نجاسة المشرك كما وردت في القرآن الكريم
تأليف
د . محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
عضو هيئة التدريس قسم الدراسات الإسلامية
في كلية التربية جامعة الملك سعود
تأليف
د . محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
عضو هيئة التدريس قسم الدراسات الإسلامية
في كلية التربية جامعة الملك سعود
جاء القرآن صريحا في وصف المشركين بالنجاسة، قال تعالى:( إنما المشركون نجس( (120) . فما المراد بالنجس المذكور في هذه الآية؟ وما سببه؟.
وقبل الخوض في المراد الشرعي من هذا الوصف، يحسن بنا أن ننظر في معنى النجس عند أهل اللغة .
النجس: ضد الطاهر، والنجس: القذر من الناس ومن كل شيء قذرته. و نجس الشيء بالكسر ينجس نجسا فهو نجس، ورجل نجِس و نجَس، والجمع أنجاس، وقيل: النجس يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد , يقال : رجل نجس، ورجلان نجس، وقوم نجس، قال الله تعالى:( إنما المشركون نجس ( فإذا كسروا ثنوا وجمعوا وأنثوا، فقالوا: أنجاس ونجسة. وقال الفراء: نجس لا يجمع , ولا يؤنث. وقال أبو الهيثم في قوله : ( إنما المشركون نجس ) أي أنجاس أخباث، في الحديث أن النبي كان إذا دخل الخلاء قال:(اللهم إني أعوذ بك من النجس الرجس الخبيث المخبث) (121)
يقول الفيروز أبادي في قاموسه :( النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر، وقد نجس كسمع، ... وتنجس فعل فعلا يخرج به عن النجاسة)(122). ويقول القاضي عياض - رحمه الله - في مشارق الأنوار في مادة ( ن ج س ):( قوله : إن المؤمن لا ينجس , بضم الجيم ثلاثي , وبفتحها - أيضا - والرجس: النجس , يقال : نجس ونجس بفتحهما للواحد والاثنين والجمع والذكر والأنثى , قاله الكسائي , وقال غيره : إنما يقال بفتحهما , فإذا أتبعته رجس قلت بالوجه الآخر بكسر النون وسكون الجيم والنجس كل مستقذر)(123) .
بينما أورد أبو السعادات مادة (نتن) حيث تضمنت هذه المادة معنى مقاربا لمعنى النجس. وقال :( فيها [ أي في هذه المادة] (ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها منتنة). أي مذمومة في الشرع، مجتنبة مكروهة كما يجتنب الشيء النتن، .... ومنه حديث بدر (لو كان المطعم بن عدي حيا فكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له) يعني أسارى بدر , واحدهم نتن كزمن وزمنى؛ سماهم نتنى لكفرهم , كقوله تعالى :(إنما المشركون نجس)(124).
وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته :( نجس : النجاسة القذارة وذلك ضربان: ضرب يدرك بالحاسة. وضرب يدرك بالبصيرة، والثاني وصف الله تعالى به المشركين , فقال :( إنما المشركون نجس).(125)
أما المعنى المراد بالنجس في هذه الآية فقد اختلف فيه المفسرون على قولين :
القول الأول: أنها نجاسة معنوية (126) نفسانية؛ لأنهم يجْنبون ولا يغتسلون . وهذا قول جمهور السلف والخلف , ومنهم أئمة المذاهب الأربعة ؛ لأن الله أحل طعامهم ، وثبت عن النبي ( في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم ، فأكل في آنيتهم , وشرب منها , وتوضأ فيها , وأنزلهم في مسجده (127) .
وقال ابن عاشور عند تفسير هذه الآية:(فالمشرك نجس لأجل عقيدة إشراكه، وقد يكون جسده نظيفا مطيبا لا يستقذر، وقد يكون مع ذلك مستقذر الجسد ملطخا بالنجاسات؛ لأن دينه لا يطلب منه التطهر، ولكن تنظفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم ، والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير، ولا شك أن خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم؛ انخلاعا عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسية لإزالة خباثة نفسه) (128) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - :( وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع الله آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنه شيئا؟! وأعمالهم ما بين محاربة لله، وصد عن سبيل الله، ونصر للباطل، ورد للحق، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح؛ فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها منهم) (129)
القول الثاني : أنها نجاسة ذاتية ، كما ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية والزيدية، وهو مروي عن الحسن البصري (130) . وقد نصر هذا القول الرازي في تفسيره . ولا شك أن القول الأول هو الذي تنصره الأدلة .
