جميع الردود على الشبهات التى تثار حول الاسلام

تقليص

عن الكاتب

تقليص

المتفائل
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • المتفائل

    جميع الردود على الشبهات التى تثار حول الاسلام

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين


    قصة الصراع بين الحق والباطل والخير والشر قصة قديمة بدأت فصولها مع بداية وجود الأنسان على الأرض، وسوف تتواصل فصولها طالما كان هناك إنسان فى هذا الوجود.
    وعندما ظهر الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان لم يتوقف سيل الشبهات التى يثيرها المشككون من خصوم هذا الدين تشكيكا فى مصادره أو فى نبيه أو فى مبادئه وتعاليمه. ولا تزال الشبهات القديمة تظهر حتى اليوم فى أثواب جديدة يحاول مروجوها أن يضيفوا عليها طابعا علميا زائفا.
    ومن المفارقات الغريبة فى هذا الصدد أن يكون الأسلام – وهو الدين الذى ختم الله به الرسالات ، وكان آخر حلقة فى سلسلة اتصال السماء بالأرض – قد اختص من بين كل الديانات التى عرفها الأنسان سماوية كانت أم أرضية بأكبر قدر من الهجوم وإثارة الشبهات حوله.
    ووجه الغرابة فى ذلك يتمثل فى أن الإسلام فى الوقت الذى جاء فيه يعلن للناس الكلمة الأخيرة لدين الله على لم ينكر أيا من أنبياء الله السابقين ولا ما أنزل عليهم من كتب سماوية ، ولم يجبر أحد من أتباع الديانات السماوية السابقة على اعتناق الإسلام . ولم يقتصر الأمر على عدم الإنكار ، وإنما جعب الإسلام الإيمان بأنبياء الله جميعا وما أنزل عليهم من كتب عنصرا أساسيا من عقيدة كل مسلم بحيث لاتصح هذه العقيدة بدونه.
    ومن شأن هذا الموقف المتسامح للإسلام إزاء الديانات السابقة أن يقابل بتسامح مماثل وأن يقلل من عدد المناهضين للإسلام.
    ولكن الذى حدث كان على العكس من ذلك تماما. فقد وجدنا الإسلام – على مدى تاريخه – يتعرض لحملات ضارية من كل اتجاه . وليس هناك فى عالم اليوم دين من الأديان يتعرض لمثل ما يتعرض له الإسلام فى الإعلام الدولى من ظلم فادح وإفتراءات كاذبة.
    وهذا يبين لنا أن هناك جهلا فاضحا بالإسلام وسوء فهم لتعاليمه سواء كان ذلك بوعى أو بغير وعى ، وأن هناك خلطا واضحا بين الإسلام كدين وبعض التصرفات الحمقاء التى تصدر من بعض أبناء المسلمين باسم الدين وهو منها براء.
    ومواجهة ذلك تكون ببذل جهود علمية مضاعفة من اجل توضيح الصورة الحقيقة للإسلام ، ونشر ذلك على أوسع نطاق.
    ولم يقتصر علماء المسلمين على مدى تاريخ الإسلام فى القيام بواجبهم فى الرد على هذه الشبهات كل بطريقته الخاصة وبأسلوبه الذى يعتقد أنه السبيل الأقوم للرد ، وهناك محاولات جادة بذلت فى الفترة الأخيرة للدفاع عن الأسلام فى مواجهة حملات التشكيك.

    تابعو
  • المتفائل

    #2
    اولا : شبهات حول القران الكريم 1- جمع القرآن
    اتخذ المعترضون من وقائع جمع القرآن وليجة يتسللون من خلالها للنيل من القرآن ، وإيقاع التشكيك فى كونه وحيًا من عند الله عز وجل .
    والواقع أن الذى ألجأهم إلى التسلل من هذه " الوليجة " وهى وقائع جمع القرآن أمران رئيسيان :
    الأول : محاولتهم نزع الثقة عن القرآن وخلخلة الإيمان به حتى لا يظل هو النص الإلهى الوحيد المصون من كل تغيير أو تبديل ، أو زيادة أو نقص .
    الثانى : تبرير ما لدى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من نقد وجه إلى الكتاب المقدس بكلا عهديه : القديم (التوراة) والجديد (الأناجيل) ليقطعوا الطريق على ناقدى الكتاب المقدس من المسلمين ، ومن غير المسلمين .
    ومواطن الشبهة عندهم فى وقائع جمع القرآن والمراحل التى مرَّ بها ، هى :
    أن القرآن لم يُدوَّن ولم يكتب فى مصحف أو مصاحف كما هو الشأن الآن ، إلا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أما فى حياته ، فلم يكن مجموعاً فى مصحف . وأن جمعه مرًّ بعدة مراحل :
    الأولى : فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - وهو جمع ابتدائى غير موثق تمام التوثيق كما يزعمون ؟ .
    الثانية : فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وقد كان الجمع فى هذه المرحلة قابلاً لإدخال كثير من الإضافات التى افتقر إليها تدوين القرآن فيما بعد . لأن القرآن لم يكن فيهما مضبوطًا مشكولاً .
    الثالثة : الإضافات التى أُلْحِقَتْ بالنص القرآنى وأبرزها :
    * نَقْط حروفه لتمييز بعضها من بعض ، مثل تمييز الخاء من الجيم والحاء ، وتمييز الجيم من الخاء والحاء ، وتمييز التاء بوضع نقطتين فوقها عن كل من الياء والباء والنون والثاء .
    1- ضبط كلماته بالضم والفتح والكسر والجزم ، مثل : " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين " وهذا أمر طارئ على جمع القرآن فى مرحلتيه السابقتين .
    2- علامات الوقف:مثل :ج صلى لا قلى م 00 00
    3- وضع الدوائر المرقوم فيها أرقام الآيات فى كل سورة .
    إن كل هذه الإضافات لم تكن موجودة فى العصر النبوى ، بل ولا فى عهد الخلفاء الراشدين .
    يذكرون هذا كله ليصوروا أن الشبهة التى لوحظت فى جمع المصحف الحاوى للقرآن الكريم ، تزرع الشكوك والريوب (جمع ريب) فى وحدة القرآن واستقراره وسلامته من التحريف . فعلام إذن يصر المسلمون على اتهام التوراة التى بيد اليهود الآن أنها لا تمثل حقيقة التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام ؟ أو لماذا يطلقون هذا الوصف على مجموعة " الأناجيل " : التى بيد النصارى الآن ؟
    الرد علىالشبهة :
    إنًّ تأخير تدوين القرآن عن حياة النبى صلى الله عليه وسلم وجمعه فى مصحف فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، لامساس له مطلقًا بوحدة القرآن وصلة كل كلمة بالوحى الإلهى ؛ لأن القرآن قبل جمعه فى مصاحف كان محفوظًا كما أنزله الله على خاتم المرسلين .
    والعرب قبل الإسلام ، وفى صدر الإسلام المبكر كانوا ذوى ملكات فى الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة ، من قبلهم أو معاصرة لهم ، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه .
    وروعة نظم القرآن ، ونقاء ألفاظه ، وحلاوة جرسه ، وشرف معانيه ، هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون ، فوقع من أنفسهم موقع السحر فى شدة تأثيره على العقول والمشاعر ، فاشتد اهتمامهم به ، وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلى الإيمان به ، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحى الأمين ، يجمعون بين حفظه والعمل به .
    وكان النبى صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه شىء من الوحى يأمر كُتًّاب الوحى بكتابته فورًا ، سماعًا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحى بين الناس .
    وقد ساعد على سهولة حفظه أمران :
    الأول : نزوله (مُنَجَّمًا) أى مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة ؛ لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن فى الوحى إلى الرسل السابقين .
    والسبب فى نزول القرآن مُفَرَّقًا هو ارتباطه بتربية الأمة ، والترقى بها فى مجال التربية طورًا بعد طور ومعالجة ما كان يجدّ من مشكلات الحياة ، ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها إلى نهاية المطاف .
    الثانى : خصائص النظم القرآنى فى صفاء مفرداته ، وإحكام تراكيبه ، والإيقاع الصوتى لأدائه متلوًّا باللسان ، مسموعًا بالآذان ، وما يصاحب ذلك من إمتاع وإقناع ، كل ذلك أضفى على آيات القرآن خاصية الجذب إليه ، والميل الشديد إلى الإقبال عليه ، بحيث يجذب قارئه وسامعه واقعًا فى أسره غير ملولٍ من طول الصحبة معه .
    وتؤدى فواصل الآيات فى القرآن دورًا مُهِمًّا فى الإحساس بهذه الخصائص . ولنذكر لهذا " مثلاً " من سور القرآن الكريم :
    بسم الله الرحمن الرحيم (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحًا * فأثرن به نقعًا * فوسطن به جمعًا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بُعثر ما فى القبور * وحُصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير)(1) .
    عدد آيات هذه السورة [ العاديات ] إحدى عشرة آية ، وقد وزعت من حيث الفواصل ، وهى الكلمات الواقعة فى نهايات الآيات ، على أربعة محاور ، هى : الثلاث الآيات الأولى ، وكل فاصلة فيها تنتهى بحرف الحاء : ضبحا قدحا صبحا .
    والآيتان الرابعة والخامسة ، كل فاصلة فيهما انتهت بحرف العين : نقعا جَمْعا .
    والآيات السادسة والسابعة والثامنة ، انتهت فواصلها بحرف الدال : لكنود لشهيد لشديد .
    أما الآيات التاسعة ، والعاشرة ، والحادية عشرة ، فقد انتهت فواصلها بحرف الراء : القبور الصدور لخبير .
    مع ملاحظة أن حروف الفواصل فى هذه السورة ماعدا الآيات الثلاث الأولى مسبوقة بحرف " مد " هو " الواو " فى : " لكنود " و " الياء " فى : " لشهيد لشديد " .
    ثم " الواو " فى : " القبور الصدور ثم " الياء " فى : " لخبير " وحروف المد تساعد على " تطرية " الصوت وحلاوته فى السمع . لذلك صاحبت حروف المد كلمات " الفواصل " فى القرآن كله تقريبًا ، وأضفت عليها طابعًا غنائيّا من طراز فريد (2) جذب الإسماع ، وحرك المشاعر للإقبال على القرآن بشدة أسره إياهم عن طريق السماع ، ليكون ذلك وسيلة للإقبال على فقه معانيه ، ثم الإيمان به .
    ومن سمات سهولة الحفظ فى هذه السورة أمران :
    أنها سورة قصيرة ، حيث لم تتجاوز آياتها إحدى عشرة آية .
    قصر آياتها ، فمنها ما تألف من كلمتين ، وهى الآيات الثلاث الأولى . ومنها ما تألف من ثلاث كلمات ، وهى الآيتان الرابعة والخامسة . ومنها ما تألف من أربع كلمات ، وهى الآيات : السادسة والسابعة والثامنة . وآيتان فحسب كلماتها خمس ، وهما العاشرة والحادية عشرة . وآية واحدة كلماتها سبع ، هى الآية التاسعة .
    ونظام " عقد المعانى " فى السورة رائع كروعة نظمها . فالآيات الثلاث الأُوَل قَسَمٌ جليل بِخَيْلِ المجاهدين فى سبيل الله .
    والآيتان الرابعة والخامسة استطراد مكمل لمعانى المقسم به ، شدة إغارتها التى تثير غبار الأرض ، وسرعة عَدْوِِهَا ومفاجأتها العدوّ فى الإغارة عليه .
    ثم يأتى المقسم عليه فى الآية السادسة : " إن الإنسان لربه لكنود " : عاص لله ، كفور بإنعامه عليه .
    وفى الآية السابعة إلماح إلى علم الإنسان بأنه عاق لربه ، شهيد على كفرانه نعمته .
    وفى الآية الثامنة تقبيح لمعصية الإنسان لربه ، وإيثار حطام الدنيا على شكر المنعم .
    أما الآيات الثلاث الأخيرة من (9) إلى (11) فهى إنذار للإنسان الكفور بنعم ربه إليه .
    وهذه السمات ، ليست وقفًا كلها على سورة " والعاديات " بل هى مع غيرها ، سمات عامة للقرآن كله ، وبهذا صار القرآن سهل الحفظ لمن حاوله وصدق فى طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه (3) .
    إن الحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها ، هى السماع . وهكذا وصل إلينا القرآن ، من بداية نزوله إلى نهايته .
    وأول سماع فى حفظ القرآن كان من جبريل عليه السلام الذى وصفه الله بالأمين .
    وأول سامع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمع القرآن كله مرات من جبريل .
    وثانى مُسَمِّع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن من جبريل .
    أما ثانى سامع للقرآن فهم كُتَّابُ الوحى ، سمعوه من النبى عليه الصلاة والسلام فور سماعه القرآن من جبريل ؛ لأنه كان إذا نزل الوحى ، وفرغ من تلقى ما أنزله الله إليه دعا كُتَّابَ الوحى فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور .
    ثم يشيع عن طريق السماع لا الكتابة ما نزل من القرآن بين المؤمنين ، إما من فم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من أفواه كتاب الوحى .
    وقد يسَّر الله تعالى لحفظ القرآن واستمرار حفظه كما أنزله ، أوثق الطرق وأعلاها قدرًا فكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على جبريل فى كل عام مرة فى شهر رمضان المعظم . ثم فى العام الذى لقى فيه ربه تَمَّ عرض القرآن تلاوة على جبريل مرتين . زيادة فى التثبت والتوثيق .
    وفى هذه الفترة (فترة حياة النبى) لم يكن للقراء مرجع سوى المحفوظ فى صدر النبى عليه الصلاة والسلام ، وهو الأصل الذى يُرجع إليه عند التنازع ، أما ما كان مكتوبًا فى الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس ، مع صحته وصوابه .
    وكذلك فى عهدى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كان الاعتماد على الحفظ فى الصدور هو المعول عليه دون الكتابة ؛ لأنها كانت مفرقة ، ولم تكن مجموعة .
    وكانت حظوظ الصحابة ، من حفظ القرآن متفاوتة ، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير ، ومنهم من يحفظ القدر الكثير ، ومنهم من يحفظ القرآن كله . وهم جمع كثيرون مات منهم فى موقعة اليمامة فى خلافة أبى بكر سبعون حافظًا للقرآن ، وكانوا يسمون حفظة القرآن ب " القُرَّاء " .
    ولا يقدح فى ذلك أن بعض الروايات تذهب إلى أن الذين حفظوا القرآن كله من الصحابة كانوا أربعة أو سبعة ، وقد وردت بعض هذه الروايات فى صحيحى البخارى ومسلم لأن ما ورد فيهما له توجيه خاص ، هو أنهم حفظوا القرآن كله وعرضوا حفظهم على رسول الله تلاوة عليه فأقرهم على حفظهم ، وليس معناه أنهم هم الوحيدون الذين حفظوا القرآن من الصحابة (4) .
    أول جمع للقرآن الكريم
    لم يجمع القرآن فى مصحف فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا فى صدر خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، وكان حفظه كما أنزل الله فى الصدور هو المتبع .
    وفى هذه الأثناء كان القرآن مكتوبًا فى رقاع متفرقًا . هذه الرقاع وغيرها التى كتب فيها القرآن إملاء من فم النبى صلى الله عليه وسلم ، ظلت كما هى لم يطرأ عليها أى تغيير من أى نوع .
    ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى مصحف واحد فى منتصف خلافة أبى بكر باقتراح من عمر رضى الله عنهما .
    وبعد وفاة أبى بكر تسلم المصحف عمر بن الخطاب ، وبعد وفاته ظل المصحف فى حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها (5) .
    وفى هذه الفترة كان حفظ القرآن فى الصدور هو المتبع كذلك .
    وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة بعد انتقال النبى عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، التابعون من الطبقة الأولى ، وكانت علاقتهم بكتاب الله هى الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة ، وحفظًا للقرآن كله ، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعى الكبير الحسن البصرى رضى الله عنه وآخرون .
    كان هذا أول جمع للقرآن ، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله ، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها ، ولا معنى لهذا الجمع إلا ما ذكرناه ، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف . والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ .
    ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع فى هذه المرحلة لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية ، التى تم تدوينها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين .

    مرحلة الجمع الثانية (6)
    كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة . والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات ، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى ، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة .
    وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان ، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة . فنهض رضى الله عنه للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة ، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار (زيد بن ثابت) وثلاثة من قريش : عبد الله بن الزبير ، سعد بن أبى وقاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام . وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان رضى الله عنه لهذه المهمة الجليلة؛ لأنه أى زيد بن ثابت قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى :
    كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية .
    كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله .
    كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام .
    كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه .
    منهج الجمع فى هذه المرحلة
    وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران :
    الأول : المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه صلى الله عليه وسلم سماعًا مباشرًا منه .
    فكان لا يُقبل شىء فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام .
    الثانى : أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل . فلا يكفى حفظ الرجل الواحد ، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر ، بل لابد من الأمرين معًا :
    1- وجودها فى مصحف أبى بكر .
    2- ثم سماعها من حافظين ، أى شاهدين ، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى ، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة ، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين .
    قام هذا الفريق ، وفق هذا المنهج المحكم ، بنسخ القرآن ،لأول مرة ، فى مصحف واحد ، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعارض عثمان منهم أحدُ ، حتى عبد الله بن مسعود ، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه ، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان رضى الله عنه ، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول ، فى جميع الأقطار والعصور .
    ونسخ من مصحف عثمان ، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف ، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام ، مثل الكوفة والحجاز ، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان رضى الله عنه ، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام ، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود وأمر بحرقها أو استبعادها ؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة ، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها .
    الفرق بين الجمعين
    من نافلة القول ، أن نعيد ما سبق ذكره ، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما كان واحدًا ، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى ، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات ، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين .
    وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات ، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها . فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع .
    ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد ، مانع لها من التفرق مرة أخرى .
    أما الجمع فى خلافة عثمان رضى الله عنه فكان نسخًا ونقلاً لما فى الوثائق الخطية ، التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه ، وجمعها فى مصحف واحد فى مكان واحد . وإذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام ، كان الجمع فى خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق فى القصاصات فى دفتر واحد .
    أما الهدف من الجمع فى خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الآتية :
    1- توحيد المصحف الجماعى واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل . وقد تم ذلك على خير وجه .
    2- القضاء على القراءات غير الصحيحة ، وجمع الناس على القراءات الصحيحة ، التى قرأ بها النبى عليه الصلاة والسلام فى العرضة الأخيرة على جبريل فى العام الذى توفى فيه .
    3- حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها . والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين .
    وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعًا من حُفَّاظ مجودين متقنين ، ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف ؛ لإن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء ، فالسماع هو الأصل فى تلقى القرآن وحفظه . لأن اللسان يحكى ما تسمعه الأذن ، لذلك نزل القرآن ملفوظًا ليسمع ولم ينزل مطبوعًا ليُقرأ .
    فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين :
    الوجه الأول : جمع أبى بكر رضى الله عنه كان تنسيقًا للوثائق الخطية التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سورًا وآيات .
    وجمع عثمان رضى الله عنه كان نقلاً جديدًا لما هو مسطور فى الوثائق الخطية فى كتاب جديد ، أطلق عليه " المصحف الإمام " .
    أما الوجه الثانى فهو من حيث الهدف من الجمع وهو فى جمع أبى بكر كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة فى نسق واحد مضمومًا بعضها إلى بعض ، منسقة فيه السور والآيات كما هى فى الوثائق ، لتكون مرجعًا حافظًا لآيات الذكر الحكيم .
    وهو فى جمع عثمان ، جمع الأمة على القراءات الصحيحة التى قرأها النبى صلى الله عليه وسلم فى العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام .
    أما المتون (النصوص) التى نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى ، التى حررت بها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام .
    فالجمعان البكرى والعثمانى لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أى تعديل أو تغيير أو تبديل ، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه فى المصاحف ، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصور حتى الآن وإلى يوم الدين.
    فذلكة سريعة :
    العرض الذى قدمناه لتدوين القرآن يظهر من خلاله الحقائق الآتية :
    1- إن تدوين متون القرآن (نصوصه) تم منذ فجر أول سورة نزلت بل أول آية من القرآن ، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه عليه الصلاة والسلام على كاتب الوحى فدونه سماعًا منه لتوه ، ولم يلق عليه الصلاة والسلام ربه إلا والقرآن كله مدون فى الرقاع وما أشبهها من وسائل التسجيل . وهذا هو الجمع الأول للقرآن وإن لم يذكر فى كتب المصنفين إلا نادرًا .
    2- إن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذى قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد ، حتى عصرنا الحالى .
    - إن الفترة النبوية التى سبقت جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، لم تكن فترة إهمال للقرآن ، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح ، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن (7) . اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتى الأهمية :
    الأولى : السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته .
    الثانية : الحفظ المتقن فى الصدور .
    والسماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز . وسيظلان هكذا إلى يوم الدين .
    - إن القرآن منذ أول آية نزلت منه ، حتى اكتمل وحيه لم تمر عليه لحظة وهو غائب عن المسلمين ، أو المسلمون غائبون عنه ، بل كان ملازمًا لهم ملازمة الروح للجسد .
    إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح ، ومعروف كل المعرفة ، لم تمر عليه فترات غموض ، أو فترات اضطراب ، كما هو الشأن فى عهدى الكتاب المقدس (8) التوراة والإنجيل . وما خضعا له من أوضاع لا يمكن قياسها على تاريخ القرآن ، فليس لخصوم القرآن أى سبب معقول أو مقبول فى اتخاذهم مراحل جمع القرآن منافذ للطعن فيه ، أو مبررًا يبررون به ما اعترى كتابهم المقدس من آفات تاريخية ، وغموض شديد الإعتام صاحب وما يزال يصاحب واقعيات التوراة والأناجيل نشأة ، وتدوينًا ، واختلافًا واسع المدى ، فى الجوهر والأعراض التى قامت به .
    وقد بقى علينا من عناصر شبهاتهم حول جمع القرآن ومراحله ما سبقت الإشارة إليه من قبل ، وهى : النقط والضبط وعلامات الوقف .
    المراد بالنَّقْط هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء .
    أما الضبط فهو وضع الحركات الأربع : الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة . حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف .
    أما علامات الوقف فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها . وهذه الأنواع الثلاثة يُلحظ فيها ملحظان عامَّان :
    الأول : أنها لا تمس جسم الكلمة من قريب أو من بعيد ولا تغير من هيكل الرسم العثمانى للكلمات ، بل هى زيادة إضافية خارجة عن " متون " (أصول) الكلمات .
    الثانى : أنها كلها أدوات أو علامات اجتلبت لخدمة النص القرآنى ، ولتلاوته صوتيّا تلاوة متقنة أو بعبارة أخرى :
    هى وسائل إيضاح اصطلاحية متفق عليها تعين قارئ القرآن على أدائه أداء صوتيّا محكمًا ، وليست هى من عناصر التنزيل ، ولو جرد المصحف منها ما نقص كلام الله شيئًا . وقد كان كتاب الله قبل إدخال هذه العلامات هو هو كتاب الله ، إذن فليست هى تغييرًا أو تبديلاً أو تحريفًا أدخل على كتاب الله فأضاع معالمه ، كما يزعم خصوم القرآن الموتورون .
    فالنقط أضيفت إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء ، والباء والتاء والثاء والنون ، والسين والشين ، والطاء والظاء ، والفاء والقاف ، والعين والغين ، والصاد والضاد .
    وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها ، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه العلامات ، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضّا طريّا كما أنزله الله على خاتم رسله ، أمَّا غير الحفاظ ممن لا يستغنون عن النظر فى المصحف فهذه العلامات النقطية والضبطية والوقفية ترشدهم إلى التلاوة المثلى ، وتقدم لهم خدمات جليلة فى النظر فى المصحف ؛ لأنها كما قلنا من قبل وسائل إيضاح لقراء المصحف الشريف .
    فمثلاً نقط الحروف وقاية من الوقوع فى أخطاء لا حصر لها ، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى : (كمثل جنة بربوة)(9) .
    لو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ فى أخطاء كثيرة ؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات ، مثل : حَبَّة حية حِنَّة خبَّة جُنة حِتة خيَّة جيَّة حبه جبَّة .
    ولكن لما نقطت حروفها ، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا ، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة .
    وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى ، ونصر بن عاصم الليثى ، ويحيى بن يَعْمُر ، والخليل ابن أحمد ، وكلهم من كبار التابعين (10) .
    والخلاصة : أن نقط حروف الكلمات القرآنية ، وضبط كلمات آياته ليس من التنزيل ، وأنه حدث فى عصر كبار التابعين ، وإلحاق ذلك بالمصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن .
    وهو من البدع الحسنة وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز ، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة ، وهو من المصالح المرسلة ، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها .
    وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها ، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها .
    وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة. أما علامات الوقف فلها أدوار إيجابية فى إرشاد قراء القرآن وتوجيههم إلى كيفية التعامل مع الجمل والتراكيب القرآنية حين تُتلى فى صلاة أو فى غير صلاة .
    والواقع أن كل هذه المضافات إلى رسم كلمات المصحف فوق أنها والله سبحانه وتعالى أعلم وسائل إيضاح كما تقدم ، اجتلبت من أجل خدمة النص القرآنى ، تؤدى فى الوقت نفسه خدمة جليلة لمعانى المفردات والتراكيب القرآنية . وقد أشرنا من قبل إلى مهمات النقط فوق أو تحت الحروف ، وعلامات الضبط الأربع : الفتحة والضمة والكسرة والسكون ، فوق أو تحت رسم الكلمات .
    ونسوق الآن تمثيلاً سريعًا للمهام الجليلة التى تؤديها علامات الوقف ، التى توضع فوق نهايات الكلمات التى يُوْقَفُ عليها أو لا يُوقف :
    قوله تعالى:(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هوصلى ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير)(11) .
    نرى العلامة (صلى) فوق حرف الواو فى كلمة " هو " وهى ترمز إلى أن الوقف على هذه الكلمة " هو " جائز ووصلها بما بعدها وهو " وإن يمسسك " جائز كذلك إلا أن الوصل ، وهو هنا تلاوة الآية كلها دفعة واحدة بلا توقف ، أولى من الوقف .
    والسبب فى جواز الوقف والوصل هنا أن كلاً من الكلامين معناه تام يحسن السكوت عليه ، وكذلك يحسن وصله بما بعده لأنهما كلامان بينهما تناسب وثيق ، ومن حيث البناء التركيبى ، هما شرط " إنْ " ، وفِعْلا الشرط فيهما فعل مضارع ، وهما فعل واحد تكرر فى شرطى الكلامين " يمسسك " والفاعل هو " الله " فيهما . الأول اسم ظاهر ، والثانى ضمير عائد عليه ، أما كون الوصل أولى من الوقف ، فلأن التناسب بين الكلامين أقوى من التباين لفظًا ومعنى ، مع ملاحظة أن جواز الوقف يتيح لقارئ القرآن نفحة من راحة الصمت ، ثم يبدأ رحلة التلاوة بعدها .
    وقوله تعالى :(قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل قلى فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا)(12) .
    علامة الوقف (قلى) موضوعة فوق اللام الثانية من كلمة "قليل" وترمز إلى جواز الوصل والوقف على كلمة " قليل " وأن الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها ، وفى الوقف راحة لنفس القارئ كما تقدم .
    وجواز الوقف لتمام المعنى فى الجزء الأول من الآية .
    وجواز الوصل ، فلأن الجزء الثانى من الكلام مفرع ومرتب على الجزء الأول (13) .
    أما كون الوقف على كلمة " قليل " أولى فى هذه الآية فلأن ما قبلها جملتان خبريتان ، وهما واقعتان مقول القول لقوله تعالى : (قل ربى ..).
    أما جملة " فلا تمار فيهم " فهى جملة إنشائية (14) فيها نهى عن الجدال فى شأن أهل الكهف كم كان عددهم والكلام الإنشائى مباين للكلام الخبرى . إذن فالكلامان غير متجانسين . هذه واحدة .
    أما الثانية فإن " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا " ، غير داخل فى مقول القول الذى أشرنا إليه قبلاً .
    وهذان الملحظان أحدثا تباعدًا ما بين الكلامين لذلك كان الوقف أولى ، إلماحًا إلى ذلك التباين بين الكلامين . والوقف هو القطع بين كلامين بالسكوت لحظة بين نهاية الكلام الأول، وبداية الكلام الثانى ، وله شأن عظيم فى تلاوة القرآن الكريم ، من حيث الألفاظ (الأداء الصوتى) ومن حيث تذوق المعانى وخدمتها ، وقوله تعالى : (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منهج ذلك من آيات الله)(15) .
    علامة الوقف (ج) موضوعة فوق " الهاء " نهاية كلمة " منه " وترمز إلى جواز الوقف على " منه " وعلى جواز وصله بما بعده " ذلك من آيات الله " وهذا الجواز مستوى الطرفين ، لا يترجح فيه الوقف على الوصل، ولا الوصل على الوقف. وهذا راجع إلى المعنى المدلول عليه بجزئى الكلام ، جزء ما بعد " منه " وجزء ما قبله .
    وذلك لأن ما قبل " منه " كلام خبرى لا إنشائى وكذلك ما بعدها " ذلك من آيات الله .. " فهما إذن متجانسان .
    والوقف مناسب جدّا لطول الكلام قبل كلمة " منه " وفى الوقف راحة للنفس ، والراحة تساعد على إتقان التلاوة .
    والوصل مناسب جدّا من حيث المعنى ؛ لأن قوله تعالى : " ذلك من آيات الله " تركيب واقع موقع " الخبر " عما ذكره الله عز وجل من أوضاع أهل الكهف فى طلوع الشمس وغروبها عنهم .
    وقوله تعالى : (الذين تتوفاهم الملائكة طيبينلا يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة ..)(16) .
    علامة الوقف (لا) موضوعة على " النون " نهاية كلمة "طيبين" ترمز إلى أن الوقف على " طيبين " ممنوع .
    والسبب فى هذا المنع أن جملة " يقولون " وهى التالية لكلمة "طيبين" حال من " الملائكة " وهم فاعل " تتوفاهم " .
    أما " طيبين " فهى حال من الضمير المنصوب على المفعولية للفعل " تتوفاهم " وهو ضمير الجماعة الغائبين " هم " ولو جاز الوقف على " طيبين " لحدث فاصل زمنى بين جملة الحال " يقولون " وبين صاحب الحال " الملائكة " ولم تدع إلى هذا الفعل ضرورة بيانية .
    لذلك كان الوقف على " طيبين " ممنوعًا لئلا يؤدى إلى قطع "الحال" وهو وصف ، عن صاحبه " الملائكة " وهو الموصوف . وهذا لا يجوز بلاغة ؛ فمنع الوقف هنا كان سببه الوفاء بحق المعنى ، ومجىء الحال هنا جملة فعلية فعلها مضارع يفيد وقوع الحدث بالحال والاستقبال مراعاة لمقتضى الحال ؛ لأن الملائكة تقول هذا الكلام لمن تتوفاهم من الصالحين فى كل وقت لأن الموت لم ولن يتوقف .
    وقوله تعالى : (إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولدم له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا )(17) .
    علامة الوقف (م) موضوعة على حرف الدال من كلمة " ولد " للدلالة على لزوم الوقف على هذه الكلمة " ولد " وامتناع وصلها بما بعدها وهو : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " .
    وإنما كان الوقف ، هنا لازمًا لأن هذا الوقف سيترتب عليه صحة المعنى وليمتنع إيهام غير صحته أما وصله بما بعده فيترتب عليه إيهام فساد المعنى .
    بيان ذلك أن الوصل لو حدث لأوهم أن قوله تعالى : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " وصف ل " الولد " المنفى ، أى ليس لله ولد ، له ما فى السماوات والأرض ، وهذا لا يمنع أن يكون لله سبحانه ولد ولكن ليس له ما فى السماوات والأرض ؟! وهذا باطل قطعًا .
    أما عندما يقف القارئ على كلمة " ولد " ثم يستأنف التلاوة من " له ما فى السماوات وما فى الأرض " فيمتنع أن يكون هذا الوصف للولد المنفى ، ويتعين أن يكون لله عز وجل ، وهذا ناتج عن قطع التلاوة عند " ولد " أى بالفاصل الزمنى بين تلاوة ما قبل علامة الوقف " لا " وما بعدها حتى آخر الآية .
    فأنت ترى أن الوقف هنا يؤدى خدمة جليلة للمعنى المراد من الآية الكريمة . ومثله قوله تعالى :(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهمم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون )(18) .
    علامة الوقف (م) موضوعة فوق الميم من كلمة " همم " للدلالة على لزوم الوقف عليها ، وامتناع وصلها بما بعدها ، وهو " الذين خسروا أنفسهم " .
    وسر ذلك اللزوم ؛ أن الوصل يوهم معنى فاسدًا غير مراد ، لأنه سيترتب عليه أن يكون قوله تعالى : " الذين خسروا أنفسهم " وصفًا ل " أبناءهم " وهذا غير مراد ، بل المراد ما هو أعم من "أبناءهم" وهم الذين خسروا أنفسهم فى كل زمان ومكان . فهو حكم عام فى الذين خسروا أنفسهم ، وليس خاصّا بأبناء الذين آتاهم الله الكتاب .
    هذه هى علامات الوقف ، وتلك هى نماذج من المعانى الحكيمة التى تؤديها ، أو جاءت رامزة إليها ، وبقيت حقيقة مهمة ، لابد من الإشارة إليها .
    إن خصوم القرآن يعتبرون علامات الوقف تعديلاً أُدْخِل على القرآن ، بعد عصر النزول وعصر الخلفاء الراشدين .
    وهذا وهم كبير وقعوا فيه ، لأن هذه العلامات وغيرها ليست هى التى أوجدت المعانى التى أشرنا إلى نماذج منها ، فهذه المعانى التى يدل عليها الوقف سواء كان جائز الطرفين ، أو الوقف أولى من الوصل أو الوصل أولى من الوقف ، أو الوقف اللازم أو الوقف الممنوع . هذه المعانى من حقائق التنزيل وكانت ملحوظة منذ كان القرآن ينزل ، وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبقونها فى تلاوتهم للقرآن ، قبل أن يُدوَّن
    القرآن فى " المصحف " هذا هو الحق الذى ينبغى أن يكون معروفًا للجميع ، أما وضع هذه العلامات فى عصر التابعين فجاءت عونًا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن ، دون أن تكون بشكلها جزءا من التنزيل (19) .
    تنسيق المصحف :
    نعنى ب : تنسيق المصحف " الفواصل بين سوره ب : " بسم الله الرحمن الرحيم " وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات ، ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود فى آيات القرآن ، ثم الألقاب التى أطلقت على مقادير محددة من الآيات مثل :
    الربع الحزب الجزء . لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة أُلْحِق بعضها بسطور المصحف ، وهو ترقيم الآيات وَوُضِع بعضها تحتها ، كعلامات السجود فى أثناء التلاوة .
    أما ماعدا هذين فهى إجراءات اعتبارية عقلية ، تدل عليها عبارات موضوعة خارج إطار أو سُور الآيات .
    وليس فى هذا مطعن لطاعن ؛ لأنَّا نقول كما قلنا فى نظائره من قبل إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقرَّاء القرآن الكريم توضع خارج كلمات الوحى لا فى متونها ، وتؤدى خدمة جليلة للنص المقدس مقروءاً أو متْلُوًّا .
    ولا يدعى مسلم أنها لها قداسة النص الإلهى ، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحى الأمين .
    والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين (20) فى تَصيُّد التهم للقرآن ، ينهجون هذا النهج " التنسيقى " فى أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة فى تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنية لكل
    ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث . ولهم مهارة فائقة فى هذا المجال ، ولم نر واحدًا منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه ، كما لم نر أحدًا منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفًا أو تغييرًا للنص الذى قام هو بتحقيقه وخدمته .
    بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق . وتيسيرات مهمة للقراء .
    وهذا هو الشأن فى عمل السلف رضى الله عنهم فى تنسيق المصحف الشريف ، وهو تنسيق لا مساس له ب " قدسية الآيات " لأنها وضعت فى المصحف على الصورة التى رُسِمَتْ بها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    تاريخ القرآن (21)
    هذا هو تاريخ القرآن ، منذ نزلت أول سورة منه ، إلى آخر آية نزلت منه ، كان كتابًا محفوظا فى الصدور ، متلوًّا بالألسنة ، مسطورًا على الرقاع ، ثم مجموعًا فى مصاحف ، لم يخضع لعوامل محو وقرض، ولا آفات ضياع ، وضعته الأمة فى " أعينها " منذ نَزَلَ فلم يضل عنها أو يغب ، ولم تضل هى عنه أو تغب ، تعرف مصادره وموارده ، على مدى عمره الطويل ، تعرفه كما تعرف أبناءها ، بلا زيغ ولا اشتباه .
    هذا هو تاريخ القرآن ، وضعناه وضعًا موجزًا ، لكنه مُلِمٌّ بمعالم الرحلة ، كاشفًا عن أسرارها . وضعناه لنقول لخصوم القرآن والإسلام :
    هل فى تاريخ القرآن ما يدعو إلى الارتياب فيه ، أو نزع الثقة عنه ؟
    وهل أصاب آياته المحكمة خلل أو اضطراب ؟
    وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمة، أو الأمة غابت عنه لحظة؟
    وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه ؟ أو رأيتم فى آياته تغييرًا أو تبديلاً ؟
    تلك هى بضاعتنا عرضناها فى سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غش أو رداءة ، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء .
    هذا هو ما عندنا . فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه (22) .
    القديم (التوراة) التى بين أيدى اليهود الآن ، والجديد (الأناجيل) التى بين أيدى النصارى الآن .
    ما الذى تعرض له الكتاب المقدس فى تاريخه الأول المقابل لفترة تاريخ القرآن ، التى فرغنا من عرضها ؟
    تعالوا معنا نفحص تلك الفترة من تاريخ الكتاب المقدس فى رحلته المبكرة :
    مولد التوراة وتطورها :
    يضطرب أهل الكتاب عامة ، واليهود خاصة حول تاريخ التوراة (مولدها وتطورها) اضطرابًا واسع المدى ويختلفون حولها اختلافًا يذهبون فيه من النقيض إلى النقيض ، ولهذا عرضوا لتاريخ القرآن بالطعن والتجريح ليكون هو والتوراة سواسية فى فقد الثقة بهما ، أو على الأقل ليُحرجوا المسلمين بأنهم لا يملكون قرآنًا مصونًا من كل ما يمس قدسيته وسلامته من التحريف والتبديل . وقد عرضنا من قبل تاريخ القرآن ، وها نحن نعرض تاريخ التوراة حسبما هو فى كتابات أهل الكتاب أنفسهم ، مقارنًا بما سبق من حقائق تاريخ القرآن الأمين .
    الكتاب المقدس بعهديه : القديم والجديد تتعلق به آفتان قاتلتان منذ وجد ، وإلى هذه اللحظة التى نعيش فيها :
    آفة تتعلق بتاريخه متى ولد ، وعلى يد من ولد ، وكيف ولد ، ثم ما هو محتوى الكتاب المقدس ؟ وهل هو كلام الله ، أم كلام آخرين ؟ (23) .
    والمهم فى الموضوع أن هذا الغموض فى تاريخ الكتاب المقدس لم يثره المسلمون ، بل أعلنه أهل الكتاب أنفسهم يهودًا أو نصارى ممن اتسموا بالشجاعة ، وحرية الرأى ، والاعتراف الخالص بصعوبة المشكلات التى أحاطت بالكتاب المقدس ، مع الإشارة إلى استعصائها على الحلول ، مع بقاء اليهودية والنصرانية كما هما .ومعنى العهد عند أهل الكتاب هو " الميثاق " والعهد القديم عندهم هو ميثاق أخذه الله على اليهود فى عصر موسى عليه السلام ، والعهد الجديد ميثاق أخذه فى عصر عيسى عليه السلام(24) .
    والمشكلتان اللتان أحاطتا بالكتاب المقدس يمكن إيجازهما فى الآتى :
    - مشكلة أو أزمة تحقيق النصوص المقدسة ، التى تمثل حقيقة العهدين .
    - مشكلة أو أزمة المحتوى ، أى المعانى والأغراض التى تضمنتها كتب (أى أسفار) العهدين ، وفصولهما المسماة عندهم ب"الإصحاحات " .
    والذى يدخل معنا فى عناصر هذه الدراسة هو المشكلة أو الأزمة الأولى ؛ لأنها هى المتعلقة بتاريخ الكتاب المقدس دون الثانية .
    متى ؟ وعلى يد مَنْ ولدت التوراة :
    هذا السؤال هو المفتاح المفضى بنا إلى إيجاز ما قيل فى الإجابة .
    وهو تساؤل صعب ، ونتائجه خطيرة جدًا ، وقد تردد منذ زمن قديم . وما يزال يتردد ، وبصورة ملحة ، دون أن يظفر بجواب يحسن السكوت عليه .
    وممن أثار هذا التساؤل فى العصر الحديث وول ديورانت الأمريكى الجنسية ، المسيحى العقيدة ، وكان مما قال :
    " كيف كُتبت هذه الأسفار (يعنى التوراة) ومتى كُتبت ؟ ذلك سؤال برئ لا ضير فيه ، ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد ، ويجب أن نفرغ منه هنا فى فقرة واحدة ، نتركه بعدها من غير جواب ؟! (25) .
    فقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن خروج موسى من مصر كان فى حوالى 1210 قبل ميلاد السيد المسيح ، وأن تلميذه يوشع بن نون الذى خلفه فى بنى إسرائيل (اليهود) مات عام 1130 قبل الميلاد . ومن هذا التاريخ ظلت التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام مجهولة حتى عام 444 قبل الميلاد ، أى قرابة سبعة قرون (700سنة) فى هذا العام . (444) فقط عرف اليهود أن لهم كتابًا اسمه التوراة ؟
    ولكن كيف عرفوه بعد هذه الأزمان الطويلة ؟ وول ديورانت يضع فى الإجابة على هذا السؤال طريقتين إحداهما تنافى الأخرى .
    الطريقة الأولى :
    أن اليهود هالهم ما حل بشعبهم من كفر ، وعبادة آلهة غير الله ، وانصرافهم عن عبادة إله بنى إسرائيل " يهوه " وأن " الكاهن خلقيا " أبلغ ملك بنى إسرائيل " يوشيا " أنه وجد فى ملفات الهيكل ملفًا ضخمًا قضى فيه موسى عليه السلام فى جميع المشكلات ، فدعا الملك " يوشيا" كبار الكهنة وتلا عليهم سفر " الشريعة " المعثور عليه فى الملفات ، وأمر الشعب بطاعة ما ورد فى هذا السفر ؟
    ويعلق وول ديورانت على السفر فيقول: "لا يدرى أحد ما هو هذا السفر؟ وماذا كان مسطورًا فيه ؟ وهل هو أول مولد للتوراة فىحياة اليهود " ؟ .
    الطريقة الثانية :
    أن بنى إسرائيل بعد عودتهم من السبى البابلى شعروا أنهم فى حاجة ماسة إلى إدارة دينية تهىء لهم الوحدة القومية والنظام العام ، فشرع الكهنة فى وضع قواعد حكم دينى يعتمد على المأثور من أقوال الكهنة القدماء وعلى أوامر الله ؟
    فدعا عزرا ، وهو من كبار الكهان ، علماء اليهود للاجتماع وأخذ يقرأ عليهم هو وسبعة من الكهان سفر شريعة موسى ولما فرغوا من قراءته أقسم الكهان والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع ، ويتخذوها دستورًا لهم إلى أبد الآبدين (26) .
    هذا ما ذكره ديورانت نقلاً عن مصادر اليهود ، وكل منهما لا يصلح مصدرًا حقيقيًا للتوراة التى أنزلها الله على موسى ؛ لأن الرواية الأولى لا تفيد أكثر من نسبة الملف الذى عثر عليه " خلقيا " إلى أقوال موسى وأحكامه فى القضاء بين الخصوم .
    ولأن الرواية الثانية تنسب صراحة أن النظام الذى وضعه الكهان ، بعد قراءتهم السفر كان خليطًا من أقوال كهانهم القدماء ، ومن أوامر الله ؟!
    المراجع
    (1) العاديات : 1-11 .
    (2) سورة " والعاديات " من قصار السور التى قد بدأ بها الوحى فى مكة ، قبل الهجرة ، ويرى بعض الباحثين أن القرآن بدأ بهذه السور ذات الطبيعة الغنائية فى مكة ، لجذب أهل مكة إليه عن طريق السمع أولاً ، ثم لتدبر معانيه ثانيًا.
    (3) انظر تفسير سورة " والعاديات " فى أى تفسير شئت من التفاسير المتداولة : الكشاف روح المعانى التفسير الواضح للدكتور حجازى ، أو فى غيرها .
    (4) ينظر : البرهان فى علوم القرآن للإمام الزركشى (1/241) وما بعدها .
    (5) هو مصحف فرد لا متعدد ، فلم يكن متداولاً بين أيدى المسلمين ، لأن حفظ القرآن فى الصدور كان هو المرجع .
    (6) انظر : جمع القرآن فى خلافة عثمان فى " البرهان فى علوم القرآن للإمام الزركشى والاتقان فى علوم القرآن" للإمام جلال الدين السيوطى
    (7) لأن القرآن لو كان جمع فى مصحف من أول الأمر ، لاتكل الناس على المصحف المكتوب ، وقل اهتمامهم بحفظه .
    (8) سيأتى حديث مفصل عما تعرض له الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد من أوضاع وآفات شديدة الخطورة .
    (9) البقرة : 265 .
    (10) المقنع لأبى عمرو الدانى ص 129 تحقيق محمد الصادق قمحاوى .
    (11) الأنعام : 17 .
    (12) الكهف : 22 .
    (13) التفريع هو تولد كلام من كلام آخر ، وتأتى الفاء دليلاً على هذا التفريع كما فى الآية الكريمة .
    (14) الكلام كله قسمان : خبر ، وإنشاء ، فكل كلام أخبرت فيه غيرك بأمر قد حدث قبل زمن التكلم أو بعده مثل : حضر فلان أمس ، أو سيحضر غدًا هو كلام خبرى ، أما إذا طلبت شيئًا لم يكن حاصلاً فى زمن التكلم مثل : أطع والديك فهو كلام إنشائى .
    (15) الكهف : 17 .
    (16) النحل : 32
    (17) النساء : 171 .
    (18) الأنعام : 20 .
    (19) هى مثل علامات الإعراب كالفتحة والضمة والكسرة والسكون . لم تُوجد هى أحكام الإعراب ، وإنما هى مجرد رموز دالة عليها .
    (20) المبشرون هم الذين يريدون فتنة عامة الناس بما يكتبونه عن الإسلام ، وهم أساتذة المستشرقين . أما المستشرقون فيقصدون فتنة المثقفين والطبقات العليا ، ويصورون الإسلام فى غير صورته إلا قليلاً منهم تجدهم منصفين للإسلام .
    (21) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
    (22) اليهود يؤمنون بالعهد القديم وحده ، ويكفرون بالعهد الجديد (الأناجيل) أما النصارى فيعتبرون العهد القديم شطرًا من الكتاب المقدس ، ويؤمنون بالعهدين معًا .
    (23) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
    (24) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجودًا ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
    (25) قصة الحضارة (ج2 ص : 367) ترجمة محمد بدران .
    (26) قصة الحضارة (ج2 ص356) .


    2- تعدد مصاحف القرآن
    يقولون: لم تعددت المصاحف ؛ أليس فى ذلك دليل على الإختلاف المؤذن بالتحريف ؟
    الرد علىالشبهة: وهى وثيقة الصلة بالشبهة السابقة ونقول لهم:
    التعدد الذى عندنا:
    بدأ جمع القرآن فى " المصحف " فى عهد أبى بكر رضى الله عنه وكان هذا جمعًا لما كتب فى حضرة رسول الله كما تقدم.
    ثم كان نسخ ما جُمع فى عهد أبى بكر فى مصاحف أربعة أو سبعة فى عهد عثمان رضى الله عنه ، فالجمع الأول كان بمعنى ضم الوثائق الخطية فى حياة النبى وترتيب سورها سورة بعد أخرى ، دون إعادة كتابتها من جديد.
    وكان الجمع الثانى هو إعادة كتابة الوثائق النبوية فى مصحف نقلاً أمينًا لها دون أن يمسها أدنى تغيير أو تبديل.
    ومن " المصحف الإمام " الذى تم نسخه من الوثائق النبوية مطابقًا لها ، ثم نسخ مصاحف أربعة ، أو سبعة وزعت على الأمصار الإسلامية فى ذلك الوقت.
    الحجاز البصرة الكوفة الشام. وهذه المصاحف كانت أشبه ما تكون بالصورة الضوئية للوثائق الحديثة عندما يتم تصويرها فيتوغرافيًّا ، شديدة الوضوح. ووجه الشبه هو التطابق التام بين المصحف " الأم " والمصاحف التى نسخت منه ، وأصل هذه المصاحف كلها هو " الوثائق الخطية النبوية ".
    هذا لون من ألوان تعدد المصحف عندنا ، وهو أول تعدد ظهر فى تاريخ القرآن. لكنه تعدد أوراق لا تعدد كلام ؛ فالكلام الذى كُتِبَ فى جميع المصاحف كلام واحد ، مثل الكتاب الذى تُطبع منه مئات النسخ أو آلافها ، فإن كل نسخة منه تكرار حرفى للنسخ الأخرى.
    أما اللون الثانى من تعدد المصاحف عندنا فهو مصاحف الأفرادالتى كتبت بعد جمع القرآن لأول مرة فى عهد أبى بكر ، أو كتبت قبله ، قيل:إن عثمان جمع هذه المصاحف وحرقها. وقيل إنه لم يحرقها بل استبعد غير الصحيح منها. ومنها مصحف ابن مسعود لخلاف غير كبير بينه وبين المصحف الإمام.
    ثم تعددت نسخ المصحف بعد ذلك ، باتساع الأقطار الإسلامية ، ومع هذا التعدد فإن النصوص الموحى بها من الله عز وجل واحدة فى جميع المصاحف فى العالم الإسلامى كله.
    أما ما استحدث من إضافات فهى إجراءات خارجية لا صلة لها بالنصوص المنزلة. وكل المصاحف كانت تكراراً لمصحف عثمان ، الذى جمع عليه الأمة ، وأعدم أو استبعد ما عداه من مصاحف الأفراد ، لأن العمل الفردى عرضة للخطأ والسهو أو النسيان.
    " وإذا كان إعدام هذه المخطوطات الفردية يبدو فيه شىء من القسوة فى الوقت الذى لم يوجد فيه بالفعل أى تحريف على الإطلاق ، فإنه يدل مع ذلك على أن عثمان كان بعيد النظر ، وعميقًا فى إدراك حقيقة الأمور ، ويرجع فضل تمتع المسلمين اليوم بوحدة كتابهم واستقراره إلى هذا العمل المجيد من جانب عثمان.
    ومهما أضيف إلى المصحف العثمانى من علامات خارجية ابتكرها أبو الأسود الدؤلى وأتباعه ، ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ، والحسن البصرى ، والخليل بن أحمد فإن النص (الإلهى) باق كما هو على الدوام ، يتحدى فعل الزمن ، ووجود بعض الحروف الزائدة (لحكمة) أو الكلمات المدغمة التى اقتصرت على كتابة المصحف فى جميع نسخ القرآن إلى اليوم ، المطبوع منها والمخطوط ، يُعد شهادة بليغة على الأمانة التى انتقل بها البناء القرآنى من جيل إلى جيل ، حتى وصل إلينا بهذا الكمال المنقطع النظير (1).
    فإن قالوا: إن بعض المصاحف تختلف فى عدد سور القرآن من أربع عشرة ومائة سورة ، إلى اثنتى عشرة ومائة سورة ، إلى ست عشرة ومائة سورة (2).
    وكذلك تختلف المصاحف فى عدِّ آيات القرآن كله ، وفى كلماته وعدد حروفه. فكيف تقولون إن تعدد المصاحف عندكم كائن على صورة واحدة. وإن كل مصحف تكرار لما عداه من مصاحف ؟
    إن قالوا هذا قلنا لهم ، إن الاختلاف فى هذه الأعداد كلها لا يخرج " المصاحف " عن الوحدة والتطابق التام بينها ؛ لأن النصوص الموحى بها من الله عز وجل إلى خاتم رسله واحدة فى جميع المصاحف ، فمثلاً من قال إن عدد سور القرآن ثلاث عشرة ومائة سورة اعتبر سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة ؛ لإنهما لم يفصل بينهما ب " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وكذلك الاختلاف فى عدد آيات القرآن الكريم مرجعه جَعْل آيتين آية واحدة ، وهكذا. وسواء عدت الآيتان آية واحدة ، أو عدتا آيتين فنصهما موجود فى المصحف الشريف. والاختلاف فى العدد لا مساس فيه بالمعدود ، وهو النصوص التى نزل بها الوحى الأمين. فالنصوص مسطورة فى المصحف ، أما تعدادها فأمر اعتبارى خارج عنها ، ووصف عارض طارئ عليها. فالإصابة والخطأ فيه لا ينعكس بأى حال على حقيقة النصوص المذكورة
    فى المصحف وإن قالوا: إن الشيعة يقولون إن عثمان رضى الله عنه حذف من القرآن شيئًا يتعلق بعلى بن أبى طالب رضى الله عنه ، وبعضهم يذكر سورة باسم " سورة النورين " كانت مما نزل فى القرآن واستبعدها عثمان عند جمع المصحف. وهذا يُعد تعديلاً فى النصوص الموحى بها فكيف تقولون إن القرآن لم يمس ، وإن المصاحف متطابقة تمامًا ؟.
    إن قالوا ذلك وهم قد قالوه فعلاً فإننا نقول لهم: إن كان هذا القول قد حدث من بعض الشيعة فالشيعة كان منهم غلاة دخلاء على التشيع ، وقد انقرضوا من الوجود الآن.
    ومما يدفع هذه الفرية عن عثمان رضى الله عنه ، أن التشيع فى خلافته كان خافتًا ، بل وفى دور النشأة ، وعلى يد عبد الله بن سبأ ، الذى كان المسلمون يطلقون عليه: ابن السوداء وهو يهودى حاقد على الإسلام. ومولد التشيع كان بعد حادثة التحكيم بين علىّ رضى الله عنه ومعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه.
    ومعنى هذا أن الحاجة إلى غمط حق علىّ رضى الله عنه لم يكن لها وجود فى خلافة عثمان. فما الذى يحمل عثمان إذن على غمط حقه وهب أن ذلك حدث منه فهل كان حُفاظ القرآن من الصحابة سيتركونه يعبث بكتاب الله ، والأهم من هذا أن عليًا نفسه رضى الله عنه أثنى على ما قام به عثمان من جمع القرآن ، وكذلك كل أصحاب رسول الله الذين كانوا أحياء فى خلافة عثمان (3).
    ومهما يكن من أمر ، فإن هذا المصحف (العثمانى) هو الوحيد المتداول فى العالم الإسلامى بما فيه من فرق الشيعة ، منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان ، ونذكر هنا رأى الشيعة الإمامية (أهم فرق الشيعة) كما ورد بكتاب أبى جعفر " الأم ":
    إن اعتقادنا فى جملة القرآن ، الذى أوحى الله تعالى به إلى نبيه محمد هو كل ما تحويه دفتا المصحف المتداول بين الناس لا أكثر، وعدد السور المتعارف عليه بين المسلمين هو 114 سورة. أما عندنا " أى الشيعة " فسورة الضحى والشرح تكونان سورة واحدة ، وكذلك سورتا الفيل وقريش ، وأيضًا سورتا الأنفال والتوبة.
    أما من ينسب إلينا أن القرآن أكثر من ذلك فهو كاذب (4).
    فماذا يقول خصوم القرآن بعد هذا البيان ؟
    إن الاختلاف بين مصاحف السنة والشيعة هو فى تعداد السور فحسب ، يدمج بعض السور فى بعض عند الشيعة ، مع اعتماد كل النصوص الموحى بها فى مصاحف الفريقين. وهذا لا يضير فى قضية الإيمان ، ولا فى وحدة المصحف فى العالم الإسلامى.
    المراجع
    (1) مدخل إلى القرآن الكريم (50-51) د. محمد عبد الله دراز.
    (2) انظر: البرهان فى علوم القرآن (1/249) مرجع سبق ذكره.
    (3) انظر: مدخل إلى القرآن الكريم (36) مرجع سبق ذكره.
    (4) مدخل إلى القرآن الكريم (39) مرجع سبق ذكره.



