قضية حرية الفكر

فى الفترة الأخيرة من حياة الأمة الإسلامية كان فكر الأمة قد تجمد فى قوالب معينة، يدور فى داخلها ولا يتعداها، وكرر نفسه فى تقليد لا أصالة فيه، وأصبح ((العلم)) استظهاراً لما سبق به الأولون، مع فارق واضح بين المبدع الذى أبدع الفكر أول مرة، والمردد الذى يردده مختصرا أو محشيا

أو شارحا أو ناقلاً0 فالأول عنده الموهبة التى مكنته من الإبداع، والثانى عاجز عن إحداث أى جديد ومضت فترة من الركود لم تحس الأمة فيها بالحاجة إلى فكر جديد! فما عندها يكفيها، سواء ما كان قد فكر فيه العلماء لمواجهة حاجات المجتمع فى وقتهم، أو ما تخيلوا حدوثه فى يوم من الأيام فقالوا : أرأيت لو حدث كذا! فلما حدث ما تخيلوه وجد الناس أجوبة جاهزة تغطى احتياجاتهم، فأخلدوا إلى تراثهم، ووقفوا عنده، وجمدوا عليه، ورأوا ألا ضرورة للاجتهاد، بل نظروا إلى الاجتهاد على أنه بدعة مرفوضة، بل شر مستطير!

ثم زحف التغيير على العالم الإسلامى زحفا عنيفا مع الموجة الصليبية الزاحفة، التى تحمل- بالنسبة للعالم الإسلامى- جديدا فى كل شئ.. جديدا فى العلم، جديدا فى أدوات الحرب، جديدا فى عمارة الأرض، جديدا فى أحوال المرأة.. وجديدا فى عالم الفكر..

وكان أمراً طبيعيا أن يحدث الصدام.. وكان متوقعا كذلك أن ينهزم الجمود أمام الحركة الموارة، وينهزم الانحسار أمام المد الجارف0

ورأى المنهزمون- فى رؤيتهم الانهزامية- أن الذى انهزم هو (( الدين))! وأن الذى انتصر هو ((الفكر الحر))! وأن الدين جدير أن ينهزم، بينما الفكر الحر جدير بالانتصار!

ثم قالوا- أو قيل لهم- إنه هكذا كان حال أوربا فى عصورها الوسطى المظلمة، أيام أن كان الدين هو المسيطر على فكر الناس، فكان جمودا وظلاما وانغلاقا وتقليدا وانحصارا.. ثم لما حطم الناس نفوذ الكنيسة وتمردوا عليه، ((تحرروا)) وانطلقوا وجددوا وأبدعوا وصارت لهم القوة والسلطان0

ومن ثم قالوا- أو قيل لهم- اصنعوا مثل ما صنعت أوربا.. حطموا الدين وأغلاله، لكى تتحرروا وتنطلقوا، تجددوا وتبدعوا، وتصير لكم القوة والسلطان!

ونسى المنهزمون- فى بهرتهم- حقائق كثيرة!

نسوا أن الذى أخرج أوربا من جمودها وانغلاقها كان هو الإسلام! فإن احتكاك أوربا بالإسلام، سواء فى الحروب الصليبية أو العلاقات التجارية أو التأثير الثقافى، هو الذى جعلها تشعر بما فى حياتها من ظلام وجمود وتأخر، وتسعى إلى الخروج منه، بعد أن عاشت فيه قرونا متوالية لا تشعر بما فيه من الظلام!

ونسوا أن الجمود الذى أصاب الأمة فى عهدها الأخير لم يكن سببه الإسلام، إذ لا يمكن – بداهة – أن يكون الإسلام هو الذى بعث هذه الأمة ذات يوم، وحثها على التفكير فى كل اتجاه، فانتجت فكرا متفتحا صنع حضارة فائقة عاشت عدة قرون تنمو وتزدهر وتبدع فى كل مجال، ثم يكون هو ذاته السبب فى الجمود والركود والقعود عن التفكير والقعود عن الإبداع! إنما لابد أن يكون شىء آخر هو الذى أفضى إلى ذلك الجمود، وأن هذا الشىء حرى أن يكون هو البعد عن مصدر الطاقة المشعة فى هذا الدين، وإن حافظ الناس عليه تقاليد خاوية من الروح0

ونسوا أن حال الأمة الإسلامية فى جمودها يختلف فى أسبابه عن حال أوربا فى عصورها الوسطى المظلمة، وإن تشابهت الصورة فى بعض جوانبها.. فقد كان السبب فى الجمود الفكرى فى أوربا أن الكنيسة حجرت على العقل أن يفكر، ورفعت ذلك الشعار الذى يقول: ((آمن ولا تناقش))! وأن السبب فى موقف الكنيسة هذا كان كامنا فى طبيعة الدين الذى آمنت به الكنيسة الأوربية وقامت على نشره، وهو الدين المحرف الذى أثبتنا من قبل أقوال بعض مؤخيهم ومفكريهم فى مخالفته الصريحة لدين عيسى عليه السلام، والذى يحوى أمورا يعجز العقل عن إدراكها، فزعمت الكنيسة أنها ((أسرار))، وادعت أنه لا يعلم تأويل هذه الأسرار إلا آباء الكنيسة، وهم وحدهم المفوضون بتفسيرها، ولا يحق لأحد أن يناقشهم فيما يقولون، وإلا اعتبر مهرطقا، وحكم عليه بالحرمان (أى الحرمان من رحمة الله) إن لم يحكم عليه بإهدار دمه، أو حرقه حيا فى النار..

هذا هو الذى أشاع الجمود والظلام فى الفكر الأوربى فى العصور الوسطى، وليس الدين من حيث هو . فالدين الحقيقى الذى ارتضاه الله للناس، وقال فيه سبحانه : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا))([90]) بسيط غاية البساطة، واضح غاية الوضوح : إله واحد لا شريك له، الكل مخلوقاته، والكل عبيده، وهو المتفرد بالألوهية وحده. ومن ثم لم يكن محتاجا إلى الحجر على العقول ليتقبله الناس بلا نقاش، بل دعا الناس إلى التفكير، بل إلى إمعان التفكير، بل ندد بالذين لا يفكرون، ولا يعقلون، ولا يتذكرون، ولا يتدبرون، واعتبرهم معطلين لقواهم العقلية التى وهبها الله لهم لتعمل لا لتكف عن العمل:

(( .. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون))([91]).

((أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور))([92]).

ومن ثم فإنه لما تجمد الفكر عند المسلمين لم يكن الدين هو سبب الجمود، بل كان السبب هو البعد عن حقيقة الدين، وإن ظل الناس متمسكين بقشور، أو بتقاليد يحسبونها هى حقيقة الدين!

* * *

كذلك فإن الحل الأوربى للقضية لم يكن ليحل قضية المسلمين، ولا ينبغى لهم أن يتخذوه، لأن طريقهم غير طريقهم، وظروفهم غير ظروفهم، ودينهم غير دينهم!

فالحل الأوربى أولا لم يكن حلا سليما حتى لمشكلتهم الخاصة، فهم بدلا من تصحيح الدين نبذوا الدين كله وخاصموه! وهذا الحل الأعوج هو الذى أدى إلى ما نراه اليوم فى عالم الغرب من انتشار الأمراض النفسية والعصبية، والخمر والمخدرات والجريمة، والانحلال الخلقى البالغ حد البشاعة والشذوذ، وزنا المحارم، وغيره من الموبقات التى تشمئز منها كل فطرة سليمة.. والتى تؤذن بانهيار تلك المجتمعات حسب سنة الله0

ثم إنهم لم يكتفوا بنبذ الدين، بل هاجموه بضراوة، انتقاما من قرون الظلام التى كبلهم فيها دين الكنيسة، ومنعهم من الانطلاق والبناء والتعمير.. وكان جزءا من هجومهم عليه توجيه النقد إلى النص الدينى ذاته، لتوهينه، أو بيان عوجه وضعفه، أو نفى حجيته، أو تبرير عدم أخذه مأخذ الجد..

وقال التنويريون هذا هو التحرر الحق! فلنصنع نحن فى ديننا ما فعلوه هم فى دينهم لكى نكون متحررين مثلهم! ولنضع النصوص المقدسة على محك النقد كما فعلوا هم بنصوصهم المقدسة!

أى سذاجة؟! بل أى جهالة؟!

يخطر فى بالى دائماً صورة رجل يعرج لأن فى قدمه شوكة تؤلمه إذا ضغط عليها، فيجئ رجل آخر سليم القدمين، فيقول: إننى أحب أن أعرج مثل هذا الرجل، لأن عرجته تعجبنى!!

إن النص الذى كان مقدسا عندهم، ظهر لهم – حين أعملوا عقولهم – أنه من أقوال البشر وليس من كلام الله. فزادهم ذلك حقداً على كنيستهم التى كانت تستذلهم وتحجر على عقولهم، بنصوص تزعم أنها مقدسة وهى غير مقدسة، وتزعم أنها من عند الله وهى ليست من عند الله، وتزعم أنها وحدها هى الحق، بينما الزيف فيها أكثر من الحق:

((وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون))([93]).

ولم يجعلهم ذلك يزدادون حقدا على الكنيسة ورجالها فحسب، بل دفعهم الغيظ والحنق أن ينبذوا دينهم كله، ما كان فيه من حق وما كان فيه من باطل([94])، ويستبدلوا بالدين العقل، على أنه الأداة التى لا تخطئ، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وأن العقل هو الذى يجب أن يكون محكما فى كل شىء، وأول شىء يحكم فيه هو الدين! ولا يحكم فيه ليقره، ولكن ليثبت زيفه وعدم معقوليته!!

ولتقل أوربا فى دينها ما تشاء! ولكن ما بال التنويريين المسلمين؟!

إن النص الذى أرادوا وضعه على محك النقد ليس كذلك النص الذى تبين زيفه.. إنه النص المحفوظ بحفظ الله، الثابت المتواتر، الذى لم يتغير منه حرف واحد خلال القرون:

((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))([95]).

فهل يستويان مثلا؟!

وإن النص الذى أردوا وضعه على محك النقد ليزيفوه، أو يوهنوه، أو ينفوا حجيته، أو يبرروا الانصراف عنه وعدم أخذه مأخذ الجد، مفتوح للعقل منذ أربعة عشر قرنا ونيفا، فما وجد العقل السليم سبيلا إى تزييفه:

((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا))([96]).

((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها))([97]).

وكان عند نزوله مفتوحا لمعارضة عنيفة من قريش – وغيرها من القبائل المشركة – فما استطاعوا أن يقفوا له، أو يوقفوا تأثيره فى سامعيه، أو يأتوا بمثله، أو يزعموا أن فى طوق بشر أن يأتى بمثله0

فماذا تملك إزاءه عقلانية الغرب، غير ما قال المعارضون الأولون؟

ساحر أو مجنون! بل افتراه بل هو شاعر! إنما يعلمه بشر! إن هى إلا أساطير الأولين اكتتبها! إن تتبعون إلا رجلا مسحور!!!

