمبدأ جميع نظمنا الأخلاقية هو الحفاظ على الجهود الطبقية البروليتارية)(15).
كانت هذه هي قضية معارضي الدين التي يزعم بعض العلماء الجدد بناء عليها ما يمكن تلخيصه في كلمة أستاذ أمريكي في طب الأعضاء:
(Scince has shown religion to be history s crueliest and wicke-diest hoax)
(لقد أثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوأ خدعة في التاريخ)(16).
ولسوف ننظر في مدى صحة هذه القضية على أسس علمية في الباب الآ تى ، إن شاء الله.
* * *
الباب الثاني
نقد قضية المعاضين
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)(4).
* * *
والدين كما يزعم الملحدون من العلماء شيء لا حقيقة له ، وهو مظهر للغريزة الإنسانية الباحثة عن حقائق الكون والتي تحاول تفسيره. إن هذه الغريزة الإنسانية في ذاتها شيء مستحسن ، ولكن المعلومات والوسائل المحدودة قد انتهت بأجدادنا إلى إجابات غير صحيحة وهى التي تحتويها الآن أفكارهم عن الإله والدين. أما اليوم وبعدما توفرت لدينا الوسائل العلمية وأصلحت المعلومات الحديثة شئ كثيرا من معتقداتنا الاجتماعية والحضارية ، فقد حان الوقت لنعيد النظر في جميع ما وصل إليه أجدادنا من أفكار.
* * *
ويذهب الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت) –الذي نشأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر- إلى أن تاريخ تطور الفكر الإنساني ينقسم إلى ثلاث مراحل:
الأولى: المرحلة اللاهوتية (Theological Stage) والتي فسرت الأحداث فيها باسم الإله.
والثانية: المرحلة الميتافيزيقية وفيها فسر الإنسان الأحداث باسم (عناصر خارجية) لا يعلمها ولكنه لا يذكر اسم الإله.
والثالثة: المرحلة الوضعية (Positive Stage) التي أخذ الإنسان يفسر فيها الأحداث باعتبارها عناصر خاضعة لقوانين عامة يمكن إدراكها بالمطالعة أو بالمشاهدة العلمية. وفى هذه المرحلة لا تذكر (الأرواح والآلهة والقوى المطلقة). ونحن بناء على هذا نعيش في المرحلة الثالثة التي تسمى في الفلسفة الحديثة بالوضعية المنطقية (Logical Positivisn). إن نظرية (الوضعية المنطقية) أو التجريبية العلمية (Scientific Empiricism) لم تعرف كحركة علمية عالمية إلا خلال العقد الرابع من القرن الحاضر ولكنها كفكرة نشأت قبل ذلك بسنين طويلة. وعلى ظهر هذه الفكرة نجد أسماء كبار العلماء والفلاسفة من أمثال: هيوم ، وميل ، إلى برتراندرسل. وقد أصبحت هذه الفكرة اليوم بفضل العدد الكبير من المؤسسات العلمية التي تقوم بدور فعال في الدعاية لها من أهم الحركات العلمية الحديثة. ويقول أحد الباحثين:
(كل معرفة حقة مرتبطة بالتجارب بحيث يمكن فحصها أو إثباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة)(5).
وبناء على هذا يدعى معارضو الدين أن التطور الذي بلغ به الإنسان اليوم أعلى مستوى من الإنسانية هو نفى للدين من تلقاء نفسه. والسر في ذلك أن الأفكار المتطورة الحديثة تؤكد أن (الحقيقة) ليست إلا مل يمكن فحصه وتجربته علميا ، وبعبارة أخرى إن التفسير اللاهوتي للأحداث والوقائع لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية فهو باطل لا حقيقة له. ويترتب على هذا القول بأن: (الدين تفسير زائف لوقائع حقيقية) ؛ ذلك أن علم الإنسان القديم المحدود لم يقدم التفسير الحقيقي للأحداث ، على حين أن القانون العام للتطور أتاح لنا أن نبحث عن الحقائق بالوسائل التجريبية الصحيحة.
ويمكن أن نقول هذا الكلام بأسلوب آخر: إن موقف علماء الأديان القديمة أشبه برجل يكتب (شيكا لا رصيد له في المصرف) فهم قد صاغوا عبارات ليس ورائها حقائق علمية ، فعبارة (الحقيقة العليا غير المتغيرة) صحيحة نحوا ولكن ليس لها أي أساس علمي (6).
(لقد أثبت (نيوتن) أنه لا وجود لإله يحكم النجوم. وأكد (لابلاس) بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أي أسطورة لاهوتية. وقام بهذا الدور العالمان العظيمان (دارون) و (باستور) في ميدان البيولوجيا. وقد ذهب كل من علم النفس المتطور والمعلومات التاريخية الثمينة التي حصلناها في هذا القرن بمكان الإله الذي كان مفروضا أنه هو مدير شئون الحياة الإنسانية والتاريخ)(7).
لقد قامت قضية معارضي الدين على أسس ثلاثة:
الأساس الأول: بطل هذا الانقلاب في البيولوجيا هو (نيوتن) الذي عرض على الدنيا فكرة تثبت أن الكون مرتبط بقوانين ثابتة تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية. ثم جاء بعده آخرون فأعطوا هذه الفكرة مجالا علميا أوسع حتى قيل: إن كل ما يحدث في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة). فلم يبق للعلماء ما يقولون بعد هذا الكشف ، ويرى أن الإله كان هو المحرك الأول لهذا الكون. وضرب (والتير) مثلا في هذا الصدد: أن الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها. ثم جاء (هيوم) فتخلص من هذا الإله الميت ، وعلى حد قوله: (لقد رأينا الساعات وهى تصنع في المصانع ولكننا لم نرى الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا)؟
* * *
لقد جلى التطور العلمي للإنسان كثيرا من سلسلة الأحداث التي لم يشاهدها من قبل ، فهو لم يكن على علم بأسباب شروق الشمس وغروبها حتى زعم أن هناك قوة فوق الطبيعة تجعلها تشرق وتغرب. و ها قد عرفنا اليوم أن شروق الشمس وغروبها يحدث لدوران الأرض حول نفسها ، وبذلك انتهت ضرورة القول بهذه الطاقة تلقائيا بعدما عرفنا الأسباب المؤدية إلى هذه الحركة الكونية. (فإذا كان قوس قزح مظهرا لانكسار أشعة الشمس على المطر ، فماذا يدعونا إلى القول بأنها آية الله في السماء).
من أجل هذا كله وغيره قال هكسلى:
(إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة)(8).
* * *
والأساس الثاني: وقد ازداد العلماء يقينا بعد البحوث العلمية في ميدان علم النفس حين توصلوا إلى نتائج تثبت أن الدين نتاج اللا شعور الإنساني وليس انكشافا لواقع خارجي. ويقول عالم كبير من علماء النفس:
(God is nothing but a projection of man on a cosmic screen)
(ليس الإله سوى انعكاس للشخصية الإنسانية على شاشة الكون). وما عقيدة الدنيا والآخرة إلا صورة مثالية للأمانى الإنسانية ، وما الوحي والإلهام إلا إظهار غير عادى لأساطير الأطفال المكبوتة (Childhood Repression)(9).
* * *
ويرى علم النفس الحديث أن العقل الإنساني مركب من شيئين هما: (الشعور) وهو مركز الأفكار التي تخطر على قلوبنا في ظروف عادية ، و( اللاشعور) وهو مخزن الأفكار التي مرت بنا ونسيناها ولا تظهر إلا في أحوال غير عادية كالجنون والهستيريا. وهذا القسم الثاني أكبر بكثير من الأول ، ويمكن أن نمثل لهما بجبل من الجليد فلو قسمناه تسعة أجزاء لكان منها ثمانية في جوف البحر ولظهر جزء واحد على السطح.
اكتشف فرويد بعد جهد طويل أن اللا شعور قد يقبل أفكارا في الطفولة وتؤدى إلى أعمال غير عقلية وهذا ما يحدث بالنسبة إلى العقائد الدينية: فإن فكرة الجحيم والجنة ترجع إلى صدى الأماني التي تنشأ لدى الإنسان إبان طفولته ولكن لم تسنح له الفرصة لتحقيقها فتبقى دفينة في اللاشعور ثم يفرض اللاشعور بدوره حياة أخرى يتيسر له فيها تحصيل ما كان يتمناه شأن الرجل الذي قد لا يظفر بما يحب في الواقع فيحصله في المنام. وهكذا خرجت عقدة التفرقة بين الصغير والكبير(Father complex) من الجرائم الاجتماعية ، فصاغوا منها نظرية على مستوى الكون والسماء.
ويقول رالف لينتون:
(عن عقيدة القادر المطلق الظالم في نهاية الأمر الذي لا يرضى إلا بالطاعة الكاملة والوفاء ، كانت أول ما أنتجه نضام المجتمع السامي ، لقد خلق هذا النظام جبروتا غير عادى ، وكانت نتيجة أن شريعة موسى خرجت بقوائم ضخمة مفصلة عن المحرمات في كل مجال من الحياة الإنسانية ، وقد آمن بهذه القوائم الطويلة العوام الذين كانوا يتقبلون أحكام آبائهم العمياء ويطيعونها ، وما التصور الإلهي (اليهودي) إلا خيال مثالي لأب سامي ، مع شيء من المبالغة والتجريد في الأوصاف والطاقات)(10).
والأساس الثالث: لقضية معارضي الدين هو: (التاريخ) ، يقولون: إن القضية الدينية وجدت لأسباب تاريخية أحاطت بالإنسان ، فلم يكن في استطاعته أن يفلت من السهول والأعاصير والطوفانات والزلازل والأمراض فأوجد (قوى فرضية) يستغيثها لتنقذه من البلايا النازلة ، وهكذا ظهرت الحاجة إلى شيء يجتمع الناس حوله ولا يفترقون ، فاستغل اسم (الإله) الذي تفوق قوته قوة الإنسان ويهرع الجميع إلى رضاه.
يقول محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية تحت اسم (الدين):
(وبجانب المؤثرات الأخرى التي ساعدت في خلق الدين فإن إسهام الأحوال السياسية والمدنية عظيم جدا لهذا المجال. إن الأسماء الإلهية وصفاتها خرجت من الأحوال التي كانت تسود على ظهر الأرض ، فعقيدة كون الإله (الملك الأكبر) صورة أخرى للملكية الإنسانية ، كذلك الملكية السماوية صورة طبق الأصل للملكية الأرضية. وكان الملك الأرضي القاضي الأكبر ، فأصبح الإله يحمل هذه الصفات ولقب (بالقاضي الأكبر الأخير) الذي يجازى الإنسان على الخير والشر من أعماله ، وهذه العقيدة القضائية التي تؤمن بكون الإله محاسبا ومجازيا لا توجد في اليهودية فحسب ، وإنما لها مقامها الأساسي في العقائد الدينية المسيحية والإسلامية) (11).
* * *
(لقد خلق العقل الإنساني الدين وأتم خلقه في حالة جهل الإنسان وعجزه عن مواجهة القوى الخارجية). ويضيف جوليان هكسلى إلى هذا قوله:
(فالدين نتيجة لتعامل خاص بين الإنسان وبيئته)(12). ويقول أيضا:
(إن هذه البيئة قد فات أوانها أو كاد وقد كانت هي المسئولة عن هذا التعامل ، فأما بعد فنائها وانتهاء التعامل معها فلا داعي للدين) ، ويضيف: (لقد انتهت العقيدة الإلهية إلى آخر نقطة تفيدنا وهى لا تستطيع أن تقبل الآن أية تطورات ؛ لقد اخترع الإنسان قوة ما وراء الطبيعة لتحمل عبء الدين ؛ جاء بالسحر ثم بالعمليات الروحية ثم بالعقيدة الإلهية ، حتى اخترع فكرة (الإله الواحد). وقد وصل الدين بهذه التطورات إلى آخر مراحل حياته. ولا شك أن هذه العقائد كانت في وقت ما جزءا مفيدا من حضارتنا ، بيد أن هذه الأجزاء قد فقدت اليوم ضرورتها ومدى إفادتها للمجتمع الحاضر المتطور(13).)
* * *
وترى الفلسفة الشيوعية أن الدين (خدعة تاريخية) وهى تركز الأسباب في عوامل اقتصادية لأنها تنظر إلى التاريخ في ضوء الاقتصاد. وهى ترى أن العوامل التاريخية التي خلقت النظام البورجوازي الاستعماري القديم ، وهذا النظام القديم يلقى اليوم حتفه فلندع الدين أيضا يذهب معه.
يقول فيلسوف الشيوعية انجلز:
(إن كل القيم الأخلاقية هي في تحليلها الأخير من خلق الظروف الاقتصادية)(14)
فالتاريخ الإنساني هو تاريخ حروب الطبقات التي امتص فيها البورجوازيون دماء الفقراء وقد كانت الغاية من وضع الدين والأسس الأخلاقية حماية حقوق البورجوازيين.
ويقول البيان الشيوعي :(Communist Menifesto)
(إن الدستور والأخلاق والدين كلها خدعة البورجوازية ، وهى تتستر وراءها من أجل مطامعها).
ويقول لينين في خطاب له ألقاه في المؤتمر الثالث لمنظمة الشباب الشيوعي في أكتوبر سنة 1920 :
(إننا لا نؤمن بالإله ونحن نعرف كل المعرفة أن أرباب الكنيسة والإقطاعيين والبورجوازيين لا يخاطبوننا باسم الإله إلا استغلالا ومحافظة على مصالحهم ، إننا ننكر بشدة جميع هذه الأسس الأخلاقية التي صدرت عن طاقات وراء الطبيعة غير الإنسان والتي لا تتفق مع أفكارنا الطبقية ونؤكد أن كل هذا مكر وخداع وهو ستار على عقول الفلاحين والعمال لصالح الاستعمار والإقطاع ، ونعلن أن نظامنا لا يتبع إلا ثمرة النضال البروليتارى فمبدأ جميع نظمنا الأخلاقية هو الحفاظ على الجهود الطبقية البروليتارية)(15).
كانت هذه هي قضية معارضي الدين التي يزعم بعض العلماء الجدد بناء عليها ما يمكن تلخيصه في كلمة أستاذ أمريكي في طب الأعضاء:
(Scince has shown religion to be history s crueliest and wicke-diest hoax)
(لقد أثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوأ خدعة في التاريخ)(16).
ولسوف ننظر في مدى صحة هذه القضية على أسس علمية في الباب الآ تى ، إن شاء الله.
* * *
الباب الثاني
نقد قضية المعاضين
عرضنا في الباب الأول قضية المعارضين الذين يزعمون أنه لا داعي لأن يبقى الدين في عصرنا الحاضر. والحقيقة أن هذه القضية لا تقوم على أساس ، ولسوف نتناول في الأبواب الآتية أفكار الدين الأساسية واحدة واحدة لننظر في مدى حقيقتها كما كانت قبل العصر الحديث.
