المزاح بين المشروع والممنوع
أبو محمد الحجازي
الحـمـد لله رب الـعـالـمـيـن، وصلى الله وسلم وبـارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. وبعد:
فإن للأعمـال ضوابط تُضبَط بها حتى تكون موافقة للمشروع؛ ومتى فُقِدَت هذه الضوابط كان ذلك العمـل ممنوعاً. وكم من إنسان غفل عن تلك الضوابط فوقع في الممنـوع من حـيث يشعر أو لا يشعر! وقد قال ـ عليه السلام ـ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(1).
ومن تلك الأعـمـــال التي لا بـد أن تضـبط بضوابط الشرع المزاح الذي يكثر في هذه الأزمنة المتأخرة؛ ويقل من يضبطه بضوابط الشرع.
معنى المزاح:
المزاح ـ بضم الميم ـ: وسيلة يراد بها المباسطة؛ بحيث لا يفضي إلى أذى، فإذا بلغ الإيذاء فإنه يفضي إلى السخرية. والمزاح ـ بكسر الميم ـ: مصدر.
من فوائد المزاح:
أولاً: أن يكون على سبيل الملاينة والمباسطة وتتطييب خاطر صاحبك وإدخال السرور على قلبه.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة"(2).
وعـن عـبـد الله بـن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: "ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم"(3).
ثانياً: أنه أنس للـمـصـاحـبـيـن وطـــرد للوحشة وتأليف للقلوب ومظهر من مظاهر الأخوة والوفاء.
ثالثاً: التخلص من الخوف والغضب والقلق وغيره؛ فإن الإنسان إذا مزح أدخل على نفسه شيئاً من السرور والتسلية، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك.
رابعاً: الـتـخـلـص من السأم والملل، كأن يعطي الشيخ طلابه سؤالاً أو لغزاً كي يُذهِب الملل عنهم.
مشكاة النبوة:
لـقــد كـان الـرســـول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الرفق في كل أمر من أمور الحياة، وما الاستجمام للنفس إلا مـن الـرفـق بها ليكون الرفق من مظاهر كل أعمال الإنسان في الحياة؛ حتى ليُربَط الرفق بصفات الخالق الرحيم الرفيق بخلقه.
روى الـبـخــاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: "إن الله رفـيـق يـحـب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه"(4).
والرفق: "هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف"(5).
وما الانبساط والـمـزاح ومــا يـتبع ذلك من لين القول والتبسم وانشراح الصدر إلا مظهر من مظاهر الرفق.
ولـعـل أشهر ما ورد في المزاح ما أورده البخاري في باب (الانبساط إلى الناس) حديث: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟"(6).
وكذلـك أبــو داود فـي سـنـنه من حديث أنس: "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني. فـقــال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا حامـلـــوك على ولد ناقة" قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل تـلـــد الإبل إلا النوق"(7).
وربما مازح صلى الله عليه وسلم أصحابه بـعــد طـلـــوع الشمس، ودليله ما رواه سِمَاك بن حرب قال: "قلت لجابر بن سَمُرَة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كـثـيـراً؛ كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس؛ فإذا طلعت الشمس قام. وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم"(8).
وفي رواية النسائي وأحمد زيادة: "وينشدون الشعر"(9).
ومن الأوقات بعد صلاة العشاء، أي: السمر فيه، والسمر: الحديث قبل النوم.
وأورد البـخـاري حديـثـيـن ذكرهما في باب (السمر في العلم) واستنبط منهما جواز السمر في العلم والقياس على ذلك في الـمـؤانـسـة مـــع الأهـــل، وكذلك لتحصيل فائدة مع الإخوان والخلاَّن. ويزداد استحبابها إذا كانت لمصلحة دعويــة في بذل نصح وتقريب قلوب وزيادة محبة ومودة وإزالة الكدر وإيجاد أجواء الحب والتعارف.
دروس من أبي الدرداء:
ولا بأس أن يأخذ الداعية مـن الــراحة فيما لا يكون حراماً ليستعين به على العمل والأداء حسب ما تقتضيه الفطرة البشرية، هــذا أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول: "إني أستجم ببعض الباطل؛ ليكون أنشط لي في الحق"(10).