ولكن مشركى الأمس غلبوا على أمرهم وانقلبوا صاغرين، وباءوا بالخزى والخذلان فصمتوا، أما تنويريو اليوم فقد وجدوا (( خواجات)) – من المستشرقين – يبسطون ألسنتهم فى الإسلام وفى كتاب الله، فنقلوا عنهم أفكارهم، وظنوا أنهم قد أتوا بما لم يأت به الأولون! ولو تدبروا – بعقولهم – ما يقوله هؤلاء وهؤلاء لأدركوا ما فيه من أباطيل.. ولكنها شهوة التقليد، مضافا إليها إمعية الشخصية، وفقدان الموقف الذاتى وفقدان أصالة التفكير([98]).

* * *

وحين بدأت أوربا تتمرد على دينها وعلى كنيستها، كان الشعور الشعبى – أو الجماهيرى – فى مبدأ الأمر مع الكنسية، بتأثير النزعة الدينية الفطرية عند الناس، التى ترى فى الدين شيئا مقدسا لا يجوز مهاجمته – فى ذاته – ولا التمرد عليه .. فمست الكنيسة الخارجين عليها ملاحدة ومهرطقين، وسموا هم أنفسهم ((أحرار الفكر))([99])! وكان موقف الجماهير من ((أحرار الفكر)) هو المعارضة والرفض والاستنكار. فأصبحت لهم قضية.. قضية السماح ((للآخر)) أن يعبر عن رأيه، ولو كان مخالفا لرأى المجموع0

وتدخلت عوامل كثيرة فى تقرير هذا ((الحق)).

المعارضة المتنامية للكنيسة .. الثورة الفرنسية.. الديمقراطية.. وبصرف النظر عن دور الماسونية فى ذلك كله، لتحقيق أهدافها الخاصة من وراء الأنظمة والتنظيمات، فإننا سنفترض أن الأمور سارت سيرا طبيعيا لا دخل فيه لأحد من شياطين الأرض0

لقد كانت القضية فى أوربا واضحة المعالم، مفهومة الأدوار، منطقية التسلسل.

كانت الكنيسة فى الموقف الخاطئ، سواء بعقيدتها المحرفة، وحجرها على العقل لمنع الناس من كشف ما فى عقيدتها من تحريف، أو بطغيانها فى جميع المجالات بما أشرنا إليه من قبل، من طغيان روحى، وطغيان مالى، وطغيان سياسى، وطغيان علمى، أو بما وقع من الفساد بين رجال الدين، أو بفضائح الأديرة، أو بمهزلة صكوك الغفران، أو بمحاكم التفتيش، أو بوقوف الكنيسة ضد حركات الإصلاح التى تطالب برفع الظلم السياسى والاجتماعى عن كاهل الناس([100]). وكان ((أحرار الفكر)) أقرب إلى الصواب، فى معارضتهم للكنيسة ومقولاتها على الأقل،
وإن لم يكونوا على صواب فى محاربة الدين كله من حيث المبدأ، والمناداة باستخدام العقل بديلا من الدين، وقد منح الله الناس العقل ليعرفوه به، لا لينكروه ويتمردوا عليه!

وكانت المطالبة بحق ((الآخر)) فى إبداء رأيه، ولو كان مخالفا للمجموع، تستند فى الحقيقة إلى ذلك الواقع، وهو أن المجموع – المتبع للكنيسة – هو المخطئ، وهو الذى يجب أن يستمع إلى ((الآخر)) ليصحح فكره. وكان منع هذا ((الآخر)) من إبداء رأيه معناه الاستمرار فى الخطأ، ورفض الاستماع إلى حركة التصحيح0

وأخيرا – بعد جهاد طويل – تقرر عندهم هذا الحق، وصار جزءا من ديمقراطيتهم، لا فى السياسة وحدها، ولكن فى الفكر من حيث هو فكر، وفى السلوك من حيث هو سلوك0

وبصرف النظر مرة أخرى عن دور الماسونية العالمية فى توصيل القضية إلى هذه الصورة، التى يختلط فيها الحابل بالنابل، والحق بالباطل، تحقيقا لأهداف الرأسمالية اليهودية فى حرية استغلال رأس المال بجميع الوسائل من أجل الحصول على أكبر قدر من الربح، تحت شعار: دعه يفعل (ما يشاء)، دعه يمر (من حيث يشاء) Laissez Faire, Laissez Passer الذى رفعته الثورة الفرنسية0

بصرف النظر عن ذلك، فقد كان الموقف منطقيا حين يكون كل من القولين، وكل من وجهتى النظر، بشريا بحتا، أى فكر بشر مقابل فكر بشر، وقول بشر مقابل قول بشر0

ولكن كيف إذا كان الأمر قول بشر مقابل قول الله، ووجهة نظر بشرية إزاء أمر ربانى؟!

ماذا يقول التنويريون فى هذا المنكر الذى لا يوجد منكر أكبر منه؟

((تكاد السموات يتفطرون منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا))([101]).

إن من حق أى بشر – ابتداء – أن يبدى رأيه حين يكون المعروض أمامه رأياً بشرياً. وليس من حق بشر أن يقول من عند نفسه: أنا وحدى على صواب، ومن خالفنى فهو مخطئ. وكان علماؤنا يقولون- بتواضع العلم الحق – قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب0

ولكن حين يكون المعروض أمراً ربانيا منزلا فى الكتاب أو موحى به فى السنة، فمنذا الذى يحق له أن يقول أنا على صواب وما يقوله الله خطأ؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا0

من الذى يبلغ به التبجح أن يدعى أنه أعلم من الله، وأحكم من الله، وأحق أن يتبع من الله؟

إن الله سبحانه وتعالى جعل الحكم لنفسه فى الأمور كلها على إطلاقها، سواء فى الكون المادى أو فى حياة البشر :

((إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه))([102]).

((والله يحكم لا معقب لحكمه))([103]).

((كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون))([104]).

وجعل الله سبحانه وتعالى هذا الأمر – أمر حاكميته سبحانه فى الأمور كلها على إطلاقها – مبنيا على حقيقتين، الأولى أن الله هو الخالق، والثانية أن الله هو العليم الحكيم:

(( ألا له الخلق والأمر))([105]).

((قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم))([106]).

((وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون))([107]).

فمنذا الذى يبلغ به التبجح أن يزعم أنه خالق ، فضلا عن أن يكون هو ((الخالق))؟ ومنذ الذى يبلغ به التبجح أن يزعم أن علمه أكثر إحاطة من علم الله، وحكمته أعمق من حكمة الله؟

وبناء على هذين الأصلين الكبيرين: أن الله هو الخلاق الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله هو العليم الحكيم، أمر الله البشر بعبادته وحده، وطاعته فيما أمر به، وأنه لا خيار للبشر حين يقضى الله ورسوله بأمر :

((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))([108]).

فماذا يقول التنويريون فى هذا كله؟!

إن ((أحرار الفكر)) فى أوربا لما تناولوا النصوص الدينية عندهم، وفندوها وأباحوا لأنفسهم نقدها، كانت ركيزتهم فى ذلك أنها نصوص بشرية لا قداسة لها فى واقع الأمر، وإنما رجال الدين هم الذين أحاطوها بالقداسة على زعم أنها نمن كلام الله.. وكان تفنيد تلك النصوص أمراً محموداً بالنسبة لأقوال الكنيسة، ولو أنهم فعلوه من مبدأ الأمر، وكان لديهم منهج كمنهج المحدثين – وهو من أبرع وأدق ما أنتج الفكر الإسلامى – لأراحهم من طغيان الكنيسة، وحجرها على العقول، ولوفروا على أنفسهم قرونا من الظلام. ولكن أحرار الفكر هؤلاء تمادوا فى ((تحررهم)) فلم يقنعوا بتزييف الزائف من أقوال الكنيسة وإزالة القداسة المزعومة عنه، بل أمعنوا فى حملتهم – مدفوعين بالغل الذى كان فى قلوبهم تجاه الكنيسة ورجالها – فهاجموا الدين فى ذاته، والنص الدينى على إطلاقه ولو كان صحيحا، ونفوا عالم الغيب كله، ونفوا الوحى والنبوة، وكانوا فى ذلك شاطحين، لا يرتكزون على شىء من الحق، وأصبح موقفهم لا يقل سوءا عن الموقف الذى تمردوا عليه أول مرة وإن كانوا يقفون فى الطرف المقابل. فإذا كانت جريمة الكنيسة أنها جعلت الدين عدوا للعقل، فقد كانت جريمة هؤلاء أنهم جعلوا العقل عدوا للدين. وكلا الموقفين انحراف لا يؤدى إلى خير، وتشطير للإنسان إلى شطرين متعاديين، بدلا منن حقيقته المتكاملة المتوازنة التى خلقه الله عليها، والتى يؤدى بها مهمة الخلافة الراشدة فى الأرض. وكانت النهاية التى انتهت إليها ((حرية الفكر)) هى الانسلاخ من الدين – صحيحا كان أو غير صحيح – وإزالة قداسته من النفوس، وما ترتب على ذلك من انصراف الناس عن اليوم الآخر، وانكبابهم على متاع الأرض، والانغماس فى الشهوات، وما تلا ذلك من شيوع القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية والخمر والمخدرات والجريمة0

فماذا يريد التنويريون فى بلادنا على وجه التحديد، وهم لا يملكون حتى المبرر الأول الذى برر به ((أحرار الفكر)) فى أوربا هجومهم على الدين؟!

الحرية السياسية :

أعلن التنويريون عن أنفسهم أنهم قائمون بمهمة ضخمة، هى تحرير الشعوب من الاستبداد السياسى الذى عاشت فى نيره عدة قرون0

وهى مهمة ضخمة بالفعل.. يستحق من يقوم بها أن يقدم له الشكر، وأن يكتب جهاده بحروف من نور0

لقد وقع الاستبداد مبكرا فى حياة الأمة، منذ العهد الأموى، ووقع التخلف السياسى من الأمة كذلك، إذ نكلت عما أمرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغيير المنكر أو مجاهدته بالوسيلة المناسبة من وسائل الجهاد، وإن كانت الصورة الواقعية للتاريخ الإسلامى ليست سوداء قاتمة كما يصورها المستشرقون وأشياعهم لغاية فى نفوسهم، إنما حوت الأبيض والأسود، وحوت الظلم والمجاهدة كذلك، وإن لم تكن بالدرجة اللازمة التى كان يجب أن تكون0

واتخذ التنويريون سبيلهم أن يقلدوا أوربا فى هذا الشأن، ككل شأن آخر، فدعوا إلى الديمقراطية، وأن تكون الأمة مصدر السلطات0

ونقف هنا لنسأل: هل كانوا على وعى كامل بما هم مقدمون عليه؟ أم إنها مجرد الرغبة التى عبر عنها طه حسين، والتى أشرنا إليها من قبل: ((وهى أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء فى الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب))؟!

