ضياع الأقباط.. بين استعراضات القوة في الكنيسة.. وتنازلات الحكومة الهشة
محمد الباز
جريدة الفجر
لسنوات طويلة ظلت الجمعيات القبطية في الخارج تعزف علي وتر اضطهاد الأقباط في مصر، تجهز ملفات متخمة بالأوراق عن خطف المسيحيات وإجبارهن علي دخول الإسلام، وعن تعنت الحكومة معهم في إصدار تصاريح لبناء الكنائس، وعن حصارهم في وسائل الإعلام، فلا يخصص لهم برنامج، ولا تتم استضافة رجال الكنيسة في التليفزيون المصري، وكان الأقباط يربحون كثيرا من هذه الحالة، فالمضطهد الله معه.
سيناريو تضخيم مشاكل الأقباط كان يتم تنفيذه بعناية شديدة، الكل يعرف دوره بدقة لا يخرج عنه مطلقا، بعد أي مشكلة حتي لو كانت عابرة، يدفع الآباء الكهنة بشباب الأقباط إلي التظاهر، ولا يكتفون به في كنائسهم أو مطرانياتهم البعيدة، بل يكون التظاهر في قلب القاهرة، حيث الكاتدرائية الكبري بالعباسية، وحيث الصحف والمحطات الفضائية ووكالات الأنباء التي تصل إلي المقر البابوي في دقائق قليلة، لتنقل الحدث ساخنا وطازجا إلي العالم كله.
الهدف من التظاهر في الكاتدرائية ليس الحصول علي الحقوق فقط بل إحراج النظام وإلا فبماذا نفسر هجرة أقباط دير مواس الأخيرة في عشرة أتوبيسات إلي القاهرة ليتظاهروا احتجاجا علي اختفاء زوجة كاهنهم تداوس رزق؟، فالاختفاء تم من المنيا، وكان يجب أن يتم التظاهر هناك لا في القاهرة.
وما الذي جعل الأنبا أغاثون أسقف مغاغة يهدد بدفع عشرة آلاف قبطي للتظاهر في الكاتدرائية احتجاجا علي تعسف محافظ المنيا اللواء أحمد ضياء الدين معه في بناء المطرانية الجديدة؟، إن المطرانية القديمة والجديدة هناك في مغاغة، فما الذي يجعل أقباط مغاغة ينتقلون إلي القاهرة ليتظاهروا، إلا إذا كان الأقباط يريدون التصعيد إلي منتهاه؟
المظاهرات تنتقل إلي القاهرة، ليأتي بعد ذلك دور المسئولين عن الكاتدرائية.
إن بعض المظاهرات التي جرت في السنوات الأخيرة، كان يظل المشاركون فيها بساحة الكاتدرائية أكثر من خمسة أيام، أي أنهم يحتاجون إلي رعاية من أكل وشراب وأماكن ينامون فيها، وهو ما كان يوفره لهم المسئولون عن الكاتدرائية عن طيب خاطر، فهم في النهاية أبناؤهم، ثم إنهم لا يعترضون من الأساس علي ما يفعله المتظاهرون، بل يوافقونهم عليه تماما.
بعد ذلك يأتي دور رجال البابا من الأساقفة الكبار الذين يتواجدون في الكاتدرائية، يظهرون بين المتظاهرين، يحاولون إقناعهم أمام الكاميرات بأن يفضوا اعتصامهم، لكن الشباب الغاضب لا يستجيب، فيعلن رجال البابا أنهم فشلوا في فض التظاهر، رافعين الأمر بعد ذلك إلي البابا.
وبوصول البابا نصل إلي ذروة الأحداث وقمتها، إن البابا شنودة يستطيع بكلمة واحدة أن يصرف آلاف الأقباط المتظاهرين بكلمة واحدة، لكنه لم يفعلها ولا مرة واحدة، بل يسلك سلوكا علي محورين، الأول يعلن تحفظه علي المظاهرات ويدعو الشباب إلي التهدئة، وقد يظهر من شرفة في الكاتدرائية علي المتظاهرين وكأنه يطالبهم بالهدوء، الغريب أن المتظاهرين لا يهدأون بل يحدث العكس.