وإليكم نقدا عاما لقضية المعارضين:
أولا: حقيقة الطبيعة:
لنتكلم أولا في الدليل الذي يعرض باسم البيولوجيا وهو أن الحوادث تحدث طبقا (لقانون الطبيعة) فلا حاجة لأن نفترض لهذه
الحوادث إلاها مجهولا. إن أحسن ما قيل في هذا الصدد ما قاله عالم مسيحي:
(Nature is Fact, Not An Explanation.)
(إن الطبيعة حقيقة (من حقائق الكون) وليست تفسيرا (له)). لأن ما كشفتم ليس بيانا لأسباب وجود الدين ، فالدين يبين لنا الأسباب والدوافع الحقيقية التي تدور (وراء الكون) وما كشفتموه هو الهيكل الظاهر للكون. إن العلم الحديث تفصيل لما يحدث وليس بتفسير لهذا الأمر الواقع فكل مضمون العلم هو إجابة عن السؤال: (ما هذا؟) وليس لديه إجابة عن السؤال:(ولكن لماذا؟). وإن التفسير الذي نحن بصدده هنا يتعلق بالأمر الثاني.
* * *
لنفهم هذا من مثال بسيط ، فالكتكوت يعيش أيامه الأولى داخل قشرة البيضة القوية ويخرج منها بعدما تنكسر مضغة لحم ، كان الإنسان القديم يؤمن بأن الله أخرجه. ولكننا اليوم بالمنظار أنه في اليوم إلحادي والعشرين يظهر قرن صغير على منقار الكتكوت يستعمله في تكسير البيضة لينطلق خارجا منها ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة.
هذه المشاهدة كما يزعم المعارضون أبطلت الفكرة القديمة القائلة:بأن الإله يخرج الكتكوت من البيضة ، إذ قد رأينا يقينا أن قانونا لواحد وعشرين يوما يحدث هذه العملية. والحقيقة أن المشاهدة الجديدة لا تدلنا إلا على حلقات جديدة للحادث ولا تكشف عن سببه الحقيقي فقد تغير الوضع الآن فأصبح السؤال لا عن تكسر البيضة بل عن (القرن)؟ إن السبب الحقيقي سوف يتجلى لأعيننا حين نبحث عن العلة التي جائت بهذا القرن ، العلة التي كانت على معرفة كاملة بأن الكتكوت سوف يحتاج إلى هذا القرن ليخرج من البيضة ، فنحن لا نستطيع أن نعتبر الوضع الأخير (وهو مشاهدتنا بالمنظار) إلا أنه (مشاهدة للواقع على نطاق أوسع) ولكنه ليس تفسيرا له.
يقول البروفيسور (سيسيل بايس هامان) وهو أستاذ أمريكي في البيولوجيا:
(كانت العملية المدهشة في صيرورة الغذاء جزءا من البدن تنسب من قبل إلى الإله ، فأصبحت اليوم بالمشاهدة الجديدة تفاعلا كيماويا ، هل أبطل هذا وجود الإله؟ فما القوة التي أخضعت العناصر الكيماوية لتصبح تفاعلا مفيدا؟ . . . إن الغذاء بعد دخوله فى الجسم الإنساني يمر بمراحل كثيرة خلال نظام ذاتي ومن المستحيل أن يتحقق وجود هذا النظام المدهش باتفاق محض. فقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن الله يعمل بقوانينه العظمى التي خلق بها الحياة!). (17)
كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تمطر ، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر ، حتى نزول قطرات الماء على الأرض وكل هذه المشاهدات صور للوقائع وليست في ذاتها تفسيرا لها ، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة ، حتى أن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟ والحقيقة أن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون-ليس سوى خدعة لنفسه ، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة.
ويضيف العالم الأمريكي سيسيل قائلا:
(Nature does not explain, she is herself in need of explanation.)
(إن الطبيعة لا تفسر شيئا (من الكون) وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير).
فلو أنك سألت طبيبا: ما السبب وراء احمرار الدم؟
لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء ، حجم كل خلية منها من البوصة!
- حسنا ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
- في هذه الخلايا مادة تسمى (الهميوجلوبين) وهى مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين فى القلب.
- هذا جميل. ولكن من أين تأتى هذه الخلايا التي تحمل الهميوجلوبين؟
- إنها تصنع في كبدك.
- عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد وغيرها بعضها ببعض ارتباطا كليا ، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟
- هذا ما نسميه بقانون الطبيعة.
- ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا ، يا سيدي الطبيب؟
- المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء ، ويعيش السمك في الماء ، ويوجد إنسان في الدنيا بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلا عن: (ما يحدث) وليس له أن يجيب:(لماذا يحدث؟).
يتضح من هذه الأسئلة مدى صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون. ولا شك أنه قد أبان لنا عن كثير من الأشياء آلتي لم نكن على معرفة بها ، ولكن الدين جواب لسؤال آخر لا يتعلق بهذه الكشوف الحديثة العلمية فلو أن هذه الكشوف زادت مليون ضعف عنها اليوم فسوف تبقى الإنسانية بحاجة إلى الدين ، إن جميع هذه الكشوف (حلقات ثمينة من السلسلة) ، ولكن ما يحل محل الدين لابد أن يشرح الكون شرحا كليا وكاملا.فما الكون على حاله هذه إلا كمثل ماكينة تدور تحت غطائها لا نعلم عنها إلا أنها (تدور) ، ولكنا لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة يدور بعضها بعضا ، ونشاهد حركاتها كلها. هل معنى هذا أننا قد علمنا خالق هذه الماكينة بمجرد مشاهدتنا لما يدور داخلها؟ هل يفهم منطقيا أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الماكينة جاءت ن تلقاء ذاتها ، وتقوم بدورها ذاتيا؟ لو لم يكن هذا الاستدلال منطقيا فكيف إذن نثبت بعد مشاهدة بعض عمليات الكون- أنه جاء تلقائيا ويتحرك ذاتيا؟ . . .
لقد استغل البروفيسور هريز (A.Harris) هذا الاستدلال حين نقد فكرة داروين عن النشوء والارتقاء فقال:
(إن الاستدلال بقانون الانتخاب الطبيعي يفسر عملية (بقاء الأصلح) ، ولكنه لا يستطيع أن يفسر حدوث هذا الأصلح)(18).
ثانيا: اللاشعور ودليل علم النفس:
لنعالج الآن الدليل الذي يقدمه علم النفس والقائل بأن الإله والآخرة قياس للشخصية الإنسانية وأمانيها على مستوى الكون. ولست بمستطيع أن أدرك نقطة الاستدلال في هذا الدليل. ولو أنني ادعيت-بدوري-أن الشخصية الإنسانية وأمانيها موجودة فعلا على مستوى الكون فلست أدرى ما عسى أن يبطل ادعائي هذا من منطق المعارضين؟ !
ونحن نعرف أن المادة (الجنين) التي لا تشاهد إلا بالمنظار تنبئ في ذاتها عن إنسان طوله 72 بوصة ، وأن (الذرة) التي لا تقبل المشاهدة تحتوى نظاما رياضيا كونيا يدور عليه النظام الشمسي ، فلا عجب إذن أن يكون النظام الذي نشاهده على مستوى الإنسان في الجنين ، وعلى مستوى النظام الشمسي في الذرة موجودا أيضا ، وبصورة أكمل على مستوى الكون. إن ضمير الإنسان وفطرته ينشدان عالما متطورا كاملا ، فلو كان هذا الأمل صدى لعالم حقيقي فلست أرى في ذلك أي ضرب من ضروب الاستحالة ! !
(أ) لا شك في قول العلماء: إن الذهن الإنساني يحتفظ بأفكار قد تظهر فيما بعد في صورة غير عادية. ولكن سوف يكون قياسا مع الفارق أن نعتمد على هذه الفكرة كي نبطل الدين. فهو قياس في غير محله ، وهو يعتبر استدلالا غير عادى من واقع عادى. فهو أشبه بمن يشاهد مثالا يصنع صنما فيصرخ: هذا الذي قام بعملية خلق الإنسان.
ومن معايب الفكر الحديث أنه يستنبط من حادث عادي دليلا غير عاديا فهذا الدليل لا وزن له من الناحية المنطقية ، ولو افترضنا أن رجلا يسير في شارع اخذ يهذي بكلام غريب نتيجة لأفكار مختزنه في ذهنه فهل يمكن أن نستغل هذا الحادث في البحث في كلام الأنبياء وهو الكلام الذي يكشف سر هذا الكون . .؟ ؟ سوف يكون هذا الاستدلال غير علمي وغير منطقي ولسوف يدل على أن صاحبه يفتقر الى القيم حتى يستطيع التفرقة بين كلام رجل الشارع وكلام الأنبياء فلا يدعى أن هذا الهذيان هو المسئول عما جاء به الدين.
فالقيم تتغير ذاتيا بتغير الأوضاع ومن الخطأ الظن [أنها لا توجد عند أصحاب الفكر الحديث ولنتخيل أن رهطا من سكان بعض النجوم هبط الأرض وهم يسمعون ولكنهم لا يقدرون على الكلام ولنتصور أنهم يذهبون فيبحثون عن الأسباب المؤدية إلى تكلم الإنسان وبينما هم في طريقهم إلى هذا البحث هبت الرياح واحتك غصنان أحدهما مع الآخر فنتج صوت وتكررت العملية غير مرة حتى توقفت الرياح ، وإذا بهم يعلن كبيرهم: لقد عرفنا سر كلام الإنسان وهو أن فمه يحتوى على فكين من الأسنان ن فإذا احتك الفك الأعلى بالأسفل صوت! ولا شك أنه إذا احتك شيء بالآخر يحدث صوتا ، ولكن هذا الواقع لا يكشف عن سر الكلام الإنساني كما لا يصح تفسير أسرار النبوة بكلام غريب-كهذيان رجل الشارع ، في حال الجنون أو الهستيريا.
(ب) واللا شعور الإنساني-من الوجهة العلمية- فراغ في أصله ، لا شك فيه قبل مولد الإنسان ، وإنما يستقر فيه عن طريق الشعور ما يشغله الآن ، لأن(اللاشعور) ليس سوى مخزن للمعلومات والمشاهدات التي شاهدها الإنسان في حياته ولو مرة ومن المستحيل أن يختزن حقائق لم يعلمها من قبل. والذي يثير الدهشة أن الدين الذي جاء على لسان الأنبياء يشتمل على حقائق أبدية لم تخطر على بال أحد من الناس في أي زمان فلو كان اللاشعور هو مخزن هذه المعلومات ، فمن أين يأتى بها هؤلاء الذين يتكلمون عن أشياء لا طريق لهم إلى العلم بها؟
إن الدين الذي جاء به الأنبياء يتصل من ناحية أو أخرى بجميع العلوم المعاصرة-الطبيعة ، والفلك ، وعلم الحياة ، وعلم الإنسان ، وعلم النفس ن والتاريخ والحضارة والسياسة والاجتماع وغيرها من العلوم ، وكل حديث في التاريخ الإنساني مصدره (الشعور) ، فضلا عن اللاشعور ، لا يخلو من الأغلاط والأكاذيب والأدلة الباطلة. أما الكلام النبوي فإنه بريء ولا شك من كل هذه العيوب رغم اتصاله بجميع العلوم ، ولقد مرت قرون إثر قرون أبطل فيها الآخرون ما ادعاه الأولون ، وما زال صدق كلام النبوة باقيا على الزمان ، ولم يستطع أحد أن يدل على باطل جاء به وكل من حاول ذلك أخفق.
وإليكم مثالا من هذا القبيل اعتمد عليه فلكي كبير ، حتى ادعى أنه كشف غلطة علمية في القرآن الكريم.
يقول (جيمز هنري بريستد):
(لقد راج التقويم القمري في الدنيا لكثرة تداوله في غرب آسيا ، ولغلبة الإسلام سياسيا بوجه خاص ولقد مضى محمد (صلى الله عليه وسلم) بالاختلاف بين التقويم القمري والشمسي إلى أقصى حد من العبث يمكن تصوره ، حتى إنه أبطل إضافة الشهر الكبيسة (Intercalary months ). إن السنة القمرية المزعومة تشتمل على354 يوما ، وتقل أحد عشر يوما عن السنة الشمسية. وهكذا تزيد السنة القمرية سنة كل33 سنة ، وثلاث سنين في كل قرن. فلو حل رمضان في يونيو في هذه السنة فسوف يحل بعد ست سنين في أبريل).
لقد مضى 1313عاما منذ(19) الهجرة ، حيث إن قرننا (الميلادي) هو بمثابة مائة سنة وثلاث سنين في تقويم المسلمين ، وقد سجل تقويمهم واحدا وأربعين عاما زائدا في هذه المدة من قرننا. وقد ألغت كنيسة اليهود الشرقية هذه السخافة واختارت طريقة إضافة الشهور(Intercalation ) لتجعل تقويمها مثل التقويم الشمسي ، وهذا هو السبب في أن غرب آسيا يعانى حتى الآن لعنة هذه الطريقة القديمة-التقويم القمري )(20).
لسنا هنا بصدد مناقشة الفرق بين التقويم القمري والشمسي ، ولكن لابد من توضيح أن ما نسبه المؤلف إلى رسول الإسلام هو في الحقيقة غفلة شديدة ترجع إلى المؤلف نفسه ، ولم يمنع القرآن الكريم إضافة (الشهور الكبيسة) ، وإنما حرم النسيء (التوبة:38) ومعناه في اللغة: (التأخير) ، ومنه: (نسأ الدابة) عن الحوض لكي تشرب الأخرى ومعناه في الاصطلاح: (تأخير شهر وتقديم شهر آخر عليه).
لقد كان من بين العادات الكريمة التي دعا إليها إبراهيم عليه السلام العرب تحريم أربعة أشهر لا قتال فيها ولا جدال ، وهى: ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وقد كان العرب يسافرون في هذه الأشهر بكل حرية لكي يؤدوا فريضة الحج والعمرة. وحين دب الفساد في بعض القبائل ، اخترعوا بدعة (النسيء) وهى أن يضعوا شهرا غير حرام محل الشهر الحرام كأن يجعلوا صفر في مكان المحرم ، وذلك لكي يحاربوا قبيلة يلزم قتالها في الشهر الحرام. وهذه هي البدعة المقيتة التي وصفها القرآن الكريم بأنها: (زيادة في الكفر).
وقال العلماء: إن الشهور الكبيسة كانت رائجة في العرب ، وكانوا يضيفون عدد الشهور في السنة للتقويم.
وقال مفسر للقرآن الكريم في هذا الموضوع ، وهو مولانا شبير أحمد العثماني في تفسيره: (إن بعض القبائل تضيف الشهور الكبيسة كل ثلاثة أعوام ليستقيم التقويم القمري ولا يدخل هذا العمل في النسيء).