    3- تعدد قراءات القرآن
    مقدمة: تعدد القراءات ألا يدل على الاختلاف فيه ، وهو نوع من التحريف ؟
    القراءات: جمع قراءة ، وقراءات القرآن مصطلح خاص لا يراد به المعنى اللغوى المطلق ، الذى يفهم من اطلاع أى قارئ على أى مكتوب ، بل لها فى علوم القرآن معنى خاص من إضافة كلمة قراءة أو قراءات للقرآن الكريم، فإضافة " قراءة " أو "قراءات " إلى القرآن تخصص معنى القراءة أو القراءات من ذلك المعنى اللغوى العام ، فالمعنى اللغوى العام يطلق ويراد منه قراءة أى مكتوب ، سواء كان صحيفة أو كتابًا ، أو حتى القرآن نفسه إذا قرأه قارئ من المصحف أو تلاه بلسانه من ذاكرته الحافظة لما يقرؤه من القرآن ومنه قول الفقهاء:
    القراءة فى الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء تكون جهرًا ، فإن أسرَّ فيهما المصلى فقد ترك سُنة من سنن الصلاة ، ويسجد لهما سجود السهو إن أسر ساهيًا. فقراءة القرآن هنا معنى لغوى عام ، لا ينطبق عليه ما نحن فيه الآن من مصطلح: قراءات القرآن. وقد وضع العلماء تعريفًا للقراءات القرآنية يحدد المراد منها تحديدًا دقيقًا. فقالوا فى تعريفها:
    " اختلاف ألفاظ الوحى فى الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما (البرهان فى علوم القرآن (1/318)).
    وقد عرفها بعض العلماء فقال:
    " القراءات: هى النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبى صلى الله عليه وسلم .." (القراءات القرآنية تاريخ وتعريف).
    ومما تجب ملاحظته أن القراءات القرآنية وحى من عند الله عزَّ وجل ، فهى إذن قرآنٌ ، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
    قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنْفُسِكُمْ )(1). هذه قراءة حفص عن عاصم ، أو القراءة العامة التى كُتب المصحف فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه عليها ، والشاهد فى الآية كلمة "أنفُسِكُم" بضم الفاء وكسر السين ، وهى جمع: " نَفْس " بسكون الفاء ، ومعناها: لقد جاءكم رسول ليس غريبًا عليكم تعرفونه كما تعرفون أنفسكم لأنه منكم نسبًا ومولدًا ونشأة ، وبيئة ، ولغة.
    وقرأ غير عاصم: " لقد جاءكم رسول من أَنْفَسِكُمْ " بفتح الفاء وكسر السين ، ومعناها: لقد جاءكم رسول من أزكاكم وأطهركم.
    و" أنْفَس " هنا أفعل تفضيل من النفاسة. فكلمة " أنفسكم " كما ترى قرئت على وجهين من حيث النطق. وهذا هو معنى القراءة والقراءات القرآنية.
    مع ملاحظة مهمة ينبغى أن نستحضرها فى أذهاننا ونحن نتصدى فيما يأتى للرد على الشبهة التى سيوردها خصوم القرآن من مدخل: تعدد قراءات القرآن أن هذه القراءات لا تشمل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات فى الآية دون كلمات الآية الأخرى ، وقد رأينا فى الآية السابقة أن كلمات الآية لم تشملها القراءات ، بل كانت فى كلمة واحدة هى " أنفسكم ".
    وهذا هو شأن القراءات فى جميع القرآن ، كما ينبغى أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من الآيات خلت من تعدد القراءات خلوًّا تامًّا.
    ومثال آخر ، قوله تعالى:
    " مالك يوم الدين " والشاهد فى الآية كلمة " مالك " ، وفيها قراءتان:
    " مالك " اسم فاعل من " مَلِكَ " وهى قراءة حفص وآخرين. " مَلِك " صفة لاسم فاعل ، وهى قراءة: نافع وآخرين.
    ومعنى الأولى " مالك " القاضى المتصرف فى شئون يوم الدين، وهو يوم القيامة.
    أما معنى " مَلِك " فهو أعم من معنى " مالك " أى من بيده الأمر والنهى ومقاليد كل شىء. ما ظهر منها وما خفى.
    وكلا المعنيين لائق بالله تعالى ، وهما مدح لله عز وجل.
    ولما كانت هذه الكلمة تحتمل القراءتين كتبت فى الرسم هكذا "ملك " بحذف الألف بعد حرف الميم ، مع وضع شرطة صغيرة رأسية بين الميم واللام ، ليصلح رسمها للنطق بالقراءتين.
    ومثال ثالث هو قوله تعالى:
    (يوم يُكشف عن ساق )(2).
    والشاهد فى الآية كلمة " يُكشَف " وفيها قراءتان الأولى قراءة جمهور القراء ، وهى " يُكشف " بضم الياء وسكون الكاف ، وفتح الشين. بالبناء للمفعول ، والثانية قراءة ابن عباس " تَكْشِفُ " بفتح التاء وسكون الكاف ، وكسر الشين ، بالبناء للفاعل ، وهو الساعة ، أى يوم تكشف الساعة عن سياق. قرأها بالتاء ، والبناء للمعلوم ، وقرأها الجمهور بالياء والبناء للمجهول.
    والعبارة كناية عن الشدة ، كما قال الشاعر:
    كشفت لهم ساقها * * * وبدا من الشر البراح (3).
    هذه نماذج سقناها من القراءات القرآنية تمهيدًا لذكر الحقائق الآتية:
    - إن القراءات القرآنية وحى من عند الله عز وجل.
    - إنها لا تدخل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات محصورة وردت فيها ، وقد أحصاها العلماء وبينوا وجوه القراءات فيها.
    - إن الكلمة التى تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه.
    - إن القراءات القرآنية لا تؤدى إلى خلل فى آيات الكتاب العزيز ، وكلام الله الذى أنزله على خاتم رسله عليهم الصلاة والسلام.
    ومع هذا فإن خصوم الإسلام يتخذون من تعدد قراءات بعض كلمات القرآن وسيلة للطعن فيه ، ويرون أن هذه القراءات ما هى إلا تحريفات لحقت بالقرآن بعد العصر النبوى.
    وكأنهم يريدون أن يقولوا للمسلمين ، إنكم تتهمون الكتاب المقدس بعهديه (التوراة والإنجيل) بالتحريف والتغيير والتبديل ، وكتابكم المقدس (القرآن) حافل بالتحريفات والتغييرات والتبديلات ، التى تسمونها قراءات ؟
    وهذا ما قالوه فعلاً ، وأثاروا حوله لغطًا كثيرًا ، وبخاصة جيش المبشرين والمستشرقين ، الذين تحالفوا إلا قليلاً منهم على تشويه حقائق الإسلام ، وفى مقدمتها القرآن الكريم.
    ونكتفى بما أثاره واحد منهم قبل الرد على هذه الشبهة التى يطنطنون حولها كثيرًا ، ذلكم الواحد هو المستشرق اليهودى المجرى المسمى: " جولد زيهر " الحقود على الإسلام وكل ما يتصل به من قيم ومبادئ.
    إن هذا الرجل لهو أشد خطرًا من القس زويمر زعيم جيش المبشرين الحاقدين على الإسلام فى عهد الاحتلال الإنجليزى للهند ومصر.
    أوهام جولد زيهر حول القراءات القرآنية:
    المحاولة التى قام بها جولد زيهر هى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، نزل به الروح الأمين إلى كونها تخيلات توهمها علماء المسلمين ، وساعدهم على تجسيد هذا التوهم طبيعة الخط العربى ؛ لأنه كان فى الفترة التى ظهرت فيها القراءات غير منقوط ولا مشكول ، وهذا ساعد على نطق الياء ثاء فى مثل " تقولون " أو " تفعلون " ! فمنهم من قرأ بالتاء " تقولون " ومنهم من قرأ بالياء " يقولون ".
    هذا من حيث النقط وجودًا وعدمًا ، أما من حيث الشكل أى ضبط الحروف بالفتح أو الضم مثلاً ، وأرجع إلى هذا السبب قوله تعالى: (وهو الذى أرسل الرياح بُشرًا..)(4).
    فقد قرأ عاصم: " بُشرا " بضم الباء وقرأها الكسائى وحمزة: " نَشْرا " بالنون المفتوحة بدلاً من الباء المضمومة عند عاصم.
    وقرأ الباقون: " نُشُرا " بالنون المضمومة والشين المضمومة ، بينما كانت الشين فى القراءات الأخرى ساكنة (5).
    وفى هذا يقول جولد زيهر نقلاً عن الترجمة العربية لكتابه الذى ذكر فيه هذا الكلام (6):
    " والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربى ، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها ، كما أن عدم وجود الحركات النحوية ، وفقدان الشكل (أى الحركات) فى الخط العربى يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب. فهذه التكميلات للرسم الكتابى ثم هذه الاختلافات فى الحركات والشكل ، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات ، فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن ".
    إن المتأمل فى هذا الكلام ، الذى نقلناه عن جولد زيهر ، يدرك أن الرجل يريد أن يقول فى دهاء وخبث. إن هذه القراءات تحريفات معترف بها لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم ، وأن النصوص الإلهية المنزلة على رسولهم أصابها بعض الضياع إنه لم يقل صراحة بالتحريف وإنما وضع المبررات لوجود التحريف فى القرآن الحكيم.
    ثم أخذ بعد ذلك يورد أمثلة من القراءات وينسبها إلى السببين اللذين تقدم ذكرهما ، وهما:
    - تجرد المصحف من النقط فى أول عهده.
    - تجرد كلماته من ضبط الحروف.
    فإلى السبب الأول نسب قوله تعالى:
    (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون)(7).
    والشاهد فى كلمة " تستكبرون " وهى قراءة الجمهور. وقد قارنها جولد زيهر بقراءة شاذة " تستكثرون " بإبدال الباء ثاء ، يريد أن يقول: إن الكلمة كانت فى الأصل " يستكبرون " غير منقوطة الحروف الأول والثالث والخامس فاختُلِف فى قراءتها:
    فمنهم من قرأ الخامس " باء " والأول تاء فنطق: تستكبرون ، ومنهم من قرأ الخامس " ثاء " فنطق " تستكثرون.
    هذا هو سبب هاتين القراءتين عنده.
    وكذلك قوله تعالى:(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه..)(8).
    والشاهد فى كلمة " إياه " ضمير نصب منفصل للمفرد الغائب الذكر.
    ثم قارنها بقراءة شاذة لحماد الراوية هكذا " أباه " بإبدال الياء من " أباه " باء " أباه " أى وعدها إبراهيم عليه السلام أباه ؟ (9).
    أما اختلاف القراءات للسبب الثانى ، وهو تجرد كلمات المصحف عن الضبط بالحركات ، فمن أمثلته عنده قوله تعالى:
    (ومَنْ عِنْدَهُ علم الكتاب )(10).
    وقارن بين قراءاتها الثلاث: " مَنْ عنْدَهُ " " مِنْ عِنْدِه " "مَنْ عِنْدِهِ " ؟ !
    هذا هو منهجه فى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، إلى كونها أوهامًا كان سببها نقص الخط العربى الذى كتب به المصحف أولاً عن تحقيق الألفاظ من حيث حروفها ومن حيث كيفية النطق بها. واقتفى أثره كثير من المبشرين والمستشرقين.
    الرد على الشبهة:
    لقد حظى كتاب الله العزيز بعناية منقطعة النظير ، فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، وبعد وفاته. ومن الحقائق الراسخة رسوخ الجبال أن طريق تَلَقِّى القرآن كان هو السماع الصوتى.
    - سماع صوتى من جبريل لمحمد عليهما السلام.
    - وسماع صوتى من الرسول إلى كتبة الوحى أولاً وإلى المسلمين عامة.
    - وسماع صوتى من كتبة الوحى إلى الذين سمعوه منهم من عامة المسلمين.
    - وسماع صوتى حتى الآن من حفظة القرآن المتقنين إلى من يتعلمونه منهم من أفراد المسلمين.
    هذا هو الأصل منذ بدأ القرآن ينزل إلى هذه اللحظة وإلى يوم الدين ، فى تلقى القرآن من مرسِل إلى مستِبل.
    وليست كتابة القرآن فى مصاحف هى الأصل ، ولن تكون. القرآن يجب أن يُسمع بوعى قبل أن يقرأ من المصحف ، ولا يزال متعلم القرآن فى أشد الحاجة إلى سماع القرآن من شيوخ حافظين متقنين ، وفى القرآن عبارات أو كلمات مستحيل أن يتوصل أحد إلى نطقها الصحيح عن مجرد القراءة فى المصحف ، ولو ظل يتعلمها وحده أيامًا وأشهرا.
    وبهذا تهوى الأفكار التى أرجع إليها جولد زيهر نشأة القراءات إلى الحضيض ، ولا يكون لها أى وزن فى البحث العلمى المقبول ؛ لأن المسلمين من جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان لم يتعلموا القرآن عن طريق الخط العربى من القراءة فى المصاحف ، وإنما تعلموه سماعًا واعيًا ملفوظًا كما خرج من فم محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قيض الله لكتابه شيوخًا أجلاء حفظوه وتلوه غضّا طريّا كما كان صاحب الرسالة يحفظه ويتلوه كما سمعه من جبريل أمين الوحى.
    أجل.. كان سيكون لأفكار جولد زيهر وجه من الاحتمال لو كان المسلمون يأخذون القراءة قراءة من مصاحف. أما وقد علمنا أن طريق تلقى القرآن هو السماع الموثق ، فإن أفكار جولد زيهر تذهب هباء فى يوم ريح عاصف.
    ثانيًا: إن القراءات الصحيحة مسموعة من جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسموعة من محمد صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحى ، ومسموعة من محمد ومن كتبة الوحى لعموم المسلمين فى صدر الإسلام الأول ، ثم شيوخ القرآن فى تعاقب الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
    لقد سمع المسلمون من محمد المعصوم عن الخطأ فى التبليغ " فتبينوا " و " فتثبتوا " فى قوله تعالى:
    (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا )(11) بالباء والياء والنون.
    وسمعوها منه " فتثبتوا " بالتاء والثاء والباء والتاء وكلا القراءتين قرآن موحى به من عند الله. وليس كما توهم جولد زيهر، إنهما قراءتان ناشئتان عن الاضطراب الحاصل من خلو كلمات المصحف من النقط والشكل فى أول أمره ؟.
    والقراءتان ، وإن اختلف لفظاهما ، فإن بين معنييهما علاقة وثيقة ، كعلاقة ضوء الشمس بقرصها: لأن التبين ، وهو المصدر المتصيد من " فتبينوا " هى التفحص والتعقب فى الخبر الذى يذيعه الفاسق بين الناس ، وهذا البَين هو الطريق الموصل للتثبت. فالتثبت هو ثمرة التبين. ومن تبيَّن فقد تثبت. ومن تثبت فقد تبين.
    فما أروع هذه القراءات ، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، إن قراءات القرآن لهى وجه شديد الإشراق من وجوه إعجاز القرآن ، وإن كره الحاقدون.
    وكما سمع المسلمون من فم محمد ، الذى لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فى الآية السابقة: " فتبينوا " و " فتثبتوا " سمعوا منه كذلك ، " يُفَصِّل " و " نُفصِّلُ " فى قوله تعالى:
    (ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون )(12).
    و " نفصل الآيات "
    وفاعل الفصل فى القراءتين واحد هو الله عز وجل:
    وقد اختلف التعبير عن الفاعل فى القراءتين ، فهو فى القراءة الأولى " يفَصِّل " ضمير مستتر عائد على الله عز وجل فى قوله:
    (ما خلق الله ذلك إلا بالحق)أى يفصل هو الآيات. فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد " الله ".
    وفى القراءة الثانية عُبِّر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم "نُفَصِّل" أى نفصل نحن.
    والله واحد أحد ، ولكن النون فى " نفصل " لها معنى فى اللغة العربية هو التعظيم إذا كان المراد منها فردًا لا جماعة. ووجه التعظيم بلاغةً تنزيل الفرد منزلة " الجماعة " تعظيمًا لشأنه ، وإجلالاً لقدره.
    وفى هاتين القراءتين تكثير للمعنى ، وهو وصف ملازم لكل القراءات.
    وللبلاغيين إضافة حسنة فى قراءة " نفصل " بعد قوله: " ما خلق الله.. " هى الانتقال من الغيبة فى " ما خلق الله " إلى المتكلم فى " نفصل " للإشعار بعظمة التفصيل وروعته.
    وبعد: إن إرجاع القراءات القرآنية لطبيعة الخط العربى الذى كان فى أول أمره خاليًا من النقط والشكل ، كما توهم " جولد زيهر " ومن بعده " آثر جيفرى " فى المقدمة التى كتبها لكتاب المصاحف ، لأبى داود السجستانى ، وتابعهما المستشرق " جان بيرك " ، إن هذه النظرية مجرد وَهْم سانده جهل هؤلاء الأدعياء على الفكر الإسلامى، مبدؤه ومنتهاه الحقد على الإسلام والتطاول على القرآن ، لحاجات فى نفوسهم .
    وقد قدمنا فى إيجاز ما أبطل هذه الأوهام ، وبقى علينا فى الرد على هذه الشبهة أن نذكر فى إيجاز كذلك جهود علمائنا فى تمحيص القراءات ، وكيف وضعوا الضوابط الدقيقة لمعرفة القراءات الصحيحة ، من غيرها مما كان شائعًا وقت جمع القرآن فى عهد عثمان بن عفان " رضى الله عنه ".
    تمحيص القراءات:
    وضع العلماء الأقدمون ضوابط محكمة للقراءات الصحيحة التى هى وحى من عند الله. وتلك الضوابط هى:
    1- صحة السند ، الذى يؤكد سماع القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    2- موافقة القراءة لرسم المصحف الشريف ، الذى أجمعت عليه الأمة فى خلافة عثمان رضى الله عنه مع ملاحظة أن الصحابة الذين نسخوا القرآن فى المصحف من الوثائق النبوية فى خلافة عثمان ، نقلوه كما هو مكتوب فى الوثائق النبوية بلا تغيير أو تبديل. ورسم المصحف الذى بين أيدينا الآن سنة نبوية ؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أقر تلك الوثيقة ، واحتفظ بها فى بيته حتى آخر يوم فى حياته الطيبة.
    ولذلك أجمع أئمة المذاهب الفقهية على تحريم كتابة المصحف فى أى زمن من الأزمان ، على غير الرسم المعروف بالرسم العثمانى للمصحف الشريف. ونقل هذا الإجماع عنهم كثير من علماء تاريخ القرآن (13).
    3- أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه تراكيب اللغة العربية ؛ لأن الله أنزل كتابه باللسان العربى المبين.
    4- أن يكون معنى القراءة غير خارج عن قيم الإسلام ومقاصده ، الأصول والفروع.
    فإذا تخلف شرط من هذه الشروط فلا تكون القراءة مقبولة ولا يعتد بها.
    وعملاً بهذه الضوابط تميزت القراءات الصحيحة من القراءات غير الصحيحة ، أو ما يسمى بالقراءات الشاذة ، أو الباطلة.
    ولم يكتف علماؤنا بهذا ، بل وضعوا مصنفات عديدة حصروا فيها القراءات الصحيحة ، ووجهوها كلها من حيث اللغة ، ومن حيث المعنى.
    كما جمع العلامة ابن جنى القراءات الشاذة ، حاصرًا لها ، واجتهد أن يقومها تقويمًا أفرغ ما ملك من طاقاته فيها ، وأخرجها فى جزءين كبيرين.
    أما ذو النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه ، حين أمر بنسخ الوثائق النبوية فى المصاحف ، فقد أراد منه هدفين ، ننقل للقارئ الكريم كلامًا طيبًا للمرحوم الدكتور/ محمد عبد الله دراز فى بيانهما:
    " وفى رأينا أن نشر المصحف بعناية عثمان كان يستهدف أمرين:
    أولهما: إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة ، التى كانت تدخل فى إطار النص المدون يعنى المصحف ولها أصل نبوى مجمع عليه ، وحمايتها فيه منعًا لوقوع أى شجار بين المسلمين بشأنها ، لأن عثمان كان يعتبر التمارى (أى الجدال) فى القرآن نوعًا من الكفر.
    ثانيهما: استبعاد ما لا يتطابق تطابقًا مطلقًا مع النص الأصلى (الوثائق النبوية) وقاية للمسلمين من الوقوع فى انشقاق خطير فيما بينهم ، وحماية للنص ذاته من أى تحريف ، نتيجة إدخال بعض العبارات المختلف عليها نوعًا ما ، أو أى شروح يكون الأفراد قد أضافوها إلى مصاحفهم " (14).
    هذه هى عناية المسلمين من الرعيل الأول بالقرآن الكريم وتعدد قراءاته ، وحماية كتاب الله من كل دخيل على نصوص الوحى الإلهى.
    هذا ، وإذا كان جولد زيهر ، وآثر جيفرى المبشر الإنجليزى ، وجان بيرك قد أجهدوا أنفسهم فى أن يتخذوا من قراءات القرآن منفذًا للانقضاض عليه ، والتشكيك فيه ، فإن غيرهم من المستشرقين شهدوا للقرآن بالحق ، ونختم ردنا على هذه الشبهة بمستشرق نزيه ، أثنى على القرآن وقال إنه النص الالهى الوحيد ، الذى سلم من كل تحريف وتبديل ، لا فى جمعه ، و فى تعدد مصاحفه ، ولا فى تعدد قراءاته. قال المستشرق لوبلوا: [ إن القرآن هو اليوم الكتاب الربانى الوحيد ، الذى ليس فيه أى تغيير يذكر ]. ومن قبله قال مستشرق آخر (د. موير) كلاما طيباً فى الثناء على القرآن ، وهو: [ إن المصحف الذى جمعه عثمان ، قد تواتر انتقاله من يد ليد ، حتى وصل إلينا بدون أى تحريف ، ولقد حفظ بعناية شديدة ، بحيث لم يطرأ عليه أى تغيير يذكر ، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أى تغييرعلى الإطلاق فى النسخ التى لا حصر لها ، المتداولة فى البلاد الإسلامية الواسعة ، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية
    المتنازعة وهذا الاستعمال الإجماعى لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم حجة ودليل على صحة النص المُنزل، الموجود معنا والذى يرجع إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه الذى مات مقتولا(15).
    المراجع
    (1) التوبة: 128.
    (2) القلم: 42.
    (3) معانى القرآن للقراء (3/177).
    (4) الفرقان: 48.
    (5) انظر: رسم المصحف (29) للدكتور / عبد الفتاح شلبى ، مكتبة وهبة.
    (6) المذاهب الإسلامية (ص4) ، ترجمة د. محمد يوسف موسى.
    (7) الأعراف: 48.
    (8) التوبة: 114.
    (9) رسم المصحف (30) ، مرجع سبق ذكره.
    (10) الرعد: 43.
    (11) الحجرات: 6.
    (12) يونس: 5.
    (13) ينظر: البرهان فى علوم القرآن ، مرجع سبق ذكره.
    (14) " مدخل إلى القرآن الكريم " (ص43) مرجع سبق ذكره.
    (15) حياة محمد : تأليف w.MUIR نقلا عن (مدخل إلى القرآن الكريم).


    4- الكلام الأعجمى
    جاء فى سورة الشعراء:(نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين) (1). وجاء فى سورة الزمر:(قرآنا عربياً غير ذى عوج ) (2). وجاء فى سورة الدخان: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) (3). وجاء فى سورة النحل: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين) (4).
    ونحن نسأل: " كيف يكون القرآن عربيًّا مبينًا ، وبه كلمات أعجمية كثيرة ، من فارسية ، وآشورية ، وسريانية ، وعبرية ، ويونانية ، ومصرية ، وحبشية ، وغيرها ؟ ".
    هذا نص الشبهة الواردة فى هذا الصدد ، وتأكيدا لهذه الشبهة ذكروا الكلمات الأعجمية حسب زعمهم التى وردت فى القرآن الكريم وهى:
    آدم أباريق إبراهيم أرائك استبرق إنجيل تابوت توراة جهنم حبر حور زكاة زنجبيل سبت سجيل سرادق سكينة سورة صراط طاغوت عدن فرعون فردوس ماعون مشكاة مقاليد ماروت هاروت الله.
    الرد علىالشبهة:
    هذه هى شبهتهم الواهية ، التى بنوا عليها دعوى ضخمة ، ولكنها جوفاء ، وهى نفى أن يكون القرآن عربيًّا مثلهم كمثل الذى يهم أن يعبر أحد المحيطات على قارب من بوص ، لا يلبث أن تتقاذفه الأمواج ، فإذا هو غارق لا محالة.
    ولن نطيل الوقوف أمام هذه الشبهة ، لأنها منهارة من أساسها بآفة الوهن الذى بنيت عليه. ونكتفى فى الرد عليها بالآتى:
    - إن وجود مفردات غير عربية الأصل فى القرآن أمر أقر به علماء المسلمين قديماً وحديثاً. ومن أنكره منهم مثل الإمام الشافعى كان لإنكاره وجه مقبول سنذكره فيما يأتى إن شاء الله.
    - ونحن من اليسير علينا أن نذكر كلمات أخرى وردت فى القرآن غير عربية الأصل ، مثل: مِنْسَأَة بمعنى عصى فى سورة " سبأ " ومثل " اليم " بمعنى النهر فى سورة " القصص " وغيرها.
    - إن كل ما فى القرآن من كلمات غير عربية الأصل إنما هى كلمات مفردات ، أسماء أعلام مثل: " إبراهيم ، يعقوب ، إسحاق ، فرعون " ، وهذه أعلام أشخاص ، أو صفات ، مثل:" طاغوت ، حبر" ، إذا سلمنا أن كلمة " طاغوت " أعجمية.
    - إن القرآن يخلو تمامًا من تراكيب غير عربية ، فليس فيه جملة واحدة إسمية ، أو فعلية من غير اللغة العربية.
    - إن وجود مفردات أجنبية فى أى لغة سواء كانت اللغة العربية أو غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها ، ومن المعروف أن الأسماء لا تترجم إلى اللغة التى تستعملها حتى الآن. فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج إلى ذكر اسم من لغة غير لغته ، يذكره برسمه ونطقه فى لغته الأصلية ومن هذا ما نسمعه الآن فى نشرات الأخبار باللغات الأجنبية فى مصر ، فإنها تنطق الأسماء العربية نُطقاً عربيّا . ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً ، لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.
    والمؤلفات العلمية والأدبية الحديثة ، التى تكتب باللغة العربية ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية والمصادر التى نقلوا عنها ، ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبى لا يقال: إنها مكتوبة بغير اللغة العربية ، لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها ، والعكس صحيح.
    ومثيرو هذه الشبهة يعرفون ذلك كما يعرفون أنفسهم فكان حرياًّ بهم ألا يتمادوا فى هذه اللغو الساقط إما احتراماً لأنفسهم ، وإما خجلاً من ذكر ما يثير الضحك منهم.
    - إنهم مسرفون فى نسبة بعض هذه المفردات التى ذكروها وعزوها إلى غير العربية:
    فالزكاة والسكينة ، وآدم والحور ، والسبت والسورة ، ومقاليد ، وعدن والله ، كل هذه مفردات عربية أصيلة لها جذور لُغوية عريقة فى اللغة العربية. وقد ورد فى المعاجم العربية ، وكتب فقه اللغة وغيرها تأصيل هذه الكلمات عربيّا فمثلاً:
    الزكاة من زكا يزكو فهو زاكٍ. وأصل هذه المادة هى الطهر والنماء.
    وكذلك السكينة ، بمعنى الثبات والقرار ، ضد الاضطراب لها جذر لغوى عميق فى اللغة العربية. يقال: سكن بمعنى أقام ، ويتفرع عنه: يسكن ، ساكن ، مسكن ، أسكن.
    - إن هذه المفردات غير العربية التى وردت فى القرآن الكريم ، وإن لم تكن عربية فى أصل الوضع اللغوى فهى عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن وفيه.. وكانت سائغة ومستعملة بكثرة فى اللسان العربى قبيل نزول القرآن وبهذا الاستعمال فارقت أصلها غير العربى ، وعُدَّتْ عربية نطقاً واستعمالاً وخطاًّ.
    إذن فورودها فى القرآن مع قلتها وندرتها إذا ما قيست بعدد كلمات القرآن لا يخرج القرآن عن كونه " بلسان عربى مبين "
    ومن أكذب الادعاءات أن يقال: إن لفظ الجلالة " الله " عبرى أو سريانى وإن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين. إذ ليس لهذا اللفظ الجليل " الله " وجود فى غير العربية:
    فالعبرية مثلاً تطلق على " الله " عدة إطلاقات ، مثل ايل ، الوهيم ، وأدوناى ، ويهوا أو يهوفا. فأين هذه الألفاظ من كلمة " الله " فى اللغة العربية وفى اللغةاليونانية التى ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية حيث نجد الله فيها " الوى " وقد وردت فى بعض الأناجيل يذكرها عيسى عليه السلام مستغيثاً بربه هكذا " الوى الوى " وترجمتها إلهى إلهى.
    إن نفى عروبة القرآن بناء على هذه الشبهة الواهية أشبه ما يكون بمشهد خرافى فى أدب اللامعقول.
    المراجع
    (1) الشعراء: 193-195.
    (2) الزمر: 28.
    (3) الدخان: 58.
    (4) النحل: 103.

