مطـويات
وهناك ما لا حصر له من الوقائع الدالة على طبيعة الموقف العام (القبطى) من آريوس، منها على سبيل المثال أنه فى العام الميلادى 361 ثار الإسكندرانيون (الأقباط) ضد أسقف مدينتهم جورجيوس الكبادوكى، الذى أرسلته العاصمة الإمبراطورية، ليكون أسقفاً للإسكندرية ومصر. ثاروا عليه، واعترضوه فى واحدٍ من شوارع الإسكندرية، فقتلوه، فى وضح النهار وقطَّعوا جثَّته بالسواطير ؛ لأنهم رأوا أن هذا الأسقف، كان يميل إلى الآراء الآريوسية.
كان آريوس قَسَّاً سكندرياً، أصله من (ليبيا) التى كانت قديماً تسمى بالمدن الخمس الغربية، وقد كانت آنذاك تابعةً للإسكندرية؛ مثلما كانت عموم البلاد المصرية، والحبشة من بَعْدُ، تحت الهيمنة الروحيةِ للكنيسة المرقسية التى مقرها الإسكندرية. وفيما كان آريوس بمدينة الإسكندرية، ترقَّى فى خدمته الكنسية (الإكليريكية) حتى صار كاهناً لكنيسة بوكاليا، المطلة على الميناء الشرقى بالمدينة ، فى المنطقة المعروفة اليوم بمحطة الرمل.
فى الإسكندرية القديمة درس آريوس أعمال المفكر الكنسى المرموق، أوريجين (أوريجانوس) خريج المدرسة الفلسفية السكندرية القديمة، تلميذ الفيلسوف آمونيوس ساكاس، وزميل الفيلسوف الشهير أفلوطين. وبعد دراسته الأولى فى الإسكندرية، ارتحل آريوس إلى الشام، وظهر مذهبه هناك . وقد ألَّف آريوس عدة أعمال، اختفت مع الزمان وتَمَّ تعقُّبها جميعاً بالردود الكنسية المطوَّلة . ولا يوجد بأيدينا اليوم مما كتبه، إلا أجزاء من عمله الشعرى (تراتيل وترانيم) الذى اختار له عنوان: ثاليا. وفيه يعرض تفصيلاً، لطبيعة العلاقة بين الآب والابن .
بدأ الإشكالُ (الهرطوقى) الهائل المرتبط بآريوس، فى النصف الثانى من حياته. وتحديداً، بعد انتقاله إلى منطقة الشام، والتفاف الناس هناك حوله، وإعجابهم بآرائه. ثم أخذت الأزمةُ بعد ذلك فى التصاعد، شيئاً فشيئاً.. فقد كتب أسقفُ الإسكندرية، إسكندر، رسالةً إلى زميله أسقف القسطنطينية، الذى كان اسمه أيضاً إسكندر! راح فيها يندَّد بأقوال آريوس، ويدعو لعقد مجمع مسكونى لمحاكمته. يقول الأسقف السكندرى فى رسالته هذه، إن الله حسبما قرر آريوس، لم يكن دوماً (الآب) وقد خلق اللهُ المسيحَ (الابن) من العدم، فى زمنٍ معين، لم يكن قبله الابن موجوداً، ولا كان الله قد صار بَعْدُ (آب) لأنه صار كذلك حين خلق الابن. وبالتالى ، فالابن مخلوقٌ ولا يمكن يساوى الله فى الجوهر. ويسوع هو (المسيح) وليس هو الكلمة (اللوجوس) ولا الحكمة، لأنهما صفتان إلهيتان لا تتوقَّفان على مخلوق ، وإلا صار الله عرضة للتغيُّر مثل الخلائق .