ويجب أن نكون منصفين، فنقول إن لآلاء الديمقراطية كان فى يوم من الأيام باهرا يخطف الأبصار، وإن كثيرا من عيوب الديمقراطية لم يكن واضحا فى مبدأ الأمر، إنما كانت الإيجابيات فيها هى الظاهرة للعيان0

ولكن ((المسلم)) الحق، الذى يرى الأمور بحس الإسلام وبصيرة الإسلام كان يجب أن تستوقفه عدة أمور، يتنبه لها ولا يدعها تفلت من انتباهه0

فأى شىء كان وراء الدعوة إلى الحرية السياسية، ومهاجمة الاستبداد؟ هل كانت خالصة لله؟ أم كانت وراءها أهداف يخطط لها مخططون ماهرون، يقفون وراء الستار ولا يبرزون أمام الجماهير؟!

لقد كان ((الاستبداد)) مقصودا به الدولة العثمانية.

وكانت ((الحرية السياسية)) مقصودا بها الاستقلال عن الدولة.

فمن الذى كان يحرك ((اللعبة))؟ ولحساب من كان التحريك؟!

ونقول بادئ ذى بدء ونقول بادئ ذى بدء إننا لا ندافع عن الاستبداد! لا من الدولة العثمانية من غيرها! لا ندافع عن أمر جرمه الله سبحانه وتعالى وحرمه:

((يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا))([109]).

وقد كان واجب الأمة أن تقوم حكامها العثمانيين، وتمنعهم من الظلم، كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكن المتتبع لتاريخ تلك الفترة يجب أن يستوقفه أن أشد النقد الذى وجه للدولة العثمانية كان هو الذى وجه للسلطان عبد الحميد بالذات، وأن ذلك قد بدأ بعد أن رفض السلطان عبد الحميد أن يمنح اليهود وطنا قوميا فى فلسطين!

فأين كان وعى الأمة الإسلامية –

والعربية بصفة خاصة،

التى لعب بها اللاعبون ليضربوا بها الدولة العثمانية –

وأين كان موقع التنويريين بالذات فى هذه اللعبة الضخمة الماكرة؟!

إن الذى قاد الثورة العربية ضد الاستبداد العثمانى هو لورنس!
لورنس العرب!
عضو المخابرات البريطانية الشهير!

والذى قاد الجيش العربى كان هو اللورد أللنبى!

الذى كتب فى مذاكراته يقول : لولا معاونة الجيش العربى ما استطعنا أن نتغلب على تركيا!

يا حسرة على العباد!

مرة أخرى نقول إننا لا ندافع عن الاستبداد، لا من الدولة العثمانية ولا من غيرها! وإنه كان من واجب الأمة الإسلامية أن تقوم حكامها وتردهم إلى العدل الذى أمر به الله0

ولكن الذى تم بالفعل كان شيئا آخر، غير الذى أمر به الله! كان الوقوع فى لعبة الأعداء الذين يخططون للقضاء على الدولة العثمانية، من أجل القضاء على الإسلام!

كانت الصيحة ضد الاستبداد كلمة حق أرادوا بها باطل

ولكنها خدعت الناس فى وقتها فانجرفوا معها، وكان التنويريون على رأس المنجرفين، بل على رأس الدعاة الذين يدعون الأمة إلى الانجراف!

هل كانوا على وعى مما هم مقدمون عليه؟

كان تخطيط الصهيونية العالمية –

بمعاونة بريطانيا وفرنسا –

منذ رفض السلطان عبد الحميد عروض هرتزل لإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين،

هو تحطيم الدولة العثمانية،

وتفتيت العالم العربى إلى دويلات صغيرة ضعيفة متنابزة متعادية،

تمهيدا لإقامة الوطن القومى لليهود فى فلسطين،

والعرب مشغولون بخلافاتهم، والمسلمون

مشغولون بمشاكلهم، فيتم الأمر بلا مقاومة،

أو بأقل مقاومة ممكنة،

ويستتب الأمر لليهود0

وقد نفذ هذا بالفعل كما قرره مؤتمر هرتزل فى سويسرا عام 1897م، الذى قرر ضرورة إنشاء الدولة خلال خمسين عاما.

وفى تلك الأعوام الخمسين تم المطلوب كله.

قسم العالم الإسلامى بادئ ذى بدء إلى عرب وترك، وأشعلت ((الثورة العربية الكبرى!)) التى وضع على رأسها الشريف حسين بينما الذى غذاها ووجهها هو لورنس، والتى كان أول أعمالها ((المجيدة!)) تدمير الخط الحديدى الذى أنشأه عبد الحميد ما بين أسطنبول والمدينة المنورة، واحتجاز آلاف من الجنود والضباط الأتراك فى المنطقة العربية وتذبيحهم بدلا من إطلاقهم ليقاتلوا فى ميدان المعركة ضد الحلفاء، وتكوين جيش ((عربى!)) بقيادة اللورد أللنبى ليقاتل الدولة العثمانية مع الحلفاء. ثم تقسيم المنطقة العربية إلى تلك الدويلات الهزيلة الهشة، الخاضعة للاستعمار البريطانى والفرنسى، ووضع فلسطين بالذات تحت الانتداب البريطانى (وهو درجة أشد من الاستعمار) من أجل تسليمها لليهود فى الوقت المتفق عليه!

كما تم فى الوقت ذاته أمر آخر على أعظم جانب من الأهمية، هو إطلاق قضية ((تحرير المرأة)) وقضية ((حرية الفكر)) الأولى لشغل الأولاد والبنات بعضهم ببعض، وشغل الأمة كلها عن روح الجد والجهاد اللازم لمواجهة المؤامرة الكبرى التى تدبر للاستيلاء على فلسطين، والثانية لإبعاد الناس عن مصدر قوتهم الحقيقى، الذى يمدهم بالعزيمة والقوة لجهاد الأعداء – وهو الإسلام والقرآن– بإزالة قداسته فى النفوس، وتوهين جذوره، وتشكيك الناس فى حجيته وضرورة الاستمداد منه0

فأين كان التنويريون فى هذا كله؟ فى معسكر الأمة الإسلامية أم فى معسكر الأعداء اللذين يخططون للقضاء على الإسلام؟!

ثم إن ((الدولة الحديثة)) التى ينادى بها، دولة لا تحكم بالشريعة الربانية، إنما يطالب لها ((بدساتير)) مجلوبة من هنا ومن هناك، من فرنسا أو بريطانيا أو سويسرا .. أو أى جهة غير الإسلام0

لحساب من يتم ذلك؟

وأين مكان التنويريين فى القضية؟!

لقد كان موقفهم واضحا من أول لحظة، فهم ضد الحكم الإسلامى، وضد تحكيم الشريعة، سواء بدعوى أن الإسلام لا علاقة له بالحكم، وليس له نظام حكم (انظر على عبد الرازق) أو بدعوى أن الحكم الإسلامى حكم استبدادى يجب القضاء عليه من أجل أن تستنشق الشعوب نسيم الحرية، وأن الشريعة الربانية لم تعد صالحة للتطبيق بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا من نزولها، تطورت فيها الدنيا كثيرا عن الوضع الذى نزلت فيه الشريعة وكانت صالحة فيه للتطبيق!

لقد كان هم الاستعمار الصليبى منذ وطئت أقدامه الأرض الإسلامية هو تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم، وتحكيم القوانين الوضعية بدلا منها.. فكيف تطابقت مواقف التنويريين مع مواقف الاستعمار الصليبى؟!

حين جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، جاءت وفى مشروعها تنحية الشريعة الإسلامية، و((تحرير)) المرأة المسلمة ونشر الأفكار الأوربية (العلمانية) مترجمة إلى العربية ليقرأها العرب المسلمون ويتأثروا باتجاهاتها0

فأما الهدف الأول قد أعد له نابليون عدته بأن تظاهر بالإسلام، وسمى نفسه الشيخ محمد، وكان يرأس ديوان العلماء، ويخلع عليهم الخلع السنية كالخفاء(!) ويطلب منهم ترويج القوانين التى وضعها بدلا من الشريعة الإسلامية بحجة ((الإصلاح))! ولما تنبه أحد العلماء إلى اللعبة (وهو الشيخ الشرقاوى) ورمى ((الخلعة السنية)) فى وجه نابليون، وقال له: لو كنت مسلما حقا لطبقت الشريعة الإسلامية فى بلدك فرنسا، بدلا من أن تأتى إلى هنا وتنحى الشريعة وتضع بدلا منها قوانين وضعية، غضب نابليون غضبته الشهيرة، واعتقل الشيخ الشرقاوى، وأمر بضرب الأزهر بالقنابل من القلعة، ((ودخلت الخيل الأزهر))([110]) واتخذه الجيش الفرنسى ((اصطبلا)) لخيوله، فكان ذلك سببا فى إحدى الثورات الثلاث الكبرى التى انتهت بطرد الحملة الفرنسية من مصر0

وأما الهدف الثانى – ((تحرير)) المرأة المسلمة – فقد استصحب نابليون معه من أجل القيام به مجموعة من النساء الساقطات كن يسرن فى الطرقات حاسرات متخلعات متهتكات – كما وصفهن الجبرتى فى كتابه (( عجائب الآثار))([111]) – فتبعتهن بعض النساء المسلمات، وصرن يقلدنهم فى خلع الحجاب والسير فى الطرقات حاسرات، ولكن ثورة الناس عليهن قطعت عليهن الطريق، فتوقفت الحركة إلى حين!

وأما الهدف الثالث فقد جاء نابليون معه بالمطبعة العربية التى وضعها فى بولاق، لهدف مباشر هو ترجمة ((الأوامر)) اليومية التى يصدرها ((سر عسكر))([112]) مزحزحا فيها الشريعة الإسلامية بحجة ((الاصلاحات))، وهدف آخر بعيد، لم يمهل لتحقيقه، وإنما أفصح عنه ((شاتليه)) مؤلف كتاب ((الغارة على الإسلامى))([113]) الذى قال فيه إن نشر الأفكار الغربية بين المسلمين كان هدفا مقصودا لهدم الإسلام:

((ولاشك فى أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثولوجية تعجز عن أن تزحزح القيدة الإسلامية فى قلوب منتحليها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التى تتسرب مع اللغات الأوربية. فنبشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوربا، وتمهد السبيل لتقدم إسلامى مادى، وتقضى إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التى لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها))!!