    5- الكلام العاطل
    يدعى المشكِّكُون أنه جاء فى فواتح 29 سورة بالقرآن الكريم حروف عاطلة ، لا يُفهم معناها نذكرها فيما يلى مع ذكر المواضع التى وردت فيها:
    الحروف:السورة
    الر: يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر
    الم: البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة
    المر: الرعد
    المص: الأعراف
    حم: غافر، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف
    حم عسق: الشورى
    ص: ص
    طس: النمل
    طسم: الشعراء ، القصص
    طه: طه
    ق: ق
    كهيعص: مريم
    ن: القلم
    يس: يس
    ونحن نسأل: " إن كانت هذه الحروف لا يعلمها إلا الله (كما يقولون) فما فائدتها لنا ، إن الله لا يوحى إلا بالكلام الواضح فكلام الله بلاغ وبيان وهدى للناس ".
    الرد علىالشبهة:
    أطلقوا على هذه الحروف وصف " الكلام العاطل " والكلام العاطل هو " اللغو " الذى لا معنى له قط.
    أما هذه الحروف ، التى أُفتتحت بها بعض سور القرآن ، فقد فهمت منها الأمة ، التى أُنزل عليها القرآن بلغتها العريقة ، أكثر من عشرين معنى(1) ، وما تزال الدراسات القرآنية الحديثة تضيف جديداً إلى تلك المعانى التى رصدها الأقدمون فلو كانت " عاطلة " كما يدعى خصوم الإسلام ، ما فهم منها أحد معنى واحداً.
    ولو جارينا جدلاً هؤلاء المتحاملين على كتاب الله العزيز من أن هذه " الحروف " عاطلة من المعانى ، لوجدنا شططاً فى اتهامهم القرآن كله بأنه " كلام عاطل " لأنها لا تتجاوز ثمانى وعشرين آية ، باستبعاد " طه" و" يس " لأنهما اسمان للنبى صلى الله عليه وسلم ، حذف منهما أداة النداء والتقدير: يا " طه " يا " يس " بدليل ذكر الضمير العائد عليه هكذا:
    (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (2) و (إنك لمن المرسلين) (3).
    وباستبعاد هاتين السورتين من السور التسع والعشرين تُصبح هذه السور سبعاً وعشرين سورة ، منها سورة الشورى ، التى ذكرت فيها هذه الحروف المقطعة مرتين هكذا:
    "حم ، عسق " فيكون عدد الآيات موضوع هذه الملاحظة ثمانى وعشرين آية فى القرآن كله ، وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية. فكيف ينطبق وصف ثمانٍ وعشرين آية على 6208 آية ؟.
    والمعانى التى فُهمتْ من هذه " الحروف " نختار منها ما يأتى فى الرد على هؤلاء الخصوم.
    الرأىالأول:
    يرى بعض العلماء القدامى أن هذه الفواتح ، مثل: الم ، و الر ، والمص ". تشير إلى إعجاز القرآن ، بأنه مؤلف من الحروف التى عرفها العرب ، وصاغوا منها مفرداتهم ، وصاغوا من مفرداتهم تراكيبهم. وأن القرآن لم يغير من أصول اللغة ومادتها شيئاً ، ومع ذلك كان القرآن معجزاً ؛ لا لأنه نزل بلغة تغاير لغتهم ، ولكن لأنه نزل بعلم الله عز وجل ، كما يتفوق صانع على صانع آخر فى حذقه ومهارته فى صنعته مع أن المادة التى استخدمها الصانعان فى " النموذج المصنوع " واحدة وفى هذا قطع للحُجة عنهم.
    ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى:
    (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) (4).
    يعنى أن اللغة واحدة ، وإنما كان القرآن معجزاً لأمر واحد هو أنه كلام الله ، نازل وفق علم الله وصنعه ، الذى لا يرقى إليه مخلوق.
    الرأى الثانى:
    إن هذه الحروف " المُقطعة " التى بدئت بها بعض سور القرآن إنما هى أدوات صوتية مثيرة لانتباه السامعين ، يقصد بها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السماع من أول وهلة. فمثلاً " الم " فى مطلع سورة البقرة ، وهى تنطق هكذا.
    " ألف لام ميم " تستغرق مسافة من الزمن بقدر ما يتسع لتسعة أصوات ، يتخللها المد مد الصوت عندما تقرع السمع تهيؤه ، وتجذبه لعقبى الكلام قبل أن يسمع السامع قوله تعالى بعد هذه الأصوات التسعة:
    (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (5).
    وإثارة الانتباه بمثل هذه المداخل سمة من سمات البيان العالى ، ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذه " الحروف " فى فواتح السور عبارة " قرع عصى " (6) وهى وسيلة كانت تستعمل فى إيقاظ النائم ، وتنبيه الغافل. وهى كناية لطيفة ، وتطبيقها على هذه " الحروف " غير مستنكر. لأن الله عز وجل دعا الناس لسماع كلامه ، وتدبر معانيه ، وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى:
    (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) (7).
    الرأى الثالث:
    ويرى الإمام الزمخشرى أن فى هذه " الحروف " سرًّا دقيقاً من أسرار الإعجاز القرآنى المفحم ، وخلاصة رأيه نعرضها فى الآتى:
    " واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه فى الفواتح من هذه الأسماء يقصد الحروف وجدتها نصف حروف المعجم ، أربعة عشر سواء ، وهى: الألف واللام والميم والصاد ، والراء والكاف والهاء ، والياء والعين والطاء والسين والحاء ، والقاف والنون ، فى تسع وعشرين سورة ، على حذو حروف المعجم ".
    ثم إذا نظرت فى هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أن فيها:
    من المهموسة نصفها:
    " الصاد ، والكاف ، والهاء والسين والخاء ".
    ومن المجهورة نصفها:
    الألف واللام والميم ، والراء والعين والطاء ، والقاف والياء والنون.
    ومن الشديدة نصفها:
    " الألف والكاف ، والطاء والقاف ".
    ومن الرخوة نصفها:
    " اللام والميم ، والراء والصاد ، والهاء والعين ، والسين والحاء والياء والنون ".
    ومن المطبقة نصفها:
    " الصاد والطاء ".
    ومن المنفتحة نصفها:
    " الألف واللام ، والميم والراء ، والكاف ، والهاء والعين والسين والحاء ، والقاف والياء والنون ".
    ومن المستعلية نصفها:
    " القاف والصاد ، والطاء ".
    ومن المنخفضة نصفها:
    " الألف واللام والميم ، والراء والكاف والهاء ، والياء ، والعين والسين ، والحاء والنون ".
    ومن حروف القلقلة نصفها: " القاف والطاء " (8).
    يريد أن يقول: إن هذه الحروف المذكورة يلحظ فيها ملحظان إعجازيان:
    الأول: من حيث عدد الأبجدية العربية ، وهى ثمانية وعشرون حرفاً. فإن هذه الحروف المذكورة فى فواتح السور تعادل نصف حروف الأبجدية ، يعنى أن المذكور منها أربعة عشر حرفاً والذى لم يذكر مثلها أربعة عشر حرفا:
    14+14 = 28 حرفاً هى مجموع الأبجدية العربية.
    الثانى: من حيث صفات الحروف وهى:
    الهمس فى مقابلة الجهارة.
    الشدة فى مقابلة الرخاوة.
    الانطباق فى مقابلة الانفتاح.
    والاستعلاء فى مقابلة الانخفاض.
    والقلقلة فى مقابلة غيرها.
    نجد هذه الحروف المذكورة فى الفواتح القرآنية لبعض سور القرآن تعادل نصف أحرف كل صفة من الصفات السبع المذكورة. وهذا الانتصاف مع ما يلاحظ فيه من التناسب الدقيق بين المذكور والمتروك ، لا يوجد إلا فى كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . وهو ذو مغزى إعجازى مذهل لذوى الألباب ، لذلك نرى الإمام جار الله الزمخشرى يقول مُعقباً على هذا الصنع الحكيم:
    " فسبحان الذى دقت فى كل شىء حكمته. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته. فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التى منها تراكيب كلامهم ، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم ، وإلزام الحُجة إياهم (9).
    ثم أخذ الإمام الزمخشرى ، يذكر فى إسهاب الدقائق والأسرار واللطائف ، التى تستشف من هذه " الحروف " التى بدئت بها بعض سور القرآن ، وتابعه فى ذلك السيد الشريف فى حاشيته التى وضعها على الكشاف ، والمطبوعة بأسفل تفسير الزمخشرى. وذكر ما قاله الرجلان هنا يخرج بنا عن سبيل القصد الذى نتوخاه فى هذه الرسالة. ونوصى القراء الكرام بالاطلاع عليه فى المواضع المشار إليها فى الهوامش المذكورة .
    وبقى أمرٌ مهمٌّ فى الرد على هذه الشبهة التى أثارها خصوم الإسلام ، وهى شبهة وصف القرآن بالكلام العاطل. نذكره فى إيجاز فى الآتى:
    لو كانت هذه " الحروف " من الكلام العاطل لما تركها العرب المعارضون للدعوة فى عصر نزول القرآن ، وهم المشهود لهم بالفصاحة والبلاغة ، والمهارة فى البيان إنشاءً ونقداً ؛ فعلى قدر ما طعنوا فى القرآن لم يثبت عنهم أنهم عابوا هذه " الفواتح " وهم أهل الذكر " الاختصاص " فى هذا المجال. وأين يكون " الخواجات " الذين يتصدون الآن لنقد القرآن من أولئك الذين كانوا أعلم الناس بمزايا الكلام وعيوبه ؟!
    وقد ذكر القرآن نفسه مطاعنهم فى القرآن ، ولم يذكر بينها أنهم أخذوا على القرآن أىَّ مأخذ ، لا فى مفرداته ولا فى جمله ، ولا فى تراكيبه. بل على العكس سلَّموا له بالتفوق فى هذا الجانب ، وبعض العرب غير المسلمين امتدحوا هذا النظم القرآنى ورفعوه فوق كلام الإنس والجن.
    ولشدة تأثيره على النفوس اكتفوا بالتواصى بينهم على عدم سماعه ، والشوشرة عليه.
    والطاعنون الجدد فى القرآن لا قدرة لهم على فهم تراكيب اللغة العربية ، ولا على صوغ تراكيبها صوغاً سليماً ، والشرط فيمن يتصدى لنقد شىء أن تكون خبرته وتجربته أقوى من الشىء الذى ينقده. وهذا الشرط منعدم أصلاً عندهم.
    المراجع
    (1) انظر للوقوف على هذه المعانى: التفسير الكبير " للفخر الرازى. تفسير سورة البقرة.
    (2) طه: 2.
    (3) يس: 3.
    (4) هود: 13-14.
    (5) البقرة: 2.
    (6) يعنى الضرب بالعصى على الأرض لتنبيه المراد تنبيهه.
    (7) الأعراف: 204.
    (8) الكشاف (ج1 ص 100- 103).
    (9) الكشاف: (ج1 ص 103).



    تابعو

    تعليق

    • المتفائل

      #3

      6- الكلام المتناقض
      " جاء فى سورة النساء: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) (1).
      ولكننا نجد فيه التناقض الكثير مثل:
      كلام الله لا يتبدل: كلام الله يتبدل
      (لا تبديل لكلمات الله ) (2): (وإذا بدلنا آية مكان آية..) (3)
      (لا مبدل لكلماته ) (4): (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) (5)
      (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (6): (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) (7)
      هذه طريقتهم فى عرض هذه الشبهة يقابلون بين بعض الآيات على اعتبار تصورهم ، وهو أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، على غرار ما ترى فى هذا الجدول الذى وضعوه لبيان التناقض فى القرآن حسب زعمهم.
      الرد علىالشبهة:
      الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس: (لا تبديل لكلمات الله) وآية النحل (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لا وجود لها إلا فى أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا. فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد ، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، مثل الموت والحياة. فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه فى وقت واحد ، ومحال أن يكون حيًّا و ميتاً فى آن واحد ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان فى محل واحد.
      ومحال أن يكون إنسان ما لا حى ولا ميت فى آن واحد وليس فى القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلى إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون . والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال محال ؛ لأن قوله تعالى فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) معناه لا تبديل لقضاء الله الذى يقضيه فى شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية. ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصرالموجودات ،أو تغييرات تطرأ عليها. كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة. هذه هى كلمات الله عزّ وجلّ.
      وقد عبر عنها القرآن فى مواضع أخرى ب.. السنن وهى القوانين التى تخضع لها جميع الكائنات ، الإنسان والحيوان والنبات والجمادات. إن كل شىء فى الوجود ، يجرى ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التى ليس فى مقدور قوة فى الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها فى الكون.
      ذلك هو المقصود ب " كلمات الله " ، التى لا نجد لها تبديلاً ، ولا نجد لها تحويلاً.
      ومن هذه الكلمات أو القوانين والسنن الإلهية النافذة طوعاً أو كرهاً قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) (8). فهل فى مقدور أحد مهما كان أن يعطل هذه السنة الإلهية فيوقف " سيف المنايا " ويهب كل الأحياء خلوداً فى هذه الحياة الدنيا ؟
      فكلمات الله إذن هى عبارة عن قضائه فى الكائنات وقوانينه المطردة فى الموجودات وسننه النافذة فى المخلوقات.
      ولا تناقض فى العقل ولا فى النقل ولا فى الواقع المحسوس بين مدلول آية: (لا تبديل لكلمات الله) وآية: (وإذا بدلنا آية مكان آية..).
      لأن معنى هذه الآية: إذا رفعنا آية ، أى وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أى وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضون الأولى. قال جهلة المشركين: إنما أنت مفتَرٍ (9).
      فلكل من الآيتين معنى فى محل غير معنى ومحل الأخرى.
      فالآية فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) والآية فى سورة النحل: (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً ، ليوهموا الناس أن فى القرآن تناقضاً. وهيهات هيهات لما يتوهمون.
      أما الآيتان (لا مبدل لكلماته) و(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقد تقدم ذكرهما فى الجدول السابق.
      هاتان الآيتان بريئتان من التناقض براءة قرص الشمس من اللون الأسود:
      فآية الكهف (لا مبدل لكلماته) معناها لا مغير لسننه وقوانينه فى الكائنات. وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس.
      وحتى لو كان المراد من " كلماتـه " آياته المنـزلة فى الكتاب العـزيز " القرآن " فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهى باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (10).
      أما آية البقرة: (ما ننسخ من آية ) فالمراد من الآية فيها المعجزة ، التى يجريها الله على أيدى رسله. ونسخها رفعها بعد وقوعها. وليس المراد الآية من القرآن ، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل. بدليل قوله تعالى فى نفس الآية: (ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ).
      ويكون الله عز وجل قد أخبر عباده عن تأييده رسله بالمعجزات وتتابع تلك المعجزات ؛ لأنها من صنع الله ، والله على كل شىء قدير.
      فالآيتان ـ كما ترى ـ لكل منهما مقام خاص بها ، وليس بينهما أدنى تعارض ، فضلاً عن أن يكون بينهما تناقض.
      أما الآيتان الأخيرتان الواردتان فى الجدول ، وهما آية الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وآية الرعد: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فلا تعارض بينهما كذلك ؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه فى الوجود الزمنى ، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها. والإنجيل الذى أنزله الله على عيسى عليه السلام.
      أما الآية الثانية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فهى إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف فى شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد. فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ ، يحيى ويميت ، يغنى ويفقر ، يُصحُّ ويُمْرِضُ ، يُسْعِد ويُشْقِى ، يعطى ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب على حكمه (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسـألون ) (11). فأين التناقـض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى ؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى. أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم ، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد ، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة ؟ نكتفى بهذا الرد الموجز المفحم ، على ما ورد فى الجدول المتقدم ذكره.
      وهناك شبه أخرى يمكن سردها بإيجاز:
      1- إنهـم توهـموا تناقضـاً بين قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (12). وبين قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) (13). وفى عبارة شديدة الإيجاز نرد على هذه الشبهة الفرعية ، التى تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو فى آية السجدة ألف سنة وهو فى آية المعارج خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفـارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض. ولماذا ؟ لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد.
      فالعارج فى آية السـجدة الأمر ، والعـروج عروج الأمر ، والعارج فى آية المعارج هم الملائكة والعروج هو عروج الملائكة.
      اختلف العـارج والعـروج فى الآيتين. فاختلف الزمن فيهما قصـراً أو طولاً. وشرط التناقض ـ لو كانوا يعلمون ـ هو اتحاد المقام.
      2- وقالوا أيضًا: إن بين قوله تعالى: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) (14). وقـوله تعالى: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) (15) تناقضا. وشـاهد التنـاقض عندهم أن الله قال فى الآية (13)(وقليل من الآخـرين (وقال فى الآية (40) (وثلة من الآخرين) إذ كيف قال أولاً: (ثلة من الأولين * وقـليل من الآخرين) ثم قال ثانياً (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين (ولو كان لديهم نية فى الإنصاف ، ومعرفة الحق ناصعاً ونظروا فى المقامين اللذين ورد فيهما هذا الاختلاف لوصلوا إلى الحق من أقصر طريق. ولكنهم يبحثون عن العيوب ولو كلفهم ذلك إلغاء عقولهم.
      هذا الاختلاف سببه اختلاف مقام الكلام ؛ لأن الله عز وجل قسم الناس فى سـورة الواقعة ، يوم القـيامة ثلاثة أقسام. فقال: (وكنتم أزواجاً ثلاثة):
      *السابقون السابقون. *وأصحاب الميمنـة. * وأصحاب المشئمة.
      ثم بين مصير كل قسـم من هـذه الأقسام فالسابقون السابقـون لهم منزلة: " المقربون فى جنات النعيم "
      ثم بيَّن أن الذين يتبوأون هذه المنزلة فريقان:
      كـثيرون من السـابقين الأوليـن ، وقلــيلون من الأجيال المتأخـرين
      وذلك لأن السابقين الأولين بلغوا درجات عالية من الإيمان وعمل الباقيات الصالحات. ولم يشاركهم من الأجيال المتأخرة عن زمنهم إلا قليل.
      أما أصحاب اليمين أو الميمنة فبلاؤهم فى الإسلام أدنى من بلاء السابقين الأولين. لذلك كانت درجاتهم فى الجنة أدنى من درجات السابقين الأولين ويشاركهم فى هذه المنزلة كثير من الأجيال اللاحقة بهم ؛ لأن فرصة العمل بما جعلهم أصحاب اليمين ، متاحة فى كل زمان.
      ويمكن أن نمثل للسابقين الأولين بأصحاب رسول الله(ولأصحاب اليمين) بالتابعين ، الذين أدركوا الصحابة ولم يدركوا صاحب الرسالة. واذا صح هذا التمثيل ، ولا أظنه إلا صحيحاً ، صح أن نقول:
      إن قليلاً منا ، بل وقليل جدِّا ، من يسير فى حياته سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثيراً منا من يمكن أن يسير سيرة التابعين رضى الله عنهم.
      وعلى هذا فلا تناقض أبداً بين الآيتين:
      (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين).
      و(ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين).
      3- وقالوا أيضًا: إن فى القرآن آية تنهى عن النفـاق ، وآية أخـرى تُكره الناس على النفاق أما الآية التى تنهى عن النفاق ـ عندهم ـ فهى قوله تعالى(: وبشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليما) (16).
      وأما الآية التى تُكره الناس على النفـاق ـ عندهم ـ فهى قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفـروا من قـبل قاتلهـم الله أَنَّى يؤفكـون ) (17).
      من المحال أن يفهم من له أدنى حظ من عقل أو تمييز أن فى الآية الأولى نهياً ، وأن فى الآية الثانية إكراهاً ويبدو بكل وضوح أن مثيرى هذه الشبهات فى أشد الحاجة إلى من يعلمهم القراءة والكتابة على منهج: وزن وخزن وزرع.
      ويبدو بكل وضوح أنهم أعجميو اللسان ، لا يجيدون إلا الرطانة والتهتهة ؛ لأنهم جهلة باللغة العربية ، لغة التنزيل المعجز. ومع هذه المخازى يُنَصِّبُون أنفسهم لنقد القرآن ، الذى أعجز الإنس والجن.
      لا نهى فى الآية الأولى ، لأن النهى فى لغة التنزيل له أسلوب لغوى معروف ، هو دخول " لا " الناهية على الفعل المضارع مثل: لا تفعل كذا.
      ويقـوم مقامه أسلوب آخر هو: إياك أن تفعل ، جامعًا بين التحذير والنهى ، ولا إكـراه فى الآية الثانيـة. وقد جهل هؤلاء الحقدة أن الإكراه من صفات الأفعال لا من صفات الأقـوال أما كان الحرى بهم أن يستحيوا من ارتكاب هذه الحماقات الفاضحة.
      إن الآية الأولى: (وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) تحمل إنذاراً ووعيداً. أما النهـى فلا وجـود له فـيها والآية الثانية تسـجل عن طريق " الخبر " انحراف اليهود والنصارى فى العقيدة ، وكفرهم بعقيدة التوحيد ، وهى الأساس الذى قامت عليه رسالات الله عز وجل.
      وليس فى هذه الآية نفاق أصلاً ، ولكن فيها رمز إلى أن اليهود والنصارى حين نسبوا " الابنية " لله لم يكونوا على ثقة بما يقولون ، ومع هذا فإنهم ظلوا فى خداع أنفسهم.
      وكيف يكون الـقرآن قد أكرههـم على هذا النـفاق " المودرن " وهو فى الوقت نفسه يدعو عليهم بالهلاك بقبح إشراكهم بالله:
      (قاتلهم الله).
      المراجع
      (1) النساء: 82.
      (2) يونس: 64.
      (3) النحل: 101.
      (4) الكهف: 27.
      (5) البقرة: 106.
      (6) الحجر: 9.
      (7) الرعد: 39.
      (8) آل عمران: 185.
      (9) انظر تفسير فتح القدير (ج2/232)
      (10) تفسير فتح القدير (ج3 ـ ص 333).
      (11) الأنبياء: 23.
      (12) السجدة: 5.
      (13) المعارج: 4.
      (14) الواقعة: 13 ـ 14.
      (15) الواقعة: 39 ـ 40.
      (16) النساء: 138.
      (17) التوبة: 30.



      7- الكلام المفكك
      جاء فى سورة الإسراء: (وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) (1). (وقرآنا فرقناه) : نزلناه مفرقاً منجماً " فإنه نزل فى تضاعيف عشرين سنة " (لتقرأه على الناس على مكث): على مهل وتؤدة. فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم (ونزلناه تنزيلا) حسب الحوادث ، بعد هذه المقدمة قالوا:
      " كيف يكون القرآن وحياً ، وهو متقطع مفرق يأتى بعضه فى وقت ، ويتأخر بعضه إلى وقت آخر ، لقد كان محمد يرتبك عندما كان العرب أو اليهود أو النصارى يسألونه. وأحياناً كان يحتج بأن جبريل تأخر.
      الرد على الشبهة:
      إنهم يستبعدون أن يكون القرآن وحياً لأنه لم ينزل مرة واحدة. فنزوله مفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة ينفى عنه كونه وحياً من عند الله ، هذه واحدة ويثبت أنه كلام مفكك ، وهذه ثانية ونقول لهم على وفق طريقتهم:
      ونحن نسأل:
      من أين لكم هذا الدليل ؟ أَنَزل عليكم وحى من الله قال لكم فيه: إن كل وحى من عندى يكون نزوله دفعة واحدة. وكل ما خالف هذا لا يكون وحياً ؟ ! هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. هذا عن الأولى.
      أما عن الثانية ، فمن يجاريكم من العقلاء على هذا المعيار الذى وضعتموه لمعرفة الكلام المفكك الذى تتهمون كلام رب العالمين به ؟
      إن الكلام المفكك عند العقلاء هو الكلام الذى لا يناسب بعضه بعضاً ، لا من حيث المفردات والتراكيب ولا من حيث المعانى والدلالات. وهذا معيار عام لا يخص كلاماً دون كلام ، فمن الناس من يكتب كتاباً فى سنة ، أو خمس ، أو عشر ، ويأتى ما كتبه آية فى الجودة والإتقان. ولو قدر لإنسان أن يكتب كتاباً من مائة صفحة فى ساعة أو ساعتين أو ثلاث لجاء كتابه " تخاليط " يصد عنه الناس.
      والقرآن ، الذى نزل مفرقاً فى ثلاث وعشرين سنة ، ليس له مثيل ولا حتى مقارب فى إحكام نسجه ، وتآلف نظمه وصحة معناه وصفاء عباراته ، وسلامة لغته من كل عيب أو قصور.
      كتاب قطع عمراً من الدهر يقترب من الألف ونصف الألف من السنين ، ومع هذا فهو كتاب كل عصر سام فوق كل كلام قيل بعده أو قبله أو فى عصر نزوله و معانيه تكشف للناس فى كل عصر سبقاً فى ميادين المعرفة يذهل ويدهش. وكفاه فضلاً سبقه للحضارات الحديثة فى مختلف ميادين المعرفة العلوية والأرضية وما بين السماء والأرض ، وما فى أعماق الأنهار والبحار والمحيطات ، وما فى أعماق الأرض.
      وكل هذا وفاء بالوعد الإلهى ، الذى ورد فى القرآن:(سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (2).
      إن القرآن الذى تفترون عليه هو كتاب الوجود كله ، كم حاول الحاقدون قبلكم ومعكم أن يحدثوا فيه شرخاً فأعياهم ، وبقى هو كلمة الله العليا السابحة فى الآفاق يتحدى تعاقب الدهور والعصور ، وهو المنارة الشامخة يتلألأ ضوؤها ماحياً حيالك الظلام. (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيماً لينذر بأسا شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً * ماكثين فيها أبداً * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) (3).
      المراجع
      (1) الإسراء: 106.
      (2) فصلت: 53.
      (3) الكهف: 1- 5.