إن ما قاله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في عهد الظلام لم يكن من الجهالة ، ولا يدخل قطعا في نطاق ما أورده (جيمز هنري بريستد) طعنا عليه ولو كان كلامه صلى الله عليه وسلم صادرا عن الشعور أو اللاشعور لوقعت فيه أخطاء ما من ذلك بد.
* * *
ثالثا: الاستدلال والاجتماع:
إن الذين يستدلون بالتاريخ أو الاجتماع خطأهم الأساسي أنهم لا يدرسون الدين من وجه صحيح ولهذا يبدو لهم الدين شيئا غريبا ، ومثال ذلك أن ترى شيئا مربعا من زاوية منحرفة فيترائي لك مثلثا. إن الخطأ الذي يقعون فيه هو أنهم يتناولون الدين على أنه (مشكلة موضوعية Objective Problem) فهم يجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم (الدين) من رطب ويابس ، في أي مرحلة من التاريخ ، ثم يتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين! ! إن موقفهم ينحرف من أولى مراحله فيبدو لهم الدين –جزاء هذا الموقف الفاسد-عملا اجتماعيا لا كشفا لحقيقة ، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى ، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتى بها أعمال اجتماعية فليس لها مثل أعلى. وبقائها رهن بحاجة المجتمع إليها.
والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف ، فليس من الممكن البحث عن حقائقه ، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات لأن الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها ، أو يقبلها في شكل ناقص ، ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق (الدين) بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة في المجتمعات باسم الدين.
ولنأخذ-على سبيل المثال-لفظ (الجمهورية). فهي قيمة سياسية لنظام خاص بالحكم ، وفى ضوء هذه القيمة نستطيع أن نحكم على بلاد بأنها جمهورية أو بأنها ليست كذلك. لكنا لو ذهبنا نبحث عن معاني (الجمهورية) في النماذج السياسية التي توجد عبر القارات ويلتصق بها لفظ (الجمهورية) ، زعمنا أن كل هذه البلاد قائمة (على أسس جمهورية). فسوف تصبح كلمة (الجمهورية) بلا معنى. ففي هذه الحالة ستختلف (جمهورية) الصين عن (جمهورية) الولايات المتحدة الأمريكية ، وستعارض (جمهورية) إنجلترا (الجمهورية) العربية المتحدة ، كما أن (جمهورية) باكستان ستصطدم (بالجمهورية) التي تلتزم بها الهند. فإذا تأملنا كل هذه المشاهدات في ضوء (فلسفة التطور) فإن هذه الكلمة سوف تفقد معناها حتما ؛ لأن فرنسا التي أنجبت النظام الجمهوري سوف تبرهن على أن (الجمهورية) بعد (نشوئها وارتقائها) تتمثل في ديكتاتورية ديجول العسكرية.
وهذا النهج في التناول يؤدى إلى نتيجة غريبة هي أنه لا حاجة إلى (الإله) في الأديان! !
إذ يوجد مثال لهذا في تاريخ الأديان وهو مثال البوذية التي تخلو تماما من فكرة (الإله). ومن ثم آمنت جماعة من الناس بضرورة البحث عن دين مجرد من الإله ، ولو أننا سلمنا بالفكرة القائلة بأن شيئا مثل (الدين) لابد منه للإنسان لحاجته إلى الوعي الخلقي والتنظيم الاجتماعي ، فلا داعي إذن للإله أن يوجد ، وربما قيل: (إن الدين الذي يصح لهذا العصر يلزم أن يكون مثل البوذية ، فإن إله العصر الحاضر هو (مجتمعه وأهدافه السياسية9 ، ورسول هذا الإله هو (البرلمان) الذي يوجه الشعب إلى ما يرضيه ، ومعابد هذا الإله العصري ليست المساجد أو الكنائس القديمة وإنما هي المصانع الكبيرة والسدود العظيمة)(21)
إن لهؤلاء الباحثين الاجتماعيين المزعومين قدرة كبيرة على خلق هذه الأفكار الجديدة ، التي تنتقل من (دين الإله) إلى فكرة (الدين بغير الإله). وذلك ناشئ عن الطريق المعوجة التي سلكها بحثهم وهم يغمضون أعينهم عن جميع النواحي العلمية الأخرى التي تلقى ظلالا من الشكوك حول جداولهم الارتقائية. ومثاله أن علماء الاجتماع والإنسان قد توصلوا بعد أبحاثهم الفنية الدقيقة إلى أن (نظرية الإله) شكل ارتقائي لفكرة تعدد الآلهة ، غير أن هذا الارتقاء ضل طريقه واتجه إلى طريق غريبة وحير العلماء كما شوش أمره على نفسه بارتقائه الباطل من فكرة تعدد الآلهة إلى فكرة الإله الواحد.
إن فكرة تعدد الآلهة كانت تحمل قيما اجتماعية مؤداها أن يعيش مؤمنو الآلهة المختلفة في سلام باعتراف متبادل ما بينهم ، (ولكن فكرة الإله الواحد أبطلت حتما هذا الإمكان بخلقها نظرية الدين الأعلى (Higher Religion) ونتيجتها أن بدأت حروب ضارية لا نهاية لها بين شعوب الدنيا ، وهكذا سعت فكرة الإله الواحد إلى حتفها بظلفها ، لارتقائها في اتجاه مناقض وهذا هو قانون النشوء والارتقاء)(22).
ولكننا-فعلا- قد تركنا الواقع الحقيقي في هذا الجدول ، فالتاريخ المعلوم يثبت أن أول رسول معلوم كان سيدنا نوحا عليه السلام وكان يدعو إلى الله الواحد ، كما أن تعدد الآلهة (Polytheisn) ليس في درجة واحدة وإنما معناه: أن يشرك الإنسان مع الإله الأكبر آلهة آخرين يقربونه إليه ويشفعون له ، وفى وجود هذه الحقائق تتحول نظرية النشوء والارتقاء إلى ادعاء لا دليل عليه.
* * *
وفكرة (ماركس) هي أكثر نظريات هذه المجموعة عبثا ، فهي تقول:إن الأحوال الاجتماعية هي التي تقوم ببناء الإنسانية وتكميلها ، ومن ثم كان العصر الذي وجد فيه الدين عصر الإقطاع والرأسمالية وهو عصر الانتهازيين اللصوص كما أن الأفكار الدينية والأخلاقية التي تولدت في هذا العصر تحمل نفس الطابع الانتهازي الاستعماري.
والحق أن هذه الفكرة ليست لها قيمة من الناحية العلمية ، كما أنها عند التحليل العلمي والتجربة العملية لا طريق إلى تصديقها.
فالفكرة الماركسية تنفى بشدة إرادة الإنسان وهى تحيل الأحداث إلى تأثير عوامل الزمن الاقتصادية ، ومعنى ذلك أن الإنسان لا شخصية له فهو يصاغ في مجتمعه كما يصاغ الصابون في المصنع ولا طريق أمامه كي يشق أفكارا وطرقا جديدة وإنما هو ينطلق مفكرا على النهج الذي سمحت له به حياته الاقتصادية ، فإذا كانت هذه القضية صحيحة فكيف تمكن كارل ماركس –وليد النظام الرأسمالي- من أن يفكر ضد العوامل الاقتصادية الرائجة في عصره ؛ هل صعد القمر لكي يبحث في أحوال الأرض؟
وبعبارة أخرى: لو صح أن الدين وليد عصر مخصوص فكيف لم تكن الماركسية وليدة النظام الاقتصادي لعصرها؟؟.. وإذا لم نسغ هذا الوضع فيما يتعلق بالماركسية فكيف نسيغه بالنسبة إلى الدين؟.. الحق أن هذه الفكرة عبث مثير لا يحمل على ظهره أي دليل علمي أو عقلي.
هذا وقد اتضحت أخطاء هذه الفكرة بالتجارب العملية. وحسبنا روسيا ، هنالك حيث سادت الماركسية نصف قرن من الزمان ادعت روسيا خلاله أحوال البلاد المادية قد تغيرت تماما وأن النظام الزراعي ، والمبادلة ، وتقسيم الأموال ، قد جرت على أسس غير استغلالية ولكنا وجدنا حين مات ستالين أن قادة الروس أنفسهم قد أقروا بأن الظلم والفساد كانا رائجين في عهده ، وأنه كان يستغل الشعب كما يستغله الحكام في البلاد الاستعمارية. ولو وضعنا في اعتبارنا واقع الرقابة الشديدة على الصحف ووسائل الإعلام وهى التي تمكن بها ستالين من أن يذيع على العالم أن عهده هو عهد العدل والإنصاف ، فلا ريب أن هذه الرقابة موجودة اليوم أيضا ،ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الأمور تجرى وراء ستائر الدعايا الجميلة على ما كانت عليه في عهد ستالين. وإن كان المؤتمر العشرون (1956) للحزب الشيوعي الروسي قد أفشى مظالم ستالين فلا غرابة أن يجيء المؤتمر الأربعون للحزب الشيوعي بإفشاء أسرار حكام روسيا اليوم(23).
إن هذا النظام التي استغرقت تجربته نصف قرن من الزمان ليدلنا على أن الإنسان لا يتغير بتغيير نظام الزراعة والمبادلة المزعوم ، ولو كان العقل الإنساني تابعا للنظام الاقتصادي فلماذا نجد الظلم والفساد والاستغلال في نظام روسيا الشيوعي؟
إن قضية العصر الحاضر لا تعدو أن تكون (سفسطة علمية Scientific Sophism) ذلك أن علماء هذا العصر يعالجون قضاياهم في ضوء العلم الحديث ، غير أن هذه المعالجة لاتجدى نفعا لأنها قائمة على العلم المحض وحسب ، على حين لابد من اعتبار أشياء أخرى ومثال ذلك: أن نشرع في دراسة علمية لأشياء علمية ناقصة فسوف تؤدى هذه المطالعة العلمية إلى نتائج غير علمية ، ناقصة باطلة.
لقد عقد في دلهي في يناير 1964مؤتمر دولي للمستشرقين ، اشترك فيه ألف ومائتان من العلماء من جميع أنحاء العالم. وقدم أحدهم في هذا المؤتمر بحثا يدعى فيه مآثر كثيرة لمسلمي الهند ليست من عمل المسلمين ، وإنما هي من عمل الملوك الهندوس.
وضرب لذلك مثلا بمنارة قطب في دلهي المنسوبة إلى الملك قطب الدين أيبك على حين بناها الملك الهندوسي سامو درا جوبت قبل 23قرنا ، لقد أخطأ المؤرخون المسلمون فنسبوها إلى الملك قطب الدين. ويستدل هذا البحث بأن في المنارة المذكورة بعض أحجار قديمة نحتت قبل عصر الملك قطب الدين.
وهذا –كما يبدو- استدلال علمي إذ أن بعض أحجار المنارة فعلا ن الصنف الذي ذكره العالم ولكن هل يكفى مشاهدة بعض أحجار المنارة للبت في أمر بانيها ؟ أو أنه لابد من نواح أخرى كثيرة لنشاهدها في هذا الصدد. ومن هنا فإن هذا التفسير لا يصدق على منارة قطب –ككل- هذا تفسير. وهناك تفسير آخر هو أن هذه الأحجار القديمة التي يوجد بعضها في المنارة. إنما جاءت من أنقاض أبنية قديمة كما هو معروف في كثير من الأبنية التاريخية الحجرية. ولا مناص من أن نقبل هذا التفسير الثاني حين نشاهد منارة قطب الدين في ضوء طابعها المعماري ورسومها وتصميمها. والمسجد الناقص بجوارها والمنارة الثانية التي لم تكمل ، ثم ننتهي إلى أن التفسير الأول ليس إلا قياسا خاطئا قائما على المغالطات.
* * *
وهذا هو أمر قضية المعارضين فإنهم نظروا إلى حقائق ناقصة وجزئية لا يتصل بعضها بالموضوع مطلقا واعتقدوا أن الدراسة العلمية الحديثة قد أبطلت الدين ، على حين أننا لو نظرنا إلى الواقع جملة وتفصيلا فسوف نصل إلى نتيجة تختلف عن الأولى كل الاختلاف.
والدليل الذي يقنعني بصدق الدين هو أن عقولا مثالية منا –بعد أن تركت الدين- قد أخذت تهذي بكلمات لا حقائق وراءها وتعمه في تيه الظلام ، ذلك أن الإنسان بعد أن يفقد أساس (الدين) لايجد أساسا آخر لأفكاره. والأسماء التي تأتى في قوائم المعارضين أكثرها من عقولنا الكبيرة ولكنهم بعد أن تخلوا عن الدين راحوا يكتبون ضروبا من اللغو غاية في الإهمال والتمزق ، حتى إننى أتحير –أحيانا- فلا أفهم كيف صدرت هذه الكلمات عن قلم رجل من العلماء؟.. وإن السجل الذي أنتجه هؤلاء ليشتمل على خرافات وآراء متناقضة واعترافات بجهل الحقيقة كما يشتمل على أدلة أشبه بالسفسطة. فبطولة هؤلاء تكمن في أنهم أغمضوا أعينهم عن الحقائق الظاهرة ، وشادوا قناطر خالية من الادعاء ، كما تتمثل في استدلالهم بالشاذ من الأمور. وذلك من سمات القضايا الباطلة ، أما القضايا الصحيحة فإنها تقوم على أسس علمية ثابتة لا على الشواذ.
* * *
وتتجلى حقيقة الدين وسفسطة قضية المعارضين أكثر من ذلك حين نطالع صورة الحياة الإنسانية في ضوء الدين ، إنها صورة جميلة لطيفة تتوافق مع أفكار الإنسان السامية كما يتوافق الكون المادي مع القوانين الرياضية ، بعكس تلك الصورة التي يرسمها المعارضون فهي صورة جد قبيحة وهى لا تتفق أبدا مع الذهن الإنساني ، وانظر إلى ما يقوله برتراند رسل:
(والإنسان وليد عوامل ليست بذات أهداف ، إن بدأه ونشوءه وأمانيه ومخاوفه وحبه وعقائده كلها جاءت نتيجة ترتيب رياضي اتفاقي في نظام الذرة ، والقبر ينهى حياة الإنسان. ولا تستطيع أية قوة إحياءه مرة أخرى. إن هذه المجهودات الطويلة والتضحيات والأفكار الجميلة والبطولات العبقرية كلها سوف تدفن تحت أنقاض الكون ، ولو لم تكن هذه الأفكار قطعية فإنها أقرب ما تكون إلى الحقيقة ، حتى إن أية فلسفة تحاول إنكارها ستلقى فنائها تلقائيا)(24)
ويكاد هذا الاقتباس أن يكون خلاصة الفكر المادي فالكون -في ضوء هذا الفكر المادي –يكاد يفقد أهدافه ولا يبقى غير الظلام الحالك ؛ الظلام الذي تتلاشى فيه معايير الخير والشر حتى إن إبادة الناس بالقنابل لا تعد ظلما لأنهم سوف يلقون حتفهم على أية حال يوما ما. أما الفكر الدين فهو فكر الضوء والأمل. الموت والحياة مرتبطان فيه بأهداف معينة وكل القيم والأفكار الإنسانية السامية تجد لها مكانا فيه وإن كان بعض العلماء بمجرد تصديق القوانين الرياضية لأفكاره يطمئن إلى أنه قد توصل إلى الحقيقة فإن تصديق العقل الإنساني الفكر الديني دليل قطعي على أنه قد توصل إلى الحقيقة التي طالما بحثت عنها الفطرة الإنسانية ، وعندئذ لا نجد أساسا واقعيا لإنكار قيمة الفكر الديني ، هذا وهو (المقياس) العلمي الذي يشير إليه الرياضي الأمريكي البروفيسور (ارل تشستر ريكس) قائلا:
(إننى أستخدم في أبحاثي ذلك المقياس العلمي المسلم الذي يستخدم في ترجيح إحدى فكرتين مختلفتين أو أكثر عن حقيقة واحدة. وهو المقياس الذي نرجح بناء عليه الفكرة التي تفسر المسائل المتنازع فيها بطريقة أكثر بساطة وسهولة. لقد استخدم العلماء هذا المقياس لاختيار إحدى نظريتي بطليموس و كوبرنيك : كانت الأولى تزعم أن الأرض هي مركز النظام الشمسي ، على حين أكدت الثانية أن النظام الشمسي هو مركز الأرض. وكانت نظرية بطليموس غاية في التعقيد حتى رفضها العلماء)(25).