بعد كل أزمة تحدث للأقباط، وفي أول يوم أربعاء يلي الأزمة، يلتقي البابا بالآلاف من رعاياه في عظته الأسبوعية، في الغالب لا يتحدث البابا، ولكنه يعتصم بالصمت، يقول إن الله يعرف كل شيء، يوحي لمن يسمعه وكأن هناك من يمنعه من الكلام، بل يصل الأمر بالبابا إلي البكاء، وتخيلوا آلاف الأقباط الغاضبين وهم يرون دموع البابا لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا، صمت البابا يشعل الحرائق إذن، رغم أنه يصدره لنا علي أنه وسيلة لتهدئة الأقباط.
لا يكتفي البابا بصمته في كل الأحوال، فبعد أزمة وفاء قسطنطين، ألغي عظة الأربعاء بحجة أنه لن يستطيع أن يسيطر علي غضب الشباب، وكانت هذه رسالة واضحة منه لأن يزداد الغضب، بل فعلها البابا شنودة أكثر من مرة، يهرب من أرض الأزمة، ويذهب إلي وادي النطرون ليعلن اعتكافه طالبا من الله أن يحل الأزمة، وفي هذا إشارة أخري إلي أن مشاكل الأقباط لا يستطيع أن يحلها بشر، ولم يعد هناك إلا الله هو الذي يستطيع أن يحلها.
بموازة هذا السيناريو، يبدأ سيناريو آخر، فكل ما يجري علي أرض الواقع يتم تصويره وتسجيله، ليبث علي المواقع الإلكترونية والفضائيات القبطية، ولا يتم العرض بشكل موضوعي بالطبع، فالأحداث نفسها ليست موضوعية، بل يتم بمبالغة مدهشة، فالأقباط يتم تصويرهم وكأنهم يعيشون في محارق وجحيم لا يطاق، الكل يريد أن يقتلهم ويبيدهم أو علي الأقل يطردهم من مصر.
استطاع الأقباط أن يربحوا كثيرا من هذا السيناريو، لأنه كان محبوكا للغاية، لا تعترضه غلطة واحدة، حتي جاءت الأحداث الأخيرة، وهي ثلاثة أحداث ، حكم المحكمة الإدارية العليا بإلزام البابا شنودة بإصدار تصاريح زواج ثان للأقباط الحاصلين علي الطلاق من المحكمة، واختفاء زوجة كاهن دير مواس، وأخيرا الأزمة بين محافظ المنيا وأسقف مغاغة.
في هذه الأحداث خسر الأقباط كثيرا في قضيتهم، ليس علي المستوي المحلي هنا في مصر فقط، ولكن علي المستوي الدولي أيضا.
أولا:في حادث حكم المحكمة الإدارية العليا...تعاطف العالم مع الأقباط في البداية، فها هي الحكومة الظالمة تتدخل في عقائدهم، وتجبرهم بأحكام قضائية علي أن يخالفوا تعاليم الكتاب المقدس، وفجأة بعد أن أعلن البابا شنودة أنه لن ينفذ الحكم القضائي، وأعلن رجاله من ورائه أنهم مستعدون لأن يدخلوا السجن لآخر رجل فيهم، ولا يتم تنفيذ هذا الحكم، وفي موعد العظة الأسبوعية للبابا تم التجهيز لمظاهرة من خمسين ألف قبطي، كانوا يستعدون للوصول إلي الكاتدرائية من مختلف كنائس وأديرة مصر، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.