      8- الكلام المكرر
      هذه الشبهة من الشبهات التى أكثروا اللغو حولها. واتخذوها كذلك منفذاً للطعن فى القرآن الكريم بأنه ليس وحياً من عند الله.
      وركزوا كل التركيز على تكرار القصص فى القرآن وذكروا بعض القصص الذى تكرر ، مع الإشارة إلى مواضعه فى سور القرآن ، كما ذكروا تكرار بعض العبارات والجمل.
      ولغوا لغواً كثيراً ، حول تكرار قصة آدم فى القرآن ، وقالوا إنها تكررت خمس مرات. ونحن نقول بل تكررت سبع مرات.
      كما فعلوا الشىء نفسه مع التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " وادعوا أن القرآن إذا حُذف منه المكرر لم يبق منه إلا ما يملأ كراسة واحدة.
      لذلك فإننا فى الرد عليهم سنقف وقفة متأنية ، نلقنهم فيها درساً بليغاً حول التكرار الوارد فى القرآن المحفوظ وبخاصة فى سورة الرحمن ، وتكرار قصة آدم (فى مواضع سبعة. لنقيم الحجة لله.
      * الرد على الشبهة:
      يقع التكرار فى القرآن الكريم على وجوه:
      مرة يكون المكرر أداة تؤدى وظيفة فى الجملة بعد أن تستوفى ركنيها الأساسيين.
      وأخرى تتكرر كلمة مع أختها لداع ، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها.
      فاصلة تكرر فى سورة واحدة على نمط واحد.
      قصة تتكرر فى مواضع متعددة مع اختلاف فى طرق الصياغة وعرض الفكرة.
      بعض الأوامر والنواهى والإرشادات والنصح مما يقرر حكماً شرعيًّا أو يحث على فضيلة أو ينهى عن رذيلة أو يرغب فى خير أو ينفر من شر.
      وتكرار القرآن فى جميع المواضع التى ذكرناها ، والتى لم نذكرها مما يلحظ عليها سمة التكرار. فى هذا كله يباين التكرار القرآنى ما يقع فى غيره من الأساليب لأن التكرار وهو فن قولى معروف. قد لا يسلم الأسلوب معه من القلق والاضطراب فيكون هدفاً للنقد والطعن. لأن التكرار رخصة فى الأسلوب إذا صح هذا التعبير والرخص يجب أن تؤتى فى حذر ويقظة.
      * وظيفة التكرار فى القرآن:
      مع هذه المزالق كلها جاء التكرار فى القرآن الكريم محكماً. وقد ورد فيه كثيراً فليس فيه موضع قد أخذ عليه دَعْ دعاوى المغالين فإن بينهم وبين القرآن تارات ؛ فهم له أعداء وإذا أحسنا الفهم لكتاب الله فإن التكرار فيه مع سلامته من المآخذ والعيوب يؤدى وظيفتين:
      أولاهما: من الناحية الدينية.
      ثانيهما: من الناحية الأدبية.
      فالناحية الدينية باعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع لا يخلو منها فن من فنونه ، وأهم ما يؤديه التكرار من الناحية الدينية هو تقرير المكرر وتوكيده وإظهار العناية به ليكون فى السلوك أمثل وللاعتقاد أبين.
      أما الناحية الأدبية فإن دور التكرار فيها متعدد وإن كان الهدف منه فى جميع مواضعه يؤدى إلى تأكيد المعانى وإبرازها فى معرض الوضوح والبيان. وليكن حديثنا عنه على حسب المنهج الذى أثبتناه فى صدر هذا البحث.
      * تكرار الأداة:
      ومن أمثلتها قوله تعالى: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحِيِم) (1).
      (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) (2).
      والظاهر من النظر فى الآيتين تكرار " إنَّ " فيهما. وهذا الظاهر يقتضى الاكتفاء ب " إنَّ " الأولى. ولم يطلب إلا خبرها. وهو فى الموضعين أعنى الخبر " لغفور رحيم " لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت " إنَّ " مرة أخرى.ولهذه المخالفة سبب.
      وهذا السبب هو طول الفصل بين " إنَّ " الأولى وخبرها. وهذا أمر يُشعِر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله " إنَّ " وهو التوكيد. لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد.
      على أن هناك وظيفة أخرى هى: لو أن قارئاً تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما " إنَّ " ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين: قلق وضعف فى الأولى ، وتناسق وقوة فى الثانية.
      ومن أجل هذا الطول كررت فى قول الشاعر (3):
      وإن امرأً طَالَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ *** عَلَى مِثْلِ هَذاَ إنَّهُ لَكَرِيمُ
      يقول ابن الأثير رائياً هذا الرأى: ".. فإذا وردت " إنَّ " وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام. فإعادة " إنَّ " أحسن فى حكم البلاغة والفصاحة كالذى تقدّم من الآيات " (4).
      * تكرار الكلمة مع أختها:
      ومن أمثلتها قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الآخرة هم الأخسرون) (5).
      فقد تكررت " هم " مرتين ، الأولى مبتدأ خبرها: " الأخسرون ". والثانية ضمير فصل جىء به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهى: هُمْ الأولى بالأخسرية.
      وكذلك قوله تعالى:(أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال فِى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (6).
      تكررت هنا " أولئك " ثلاث مرات. ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسناً وروعة. فالأولى والثانية: تسجلان حكماً عامًّا على منكرى البعث: كفرهم بربهم وكون الأغلال فى أعناقهم.
      والثالثة: بيان لمصيرهم المهين. ودخولهم النار. ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذى لا يعقبه خروج منها.
      ولو أسقطت(أَولئك (من الموضعين الثانى والثالث لرك المعنى واضطرب. فتصبح الواو الداخلة على:(الأغلال فى أعناقهم (. واو حال. وتصبح الواو الداخلة على:(أَصحاب النار هم فيها خالدون (عاطفة عطفاً يرك معه المعنى.
      لذلك حسن موضع التكرار فى الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته. وتأكيد النسبة فى المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم بسوء المصير.
      * تكرار الفاصلة:
      سبق أن ذكرنا فى مبحث الفواصل بسوء المصير من تكرار الفاصلة مرتين بدءاً وثلاث مرات نهاية. وقد وجهنا أسلوب التكرار فى تلك الصور. ولكنَّا هنا أمام فاصلة لم تقف فى تكرارها عند حد المرات الثلاث. بل تعدت ذلك بكثير. لذلك آثرنا أن نبحثها هنا إذ هى بهذا الموضع أنسب (7).
      ونعتمد فى دراستنا لتكرار الفاصلة على ثلاث سور هى: " الرحمن القمر المرسلات ". وهى السور التى برزت فيها هذه الظاهرة الأسلوبية. بشكل لم يرد فى غيرها ، كما ورد فيها.
      فقد تكررت:(فبِأى آلاء ربكما تكذبان ) (8) فى " الرحمن ". وتكررت (فكيف كان عذابى ونذر) (9) فى " القمر ". وتكررت: (ويل يومئذ للمكذبين) (10) فى " المرسلات ".
      * تكرار الفاصلة فى " القمر ":
      ولهذا التكرار فى المواضع الثلاثة أسباب ومقتضيات. ففى سورة القمر " نجد العبارة المكررة وهى: (فكيف كان عذابى ونذر(قد صاحبت فى كل موضع من مواضع تكرارها قصة عجيبة الشأن ، وكان أول موضع ذُكِرت فيه عقب قصة قوم نوح. وبعد أن صوَّر القرآن مظاهر الصراع بينهم وبين نوح عليه السلام ثم انتصار الله لنوح عليهم. حيث سلَّط عليهم الطوفان. فأغرقهم إلا مَن آمن وعصمه الله.
      ونجد أن الله نجَّى نوحاً وتابعيه. ولكن تبقى هذه القصة موضع عظة وادكار، ولتلفت إليها الأنظار وللتهويل من شأنها جاء قوله تعالى عقبها: (فكيف كان عذابى ونذر(مُصدَّراً باسم الاستفهام " كيف " للتعجيب مما كان ، ولقد مهَّد لهذا التعجيب بالآية السابقة عليه. وهى قوله تعالى: (ولقد تركناها آية فهل من مدكِر) (11).
      والموضع الثانى لذكرها حين قص علينا القرآن قصة عاد وعتوها عن أمر الله وفى " عاد " هذه نجد العبارة اكتنفت القصة بدءاً ونهاية. قال تعالى: (كذبت عادٌ فكيف كان عذابى ونذر *ِإنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى يومِ نحْسٍ مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابى ونذر ) (12).
      وتكرار العبارة هكذا فى البداية والنهاية إخراج لها مخرج الاهتمام. مع ملاحظة أن أحداث القصة هنا صُورت فى عبارات قصيرة ولكنها محكمة وافية.. ولم يسلك هذا المسلك فى قصة نوح أعنى قصر العبارات والسبب فيما يبدو لى أن إهلاك قوم نوح كان بالإغراق فى الماء. وهى وسيلة كثيراً ما تكون سبب هلاك. فقد كانت سبب هلاك فرعون وملئه.. أما أن يكون الإهلاك بالريح فذلك أمر يدعو إلى التأمل والتفكر.
      ولعل مما يقوى رأينا هذا. أن هذه القصة قصة عاد وردت فى موضع آخر من القرآن يتفق مع هذا الموضوع من حيث الفكرة ، ويختلف معه قليلاً من حيث طريقة العرض وزيادة التفصيل.
      جاء فى سورة الحاقة: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصرٍ عاتية* سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حُسوماً فترى القوم فيها صرعَى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية) (13).
      فإرسال الريح هكذا سبع ليال وثمانية أيام حسوماً مدعاة للعظة والاعتبار.
      ومثله: (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (14). (فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ) (15).
      فقد بطرت " عاد " نعم ربها عليها. وغرها ما فيه من أسباب التمكين فى الأرض وقوة البطش أن تبارز ربها ومولى نعمها بالمعاصى ، فأهلكها الله بما لا قبل لها به. وفى كل موضع يذكر القرآن فيه قصة هؤلاء ، تأتى عباراته قوية هادرة واعظة زاجرة..
      جاء فى موضع آخر: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يُخلق مثلها فى البلاد ) (16)
      وكانت عاقبتها خسراً وهلاكاً مع من طغى فى الأرض بغير الحق: (فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد) (17).
      أما الموضع الأخير الذى ذكرت فيه هذه العبارة: (فكيف كان عذابى ونذر (فحين قص الله علينا قصة " ثمود " ، وقد جاءت فيها كذلك مهيئة لتلقى صورة العقاب بعد التشويق إليها عند السامع. ولفت نظره إليها: (فكيف كان عذابى ونذر* إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) (18).
      ومن هنا ندرك شدة اقتضاء المقام لهذا التكرار. فليست إحدى العبارات فى موضع بمغنية عن أختها فى الموضع الآخر. إنما هو اتساق عجيب تطلبه المقام من الناحيتين: الدينية والأدبية.
      من الناحية الدينية حيث تحمل المؤمنين على التذكر والاعتبار عقب كل قصة من هذه القصص ، ومن الناحية الأدبية لأن العبارة: (فكيف كان عذابى ونذر(تأتى عقب كل قصة أيضاً لافتة أنظار المشاهدين إلى " كنه " النهاية وختام أحداث القصة.
      وقد مهد القرآن لهذا التكرار حيث لم يأت إلا بعد خمس عشرة آية تنتهى كلها بفاصلة واحدة تتحد نهاياتها بحرف " الراء " مع التزام تحريك ما قبلها. وذلك هو نهج فواصل السورة كلها. وقد أشاع هذا النسق الشاجى نوعاً من الإحساس القوى بجو الإنذار. والسورة فوق كل هذا مكية النزول والموضوع.
      كما أن الطابع القصصى هو السائد فى هذه السورة. فبعد أن صور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة الجديدة. وبَيَّن ضلال مسلكهم. وقد كان الرسول (حريصاً على هدايتهم فى وقت هم فيه أشد ما يكونون إعراضاً عنه. لهذا اقتضى الموقف العام سوق عِبَر الماضين ليكون فى ذلك تسلية للرسول(ومن اتبعه وزجر لمن عارضه وصد عنه.
      وما دام هذا هو طابع السورة فإن أسس التربية خاصة تربية الأمم تستدعى تأكيد الحقائق بكل وسيلة ومنها التكرار الذى لمسناه فى سورتنا هذه ؛ حتى لكأنه أصيل فيها وليس بمكرر.
      * تكرار آخر فى سورة " القمر ":
      وفى هذه السورة " القمر " مظهر آخر من مظاهر التكرار ، هو قوله تعالى:(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (19). حيث ورد فى السورة أربع مرات ، وهذه دعوة صالحة للتأمل فيما يسوقه الله من قصص.
      وقد اشتملت هذه الآية: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (على خبر واستفهام ، والخبر تمهيد للاستفهام الذى فيها ولفت النظر إليه.
      * التكرار فى سورة " الرحمن ":
      أما التكرار الوارد فى " الرحمن " فى قوله تعالى: (فبأى آلاء ربكما تكذبان(حيث تكررت الآية فيها إحدى وثلاثين مرة فله أسبابه كذلك. ويمكن أن نسجل هذه الملاحظات:
      أولاً: إن هذا التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " هو أكثر صور التكرار الوارد فى القرآن على الإطلاق.
      ثانياً: إنه أى التكرار فى هذا الموضع قد مُهِّدَ له تمهيداً رائعاً.حيث جاء بعد اثنتى عشرة آية متحدة الفواصل. وقد تكررت فى هذا التمهيد كلمة " الميزان " ثلاث مرات متتابعة دونما نبو أو ملل:
      (والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا فى الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) (20).
      وهذا التمهيد قد أشاع كذلك لحناً صوتيًّا عذباً كان بمثابة مقدمة طبيعية لتلائم صور التكرار ولتألفها النفس وتأنس بها فلا تهجم عليها هجوماً ؛ لأن القرآن قد راعى فى فواصل المقدمة التمهيدية ما انبنت عليه فواصل الآية المكررة.
      ثالثاً: إن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعم على الثَّقَلين: الإنس والجن ، وبعد كل نعمة أو نِعَم يعددها الله تأتى هذه العبارة: (فبأى آلاء ربكما تكذبان(.
      وعلى هذا الأساس يمكن بيسر فهم عِلّة التكرار الذى حفلت به سورة الرحمن أنه تذكير وتقرير لنعمه. وأنها من الظهور بمكان فلا يمكن إنكارها أو التكذيب بها.
      " فتكرار الفاصلة فى الرحمن.. يفيد تعداد النِّعَم والفصل بين كل نعمة وأخرى لأن الله سبحانه عدَّد فى السورة نعماءه وذكَّرعباده بآلائه. ونبههم على قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها. وجعلها فاصلة بين كل نعمة لتعرف موضع ما أسداه إليهم منها. ثم فيها إلى ذلك معنى التبكيت والتقريع والتوبيخ ؛ لأن تعداد النِّعم والآلاء من الرحمن تبكيت لمن أنكرها كما يبكت منكر أيادى المنعَم عليه من الناس بتعديدها" (21). ولقائل أن يسأل: إن هذه
      الفاصلة قد تكررت بعدما هو ليس بنعمة من وعيد وتهديد. فكيف يستقيم التوجيه إذن بعد هذه الآيات ؟
      (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (22).
      (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والأقدام * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (23).
      (هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (24).
      وظاهر هذه الآيات بلاء وانتقام وليس بنعم.
      والجواب: ولكن المتأمل يدرك أن فى الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون مصيره مصيرهم.
      ومن هذا الاعتبار يتبين أن هذه المواضع مندرجة تحت النعم ، لأن النعمة نوعان: إيصال الخير. ودفع الشر. والسورة اشتملت على كلا النوعين فلذلك كررت الفاصلة.
      * التكرار فى سورة " المرسلات ":
      بقى التكرار الوارد فى سورة " المرسلات". وقد صنع ما صنع فى نظيريه فى " القمر " و " الرحمن " من التقديم له بتمهيد.. وله مثلهما هدف عام اقتضاه.
      بيد أن التمهيد يختلف عما سبق فى " القمر و " الرحمن ". فقد رأينا فيهما اتحاد الفاصلة فى الحروف الأخيرة مع التزام نهج معين فيما قبله. أما هنا فإن الأمر يختلف.
      فقد اشتمل التمهيد على مجموعتين من الآيات :
      أولاهما:
      لها فاصلة تختلف عن ثانيتهما وهى : [والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفاً * والناشرات نشراً * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكراً * عذراً أو نذراً ](25) .
      وختمت هذه المجموعة بقفلة هى سر الجمال كله : [ إنما توعدون لواقع ](26) . ما قبلها مقسم به . وهى جواب القسم . والمقسم به متعدد كأجزاء الشرط إذا بدئت بها السور . وهى ـ كما تقدم ـ خصائص تعبيرية آسرة .
      وبجواب القسم تنتهى هذه المجموعة ـ ثم تبدأ المجموعة الثانية وهى :[ فإذا النجوم طمست * وإذا السماء فرجت * وإذا الجبال نسفت * وإذا الرسل أقتت * لأى يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين ] (27) .
      وهذه المجموعة تتكون من :
      أولاً : شرط يتكرر أربع مرات محذوف الجواب . وكله حديث عن أهوال القيامة ومقدمات البعث .
      ثانياً : استفهام يعتبر مدخلاً لحقيقة هامة تقودنا إلى الهدف المنشود . وهو التوصل إلى مصير المكذبين يوم الدين .
      ثالثاً : جواب هذا الاستفهام الذى اشتمل على كلمة : " يوم الفصل " وكانت هذه الكلمة الشعاع الذى قادنا إلى الساحة الكبرى : ساحة القضاء العادل والقصاص الحكيم : [لأى يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين]
      فانظر إلى هذا التمهيد الحكيم الذى مهد القرآن به لهذه العبارة . حتى لكأنها هى المقصودة .
      ثم تكررت هذه الآية :] ويل يومئذ للمكذبين [ عشر مرات بعد هذه المرة وهى فى كل مواضعها تتلو مشهداً من مشاهد القيامة .
      وصورة من صور الحشر . أو مشاهد القدرة الإلهية .
      سبب عام :
      أما السبب العام الذى اقتضى هذا التكرار فإن الآية أعقبت ما من شأنه أن يكون أكبر داع من دواعى الإيمان والتصديق . بحيث يكون الخارج عن هذا السلوك والمكذب به صائراً ـ لا محالة ـ إلى الويل ، والعذاب الأليم .
      فويل للمكذبين بيوم الفصل . وويل للمكذبين بهلاك المجرمين .. وويل للمكذبين بقدرة الله وتقديره أرزاق الخلق . وعلى هذا المنهج يمضى التكرار فى السورة كلها .
      المراجع
      (1)النحل: 110.
      (2) النحل: 119.
      (3) ديوان الحماسة: 2/105 ولم ينسب لقائل معين.
      (4) المثل السائر (ج3 ص7) تحقيق د/ بدوى طبانة ود/ الحوفى.
      (5) النمل: 5.
      (6) الرعد: 5.
      (7) انظر كتابنا: خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (مبحث الفواصل) مكتبة وهبة بالقاهرة
      (8) وردت 31 مرة.
      (9) وردت 4 مرات.
      (10) وردت 10 مرات
      (11) القمر: 15.
      (12) القمر: 18 21.
      (13) الحاقة: 6 8.
      (14) الذاريات: 41 42.
      (15) فصلت: 15 16.
      (16) الفجر: 6 8.
      (17) الفجر 13 14. (18) القمر: 30 31.
      (19) القمر: 17 ، 22 ،32 ، 40.
      (20) الرحمن: 7-9.
      (21) خزانة الأدب للحموى: ص 144-145.
      (22) الرحمن: 35 – 36.
      (23) الرحمن: 41-42.
      (24) الرحمن: 43-45.
      (25) المرسلات : 1 ـ 6
      (26) المرسلات : 7 .
      (27) المرسلات : 8 ـ 15


      9- الكلام المنسوخ
      النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو ، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ ، يعنى أزالته ومحته ، وأحلت الضوء محله.
      ثم تطورت هذه الدلالة فأصبح النسخ يطلق على الكتابة ، سواء كانت نقلاً عن مكتوب ، أو ابتدأها الكاتب بلا نقل.
      والنُّساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخون كتب العلماء (ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ ، مثل طبع الكتب الآن).
      أما النسخ فى الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط ، يمكن التعبيرعنها بالعبارة الآتية:
      " النسخ هو وقْفُ العمل بِِحُكْمٍٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة ، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعى آخر لاحق من الكتاب أو السنة ، لِحكمة قصدها الشرع ، مع صحة العمل بحكم النص السابق ، قبل ورود النص اللاحق (1) والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم ، مثل نسخ حبس الزانيات فى البيوت حتى الموت ، وإحلال الحكم بالجلد مائة ، والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس (2).
      النسخ و وروده فى القرآن ، على أن القرآن ليس وحياً من عند الله. ونذكر هنا عبارة لهم صوَّروا فيها هذه الشبهة:
      " القرآن وحده من دون سائر الكتب الدينية ، يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه ، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ ؛ لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه ، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف.
      لكن الله يعلم بكل شىء قبل حدوثه. فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله ؟
      ليس الله إنساناً فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم ؟!
      * الرد على الشبهة:
      نحن لا ننكر أن فى القرآن نسخاً ، فالنسخ موجود فى القرآن بين ندرة من الآيات ، وبعض العلماء المسلمين يحصرها فيما يقل عن أصابع اليد الواحدة ، وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ فى القرآن (3).
      أما جمهور الفقهاء ، وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج ، وقد خصصوا للنسخ فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه ، قل من لم يذكره منهم قدماء ومُحْدَثين. والذى ننكره كذلك أن يكون وجود النسخ فى القرآن عيباً أو قدحاً فى كونه كتاباً منزلاً من عند الله. ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار.
      إن الناسخ والمنسوخ فى القرآن ، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية ، فى فترة نزول القرآن ، الذى ظل يربى الأمة ، وينتقل بها من طور إلى طور ، وفق إرادة الله الحكيم ، الذى يعلم المفسد من المصلح ، وهو العزيز الحكيم.
      أما ما ذكرتموه من آيات القرآن ، ساخرين من مبدأ الناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعوا الآيات التى ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهى قسمان:
      أحدهما فيه نسخ فعلاً (منسوخ وناسخ).
      وثانيهما لا ناسخ فيه ولا منسوخ فيه ، ونحن نلتمس لكم العذر فى هذا " الخلط " لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفون كيفية السير فيه.
      القسم الأول: ما فيه نسخ:
      من الآيات التى فيها نسخ ، وذكروها فى جدول الناسخ والمنسوخ الآيتان التاليتان: (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) (4).
      ثم قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله 000 ) (5).
      هاتان الآيتان فيهما نسخ فعلاً ، والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يَمُتْنَ ، أو يجعل الله لَهُنَّ حكماً آخر.
      وكان ذلك فى أول الإسلام. فهذا الحكم حكم حبس الزانية فى البيت ، حين شرعه الله عز وجل أومأ فى الآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت ، له زمان محدد فى علم الله أزلاً. والدليل على أن هذا الحكم كان فى علم الله مؤقتاً ، وأنه سيحل حكم آخر محله فى الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله: (أو يجعل الله لهن سبيلاً (. هذا هو الحكم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التى تضمنته باقية قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
      أما الناسخ فهو قوله تعالى فى سورة "النور" فى الآية التى تقدمت ، وبين الله أن حكم الزانية والزانى هو مائة جلدة ، وهذا الحكم ليس عامّا فى جميع الزناة. بل فى الزانية والزانى غير المحصنين. أما المحصنان ، وهما اللذان سبق لهما الزواج فقد بينت السنة قوليًّا وعمليًّا أن حكمهما الرجم حتى الموت.
      وليس فى ذلك غرابة ، فتطور الأحكام التشريعية ، ووقف العمل بحكم سابق ، وإحلال حكم آخر لاحق محله مما اقتضاه منهج التربية فى الإسلام.
      ولا نزاع فى أن حكم الجلد فى غير المحصنين ، والرجم فى الزناة المحصنين ، أحسم للأمر ، وأقطع لمادة الفساد.
      وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزل حكماً آخر يحل محله ، وهو الجلد والرجم حاشا لله.
      والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة الله وحسن تدبيره ، أمَّا أن يكون فيه مساس بكمال الله. فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقول أو المعاندين للحق الأبلج الذى أنزله الله وهذا النسخ كان معمولاً به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام.
      ومن أقطع الأدلة على ذلك ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام فى قوله لبنى إسرائيل: (ولأحل لكم بعض الذى حُرِّم عليكم) (6).
      وفى أناجيل النصارى طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بها فى العهد القديم.
      ومثيروهذه الشبهات ضد القرآن يعرفون جيداً وقوع النسخ بين بعض مسائل العهد القديم والعهد الجديد. ومع هذا يدعون بإصرار أن التوراة والأناجيل الآن متطابقان تمام الانطباق (7).
      ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
      (يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (8).
      وقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) (9).
      والآيتان فيهما نسخ واضح. فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة (1: 10) ، والآية الثانية توجب مواجهة المؤمنين للعدو بنسبة (1: 2).
      وهذا التطور التشريعى قد بين الله الحكمة التشريعية فيه ، وهى التخفيف على جماعة المؤمنين فى الأعباء القتالية فما الذى يراه عيباً فيه خصوم الإسلام ؟
      لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حق مخلصين لاهتدوا إليه من أقصر طريق ، لأن الله عزوجل لم يدع مجالاً لريبة يرتابها مرتاب فى هاتين الآيتين. لكنهم يبحثون عن " العورات " فى دين أكمله الله وأتم النعمة فيه ، ثم ارتضاه للناس ديناً.
      وقد قال الله فى أمثالهم:
      (ولو نزلنا عليك كتاباً فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) (10).
      ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
      (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج...) (11).
      وقوله تعالى:(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً...) (12).
      أجل ، هاتان الآيتان فيهما نسخ ؛ لأن موضوعهما واحد ، هو عدة المتوفى عنها زوجها.
      الآية الأولى: حددت العدة بعام كامل.
      والآية الثانية: حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ليال.
      والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى ، وإن كان ترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية.
      والناسخ هو الآية الثانية ، التى حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ليال ، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآية المنسوخ حكمها.
      وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف ، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً ، والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف ، أدعى لامتثال الأمر ، وطاعة المحكوم به.. وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده. وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب.
      القسم الثانى:
      أما القسم الثانى ، فقد ذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها ، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل ، لا يفرقون بين الحطب ، وبين الثعابين ، وكفى بذلك حماقة.
      وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً ، وهو أبعد ما يكون عن النسخ.
      النموذج الأول:
      (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) (13).
      (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (14).
      زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً ، إحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين ، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش ، لأن قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة.
      والآية الثانية لم ولن تنسخ هذا المبدأ الإسلامى العظيم ؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآية الأولى: (لا إكراه فى الدين).
      لأن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) له سبب نزول خاص. فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرمها معهم المسلمون. وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية فى المدينة ، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها. فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة ، ويعطوا الجزية فى غير استعلاء.
      أجل: إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام. ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً فى الكف عن قتالهم ، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها ، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فى تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.
      ومثيرو هذه الشبهات يعلمون جيداً أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم ، وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم ، فلما نقضوا العهود ، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.
      ويعلمون كذلك أن النبى (عقد صلحاً سِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران ، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية ، ثم أقرهم على عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية.
      وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام. هذه الوقائع كلها تعلن عن سماحة الإسلام ، ورحابة صدره ، وأنه لم يضق بمخالفيه فى الدين والاعتقاد.
      فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو برىء منه ؟
      إنه الحقد والحسد. ولا شىء غيرهما ، إلا أن يكون العناد.
      النموذج الثانى:
      (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (15).
      (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (16).
      والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما. بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى ، فقد جاء فى الآية الأولى: " فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "
      ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)فأين النسخ إذن ؟.
      أما المنافع فى الخمر والميسر ، فهى: أثمان بيع الخمر ، وعائد التجارة فيها ، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر ، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام ، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً ، حتى لا يضر بمصالح الناس.
      وبعد أن تدرج فى تضئيل دورها فى حياة الناس الاقتصادية وسد منافذ رواجها ، ونبه الناس على أن حسم الأمر بتحريمها آتٍ لا محالة وأخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى ، جاءت آية التحريم النهائى فى سورة المائدة هذه: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذه هى حقيقة النسخ وحكمته التشريعية ، وقيمته التربوية ومع هذا فإنه نادر فى القرآن.
      المراجع
      (1) هذا التعريف راعينا فيه جمع ما تفرق فى غيره من تعريفات الأصوليين مع مراعاة الدقائق والوضوح.
      (2) الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى. أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة ، فخصصت الجلد بغير المحصنين.
      (3) منهم الدكتور عبد المتعال الجبرى وله فيه مؤلف خاص نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة ، والدكتور محمد البهى ومنهم الشيخ محمد الغزالى.
      (4) النساء: 15.
      (5) النور: 2.
      (6) آل عمران: 50.
      (7) انظر كتابنا " الإسلام فى مواجهة الاستشراق العالمى " طبعة دار الوفاء.
      (8)الأنفال: 65.
      (9)الأنفال: 66.
      (10) الأنعام: 7.
      (11)البقرة: 240
      (12) البقرة:234.
      (13) البقرة: 256.
      (14) التوبة: 29.
      (15) البقرة: 219.
      (16) المائدة: 90.