ولا بأس من الاعتراف بأن هذه الأدلة لن تقنع بعض الناس ، فإن أبواب عقولهم المادية موصدة دون أي كلام –مهما يكن علميا- عن الإله أو الدين ومن المؤكد أن موقفهم هذا ليس لأن استدلالنا ضعيف وإنما هو راجع إلى تعصبهم المقيت ضد الأفكار الدينية ، ولقد صدق عالم بريطانيا العظيم سير جيمس جينز –الذي يعتبر ولا شك أعظم علماء العصر الحديث- حيث قال في كتابه الشهير (عالم الأسرار):
(إن في عقولنا الجديدة تعصبا يرجح التفسير المادي للحقائق)(26).
وذكر (ويتكر شامبرز) في كتابه (الشهادة) Witness حادثا كان من الممكن أن يصبح نقطة تحول في حياته. ذكر أنه بينما كان ينظر إلى ابنته الصغيرة استلفتت أذناها نظره فأخذ يفكر في أنه من المستحيل أن يوجد شيء معقد ودقيق كهذه الأذن بمحض اتفاق بل لابد من أنه وجد نتيجة إرادة مدبرة. لكن (ويتكر شامبرز) طرد هذه الوسوسة عن قلبه حتى لا يضطر أن يؤمن –منطقيا- بالذات التي أرادت فدبرت ، لأن ذهنه لم يكن على استعداد لتقبل هذه الفكرة الأخيرة.
ويقول الأستاذ الدكتور (تامس ديود باركس) بعد أن يذكر هذا الحادث:
(إننى أعرف عددا كبيرا من أساتذتي في الجامعة. ومن رفقائي العلماء الذين تعرضوا مرارا لمثل هذه المشاعر وهم يقومون بعمليات كيماوية وطبيعية في المعامل)(27).
لقد أجمع علماء هذا العصر على صدق نظرية النشوء والارتقاء. . وقد بدأت هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة. فكل مشكلة تحتاج (إلها) في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بغير تردد.
هذا جانب من النظرية وأما الجانب الثاني –وهو الجانب المظلم منها- الذي يقرر (فكرة التطور العضوي) Organic Evolution الذي استنبطت منه فكرة الارتقاء ، فقد بقى إلى يوم الناس هذا بلا براهين وبلا أدلة علمية ! ! حتى قال كثير من العلماء (إنهم لا يؤمنون بهذه النظرية ، إلا لأنه لا يوجد أي بديل لها سوى الإيمان بالله مباشرة).
وكتب سير آرثر كيث يقول:
(إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو (الإيمان بالخلق الخاص المباشر) وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه(28)) ! !
إننى أقر هنا بعجزي عن إقناع أولئك الذين ينطوون على التعصب الأعمى للتفسير المادي بحقية الدين ، ولهذا التعصب جذور عميقة كما يقول عالم أمريكي: (إن كون العقيدة الإلهية معقولة وكون إنكار الإله سفسطة لا يكفى ليختار الإنسان جانب العقيدة الإلهية فالناس يظنون أن الإيمان بالله سوف يقضى على حريتهم ، تلك الحرية العقلية التي استعبدت عقول العلماء واستهوت قلوبهم ، فأية فكرة عن تحديد هذه الحرية مثيرة للوحشة عندهم (29).
وبناء على هذا يدعى جوليان هكسلى أن فكرة النبوة (هي إظهار للتفوق بطريقة شاذة لا يمكن احتمالها) ؛ إذ أن معنى الإيمان بنبى أن نؤمن بكلامه على أنه كلام الإله ، ثم نمتثل-طوعا أو كرها-لكل ما يأمر به.
ولكن إذا كان الإنسان مخلوقا وليس خالقا ، عابدا وليس معبودا. فكيف يستطيع أن يقضى على الحقائق بمجرد أفكار نبتت في عقله؟ . . إننا لا نستطيع أن نغير الحقائق وإنما نستطيع أن نعترف-أو نؤمن بها-فحسب. وإذا كنا لا نحب أن تكون عاقبتنا عاقبة النعامة ، فأفضل خيار لنا أن نسلم بالحقيقة قبل أن تفوت الفرصة نهائيا.
إن كفرنا بالحقيقة لن يسيء إلى قضيتها ولكن الخسران كله سوف يكون من حظنا في الآخرة.
* * *
وإليكم نقدا عاما لقضية المعارضين:
أولا: حقيقة الطبيعة:
لنتكلم أولا في الدليل الذي يعرض باسم البيولوجيا وهو أن الحوادث تحدث طبقا (لقانون الطبيعة) فلا حاجة لأن نفترض لهذه
الحوادث إلاها مجهولا. إن أحسن ما قيل في هذا الصدد ما قاله عالم مسيحي:
(Nature is Fact, Not An Explanation.)
(إن الطبيعة حقيقة (من حقائق الكون) وليست تفسيرا (له)). لأن ما كشفتم ليس بيانا لأسباب وجود الدين ، فالدين يبين لنا الأسباب والدوافع الحقيقية التي تدور (وراء الكون) وما كشفتموه هو الهيكل الظاهر للكون. إن العلم الحديث تفصيل لما يحدث وليس بتفسير لهذا الأمر الواقع فكل مضمون العلم هو إجابة عن السؤال: (ما هذا؟) وليس لديه إجابة عن السؤال:(ولكن لماذا؟). وإن التفسير الذي نحن بصدده هنا يتعلق بالأمر الثاني.
* * *
لنفهم هذا من مثال بسيط ، فالكتكوت يعيش أيامه الأولى داخل قشرة البيضة القوية ويخرج منها بعدما تنكسر مضغة لحم ، كان الإنسان القديم يؤمن بأن الله أخرجه. ولكننا اليوم بالمنظار أنه في اليوم إلحادي والعشرين يظهر قرن صغير على منقار الكتكوت يستعمله في تكسير البيضة لينطلق خارجا منها ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة.
هذه المشاهدة كما يزعم المعارضون أبطلت الفكرة القديمة القائلة:بأن الإله يخرج الكتكوت من البيضة ، إذ قد رأينا يقينا أن قانونا لواحد وعشرين يوما يحدث هذه العملية. والحقيقة أن المشاهدة الجديدة لا تدلنا إلا على حلقات جديدة للحادث ولا تكشف عن سببه الحقيقي فقد تغير الوضع الآن فأصبح السؤال لا عن تكسر البيضة بل عن (القرن)؟ إن السبب الحقيقي سوف يتجلى لأعيننا حين نبحث عن العلة التي جائت بهذا القرن ، العلة التي كانت على معرفة كاملة بأن الكتكوت سوف يحتاج إلى هذا القرن ليخرج من البيضة ، فنحن لا نستطيع أن نعتبر الوضع الأخير (وهو مشاهدتنا بالمنظار) إلا أنه (مشاهدة للواقع على نطاق أوسع) ولكنه ليس تفسيرا له.
يقول البروفيسور (سيسيل بايس هامان) وهو أستاذ أمريكي في البيولوجيا:
(كانت العملية المدهشة في صيرورة الغذاء جزءا من البدن تنسب من قبل إلى الإله ، فأصبحت اليوم بالمشاهدة الجديدة تفاعلا كيماويا ، هل أبطل هذا وجود الإله؟ فما القوة التي أخضعت العناصر الكيماوية لتصبح تفاعلا مفيدا؟ . . . إن الغذاء بعد دخوله فى الجسم الإنساني يمر بمراحل كثيرة خلال نظام ذاتي ومن المستحيل أن يتحقق وجود هذا النظام المدهش باتفاق محض. فقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن الله يعمل بقوانينه العظمى التي خلق بها الحياة!). (17)
كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تمطر ، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر ، حتى نزول قطرات الماء على الأرض وكل هذه المشاهدات صور للوقائع وليست في ذاتها تفسيرا لها ، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة ، حتى أن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟ والحقيقة أن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون-ليس سوى خدعة لنفسه ، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة.
ويضيف العالم الأمريكي سيسيل قائلا:
(Nature does not explain, she is herself in need of explanation.)
(إن الطبيعة لا تفسر شيئا (من الكون) وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير).
فلو أنك سألت طبيبا: ما السبب وراء احمرار الدم؟
لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء ، حجم كل خلية منها من البوصة!
- حسنا ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
- في هذه الخلايا مادة تسمى (الهميوجلوبين) وهى مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين فى القلب.
- هذا جميل. ولكن من أين تأتى هذه الخلايا التي تحمل الهميوجلوبين؟
- إنها تصنع في كبدك.
- عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد وغيرها بعضها ببعض ارتباطا كليا ، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟
- هذا ما نسميه بقانون الطبيعة.
- ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا ، يا سيدي الطبيب؟
- المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء ، ويعيش السمك في الماء ، ويوجد إنسان في الدنيا بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلا عن: (ما يحدث) وليس له أن يجيب:(لماذا يحدث؟).
يتضح من هذه الأسئلة مدى صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون. ولا شك أنه قد أبان لنا عن كثير من الأشياء آلتي لم نكن على معرفة بها ، ولكن الدين جواب لسؤال آخر لا يتعلق بهذه الكشوف الحديثة العلمية فلو أن هذه الكشوف زادت مليون ضعف عنها اليوم فسوف تبقى الإنسانية بحاجة إلى الدين ، إن جميع هذه الكشوف (حلقات ثمينة من السلسلة) ، ولكن ما يحل محل الدين لابد أن يشرح الكون شرحا كليا وكاملا.فما الكون على حاله هذه إلا كمثل ماكينة تدور تحت غطائها لا نعلم عنها إلا أنها (تدور) ، ولكنا لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة يدور بعضها بعضا ، ونشاهد حركاتها كلها. هل معنى هذا أننا قد علمنا خالق هذه الماكينة بمجرد مشاهدتنا لما يدور داخلها؟ هل يفهم منطقيا أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الماكينة جاءت ن تلقاء ذاتها ، وتقوم بدورها ذاتيا؟ لو لم يكن هذا الاستدلال منطقيا فكيف إذن نثبت بعد مشاهدة بعض عمليات الكون- أنه جاء تلقائيا ويتحرك ذاتيا؟ . . .
لقد استغل البروفيسور هريز (A.Harris) هذا الاستدلال حين نقد فكرة داروين عن النشوء والارتقاء فقال:
(إن الاستدلال بقانون الانتخاب الطبيعي يفسر عملية (بقاء الأصلح) ، ولكنه لا يستطيع أن يفسر حدوث هذا الأصلح)(18).
ثانيا: اللاشعور ودليل علم النفس:
لنعالج الآن الدليل الذي يقدمه علم النفس والقائل بأن الإله والآخرة قياس للشخصية الإنسانية وأمانيها على مستوى الكون. ولست بمستطيع أن أدرك نقطة الاستدلال في هذا الدليل. ولو أنني ادعيت-بدوري-أن الشخصية الإنسانية وأمانيها موجودة فعلا على مستوى الكون فلست أدرى ما عسى أن يبطل ادعائي هذا من منطق المعارضين؟ !
ونحن نعرف أن المادة (الجنين) التي لا تشاهد إلا بالمنظار تنبئ في ذاتها عن إنسان طوله 72 بوصة ، وأن (الذرة) التي لا تقبل المشاهدة تحتوى نظاما رياضيا كونيا يدور عليه النظام الشمسي ، فلا عجب إذن أن يكون النظام الذي نشاهده على مستوى الإنسان في الجنين ، وعلى مستوى النظام الشمسي في الذرة موجودا أيضا ، وبصورة أكمل على مستوى الكون. إن ضمير الإنسان وفطرته ينشدان عالما متطورا كاملا ، فلو كان هذا الأمل صدى لعالم حقيقي فلست أرى في ذلك أي ضرب من ضروب الاستحالة ! !
(أ) لا شك في قول العلماء: إن الذهن الإنساني يحتفظ بأفكار قد تظهر فيما بعد في صورة غير عادية. ولكن سوف يكون قياسا مع الفارق أن نعتمد على هذه الفكرة كي نبطل الدين. فهو قياس في غير محله ، وهو يعتبر استدلالا غير عادى من واقع عادى. فهو أشبه بمن يشاهد مثالا يصنع صنما فيصرخ: هذا الذي قام بعملية خلق الإنسان.
ومن معايب الفكر الحديث أنه يستنبط من حادث عادي دليلا غير عاديا فهذا الدليل لا وزن له من الناحية المنطقية ، ولو افترضنا أن رجلا يسير في شارع اخذ يهذي بكلام غريب نتيجة لأفكار مختزنه في ذهنه فهل يمكن أن نستغل هذا الحادث في البحث في كلام الأنبياء وهو الكلام الذي يكشف سر هذا الكون . .؟ ؟ سوف يكون هذا الاستدلال غير علمي وغير منطقي ولسوف يدل على أن صاحبه يفتقر الى القيم حتى يستطيع التفرقة بين كلام رجل الشارع وكلام الأنبياء فلا يدعى أن هذا الهذيان هو المسئول عما جاء به الدين.
فالقيم تتغير ذاتيا بتغير الأوضاع ومن الخطأ الظن [أنها لا توجد عند أصحاب الفكر الحديث ولنتخيل أن رهطا من سكان بعض النجوم هبط الأرض وهم يسمعون ولكنهم لا يقدرون على الكلام ولنتصور أنهم يذهبون فيبحثون عن الأسباب المؤدية إلى تكلم الإنسان وبينما هم في طريقهم إلى هذا البحث هبت الرياح واحتك غصنان أحدهما مع الآخر فنتج صوت وتكررت العملية غير مرة حتى توقفت الرياح ، وإذا بهم يعلن كبيرهم: لقد عرفنا سر كلام الإنسان وهو أن فمه يحتوى على فكين من الأسنان ن فإذا احتك الفك الأعلى بالأسفل صوت! ولا شك أنه إذا احتك شيء بالآخر يحدث صوتا ، ولكن هذا الواقع لا يكشف عن سر الكلام الإنساني كما لا يصح تفسير أسرار النبوة بكلام غريب-كهذيان رجل الشارع ، في حال الجنون أو الهستيريا.