وحين جاء الاستعمار البريطانى إلى مصر (عام1882م) كان من أول أعماله تقليص كيان المحاكم الشرعية، وقصرها على النظر فى ((الأحوال الشخصية)) (الزواج والطلاق والمواريث، وهى كل ما بقى من تطبيق الشريعة) وإنشاء محاكم أخرى تحكم فى كل الشئون (المدنية والجنائية) بالقانون الوضعى ولا تحكم بالشريعة0

فماذا كان بين الاستعمار الصليبى وبين الشريعة الإسلامية يوجب هذا الاهتمام كله بتنحيتها عن الحكم؟

كان بينهم وبينها أنهم كانوا يريدون فى مبدأ الأمر تنصير المسلمين (حتى يئسوا من تحقيق هذا الهدف واكتفوا بإبعاد المسلمين عن التمسك بالإسلام كما قال زويمر فى مؤتمر التنصير الذى أقيم بالقاهرة عام 1906 ومؤتمر القدس عام 1935)([114]) وكان تطبيق حد الردة على المرتد مانعا من تحقيق هذا الهدف0

وكانوا يريدون استغلال الأموال بالربا (فى عملية الاستعمار الاقتصادى) وكان تحريم الربا فى الشريعة الإسلامية مانعا من تحقيق هذا الهدف0

وكانوا يريدون نشر الفاحشة فى المجتمع المسلم لإفساد أخلاقه وتوهين عراه، وكان تحريم الزنا فى الشريعة الإسلامية مانعا من تحقيق هذا الهدف0

وكانوا يريدون نشر الخمر فى المجتمع المسلم ليتلهى بها عن الصحو اللازم لمقاومة الاستعمار وجهاده، وكان تحريم الخمر فى الشريعة الإسلامية مانعا من تحقيق هذا الهدف0

وكانوا يريدون قبل هذا كله إزالة الحاجز النفسى الذى يحول بين الأمة الإسلامية والذوبان فى الغرب وهو الشعور بالتميز فى الأحكام التى تحكم حياة الناس، والتى تذكر الناس دائما فى الصغيرة والكبيرة أنهم مسلمون، وأن أعداءهم – الكفار يحتلون بلادهم ولابد من إجلائهم عنها بالجهاد المقدس0

فأين كان موقع التنويريين فى هذا كله؟ فى معسكر الأمة الإسلامية أم فى معسكر الأعداء؟!

لقد كانت فى الحكم العثمانى مظالم.. هذه حقيقة . ولكن الطريق إلى إزالة هذه المظالم لم يكن تنحية الحكم بالشريعة، واستبدال القوانين بها، فقد كان الظلم واقعا من الحكام، وليس من الإسلام كما قيل للناس لكى لا يتشبثوا بحكم الشريعة، ويوافقوا على تنحيتها وإبدالها0

وكان هناك جمود فى الفقه الإسلامى فى فترة الركود . هذه حقيقة. ولكن الطريق إلى إزالة هذا الجمود لم يكن تنحية الشريعة عن الحكم، واستبدال القوانين بها، فإن ذلك قد جلب على الأمة من الشر أضعاف أضعاف ما كانت تشكو منه فى فترة الجمود0

ودارت العجلة دورة
وجاءت الدساتير .

كيف غاب عن فطنة التنويريين وعقلانيتهم أنه لا يوجد نظام يعمل من تلقاء نفسه، بدون جهد يبذله البشر من جانبهم لتفعيله؟ وأنه لابد لأى نظام – لكى يكون فاعلا فى عالم الواقع – من تربية الناس على مقتضياته، وتدريبهم على القيام بمهامه، وتحمل تكاليفه؟

وحين جئ بالدساتير، دون أن يقوم التنويريون بإعداد الأمة لها، فكيف كانت النتائج؟

لقد كانت سخرية ليس لها حدود !

حيث قامت الثورة المصرية عام 1919م كان ونستون تشرشل وزيرا فى الحكومة البريطانية، فسمع بأنباء الثورة فسأل من حوله: ماذا يريدون؟ (يقصد المصريين) فقيل له: يريدون دستورا وتمثيلا وبرلمانا فقال : ((أعطوهم لعبة يتلهون بها! Givve them a toy to play with )).

وهكذا كانت ((الديمقراطية)) حقا التى جاءت بها الدساتير! لعبة تتلهى بها الجماهير، دون مردود حقيقى يخلص الناس من سطوة السلطان! والمستعمر هو الحاكم الحقيقى من وراء اللعبة، ومن وراء الأحزاب، ومن وراء الحكومات التى تذهب وتجئ، كما يتحرك الممثلون على المسرح، مع فارق أساسى: أن الممثل يعرف أنه يمثل، وهؤلاء يخيل إليهم أنهم أشخاص حقيقيون!!

ولكن الطامة الكبرى لم تكن تلك!

إنما كانت الانقلابات العسكرية، وما صاحبها من الأهوال!

كانت شكوى العرب التى استثيروا بها على يد لورنس – والتنويريين معه – هى من استبداد العثمانيين ومظالمهم.. ولقد كان هناك بالفعل ما يشتكى منه من الحكم العثمانى، وما يحتاج إلى تصحيح0

وكان البديل الأول للحكم العثمانى هو الاستعمار البريطانى والفرنسى بكل ما حمل معهم من المظالم، والاستغلال، والقهر، وتذويب الشخصية عن طريق الغزو الفكرى والتغريب، وإشعار العرب بالدونية، فضلا عن احتضان الأقليات التى لم يكن لها كيان ظاهر من قبل، وتكبيرها، والنفخ فيها، وتسويدها على الأكثرية العربية المسلمة، زيادة فى الإذلال0

ثم كان البديل الثانى – بعد الحرب الكبرى الثانية – هو الاستعمار الجديد، الذى اختار لقهر الشعوب وإذلالها وسيلة جديدة هى الانقلابات العسكرية، وما تحمل من ألوان البطش والطغيان الذى لا مثيل له فى التاريخ0

كان النظام الإدارى الذى اختارته الدولة العثمانية للمحافظة على ولاياتها من التفكك والانسلاخ كما حدث للدولة العباسية من قبل، نظاماً ذكيا من ناحية ولكنه فاسد ظالم من ناحية أخرى. كانت تعين الولاة لفترات قصيرة، لا تمكنهم من إنشاء جيوش خاصة يسعون بها إلى الاستقلال إداريا وسياسياً، ولكن الوالى الذى يعرف أنه غير باق فى مكانه إلا فترة قصيرة لا يلتفت إلى مصالح الناس، ولا يهتم بإصلاح الأحوال، إنما يكون همه جمع أكبر قدر من المال من الناس، فيعطى الدولة ما كلفته بجمعه من الضرائب، ويأخذ لنفسه ما شاء بالغصب والاقتدار0

وكان هذا ظلما لا شك فيه0

ولكن الناس إذا أغلقوا على أنفسهم أبواب بيوتهم، أو كانوا فى متاجرهم أو مصانعهم أو منتدياتهم فهم آمنون من بطش السلطة إذا أدوا ما عليهم من الأموال، لا أحد يتعقبهم ليحاسبهم على ما يقولون أو يفعلون، فضلا عن أن يحاسبهم على ما كان يمكن أن يفعلوه لو أتيحت لهم فرصة الفعل!

أما الانقلابات العسكرية فقد كانت نوعا من العسف لا شبيه له فى طغيانه وجبروته وبشاعة جرائمه فى الأنفس والأموال0 وما ارتكب فى سجونهم ومعتقلاتهم من أنواع التعذيب الوحشى أهوال تقشعر الأبدان من سماعها فضلا عن وقوعها على الذين وقعت عليهم بالفعل. وحشية يتعفف عنها الوحش ذاته .. فالوحش يفعل ما يفعل بفريسته ليأكل، لا لينتقم، ولا ليتلذذ بإيلام الفريسة. أما هذه الوحوش الآدمية فقد كانت فعل ما تفعل لشهوة الانتقام، وتلذذ برؤية الألم الوحشى ينزل بأجساد المعذبين، وتصل نشوتهم إلى قمتها إذا وصل التعذيب إلى الإهلاك0

ولم يكن القصد من هذا الإرهاب الوحشى إكراه المتهمين على الاعتراف بما يراد منهم الاعتراف به من الأعمال فحسب – سواء قاموا بها فعلا أو لم تكن لهم بها صلة أصلا – إنما المقصود إشاعة جو الرهبة فى الناس جميعا، حتى لا يفكر أحد ولا بينه وبين نفسه أن ينبس بكلمة واحدة ينتقد فيها الطاغية، فضلا عن أن يقوم بعمل ضده. ومن أجل إشاعة هذا الجو من الرهبة تهاجم البيوت ليلا، لينتزع منها من يراد انتزاعه، بعد ترويع أهل البيت كلهم صغارا وكبارا، رجالا ونساء، وبعثرة ما فى البيت وإتلافه بحجة البحث عن أسلحة أو منشورات، مع الفظاظة فى التعامل والغلظة فى التصرفات0

فماذا كان موقف التنويريين من هذا كله؟

إنه العار الأبدى الذى يحملونه إلى يوم القيامة، فقد وقفوا يساندون الطاغية ويباركون طغيانه.. لأنه يذبح لهم المسلمين، ويزيحهم من الطريق!

وأين القيم؟ وأين المبادئ؟ أين ((حقوق الإنسان)) التى ثاروا على الترك من أجلها؟ أين حق ((الآخر)) فى أن يعيش وأن يبدى رأيه وهو آمن، ولو خالف رأيه رأى المجموع؟!

كيف صار الأمر حين أصبح ((الآخر)) هو المسلم؟!

كيف استبيح دمه؟ واستبيح أمنه؟ واستبيحت كرامته؟ واستبيحت آدميته؟ فى الوقت الذى يستمتع فيه المجرمون واللصوص وتجار المخدرات وتجار الأعراض بالأمن والراحة، والمال والسلطان؟!

كيف خنس التنويريون إزاء هذا كله.. بل كيف أيدوا وتحمسوا وصفقوا للطاغية ويده تقطر دما من دماء المسلمين؟!

إنه الخزى الذى تسقط معه كل دعوى .. ويسقط معه كل تمويه !



حصيلة التنوير فى قرنين من الزمان

لكى نحصى حصيلة التنوير خلال قرنين من الزمان فى بعض بلاد العالم الإسلامى، وقرن على الأقل فى بلاد أخرى،علينا أن نستعرض أمراض الأمة مرة أخرى، وننظر: أى هذه الأمراض قد عالجته حركة التنوير وشفت الأمة منه، وأيها تركته بلا علاج لأنها لم تلتفت إليه، وأيها فشلت فى علاجه رغم المحاولة، وأيها زاد سوءا نتيجة علاج خاطئ0

قلنا فى الفصل الماضى إن حركة التنوير نجحت فى أمرين مهمين، الأول هو إزالة التعلق بالخرافة، الذى كانت الصوفية قد نشرته فى الأرض الإسلامية،فى صورة كرامات وخوارق تنسب إلى مشايخ الطرق- الأحياء منهم والأموات- وموالد و((حضرات)) تنفق فيها الجهود والأموال والأوقات، وقعود عن السعى واتخاذ الأسباب تعلقا بقضاء الحاجات عن طريق التقرب ((للأولياء)) بالذبح والنذر والدعاء والصلوات0 والثانى هو إزالة النظرة إلى العلوم الكونية على أنها كفر أو حرام لأنها تأتى من عند الكفار وتشغل عن العلوم الشرعية0

وقد كانت إزالة هذين المرضين لازمة لأى نهضة حقيقية للأمة، ولم يكن يرجى للأمة فلاح إذا ظل الأمر على ما كان عليه فى هذين المجالين، بصرف النظر عن الخلفية التى كانت حركة التنوير تنطلق منها. فهى – كما قلنا – لم تسع إلى إزالة الخرافة من أجل تصحيح العقيدة بل فى محاولة لإقصاء العقيدة والقضاء عليها، فأراد الله غير ذلك، ولم تسع إلى إدخال العلوم الكونية وإثارة الاهتمام بها لتصحيح دين الناس بحيث يشمل الدنيا والآخرة، كما أنزله الله وطبقه المسلمون فترة غير قصيرة فأنشئوا به حضارة فذة فى التاريخ، وإنما كانت محاولة من جانبهم لإقصاء التعليم الشرعى وإهماله وتحويل اهتمام الناس عنه، فأراد الله غير ذلك (كما سنبين فى سياق الحديث).