      10- الكلام الغريب
      فى القرآن كثير من الكلمات الغريبة ، وهاكم بعضاً منها: فاكهةً وأبًّا ، غسلين ، حنانا ، أوَّاه ، الرقيم ، كلالة ، مبلسون ، أخبتوا ، حنين ، حصحص ، يتفيؤا ، سربا ، المسجور ، قمطـرير ، عسعس ، سجيل ، الناقور ، فاقرة ، استبرق ، مدهامتان..
      ونحـن نسـأل: أليسـت هــذه الألفـاظ الغريبة مخـالفة للسـليم من الإنشاء.. ؟!
      * الرد علىالشبهة:
      لا وجود فى القرآن لكلمة واحدة من الغريب حقّا ، كما يعرفه اللغويون والنقاد.
      فالغريب ـ الذى يعد عيباً فى الكلام ، وإذا وجد فيه سلب عنه وصف الفصاحـة والبلاغـة ـ هو ما ليس له معنى يفـهم منـه على جهة الاحتمال أو القطع ، وما ليس له وجود فى المعاجم اللغوية ولا أصل فى جذورها.
      والغريب بهذا المعنى ليس له وجود فى القرآن الكريم ، ولا يحتج علينا بوجود الألفاظ التى استعـملت فى القرآن من غير اللغة العربية مثل: إستبرق ، وسندس ، واليم ، لأن هذه الألفاظ كانت مأنوسة الاستعمال عند العرب حتى قبل نزول القرآن ، وشائعة شيوعاً ظاهراً فى محادثاتهم اليومية وكتاباتهم الدورية.
      وهى مفردات وليست تراكيب. بل أسماء مفردة لأشخاص أو أماكن أو معادن أو آلات.
      ثم إنها وإن لم تكن عربية الأصل ، فهى ـ بالإجماع ـ عربية الاسـتعمال. ومعـانيها كانت ـ وما تزال ـ معـروفة فى القـرآن ، وفى الاستعمال العام.
      ومنها الكلمات التى ذكروها مما هو ليس عربيّا ، مثل:غسلين ، ومعناها: الصديد ، أى صديد أهل النار ، وما يسيل من أجسادهم من أثر الحـريق ، ولما كان يسيل من كل أجسامهم شبه بالماء الذى يُغسَل به الأدران. أما بناؤه على: فعلين فظاهر أنه للمبالغة. ومثل: " قمطريرا " ومعناها: طويلاً ، أو شديداً. ومثل: " إستبرق " ومعناهـا: الديباج. وهكذا كل ما فى القرآن من لغة غير عربية الأصل فهى عربية الاستعمال بألفاظها ومعانيها. وكانت العرب تلوكها بألسنتها قبل نزول القرآن.
      واستعـارة اللغات من بعضـها من سنن الاجـتماع البشرى ودليل على حيوية اللغة. وهذه الظاهرة فاشية جدّا فى اللغات حتى فى العصر الحديث. ويسميها اللغويون بـ " التقارض " بين اللغات ، سواء كانت لغات سامية أو غيرها كالإنجليزية والألمانية والفرنسية وفى اللغة الأسبانية كلمات مستعملة الآن من اللغة العربية.
      أما مااقترضته اللغة العربية من غيرها من اللغات القديمة أو ما له وجود حتى الآن فقد اهتم به العلماء المسلمون ونصوا عليه كلمة كلمة ، وأسـموه بـ " المعـرَّب " مثل كتاب العلامة الجواليقى ، وقد يسـمونه بـ " الدخيل " هذا بالنسبة لما ذكروه من الكلمات غير العربية الأصل ، التى وردت فى القرآن الكريم.
      أما بقية الكلمات فهى عربية الأصل والاستعمال ولكن مثيرى هذه الشبهات قوم يجهلون فكلمة " حنان " لها جذر لغوى عربى ، يقال: حنَّ ، بمعنى. رق قلبه ومال إلى العطف على الآخرين. والمضارع: يحن والمصدر: الحنان والحنين ، وقد يستعملان استعمال الأسماء.
      ومنه قول الشاعر:
      حننت إلى ريَّا ونفسك باعـدت * مزارك من رياء ونفساكما معا
      وأما " أوَّاه " فهو اسـم فاعـل من " التـأوُّه " على صيغـة المبالغة " فعَّال ".
      وكذلك " حصحص " ومعناه: ظهر وتبيَّن.
      ومنه قـول الشــاعر العـربى القديم:
      من مُبْلغٌ عنى خِداشاً فإنـه * كذوب إذا ما حصحص الحق كاذب
      أما الناقـور فهو اسـم من " النقر " كالفاروق من الفراق.
      وحتى لو جارينا هؤلاء الحاقدين ، وسلمنا لهم جدلاً بأن هذه الكلمات غريبة ؛ لأنها غير عربية ، فإنها كلمات من " المعرَّب " الذى عرَّبه العرب واستعملوه بكثرة فصار عربيّا بالاستعمال. ومعانيه معروفة عند العرب قبل نزول القرآن. وما أكثر الكلمات التى دخلت اللغة العربية ، وهجر أصلها وصارت عربية. فهى إذن ـ ليست غريبة ، لأن الغريب ما ليس له معنى أصلاً ، ولا وجود له فى المعاجم اللغوية ، التى دونت فيها ألفاظ اللغة.
      * * *
      قد يقـال: كيف تنكـرون " الغريب " فى القرآن ، وهو موجود باعتراف العلماء ، مثل الإمام محمد بن مسلم بن قتيبة العالم السنى ، فقد وضع كتاباً فى " غريب القرآن " وأورده على وفق ما جاء فى سور القرآن سورة سورة ؟
      وكذلك صنع السجستانى وتفسيره لغريب القرآن مشهور.
      ومثله الراغب الأصفهانى فى كتابه " المفردات " فى شرح غريب القرآن.
      ثم الإمام جلال الدين السيوطى ، العالم الموسوعى ، فله كتاب يحمل اسم " مبهمات القرآن ".
      ألا يُعد ذلك اعترافاً صـريحاً من هؤلاء الأئمة الأفذاذ بورود الغريب فى القرآن الكريم ؟ ومن العلماء المحدثين الشيخ حسنين مخلوف ، مفتى الديار المصـرية فى النصف الأول من القـرن العشـرين ، وكتـابه " كلمات القرآن لا يجهله أحد ".
      كما أن جميع مفسرى القرآن قاموا بشرح ما رأوه غريباً فى القرآن. فكيف يسوغ القول ـ الآن ـ بإنكار وجود الغريب فى القرآن أمام هذه الحقائق التى لا تغيب عن أحد ؟
      من حق غير الملم بفقه هذه القضية ـ قضية الغريب ـ أن يسألوا هذا السؤال ، ومن واجبنا أن نجيب عليه إجابة شافية وافية بعون الله وتوفيقه.
      والجـواب:
      هذا السؤال جدير بأن نستقصى جوانب الإجابة عليه لوجاهته وأهميته. فنقول مستمدين الهداية والتوفيق من الله العلى الحكيم.
      فأولاً: إن الغـريب الذى نسـب فى كـتب العـلماء ـ رضى الله عنهم ـ إلى القرآن ، إنما هو غريب نسبى وليس غريباً مطلقاً.
      فالقرآن فى عصر الرسالة ، وعصر الخلفاء الراشدين كان مفهوماً لجميع أصحاب رسول. صلى الله عليه وسلم ولم يرد فى رواية صحيحة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب عنهم فهم ألفاظ القرآن من حيث الدلالة اللغوية البحتة ، وكل ما وردت به الرواية أن بعضهم سأل عن واحد من بضعة ألفاظ لا غير. وهى روايات مفتقرة إلى توثيق ، وقرائن الأحوال ترجح عدم وقوعها ، والألفاظ المسئول عنها هى:
      غسلين ، قسورة ، أبّا ، فاطر ، أوَّاه ، حنان. وقد نسبوا الجهل بمعانى هذه الكلمات إما إلى عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، وإما إلى ابن عباس رضى الله عنهما ، وكلا الرجلين أكبر من هذه الاتهامات.
      ومما يضعف إسناد الجهل إلى عمر رضى الله عنه ، بمعنى كلمة " أبًّا " أن عمر كما تقـول الرواية سأل عن معـناها فى خـلافته ، مع أن سـورة " عبس " التى وردت فيها هذه الكلمة من أوائل ما نزل بمكة قبل الهجرة ، فهل يُعقَلُ أن يظل عمر جاهلا بمعنى " أبًّا " طوال هذه المدة (قرابة ربع قرن) ؟
      أما ابن عباس رضى الله عنه فإن صحت الرواية عنه أنه سأل عن معانى " غسلين " و " فاطر " فإنه يحتمل أنه سأل عنها فى حداثة سنه. ومعروف أن ابن عباس كان معروفاً بـ " ترجمان القرآن " ومعنى هذا أنه كان متمكناً من الفقه بمعانى القرآن ، وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له قائلاً: [اللهم فقهه فى الدين ، وعلمه التأويل].
      هذا فيما يتعلق بشأن الروايات الواردة فى هذا الشأن.
      أما فيما يتعـلق بالمؤلفات قديماً وحديثاً حول ما سمى بـ " غريب القرآن " فنقول:
      إن أول مؤلف وضع فى بيان غريب القرآن هو كتاب " غريب القرآن " لابن قتيبة (فى القرن الثالث الهجرى) وهذا يرجح أن ابن قتيبة ، لم يكتب هذا الكتاب للمسلمين العرب ، بل كان القصد منه هو أبناء الشعوب غير العربية التى دخلت فى الإسلام ، وكانوا يتحدثون لغات غير اللغة العربية.
      أما مسلموالقرنين الأول والثانى الهجريين ، والنصف الأول من القرن الثالث ، فلم يكن فيها ـ فيما نعـلم ـ كتب حول بيان غريب القرآن ، سوى تفســير عبـد الله بن عباس ـ رضى الله عنه ـ ، وكتاب " مجازات القرآن " لأبى عبيدة معمر بن المثنى (م 210هـ) وهما أعنى تفـسير ابن عباس ، ومجازات أبى عبيدة ، ليسا من كتب الغريب ، بل هما: محاولتان مبكرتان لتفسير القرآن الكريم مفردات وتراكيب (1).
      ولما تقادم الزمن على نزول القرآن ، وضعف المحصول اللغوى عند الأجيال اللاحقة ، قام بعض العلماء المتأخرين ـ مثل: الراغب الأصفهانى ، صاحب كتاب " مفردات القرآن " ، وجـلال الدين السيوطى ، صاحب كتاب " مبهمات القرآن " ـ بوضع كتب تقرب كتاب الله إلى الفهم ، وتقدم بيان بعض المفردات التى غابت معانيها واستعمالاتها عن الأجيال المتأخرة.
      وهذا يسلمنا إلى حـقيقة لاحـت فى الأفق من قبل ، نعيد ذكرها هنا فى الآتى:
      إن ما يطلق عليه " غريب القرآن " فى بعض المؤلفات التراثية ومنها كتب علوم القرآن ، وما تناوله مفسرو القرآن الكريم فى تفاسيرهم ، هو غريب نسبى لا مطلق ، غريب نسبى باعتبار أنه مستعار من لغات أخرى غير اللغة العربية ، أو من لهجات عربية غير لهجة قريش التى بها نزل القرآن وغريب نسبى باعتبار البيئات التى دخلها الإسلام ، وأبناؤها دخلاء على اللغة العربية ، لأن لهم لغاتٍ يتحدثون بها قبل دخولهم فى الإسلام ، وظلت تلك اللغـات سائدة فيهم بعد دخولهم فى الإسلام وغريب نسبى باعتبار الأزمان ، حتى فى البيئات العربية ، لأن الأجيال المتأخرة زمناً ضعفت صلتهـم باللغة العربية الفصحى مفردات وتراكيب. وكل هذه الطوائف كانت ، وما تزال ، فى أمس الحاجة إلى ما يعينهم على فهـم القرآن ، وتذوق معانيه ، والمدخل الرئيس لتذوق معانى القرآن هو فهم معانى مفرداته ، وبعض أساليبه.
      والغريب النسبى بكل الاعتبارات المتقدمة غريب فصيح سائغ ، وليس غريباً عديم المعنى ، أو لا وجود له فى معاجم اللغة ومصادرها ، وهذا موضع إجماع بين علماء اللغة والبيان ، فى كل عصر ومصر. ولا وزن لقول من يزعم غير هذا من الكارهين لما أنزل الله على خاتم أنبيائه ورسله.
      مسائل ابن الأزرق
      بقى أمر مهم ، له كبير صلة بموضوع " الغريب " فى القرآن ذلك الأمر هو ما عرف فى كتب الأقدمين بـ " مسائل ابن الأزرق " ونوجز القول عنها هنا إيجازاً يكشف عن دورها فى الانتصار للحق ، فى مواجهة مثيرى هذه الشبهات ومسائل ابن الأزرق مسطـورة فى كثير من كتب التراث مثـل ابن الأنبارى فى كتابه " الوقف " والطبرانى فى كتابه " المعجم الكبير " والمبرد فى كتابه " الكامل ". وجـلال الدين السـيوطى فى كتابه " الإتقان فى علوم القرآن " وغيرهم.
      ولهذه المسائل قصة إيجازها: أن عبد الله بن عباس كان جالساً بجوار الكعبة يفسر القرآن الكريم ، فأبصره رجلان هما: نافع بن الأزرق ، ونجدة بن عويمر ، فقال نافع لنجدة " قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على القرآن ويفسره بما لا علم له به. فقاما إليه فقالا له:
      إنَّا نريد أن نسألك عن أشياء فى كتاب الله ، فتفسرها لنا ، وتأتينا بما يصادقه من كلام العرب. فإن الله أنزل القرآن بلسان عربى مبين.
      فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما. ثم أخذا يسألانه وهو يجيب بلا توقف ، مستشهداً فى إجاباته على كل كلمة ، " قرآنية " سألاه عنها بما يحفظه من الشعر العربى المأثور عن شعراء الجاهلية ، ليبين للسائلين أن القرآن نزل بلسان عربى مبين.
      وكان الإمام جلال الدين السيوطى قد جمع هذه المسائل وذكر منها مائة وثمانٍ وثمانين كلمة ، وقد حرص على ذكر إجابات ابن عباس عليها رضى الله عنه ، وقال: إنه أهمل نحو أربع عشرة كلمة من مجموع ما سئل عنه ابن عباس (2).
      وها نحن أولاء نورد نماذج منها ، قبل التعليق عليها ، ولماذا أشرنا إليها فى مواجهة هذه الشبهة التى تزعم أن ألفاظ الكتاب العزيز " غريبة " وغير مفهومة.
      النموذج الأول: " عزين "
      قال نافع بن الأزرق لابن عباس:
      أخبرنى عن قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين) (3).
      قال ابن عباس: عزين: الحلق من الرفاق. فسأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟
      فقال ابن عباس: نعم ، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
      فجاءوا يُهرعون إليه حتى يكونوا حول منسره عزينا
      يعنى جماعات يلتفون حول الرسول(، وهو مشتق من الاعتزاء ، أى ينضم بعضهم إلى بعض ، قال الراغب فى المفردات: العزين: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض (4).
      النموذج الثانى: " الوسيلة "
      قال نافع: أخبرنى عن قوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) (5). قال ابن عباس: الوسيلة: الحاجة ، قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟
      قال ابن عباس: نعم ، أما سمعـت قـول عنتــرة:
      إن الرجال لهم إليك وسيلة
      أن يأخذوك تكحلى وتخضبى
      يعنى: اطلبوا من الله حاجاتكم. واستعمال الوسيلة فى معنى الحاجة كما فسرها ابن عباس فيها إلماح أن طريق قضاء الحوائج يكون إلى الله ؛ لإن معنى الوسيلة: الطريق الموصل إلى الغايات.
      النموذج الثالث: " شرعةً ومنهاجاً "
      وسأله نافع عن الشرعة والمنهاج فى قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ) (6). فقال ابن عباس: الشرعة: الدين ، والمنهاج: الطريق ، واستشهد بقول أبى سفيان الحارث بن عبد المطلب:
      لقد نطق المأمون بالصدق والهدى
      وبين للإسلام ديناً ومنهجاً.
      النموذج الرابع: " ريشاً "
      وسأله نافع عن كلمة " ريشاً " فى قوله تعالى: (يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير.. ) (7).
      ففسره ابن عباس بالمال ، واستشهد بقول الشاعر:
      فريشى بخير طـالما قد بريتنى
      وخير الموالى من يريش ولا يبرى
      النموذج الخامس: " كَبد "
      وسأله نافع عن كلمة " كَبد " فى قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى كبد ) (8).
      فقال ابن عباس: فى اعتدال واستقامة. ثم استشهد بقول لَبِيد بن ربيعة:
      يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم فى كبد
      وهكذا نهج ابن عباس فى المسائل الـ (188) التى وجهت إليه ، يجيب عنها بسرعة مذهلة ، وذاكرة حافـظة لأشعار العـرب ، وسـرعة بديهة فى استحضار الشواهـد الموافقة لفظاً ومعنى للكلمات القرآنية ، التى سئل عنها (9).
      وهذا يؤكد لنا حقيقتين أمام هذه الشبهات التى أثارها الحاقدون ضد القرآن الكريم.
      الأولى: كذب الادعاءات التى نسبت لابن عباس الجهل ببعض معانى كلمات القرآن.
      الثانية: أن القرآن كله لا غريب فيه بمعنى الغريب الذى يعاب الكلام من أجله ، وأن نسبة الغريب إليه فى كتابات السلف ، تعنى الغريب النسبى لا الغريب المطلق ، وقد تقدم توضيح المراد من الغريب النسبى فى هذا المبحث ، باعتبار الزمان ، وباعتبار البيئة والمكان ، وأن ما وضعه القدماء من مؤلفات تشرح غريب القرآن إنما كان المقصود به إما أبناء الشعوب التى دخلت الإسلام من غير العرب. وإما للأجيال الإسلامية المتأخرة زمنا ، التى غابت عنها معانى بعض الألفاظ.
      وقد يضاف إلى هذا كله الألفاظ المشتركة والمترادفة والمتضادة، والاحتمالية المعنى.
      أما أن يكون فى القرآن غريب لا معنى له وغير مأنوس الاستعمال. فهذا محال ، محال.. والحمد لله رب العالمين.
      المراجع
      (1) هذا وقد ظهرت مؤلفات أخرى فى هذا الموضوع مثل " معانى القرآن " للفراء ، وغيره من الأقدمين. وهى ليست من كتب الغريب، بل لها مجالات بحث أخرى كالقراءات.
      (2) الإتقان فى علوم القرآن. فصل ما يجب على المفسر لكتاب الله.
      (3) المعارج: 37.
      (4) ومنه قول العامة " عزوة " أى جماعة انظر حرفى العين والزاى فى كتاب الراغب.
      (5) المائدة: 35.
      (6) المائدة:48.
      (7) الأعراف 26
      (8) البلد: 4.
      (9) انظر " الإعجاز البيانى للقرآن. د/عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ط: دار المعارف بالقاهرة.


      تابعو


      تعليق

      • المتفائل

        #4

        11- الكلام المنقول عن غيره دعوى أن القرآن مقتبس من التوراة
        الشبهة التى تمسكوا بها وُرُودُ مواضع بينها تشابه فى كل من التوراة والقرآن الكريم. ومن أبرزها الجانب القصصى. وبعض المواضع التشريعية تمسكوا بها ، وقالوا: إن القرآن مقتبس من التوراة ، وبعضهم يضيف إلى هذا أن القرآن اقتبس مواضع أخرى من " الأناجيل ".
        * الرد على الشبهة:
        كيف يتحقق الاقتباس عموماً ؟
        الاقتباس عملية فكرية لها ثلاثة أركان:
        الأول: الشخص المُقتَبَس منه.
        الثانى: الشخص المُقتَبِس (اسم فاعل).
        الثالث: المادة المُقتَبَسَة نفسها (اسم مفعول).
        والشخص المقتَبَس منه سابق إلى الفكرة ، التى هى موضوع الاقتباس ، أما المادة المقُتَبَسَة فلها طريقتان عند الشخص المُقتَبِس ، إحداهما: أن يأخذ المقتبِس الفكرة بلفظها ومعناها كلها أو بعضها. والثانية: أن يأخذها بمعناها كلها أو بعضها كذلك ويعبر عنها بكلام من عنده.
        والمقتبِس فى عملية الاقتباس أسير المقتبس منه قطعاً ودائر فى فلكه ؛ إذ لا طريق له إلى معرفة ما اقتبس إلا ما ذكره المقتبس منه. فهو أصل ، والمقتبِس فرع لا محالة.
        وعلى هذا فإن المقتبس لابد له وهو يزاول عملية الاقتباس من موقفين لا ثالث لهما:
        أحدهما: أن يأخذ الفكرة كلها بلفظها ومعناها أو بمعناها فقط.
        وثانيهما: أن يأخذ جزءً من الفكرة باللفظ والمعنى أو بالمعنى فقط.
        ويمتنع على المقتبس أن يزيد فى الفكرة المقتبسة أية زيادة غير موجودة فى الأصل ؛ لأننا قلنا: إن المقتبس لا طريق له لمعرفة ما اقتبس إلا ما ورد عند المقتبس منه ، فكيف يزيد على الفكرة والحال أنه لا صلة له بمصادرها الأولى إلا عن طريق المقتبس منه.
        إذا جرى الاقتباس على هذا النهج صدقت دعوى من يقول إن فلاناً اقتبس منى كذا.
        أما إذا تشابه ما كتبه اثنان ، أحدهما سابق والثانى لاحق ، واختلف ما كتبه الثانى عما كتبه الأول مثل:
        1- أن تكون الفكرة عند الثانى أبسط وأحكم ووجدنا فيها مالم نجده عند الأول.
        2- أو أن يصحح الثانى أخطاء وردت عند الأول ، أو يعرض الوقائع عرضاً يختلف عن سابقه.
        فى هذه الحال لا تصدق دعوى من يقول إن فلانا قد اقتبس منى كذا.
        ورَدُّ هذه الدعوى مقبول من المدعى عليه ، لأن المقتبس (اتهامًا) لما لم يدر فى فلك المقتبس منه (فرضاً) بل زاد عليه وخالفه فيما ذكر من وقائع فإن معنى ذلك أن الثانى تخطى ما كتبه الأول حتى وصل إلى مصدر الوقائع نفسها واستقى منها ما استقى. فهو إذن ليس مقتبساً وإنما مؤسس حقائق تلقاها من مصدرها الأصيل ولم ينقلها عن ناقل أو وسيط.
        وسوف نطبق هذه الأسس التى تحكم عملية الاقتباس على ما ادعاه القوم هنا وننظر:
        هل القرآن عندما اقتبس كما يدعون من التوراة كان خاضعاً لشرطى عملية الاقتباس وهما: نقل الفكرة كلها ، أو الاقتصار على نقل جزء منها فيكون بذلك دائراً فى فلك التوراة ، وتصدق حينئذ دعوى القوم بأن القرآن (معظمه) مقتبس من التوراة ؟
        أم أن القرآن لم يقف عند حدود ما ذكرته التوراة فى مواضع التشابه بينهما ؟ بل:
        1 عرض الوقائع عرضاً يختلف عن عرض التوراة لها.
        2 أضاف جديداً لم تعرفه التوراة فى المواضع المشتركة بينهما.
        3 صحح أخطاء " خطيرة " وردت فى التوراة فى مواضع متعددة.
        4 انفرد بذكر " مادة " خاصة به ليس لها مصدر سواه.
        5 فى حالة اختلافه مع التوراة حول واقعة يكون الصحيح هو ما ذكره القرآن. والباطل ما جاء فى التوراة بشهادة العقل والعلم إذا كان الاحتمال الأول هو الواقع فالقرآن مقتبس من التوراة..
        أما إذا كان الواقع هو الاحتمال الثانى فدعوى الاقتباس باطلة ويكون للقرآن فى هذه الحالة سلطانه الخاص به فى استقاء الحقائق ، وعرضها فلا اقتباس لا من توراة ولا من إنجيل ولا من غيرهما.
        لا أظن أن القارئ يختلف معنا فى هذه الأسس التى قدمناها لصحة الاتهام بالاقتباس عموماً.
        وما علينا بعد ذلك إلا أن نستعرض بعض صور التشابه بين التوراة والقرآن ، ونطبق عليها تلك الأسس المتقدمة تاركين الحرية التامة للقارئ سواء كان مسلماً أو غير مسلم فى الحكم على ما سوف تسفر عنه المقارنة أنحن على صواب فى نفى الاقتباس عن القرآن ؟.
        والمسألة بعد ذلك ليست مسألة اختلاف فى الرأى يصبح فيها كل فريق موصوفاً بالسلامة ، وأنه على الحق أو شعبة من حق.
        وإنما المسألة مسألة مصير أبدى من ورائه عقيدة صحيحة توجب النجاة لصاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
        أو عقيدة فاسدة تحل قومها دار البوار يوم يقدم الله إلى ما عملوا من عمل فيجعله هباءً منثوراً.
        الصورة الأولى من التشابه بين التوراة والقرآن. لقطة من قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز
        تبدأ هذه اللقطة من بدء مراودة امرأة عزيز مصر ليوسف (عليه السلام) ليفعل بها الفحشاء وتنتهى بقرار وضع يوسف فى السجن. واللقطة كما جاءت فى المصدرين هى:
        أولاً: نصوصها فى التوراة: (1)
        " وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينها إلى يوسف وقالت: اضطجع معى ، فأبى وقال لامرأة سيده: هو ذا سيدى لا يعرف معى ما فى البيت وكل ما له قد دفعه إلى يدى ، ليس هو فى هذا البيت أعظم منى. ولم يمسك عنى شيئا غيرك لأنك امرأته. فكيف أصنع هذا الشر العظيم ، وأخطئ إلى الله ، وكانت إذ كلمت يوسف يومًا فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها..
        ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك فى البيت فأمسكته بثوبه قائلة اضطجع معى فترك ثوبه فى يدها وخرج إلى خارج ، وكان لما رأت أنه ترك ثوبه فى يدها ، وهرب إلى خارج أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة:
        " انظروا قد جاء إلينا برجل عبرانى ليداعبنا دخل إلىّ ليضطجع معى فصرخت بصوت عظيم ، وكان لما سمع أنى رفعت صوتى وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبى وهرب وخرج إلى خارج. فَوَضَعَتْ ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل إلىَّ العبد العبرانى الذى جئت به إلينا ليداعبنى وكان لما رفعت صوتى وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبى وهرب إلى خارج فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذى كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بى عبدك أن غضبه حمى..
        فأخذ سيدُه يوسف ووضعه فى بيت السجن المكان الذى كان أسرى الملك محبوسين فيه ".
        نصوص القرآن الأمين
        (وَرَاوَدَتْهُ التى هوَ فى بيتها عن نفسه وغلّقتِ الأبوابَ وقالتْ هيت لك قال معاذ الله إنهُ ربى أحسنَ مثواى إنهُ لايُفلحُ الظالمون *ولقد هَمَّتْ به وَهَمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرفَ عنهُ السوءَ والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دُبرٍ وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاءُ من أراد بأهلكَ سوءًا إلا أن يُسجن أو عذابٌ أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصُه قُد من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُد من دُبرٍ فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قُد من دُبرٍ قال إنه من كيدكُنَّ إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبكِ إنك كنتِ من الخاطئين... (2) ثم بدا لهم من بعد مارأوا الآيات لَيَسْجنُنَّهُ حتى حين ) (3).
        تلك هى نصوص الواقعة فى المصدرين:
        وأدعو القارئ أن يقرأ النصين مرات قراءة متأنية فاحصة. وأن يجتهد بنفسه فى التعرف على الفروق فى المصدرين قبل أن يسترسل معنا فيما نستخلصه من تلك الفروق. ثم يكمل ما يراه من نقص لدينا أو لديه فقد يدرك هو ما لم ندركه ، وقد ندرك نحن ما لم يدركه وربَّ قارئ أوعى من كاتب..
        الفروق كما نراها
        التوراة: القرآن الأمين
        المراودة حدثت مرارًا ونُصح يوسف لامرأة سيده كان قبل المرة الأخيرة: المراودة حدثت مرة واحدة اقترنت بعزم المرأة على يوسف لينفذ رغبتها.
        تخلو من الإشارة إلى تغليق الأبواب وتقول إن يوسف ترك ثوبه بجانبها وهرب وانتظرت هى قدوم زوجها وقصت عليه القصة بعد أن أعلمت بها أهل بيتها.: يشير إلى تغليق الأبواب وأن يوسف هم بالخروج فَقَدَّتْ ثوبه من الخلف وحين وصلا إلى الباب فوجئا بالعزيز يدخل عليهما فبادرت المرأة بالشكوى فى الحال.
        لم يكن يوسف موجوداً حين دخل العزيز ولم يدافع يوسف عن نفسه لدى العزيز.: يوسف كان موجوداً حين قدم العزيز ، وقد دافع عن نفسه بعد وشاية المرأة ، وقال هى راودتنى عن نفسى.
        تخلو من حديث الشاهد وتقول إن العزيز حمى غضبه على يوسف بعد سماع المرأة: يذكر تفصيلاً شهادة الشاهد كما يذكر اقتناع العزيز بتلك الشهادة ولومه لامرأته وتذكيرها بخطئها. وتثبيت يوسف على العفة والطهارة.
        تقول إن العزيز فى الحال أمر بوضع يوسف فى السجن ولم يعرض أمره على رجال حاشيته.
        يشير إلى أن القرار بسجن يوسف كان بعد مداولة بين العزيز وحاشيته.
        تخلو من حديث النسوة اللاتى لُمْنَ امرأة العزيز على مراودتها فتاها عن نفسه ، وهى فجوة هائلة فى نص التوراة.
        يذكر حديث النسوة بالتفصيل كما يذكر موقف امرأة العزيز منهن ودعوتها إياهن ملتمسة أعذارها لديهن ومصرة على أن ينفذ رغبتها
        هذه ستة فروق بارزة بين ما يورده القرآن الأمين ، وما ذكرته التوراة. والنظر الفاحص فى المصدرين يرينا أنهما لم يتفقا إلا فى " أصل " الواقعة من حيث هى واقعة وكفى ، ويختلفان بعد هذا فى كل شىء. على أن القرآن قام هنا بعملين جليلى الشأن:
        أولهما: أنه أورد جديداً لم تعرفه التوراة ومن أبرز هذا الجديد:
        (1) حديث النسوة وموقف المرأة منهن.
        (2) شهادة الشاهد الذى هو من أهل امرأة العزيز.
        ثانيهما: تصحيح أخطاء وقعت فيها التوراة ومن أبرزها:
        (1) لم يترك يوسف ثوبه لدى المرأة بل كان لابساً إياه ولكن قطع من الخلف.
        (2) غياب يوسف حين حضر العزيز وإسقاطها دفاعه عن نفسه.
        اعتراض وجوابه:
        قد يقول قائل: لماذا تفترض أن الخطأ هو ما فى التوراة ، وأن الصواب هو ما فى القرآن ؟! أليس ذلك تحيزاً منك للقرآن ؛ لأنه كتاب المسلمين وأنت مسلم ؟ ولماذا تفترض العكس ؟ وإذا لم تفترض أنت العكس فقد يقول به غيرك ، وماتراه أنت لا يصادر ما يراه الآخرون. هذا الاعتراض وارد فى مجال البحث. وإذن فلابد من إيضاح.
        والجواب:
        لم نتحيز للقرآن لأنه قرآن. ولنا فى هذا الحكم داعيان:
        الأول: لم يرد فى القرآن - قط - ما هو خلاف الحق ؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وقد ثبتت هذه الحقيقة فى كل مجالات البحوث التى أجريت على " مفاهيم " القرآن العظيم فى كل العصور. وهذا الداعى وحده كافٍ فى تأييد ما ذهبنا إليه.
        الثانى: وهو منتزع من الواقعة نفسها موضوع المقارنة وإليك البيان: كل من التوراة والقرآن متفقان على " عفة يوسف "وإعراضه عن الفحشاء. ثم اختلفا بعد ذلك:
        فالتوراة تقول: إن يوسف ترك ثوبه كله لدى المرأة وهرب والقرآن يقول: إنه لم يترك الثوب بل أمسكته المرأة من الخلف ولما لم يتوقف يوسف عليه السلام اقتطعت قطعة منه وبقيت ظاهرة فى ثوبه.
        فأى الروايتين أليق بعفة يوسف المتفق عليها بين المصدرين ؟! أن يترك ثوبه كله ؟! أم أن يُخرق ثوبه من الخلف ؟!
        إذا سلمنا برواية التوراة فيوسف ليس " عفيفاً " والمرأة على حق فى دعواها ؛ لأن يوسف لا يخلع ثوبه هكذا سليماً إلا إذا كان هو الراغب وهى الآبية.
        ولا يقال إن المرأة هى التى أخلعته ثوبه ؛ لأن يوسف رجل ، وهى امرأة فكيف تتغلب عليه وتخلع ثوبه بكل سهولة ، ثم لماذا لم تحتفظ هى بالثوب كدليل مادى على جنايته المشينة ؟!
        وهل خرج يوسف " عريانًا " وترك ثوبه لدى غريمته..؟!
        والخلاصة أن رواية التوراة فيها إدانة صريحة ليوسف وهذا يتنافى مع العفة التى وافقت فيها القرآن الأمين.
        أما رواية القرآن فهى إدانة صريحة لامرأة العزيز ، وبراءة كاملة ليوسف عليه السلام .
        لقد دعته المرأة إلى نفسها ففر منها. فأدركته وأمسكته من الخلف وهو ما يزال فاراً هارباً من وجهها فتعرض ثوبه لعمليتى جذب عنيفتين إحداهما إلى الخلف بفعل المرأة والثانية إلى الأمام بحركة يوسف فانقطع ثوبه من الخلف.
        وهذا يتفق تماماً مع العفة المشهود بها ليوسف فى المصدرين ولهذا قلنا: إن القرآن صحح هذا الخطأ الوارد فى التوراة.
        .. فهل القرآن مقتبس من التوراة ؟!
        فهل تنطبق على القرآن أسس الاقتباس أم هو ذو سلطان خاص به فيما يقول ويقرر ؟.
        المقتبس لا بد من أن ينقل الفكرة كلها أو بعضها. وها نحن قد رأينا القرآن يتجاوز هذه الأسس فيأتى بجديد لم يذكر فيما سواه ، ويصحح خطأ وقع فيه ما سواه.
        فليس الاختلاف فيها اختلاف حَبْكٍ وصياغة ، وإنما هو اختلاف يشمل الأصول والفروع. هذا بالإضافة إلى إحكام البناء وعفة الألفاظ وشرف المعانى (4).
        إن الذى روته التوراة هنا لا يصلح ولن يصلح أن يكون أساساً للذى ذكره القرآن. وإنما أساس القرآن هو الوحى الصادق الأمين. ذلك هو مصدر القرآن " الوضىء " وسيظل ذلك هو مصدره تتساقط بين يديه دعاوى الباطل ومفتريات المفترين فى كل عصر ومصر.
        الصورة الثانية من صور التشابه بين التوراة والقرآن
        قصة هابيل وقابيل ابنى آدم
        نصوص التوراة:
        " حدث من بعد أيام أن قابين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب ، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ، ومن سمانها ، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ولكن إلى قابين. وقربانه لم ينظر. فاغتاظ قابين جداً وسقط وجهه. فقال الرب لقابين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك ؟ إن أحسنت أفلا رفع ؟؟. وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها ، وأنت تسود عليها. وكلم قابين هابيل أخاه. وحدث إذ كانا فى الحقل أن قابين قام على هابيل أخيه وقتله. فقال الرب لقابين أين هابيل أخوك فقال لا أعلم أحارس أنا لأخى ؟ فقال ماذا فعلت ؟ صوت دم أخيك صارخ إلىَّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التى فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك متى عملت الأرض ؟؟ تعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون فى الأرض فقال قابين للرب: ذنبى أعظم من أن يحتمل أنك قد طردتنى اليوم على وجه الأرض ، ومن وجهك أختفى وأكون تائهاً وهارباً فى الأرض فيكون كل من وجدنى يقتلنى فقال له الرب: لذلك كل من قتل قابين فسبعة أضعاف ينتقم منه. وجعل الرب لقابين علامة لكى لا يقتله كل من وجده. فخرج قابين من لدن الرب وسكن فى أرض نود شرقى عدن " (5).
        نصوص القرآن الأمين
        (واتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبلُ الله من المتقين * لئن بسطت إلىَّ يدك لتقتلنى ما أنا بباسطٍ يدى إليك لأقتلك إنى أخافُ الله ربَّ العالمين * إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين* فطوعت له نفسهُ قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابًا يبحث فى الأرض ليُرِيَهُ كيف يوارى سوءة أخيه * قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارىَ سوءة أخى فأصبح من النادمين * من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك فى الأرض لمسرفون ) (6).
        الفروق بين المصدرين
        اتفق المصدران حول نقطتين اثنتين لا ثالث لهما واختلفا فيما عداهما. اتفقا فى: مسألة القربان. وفى قتل أحد الأخوين للآخر. أما فيما عدا هاتين النقطتين فإن ما ورد فى القرآن يختلف تماماً عما ورد فى التوراة ، وذلك على النحو الآتى:
        التوارة/القرآن الأمين
        تسمى أحد الأخوين بقابين وهو " القاتل " والثانى " هابيل " كما تصف القربانين وتحدد نوعهما./ لايسميهما ويكتفى ببنوتهما لآدم كما اكتفى بذكر القربانين ولم يحددهما.
        تروى حواراً بين قابين والرب بعد قتله أخاه ،وتعلن غضب الرب على قابين وطرده من وجه الرب إلى أرض بعيدة./ لا يذكر حواراً حدث بين القاتل وبين الله ، ولا يذكر أن القاتل طرده الله من وجهه إلى أرض بعيدة ، إذ ليس على الله بعيد.
        التوراة تخلو من أى حوار بين الأخوين./ يذكر الحديث الذى دار بين ابنى آدم ويفصل القول عما صدر من القتيل قبل قتله وتهديده لأخيه بأنه سيكون من أصحاب النار إذا قتله ظلماً..
        لا مقابل فى التوراة لهذه الرواية ولمْ تبين مصير جثة القتيل ؟! / يذكر مسألة الغراب ، الذى بعثه الله لٍِيُرى القاتل كيف يتصرف فى جثة أخيه ، ويوارى عورته.
        تنسب الندم إلى " قابين " القاتل لما هدده الله بحرمانه من خيرات الأرض ، ولا تجعله يشعر بشناعة ذنبه./ يصرح بندم " القاتل " بعد دفنه أخيه وإدراكه فداحة جريمته.
        لا هدف لذكر القصة فى التوراة إلا مجرد التاريخ. فهى معلومات ذهنية خالية من روح التربية والتوجيه. /يجعل من هذه القصة هدفاً تربوياً ويبنى شريعة القصاص العادل عليها. ويلوم بنى إسرائيل على إفسادهم فى الأرض بعد مجىء رسل الله إليهم.
        أضف إلى هذه ما تحتوى عليه التوراة من سوء مخاطبة " قابين" الرب ، فترى فى العبارة التى فوق الخط: " أحارس أنا لأخى " فيها فظاظة لو صدرت من إنسان لأبيه لعد عاقًّا جافًّا فظًّا غليظًا فكيف تصدر من " مربوب " إلى " ربه " وخالقه..؟!
        ولكن هكذا تنهج التوراة فلا هى تعرف " قدر الرب " ولا من تنقل عنه حواراً مع الرب.
        ولا غرابة فى هذا فالتوراة تذكر أن موسى أمر ربه بأن يرجع عن غضبه على بنى إسرائيل ، بل تهديده إياه سبحانه بالاستقالة من النبوة إذا هو لم يستجب لأمره.
        والواقع أن ما قصَّهُ علينا القرآن وهو الحق من أمر ابنى آدم مختلف تماماً عما ورد فى التوراة فى هذا الشأن.
        فكيف يقال: إن القرآن اقتبس هذه الأحداث من التوراة وصاغها فى قالب البلاغة العربية ؟!
        إن الاختلاف ليس فى الصياغة ، بل هو اختلاف أصيل كما قد رأيت من جدول الفروق المتقدم.
        والحاكم هنا هو العقل فإذا قيل: إن هذه القصة مقتبسة من التوراة قال العقل:
        * فمن أين أتى القرآن بكلام الشقيق الذى قتل مع أخيه ، وهو غير موجود فى نص التوراة التى يُدعى أنها مصدر القرآن ؟!
        * ومن أين أتى القرآن بقصة الغراب الذى جاء ليُرى القاتل كيف يوارى سوءة أخيه وهى غير واردة فى التوراة المُدَّعى أصالتها للقرآن ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟!
        * ولماذا أهمل القرآن الحوار الذى تورده التوراة بين " الرب " وقابين القاتل وهذا الحوار هو هيكل القصة كلها فى التوراة ؟!
        إن فاقد الشىء لا يعطيه أبداً ، وهذا هو حكم العقل. والحقائق الواردة فى القرآن غير موجودة فى التوراة قطعاً فكيف تعطى التوراة شيئاً هى لم تعرف عنه شيئاً قط..؟!
        لا.. إن القرآن له مصدره الخاص به الذى استمد منه الوقائع على وجهها الصحيح ، ومجرد التشابه بينه وبين التوراة فى " أصل الواقعة " لا يؤثر فى استقلال القرآن أبداً.
        الصورة الثالثة من صورالتشابه بين التوراة والقرآن مقارنة بين بعض التشريعات
        المحرمات من النساء
        قارَنَّا فيما سبق بين بعض المسائل التاريخية التى وردت فى كل من التوراة والقرآن الأمين. وأثبتنا بأقطع الأدلة أن القرآن له سلطانه الخاص به فيما يقول ويقرر ، ورددنا دعوى أن القرآن مقتبس من التوراة. وبَيَّنَّا حكم العقل فى هذه الدعوى كما أقمنا من الواقع " المحكى " أدلة على ذلك.
        ونريد هنا أن نقارن بين بعض المسائل التشريعية فى المصدرين ؛ لأنهم يقولون: إن المسائل والأحكام التشريعية التى فى القرآن لا مصدر لها سوى الاقتباس من التوراة.
        وقد اخترنا نص المحرمات من النساء فى التوراة لنقابله بنص المحرمات من النساء فى القرآن الحكيم ليظهر الحق.
        النص فى المصدرين
        أولاً: فى التوراة:
        " عورة أبيك وعورة أمك لا تكشف. إنها أمك لا تكشف عورتها. عورة امرأة أبيك لا تكشف. إنها عورة أبيك. عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة فى البيت ، أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها. عورة ابنة ابنك أو ابنة بنتك لا تكشف عورتها إنها عورتك. عورة بنت امرأة أبيك المولودة من أبيك لا تكشف عورتها إنها أختك. عورة أخت أبيك لا تكشف إنها قريبة أبيك. عورة أخت أمك لا تكشف إنها قريبة أمك عورة أخى أبيك لا تكشف ، إلى امرأته لا تقرب إنها عمتك. عورة كنتك لا تكشف. إنها امرأة ابنك لا تكشف عورتها.
        عورة امرأة أخيك لا تكشف إنها عورة أخيك. عورة امرأة ، وبنتها لا تكشف ، ولا تأخذ ابنة ابنتها أو ابنة بنتها لتكشف عورتها إنهما قريبتاها. إنه رذيلة. ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها فى حياتها (7).
        ثانياً: فى القرآن الحكيم:
        (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ماقد سلف إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا * حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيما والمحصنات من النساء.. ) (8).
        هذان هما النصان فى المصدرين. نص التوراة ، ونص القرآن الحكيم. فما هى أهم الفروق بينهما ياترى ؟!
        وقبل إجراء المقارنة نفترض صحة النص التوراتى وخلوه من التحريف إذ لا مانع أن يكون هذا النص فعلاً مترجماً عن نص أصلى تشريعى خلا مترجمه من إرادة تحريفه.
        والمهم هو أن نعرف هل يمكن أن يكون نص التوراة هذا أصلاً اقتبس منه القرآن الحكيم فكرة المحرمات من النساء ، علماً بأن النص التوراتى قابل إلى حد كبير لإجراء دراسات نقدية عليه ، ولكن هذا لا يعنينا هنا.
        الفروق بين المصدرين:
        التوراة:
        1- لا تقيم شأنًا للنسب من جهة الرضاعة.
        2- تحرم نكاح امرأة العم وتدعوها عمة.
        3- تحرم نكاح امرأة الأخ علىأخيه.
        4- لا تذكر حرمة النساء المتزوجات من رجال آخرين زواجهم قائم.
        5- تجعل التحريم غالباً للقرابة من جهة غير الزوج مثل قرابة الأب الأم العم 000 وهكذا.
        القرآن الأمين:
        1- يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
        2- لا يحرم نكاح امرأة العم ولا يدعوها عمة.
        3- لا يحرم نكاح امرأة الأخ علىأخيه إذا طلقها أو مات عنها أخوه.
        4- يحرم نكاح المتزوجات فعلاً من آخرين زواجاً قائماً ويطلق عليهن وصف المحصنات من النساء.
        5- يجعل التحريم لقرابة الزوج ممن حرمت عليه. أو قرابة زوجته أحياناً.
        هذه الفروق الواضحة لا تؤهل النص التوراتى لأن يكون أصلاً للنص القرآنى ، علميًّا ، وعقليًّا ، فللنص القرآنى سلطانه الخاص ومصدره المتميز عما ورد فى التوراة. وإلا لما كان بين النصين فروق من هذا النوع المذكور.
        وقفة مع ما تقدم:
        نكتفى بما تقدم من التوراة وإن كانت التوراة مصدراً ثَرْاً لمثل هذه المقارنات ، ولو أرخينا عنان القلم لما وقفنا عند حد قريب ولتضاعف هذا
        الحجم مئات المرات. ومع هذا فما من مقارنة تجرى بين التوراة وبين القرآن إلا وهى دليل جديد على نفى أن يكون القرآن مقتبساً من كتاب سابق عليه ، فالقرآن وحى أمين حفظ كلمات الله كما أنزلت على خاتم النبيين (وقد رأينا فى المقارنات الثلاث المتقدمة أن القرآن فوق ما يأتى به من جديد ليس معروفاً فى سواه إنه يصحح أخطاء وقعت فيما سواه وهذا هو معنى " الهيمنة " التى خَصَّ الله بها القرآن فى قوله تعالى: (مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه ) (9).
        فالأمور التى لم يلحقها تحريف فى التوراة جاء القرآن مصدقاً لها أو هو مصدق لكل من التوراة والإنجيل بالصفة التى أنزلها الله عليهما قبل التحريف والتبديل.
        أما الأمور التى حُرفت ، وتعقبها القرآن فقصها قصًّا صحيحاً أميناً ، وصحح ما ألحقوه بهما من أخطاء ، فذلك هو سلطان " الهيمنة " المشهود للقرآن بها من منزل الكتاب على رسله.
        فالقرآن هو كلمة الله " الأخيرة " المعقبة على كل ما سواها ، وليس وراءها معقب يتلوها ؛ لأن الوجود الإنسانى ليس فى حاجة مع وجود القرآن إلى غير القرآن.
        كما أن الكون ليس فى حاجة مع الشمس إلى شمس أخرى تمده بالضوء والطاقة بعد وفاء الشمس بهما.
        ولنأخذ صورة مقارنة من العهد الجديد أيضًا حيث يختلف عن العهد القديم وذلك لأن نص الإنجيل الذى سندرسه يقابله من القرآن نصان كل منهما فى سورة مما يصعب معه وضع النص الإنجيلى فى جدول مقابلا بالنصين القرآنيين. ولهذا فإننا سنهمل نظام الجدول هنا ونكتفى بعرض النصوص ، والموازنة بينها والموضوع الذى سنخضعه للمقارنة هنا هو بشارة زكريا عليه السلام بابنه يحى عليه السلام وذلك على النحو الآتى:
        الصورة الرابعة من الإنجيل والقرآن
        بشارة زكريا ب " يحيى " (عليهما السلام)
        النص الإنجيلى:
        " لم يكن لهما يعنى زكريا وامرأته ولد. إذ كانت اليصابات يعنى امرأة زكريا عاقراً.وكان كلاهما متقدمين فى أيامهما فبينما هو يكهن فى نوبة غرفته أمام الله حسب عادة الكهنوت أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر ، وكان كل جمهور الشعب يصلى خارجاً وقت البخور. فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف. فقال له الملاك: لاتخف يا زكريا ؛ لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ولداً وتسميه يوحنا ، ويكون لك فرح وابتهاج. وكثيرون سيفخرون بولادته ؛ لأنه يكون عظيماً أمام الرب. وخمراً ومسكراً لا يشرب ، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس ويرد كثيرين من بنى إسرائيل إلى الرب إلههم ، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء.والعصاة إلى فكر الأبرار ، لكى يهئ للرب شعباً مستعدًّا. فقال زكريا للملاك: كيف أعلم هذا و أنا شيخ وامرأتى متقدمة فى أيامها..؟!
        فأجاب الملاك وقال: أنا جبرائيل الواقف قدام الله. وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا. وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذى يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامى الذى سيتم فى وقته. وكان الشعب منتظرين زكريا ومتعجبين من إبطائه فى الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا فى الهيكل. فكان يومئ إليهم. وبقى صامتاً.." (10).
        النصوص القرآنية:
        (1) سورة آل عمران:
        (هنالِكَ دعا زكريا ربَّهُ قال رب هب لى من لدُنك ذريةً طيبةً إنك سميعُ الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يُبشرك بيحيى مصدقاً بكلمةٍ من الله وسيداً وحصوراً ونبيًّا من الصالحين * قال رب أنى يكون لى غلامٌ وقد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر قال كذلِكَ الله يفعلُ ما يشاء * قال ربِّ اجعل لى آية قال آيتك ألا تُكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشى والإبكار) (11).
        (2) سورة مريم:
        (ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربَّه نداءً خفيًّا * قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا * وإنى خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقراً فهب لى من لدنك وليًّا * يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله ربِّ رضيًّا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًّا * قال رب أًنَّى يكون لى غلام وكانتً امرأتى عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيًّا * قال كذلكَ قال ربكَ هو علىَّ هينٌ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًّا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًّا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيًّا * وحناناً من لدنَّا وزكاةً وكان تقيًّا * وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيًّا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا) (12).
        ذلك هو نص الإنجيل. وذان هما نصا القرآن الأمين. والقضية التى نناقشها هنا هى دعوى " الحاقدين " أن القرآن مقتبس من الأناجيل كما ادعوا قبلا أنه مقتبس من التوراة.
        وندعو القارئ أن يراجع النص الإنجيلى مرات ، وأن يتلو النصوص القرآنية مرات ، ويسأل نفسه هذا السؤال:
        هل من الممكن علميًّا وعقليًّا أن يكون النص الإنجيلى مصدرًا لما ورد فى القرآن الأمين ؟!
        إن المقارنة بين هذه النصوص تسفر عن انفراد النصوص القرآنية بدقائق لا وجود لها فى النص الإنجيلى. ومن أبرز تلك الدقائق ما يلى:
        أولاً: فى سورة آل عمران:
        (أ) تقدم على قصة البشارة فى" آل عمران" قصة نذر امرأة عمران ما فى بطنها لله محرراً. وهذا لم يرد فى النص الإنجيلى.
        (ب) الإخبار بأنها ولدت أنثى " مريم " وكانت ترجو المولود ذكرا وهذا لم يأت فى النص الإنجيلى.
        (ج) كفالة زكريا للمولودة "مريم " ووجود رزقها عندها دون أن يعرف مصدره والله سبحانه وتعالى أعلم سؤاله إياها عن مصدره. وهذا بدوره لم يرد فى النص الإنجيلى.
        (د) القرآن يربط بين قصة الدعاء بمولود لزكريا وبين قصة مولودة امرأة عمران. وهذا لا وجود له فى النص الإنجيلى.
        (ه) دعاء زكريا منصوص عليه فى القرآن وليس له ذكر فى النص الإنجيلى.
        ثانياً: فى سورة مريم:
        (أ) ما رتبه زكريا على هبة الله له وليًّا ، وهو أن يرثه ويرث من آل يعقوب. ولم يرد هذا فى النص الإنجيلى.
        (ب) السبب الذى حمل زكريا على دعاء ربه وهو خوفه الموالى من ورائه والنص الإنجيلى يخلو من هذا.
        (ج) كون زكريا أوحى لقومه بأن يسبحوا بكرة وعشيًّا. ولا وجود لهذا فى النص الإنجيلى.
        (د) الثناء على المولود " يحيى " من أنه بار بوالديه عليه سلام الله يوم ولادته ويوم موته ويوم بعثه حيًّا ورد فى القرآن ولا مقابل له فى النص الإنجيلى.
        هذا كله جديد خاص بالقرآن لا ذكر له فى سواه. وهذا يعنى أن القرآن قد صور الواقعة المقصوصة تصويراً أمينًا كاملاً.
        وهذه هى المهمة الأولى التى تعقب بها القرآن المهيمن ما ورد فى الإنجيل المذكور.
        وبقيت مهمة جليلة ثانية قام بها القرآن المهيمن نحو النص الإنجيلى ، كما قام بمثلها نحو النصوص التوراتية المتقدمة. وتلك المهمة هى: تصحيح الأخطاء التى وردت فى النص الإنجيلى.
        ومن ذلك:
        (أ‌) النص الإنجيلى يجعل الصمت الذى قام بزكريا عقوبة له من الملاك.
        فصحح القرآن هذه الواقعة ، وجعل الصمت استجابة لدعاء زكريا ربه. وقد حرص على هذا النصان القرآنيان معاً. ففى آل عمران (قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً(وفى مريم: (قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (.
        فالصمت فكان تكريما لزكريا عليه السلام من الله ، وليس عقوبة من الملاك ، وقد انساق بعض مفسرى القرآن الكريم وراء هذا التحريف الإنجيلى فقال: إن الصمت كان عقوبة لزكريا ، ولكن من الله لا من الملاك.
        وها نحن نرفض هذا كله سواء كان القائل به مسلما أو غير مسلم.
        فما هو الذنب الذى ارتكبه زكريا حتى يعاقب من الله أو حتى من الملاك ؟!
        هل إقراره بكبر سنه وعقر امرأته هو الذنب ؟!
        لقد وقع هذا من إبراهيم عليه السلام حين بشر بإسحق ، ووقع من سارة حين بشرت به فلم يعاقب الله منهما أحداً.
        وقد وقع هذا من " مريم " حين بُشِّرَتْ بحملها بعيسى ولم يعاقبها الله عليه. فما السر فى ترك إبراهيم وسارة ومريم بلا عقوبة وإنزالها بزكريا وحده مع أن الذى صدر منه صدر مثله تماماً من غيره.
        أفى المسألة محاباة..؟! كلا.. فالله لا يحابى أحداً.
        إن أكبر دليل على نفى هذا القول هو خلو النصوص القرآنية منه ، وليس هذا تعصباً منا للقرآن. وإنما هو الحق ، والمسلك الكريم اللائق بمنزلة الرسل عند ربهم.
        إن الصمت الذى حل بزكريا كان بالنسبة لتكليم الناس ، ومع هذا فقد ظل لسانه يلج بحمد الله وتسبيحه فى العشى والإبكار كما نص القرآن الأمين.
        (ب) النص الإنجيلى يحدد مدة الصمت بخروج زكريا من الهيكل إلى يوم أن ولد يحيى.
        وهذا خطأ ثانٍ صححه القرآن المهيمن فجعل مدته ثلاثة أيام بلياليهن بعد الخروج من المحراب.
        (ج) النص الإنجيلى يجعل البشارة على لسان ملاك واحد ، بينما النصان القرآنيان يجعلانها على لسان جمع من الملائكة: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب ) (13).
        (يا زكريا إنا نبشرك بغلام.. ) (14).
        وهذا خطأ ثالث وقع فيه النص الإنجيلى فصححه القرآن الأمين.
        (د) النص الإنجيلى يجعل التسمبة ب " يحيى " يوحنا من اختيار زكريا بيد أن الملاك قد تنبأ بها.
        وهذا خطأ رابع صححه القرآن الأمين فجعل التسمية من وحى الله إلى زكريا: (.. اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) (15).
        (ه) النص الإنجيلى يقول: " إن زكريا حين جاءه الملاك وقع عليه خوف واضطراب ".
        وقد خلا النص القرآنى من هذا.. فدل خلوه منه على أنه لم يقع.
        ذلك أن القرآن الحكيم عَوَّدَنَا فى قَصِّهِ للوقائع المناظرة لهذه الواقعة أن يسجلها إذا حدثت ولا يهملها ، بدليل أنه قد نَصَّ عليها فى واقعة السحرة مع موسى عليه السلام فقال: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى ) (16). وقال فى شأنه كذلك عند انقلاب العصى حية لأول مرة: (فلما رآها تهتز كأنها جَانّ وَلَّى مُدبِراً ولم يُعَقِّبْ ) (17). وحكاها عن إبراهيم عليه السلام حين جاءته الملائكة تبشره فقال حكاية عن إبراهيم لضيوفه: (إنا منكم وجلون ) (18). وحكاها عن مريم حين جاءها الملك: (قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) (19).
        وحِرْصُ القرآن على ذكر هذا الانفعال (الخوف ، إذا حدث) يدل على أن خلوه منه بالنسبة لزكريا دليل على أنه لم يقع منه خوف قط ، وهذا " الخلو "يعتبر تصحيحاً لما ورد فى الإنجيل من نسبة حدث إلى زكريا هو فى الواقع لم يصدر منه.
        فهذه خمسة أخطاء قام بتصحيحها القرآن الأمين نحو نصوص الإنجيل المذكورة هنا فى المقارنة. ولهذا نقول:
        إن القرآن أدى هنا فى تعقبه للنص الإنجيلى مهمتين جليلتين:
        الأولى: تصوير الواقعة المقصوصة تصويراً أميناً كاملاً.
        الثانية: تصحيح الأخطاء الواردة فى النص الإنجيلى المقارن.
        وقفة أخيرة مع دعوى الاقتباس:
        موضوع الدعوى كما يروج لها المبشرون أن القرآن اقتبس من الكتاب المقدس كل قَصَصِهِ التاريخى.
        والواقعة التى هى موضوع دعوى الاقتباس هنا هى حادثة تاريخية دينية محددة ببشارة زكريا عليه السلام بيحيى عبد الله ورسوله ووثائق تسجيلها هما: الإنجيل ، ثم القرآن الأمين.
        وصلة الإنجيل بالواقعة المقصوصة أنه سجلها فرضًا بعد زمن وقوعها بقليل ؛ لأن عيسى كان معاصراً ليحيى عليهما السلام وصلة القرآن الأمين بها أنه سجلها بعد حدوثها بزمن طويل " حوالى سبعمائة سنة ".
        وقرب الإنجيل من وقوع الحادثة المقصوصة ، وبُعد القرآن الزمنى عنها يقتضى إذا سلمنا جدلاً بدعوى الاقتباس المطروحة أن يأتى الاقتباس على إحدى صورتين:
        أولاهما: أن يقتبس القرآن جزءًا مما ورد من القصة الكلية فى الإنجيل. وتظل القصة فيه ناقصة عما هى عليه فى المصدر المقتبس منه (الإنجيل) على حسب زعمهم.
        ثانيهما: أن يقتبس القرآن القصة كلها كما هى فى الإنجيل بلا نقص ولا زيادة ، سواء أخذها بألفاظها أو صاغها فى أسلوب جديد (البلاغة العربية كما يدعون) ، بشرط أن يتقيد بالمعانى الواردة فى المصدر المقتبس منه ؛ لأن الفرض قائم (حتى الآن) على أن القرآن لم يكن له مصدر يستقى منه الواقعة غير الإنجيل المقتبس منه.
        ومحظور على القرآن عملا بهذه القيود التى تكتنف قضية الاقتباس للوقائع التاريخية من مصدرها الأوحد أن يأتى بجديد أو يضيف إلى الواقعة ما ليس فى مصدرها الأوحد.
        فماذا صنع القرآن إذن ؟
        هل اقتبس من الإنجيل جزءًا من الواقعة ؟ أم الواقعة كلها ؟!
        دائراً فى فلك الإنجيل دورة ناقصة أو دورة كاملة ؟!
        لو كان القرآن قد فعل هذا: اقتبس جزءاً من الواقعة كلها ، وَ لَوْ مع صياغة جديدة لم تغير من المعنى شيئا ؛ لكان لدعوى الاقتباس هذه ما يؤيدها من الواقع القرآنى نفسه. ولما تردد فى تصديقها أحد.
        ولكننا قد رأينا القرآن لم يفعل شيئًا مما تقدم. لم يقتبس جزءاً من الواقعة ولا الواقعة كلها.
        وإنما صورها تصويراً أميناً رائعاً. سجل كل حقائقها ، والتقط بعدساته كل دقائقها. وعرضها عرضاً جديداً نقيًّا صافياً ، وربط بينها وبين وقائع كانت كالسبب الموحد لها فى بناء محكم وعرض أمين.
        ولم يقف القرآن عند هذا الحد.. بل قام بإضافة الكثير جدًّا من الجديد الذى لم يعرفه الإنجيل. وصحح كثيراً من الأخطاء التى وردت فيه بفعل التحريف والتزوير. إما بالنص وإما بالسكوت. وهذا لا يتأتى من مقتبس ليس له مصدر سوى ما اقتبس منه.
        وإنما يتأتى ممن له مصدره ووسائله وسلطانه المتفوق ، بحيث يتخطى كل الحواجز ، ويسجل الواقعة من " مسرحها " كما رآها هو ، وعقلها هو ، وسجلها هو. وكان هذا هو القرآن.
        إن المصدر الوحيد للقرآن هو الوحى الصادق الأمين.. وليس ما سجله الأحبار والكهان ، والفريسيون ، والكتبة فى توراة أو أناجيل.
        إن مقاصد القرآن وتوجيهاته وكل محتوياته ليس فى التوراة ولا فى الإنجيل منها شىء يذكر. وفاقد الشىء لا يعطيه. هذا هو حكم العقل والعلم ، ومن لم يخضع لموازين الحق من عقل وعلم ونقل فقد ظلم نفسه.
        المراجع
        (1) سفر التكوين الإصحاح (39) الفقرات (7 19).
        (2) لم نذكرالنص القرآنى الخاص بحديث النسوه إذ لا مقابل له فى التوراة.
        (3) يوسف: 23-29 ثم آية 35.
        (4) تأمل عبارة التوراة " اضطجع معى " تجدها مبتذلة فاضحة تكاد تجسم معناها تجسيماً. ثم تأمل عبارة القرآن (و راودته التى هو فى بيتها عن نفسه (تجدها كناية لطيفة شريفة بعيدة عن التبذل والإسفاف. والألفاظ أوعية المعانى والمعانى ظلال الألفاظ..
        (5) سفر التكوين (4-3-16)
        (6) المائدة: 27-32.
        (7) سفر اللاويين (18 7 18).
        (8) النساء: 22-24.
        (9) المائدة: 48.
        (10) إنجيل لوقا (7- 22) الإصحاح الأول.
        (11) آل عمران: 38-41. وراجع قبله الآيات من 35-37 للأهمية
        (12) مريم: 8 - 15
        (13) آل عمران: 39.
        (14) مريم:7.
        (15) مريم:7.
        (16) طه: 67.
        (17) القصص: 31.
        (18) الحجر: 52.
        (19) مريم: 18.