(ب) واللا شعور الإنساني-من الوجهة العلمية- فراغ في أصله ، لا شك فيه قبل مولد الإنسان ، وإنما يستقر فيه عن طريق الشعور ما يشغله الآن ، لأن(اللاشعور) ليس سوى مخزن للمعلومات والمشاهدات التي شاهدها الإنسان في حياته ولو مرة ومن المستحيل أن يختزن حقائق لم يعلمها من قبل. والذي يثير الدهشة أن الدين الذي جاء على لسان الأنبياء يشتمل على حقائق أبدية لم تخطر على بال أحد من الناس في أي زمان فلو كان اللاشعور هو مخزن هذه المعلومات ، فمن أين يأتى بها هؤلاء الذين يتكلمون عن أشياء لا طريق لهم إلى العلم بها؟
إن الدين الذي جاء به الأنبياء يتصل من ناحية أو أخرى بجميع العلوم المعاصرة-الطبيعة ، والفلك ، وعلم الحياة ، وعلم الإنسان ، وعلم النفس ن والتاريخ والحضارة والسياسة والاجتماع وغيرها من العلوم ، وكل حديث في التاريخ الإنساني مصدره (الشعور) ، فضلا عن اللاشعور ، لا يخلو من الأغلاط والأكاذيب والأدلة الباطلة. أما الكلام النبوي فإنه بريء ولا شك من كل هذه العيوب رغم اتصاله بجميع العلوم ، ولقد مرت قرون إثر قرون أبطل فيها الآخرون ما ادعاه الأولون ، وما زال صدق كلام النبوة باقيا على الزمان ، ولم يستطع أحد أن يدل على باطل جاء به وكل من حاول ذلك أخفق.
وإليكم مثالا من هذا القبيل اعتمد عليه فلكي كبير ، حتى ادعى أنه كشف غلطة علمية في القرآن الكريم.
يقول (جيمز هنري بريستد):
(لقد راج التقويم القمري في الدنيا لكثرة تداوله في غرب آسيا ، ولغلبة الإسلام سياسيا بوجه خاص ولقد مضى محمد (صلى الله عليه وسلم) بالاختلاف بين التقويم القمري والشمسي إلى أقصى حد من العبث يمكن تصوره ، حتى إنه أبطل إضافة الشهر الكبيسة (Intercalary months ). إن السنة القمرية المزعومة تشتمل على354 يوما ، وتقل أحد عشر يوما عن السنة الشمسية. وهكذا تزيد السنة القمرية سنة كل33 سنة ، وثلاث سنين في كل قرن. فلو حل رمضان في يونيو في هذه السنة فسوف يحل بعد ست سنين في أبريل).
لقد مضى 1313عاما منذ(19) الهجرة ، حيث إن قرننا (الميلادي) هو بمثابة مائة سنة وثلاث سنين في تقويم المسلمين ، وقد سجل تقويمهم واحدا وأربعين عاما زائدا في هذه المدة من قرننا. وقد ألغت كنيسة اليهود الشرقية هذه السخافة واختارت طريقة إضافة الشهور(Intercalation ) لتجعل تقويمها مثل التقويم الشمسي ، وهذا هو السبب في أن غرب آسيا يعانى حتى الآن لعنة هذه الطريقة القديمة-التقويم القمري )(20).
لسنا هنا بصدد مناقشة الفرق بين التقويم القمري والشمسي ، ولكن لابد من توضيح أن ما نسبه المؤلف إلى رسول الإسلام هو في الحقيقة غفلة شديدة ترجع إلى المؤلف نفسه ، ولم يمنع القرآن الكريم إضافة (الشهور الكبيسة) ، وإنما حرم النسيء (التوبة:38) ومعناه في اللغة: (التأخير) ، ومنه: (نسأ الدابة) عن الحوض لكي تشرب الأخرى ومعناه في الاصطلاح: (تأخير شهر وتقديم شهر آخر عليه).
لقد كان من بين العادات الكريمة التي دعا إليها إبراهيم عليه السلام العرب تحريم أربعة أشهر لا قتال فيها ولا جدال ، وهى: ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وقد كان العرب يسافرون في هذه الأشهر بكل حرية لكي يؤدوا فريضة الحج والعمرة. وحين دب الفساد في بعض القبائل ، اخترعوا بدعة (النسيء) وهى أن يضعوا شهرا غير حرام محل الشهر الحرام كأن يجعلوا صفر في مكان المحرم ، وذلك لكي يحاربوا قبيلة يلزم قتالها في الشهر الحرام. وهذه هي البدعة المقيتة التي وصفها القرآن الكريم بأنها: (زيادة في الكفر).
وقال العلماء: إن الشهور الكبيسة كانت رائجة في العرب ، وكانوا يضيفون عدد الشهور في السنة للتقويم.
وقال مفسر للقرآن الكريم في هذا الموضوع ، وهو مولانا شبير أحمد العثماني في تفسيره: (إن بعض القبائل تضيف الشهور الكبيسة كل ثلاثة أعوام ليستقيم التقويم القمري ولا يدخل هذا العمل في النسيء).
إن ما قاله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في عهد الظلام لم يكن من الجهالة ، ولا يدخل قطعا في نطاق ما أورده (جيمز هنري بريستد) طعنا عليه ولو كان كلامه صلى الله عليه وسلم صادرا عن الشعور أو اللاشعور لوقعت فيه أخطاء ما من ذلك بد.
* * *
ثالثا: الاستدلال والاجتماع:
إن الذين يستدلون بالتاريخ أو الاجتماع خطأهم الأساسي أنهم لا يدرسون الدين من وجه صحيح ولهذا يبدو لهم الدين شيئا غريبا ، ومثال ذلك أن ترى شيئا مربعا من زاوية منحرفة فيترائي لك مثلثا. إن الخطأ الذي يقعون فيه هو أنهم يتناولون الدين على أنه (مشكلة موضوعية Objective Problem) فهم يجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم (الدين) من رطب ويابس ، في أي مرحلة من التاريخ ، ثم يتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين! ! إن موقفهم ينحرف من أولى مراحله فيبدو لهم الدين –جزاء هذا الموقف الفاسد-عملا اجتماعيا لا كشفا لحقيقة ، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى ، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتى بها أعمال اجتماعية فليس لها مثل أعلى. وبقائها رهن بحاجة المجتمع إليها.
والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف ، فليس من الممكن البحث عن حقائقه ، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات لأن الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها ، أو يقبلها في شكل ناقص ، ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق (الدين) بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة في المجتمعات باسم الدين.
ولنأخذ-على سبيل المثال-لفظ (الجمهورية). فهي قيمة سياسية لنظام خاص بالحكم ، وفى ضوء هذه القيمة نستطيع أن نحكم على بلاد بأنها جمهورية أو بأنها ليست كذلك. لكنا لو ذهبنا نبحث عن معاني (الجمهورية) في النماذج السياسية التي توجد عبر القارات ويلتصق بها لفظ (الجمهورية) ، زعمنا أن كل هذه البلاد قائمة (على أسس جمهورية). فسوف تصبح كلمة (الجمهورية) بلا معنى. ففي هذه الحالة ستختلف (جمهورية) الصين عن (جمهورية) الولايات المتحدة الأمريكية ، وستعارض (جمهورية) إنجلترا (الجمهورية) العربية المتحدة ، كما أن (جمهورية) باكستان ستصطدم (بالجمهورية) التي تلتزم بها الهند. فإذا تأملنا كل هذه المشاهدات في ضوء (فلسفة التطور) فإن هذه الكلمة سوف تفقد معناها حتما ؛ لأن فرنسا التي أنجبت النظام الجمهوري سوف تبرهن على أن (الجمهورية) بعد (نشوئها وارتقائها) تتمثل في ديكتاتورية ديجول العسكرية.
وهذا النهج في التناول يؤدى إلى نتيجة غريبة هي أنه لا حاجة إلى (الإله) في الأديان! !
إذ يوجد مثال لهذا في تاريخ الأديان وهو مثال البوذية التي تخلو تماما من فكرة (الإله). ومن ثم آمنت جماعة من الناس بضرورة البحث عن دين مجرد من الإله ، ولو أننا سلمنا بالفكرة القائلة بأن شيئا مثل (الدين) لابد منه للإنسان لحاجته إلى الوعي الخلقي والتنظيم الاجتماعي ، فلا داعي إذن للإله أن يوجد ، وربما قيل: (إن الدين الذي يصح لهذا العصر يلزم أن يكون مثل البوذية ، فإن إله العصر الحاضر هو (مجتمعه وأهدافه السياسية9 ، ورسول هذا الإله هو (البرلمان) الذي يوجه الشعب إلى ما يرضيه ، ومعابد هذا الإله العصري ليست المساجد أو الكنائس القديمة وإنما هي المصانع الكبيرة والسدود العظيمة)(21)
إن لهؤلاء الباحثين الاجتماعيين المزعومين قدرة كبيرة على خلق هذه الأفكار الجديدة ، التي تنتقل من (دين الإله) إلى فكرة (الدين بغير الإله). وذلك ناشئ عن الطريق المعوجة التي سلكها بحثهم وهم يغمضون أعينهم عن جميع النواحي العلمية الأخرى التي تلقى ظلالا من الشكوك حول جداولهم الارتقائية. ومثاله أن علماء الاجتماع والإنسان قد توصلوا بعد أبحاثهم الفنية الدقيقة إلى أن (نظرية الإله) شكل ارتقائي لفكرة تعدد الآلهة ، غير أن هذا الارتقاء ضل طريقه واتجه إلى طريق غريبة وحير العلماء كما شوش أمره على نفسه بارتقائه الباطل من فكرة تعدد الآلهة إلى فكرة الإله الواحد.
إن فكرة تعدد الآلهة كانت تحمل قيما اجتماعية مؤداها أن يعيش مؤمنو الآلهة المختلفة في سلام باعتراف متبادل ما بينهم ، (ولكن فكرة الإله الواحد أبطلت حتما هذا الإمكان بخلقها نظرية الدين الأعلى (Higher Religion) ونتيجتها أن بدأت حروب ضارية لا نهاية لها بين شعوب الدنيا ، وهكذا سعت فكرة الإله الواحد إلى حتفها بظلفها ، لارتقائها في اتجاه مناقض وهذا هو قانون النشوء والارتقاء)(22).
ولكننا-فعلا- قد تركنا الواقع الحقيقي في هذا الجدول ، فالتاريخ المعلوم يثبت أن أول رسول معلوم كان سيدنا نوحا عليه السلام وكان يدعو إلى الله الواحد ، كما أن تعدد الآلهة (Polytheisn) ليس في درجة واحدة وإنما معناه: أن يشرك الإنسان مع الإله الأكبر آلهة آخرين يقربونه إليه ويشفعون له ، وفى وجود هذه الحقائق تتحول نظرية النشوء والارتقاء إلى ادعاء لا دليل عليه.
* * *
وفكرة (ماركس) هي أكثر نظريات هذه المجموعة عبثا ، فهي تقول:إن الأحوال الاجتماعية هي التي تقوم ببناء الإنسانية وتكميلها ، ومن ثم كان العصر الذي وجد فيه الدين عصر الإقطاع والرأسمالية وهو عصر الانتهازيين اللصوص كما أن الأفكار الدينية والأخلاقية التي تولدت في هذا العصر تحمل نفس الطابع الانتهازي الاستعماري.
والحق أن هذه الفكرة ليست لها قيمة من الناحية العلمية ، كما أنها عند التحليل العلمي والتجربة العملية لا طريق إلى تصديقها.
فالفكرة الماركسية تنفى بشدة إرادة الإنسان وهى تحيل الأحداث إلى تأثير عوامل الزمن الاقتصادية ، ومعنى ذلك أن الإنسان لا شخصية له فهو يصاغ في مجتمعه كما يصاغ الصابون في المصنع ولا طريق أمامه كي يشق أفكارا وطرقا جديدة وإنما هو ينطلق مفكرا على النهج الذي سمحت له به حياته الاقتصادية ، فإذا كانت هذه القضية صحيحة فكيف تمكن كارل ماركس –وليد النظام الرأسمالي- من أن يفكر ضد العوامل الاقتصادية الرائجة في عصره ؛ هل صعد القمر لكي يبحث في أحوال الأرض؟
وبعبارة أخرى: لو صح أن الدين وليد عصر مخصوص فكيف لم تكن الماركسية وليدة النظام الاقتصادي لعصرها؟؟.. وإذا لم نسغ هذا الوضع فيما يتعلق بالماركسية فكيف نسيغه بالنسبة إلى الدين؟.. الحق أن هذه الفكرة عبث مثير لا يحمل على ظهره أي دليل علمي أو عقلي.
هذا وقد اتضحت أخطاء هذه الفكرة بالتجارب العملية. وحسبنا روسيا ، هنالك حيث سادت الماركسية نصف قرن من الزمان ادعت روسيا خلاله أحوال البلاد المادية قد تغيرت تماما وأن النظام الزراعي ، والمبادلة ، وتقسيم الأموال ، قد جرت على أسس غير استغلالية ولكنا وجدنا حين مات ستالين أن قادة الروس أنفسهم قد أقروا بأن الظلم والفساد كانا رائجين في عهده ، وأنه كان يستغل الشعب كما يستغله الحكام في البلاد الاستعمارية. ولو وضعنا في اعتبارنا واقع الرقابة الشديدة على الصحف ووسائل الإعلام وهى التي تمكن بها ستالين من أن يذيع على العالم أن عهده هو عهد العدل والإنصاف ، فلا ريب أن هذه الرقابة موجودة اليوم أيضا ،ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الأمور تجرى وراء ستائر الدعايا الجميلة على ما كانت عليه في عهد ستالين. وإن كان المؤتمر العشرون (1956) للحزب الشيوعي الروسي قد أفشى مظالم ستالين فلا غرابة أن يجيء المؤتمر الأربعون للحزب الشيوعي بإفشاء أسرار حكام روسيا اليوم(23).
إن هذا النظام التي استغرقت تجربته نصف قرن من الزمان ليدلنا على أن الإنسان لا يتغير بتغيير نظام الزراعة والمبادلة المزعوم ، ولو كان العقل الإنساني تابعا للنظام الاقتصادي فلماذا نجد الظلم والفساد والاستغلال في نظام روسيا الشيوعي؟
إن قضية العصر الحاضر لا تعدو أن تكون (سفسطة علمية Scientific Sophism) ذلك أن علماء هذا العصر يعالجون قضاياهم في ضوء العلم الحديث ، غير أن هذه المعالجة لاتجدى نفعا لأنها قائمة على العلم المحض وحسب ، على حين لابد من اعتبار أشياء أخرى ومثال ذلك: أن نشرع في دراسة علمية لأشياء علمية ناقصة فسوف تؤدى هذه المطالعة العلمية إلى نتائج غير علمية ، ناقصة باطلة.