وصلت تطمينات رئاسية للبابا شنودة بأنه سيتم تشكيل لجنة من وزارة العدل لإصدار قانون موحد للأحوال الشخصية، سوف تتم فيه مراعاة كل ما يريده البابا، خرج البابا شنودة من هذه المعركة منتصرا، ما في ذلك شك، لكن القضية القبطية كلها خسرت، فقد سقطت دعاوي اضطهاد الحكومة للأقباط، فها هي تنزل علي رغبتهم، أجبرتها الكنيسة علي أن توقف تنفيذ حكم قضائي، بل وجعلتها تصدر قانونا موافقا لرؤية البابا وحده.
لقد سرت تفسيرات - حتي بين كثيرين من أقباط المهجر - تؤكد أن الكنيسة ليست مغلوبة علي أمرها في مصر، وليس صحيحا أنها محاصرة، فها هي تلوي ذراع الحكومة وتهددها حتي تحصل علي ما تريده، فعن أي اضطهاد يريدون.
ثانيا:كشف اختفاء زوجة كاهن دير مواس عن أكثر من مهزلة في الحقيقة، فهناك مشاكل لا حصر لها في بيوت الأقباط، وأن الزوجة هربت من بيتها لأنها لم تتحمل إيذاء زوجها لها، وهو ما يكشف أن ما يقال في الغالب عن اختطاف المسيحيات ليس صحيحا، والدليل في زوجة الكاهن، لقد روج زوجها ومن ورائه أسقفه أن هناك من خطفها ليدخلها الإسلام، ووضعت الكنيسة أمن الدولة في حرج من خلال المظاهرات التي خرجت وهددت ونددت وهتفت ضد الجميع، فبحثوا عن الزوجة حتي أتوا بها وسلموها لزوجها، دون حتي أن يعلنوا للرأي العام أين كانت ولماذا اختفت؟.
إن الكنيسة تريد أن تستر عورات بيوت شعبها باتهام المسلمين بأنهم من يخطفون البنات لإجبارهن علي الإسلام، رغم أن زواج كثيرات من القبطيات بشباب مسلمين يمكن تفسيره علي خلفية إنسانية الزواج في الإسلام، فالإنسان قبل أن يدخل مكان لابد له أن يعرف كيف يمكن له أن يخرج منه، أما الزواج القبطي فهو طريق مغلق، وإذا أردت أن تخرج منه فلابد من تضحيات كثيرة، فالبنت القبطية قد تفضل الزواج من مسلم، لأنها لو أرادت أن تتركه ستجد ذلك مباحا، فلماذا تضيق علي نفسه وتدخل حجرة، بمجرد أن تدخلها تكتشف أنها بلا أبواب ولا شبابيك علي الاطلاق.
ثالثا: كانت الأحداث في المنيا يمكن أن تمر بهدوء، لولا أن الأنبا أغاثون أسقف مغاغة أراد أن يحصل علي ما ليس له بحق، لقد أبرم اتفاقا في مارس الماضي مع محافظ المنيا علي أن تهدم المطرانية القديمة قبل أن يبدأ في بناء المطرانية الجديدة، كانت لدي الأسقف رغبة في أن يبقي علي مسكنه ودورات المياه وسور المطرانية القديمة لحين الإنتهاء من بناء المطرانية الجديدة، لكنه احتفظ برغبته في صدره، لم يفصح عنها، ولم يسجلها في الإتفاق المكتوب والذي وقع عليه.
ويبدو أن الأنبا أغاثون أراد أن يحقق رغبته غير المسجلة، واعتبر أن ذلك من حقه، فوقف له المحافظ لأن هناك اتفاقا مكتوبا ولابد من احترامه ولا أحد فوق القانون، لا الأنبا أغاثون ولا المحافظ ولا حتي البابا شنودة شخصيا، لكن وبدلا من أن يمتثل أغاثون للقانون لعب لعبة الأقباط المشهورة، وهي اللعبة التي اعتادوا من خلالها أن يحصلوا علي ما يريدون حتي لو كان ليس من حقهم.