العبرة بالخواتيم كما يقال. وقد كانت الخواتيم فى صالح الأمة، وفى صالح الحركة الإسلامية التى جاءت فيما بعد، إذ وجدت أعوانا قد تخلصوا – أو تخلص كثير منهم – من خرافات الصوفية، وأقبلوا على العلوم الكونية فتمرسوا بها، وصار كثير منهم متفوقين فيها، فساعد هذا وذاك فى تقوية المد الإسلامى0

وقلنا كذلك فى الفصل الماضى إن الحركة ركزت على ثلاث قضايا رئيسية، هى تحرير المرأة وحرية الفكر والحرية السياسية.. فماذا كانت الحصيلة؟

لاشك أن وضع المرأة بصفة عامة قد تغير كثيرا عما كان عليه فى السابق، وجدت فى الوضع إيجابيات لم تكن لتنال لو لم تقم حركة هادفة، تهدف إلى إخراج المرأة من الظلم والظلام الذى كانت تعيش فيه0

لكن هذه الإيجابيات كان يمكن أن تكون أكثر كثيرا، والسلبيات أقل كثيرا، لو لم تتخذ الحركة النهج الأوربى، وتصر على أنه هو الطريق الذى لا طريق غيره0

كان من الإيجابيات ولا شك تعليم المرأة، فلا خير فى الجهل، سواء كان الجاهل رجلا أو امرأة. ولا يتقدم مجتمع نصفه جاهل، مغلف بالخرافة وضيق الأفق، ولو كان نصفه الآخر فى الذروة من العلم0

وكان من الإيجابيات تغير نظرة الرجل إلى المرأة، وتغير نظرة المجتمع إليها كذلك. فلم تعد ((شيئا)) من الأشياء، ولا كماً مهملاً لا يحفل به أحد. بل صارت كائنا إنسانيا له وجود إيجابى، ويحتل مساحة ملموسة من ساحة الواقع0

وكان من الإيجابيات توسيع أفقها هى، من الحيز الضيق المغلق الذى كانت تدور فيه، إلى أفق ارحب، يطل على العالم كله بنسب قد تختلف من فرد إلى فرد حسب استعداداته واهتماماته الخاصة، ولكنه فى جميع الأحوال أوسع وأرحب وأعلى من ذلك الأفق المحدود الذى كانت تعيش فيه من قبل: أن تحمل وتلد وتقوم بخدمة الرجل فى البيت، ثم تنصرف بقية الطاقة فى غيرة امرأة من امرأة، أو كيد امرأة لامرأة، أو الحسد والغيبة والنميمة وتتبع العورات وتلفيق الروايات0

ولكن السلبيات كانت كثيرة كذلك، أكثر بكثير من الحد الذى تستقيم به الأمور فى مجتمع سليم0

فأما الفساد الخلقى وتهوين أمر الفاحشة، وتسميتها بغير اسمها تزيينا لها، وتهوينا من أمرها فى نفوس الناس، وتشجيعا عليها بكل وسائل التشجيع، فأمر أوضح من أن يشار إليه، أو يجادل فيه؛ وما يجرى فى وسائل الإعلام، المقروء منها والمسموع والمنظور، هو من البشاعة والسوء بحيث لا يملك أحد أن يدافع عنه، أو يبرر وجوده.

ولكن السوء لم يقف عند هذا الحد، وهو فى ذاته خطير، لأنه يأكل كيان أية أمة يتفشى فيه، فى الوقت الذى يعمل فيه أعداؤنا على تذويبنا وإفنائنا وتقليص وجودنا واستعبادنا وتسخيرنا لمصالحهم، وخاصة العدو الصهيونى0

إن ((ترجيل)) المرأة فى نظرنا لا يقل عن إفساد الأخلاق، وإن لم يكن ظاهرا للعيان كالفساد الخلقى.

إن حكمة خلق الزوجين – الذكر والأنثى – التى ما فتئ كتاب الله يذكرنا بها على أنها آية من آياته، تزول إذا أصبح الجنسان واحدا .. سواء رجل وامرأة مسترجلة، أو امرأة ورجل مستأنث.. كلاهما إفساد للفطرة، وكلاهما إتلاف لبنية المجتمع، التى أقامها خالقها – وهو اللطيف الخبير – على جنسين متكاملين – لا متماثلين – لكل منهما خصائصه، ويجرى بينهما تفاعل حى، ينتج منه أسرة مترابطة، ومجتمع متماسك، وقيم وأخلاق، وآفاق عليا تليق ((بالإنسان)) الذى كرمه الله:

((وقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ))([115]).

(( ومن آياته بأن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون))([116]).

وحين ترجل المرأة – سواء بالتعليم على مناهج الأولاد، أو بالاختلاط على أساس ((الزمالة)) فى مراحل التعليم المختلفة، والجامعية بصفة خاصة، أو الإعداد النفسى والعقلى للعمل فى خارج البيت، والنظر إلى البيت والأمومة وتربية النشء نظرة ازدراء على أنه امتهان لكرامة المرأة وحط من قدرها – حين يحدث هذا كله، يحدث فساد كبير فى المجتمع البشرى، يعانى الغرب الآن ويلاته، سواء فى تفكك الأسرة، أو جنوح الأحداث، أو انتشار الشذوذ، أو الشقاء المزدوج، شقاء الرجل (( بالزميل)) المشاكس داخل الأسرة، وشقاء المرأة بالعمل فى الخارج مع عبء الأسرة والأطفال، فضلا عما أصاب الأطفال من التشرد النفسى نتيجة عدم وجود الأم المتفرغة للأمومة، وأثر ذلك كله فى ارتفاع نسبة الأمراض النفسية والعصبية والقلق والجنون والخمر والمخدرات والجريمة0

شرور كثيرة ما كان أغنانا عنها لو اتخذ ((تحرير المرأة)) مسارا آخر غير المسار الأوربى الذى أصرت عليه حركة التنوير!

((حرية الفكر))
كانت حرية الفكر كلها حرية على الدين ومقدساته،
بدلا من العمل على إعادة الحيوية إلى الفكر الإسلامى،
بعد الجمود الذى أصابه فى فترة الركود0

وكان لهذا الأمر سلبيات كثيرة، وخطيرة فى ذات الوقت0

السلبية الأولى هى التقليد فى محاربة التقليد! فلم يكن شىء مما أنتجه التنويريون فى مهاجمة الإسلام أصيلا ولا صادرا من عند التنويريين أنفسهم. فما كان من كتاباتهم ضد الدين فى عمومه فهو ترجمة ركيكة لما قاله كتاب الغرب فى الدين، مع الفارق الذى أشرنا إليه آنفا، أن هؤلاء هاجموا صورة مزيفة من الدين لم يعرفوا غيرها، وعمموها – جهلا – على الدين كله، بينما التنويريون يهاجمون الدين الحق، فيقولون فيه ما قاله أولئك فى بضاعتهم المزيفة، فيرتكبون فى الواقع حماقتين، حماقة التقليد بغير بصيرة، وحماقة وضع الكلام فى غير مواضعه التى يمكن أن يصح فيها! وما كان من كتاباتهم ضد الإسلام بالذات فهو ترديد لما يقوله المستشرقون، حرفا بحرف، وافتراء بافتراء! فيرتكبون مرة أخرى حماقتين ((عقلانيتين!)) : حماقة التقليد بغير بصيرة، وحماقة أخذ الحكم على الشىء من أعداء ذلك الشىء، الذين هم بداهة حكام غير أمناء لأنهم أعداء!

((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم))([117]).

((وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم))([118]).

والسلبية الثانية أن توهين عرى الدين فى النفوس – الذى هو الهدف الأخير ((لأحرار الفكر)) فى كل مكان – قد أحدث شرا عظيما فى المجتمع، أعظم فى الحقيقة من الشر الذى أحدجثه فى الغرب ذاته؛ لفارق الدينين وفارق الظرفين!

ففى الغرب أحدث توهين الدين فى نفوس الناس فسادا خلقيا ضخما فى الفوضى الجنسية التى نشأت من ((تحرير المرأة)) على الصورة التى حررت بها هناك، مع زوال الوازع الخلقى الذى ينشئه الدين فى النفوس بتذكيرهم بالله، وتذكيرهم بالآخرة. ولكنه أحدث فى الوقت ذاته انطلاقة حيوية ضخمة فى المجتمع الغربى، لأن ذلك الدين – كما مثلته الكنيسة الأوربية – كان معوقا عن الانطلاق، معطلا عن الحركة، مقعدا عن النشاط فى أمور الحياة الدنيا. وهكذا اختلط الخير والشر فى الجهد الذى قام به ((أحرار الفكر)) هناك، وإن كان الشر ظل يتمادى، حتى ليوشك أن يدمر كل الخير فى نهاية المطاف0

أما تنويريونا فقد كانت جهودهم فى تحرير الفكر شرا كلها بغير خير0

ففضلا عن الفساد الخلقى الذى يصاحب دائما توهين عرى الدين فى النفوس، ولا يتخلف عنه أبدا، فإن أمراضا كثيرة تفشت واستفحلت حين أضعف الوازع الدينى، بعضها كان موجودا فى نطاق ضيق فاتسع نطاقه أيما اتساع، وبعضها ولد فى الفراغ الذى تسبب فيه تحجيم الدين0

فالغش، والتزوير فى العمل، وأداء الواجبات سداً للخانة دون روح حقيقية ودون حرص على الإتقان، والخداع والالتواء فى التعامل، كانت كلها موجةودة ولكن فى نطاق ضيق. لأن بقية من الدين كانت تقف حائلا دون انتشارها . فلما ذهب – أو أضعف – نفوذ الدين، لم يعد هناك حائل، فاتسع نطاقها، وصارت أصلا من أصول المجتمع ((المتحرر!). لا تستطيع أن تأمن عاملا إلا إذا وقفت على رأسه حتى يكمل العمل، ويعمل حينئذ وهو متضايق من مراقبتك له، حخانق عليك لنك لم تمكنه من الغش والخداع الذى تعود عليه. ولا تستطيع أن تثق بوعد يعدك إياه موظف أو عامل أو صاحب صنعة حتى تداوم التردد عليه إلى أن يجد أنه لا خلاص منك إلا بأداء العمل الذى طلبته منه0

وكانت الرشوة تقع فى المجتمع لكن فى جو من السرية والتكتم الشديد، لأن المرتشى يخاف والراشى يخاف، فتظل الرشوة محدودة النطاق، فأصبحت الرشوة – بعد زوال الحاجز الدينى – أمرا علنيا ، يتعالن به الراشى والمرتشى، بل أصبح لا يتم أمر إلا برشوة – إلا رحم بك – وتذهب تطلب حقك الواضح الجلى الذى لا شبهة فيه فيقال لك: كم تدفع لتأخذ حقك؟!