لقد عقد في دلهي في يناير 1964مؤتمر دولي للمستشرقين ، اشترك فيه ألف ومائتان من العلماء من جميع أنحاء العالم. وقدم أحدهم في هذا المؤتمر بحثا يدعى فيه مآثر كثيرة لمسلمي الهند ليست من عمل المسلمين ، وإنما هي من عمل الملوك الهندوس.
وضرب لذلك مثلا بمنارة قطب في دلهي المنسوبة إلى الملك قطب الدين أيبك على حين بناها الملك الهندوسي سامو درا جوبت قبل 23قرنا ، لقد أخطأ المؤرخون المسلمون فنسبوها إلى الملك قطب الدين. ويستدل هذا البحث بأن في المنارة المذكورة بعض أحجار قديمة نحتت قبل عصر الملك قطب الدين.
وهذا –كما يبدو- استدلال علمي إذ أن بعض أحجار المنارة فعلا ن الصنف الذي ذكره العالم ولكن هل يكفى مشاهدة بعض أحجار المنارة للبت في أمر بانيها ؟ أو أنه لابد من نواح أخرى كثيرة لنشاهدها في هذا الصدد. ومن هنا فإن هذا التفسير لا يصدق على منارة قطب –ككل- هذا تفسير. وهناك تفسير آخر هو أن هذه الأحجار القديمة التي يوجد بعضها في المنارة. إنما جاءت من أنقاض أبنية قديمة كما هو معروف في كثير من الأبنية التاريخية الحجرية. ولا مناص من أن نقبل هذا التفسير الثاني حين نشاهد منارة قطب الدين في ضوء طابعها المعماري ورسومها وتصميمها. والمسجد الناقص بجوارها والمنارة الثانية التي لم تكمل ، ثم ننتهي إلى أن التفسير الأول ليس إلا قياسا خاطئا قائما على المغالطات.
* * *
وهذا هو أمر قضية المعارضين فإنهم نظروا إلى حقائق ناقصة وجزئية لا يتصل بعضها بالموضوع مطلقا واعتقدوا أن الدراسة العلمية الحديثة قد أبطلت الدين ، على حين أننا لو نظرنا إلى الواقع جملة وتفصيلا فسوف نصل إلى نتيجة تختلف عن الأولى كل الاختلاف.
والدليل الذي يقنعني بصدق الدين هو أن عقولا مثالية منا –بعد أن تركت الدين- قد أخذت تهذي بكلمات لا حقائق وراءها وتعمه في تيه الظلام ، ذلك أن الإنسان بعد أن يفقد أساس (الدين) لايجد أساسا آخر لأفكاره. والأسماء التي تأتى في قوائم المعارضين أكثرها من عقولنا الكبيرة ولكنهم بعد أن تخلوا عن الدين راحوا يكتبون ضروبا من اللغو غاية في الإهمال والتمزق ، حتى إننى أتحير –أحيانا- فلا أفهم كيف صدرت هذه الكلمات عن قلم رجل من العلماء؟.. وإن السجل الذي أنتجه هؤلاء ليشتمل على خرافات وآراء متناقضة واعترافات بجهل الحقيقة كما يشتمل على أدلة أشبه بالسفسطة. فبطولة هؤلاء تكمن في أنهم أغمضوا أعينهم عن الحقائق الظاهرة ، وشادوا قناطر خالية من الادعاء ، كما تتمثل في استدلالهم بالشاذ من الأمور. وذلك من سمات القضايا الباطلة ، أما القضايا الصحيحة فإنها تقوم على أسس علمية ثابتة لا على الشواذ.
* * *
وتتجلى حقيقة الدين وسفسطة قضية المعارضين أكثر من ذلك حين نطالع صورة الحياة الإنسانية في ضوء الدين ، إنها صورة جميلة لطيفة تتوافق مع أفكار الإنسان السامية كما يتوافق الكون المادي مع القوانين الرياضية ، بعكس تلك الصورة التي يرسمها المعارضون فهي صورة جد قبيحة وهى لا تتفق أبدا مع الذهن الإنساني ، وانظر إلى ما يقوله برتراند رسل:
(والإنسان وليد عوامل ليست بذات أهداف ، إن بدأه ونشوءه وأمانيه ومخاوفه وحبه وعقائده كلها جاءت نتيجة ترتيب رياضي اتفاقي في نظام الذرة ، والقبر ينهى حياة الإنسان. ولا تستطيع أية قوة إحياءه مرة أخرى. إن هذه المجهودات الطويلة والتضحيات والأفكار الجميلة والبطولات العبقرية كلها سوف تدفن تحت أنقاض الكون ، ولو لم تكن هذه الأفكار قطعية فإنها أقرب ما تكون إلى الحقيقة ، حتى إن أية فلسفة تحاول إنكارها ستلقى فنائها تلقائيا)(24)
ويكاد هذا الاقتباس أن يكون خلاصة الفكر المادي فالكون -في ضوء هذا الفكر المادي –يكاد يفقد أهدافه ولا يبقى غير الظلام الحالك ؛ الظلام الذي تتلاشى فيه معايير الخير والشر حتى إن إبادة الناس بالقنابل لا تعد ظلما لأنهم سوف يلقون حتفهم على أية حال يوما ما. أما الفكر الدين فهو فكر الضوء والأمل. الموت والحياة مرتبطان فيه بأهداف معينة وكل القيم والأفكار الإنسانية السامية تجد لها مكانا فيه وإن كان بعض العلماء بمجرد تصديق القوانين الرياضية لأفكاره يطمئن إلى أنه قد توصل إلى الحقيقة فإن تصديق العقل الإنساني الفكر الديني دليل قطعي على أنه قد توصل إلى الحقيقة التي طالما بحثت عنها الفطرة الإنسانية ، وعندئذ لا نجد أساسا واقعيا لإنكار قيمة الفكر الديني ، هذا وهو (المقياس) العلمي الذي يشير إليه الرياضي الأمريكي البروفيسور (ارل تشستر ريكس) قائلا:
(إننى أستخدم في أبحاثي ذلك المقياس العلمي المسلم الذي يستخدم في ترجيح إحدى فكرتين مختلفتين أو أكثر عن حقيقة واحدة. وهو المقياس الذي نرجح بناء عليه الفكرة التي تفسر المسائل المتنازع فيها بطريقة أكثر بساطة وسهولة. لقد استخدم العلماء هذا المقياس لاختيار إحدى نظريتي بطليموس و كوبرنيك : كانت الأولى تزعم أن الأرض هي مركز النظام الشمسي ، على حين أكدت الثانية أن النظام الشمسي هو مركز الأرض. وكانت نظرية بطليموس غاية في التعقيد حتى رفضها العلماء)(25).
ولا بأس من الاعتراف بأن هذه الأدلة لن تقنع بعض الناس ، فإن أبواب عقولهم المادية موصدة دون أي كلام –مهما يكن علميا- عن الإله أو الدين ومن المؤكد أن موقفهم هذا ليس لأن استدلالنا ضعيف وإنما هو راجع إلى تعصبهم المقيت ضد الأفكار الدينية ، ولقد صدق عالم بريطانيا العظيم سير جيمس جينز –الذي يعتبر ولا شك أعظم علماء العصر الحديث- حيث قال في كتابه الشهير (عالم الأسرار):
(إن في عقولنا الجديدة تعصبا يرجح التفسير المادي للحقائق)(26).
وذكر (ويتكر شامبرز) في كتابه (الشهادة) Witness حادثا كان من الممكن أن يصبح نقطة تحول في حياته. ذكر أنه بينما كان ينظر إلى ابنته الصغيرة استلفتت أذناها نظره فأخذ يفكر في أنه من المستحيل أن يوجد شيء معقد ودقيق كهذه الأذن بمحض اتفاق بل لابد من أنه وجد نتيجة إرادة مدبرة. لكن (ويتكر شامبرز) طرد هذه الوسوسة عن قلبه حتى لا يضطر أن يؤمن –منطقيا- بالذات التي أرادت فدبرت ، لأن ذهنه لم يكن على استعداد لتقبل هذه الفكرة الأخيرة.
ويقول الأستاذ الدكتور (تامس ديود باركس) بعد أن يذكر هذا الحادث:
(إننى أعرف عددا كبيرا من أساتذتي في الجامعة. ومن رفقائي العلماء الذين تعرضوا مرارا لمثل هذه المشاعر وهم يقومون بعمليات كيماوية وطبيعية في المعامل)(27).
لقد أجمع علماء هذا العصر على صدق نظرية النشوء والارتقاء. . وقد بدأت هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة. فكل مشكلة تحتاج (إلها) في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بغير تردد.
هذا جانب من النظرية وأما الجانب الثاني –وهو الجانب المظلم منها- الذي يقرر (فكرة التطور العضوي) Organic Evolution الذي استنبطت منه فكرة الارتقاء ، فقد بقى إلى يوم الناس هذا بلا براهين وبلا أدلة علمية ! ! حتى قال كثير من العلماء (إنهم لا يؤمنون بهذه النظرية ، إلا لأنه لا يوجد أي بديل لها سوى الإيمان بالله مباشرة).
وكتب سير آرثر كيث يقول:
(إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو (الإيمان بالخلق الخاص المباشر) وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه(28)) ! !
إننى أقر هنا بعجزي عن إقناع أولئك الذين ينطوون على التعصب الأعمى للتفسير المادي بحقية الدين ، ولهذا التعصب جذور عميقة كما يقول عالم أمريكي: (إن كون العقيدة الإلهية معقولة وكون إنكار الإله سفسطة لا يكفى ليختار الإنسان جانب العقيدة الإلهية فالناس يظنون أن الإيمان بالله سوف يقضى على حريتهم ، تلك الحرية العقلية التي استعبدت عقول العلماء واستهوت قلوبهم ، فأية فكرة عن تحديد هذه الحرية مثيرة للوحشة عندهم (29).
وبناء على هذا يدعى جوليان هكسلى أن فكرة النبوة (هي إظهار للتفوق بطريقة شاذة لا يمكن احتمالها) ؛ إذ أن معنى الإيمان بنبى أن نؤمن بكلامه على أنه كلام الإله ، ثم نمتثل-طوعا أو كرها-لكل ما يأمر به.
ولكن إذا كان الإنسان مخلوقا وليس خالقا ، عابدا وليس معبودا. فكيف يستطيع أن يقضى على الحقائق بمجرد أفكار نبتت في عقله؟ . . إننا لا نستطيع أن نغير الحقائق وإنما نستطيع أن نعترف-أو نؤمن بها-فحسب. وإذا كنا لا نحب أن تكون عاقبتنا عاقبة النعامة ، فأفضل خيار لنا أن نسلم بالحقيقة قبل أن تفوت الفرصة نهائيا.
إن كفرنا بالحقيقة لن يسيء إلى قضيتها ولكن الخسران كله سوف يكون من حظنا في الآخرة.
* * *
الباب الثالث
طريقة الاستدلال العلمي
إن قضية العصر الحاضر ضد الدين هي قضية طريقة الاستدلال ، أعنى الطريقة الجديدة التي كشفها العلم الحديث بعد التطورات في ميادينه العديدة ، بحيث لم تعد تقف أمامها دعوى الدين وعقائده. هذه الطريقة الجديدة هي معرفة الحقيقة بالتجربة والمشاهدة على حين تتصل عقائد الدين بعالم ما وراء حواسنا ولا يمكن إخضاعها للتجربة ، (فالدين له مبنى على قياس واستقراء)(30) ، وهذا هو ما يجعله باطلا لأنه ليس له أساس علمي.
وقضية العصر الحاضر باطلة لأنها لا تقوم على أسس علمية ، فالطريقة الجديدة لا تنفى وجود أشياء لم تجرب مباشرة كما لا تنفي قياس أشياء لم نشاهدها على أشياء شاهدناها تجريبيا وهو ما يسمى (قياسا علميا) ، ويعتبر كالتجربة المباشرة فالتجربة لا تعد حقيقة علمية لمجرد أنها شوهدت ، كما أن القياس ليس باطلا لمجرد أنه قياس ، فإن كان الصحة والبطلان موجود فيهما على السواء.
كان الناس في القديم يصنعون السفن الشراعية من الخشب اعتقادا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنا ، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب ، أنكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا ، وجاء نحاس فألقى بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية -بدل أن تطفو على سطح الماء-استقرت في القاع ، كان هذا العمل تجربة ، ولكننا جميعا نعتقد اليوم أنها كانت تجربة باطلة فلو كان النحاس قد ألقى بطبق من حديد وشاهد بعينه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية.
في بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا ، فلما شاهدنا السماء بهذا النظار وجدنا أجراما كثيرة كالنور فاستنبطنا أنها سحب من البخار والغاز تمر بمرحلة قبل أن تصير نجوما ، ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوى وشاهدنا هذه الأجرام مرة ثانية ، علمنا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض.
وهكذا نجد أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين ، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة. لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة النطاق ، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا ، أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها ، والذي يطالع العلم الحديث يجد أن أكثر آرائه (تفسير للملاحظات) وأن هذه الآراء لم تجرب مباشرة ، ذلك أن بعض الملاحظات يحمل العلماء على الإيمان بوجود بعض الحقائق غير مشاهدة قطعيا ، فأي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع أن يخطو خطوة دون الاعتماد على ألفاظ مثل: (القوة) Force ، و(الطاقة) Energy ، و(الطبيعة) Nature ، و(قانون الطبيعة)Law of Nature ، وما إلى ذلك. ولكن هذا العالم لا يدرى ما (القوة والطاقة والطبيعة وقانونها)؟ فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة ، لكي يبين عن علل غير معلومة ، وهذا العالم لا يقدر على تفسير هذه الألفاظ تماما كرجل الدين ن لا يستطيع تفسير صفات الإله ، وكلاهما يؤمن-بدوره-بعلل غير معلومة.
* * *
يقول الدكتور ( الكسيس كيرل):
(إن الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات والفروض لا تشتمل على شيء غير (معادلة الرموز) ؛ الرموز التي تحتوى على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها)(31).
والعلم الحديث لا يدعى ولا يستطيع أن يدعى أن الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة ، فالحقيقة أن (الماء سائل). ونستطيع مشاهدة هذه الحقيقة بأعيننا المجردة ، ولكن الواقع أن كل (جزيء) من الماء يشتمل على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين وليس من الممكن أن نلاحظ هذه الحقيقة العلمية ، ولو أتينا بأقوى ميكروسكوب في العالم ، غير أنها ثبتت لدى العلماء لإيمانهم بالاستدلال المنطقي.