بدأت حالة من التشهير بمحافظ المنيا علي جميع المواقع القبطية وعلي جميع القنوات الفضائية التي تتبع الكنيسة، لقد بدا من خلال هذه الحملة وكأن أحمد ضياء الدين دراكولا مصاص دماء الأقباط، وبعد حملة التشهير، بدأ التهديد بالتظاهر ليس في المنيا فقط، ولكن في القاهرة وفي الكاتدرائية، ولولا اتفاق عقده الأنبا أغاثون مع مباحث أمن الدولة في المنيا لكانت القاهرة الآن تشهد مظاهرات من عشرة آلاف قبطي، لكنه أرجأ المظاهرات حتي يعود البابا شنودة من رحلته العلاجية، وهي العودة التي تحدد لها الأحد القادم 8 أغسطس.
لفتت انتباهي بشدة العناوين التي صورت الصراع بين الأسقف والمحافظ، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر: هدنة مؤقتة بين مطران مغاغة ومحافظ المنيا، الأنبا أغاثون يعلن اتفاق تهدئة مع أمن الدولة، ويؤكد حل أزمة مطرانية مغاغة، هذه العناوين لا تشير إلي أن هناك مشكلة إدارية بين محافظ وأحد المواطنين، فالأنبا أغاثون مهما علت رتبته الكهنوتية هو في النهاية مواطن، لكنها تشير إلي أن هناك دولتين، دولة يمثلها المحافظ وهي الدولة المصرية، ودولة يمثلها الأسقف وهي دولة الكنيسة التي ينتظر رئيسها البابا شنودة حتي يفصل في الأمر.
لماذا ركزت علي هذه الوقائع الثلاثة تحديدا؟
أولا: لأن الكنيسة في هذه الوقائع حققت انتصارات كبيرة، وقف تنفيذ الحكم وإصدار حكم جديد، العثور علي زوجة الكاهن وتسليمها للكنيسة، أمن الدولة يتفاوض مع أغاثون حتي تتوقف المظاهرات، وهو ما جعل الصورة العامة أن الكنيسة أصبحت أقوي من الدولة، وأنها تفعل ما تريده دون أن يقف أمامها أحد.
وهو ما يحتاج إلي تفسير في حقيقة الأمر، فالكنيسة لا تنتصر لأنها قوية، إن قوتها إعلامية لا أكثر تجيد التصعيد واللعب بورقة الإعلام، لكن الدولة المصرية هي التي أصبحت أضعف مما ينبغي، وصل بها الضعف مبلغه إلي الدرجة التي لا تستطيع معها أن تفرض القانون علي مواطنيها.
ثانيا:أنا علي يقين أن الكنيسة تمثل دولة داخل دولة، فلها جهازها السياسي وتنظيمها الاقتصادي الذي لا يعرف أحد عنه شيئا، لكن الدولة المصرية، كانت تتعامل بحنكة واحتراف مع هذا الوضع، لكنها عندما ضعفت تجبرت الكنيسة عليها وحصلت ليس علي ما هو حقها فقط، ولكن علي ما ليس لها بحق أيضا.
ثالثا: لقد طاشت ضربات الكنيسة هذه المرة، لأن البابا شنودة المحارب الصلب والقائد الداهية أصبح عجوزا ومريضا، ثم إن كثيرا من الأحداث تجري وهو ليس موجودا، ولا يجيد رجاله التصرف كما يفعل هو، ولذلك تحولت استعراضات القوة التي لجأت إليها الكنيسة إلي خطأ سوف تدفعه ثمنا غاليا، فقد خسرت تعاطف الكثيرين ممن كانوا يعتقدون أن الأقباط مضطهدون وضعفاء ومغلبون علي أمرهم...وهذه هي المشكلة الكبري التي لا يريد أحد أن يلتفت إليها...لأنها ببساطة شديدة الحقيقة الوحيدة الموجودة في الملف القبطي، حتي لو رفضها الجميع.
العدد رقم 265 بتاريخ الاثنين الموافق 9/8/2010