وكان أكل المال الحرام موجودا فى المجتمع، يقوم به من لا شرف له ولا احترام، لذلك كان محدود النطاق. فأصبح هو السبيل الأكبر لكثير من الناس إلى الثراء ونيل الاحترام، بين الناس! لأن الناس صارت تحترم صاحب الثروة – وعلى قدر ثروته – بصرف النظر عن مصدر الثروة ومدى حلها أو نظافتها.. وأصبح من ((علية القوم!)) من يعمل فى تجارة الأعراض أو تجارة المخدرات ويقبل عليه الناس ويوقرونه وهم يعلمون من أين أتى بالمال!

وفى وقت من الأوقات – إلى عهد غير بعيد، ورغم كل ما كان فى المجتمع من انحراف – كان الناس يقترضون بغير أوراق! ويؤدى المقترض دينه وفاء بالعهد، وخوفا من الله، بينما المقرض لا يملك سندا ضده.. فأصبحت السندات تزور، والأمانات تؤكل على أصحابها، والمدين يماطل وهو قادر على رد الدين0 وأصبح الشركاء يتسابقون كل فى محاولة خداع شريكه، وأكل ماله، وإخراجه من الشركة صفر اليدين منذ أن يبدأ المشروع يؤتى أرباحه!

وكان الجار يأتمن جاره على عرضه وماله وأسراره، ويجرى على ألسنة العامة قولهم إن النبىr وصى على سابع جار! وذلك لقوله r : (( ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه!))([119]) فصارت المصائب تأتى – أقرب ما تأتى – من الجار الذى لا يؤتمن على عرض ولا مال0

وأمراض أخرى كثيرة يطول شرحها نجمت أو تفشت من توهين عرى الدين فى النفوس، وخاصة على أيدى الأنظمة الطاغية التى اضطهدت الإسلام والمسلمين، وكانت موضع الرضى والترحيب والتأييد من التنويريين0

ومن باب الإنصاف نقول إن التنويريين لم يسعوا إلى إحداث كل هذه الشرور فى المجتمع، ولكنهم يحملون مع ذلك مسئوليتهم عنها، لأنهم لم يقدروا خطورة الجرم الذى أقدموا عليه حين عملوا على توهين عرى الدين فى النفوس0

بالنسبة للحقوق السياسية تختلط السلبيات بالإيجابيات فى عمل التنويريين

وكما رأينا فى أمور أخرى تزيد السلبيات على الإيجابيات حتى تمحو أثرها فى النهاية!

فمن الإيجابيات تذكير الناس أن لهم حقوقا على حكامهم، وهو أمر كانوا قد نسوه من زمن بعيد، منذ غابت الخلافة الراشدة كان صاحبها يقول: ((إنى وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى))([120]) ويقول : ((القوى فيكم ضعيف حتى أخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوى حتى آخذ الحق له))([121]) والتى يقول صاحبها ((يأيها الناس اسمعوا وأطيعوا)) فيقال له لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذى ائتزرت به، فلا يغضب، ولا يستكبر على المساءلة، بل يجب ويبين، فيقال له: الآن مر! نسمع ونطع! ([122]) ثم جاء الأمويون ومن بعدهم فغيروا النهج وذهبوا بما كانت تتسم به الخلافة الراشدة من عدل نموذجى، واستبدلوا به شدة على النسا ومظالم – إلا من رحم ربك – فنسى الناس، ونفضوا أيديهم من سياسة الحكم وتركوا الأمر للحاكم إن شاء عدل فكان الخير، وإن شاء عسف فكان الصبر!

أثار التنويريون قضية حقوق الأمة على الحاكم، ووجوب مراقبتها لأعماله، ومحاسبته حين يتجاوز حدوده0

نعم .. ولكن!

ما كانت نيتهم صافية وهم يثيرون القضية

ولم يكن عطفهم حقيقيا على الجماهير! وليته كان كذلك، إذن لتقدمت الأمة فى هذا المضمار، ولنالت حقوقها، أو شيئا منها، ولم تسمح لأبشع ألوان الطغيان التاريخى أن تقهرها وتستذلها وتسلبها أمنها وكرامتها وكل حق من حقوقها!

لقد كان الدافع الذى يحركهم هو مهاجمة الحكم الإسلامى ممثلا فى الدولة العثمانية0
وهنا يختلط الحق بالباطل0

فلو أنهم هاجموا مظالم الحكم العثمانى من المنطق الإسلامى لأدوا خدمة هائلة لهذه الأمة يكسبون بها ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة0

فحين ينادى الدعاة بالعودة إلى الصورة الإسلامية الصحيحة التى بدأ بها الحكم الإسلامى سيرتة الأولى- ولو تعرضوا للأذى فى دعوتهم، ولو استشهد منهم فى سبيل ذلك من قدر الله له أن يستشهد- فقد كانوا سيؤدون للأمة خدمتين جليلتين فى آن واحد: رد حقوقها المسلوبة إليها، والمحافظة على الدولة الإسلامية التى يعمل الأعداء بكل جهدهم لتقويض أركانها توطئة للقضاء عليها، والقضاء على الإسلام من ورائها0

ولكنهم حين ينشئون دعوتهم على أساس أن الإسلام لا علاقة له بالحكم،
أو أن الإسلام هو منبع الظلم،
فقد كانوا عونا للأعداء فى مهمتهم التى ركزوا فيها جهودهم،
وهى القضاء على الدولة الإسلامية،
تمهيدا للقضاء على الإسلام ذاته0

هذه واحدة .

والثانية أنهم حين دعوا إلى الحقوق السياسية على طريقة الديمقراطية الغربية لم يقوموا بجهد حقيقى لتهيئة الأمة للاستفادة من إيجابيات الديمقراطية([123])، بل كانوا يعيشون فى أبراجهم العاجية يحلمون، دون أن ينزلوا إلى أرض الواقع ليمارسوا الدعوة بالفعل، ويربوا الأمة على المحافظة على حقوقها.
لأنهم لم يكونوا دعاة حقيقيين،
ولا مربين مخلصين،
إنما كان همهم الأول مهاجمة الدين!

أما ثالثة الأنافى فهى ما أشرنا إليه من قبل،
من الوقوف فى صف الطغيان البشع الذى جئ به للقضاء على المد الإسلامى،
بوسائل بلغت من الوحشية حدا تعجز اللغة عن وصفه،
وكانوا هم يؤيدون الطاغوت،
ويجندون أقلامهم للإشادة بجرائمه،
وتضليل الأمة بالبطولات التى يضفونها عليه0

أما الثلاثى الرهيب
الذى توغل فى جسد الأمة ومنعها من النهوض
فماذا فعلوا فيه؟

الفوضوية التى تكره النظام،
والعفوية التى تكره التخطيط،
وقصر النفس، الذى يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة.

هل فكروا فى علاجه؟ وهل يستطيعون؟!

أما الاستطاعة فليسوا من أهلها، وهم يعيشون فى أبراجهم العاجية، لا ينزلون إلى ساحة الواقع، التى تحتاج إلى العرق والجهد لتغير طبائع الناس، وتنشئهم تنشئة جديدة، جادة قوية فاعلة مريدة0

إن نشر الأفكار التى تدعو إلى التسيب والانحلال سهل، واستجابة الناس لها سريعة. أما الأفكار التى تحتاج إلى بناء، وتحتاج إلى بذل الجهد، وإلى المثابرة والمتابعة، فأمرها مختلف0

والذى كانت الأمة محتاجة إليه، لم يكن حل أخلاق المجتمع، وإطلاق الغرائز والنزوات، وشغل الأولاد بالبنات، والبنات بالأولاد، وإنفاق الطاقة فى السفاسف، والجرى وراء أشكال الحضارة وأزيائها دون لبها الحقيقى0

لقد كانت الأمة محتاجة إلى إعادة البناء، على أسس جديدة، قوية متينة لاستعادة ما فقدته من حيويتها وعزيمتها فى سنوات الركود الآسن الذى انتهى بها إلى أن تكون غثاء كغثاء السيل0

ولقد كانت دعوى التنويريين أن نصبح مثل أوربا، لنكون شركاء لها فى الحضارة ما يحمد منها وما يعاب، فإلى أى شىء وصلنا؟

فأما ما يعاب من هذه الحضارة فقد عببنا منه عبا، وصرنا بالفعل مثلهم أو أسوأ منهم! ويكفى ما تبثه الفضائيات من ألوان الفساد0

أما ما يحمد فلم نقدر عليه لأننا مقلدون.. والمقلد لا ذاتية له، ولا عزيمة عنده، ولا قدرة له على بذلك الجهد .

البناء الحضارى جهد يبذل .. جهد عقلى ونفسى وعصبى وجسدى، وعلمى وأخلاقى، وعزيمة لا تقف فى وجهها الصعاب، ومثابرة لا تقعدها العقبات0

والفكر التنويرى – فكر الأبراج العاجية، وفكر التسيب والانحلال – لا يقدر على شىء من ذلك، لأنه يفتقد الأصالة، ويفتقد الذاتية المستقلة، ويفتقد العزيمة الإيجابية الفاعلة0

وهذه تجربة قرنين كاملين من الزمان فى بلد مثل مصر، وقرن من الزمان على الأقل فى أى بلد إسلامى.. ماذا جنت فى عالم الواقع إلا مزيدا من الضعف، ومزيدا من التخلف، ومزيدا من التبعية للغرب، ومزيدا من التيه والشتات، والعجز عن اتخاذ المواقف، والعجز عن مجابهة الأحداث؟

وفوق ذلك كله ضاعت فلسطين..0

والتنويريون مشغولون بالحرب ضد الإسلام!

لا يستطيع التنويريون أن يقدموا للأمة أكثر مما قدموه خلال قرن أو قرنين من الزمان،
إلا مزيدا من الهجوم على الإسلام،
ومزيدا من الفوضى الخلقية،
ومزيدا من التبعية للغرب.
وبالتالى مزيدا من الضياع0

ولا أمل لهذه الأمة إلا بالرجوع إلى الإسلام.
هو وحده الذى يمكن أن يبعث الأمة بعثا جديدا تسترد فيه عافيتها،
وتنطلق من جديد0

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها0

ومن عجيب قدر الله أن حركة التنوير، التى بثت لتكون بديلا من الإسلام، كانت – بما نجحت فيه وما فشلت فيه – تمهيدا جيدا لحركة إسلامية مستنيرة، هى التى تعمل الآن فى الساحة، وتدل الدلائل كلها أنها هى المستقبل، وهى طريق الخلاص0

إن النجاحات التى نجحت فيها حركة التنوير، فى تخليص فريق من الناس من خرافات الصوفية وأوهامها وقعودها وتواكلها وإقناع الناس بالإقبال الناس بالإقبال على العلوم الكونية والاشتغال بها، قد أمدت الحركة الإسلامية التى جاءت بقدر من الله بشباب متنور متعلم، يعلم من سنن الله أنه لابد من جهد يبذل للوصول إلى النتائج، ولابد من عزيمة صادقة، ولابد من اتخاذ الأسباب، ولابد من التسلح بالعلم، ولابد من الاطلاع على ما يحدث فى العالم من أحداث0

كما أن إخراج المرأة من عزلتها، وجهالتها، ومحدودية آفاقها، وتفاهة اهتماماتها، قد أمد الحركة الإسلامية بنساء متعلمات واعيات، كن أقدر على فهم الإسلام فى شموله وسعة آفاقه ورفعة اهتماماته، وأقدر على إبراز دور المرأة المسلمة فى بناء المجتمع المسلم، مع المحافظة على آداب الإسلام ونظافة الإسلام وطهر الإسلام، متحديات دعوى التنويريين أنه لابد من خلع الحجاب لتأخذ المرأة مكانتها، ولابد من الاحتكاك بالرجل بلا خجل ولا حياء0

أما ما فشلت فيه حركة التنويريين أو كان من سلبياتها، فقد كان مددا للحركة الإسلامية من جانب آخر0

إن الهجوم المستمر على الإسلام: قيمه ومبادئه وتاريخه ورجالاته وإنجازاته، قد أيقظ المسلمين إلى جوانب من عظمة الإسلام كانت – فى فترة الركود – قد نسيت أو انطفأ بريقها وفقدت إشعاعها. فإن هجوم المستشرقين وأشياعهم من التنويريين الذين يترجمون أفكار المستشرقين وينشرونها بأسمائهم أو أسماء أصحابها الأصليين أحدثت رد فعل فيما يسمى حركة ((الدفاع عن الإسلام)).