* * *
ويقول البروفيسور ا. ى. ماندير:
(إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسةPercieved Facts) ، بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في (الحقائق المحسوسة) ؛ فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة ولكننا عثرنا عليها على كل حال ، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطةInferred Facts)والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين وإنما الفرق هو في التسمية ، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة ، والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط)(32).
ويضيف ماندير قائلا:
(إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر؟ . .هناك وسيلة وهى الاستنباط أو التعليل. وكلاهما طريق فكرى ، نبتدئ به بوساطة حقائق معلومة حتى ننتهي بنظرية: 0أن الشيء الفلانى يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا)(33).
وهنا نتساءل: كيف يصح الاستنباط المنطقي لأشياء لم نشاهدها قط؟ وكيف يمكن أن نسمى هذا الاستنباط بناء على طلب العقل: حقيقة علمية؟ ويجب ماندير بنفسه عن هذا السؤال:
(إن المنهج التعليلي صحيح لأن (الكون) نفسه عقلي).
فالكون كله مرتبط بعضه بالآخر ؛ حقائقه المتطابقة ، ونظامه عجيب ، ولهذا فإن أية دراسة للكون لا تسفر عن ترابط حقائقه وتوازنها-هي دراسة باطلة. ويقول ماندير في هذا الصدد:
(إن الوقائع المحسوسة هي أجزاء من حقائق الكون غير أن هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية ، وغير مرتبطة بالأخرى. فلو طالعناها فذة مجردة عن أخواتها فقدت معناها مطلقا. فأما إذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة مما علمناه مباشرة أو بلا مباشرة فإننا سندرك حقيقتها).
ثم يأتى بمثال سليم يفسر ذلك فيقول:
(إننا نرى أن الطير عندما يموت يقع على الأرض ، ونعرف أن رفع الحجر على الظهر أصعب ويتطلب جهدا ونلاحظ أن القمر يدور في الفلك ، ونعلم أن الصعود في الجبل أشق من النزول منه. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا ، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية-هي (قانون الجاذبية) وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق فنعرف للمرة الأولى أنها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى ارتباطا كاملا داخل النظام. وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة ، فلن نجد بينها أي ترتيب ، فهي متفرقة وغير مترابطة ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فستخرج صورة منظمة للحقائق)(34).
* * *
إن قانون (الجاذبية) لا يمكن ملاحظته قطعا ، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية وإنما هي أشياء أخرى ، اضطروا لأجلها-منطقيا- أن يؤمنوا بوجود هذا القانون.
واليوم يلقى هذا القانون قبولا علميا عظيما ، وهو الذي كشف عنه نيوتن لأول مرة ، ولكن . . ما حقيقة هذا القانون من الناحية التجريبية؟ . . ها هو ذا نيوتن يتحدث في خطاب أرسله إلى (بنتلى) فيقول:
(إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهى تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما)(35)
* * *
فنظرية معقدة غير مفهومة ولا طريق إلى مشاهدتها ، تعتبر اليوم بلا جدال حقيقة علمية! ! ! لماذا؟ . . لأنها تفسر بعض ملاحظاتنا فليس بلازم إذن أن تكون الحقيقة هي ما علمناه مباشرة بالتجربة ، ومن ثم نمضى إلى القول بأن العقيدة الغيبية التي تربط بعض ما نلاحظه ، وتفسر لنا مضمونه العام-تعتبر حقيقة علمية من نفس الدرجة! . .
* * *
يقول البروفيسور ماندير:
(القول بأننا عرفنا الحقيقة يعنى: أننا عرفنا معناها ، وبعبارة أخرى: أننا بحثنا عن وجود شيء وعن أحواله ففسرناها ، وأكثر عقائدنا تدخل في هذا النطاق فهي في الحقيقة: (تفسيرات للملاحظة).
ويستطرد ماندير فيتكلم عن (الحقائق الملحوظة):
(عندما نذكر (ملاحظة) فإننا نقصد شيئا أكثر من المشاهدة الحسية المحضة فمعناها: (الملاحظة الحسية) و (التعرف) بما يشمل جانب التفسير)(36).
نظرية التطور العضوي:
هذه هي القاعدة العلمية التي على أساسها وافق العلماء على حقيقة نظرية (التطور العضوي) كما قال ماندير: (لقد ثبت صدق هذه النظرية ، حتى إننا نستطيع أن نعتبرها أقرب شيء إلى الحقيقة)(37).
ويقول سمبسن في هذا الصدد:
(إن نظرية النشوء والارتقاء حقيقة ثابتة أخيرا وكليا وليست بقياس أو (فرض بديل) صيغ للبحث العلمي)(38).
ويعتقد محرر دائرة المعارف البريطانية (1958):أن نظرية الارتقاء في الحيوانات (حقيقة) وأن هذه النظرية قد حظيت بموافقة عامة بين العلماء والمثقفين بعد داروين.
وقال ر. س لل:
(ظلت نظرية الارتقاء تحصل على تأييد متزايد يوما بعد يوم بعد داروين ، حتى إنه لم يبق شك لدى المفكرين والعلماء في أن هذه هي الوسيلة المنطقية الوحيدة التي تستطيع أن تفسر عملية الخلق وتشرحها).(39)
* * *
هذه النظرية التي أجمع العلماء على صحتها هل لاحظها أحدهم أو جربها في معمله؟ . .والجواب: لا! فذلك ضرب من المستحيل ، إن مزعومة الارتقاء معقدة وهى تتعلق بماض بعيد جدا حتى إنه لا سؤال عن تجربتها وملاحظتها. وهى على ما أكده (لل) في كلمته السابقة (وسيلة منطقية) لتفسير مظاهر الخلق وليست بملاحظة واقعية. وأرى أن هذا هو السبب الذي دفع (السير آرثر كيث)-الذي يعتبر محاميا متحمسا لنظرية الارتقاء- أن يسلم بأن هذه النظرية ليست بملاحظة أو تجربة وإنما هي مجرد عقيدة. ومن كلماته:
(إن نظرية الارتقاء (عقيدة أساسية) في المذهب العقلي)(40).
وعرف أحد المعاجم العلمية نظرية داروين بأنها نظرية قائمة على تفسير بلا برهان)(41).
* * *
فما الذي يجعل شيئا غير ملاحظ وغير قابل للتجربة (حقيقة علمية)؟ يذكر (ماندير) أسباب ذلك فيقول:
1-هذه النظرية توافق جميع الحقائق المعلومة.
2-في هذه النظرية تفسير لكثير من الوقائع لا يمكن فهمها إلا من طريقها.
3-ولم تظهر بعد نظرية تناسب وتوافق الحقائق بهذه الدقة(42).
فإذا كانت هذه الأدلة كافية لتصبح نظرية الارتقاء حقيقة علمية فهي كذلك موجودة في جانب الدين على وجه أتم وأكمل. والقول بصدق نظرية الارتقاء وإبطال الدين في نظر الذهن العلمي لا يعنى مطلقا أن قضية المعارضين هي قضية الاستدلال العلمي وإنما هذه القضية تتعلق (بالنتيجة) فلو أثبت نفس الاستدلال أمرا (طبيعيا محضا) فسيقبله المعارضون وسيرفضونه لو أثبت أمرا إلهيا-لأنه غير مرغوب فيه عندهم.
* * *
وبهذا لا ينبغي القول بأن الدين هو (الإيمان بالغيب) وبأن العلم هو الإيمان (بالملاحظة العلمية) ، فالدين والعلم كلاهما يعتمد على الإيمان بالغيب ، غير أن دائرة الدين الحقيقية هي دائرة (تعيين حقائق الأمور) نهائيا أو أصليا ، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية ، فحين يدخل العلم ميدان تعيين حقائق الأمور تعيينا حقيقيا ونهائيا-وهو ميدان الدين الحقيقي- فإنه يتبع نفس طريق الإيمان بالغيب الذي يهتم به الدين. ولابد من هذا السلوك في (الميدان الثاني) كما قال سير آرثر ادنجتن: (إن عالمنا في العصر الحاضر يعمل على منضدتين في وقت واحد ، إحداهما: المنضدة العامة التي يستعملها الرجل العادي ، التي يمكن لمسها ورؤيتها ، وأما الأخرى: فهي (المنضدة العلمية) وأكثرها في الفضاء وتجرى فيها إلكترونات لا حصر لها ولا تشاهد) ، ويستطرد سير آرثر أدنجتن قائلا: (وهكذا نجد لكل شيء صورة ذات وجهين ، أحدهما: (ملحوظ) ، والآخر: (صورة فكرية) لا سبيل إلى مشاهدتها بأي ميكروسكوب أو تلسكوب)(43)
أما الوجه الأول فيشاهده العلم ويشاهده لمدى بعيد جدا ولكنه لا يستطيع أن يدعى أنه يشاهد الوجه الآخر. وطريقة العلم الحديث أنه يقدم رأيا عن شيء بعد مشاهدة مظاهره. وأما (الميدان الثاني) فهو ميدان معرفة حقائق الأشياء وتعيينها ، و (العلم) في هذا الميدان البحث عن حقائق غير معلومة بوساطة حقائق معلومة.
وعندما يجتمع لدى عالم من العلماء قدر مناسب من (الحقائق الملحوظة) فإنه يحس بضرورة وضع نظرية أو فرض علمي. وبعبارة أدق: ضرورة فكرة اعتقادية ووجدانية ، تقوم بتفسير الملاحظات وربط بعضها ببعض فإذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيرا كاملا عدت حقيقة علمية رغم أنها لم تلاحظ قط كما لوحظت الحقائق الأخرى التي نعرفها بالمشاهدة أو بالملاحظة العلمية.
ومعنى ذلك أن العالم يؤمن بوجود شيء غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره ، فكل حقيقة نؤمن بها تكون دائما (فرضا) في أول أمرها إلى أن نكشف حقائق جديدة تدعم صدقها فنزداد يقينا بها. حتى نبلغ اليقين: وإذا لم تؤيدها الملاحظات اللاحقة تخلينا عنها. ومن أمثلة هذه (الحقائق): حقيقة (الذرة) التي لا سبيل إلى إنكارها برغم أنها لم تشاهد قط بالمعنى المعروف ، ولكنها تعتبر أكبر حقيقة علمية كشفت في هذا العصر. وهذا هو السبب الذي دفع أحد العلماء أن يعرف (النظريات) العلمية بالألفاظ التالية:
(Theories are Mental Pictures, That Explain Known Laws)
(النظريات صور ذهنية تفسر القوانين المعلومة).
* * *
حقيقة النظريات العلمية:
وإن الحقائق التي تعرف في العلم باسم (الحقائق الملحوظة) ليست بحقائق شوهدت فعلا وإنما هي تفسيرات لبعض المشاهدات ، لأن المشاهدة الإنسانية لايمكن أن توصف بأنها (كاملة) ولذا فإن جميع هذه التفسيرات تعد (إضافية) ومن الممكن أن تتغير بتطور الملاحظة.
ويقول البروفيسور سوليفان بعد نقد وجهه إلى النظريات العلمية:
(هذا العرض للنظريات العلمية يثبت أن معنى (نظرية علمية صحيحة) أنها (فروض عملية ناجحة) Successful Working Hypothesis ، ومن الممكن تماما أن يكون سائر النظريات العلمية باطلا ؛ ذلك أن النظريات التي نعتبرها اليوم (حقيقة) ليست إلا (قياسا على وسائلنا المحدودة للملاحظة) ولاتزال قضية الحقيقة في عالم العلم (قضية عملية نفعية Pragmatic Affair).(44)
* * *
ولا يزال العلماء بعد هذا يعتبرون أن الفرض الذي يفسر ملاحظاتهم لا يقل في قيمته عن (الحقيقة الملحوظة) نفسها فهم لا يستطيعون أن يقولوا: إن الحقائق الملحوظة هي وحدها ( العلم) ، وإن ما سواها من النظريات الشارحة لا تدخل في نطاق (العلم) لأنها غير ملحوظة . . والحق أن هذا هو ما نسميه (الإيمان بالغيب) وهو بالنسبة إلى المؤمنين ليس سوى الإيمان بحقائق غير ملحوظة فهو ليس بعقيدة عمياء وإنما هو خير تفسير للحقائق التي يشاهدها العلماء . .
* * *
وكما رفض العلماء نظرية الضوء التي قدمها نيوتن وتعرف باسم Corpuscular Theory of light لأنها لم تنجح في تفسير مظاهر حديثة للضوء ؛ فإننا نرفض أفكار الفلاسفة الملحدين لأنها فشلت في تفسير مظاهر الطبيعة.
إن مأخذ حقائق الدين هو نفس المأخذ الذي يستقي منه العلم الحديث ملاحظاته لكي يثبت نظرية علمية. ولقد انتهينا بعد دراسة الحقائق الملحوظة إلى أن تفسير الدين للطبيعة هو عين الحق حتى إن هذا التفسير لم يتغير ولن يتغير على مر الدهور على حين أن كل نظرية صاغها الإنسان منذ قرن أو أكثر أو أقل ، قد رفضت أو أصبحت موضع شك الآن.
وإن صدق الدين ليتجلى بعد كل خطوة نخطوها في الملاحظة حتى ليصبح كل كشف علمي جديد تصديقا لحقائق الدين!
ولسوف نطالع أفكار الدين من هذه الناحية في الأبواب التالية.
* * *
وقضية العصر الحاضر باطلة لأنها لا تقوم على أسس علمية ، فالطريقة الجديدة لا تنفى وجود أشياء لم تجرب مباشرة كما لا تنفي قياس أشياء لم نشاهدها على أشياء شاهدناها تجريبيا وهو ما يسمى (قياسا علميا) ، ويعتبر كالتجربة المباشرة فالتجربة لا تعد حقيقة علمية لمجرد أنها شوهدت ، كما أن القياس ليس باطلا لمجرد أنه قياس ، فإن كان الصحة والبطلان موجود فيهما على السواء.
كان الناس في القديم يصنعون السفن الشراعية من الخشب اعتقادا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنا ، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب ، أنكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا ، وجاء نحاس فألقى بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية -بدل أن تطفو على سطح الماء-استقرت في القاع ، كان هذا العمل تجربة ، ولكننا جميعا نعتقد اليوم أنها كانت تجربة باطلة فلو كان النحاس قد ألقى بطبق من حديد وشاهد بعينه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية.
في بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا ، فلما شاهدنا السماء بهذا النظار وجدنا أجراما كثيرة كالنور فاستنبطنا أنها سحب من البخار والغاز تمر بمرحلة قبل أن تصير نجوما ، ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوى وشاهدنا هذه الأجرام مرة ثانية ، علمنا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض.