ومع أن آريوس، وسابقيه ولاحقيه ممن أنكروا ألوهية المسيح، كانوا يهدفون إلى الحفاظ على وحدة الذات الإلهية، ومفارقتها للمخلوقات ، وإلى تأكيد حرية الإرادة الإنسانية بعيداً عن الوساطة الكهنوتية. وكانت لديهم أسانيد كثيرة ، دينيةٌ، مستقاةٌ مباشرةً من الأناجيل التى طالما وُصف فيها المسيحُ بابن الإنسان. ومع أن هذه الأفكار تُعدُّ بحق لاهوتاً، لأنها تبدأ من الذات الإلهية، وترى المسيح من الناحية الثيولوجية (التوحيدية) البحتة. إلا أن كنيسة الإسكندرية، التى قادت فى عصر آريوس معظمُ الكنائس الكبرى فى العالم، راحت تدافع بقوة عن عقيدتها، مستندةً إلى تراثها الآبائى السابق، المؤكِّد أن (الابن) كان موجوداً منذ الأزل، وأن المسيح هو (الكلمة) غير المخلوقة. وهكذا شُنَّتْ على آريوس حرباً شعواء، بدأها الأسقفُ إسكندر الذى دعا إلى مجمعٍ مسكونى لمناقشة ما نشره آريوس بالشام من أفكار (هرطوقية) فانعقد مجمع نيقية سنة 325 ميلادية، بحضور 318 أسقفاً. وفى هذا المجمع تم حَرْم آريوس، وأُقرَّ قطعه عَزْله عن الكنيسة، وصدر حُكم نفيه إلى ديرٍ بعيدٍ، بإسبانيا. غير أن الأمور مع ذلك لم تهدأ، ولم تتوقَّف فى بلاد الشام تلك الأفكار الآريوسية. ومن ثم، فقد أرسل الإمبراطور قسطنطين الكبير، المسمى اعتباطاً (نصير المسيح) إلى آريوس، يدعوه إلى القسطنطينية للتوفيق بينه وبين الأسقف السكندرى، إسكندر. وقد جاء آريوس من منفاه، بعد مماطلة أغاظت الإمبراطور، حتى هَدَّده بالويلات إذا تجاهل دعوته بالمثول بين يديه . وفى أطراف القسطنطينية سنة 336 ميلادية، مـات آريوس فجأة ! أو مات مسموماً، حَسبما يرجِّح د. رأفت عبد الحميد فى بحثه المفرد، الممتع، الذى كتبه تحت عنوان: اغتيال آريوس .
جريدة صوت الأمة الاثنين 2/3/2009
http://www.ziedan.com/index_o.asp
آريـوس
هو الطامةُ الكبرى، والهرطوقىُّ الأعظم، والمعادل البشرى للشيطان؛ من زاوية نظر الأرثوذكس عموماً، والأقباط خصوصاً. وما من مرة يأتى ذِكْرُ آريوس، إلى يومنا هذا، إلا ثارت نفوسُ الأقباط ضَدْ المتلفِّظ باسمه، على الرغم من مرور قرابة سبعة عشر قرناً على وفاته. وهذه الحساسية القبطية البالغة تجاه آريوس، ليست جديدة، إذ أنها (هى هى) طيلة زمانهم الطويل، فهو اليوم فى نظرهم، مثلما كان فى نظر أسلافهم قبل مئات السنين : عدو المسيحية الأول. وهناك ما لا حصر له من الوقائع الدالة على طبيعة الموقف العام (القبطى) من آريوس، منها على سبيل المثال أنه فى العام الميلادى 361 ثار الإسكندرانيون (الأقباط) ضد أسقف مدينتهم جورجيوس الكبادوكى، الذى أرسلته العاصمة الإمبراطورية، ليكون أسقفاً للإسكندرية ومصر. ثاروا عليه، واعترضوه فى واحدٍ من شوارع الإسكندرية، فقتلوه، فى وضح النهار وقطَّعوا جثَّته بالسواطير ؛ لأنهم رأوا أن هذا الأسقف، كان يميل إلى الآراء الآريوسية.
كان آريوس قَسَّاً سكندرياً، أصله من (ليبيا) التى كانت قديماً تسمى بالمدن الخمس الغربية، وقد كانت آنذاك تابعةً للإسكندرية؛ مثلما كانت عموم البلاد المصرية، والحبشة من بَعْدُ، تحت الهيمنة الروحيةِ للكنيسة المرقسية التى مقرها الإسكندرية. وفيما كان آريوس بمدينة الإسكندرية، ترقَّى فى خدمته الكنسية (الإكليريكية) حتى صار كاهناً لكنيسة بوكاليا، المطلة على الميناء الشرقى بالمدينة ، فى المنطقة المعروفة اليوم بمحطة الرمل.
فى الإسكندرية القديمة درس آريوس أعمال المفكر الكنسى المرموق، أوريجين (أوريجانوس) خريج المدرسة الفلسفية السكندرية القديمة، تلميذ الفيلسوف آمونيوس ساكاس، وزميل الفيلسوف الشهير أفلوطين. وبعد دراسته الأولى فى الإسكندرية، ارتحل آريوس إلى الشام، وظهر مذهبه هناك . وقد ألَّف آريوس عدة أعمال، اختفت مع الزمان وتَمَّ تعقُّبها جميعاً بالردود الكنسية المطوَّلة . ولا يوجد بأيدينا اليوم مما كتبه، إلا أجزاء من عمله الشعرى (تراتيل وترانيم) الذى اختار له عنوان: ثاليا. وفيه يعرض تفصيلاً، لطبيعة العلاقة بين الآب والابن .
بدأ الإشكالُ (الهرطوقى) الهائل المرتبط بآريوس، فى النصف الثانى من حياته. وتحديداً، بعد انتقاله إلى منطقة الشام، والتفاف الناس هناك حوله، وإعجابهم بآرائه. ثم أخذت الأزمةُ بعد ذلك فى التصاعد، شيئاً فشيئاً.. فقد كتب أسقفُ الإسكندرية، إسكندر، رسالةً إلى زميله أسقف القسطنطينية، الذى كان اسمه أيضاً إسكندر! راح فيها يندَّد بأقوال آريوس، ويدعو لعقد مجمع مسكونى لمحاكمته. يقول الأسقف السكندرى فى رسالته هذه، إن الله حسبما قرر آريوس، لم يكن دوماً (الآب) وقد خلق اللهُ المسيحَ (الابن) من العدم، فى زمنٍ معين، لم يكن قبله الابن موجوداً، ولا كان الله قد صار بَعْدُ (آب) لأنه صار كذلك حين خلق الابن. وبالتالى ، فالابن مخلوقٌ ولا يمكن يساوى الله فى الجوهر. ويسوع هو (المسيح) وليس هو الكلمة (اللوجوس) ولا الحكمة، لأنهما صفتان إلهيتان لا تتوقَّفان على مخلوق ، وإلا صار الله عرضة للتغيُّر مثل الخلائق .
ومع أن آريوس، وسابقيه ولاحقيه ممن أنكروا ألوهية المسيح، كانوا يهدفون إلى الحفاظ على وحدة الذات الإلهية، ومفارقتها للمخلوقات ، وإلى تأكيد حرية الإرادة الإنسانية بعيداً عن الوساطة الكهنوتية. وكانت لديهم أسانيد كثيرة ، دينيةٌ، مستقاةٌ مباشرةً من الأناجيل التى طالما وُصف فيها المسيحُ بابن الإنسان. ومع أن هذه الأفكار تُعدُّ بحق لاهوتاً، لأنها تبدأ من الذات الإلهية، وترى المسيح من الناحية الثيولوجية (التوحيدية) البحتة. إلا أن كنيسة الإسكندرية، التى قادت فى عصر آريوس معظمُ الكنائس الكبرى فى العالم، راحت تدافع بقوة عن عقيدتها، مستندةً إلى تراثها الآبائى السابق، المؤكِّد أن (الابن) كان موجوداً منذ الأزل، وأن المسيح هو (الكلمة) غير المخلوقة. وهكذا شُنَّتْ على آريوس حرباً شعواء، بدأها الأسقفُ إسكندر الذى دعا إلى مجمعٍ مسكونى لمناقشة ما نشره آريوس بالشام من أفكار (هرطوقية) فانعقد مجمع نيقية سنة 325 ميلادية، بحضور 318 أسقفاً. وفى هذا المجمع تم حَرْم آريوس، وأُقرَّ قطعه عَزْله عن الكنيسة، وصدر حُكم نفيه إلى ديرٍ بعيدٍ، بإسبانيا. غير أن الأمور مع ذلك لم تهدأ، ولم تتوقَّف فى بلاد الشام تلك الأفكار الآريوسية. ومن ثم، فقد أرسل الإمبراطور قسطنطين الكبير، المسمى اعتباطاً (نصير المسيح) إلى آريوس، يدعوه إلى القسطنطينية للتوفيق بينه وبين الأسقف السكندرى، إسكندر. وقد جاء آريوس من منفاه، بعد مماطلة أغاظت الإمبراطور، حتى هَدَّده بالويلات إذا تجاهل دعوته بالمثول بين يديه . وفى أطراف القسطنطينية سنة 336 ميلادية، مـات آريوس فجأة ! أو مات مسموماً، حَسبما يرجِّح د. رأفت عبد الحميد فى بحثه المفرد، الممتع، الذى كتبه تحت عنوان: اغتيال آريوس .
جريدة صوت الأمة الاثنين 2/3/2009
http://www.ziedan.com/index_o.asp
تعليق