و((الدفاع عن الإسلام)) لم يكن فى ذاته حركة سليمة، فقد كان دفاع المنهزم أمام الهجوم، يحاول جهده أن يرد الطعنات، وأن يضمد الجراح. ولكنه كان منطقيا مع حال الأمة فى بدء يقظتها، وقد تيقظت على السهام تنوشها من كل جانب،
ولكنه حوى جانبا مفيدا على أى حال؛
هو أنه بعث المفكرين الإسلاميين ينقبون فى التراث الإسلامى ليردوا على شبهات المفترين والمبطلين،
فنشروا من مزايا الإسلام ما كان منسيا أو مجهولا أو غير ملتفت إليه،
فزاد وعى الناس بحقيقة الإسلام الشاملة المتكاملة،
فكان هذا من ((البيان)) المطلوب دائما لهذا الدين فى كل جيل من الأجيال، من أول البعثة حتى يرث الله الأرض ومن عليها :

((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون))([124]).

وقد انتهت موجة ((الدفاع)) فى موعدها المقدور .. وجاءت بعدها الموجة الصحيحة، فى حركة ((البيان)) الذى قصد به البيان أساسا،

وليس مجرد الرد على الشبهات.

ثم جاءت موجة ثالثة-
فى موعدها المقدور كذلك –
موجة الهجوم على الحضارة الغربية وبيان عوراتها وسلبياتها، وإزالة الغبش الذى غشى أعين الناس تجاهها، وكشفها على حقيقتها، فى مواقفها الصليبية المعادية للإسلام،
المتحيزة للعدوان اليهودى السافر، الطاغية المستبدة، وريثة الإمبراطورية الرومانية فى طغيانها وجبروتها وسعيها إلى استعباد الآخرين وتسخيرهم لمصالحها،

وإن ادعت أنها تحترم ((الآخر)) وتسمح له بحق الوجود، وحرية التعبير عن هذا الوجود0

وكان هذا كله ردا على إحدى سلبيات حركة التنوير0

أما الفشل الذريع فى علاج كثير من الأمراض، إما بعدم الالتفات إليها أصلا، وإما بتقديم علاج خاطئ يزيد المرض بدلا من شفائه، فقد أيأس كثيرا من الناس من الدرب الذى سلكه التنويريون، وأقنعهم أنهم لن يصلوا منه إلا إلى مزيد من الهوان والضعف والضياع..
فكان هذا مددا للحركة الإسلامية من جانب آخر0

والله الذى يقدر الأقدار وليس البشر :

((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون))([125]).

((ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون))([126]).

لقد كانت الصحوة الإسلامية ذاتها قدرا ربانيا، جاء فى موعده المقدور عند الله. وكانت هى الرد على كيد الأعداء الذى أرادوا به القضاء الأخير على الإسلام، بإزالة الخلافة.
فقد قام رجل فتح الله بصيرته بنور الإسلام،
فقال :
((إن كانت الخلافة قد ضاعت، فلماذا لا نعمل على إعادتها من جديد))([127]).

فى غير هذا المكان
تحدثنا عن الصحوة الإسلامية،
ما لها وما عليها،
ما نجحت فيه وما فشلت فى أدائه،
وما بنا أن نعيد هنا شيئا مما قلناه هناك .

ولكنا هنا نقول
إن الصحوة
بإذن الله هى المستقبل0

إن أمامها مهام ضخمة،
وأمامها عقبات كثيرة.
ولكنها هى الطريق0

إن بعثت الأمة من جديد يحتاج إلى ((عقيدة)) وليس فقط إلى ((فكر)). الفكر مطلوب، نعم. ولا يمكن لحركة مستنيرة هادفة أن تحقق شيئا من أهدافها بغير فكر ناضج مستنير. ولكن الفكر وحده لا يكفى، ولا يصنع شيئا وهو معلق فى أبراجه العاجية لا ينزل إلى واقع الساحة. والعقيدة هى التى تفعل. هى التى تحرك. هى التى تدفع للعمل. وهذا من طبيعتها، لأنها تعمل من داخل مركز الحركة الحقيقى وهو القلب:

((ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهى القلب))([128]).

والذى أنزله الله تعالى – اللطيف الخبير، الذى يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحه وما يصلح له – هو عقيدة تشتمل على فكر، وليس فكرا فلسفيا ونظريات0

وحين عملت هذه العقيدة على أصولها الصحيحة، وبما تشتمل عليه من فكر صحيح، صنعت ما يشبه المعجزات. وحين غفل عنها أهلها وأهملوها، ذووا وانحصروا، حتى صاروا غثاء كغثاء السيل..

ثم جاءت الصحوة بقدر من الله، وأخذت منطلقها الذى قدره الله، ونجحت فى مجالات، وأخفقت فى مجالات، وتعجلت فى أمور، وفاتتها أمور.. ولكنها ما تزال فى بدايتها، وأمامها بعد مشوار طويل، وأمامها أكثر من فرصة لتصحيح ما أخطأت فيه، وتدارك ما أخفقت فيه. ولكن اتجاه قدر الله هو إلى تثبيتها وترشيدها وتقويمها، وليس إلى القضاء عليها وإنهاء دورها..

وقدر الله غيب، ولكن له إهاصات ..

فلو شاء قدر الله ابتداء ألا تقوم الصحوة ما قامت، فقد كان كيد الأعداء ماكرا خبيثا عنيدا، وكان حال الأمة مغريا للأعداء أن يضغطوا بكل قوتهم ليزهقوا روح ((الرجل المريض)) – كما كانوا يسمون الدولة العثمانية فى آخر عهدها – ويستريحوا منه إلى نهاية الزمان..

ولكن مولد الصحوة من ذات الحدث الذى أراد به الأعداء القضاء على الإسلام إشارة إلى اتجاه قدر الله0

ثم إن الصحوة قد فاجأت المخططين من الصليبين والصهيونيين مفاجأة عنيفة، فدبروا لقتلها، وانشئوا لذلك مجموعة من الانقلابات العسكرية فى العالم الإسلامى، تبطش بالمسلمين بطشا لا سابقة له فى عنفه ووحشيته، على أمل القضاء على الصحوة قبل أن يستفحل أمرها وتستعصى على عملية الإفناء، فكان من قدر الله أنها زادت اشتعالا، واتسع نطاقها0

والمستقبل غيب .. ولكنا نستقرئ سنن الله، ووعده ووعيده، فنجد أن المستقبل للإسلام0

إن من سنن الله أن الدعوة التى يقدم لها الدم لا تموت.. وقد أسرف الأعداء فى إراقة الدم، ظنا منهم أنه يقضى على الدعوة، فكان الدم المراق سبيلا إلى زيادة المد0

وإن من وعد الله أن يمكن للأمة حين تصحح موقفها من دينه، وتعبده وحده دون شريك:

((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً))([129]).

وقد بدأت الأمة تعود ..

وإن من وعد الله ووعيده أن يسلط على اليهود من يدمرهم إذا علوا فى الأرض:

((وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولا، ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها. فإذا جاء وعده الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا. عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا))([130]).

ومن خلال حماقات الغرب، وحماقات إسرائيل، يتم قدر الله فى إمداد الحركة الإسلامية بمزيد من بواعث الاستمرار.

إن الغرب – بحماقته – قد أعلن الحرب على الإسلام فى كل الأرض، ودعواه الظاهرة أنه يحارب الإرهاب، وأنه يحارب الإرهاب عامة من حيث المبدأ، وليس الإرهاب الإسلامى وحده0

ودعواه داحضة من جهتين:
الجهة الأولى أنه يساعد الإرهاب الإسرائيلى بكل وسائل المساعدة،
ويمده بالمال والسلاح والتأييد الأدبى والسياسى ليقتل المسلمين، ويجليهم من أرضهم ويستولى عليها،
ويهين المقدسات الإسلامية،
وهو آمن من كل رد أو ردع لأن الغرب يدارى على جرائمه، بل يباركها ولا يخفى تأييده لها.
والجهة
الثانية أنه يصف كل اتجاه إسلامى أيا كان لونه أو أسلوبه بأنه إرهاب، ليطالب بحظره، والتضييق عليه، وتجفيف منابعه.
فكل مطالبة بتحكيم شرع الله إرهاب،
وكل التزام بزى الإسلام إرهاب،
وكل استنكار للعدوان على المسلمين إرهاب، وحتى تحفيظ القرآن إرهاب!!

ونتيجة هذه الحماقة أن يستيقن المسلمون فى كل الأرض أن الغرب الصليبى لا يريد الإسلام.
ويكون رد الفعل الطبيعى هو الإصرار على الإسلام،
والإصرار على التمسك به ضد هذه الحرب الصليبية الغاشمة،
التى تكشف عن وجهها بلا خفاء0

أما إسرائيل فإنها بحماقة
تصر على إذلال العرب والمسلمين إلى آخر قطرة كيانهم.
وحين يتم لإسرائيل ما تريد من السيطرة الشاملة، السياسية والحربية والاقتصادية والإعلامية،
فما رد الفعل الطبيعى عند المسلمين،
وهم يرون الأرض كلها تساند العدوان اليهودى،
وتأبى أن تعترف بحق واحد للمستضعفين فى الأرض؟

هل هناك رد فعل متوقع: إلا اللجوء إلى الجهاد الإسلامى للدفاع عن وجودهم المهدد، وكيانهم المسلوب؟

وهكذا يسلط الله حماقات الصليبية الصهيونية على الأمة لتستيقظ من سباتها
ولتعود إلى الإسلام!

((إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا))([131]).

والغريب أن المؤرخ البريطانى توينبى كان قد توقع فى الخمسينيات من هذا القرن الميلادى حدوث هذه اليقظة!