وهكذا نجد أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين ، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة. لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة النطاق ، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا ، أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها ، والذي يطالع العلم الحديث يجد أن أكثر آرائه (تفسير للملاحظات) وأن هذه الآراء لم تجرب مباشرة ، ذلك أن بعض الملاحظات يحمل العلماء على الإيمان بوجود بعض الحقائق غير مشاهدة قطعيا ، فأي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع أن يخطو خطوة دون الاعتماد على ألفاظ مثل: (القوة) Force ، و(الطاقة) Energy ، و(الطبيعة) Nature ، و(قانون الطبيعة)Law of Nature ، وما إلى ذلك. ولكن هذا العالم لا يدرى ما (القوة والطاقة والطبيعة وقانونها)؟ فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة ، لكي يبين عن علل غير معلومة ، وهذا العالم لا يقدر على تفسير هذه الألفاظ تماما كرجل الدين ن لا يستطيع تفسير صفات الإله ، وكلاهما يؤمن-بدوره-بعلل غير معلومة.
* * *
يقول الدكتور ( الكسيس كيرل):
(إن الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات والفروض لا تشتمل على شيء غير (معادلة الرموز) ؛ الرموز التي تحتوى على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها)(31).
والعلم الحديث لا يدعى ولا يستطيع أن يدعى أن الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة ، فالحقيقة أن (الماء سائل). ونستطيع مشاهدة هذه الحقيقة بأعيننا المجردة ، ولكن الواقع أن كل (جزيء) من الماء يشتمل على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين وليس من الممكن أن نلاحظ هذه الحقيقة العلمية ، ولو أتينا بأقوى ميكروسكوب في العالم ، غير أنها ثبتت لدى العلماء لإيمانهم بالاستدلال المنطقي.
* * *
ويقول البروفيسور ا. ى. ماندير:
(إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسةPercieved Facts) ، بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في (الحقائق المحسوسة) ؛ فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة ولكننا عثرنا عليها على كل حال ، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطةInferred Facts)والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين وإنما الفرق هو في التسمية ، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة ، والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط)(32).
ويضيف ماندير قائلا:
(إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر؟ . .هناك وسيلة وهى الاستنباط أو التعليل. وكلاهما طريق فكرى ، نبتدئ به بوساطة حقائق معلومة حتى ننتهي بنظرية: 0أن الشيء الفلانى يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا)(33).
وهنا نتساءل: كيف يصح الاستنباط المنطقي لأشياء لم نشاهدها قط؟ وكيف يمكن أن نسمى هذا الاستنباط بناء على طلب العقل: حقيقة علمية؟ ويجب ماندير بنفسه عن هذا السؤال:
(إن المنهج التعليلي صحيح لأن (الكون) نفسه عقلي).
فالكون كله مرتبط بعضه بالآخر ؛ حقائقه المتطابقة ، ونظامه عجيب ، ولهذا فإن أية دراسة للكون لا تسفر عن ترابط حقائقه وتوازنها-هي دراسة باطلة. ويقول ماندير في هذا الصدد:
(إن الوقائع المحسوسة هي أجزاء من حقائق الكون غير أن هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية ، وغير مرتبطة بالأخرى. فلو طالعناها فذة مجردة عن أخواتها فقدت معناها مطلقا. فأما إذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة مما علمناه مباشرة أو بلا مباشرة فإننا سندرك حقيقتها).
ثم يأتى بمثال سليم يفسر ذلك فيقول:
(إننا نرى أن الطير عندما يموت يقع على الأرض ، ونعرف أن رفع الحجر على الظهر أصعب ويتطلب جهدا ونلاحظ أن القمر يدور في الفلك ، ونعلم أن الصعود في الجبل أشق من النزول منه. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا ، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية-هي (قانون الجاذبية) وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق فنعرف للمرة الأولى أنها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى ارتباطا كاملا داخل النظام. وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة ، فلن نجد بينها أي ترتيب ، فهي متفرقة وغير مترابطة ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فستخرج صورة منظمة للحقائق)(34).
* * *
إن قانون (الجاذبية) لا يمكن ملاحظته قطعا ، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية وإنما هي أشياء أخرى ، اضطروا لأجلها-منطقيا- أن يؤمنوا بوجود هذا القانون.
واليوم يلقى هذا القانون قبولا علميا عظيما ، وهو الذي كشف عنه نيوتن لأول مرة ، ولكن . . ما حقيقة هذا القانون من الناحية التجريبية؟ . . ها هو ذا نيوتن يتحدث في خطاب أرسله إلى (بنتلى) فيقول:
(إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهى تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما)(35)
* * *
فنظرية معقدة غير مفهومة ولا طريق إلى مشاهدتها ، تعتبر اليوم بلا جدال حقيقة علمية! ! ! لماذا؟ . . لأنها تفسر بعض ملاحظاتنا فليس بلازم إذن أن تكون الحقيقة هي ما علمناه مباشرة بالتجربة ، ومن ثم نمضى إلى القول بأن العقيدة الغيبية التي تربط بعض ما نلاحظه ، وتفسر لنا مضمونه العام-تعتبر حقيقة علمية من نفس الدرجة! . .
* * *
يقول البروفيسور ماندير:
(القول بأننا عرفنا الحقيقة يعنى: أننا عرفنا معناها ، وبعبارة أخرى: أننا بحثنا عن وجود شيء وعن أحواله ففسرناها ، وأكثر عقائدنا تدخل في هذا النطاق فهي في الحقيقة: (تفسيرات للملاحظة).
ويستطرد ماندير فيتكلم عن (الحقائق الملحوظة):
(عندما نذكر (ملاحظة) فإننا نقصد شيئا أكثر من المشاهدة الحسية المحضة فمعناها: (الملاحظة الحسية) و (التعرف) بما يشمل جانب التفسير)(36).
نظرية التطور العضوي:
هذه هي القاعدة العلمية التي على أساسها وافق العلماء على حقيقة نظرية (التطور العضوي) كما قال ماندير: (لقد ثبت صدق هذه النظرية ، حتى إننا نستطيع أن نعتبرها أقرب شيء إلى الحقيقة)(37).
ويقول سمبسن في هذا الصدد:
(إن نظرية النشوء والارتقاء حقيقة ثابتة أخيرا وكليا وليست بقياس أو (فرض بديل) صيغ للبحث العلمي)(38).
ويعتقد محرر دائرة المعارف البريطانية (1958):أن نظرية الارتقاء في الحيوانات (حقيقة) وأن هذه النظرية قد حظيت بموافقة عامة بين العلماء والمثقفين بعد داروين.
وقال ر. س لل:
(ظلت نظرية الارتقاء تحصل على تأييد متزايد يوما بعد يوم بعد داروين ، حتى إنه لم يبق شك لدى المفكرين والعلماء في أن هذه هي الوسيلة المنطقية الوحيدة التي تستطيع أن تفسر عملية الخلق وتشرحها).(39)
* * *
هذه النظرية التي أجمع العلماء على صحتها هل لاحظها أحدهم أو جربها في معمله؟ . .والجواب: لا! فذلك ضرب من المستحيل ، إن مزعومة الارتقاء معقدة وهى تتعلق بماض بعيد جدا حتى إنه لا سؤال عن تجربتها وملاحظتها. وهى على ما أكده (لل) في كلمته السابقة (وسيلة منطقية) لتفسير مظاهر الخلق وليست بملاحظة واقعية. وأرى أن هذا هو السبب الذي دفع (السير آرثر كيث)-الذي يعتبر محاميا متحمسا لنظرية الارتقاء- أن يسلم بأن هذه النظرية ليست بملاحظة أو تجربة وإنما هي مجرد عقيدة. ومن كلماته:
(إن نظرية الارتقاء (عقيدة أساسية) في المذهب العقلي)(40).
وعرف أحد المعاجم العلمية نظرية داروين بأنها نظرية قائمة على تفسير بلا برهان)(41).
* * *
فما الذي يجعل شيئا غير ملاحظ وغير قابل للتجربة (حقيقة علمية)؟ يذكر (ماندير) أسباب ذلك فيقول:
1-هذه النظرية توافق جميع الحقائق المعلومة.
2-في هذه النظرية تفسير لكثير من الوقائع لا يمكن فهمها إلا من طريقها.
3-ولم تظهر بعد نظرية تناسب وتوافق الحقائق بهذه الدقة(42).
فإذا كانت هذه الأدلة كافية لتصبح نظرية الارتقاء حقيقة علمية فهي كذلك موجودة في جانب الدين على وجه أتم وأكمل. والقول بصدق نظرية الارتقاء وإبطال الدين في نظر الذهن العلمي لا يعنى مطلقا أن قضية المعارضين هي قضية الاستدلال العلمي وإنما هذه القضية تتعلق (بالنتيجة) فلو أثبت نفس الاستدلال أمرا (طبيعيا محضا) فسيقبله المعارضون وسيرفضونه لو أثبت أمرا إلهيا-لأنه غير مرغوب فيه عندهم.
* * *
مشكلة تعيين حقائق الأمور:
وبهذا لا ينبغي القول بأن الدين هو (الإيمان بالغيب) وبأن العلم هو الإيمان (بالملاحظة العلمية) ، فالدين والعلم كلاهما يعتمد على الإيمان بالغيب ، غير أن دائرة الدين الحقيقية هي دائرة (تعيين حقائق الأمور) نهائيا أو أصليا ، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية ، فحين يدخل العلم ميدان تعيين حقائق الأمور تعيينا حقيقيا ونهائيا-وهو ميدان الدين الحقيقي- فإنه يتبع نفس طريق الإيمان بالغيب الذي يهتم به الدين. ولابد من هذا السلوك في (الميدان الثاني) كما قال سير آرثر ادنجتن: (إن عالمنا في العصر الحاضر يعمل على منضدتين في وقت واحد ، إحداهما: المنضدة العامة التي يستعملها الرجل العادي ، التي يمكن لمسها ورؤيتها ، وأما الأخرى: فهي (المنضدة العلمية) وأكثرها في الفضاء وتجرى فيها إلكترونات لا حصر لها ولا تشاهد) ، ويستطرد سير آرثر أدنجتن قائلا: (وهكذا نجد لكل شيء صورة ذات وجهين ، أحدهما: (ملحوظ) ، والآخر: (صورة فكرية) لا سبيل إلى مشاهدتها بأي ميكروسكوب أو تلسكوب)(43)
أما الوجه الأول فيشاهده العلم ويشاهده لمدى بعيد جدا ولكنه لا يستطيع أن يدعى أنه يشاهد الوجه الآخر. وطريقة العلم الحديث أنه يقدم رأيا عن شيء بعد مشاهدة مظاهره. وأما (الميدان الثاني) فهو ميدان معرفة حقائق الأشياء وتعيينها ، و (العلم) في هذا الميدان البحث عن حقائق غير معلومة بوساطة حقائق معلومة.
وعندما يجتمع لدى عالم من العلماء قدر مناسب من (الحقائق الملحوظة) فإنه يحس بضرورة وضع نظرية أو فرض علمي. وبعبارة أدق: ضرورة فكرة اعتقادية ووجدانية ، تقوم بتفسير الملاحظات وربط بعضها ببعض فإذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيرا كاملا عدت حقيقة علمية رغم أنها لم تلاحظ قط كما لوحظت الحقائق الأخرى التي نعرفها بالمشاهدة أو بالملاحظة العلمية.
ومعنى ذلك أن العالم يؤمن بوجود شيء غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره ، فكل حقيقة نؤمن بها تكون دائما (فرضا) في أول أمرها إلى أن نكشف حقائق جديدة تدعم صدقها فنزداد يقينا بها. حتى نبلغ اليقين: وإذا لم تؤيدها الملاحظات اللاحقة تخلينا عنها. ومن أمثلة هذه (الحقائق): حقيقة (الذرة) التي لا سبيل إلى إنكارها برغم أنها لم تشاهد قط بالمعنى المعروف ، ولكنها تعتبر أكبر حقيقة علمية كشفت في هذا العصر. وهذا هو السبب الذي دفع أحد العلماء أن يعرف (النظريات) العلمية بالألفاظ التالية:
(Theories are Mental Pictures, That Explain Known Laws)
(النظريات صور ذهنية تفسر القوانين المعلومة).
* * *
حقيقة النظريات العلمية:
وإن الحقائق التي تعرف في العلم باسم (الحقائق الملحوظة) ليست بحقائق شوهدت فعلا وإنما هي تفسيرات لبعض المشاهدات ، لأن المشاهدة الإنسانية لايمكن أن توصف بأنها (كاملة) ولذا فإن جميع هذه التفسيرات تعد (إضافية) ومن الممكن أن تتغير بتطور الملاحظة.
ويقول البروفيسور سوليفان بعد نقد وجهه إلى النظريات العلمية:
(هذا العرض للنظريات العلمية يثبت أن معنى (نظرية علمية صحيحة) أنها (فروض عملية ناجحة) Successful Working Hypothesis ، ومن الممكن تماما أن يكون سائر النظريات العلمية باطلا ؛ ذلك أن النظريات التي نعتبرها اليوم (حقيقة) ليست إلا (قياسا على وسائلنا المحدودة للملاحظة) ولاتزال قضية الحقيقة في عالم العلم (قضية عملية نفعية Pragmatic Affair).(44)
* * *
ولا يزال العلماء بعد هذا يعتبرون أن الفرض الذي يفسر ملاحظاتهم لا يقل في قيمته عن (الحقيقة الملحوظة) نفسها فهم لا يستطيعون أن يقولوا: إن الحقائق الملحوظة هي وحدها ( العلم) ، وإن ما سواها من النظريات الشارحة لا تدخل في نطاق (العلم) لأنها غير ملحوظة . . والحق أن هذا هو ما نسميه (الإيمان بالغيب) وهو بالنسبة إلى المؤمنين ليس سوى الإيمان بحقائق غير ملحوظة فهو ليس بعقيدة عمياء وإنما هو خير تفسير للحقائق التي يشاهدها العلماء . .
* * *
وكما رفض العلماء نظرية الضوء التي قدمها نيوتن وتعرف باسم Corpuscular Theory of light لأنها لم تنجح في تفسير مظاهر حديثة للضوء ؛ فإننا نرفض أفكار الفلاسفة الملحدين لأنها فشلت في تفسير مظاهر الطبيعة.
إن مأخذ حقائق الدين هو نفس المأخذ الذي يستقي منه العلم الحديث ملاحظاته لكي يثبت نظرية علمية. ولقد انتهينا بعد دراسة الحقائق الملحوظة إلى أن تفسير الدين للطبيعة هو عين الحق حتى إن هذا التفسير لم يتغير ولن يتغير على مر الدهور على حين أن كل نظرية صاغها الإنسان منذ قرن أو أكثر أو أقل ، قد رفضت أو أصبحت موضع شك الآن.
وإن صدق الدين ليتجلى بعد كل خطوة نخطوها في الملاحظة حتى ليصبح كل كشف علمي جديد تصديقا لحقائق الدين!
ولسوف نطالع أفكار الدين من هذه الناحية في الأبواب التالية.
* * *
تعليق