ويقول ابن تيمية معلقاً على هذا القول: "فـأمــا من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة"(11).
الصحابة والمزاح:
أورد أبو داود في سننه: "عـــن أسيد بن حضير قال: بينما رجل من الأنصار يحدِّث القوم وكان فيه مزاح بَيْنَا يضحكهم فطـعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني! فقال: اصطبر. قال: إن عـلـيـك قميصاً وليس عليَّ قميص. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يـقـبـل كَـشْـحَـه. قـال: إنمــا أردت هذا يا رسول الله"(12).
وكـان من أشـهـر الـصـحـابـــة نُعيمان بن عمرو بن رفاعة المشهور بقصصه ودعاباته، وهو صحابي جليل: "شهد بدراً، وكــان مــن قـدمـــاء الصحابة وكبرائهم، وكانت فيه دعابة زائدة، وله أخبار طريفة في دعاباته.. وكان نعيمان مضحكاً مزاحاً"(13).
ولقد كان المزاح نوعاً من طرد السَّأَم والهم والابتـعـاد عن مشاغل الدنيا وترويح للنفس؛ إذ لا بد للدنيا من مواقف تتجدد فيها الطاقة وتبعث فـيـهــــا الهـمــة؛ لأن القلوب إذا كلَّت عميت؛ بل إن ذلك قد يكون مظهراً من مظاهر الرجولة في البيت ومع الزوجة والأولاد،إذا كان دون إسراف أو جنــوح، لا كما يظن بعضٌ أن الرجولة بالتكلف والتصنع.
واسمع قول بعض الصحابة:
"قال ابن عمر: إنـه ليعجبني أن يكــون الرجل في أهله مثل الصبي، ثم إذا بُغي منه وُجِدَ رجلاً.
وكان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، فإذا خرج كان رجلاً من الرجال"(14).
لـذلـك ينبغي ألاَّ يكـون مــن خُلُق الشاب الملتزم أو الداعيــة التبسم خــارج البيت وتصنُّع الغلظة والجفوة في بيتــه، ولا يخفى أن عكس الأمر من التكلف المذموم أيضاً.
التوازن مطلب أساس:
لـقـد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش بين الصحابة وفيهم الحازم من أمثال عمر بن الخـطاب ـ رضي الله عنه ـ فقد كان رجلاً مهيباً. وفيهم صاحب الدعابة الذي يستلقي على قفاه، ولم ينكر على أحد منهم.
والأصل هـو في إنكار الضحك المتكلَّف في القهقهة، أو الضحك في مواطن الجد، أو الإفراط فيه.
"ولقد سئل ابن عمر ـ ـ: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبل.
وقــال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الأعراض ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهباناً"(15).
وهـكـــذا ظل الصحابة أوفياء للمنهــج النبــوي دون أن يؤثر المزاح على جدية العمـل، أو على تطبيق السنن، أو على تفويت المصالح.
ولا شـك أن الإفـــــــراط يقود إلى أمور تنافي مقاصد الشريعة ومراتب المروءة، وتتعارض مع المقامات السامية، كما أنها قد تكون حسنة بذاتها ولكنها تقود إلى مفسدة، ولقد قال علي ـ رضي الله عنه ـ في توضـيـح هـــذا الميزان وتثبيته: "خير هذه الأمة النمط الأوسط: يرجع إليهم الفاني، ويلحق بهم التالي"(16).
سلف الأمة:
وعلى منهج الصحابة سار السلف في جعل المزاح استراحة؛ فتكاد ألاَّ تجد كتاباً يخلو من مُـلَح وطرائف لشيخ التابعين الإمام الشعبي ـ رحمه الله ـ.
قيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟
قال: بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه.
وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح وفق ضوابطه وفي أوقاته من المروءة، والتقصير فيه من خوارم المروءة، وشددوا على ذلك في السفر؛ وفي هذا يقول ربيعة الرأي: "إن المروءة من خصال: ثـلاثة فـي الحـضر، وثلاثة في السفر، والتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، وكثرة المزاح من غير معصية"(17).
وإيراد ما ورد عن التابعين وسلف الأمة يطول، وجميعهم على هذا المذهب في جواز المزاح وفق الضوابط الشرعية.
يقول النووي ـ رحمه الله ـ: "الـمـزاح المـنهـي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه؛ فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكـر الله ـ تـعـالى ـ، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار. فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله"(18).
الضوابط الشرعية في المزاح:
1 - ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين:
فيعد هذا من نواقض الإسلام؛ لقوله تعاـلى: ((ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ)) [التوبة: 65، 66].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه"(19) ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة عن الإسلام.
وهذه كالاستهزاء ببعض السنن على سبيل المزح، وببعض الأحكام الشرعية كتقصير الثوب وإعفاء اللحية أو الصلاة والصوم وغيرها.
يقـول ابن عـبـاس ـ ـ: "من أذنـب ذنـبــاً وهــو يضحـك دخل النار وهو يبكي"(20).
2 - ألا يكون إلا صدقاً ولا يكذب:
ولا سيما أولئك المعتادين لذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس. روى الإمام أحمد في مسـنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم ويل له"(21).
وقولــه صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا"(22).
ولا شـك أنـهــم وقـعوا في ذلك بسبب الفراغ وضعف الإيمان والبعد عن ذكر الله ـ تعالى ـ، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات.
3 - السخرية والاستهزاء بالآخرين:
فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُـونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْـقَــــابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [الحجرات: 11].
يقول ابن كثير: "المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعد من صفات المنافقين"(23).
ويقول الطبري: "اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان"(24).
وقد روى البيهقي في (شعب الإيمان) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن المستهزئين بالـنـاس لَـيُفْـتَـحُ لأحـــدهم باب الجنة فيقال: هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أُغلق دونه"(25).
ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها فيتصف بها ويـبـتـلـى بـفـعـلـهـــا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك"(26).
ولـقــد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية بالمسلمين فقال: "المسلم أخو المسلم لا يظـلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"(27).
4 - ألا يروِّع أخاه:
فـقد أورد أبو داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال: "حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسـلـم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حـبـل معه فأخذه ففزع" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً"(28).
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً"(29).
5 - عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة:
يـنـبـغـي ألاَّ يداوَم على المزاح؛ لأن الجد سـمــات المؤمنين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة لاستمرار النفس في أداء واجبها. فبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب. وبذلك نبه الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: "من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة"(30).
6 - أن يُنْزِل الناس منازلهم:
إن العالم والكبير لهم من المهابة والـوقـــار مـنـزلــة خـاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح مـعـهـما خشية الإخلال بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم"(31).
ونقل طاووس عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قـال: "مــن الـسـنـة أن يـوقَّـر العالِم".
وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح؛ فـهــــذا يؤدي إلـى اسـتـحقار المازح والاستخفاف به؛ فهذا عمر بن عبد العزيز يرسل إلى عدي بن أرطأة فيقول: "اتقوا المزاح؛ فإنه يُذْهِبُ المروءة".
7 - ألا يكون مع السفهاء:
قال سعد بن أبي وقاص لابنه: "اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء".
8 - ألا يكون فيه غيبة:
الـغـيـبـة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في مستنقع الفتنة، ولا يخلو مَنْ كَثُرَ مزاحه من هذه الآفــــة العظيمة؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه وقع في الإثم أصلاً؛ لأنه ـ في زعمه ـ إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك. ولم يعِ تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للغيبة بقوله: "ذكرك أخاك بما يكره"(32).
وقد أورد التـرمــذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كـلـهــا تـكــفـر اللــسـان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك: فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا"(33).
والغيبة أنواع، سواء كانت في البدن أو الخلق وغيرها.
هذا ونسأل الله أن يؤدبنا بآداب الإسلام، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://www.saaid.net/arabic/ar27.htm
تعليق