قال : إن الإسلام الآن قد نام نومة أهل الكهف،

ولكن النائم قد يصحو إذا وجدت دواعى اليقظة.

وقال إن استمرار الغرب فى الضغط على الشعوب المستضعفة قد يوجد سببا ليقظة الإسلام،

ليتولى تحرير هذه الشعوب([132])

وكانت هذه لفتة ذكية من رجل درس عبرة التاريخ.

ولكن الصليبية الصهيونية لا تستمع لصوت العقل،

ولو كان صادرا من أحد أبنائها،

لأن الحقد على الإسلام فى قلبها أقوى من صوت العقل!

ولكن توينبى – مع ذلك – لم يلتفت إلى نقطة مهمة فى الموضوع :

إن اليقظة الإسلامية هى العودة إلى النبض الطبيعى لهذه الأمة،

التى صاحبت هذا الدين وعاشت به وعاشت له أربعة عشر قرنا متواصلة،

وإن كانت قد غفلت عنه فترة من الوقت.

فهى لا تحتاج إلى أسباب خارجية لتحدثها.

إنما أسبابها كامنة فى ذاتها.

سواء فى كون هذا الدين هو دين الفطرة، الذى تستجيب له الفطرة السليمة استجابة تلقائية،

أو فى الصحبة الطويلة لهذا الدين،

أو لكون أزهى فترات التاريخ الإسلامى هى الفترات التى كان الناس فيها ألصق بهذا الدين وأكثر استجابة لمقتضياته.

وكلها أسباب تجعل احتمال اليقظة موجودا دائما فى كيان الأمة، كما أشار إلى ذلك المستشرق جب H.R.Gibb فى كتابه ((وجهة الإسلامwhither Islam))؟ الذى قال فيه إن أخطر ما فى هذا الدين أنه ينبعث فجأة دون أن تعرف السبب فى انبعاثه، ودون أن تستطيع أن تتنبأ بالمكان الذى يمكن أن ينبعث فيه!

إنما ضغط الغرب أو غيره من الأسباب مجرد ((منبهات)) إضافية،
قد تؤثر فى سرعة اليقظة أو اتساع مداها،

ولكن اليقظة ذاتها لا تتوقف على وجود هذه المنبهات..

* * *

وحين تعود الأمة عودة صادقة إلى الإسلام تتغير أمور كثيرة مما يجرى اليوم فى الأرض، لا بالنسبة للأمة الإسلامية وحدها، ولكن بالنسبة للبشرية كلها. فقد أنزل الله هذا الدين ليخرج البشرية كلها من الظلمات إلى النور، وقال لأهل الكتاب خاصة : ((يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم))([133]).

والبشرية اليوم – فى ضلالها وحيرتها وضياعها – أحوج ما تكون إلى نور الإسلام، وأخرى أن تدخل أفواجا فى دين الله، حين تجد النموذج التطبيقى الصحيح، فى الأمة الإسلامية حين تعود عودة صادقة إلى الدين الصحيح0

المراجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــع

[1] رواه أحمد وأبو داود0

[2] أنظر بصفة خاصة ((واقعنا المعاصر))، ((وهلم نخرج من ظلمات التيه)).

[3] سورة الأنفال (25).

[4] سورة القيامة (14 – 15) .

[5] أخرجه الترمذى .

[6] راجع إن شئت: ((واقعنا المعاصر)) – ((مفاهيم ينبغى أن تصحح)) – ((لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة)) – ((كيف ندعو الناس)) – ((حول تطبيق الشريعة)).

[7] سورة الأنعام (162 – 163)

[8] سورة التوبة (51) .

[9] سورة آل عمران (159)

[10] سورة القصص (77)

[11] سورة الملك (15) .

[12] أخرجه البخارى.

[13] أخرجه مسلم .

[14] سورة آل عمران (190 – 191)

[15] سورة آل عمران (135 – 136)

[16] سورة الذاريات (56).

[17] سورة الأحزاب (21).

[18] سورة النساء : (64) .

[19] سورة آل عمران (110) .

[20] سورة البقرة (143)

[21] سورة المائدة (3) .

[22] سورة الأنبياء (107) .

[23] سورة المائدة (15-16)

[24] سورة الأعراف (158).

[25] أخرجه مسلم0

[26] أخرجه أحمد0

[27] سورة آل عمران (110).

[28] سورة الصف (2-3).

[29] سورة الروم (7).

[30] سورة القصص (77).

[31] سورة الملك (15).

[32] سورة الأنفال (60) .

[33] اكتشف فاسكودا جاما طريق رأس الرجاء الصالح لأوربا التى كانت تجهله، أما المسلمون فقد كان الطريق معروفا لهم ومستخدما قبل ذلك بعدة قرون!

[34] ظل الصراع دائرا بين فرنسا وبريطانيا حتى اتفقتا فى معاهدة سايكس – بيكو على اقتسام النفوذ بينهما، أى اقتسام العالم الإسلامى، وقيام كل منهما – فى منطقة نفوذها – بالقضاء على الإسلام هناك .

[35] أخرجه أبو داود0

[36] أخرجه البخارى

[37] أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجه

[38] سورة آل عمران (139) .

[39] سورة ص (24).

[40] طه حسين، مستقبل الثقافة فى مصر، طبعه القاهرة ص46 .

[41] ويلز ، معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، ج3،ص705 .

[42] جرين برنتون، أفكار ورجال، ترجمة محمود محمود ، ص207 .

[43] سورة آل عمران(50).

[44] سورة المائدة (47) .

[45] كما يحدث فى كل دين يكون عقيدة فحسب، دون أن يشتمل على شريعة0

[46] سورة آل عمران (49) .

[47] سورة الصف (6)

[48] سورة الحديد (27) .

[49] ويلز، معالم تاريخ الإنسانية ترجمة عبد العزيز جاويد، ج3 ص966 .

[50] سورة الملك (15) .

[51] سورة الأعراف (32).

[52] سورة هود (61) .

[53] سورة الجمعة (10).

[54] أخرجه الشيخان0

[55] سورة القصص (77) .

[56] سورة النساء (82).

[57] سورة سبأ (46) .

[58] سورة النمل (64) .

[59] سورة الحديد (25).

[60] ليس هنا مجال التفصيل فى هذا الموضوع، إنما يطلب فى كتب الفقه والأصول0

[61] سورة آل عمران (191).

[62] سورة غافر (81).

[63] سورة الزمر (30).

[64] سورة البقرة (286) .

[65] سورة البقرة (184) .

[66] هددت هيئة الأمم فى مؤتمر السكان ومؤتمر المرأة أى دولة لا تبيح أقصى درجات التحلل الخلقى للأولاد والبنات والشواذ بقطع الإعانات الدولية عنها!!!

[67] سورة النور (19).

[68] سورة الأحزاب (72) .

[69] سورة الأعراف (169) .

[70] سورة آل عمران (85) .

[71] سورة النور (55)

[72] سورة الأعراف (96).

[73] سورة الرعد (28)

[74] سورة الأنبياء (20).

[75] سورة التحريم (6).

[76] سورة الحجر (9) .

[77] أخرجه الشيخان0

[78] أخرجه البخارى

[79] أقرأ قصة دنلوب ومنهجه إن شئت فى فصل ((الغزو الفكرى)) من كتاب ((واقعنا المعاصر)).

[80] سورة الروم (21).

[81] سورة آل عمران (195).

[82] سورة النساء (19).

[83] أخرجه الترمذى0

[84] اقرأ القصة إن شئت فى فصل ((دور اليهود فى إفساد أوربا)) من كتاب ((مذاهب فكرية معاصرة))

[85] واقرأ قصة تحرير المرأة المسلمة على النسق الأوربى – إن شئت- فى فصل ((قضية تحرير المرأة)) من كتاب ((واقعنا المعاصر)).

[86] سورة آل عمران (110) .

[87] سورة التحريم (11 – 12) .

[88] سورة الحديد (25).

[89] سورة الأحزاب (33).

[90] سورة المائدة (3).

[91] سورة الأعراف (179).

[92] سورة الحج (46).

[93] سورة آل عمران (78).

[94] يقول سبحانه وتعالى : ((ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به))(سورة المائدة:14)

[95] سورة الحجر (9).

[96] سوءة النساء (82).

[97] سورة محمد (24).

[98] كان كتاب طه حسين ((فى الشعر الجاهلى)) مجرد ترديد لأفكار المستشرق مرجوليوث، وكتاب على عبد الرازق ((الإسلام وأصول الحكم)) ترديدا لأقوال عدد لا يحصى من المستشرقين، وكانت مسرحية ((أولاد حارتنا)) لنجيب محفوظ – التى نال عليها جائزة نوبل – ترديدا لفكرة موت الإله التى أطلقها شوبنهور.. وغيرهم كثيرون!

[99] كلمة المفكر الحر Free Thinker فى المعاجم الأوربية معناها الملحد!

[100] اقرأ إن شئت ((دور الكنيسة فى إفساد الدين)) من كتاب ((مذاهب فكرية معاصرة)).

[101] سورة مريم (90).

[102] سورة يوسف (40)

[103] سورة الرعد (41)

[104] سورة القصص(88).

[105] سورة الأعراف(54)

[106] سورة البقرة (32).

[107] سورة البقرة (216).

[108] سورة الأحزاب(36).

[109] أخرجه مسلم0

[110] عنوان كتاب من أجود ما كتب عن تاريخ هذه الفترة لمحمد جلال كشك، يشرح فيه مؤامرة نابليون الصليبية ضد الإسلام0

[111] انظر كتاب عجائب الآثار للجبرتى، الجزء الثانى صفحات: 231،244 – 245، 251 ، 272 – 273، 302 ، 436 - 437

[112] اللقب الذى أطلق على نابيليون، ومعناه ((أمير الجيش)) أو ((القائد العام)).

[113] ترجمة محب الدين الخطيب . انظر مقدمة الكتاب0

[114] راجع بالنسبة للمؤتمر الأول كتاب الغارة على العالم الإسلامى (سبقت الإشارة إليه) وبالنسبة لمؤتمر القدس كتاب المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، للشيخ محمد محمود الصواف، الطبعة الثالثة ص57 – 59 .

[115] سورة الإسراء (70).

[116] سورة الروم (21).

[117] سورة البقرة (120).

[118] سورة الأحقاب (11).

[119] أخرجه البخارى0

[120] هذه قولة أبى بكر رضى الله عنه، وقولة عمرو رضى الله عنه من بعده0

[121] هذه قولة أبى بكر رضى الله عنه0

[122] هذا حدث مع عمر رضى الله عنه0

[123] بصرف النظر عن سلبياتها!

[124] سورة النحل (44).

[125] سورة يوسف (21).

[126] سورة النمل (50).

[127] هو الإمام الشهيد حسن البنا .

[128] أخرجه البخارى0

[129] سورة النور (55)

[130] سورة الإسراء (4-8).

[131] سورة الطارق (15-17).

[132] انظر ((الإسلام والغرب والمستقبل) لتوينبى، ترجمة الدكتور نبيل صبحى ص73 .

[133] سورة المائدة (15-16).

المصدر
http://www.qudsway.com/Links/Library/book/tanver.htm