وإذا ثبت أن المشرك نجسٌ نجاسةً معنوية , فهل يجوز له دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد، والبلاد الإسلامية أو لا؟
اختلف الفقهاء في دخول الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام، وقد لخص الإمام البغوي - رحمه الله - أقوال الفقهاء، وبيّن أن بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام، ونقل عنه ذلك محمد رشيد رضا في تفسيره، وهذه الأقسام هي:
القسم الأول: الحرم , فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا؛ لظاهر الآية، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وجوّز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
القسم الثاني: الحجاز , وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة، وقال الكلبي: حد الحجاز ما بين جبلي طيء وطريق العراق ـ فيجوز للكافر دخول أرض الحجاز بالإذن، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر , وهو ثلاثة أيام.
القسم الثالث: سائر بلاد الإسلام , فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة؛ ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم. (131)
القسم الثاني: الحجاز , وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة، وقال الكلبي: حد الحجاز ما بين جبلي طيء وطريق العراق ـ فيجوز للكافر دخول أرض الحجاز بالإذن، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر , وهو ثلاثة أيام.
القسم الثالث: سائر بلاد الإسلام , فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة؛ ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم. (131)
وبناء على ذلك , فسواء كان المشرك نجسا نجاسة معنوية أم ذاتية فيجب منعه من دخول الحرم؛ ولذا أمر الله إبراهيم, وإسماعيل عليهما السلام أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود ،فقال سبحانه وتعالى:( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير( (132). والأمر بالتطهير يقتضي المنع مما ينجسه أو يدنسه، ولا شك أن أعظم ما تدنس به المقدسات هو وقوع الكفر فيها، وتردد الكفار في جنباتها، وانتصاب الأوثان والأصنام في عرصاتها.
بل قد جاء النهي صريحا للمؤمنين بأن يمنعوا الكفار من القرب منها فضلا عن دخولها , والتردد في عرصاتها، وعلل الباري جل ثناؤه ذلك بما يلي :
الأول : أنهم كفار , والكفر في حد ذاته موجب للحرمان من عمارة المساجد، سواء كانت عمارة حسية أو معنوية؛ قال تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ( (133) ؛ لأنها مساجد الله , فلا حق لغير الله فيها .
الثاني : أن هذه المواطن والمقدسات والحرمات أقيمت لعبادة الله وحده ، وأقام إبراهيم الخليل عليه السلام أول مسجد ـ وهو الكعبة ـ عنوانا على التوحيد ، وإعلانا به، كما قال تعالى:( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا( (134) ، فلا حق لغير المسلم بالاقتراب منها أو المرور فيها فضلا عن أن يتعبد فيها.
الثالث : أنهم يشهدون على أنفسهم بالكفر(135) في حالهم ومقالهم، فكيف مع شهادتهم على أنفسهم بالكفر يطمعون بالقرب من المقدسات، ومن مواضع عبادة الله, ومشاركة المؤمنين بالله في مواضع العبادة ؟. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - : ( فإذا كانوا شاهدين على أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان الذي هو شرط لقبول الأعمال، فكيف يزعمون أنهم عُمّار مساجد الله، والأصل منهم مفقود، والأعمال منهم باطلة ؟!)(136).
الرابع : أن المشركين نجس فلا يكونون أهلا لدخول الحرم ما داموا متصفين بهذه الصفة التي تلبسوا بها في طوعهم واختيارهم (137) .
وقال الجصاص في أحكام القرآن عند قوله تعالى :( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا..
( : إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه , كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار؛ فلذلك سماهم نجسا، والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين , أحدهما: نجاسة الأعيان، والآخر: نجاسة الذنوب، وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع، قال الله تعالى:( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان((138)، وقال في وصف المنافقين: ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس((139) فسماهم رجسا , كما سمى المشركين نجسا)(140).
وقال الشوكاني - رحمه الله - عند قوله تعالى: ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) قال :
(الفاء للتفريع ، فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرع على نجاستهم، والمراد بالمسجد الحرام : جميع الحرم، وروي ذلك عن عطاء ، فيمنعون عنده من جميع الحرم). (141)
يتبع
يتبع
تعليق