قال ابن الجوزي في صيد الخاطر :
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني ، فمنذ الطفولة وإلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، وستراً على قبيح ، و عفواً عمّا يوجب عقوبة .
وما أرى لذلك شكراً إلا باللسان .
ولقد تفكرت في خطايا ، لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً ، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت .
ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن فيَّ ما يظن في الفساق .
بل هي ذنوب وقعت بتأويلات فاسدة .
فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك وسترك علي ، اغفر لي .
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك ، فما وجدته كما ينبغي .
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي ، ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، ولا بشكر على نعمة .
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المُنعم ، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به.
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر وما حصل المقصود .
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما نُحت ، فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا .
قال لنفسه : يا رعناء تقوِّمين الألفاظ ليقال مناظر ، وثمرة هذا أن يقال : يا مناظر .
ضيّعت أعزّ الأشياء وأنفسها عند العقلاء ، وهي أيام العمر ، حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر .
ثم يُنسى الذاكر والمذكور إذا درست القلوب .
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك ، فموهوا له ، وصار الاسم له .
والعقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، وهو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم .
أفٍ لنفسي ، وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة.
إن نوظرت شمخت ، وإن نوصحت تعجرفت ، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، وسقطت عليها الغراب على الجيف .
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوباً تبلي ولا تحتشم نظر الحق إليها .
وإن انكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
أفٍ والله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها .
والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
بين الأصحاب .
والله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني وأنا أتهتك ، و يجمعني وأنا أتشتت .
وغداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، ولو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
والله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء .
ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، والخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، وغطاها من علمها .
والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا .
والله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، ووقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء .
ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، وهو رب غني عني ، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه .
ولا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت .
والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و لمكتومات تنكشف لفهمي .
فواحسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى .
واحرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، وشماتة العدو بي .
واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
واخذلاني عند إقامة الحجة ، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن .
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار .
وقد جئتك بعد الخمسين وأنا من خلق المتاع .
وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف والندم .
فوالله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، ولا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي .