معجزة الكلام في المهد بين المفهومين الكتابي والقرآني

تقليص

عن الكاتب

تقليص

محب عيسى بن مريم مسلم اكتشف المزيد حول محب عيسى بن مريم
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محب عيسى بن مريم
    4- عضو فعال

    حارس من حراس العقيدة
    • 14 سبت, 2006
    • 623
    • ---
    • مسلم

    معجزة الكلام في المهد بين المفهومين الكتابي والقرآني

    بقلم: يوسف هريمة

    تعتبر المعجزة أحد أهم الروافد الأساسية في الفكر الديني عموما. فعلى أساسها تبنى العقائد وتؤسس النظريات والتصورات. بيد أن هذا المفهوم يظل محط خلاف بين عقل ديني يخرج بها إلى حدود القفز على النظام الطبيعي، وكل الأطر المؤسسة لعالم الشهادة. وبين عقل منكر لها يرى فيها امتدادا للفكر الخرافي والأسطوري المؤمن بفكرة ما وراء الطبيعة وكل تجلياتها.



    وبين هذا العقل أو ذاك يقف القرآن موقفا يؤسس فيه الفكرة نفسها على أسس أخرى يكون الجانب الإنساني حاضرا فيها. هذا الجانب الذي لطالما غيبته الدراسات القرآنية بمختلف مدارسها وتوجهاتها الإيديولوجية، ونريد أن نبني على أساسه رؤية تعكس المصلحة الإنسانية وتضعها فوق كل اعتبار سواء كان ذلك موافقا للقواعد أو الأصول أو خالفها. وسنأخذ في تأكيد هذا المعنى نموذج معجزة الكلام في المهد كما وردت في الأناجيل وكما أوردها القرآن. ونطرح التساؤلات التالية:

    إذا تعرضت السيدة مريم للاتهام حسب الأناجيل المعتمدة والأبوكريفية، فما الذي برأ ساحتها من هذا المصاب؟:

    - هل برأت نفسها ؟: فمن ذا الذي يصدق امرأة ولدت من غير زرع بشر ؟.

    - هل هو يوسف النجار؟: فلن يصدق أحد ولادة معجزة بناء على رؤيا في المنام لن تزيد الأمر ولن تحيطه إلا بمزيد من الشكوك، خاصة ومريم متواجدة في منزله.

    - لم يبق شيء يمكنه أن يضمن براءة مريم إلا هذا المولود. وهو ما سنراه من خلال النقطة التالية:

    1- الكلام في المهد في إنجيل لوقا:

    سكتت الأناجيل القانونية كعادتها عن الإشارة إلى أي متعلق، يمكنه أن يهدي القارئ بشكل واضح إلى معرفة ما الذي سيضمن براءة السيدة مريم والتهمة تحوم حول قضيتها. هذا الصمت المطبق، لم يكن يريد أن يتحدث عن دليل البراءة الطبيعي، وفق الظروف التي أحاطت بملابسات هذه القضية. إنه الكلام في المهد بمنطقيته الطبيعية، إذ لا يمكن لأحد أن يصدق أمر مريم إلا بدليل يبدد كل شبهة في ظروف مشابهة للظروف المحيطة بقضية مريم.

    و رغم أن الأناجيل الموجودة بين أيدينا حاليا، حاولت طمس معالمها إلا أن آثارها لازالت متبقية بها. ففي إنجيل لوقا 1 / 14-17 عندما بشر الملائكة زكرياء قالوا:" ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته، لأنه يكون عظيما أمام الرب، وخمرا ومسكرا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم، ويتقدم أمامه بالروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيء للرب شعبا مستعدا ".

    و الامتلاء من الروح القدس كما جاء في الإنجيل، ونصت عليه نصوص العهد القديم هو امتلاء بالوحي عن طريق هذا الملك:

    - حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل . أعمال الرسل 4/8

    - وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. أعمال الرسل 2/4

    - ولما صلّوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه. وامتلأ الجميع من الروح القدس وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة. أعمال الرسل4/31

    ومن هنا نبدي ملاحظاتنا حول هذا النص:

    - ما الحاجة إلى أن يمتلئ يوحنا من الروح القدس في بطن أمه؟ أو ليست ولادته في حد ذاتها ولادة معجزة؟.

    - هل يمكن أن يكون هذا النص محاولة من كاتب الإنجيل الكتمان على معجزة الكلام في المهد؟.

    - إن الوصف الذي جاء به النص ينطبق تمام الانطباق مع المسيح بخلاف يوحنا. فلماذا أسند له؟.

    - إن الذي يحتاج إلى الامتلاء من الروح القدس في هذه الفترة هو المسيح وليس أحدا آخر.

    - من يحتاج إلى الكلام في المهد ليكون آية على صدقه هو يسوع وليس يوحنا، إذ كانت ولادته هو الآخر، ولادة معجزة بعد سن اليأس والعقر. فالبشارة بالامتلاء من الروح القدس تحولت برغبة من كاتبي الإنجيل إلى يوحنا رغم أنها لا تنطبق عليه بحال .

    - يضاف إلى هذا الامتلاء ما ذكره لوقا في شأن الولادة، وذلك أن مريم لما وضعت مولودها جاء ملاك الرب إلى الرعاة يبشرهم بمولود جديد وقال:" وهذه لكم علامة تجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود". فمتى كان التقميط والإضجاع علامة على أن المولود هو المخلص ومسيح الرب؟ .

    - مريم قد انكشف أمرها كما دلت الأناجيل القانونية وغير القانونية، ولا بد لها من بينة وإلا تعرضت للعقاب حسب الشريعة أي الرجم.

    وهكذا فالكلام في المهد أمر يأخذ منطقيته الطبيعية، من خلال أحداث هذه القصة وكل مجرياتها بغض النظر عن صدقها أو بطلانها في الواقع الفعلي. فقد أريد لهذا الأمر أيضا أن يختفي باختفاء التهمة نفسها كما أراد متى، وتطمس معالم المعجزة الكبرى في حياة المسيح. لكن آثار التحريف والتحوير، تظل شاهدة في الكثير من الأحيان عن بعض الوقائع كما رأينا عند لوقا، الذي أراد أن يحول هذا المعطى إلى غير أهله. وبالتالي لا يصبح معنى لأي معجزة، ولا آية اسمها الكلام في المهد. فهل تنبأ يوحنا بالفعل بمجيء يسوع المسيح المخلص؟ أم الأمر كان مجرد تلفيق يوهم القارئ وينسيه دليل البراءة الطبيعي الذي يمكنه أن يبرئ ساحة امرأة اتهمت بالزنا في مجتمع محافظ كالمجتمع الإسرائيلي؟. هذا ما سنراه من خلال النقطة التالية:

    2 - نبوة يوحنا و المسيح المنتظر:

    حقا لقد شكلت ولادة المسيح يسوع مجالا خصبا نبتت فيه كل الأفكار المؤمنة بالخلاص ، والداعية إلى فكرة المسيح المنتظر بكل تشعباتها و تجلياتها. ولم تكن نصوص الإنجيل في الكثير من الأحيان إلا تعبيرا عن هذه الأماني المبثوتة في ثقافة ذلك العصر. والنبوءة التي سنخصها بالدراسة هذا الأوان تكرس ما نحن بصدد الحديث عنه. فهي تتحدث عن مجيء يسوع ورسوله يوحنا الذي يمهد الطريق له. وهي نبوءة كما تروي أحداث إنجيل مرقس مقتبسة من أسفار العهد القديم.

    فهل توفق مرقس هذه المرة في تمرير نبوءته هذه المرة، أم يكون الفشل حليفه هو الآخر؟. هذا ما سنراه في محله. ففي إنجيل مرقس 1/1-2:" بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله كما هو مكتوب في الأنبياء ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك.".

    فالنبوءة تتحدث كما هو واضح عن ما هو مكتوب عند الأنبياء السابقين من كون مجيء يسوع سيكون مقرونا بمجيء الملاك رسول الرب ليهيء الطريق أمامه. وستبين المقاطع التالية أن يوحنا هو الذي وقع عليه الاختيار لتجسيد هذه النبوءة 1/ 3-4:" صوت صارخ في البرية أعدّوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة. كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا.".

    و بالر جوع إلى النص الأصلي المقتبسة منه هذه النبوءة، وهو سفر ملاخي 3/ 1-5 نجده يقول:" ها أنذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، و يأتي بغتة إلى هيكله السيد، الذي تطلبونه و ملاك العهد الذي تسرون به. هوذا يأتي قال رب الجنود: ومن يحتمل يوم مجيئه، و من يثبت عند ظهوره، لأنه مثل نار الممحص و مثل أشنان القصار. فيجلس ممحصا و منقيا للفضة، فينقي بني لاوي و يصفيهم كالذهب و الفضة، ليكونوا مقربين للرب. تقدمة بالبر فتكون تقدمة يهوذا و أورشليم، مرضية للرب كما في أيام القدم. وكما في السنين القديمة و اقترب إليكم للحكم، و أكون شاهدا سريعا على السحرة و على الفاسقين و على الحالفين زورا، و على السالبين أجرة الأجير الأرملة و اليتيم، و من يصد الغريب و لا يخشاني قال رب الجنود.".

    *- تعليقات على النص: -

    في نص سفر ملاخي نجد يهوه هو المتكلم حيث يقول أنه سيرسل ملاكه أو رسوله ليهيئ الطريق أمامه، وليس أمام يسوع أو غيره. فالنبوءة مرتبطة كما رأينا بالرب، ولاعلاقة لها بما أراد أن يمرر لنا مرقس الذي حولها إلى غير موضعها الطبيعي.

    - سفر ملاخي يكشف عن اسم هذا الرسول خلافا لما ذهب إليه مرقس في إنجيله فيقول 4/5:" ها أنذا أرسل إليكم إيـــلـيـــا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم و المخوف.". فحسب النص هو الذي يهيء الطريق ليهوه. بينما إنجيل مرقس يعيد قراءة هذه النبوءة، ويصيغها صياغة أخرى تنحو بالنص الأصلي إلى غير مسراه، وتحرفه ليخدم أغراض موظفيه داخل هذا السياق المغاير.

    - نبوة ملاخي لا تنطبق بحال من الأحوال على مواصفات يسوع. وهنا مكمن الإشكالية. فالمسيح يسوع كما تؤكد نصوص الإنجيل رسول رحمة جاء ليهدي السلام، وينشر مبادئ الرحمة بين الإنسانية جمعاء. فمجيء يسوع كان فاتحة خير كما يقول المسيحيون على هذا العالم المليء بالشرور، ويوم ولادته يوم حافل بالمسرات. فهو المخلص والمنقذ لهذه البشرية الغارقة في ضلال خطيئتها الأولى.

    أما اليوم الذي تحدث عنه سفر ملاخي، فهو يوم رهيب بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فشتان بين هذا وذاك. ولو تأمل مرقس قليلا لوجد أن الأمر مختلف تماما. لكن فكرة المسيح المنتظر كانت توجهه بشكل من الأشكال نحو الدفاع عن مشروعه، ولو بتجاوز حدود المعطيات الكتابية نفسها، وهذا ما رأيناه في هذه النبوءة.

    3-الكلام في المهد من خلال إنجيل الطفولة العربي :

    تعرف دائرة المعارف الكتابية هذا الإنجيل فتقول:

    إنجيل عربي بقلم جملة مؤلفين . ومع أنه نشر أولاً بالعربية مع ترجمة لاتينية في 1697م ، إلا أن أصله السرياني يمكن أن يستدل عليه من ذكر عصر الإسكندر الأكبر في الإصحاح الثاني ، ومن معرفة الكاتب بالعلوم الشرقية ، ومن معرفة الصبي يسوع وهو في مصر بالفلك والطبيعيات . ولعل انتشار استخدام هذا الإنجيل عند العرب والأقباط يرجع إلى أن أهم المعجزات المذكورة فيه حدثت في أثناء وجوده في مصر . ومما يلفت النظر أنه جاء بهذا الإنجيل ( إصحاح 7 ) أنه بناء على نبوة لزرادشت عن ولادة المسيا ، قام المجوس برحلتهم إلى بيت لحم ، كما أن به عدداً من القصص التي يذكرها أحد الكتب الدينية الشرقية . والإصحاحات من ( 1 - 9 ) مبنية على إنجيلي متى ولوقا القانونيين ، وعلى إنجيل يعقوب الأبوكريفي ، بينما من الإصحاح 26 إلى الأخير مأخوذ عن إنجيل توما .

    يقول كاتب الإنجيل في الفصل الأول 1 – 3

    " إن الأحداث الآتية وجدناها في كتاب رئيس الكهنة يوسف الذي يدعى قيافا يقول : إن يسوع قد تكلم حتى وهو في المهد وقال لأمه : يا مريم إني أنا يسوع ابن الله الكلمة الذي جاء عن طريقك بحسب إعلان الملاك جبريل لك.ولقد أرسلني أبي لخلاص العالم ". وهو ترجمة عن النص الفرنسي الموجود على الإنترنيت:3

    Nous avons trouvé (ceci) dans le livre de Josèphe, le grand prêtre qui existait tu temps du Christ, - d'aucuns ont dit que c'était Caïphe - il affirme donc que Jésus parla, étant au berceau, et qu'il dit à sa mère : "Je suis Jésus, le fils de Dieu, le Verbe, que vous avez enfanté, comme vous l'avait annoncé l'ange Gabriel, et mon Père m'a envoyé pour sauver le monde. (notes 1 et 2)".

    إن الكلام في المهد لم تشأ أن تبرزه الكتابات القانونية، ولا غير القانونية بسبب ما تحدثنا عنه سابقا، من كون هذه الكتابات كانت تعكس وجهات النظر المحيطة بالواقع التاريخي لهذه الحادثة. لهذا كان هناك لبس في التعاطي الموضوعي مع مثل هذه القضايا. وإنجيل الطفولة بنسخه المتعددة , هو الإنجيل الأبوكريفي الوحيد الذي أشار إلى واقعة التكلم كما رأينا من خلال فقراته السابقة.

    وعموما فأناجيل الطفولة تحوي بين طياتها العديد من المعجزات والخوارق وفق المنظور الذي ينطلق منه كتابها، ووفق التأثير الواضح في نصوصها بالفكر الغنوصي 4 ومذهب الدوسيتية المنتشر آنذاك5، أو الأساطير القديمة المؤثرة في الفكر الديني عموما. هذه التصورات والمعتقدات الكثيرة والمليئة بالخوارق والمعجزات لم توجد إلا بهذه الأناجيل. بل إن معظمها أضربت عنه صفحا الأناجيل الأربعة القانونية والعديد من الأناجيل والكتابات المنحولة الأخرى.

    بالفعل كانت هذه التأليفات بمختلف توجهاتها، تنم عن تعدد في الثقافات والحضارات لكتاب هذه الأناجيل. ولوقا نفسه وهو كاتب قانوني يعترف بهذا الخلط في المعرفة الكتابية التي استقت معلوماتها من مصادر متعددة، فيقول:" إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين و خداما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به". فهو وإن كان يثق بصحة المصدر الذي يأخذ عنه معلوماته، إلا أنه يطرح إشكالية التعدد في المصادر والمرجعيات الفكرية لكل كاتب على حدة.

    وقد كانت فكرة المسيح المنتظر هاجسا لدى الفكر المسيحي، تؤطر الكتاب وتسمح لخيالهم بأن يسبح في دنيا المعجزات والخوارق التي لا هدف لها ولا مقصد من ورائها. فلكل توجهه الفكري. فمن كان يهوديا انساق وراء الأماني اليهودية بكل تشعباتها وتفرعاتها، ومن كان غنوصيا أو دوسيتيا جاءت كتابته تبعا لهذه الأنساق الفكرية المختلفة، وهلم جرا.

    4- الكلام في المهد من خلال القرآن الكريم:

    في الحقيقة كلما سنتحدث عن القرآن، ستبرز إشكاليات كثيرة ومتعددة، مرتبطة بالتفاعل والتواصل الحاصل بين الأديان. هل نقل القرآن القصة نفسها التي أضربت عنها الأناجيل القانونية وغير القانونية، وصاغها من جديد بأسلوبه الخاص؟. و إذا كانت قصة الكلام لم ترد إلا في إنجيل الطفولة العربي، وهو كما رأينا خلاصة للفكر الغنوصي والدوسيتي والمذاهب الفلسفية والفكرية السائدة آنذاك. فهل ساير القرآن الكريم هذه الأطروحات المخالفة لمبادئه وتوجهاته؟. هل كتب الإسلام الخلود لمثل هذه الأساطير؟.

    هذه الأسئلة وغيرها من الإشكاليات التي يطرحها الباحث، وتعترض طريق البحث في الكتب المقدسة بشكل عام. تجعلنا نحاول رصد هذه القضية وفق منظور نعتمده لمقاربة هذا الموضوع قيد المدارسة:

    أولا: قد أشرنا في غير مقالة لنا بأنه يجب التمييز في الديانة الإسلامية بين مصدرين أساسيين. أولهما القرآن الكريم الذي يحوي بين طياته مجموعة من العقائد والتصورات للكون والإنسان والطبيعة، وتؤمن به كل طوائف المسلمين على اختلاف توجهاتها في العملية التفسيرية. وثانيهما السنة النبوية التي احتلت من خلال مروياتها الأثرية مكانة الريادة والسبق في مختلف الاتجاهات السائدة في التفسير، فكانت حسب هذه التوجهات الركن الأصيل في فهم القرآن والقاضية عليه، فضاع الإنسان وضاع القرآن وسط ركام هذه الثقافة.

    هذا التفريق يعد ضروريا ونحن نتناول قضية لها مكانتها في الفكر المسيحي بشكل خاص، وتمتد آثارها إلى ما هو أبعد من ذلك، لتصل عن طريق التفاعل الثقافي إلى الفكر الديني بشكل عام بما في ذلك الإسلام. وكل هذا لكي نتمكن أساسا من التفريق بين رؤية هذين المصدرين كل واحد على حدة، وبلورة رأي نستشف من خلاله موقف الدين الإسلامي من خلال هذه القضية الجوهرية، التي تمس بحساسياتها البالغة جانبا خطيرا يمتد إلى جوهر الدين نفسه ومصداقية فرضياته وأطروحاته.

    ثانيا: أود أن ألفت الأذهان إلى قضية لا بد من ذكرها في هذا المقام، وهي أن الاتجاه الفكري الديني في مسألة التفسير ، خاصة التفسير بالمأثور كان يشغله البحث عن الجزئيات وملأ الفراغات التي يتركها القرآن، متوسلا في ذلك بجميع المعطيات والمواد التي تخوله القيام بهذه العملية. ولو كانت هذه المعطيات خارجة عن السياق القرآني، أو لا تنسجم مع مبادئه وطموحاته. وقد وجد هذا الاتجاه في التفسير مادته الخام في المادة التوراتية أو الكتابية بشكل عام. الشيء الذي غيب جانبا مهما من العطاء القرآني، تمثل في الرؤية الإنسانية التي يحملها هذا الكتاب إلى البشرية جمعاء.

    ومعجزة الكلام في المهد، وما يرتبط بها من مستلزمات، ليست بدعا من القصص القرآنية التي نحا بها المفسرون قديما وحديثا عن وجهتها الإنسانية. فتحولت هذه التجربة الإنسانية الرائعة إلى جزئيات وتفاصيل ملأ بها الخيال التوراتي عقول المفسرين، فجاءت تفاسيرهم تتناغم والرؤية المسيحانية، وتنحو بالقصة إلى الوجهة الإنجيلية التوراتية التي كانت تعتمد في أساسها على ملأ الخيال بالأساطير والترهات. بدل تقديم مقترحات من خلال هذه القصص تمتد برحابتها إلى آفاق الإنسان بأخذ العبرة، وقياس الحال على الحال، من أجل فهم أعمق للتجربة الإنسانية بمختلف تجلياتها.

    وهدفنا من هذا كله التعامل مع القرآن الكريم بمنظور إنساني يبدأ بالإنسان وينتهي إليه. فالقصص المطروحة للنقاش في هذا الكتاب هي قصص بالحق:" واقصص القصص الحق "، ليس هدفها هو إثبات تاريخيتها من عدمها، أو صدقها من بطلانها. بل يتجاوز الأمر كل هذا في اتجاه ينحو بالإنسان أن يتعامل مع القصص وما تطرحه من قضايا إنسانية تلامس جوانب تبدأ بالنفس الإنسانية وما تختزنه من أسرار، وتصل برحابتها إلى ما يعكس الواقع الإنساني وتجاربه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

    هذه المدارسة تنبني على الإيمان بأن للقرآن وجهات نظر واقتراحات إنسانية تخرج به من إطار الإيمان السلبي إلى طور يكون فيه المؤمن مساهما بشكل أو بآخر في حلول القضايا الإنسانية، دون وصاية على الناس، أو حجر لحقهم في التفكير، واختزال الحق في المذهب أو الطائفة أو الجماعة، وغير ذلك من بلايا الفكر الديني المتطرف ، أو المحتكر للحق في أصوله وتخريجاته. إن ما تعكسه هذه التجربة التي نحن بصدد دراستها هو البعد النفسي الذي يمكن أن يخلفه حادث مثل هذا في أي ثقافة محافظة ترى في العلاقات الجنسية بشكل عام أمرا محرما. فسيدة مثل مريم لم يشفع لها لا حسن وسطها الاجتماعي، ولا شرف نسبها كما أكدت شهادات الأناجيل غير القانونية، بل تعرضت لتهمة جاوزت كل هذه المعطيات الاجتماعية. وصارت حديثا للناس، تتقاذفها الألسنة، وتلمزها نظرات الناس دون أن ينظر أحد أو يلتفت إلى وسطها أو بيئتها. والواقع التاريخي يؤكد صدق هذه التجربة المتكررة على مر فترات التاريخ. وعليه فلا بد من الأدلة والبراهين والحجج الدامغة التي يمكنها أن تبرئ ساحة من يتهم في مثل هذه القضايا الحساسة، والتي يكون المجتمع أو البيئة عنصرا فعالا في تحريك دواليبها. فإذا كان الطب الآن بتخصصاته الدقيقة يمكن أن يكشف بعض ما يمكن أن يكون موضعا للبس في الواقع المعاصر، فقد احتاجت أيضا السيدة مريم إلى ما يمكنه أن يلجم الأفواه، ويسكت ألسنة المتخرصين والمتقولين في زمانها. ولا يمكن أن يكون هذا الشيء في ظل واقع يفتقر إلى أبسط ما نتحدث عنه في الواقع المعاصر بكل تحدياته وتجاذباته، إلا المولود الذي لا بد له أن ينطق على صدق هذه المرأة، ويزيل عنها كل شبهة.

    فالقرآن الكريم يعبر بنا من خلال هذه القصة إلى آفاق العبرة والتذكر لما قال:" وأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا "، وهذا هو مصير كل امرأة عبر التاريخ، ستحمل إلى مجتمعها المحافظ الرافض للعلاقات الجنسية خارج سلطة المجتمع العرفية. ولن ينفع حينها حسن السلوك أو السيرة، ولا البيئة الاجتماعية أو الأسرية:" يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ". وهنا سيأتي دور تقديم الدليل على البراءة والطهارة العرفية، ولا بد أن يبدد هذا الدليل كل الشبهات المحيطة بالقضية، وإلا سيبقى سيف التهمة متسلطا على رقبة المتهم، ومتابعا له في كل مسيرته داخل المجتمع. وفي حالة مريم لن يكون هناك دليل أقوى من أن يتكلم هذا المولود معلنا عن طهارة أمه، ومؤذنا بفجر براءتها. وهذا هو معنى الآية أو المعجزة، التي يمكنها أن تبين للناس صدق الحديث من بطلانه. وعندها سيؤمن من بهت وظهر له الحق بعد أن زهق الباطل، وسيعرض في كل زمان أو مكان من لا تهمه دلائل البراءة ولا طهارة الناس وعفتهم: " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما .".

    فهذه هي المعجزة حسب تصورنا لها كما يطرحها القرآن، فهي لا تناقض نواميس الطبيعة ولا قوانينها، وإنما تنسجم مع معطيات الطبيعة الإنسانية في كل زمان ومكان. ومن هنا نرى بأن هناك خللا منهجيا في الفكر الديني عموما في تعامله مع هذا العطاء الممتد كما قلنا سابقا إلى آفاق الإنسان. ونتحول بذلك من أسرار هذا المعطى إلى البحث عن تفاصيل وجزئيات قد تضيق علينا في الكثير من الأحيان الوصول إلى المبتغى، والله أعلم.




    --------------------------------------------------------------------------------
    * باحث بوحدة مستقبل الأديان والمذاهب الدينية في حوض البحر الأبيض المتوسط جامعة الحسن الثاني
    1- في الفكر الإسلامي عرف بيحي، وهو المعروف بيوحنا المعمدان Jean Baptiste: ابن الكاهن زكريا وأليصابات، ولادته كانت بطريقة معجزة. أنظر ترجمته ب dictionnaire de la bible, p: 241
    2- أنظر:" دائرة المعارف الكتابية مادة أناجيل الطفولة " ص: 58
    3- الموقع: seigneurjesus.free.fr
    4- االغُنُوصيَّة من "غنوص" gnōsis، الكلمة اليونانية التي تعني معرفة أو بصيرة، وهي تسمية أُطلِقَتْ على حركة دينية وفلسفية سائبةِ التنظيم ازدهرتْ في القرنين الأول والثاني للميلاد. تقول بأن المادة شر وأن هناك صراع بين النور والظلمة. وللمزيد من المعلومات حول هذا الفكر الفلسفي راجع ما كتبه إدوارد مور حولها في كتاب:" الغنوصية: الفكر والوحي"، ترجمة أسماء جلال الدين، إعداد دارين أحمد على الموقع: www.maaber.org. وكذلك:"Histoire du christianisme l' dictionnaire de"، مادة gnocisme ، ص:453
    5- الدوسيتيون من الكلمة اليونانية Doketai، ومن الفعل Dokein أي بان. أعادوا تمثيل النزعة الوراثية في المسيحية. والمسيح في معتقدهم طوال حياته في الأرض لم يكن له جسد حقيقي، ولكن له جسد كالذي للشبح. راجع المزيد حولها في: dictionnaire de l' histoire du christianisme، مادة Docetisme، ص:376-377، و dictionnaire de la bible، نفس المادة، ص:154
    التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 11 أغس, 2020, 10:40 ص.
  • محب عيسى بن مريم
    4- عضو فعال

    حارس من حراس العقيدة
    • 14 سبت, 2006
    • 623
    • ---
    • مسلم

    #2
    الموضوع السابق منقول ولا يعبر عن راي الناقل أو المنتدى
    وهو مفتوح للحوار وحقوق نقله مفتوحة للجميع
    الموقع الأصلي

    http://www.chihab.net/modules.php?na...ticle&sid=1704

    والناقل -أنا- لا يتبنى اي فكرة من أفكار الموقع الاصلي ما لم يتم التنويه لذلك بوضوح -وهو الأمر الذي لم يتم!!

    شكرا لمروركم
    التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 11 أغس, 2020, 10:40 ص.

    تعليق

    مواضيع ذات صلة

    تقليص

    المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
    ابتدأ بواسطة mohamed faid, 14 يون, 2023, 04:22 م
    ردود 0
    203 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة mohamed faid
    بواسطة mohamed faid
    ابتدأ بواسطة mohamed faid, 14 يون, 2023, 10:00 ص
    ردود 0
    108 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة mohamed faid
    بواسطة mohamed faid
    ابتدأ بواسطة mohamed faid, 11 ماي, 2023, 02:59 م
    ردود 0
    38 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة mohamed faid
    بواسطة mohamed faid
    ابتدأ بواسطة mohamed faid, 15 أبر, 2023, 08:42 ص
    ردود 0
    86 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة mohamed faid
    بواسطة mohamed faid
    ابتدأ بواسطة محمد عادل, 3 أغس, 2022, 06:11 ص
    ردود 0
    163 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة محمد عادل
    بواسطة محمد عادل
    يعمل...