        12- رفع المعطوف على المنصوب
        منشأ هذه الشبهة:
        (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (1).
        هذه الآية هى منشأ هذه الشبهة عندهم ، لأنهم نظروا فيما بعد " الواو " فى " الصابئون " وقارنوا بينه وبين " الذين آمنوا " الواقع بعد " إن " وهى حرف ناسخ ينصب " المبتدأ " ويرفع " الخبر " واسم " إن " هنا هو " الذين " وهو مبنى لأنه اسم موصول.
        وقد عطف عليه " الذين هادوا " أما " الصابئون " فجاءت مرفوعة ب"الواو" لأنها جمع مذكر سالم وجاء بعدها " النصارى ".
        وكل من " الذين " فى الموضعين السابقين على " الصابئون " وكذلك " النصارى " إعرابها تقديرى لا يظهر لا فى الخط ولا فى النطق ، وذلك لأن الاسم الموصول " الذين " من المبنيات على حالة واحدة ، أما "النصارى" فهو اسم مقصور ، يتعذر ظهور حركة الإعراب عليه ، وهى هنا الفتحة ، و " الراء " مفتوحة أصالة ، ومحال أن تظهر فتحتان على موضع واحد. سواء كانت الحركتان مختلفتين ، كفتحٍ وضمٍ ، أو متجانستين ، كفتحتين وضمتين.
        وخصوم القرآن نظروا فى نظم هذه الآية الحكيمة وقالوا إن فيها خطأ لغويّا (نحويّا) ؛ لأن " الصابئون " معطوفة على منصوب " إن الذين آمنوا " فكان حقها أن تنصب ، فيقال " والصابئين " لكنها جاءت مرفوعة ب " الواو " هكذا " والصابئون " وهدفهم من تصيد هذه الشبهات إثبات:
        - أن فى القرأن تحريفاً لمخالفته بدهيات القواعد النحوية.
        - أو هو ليس من عند الله ، لأن ما كان من عند الله لا يكون فيه خطأ.
        الرد على الشبهة:
        للنحاة والمفسرين فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية عدة آراء ، منها ما هو قوى مشهود له فى الاستعمال اللغوى عند العرب الخلص ، ومنها ما هو دون ذلك ، وقد بلغت فى جملتها تسعة توجهات نذكر منها ما يلى:
        الأول: ما قاله جمهور نحاة البصرة ، الخليل وسيبويه وأتباعهما ، قالوا: إن " الصابئون " مرفوع على أنه " مبتدأ " وخبره محذوف يدل عليه خبر ما قبله " إن الذين آمنوا " قالوا: والنية فيه التأخير ، أى تأخير " والصابئون " إلى ما بعد " والنصارى ". وتقدير النظم والمعنى عندهم: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك " (2).
        ومن شواهد هذا الحذف عند العرب قول الشاعر:
        نحن بما عندنا وأنت بما
        عندك راض والرأى مختلف
        فقد حذف الخبر من المبتدأ الأول ، وتقديره " راضون " لدلالة الثانى عليه " راض ".
        والمعنى: نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض.
        وقول الآخر:
        ومن بك أمسى بالمدينة رحله
        فإنى وقيَّار بها لغريب
        والتقدير: فإنى لغريب وقيار كذلك.
        وقول الشاعر:
        وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم
        بغاة ما بقينا فى شقاق
        الشاعر يصف الفريقين أنهم " بغاة " إن استمروا فى الشقاق ، والتقدير:
        اعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك.
        وهكذا ورد فى الاستعمال اللغوى عند العرب ، أن الجملة الاسمية المؤكدة ب " إن " يجوز أن يذكر فيها مبتدأ آخر غير اسم " إن " وأن يذكر خبر واحد يكون لاسم " إن " ويحذف خبر المبتدأ الثانى لدلالة خبر اسم "إن " عليه ، أو يحذف خبر اسم " إن " ويكون الخبر المذكور للمبتدأ الثانى دليلاً على خبر اسم " إن " المحذوف ونظم الآية التى كانت منشأ الشبهة عندهم لا يخرج عن هذه الأساليب الفصيحة ، التى عرفناها فى الأبيات الشعرية الثلاثة ، وهى لشعراء فصحاء يستشهد بكلامهم.

        الثانى: أن " إن " فى قوله تعالى: " إن الذين آمنوا " ليست هى " إنَّ " الناسخة ، التى تنصب المبتدأ وترفع الخبر ، بل هى بمعنى: نعم ، يعنى حرف جواب ، فلا تعمل فى الجملة الاسمية لا نصباً ، ولا رفعاً ، وعلى هذا فالذى بعدها مرفوع المحل ، لأن " الذين " اسم موصول ، وهو مبنى فى محل رفع ، وكذلك " الصابئون " فإنه مرفوع لفظاً ، وعلامة رفعه " الواو " لأنه جمع مذكر سالم ، مفرده " صابئ ".
        وقد استعملها العرب كذلك. قال قيس بن الرقيات:
        برز الغوانى من الشباب
        يلمننى ، وآلو مهنَّهْ
        ويقلن شيبٌ قد علاك
        وقد كبرتَ ، فقلت إنَّهْ (3)
        أى فقلت: نعم.
        وعلى هذا فإن كلا من " الذين " و " الصابئون " والنصارى ، أسماء مرفوعة إما محلاً ، وهما: الذين " فهى مبنية فى محل رفع ، والنصارى مرفوعة بضمة مقدرة لأنها اسم مقصور لا تظهر على آخره حركات ، وإما لفظاً مثل: " الصابئون " فهى مرفوعة لفظاً بواو الجماعة.
        وعليه كما كان فى المذهب الأول فلا خطأ فى الآية كما زعم خصوم القرآن.
        أما المفسرون فقد اختار الزمخشرى منهم المذهب الأول المعزو إلى جمهور علماء البصرة ، ومن شيوخهم الخليل وسيبويه ، فقال:
        " والصابئون " رفع على الابتداء ، وخبره محذوف والنية به (4) التأخير عما فى حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل:
        " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك " (5).
        وقال الإمام الشوكانى:
        " والصابئون " مرتفع على الابتداء ، وخبره محذوف والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك " (6).
        وقد ألمح الإمام الشوكانى إلى إضافة جديدة خالف بها كلا من الخليل وسيبويه والزمخشرى ؛ لأن هؤلاء جعلوا " الصابئون" مقدما من تأخير كما تقدم ، أما هو فجعله قاراًّ فى موضعه غير مقدم من تأخير بدليل قوله:
        " والصابئون والنصارى كذلك " وهذه إضافة حسنة ومقبولة. وعليه يمكن جَعْل " النصارى " مرفوعة عطفاً على " الصابئون " ولا حاجة إلى جعلها منصوبة عطفاً على " إن الذين آمنوا " ، والواقع أن هذا المذهب على جملته الذى ذهب إليه جمهور علماء البصرة ، وتابعهم فيه الإمام الشوكانى هو أقوى ما أورده النحاة فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية الكريمة. أما بقية الآراء ، فهى دون ذلك بكثير (7).
        هذا هو توجيه رفع " الصابئون " عند جمهور النحاة والمفسرين ، أما توجيهه بلاغة فهو ما يأتى:
        إن مخالفة إعراب " الصابئون " عما قبلها سواء كانت مقدمة من تأخير على رأى الجمهور أو غير مقدمة على رأى الإمام الشوكانى وآخرين (8)
        وعما بعدها إن قدرنا " والنصارى " معطوفاً على " إن الذين آمنوا والذين هادوا ، بأن هذه المخالفة لمحة بلاغية رائعة ؛ تشير إلى وجود فرق كبير بين هذه الطوائف الأربع:
        - الذين آمنوا.
        - الذين هادوا.
        - النصارى.
        - الصابئون.
        فالطوائف الثلاث الأولى يربط بينها رابط قوى هو أن كل طائفة منها لها كتاب ورسول من عند الله عز وجل.
        فالذين آمنوا لهم كتاب هو القرآن ، ورسول هو محمد صلى الله عليه وسلم .
        والذين هادوا لهم كتاب هو التوراة ، ولهم رسول هو موسى عليه السلام.
        والنصارى لهم كتاب هو الإنجيل ، ولهم رسول هو عيسى عليه السلام.
        أما الصابئون ، فليس لهم كتاب ولا رسول ، وهم على ضلال مطبق لا ذرة من هداية فيه.
        والمقام الذى تتحدث عنه الآية هو فتح باب القبول عند الله لكل من آمن إيماناً صحيحاً صادقاً وداوم على عمل الصالحات. فالإيمان يمحو ما قبله ولا ينظر الله إلى ماضيهم الذى كانوا عليه من كفر ومعاصٍ ، والآية بدأت بالذين آمنوا ليستمروا على إيمانهم الذى هم فيه ، ويلتزموا بعمل الصالحات والله سيجزيهم خير الجزاء على إيمانهم المستمر ، وصلاحهم الدائم (9).
        ثم ثنت بالذين هادوا ، يعنى: اليهود ، وهم كانوا فى عصر نزول القرآن قد غالوا فى دينهم ، وحادوا عن الحق ، وغيَّروا وبدَّلوا فيما أنزله الله على أنبيائهم فوعدهم الله إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وتابوا إلى الله من كل ما ابتدعوه فى عقائدهم واتبعوا ما أنزل الله على خاتم رسله ؛ بأنهم سيكونون فى أمنٍ من عذاب الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
        وكذلك النصارى حيث جعلوا لله صاحبة وولدا وغالوا كثيراً فى دينهم ، إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وبرئوا من عقائدهم التى ابتدعوها ، وأصلحوا شأنهم ، وآمنوا بما أنزله الله على خاتم رسله ، ولزموا العمل الصالح ، كان سعيهم عند الله مشكوراً ، ووقاهم الله عز وجل من الخوف والحزن يوم يقوم الناس لرب العالمين.
        ثم زاد الله فى ترغيب هذه الفرق الثلاث فيما عنده بأن يجعل هذا الفضل للصابئين الذين خرجوا عن جميع الرسالات السماوية ، وإذا كان الله يقبل منهم إيمانهم إذا آمنوا ، ويثيبهم على عمل الصالحات. فإن الذين آمنوا واليهود والنصارى أولى بالقبول عند الله ، إذا آمنوا وعملوا الصالحات.
        ومن أجل هذا خولف إعراب و " الصابئون " ليلفت الأذهان عند قراءة هذه الآية أو سماعها إلى الوقوف أمام هذه المخالفة ، وليتساءل القارئ أو السامع ما سبب هذه المخالفة ، ثم يقوده هذا التساؤل إلى الحصول على هذا المعنى الذى تقدم.
        فهذه المخالفة أشبه ما تكون بالنبر الصوتى فى بعض الكلمات ، التى يراد لفت الأنظار إليها عند السامعين ؛ قالوا: والواو فى " والصابئون " ليست لعطف المفردات على نظائرها ، وإنما هى لعطف " الجمل " و" الواو " التى تعطف جملة على أخرى لا تعمل فى مفردات الجملة المعطوفة ، لا رفعاً ولا نصباً ولا جراً. بل تربط بين الجملتين المعطوفة والمعطوف عليها فى المعنى دون الحركات الإعرابية.
        ولهذه الآية نظائر فى مخالفة إعرابها لما قبلها اتخذ منها خصوم القرآن منشأ لشبهات مماثلة وسيأتى الحديث عنها كلا فى موضعه إن شاء الله تعالى.
        والخلاصة:
        إن هذه الآية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر (تخلو من أى خطأ نحوى أو غير نحوى. بل هى فى غاية الصحة والإعجاز ، وقد بينا وجوه صحتها ، والمعانى البيانية التى ألمح إليها رفع " الصابئون " وهؤلاء الذين يلحدون فى آيات الله لا دراية لهم بالنحو ولا بالصرف ولا بالبلاغة ، وليسوا هم طلاب حق ، ولا باحثين عنه ، والذى سيطر على كل تفكيرهم هو البحث " عن العورات " فى كتاب لا عورات فيه بل هو أنقى وأبلغ وأفصح وأصح وأصدق بيان فى الكون كله ، ولا يأتوننا بمثل إلا جئناهم بالحق وما هم بسابقين.
        المراجع
        (1) المائدة: 69.
        (2) انظر: الدر المصون للسمين الحلبى (4/354).
        (3) البيتان فى ديوانه (66) والكتاب لسيبويه (1/475).
        (4) الضمير فى " به " عائد على " الصابئون " يعنى أن حقه أن يذكر بعد النصارى ، ولكنه قُدِّم من تأخير.
        (5) الكشاف (1/630).
        (6) فتح القدير (2/71).
        (7) انظر: تفاصيل هذه الآراء وشواهدها ومناقشتها فى " الدر المصون " للسمين الحلبى (4/352) وما بعدها.
        (8) انظر: المصدر السابق (4/360).
        (9) بعض العلماء يفسر " الذين آمنوا " فى الآية بأنهم المنافقون لأنهم غير مؤمنين فى الباطن. والأصوب ما أثبتناه ، وهو أن المراد هم الذين آمنوا فعلاً ، ويكون المطلوب منهم أمرين ثباتهم على هذا الإيمان. ثم إدامة عمل الصالحات. كما فى قوله تعالى:(يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله (النساء: 136. أى: داوموا على إيمانكم.


        13- نصب المعطوف على المرفوع
        وتكلموا على هذه الشبهة فى آيتين:
        الأولى:
        هو قوله تعالى: (لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً ) (1).
        نظروا فى هذه الآية، فوقعت أعينهم على كلمة " المقيمين " فقارنوا بينها وبين ما قبلها: " الراسخون " ـ " المؤمنون " وبين ما بعدها " المؤتون " ـ " المؤمنون " فوجدوا ما قبلها وما بعدها مرفوعاً بـ " الواو " لأنه جمع مذكر سالم ؛ أما " المقيمين " فوجدوها منصوبة بـ " الياء " لأنها كذلك جمع مذكر سالم.حقه أن يرفع بـ " الواو " وينصب ويجر بـ " الياء ". وسرعان ما صاحوا وقالوا إن فى القرآن خطأ نحويّا من نوع جديد ، هو " عطف المنصوب على المرفوع ، أو نصب المعطوف على المرفوع ". ثم علقوا قائلين:
        " وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول: " والمقيمون الصلاة " ، هذا هو مبلغهم من الجهل ، أو حظهم من العناد وكراهية ما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم .
        الرد على الشبهة:
        هذه الآية وردت فى سياق الحديث عن اليهود تنصف من استحق الإنصاف منهم ، بعد أن ذم الله تعالى من عاند منهم ، وحاد عن الحق ، فى الآيات التى سبقت هذه الآية.
        ومجىء " المقيمين " بالياء خلافاً لنسق ما قبله وما بعده لفت أنظار النحاة والمفسرين والقراء ، فأكثروا القول فى توجيهه ـ مع إجماعهم على صحته.
        وقد اختلفت أراؤهم فيه وها نحن نقتصر على ذكر ما قل ودل منها فى الرد على هؤلاء الكارهين لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ولن نذكر كل ما قيل توخياً للإيجاز المفهم.
        وأشهر الآراء فيها أن " المقيمين " منصوب على الاختصاص المراد منه المدح فى هذا الموضع بدلالة المقام ؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن ، جديرون بأن يُمدحوا من الله والناس.
        يقول الإمام الزمخشرى:
        " و " المقيمين " نُصِبَ على المدح ، لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً فى خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان " (2).
        الزمخشرى أوجز كلامه فى الوجه الذى نُصب عليه " المقيمين " وهو الاختصاص مع إرادة المدح (2).
        الاختصاص هو مخالفة إعراب كلمة لإعراب ما قبلها بقصد المدح كما فى هذه الآية ، أو الذم. ويسمى الاختصاص والقطع.
        ومع إيجازه فى عبارته كان حكيماً فيها ، ومن الطريف فى كلامه إشارته إلى خطأ من يقول إن نصب " المقيمين " لحن فى خط المصحف ـ لا سمح الله ـ ثم وصفه بالجهل بمذاهب العرب فى البيان ، والتفنن فى الأساليب ، وكأنه ـ رحمه الله ـ يتصدى للرد على هؤلاء الطاعنين فى القرآن ، الذين نرد عليهم فى هذه الرسالة.
        والرأى الذى اقتصر عليه الإمام الزمخشرى هو المشهور عند النحاة والمفسرين والقراء.
        وقد سبق الزمخشرى فى هذا التوجيه شيخ النحاة سيبويه وأبو البقاء العكبرى (4).
        وهذا الاختصاص أو القطع بيان لفضل الصلاة التى جعلها الله على الناس كتاباً موقوتاً ، وأمر عباده بإقامتها والمحافظة عليها فى كثير من آيات الكتاب العزيز ومثَّلها رسوله صلى الله عليه وسلم ـ كما فى صحيحى البخارى ومسلم ـ بالنهر ، الذى يستحم فيه المكلف فى اليوم خمس مرات ، فيزيل كل ما علق بجسمه من الأدران والأوساخ ، وكذلك الصلوات الخمس فإنها تمحو الخطايا ، وتزيل المعاصى كما يزيل الماء أدران الأجسام.
        أما الآراء الأخرى فكثيرة ، ولكنها لا تبلغ من القوة والشيوع ما بلغه هذا الرأى ، وهو النصب على الاختصاص أو القطع.
        وقد أوردوا عليه شواهد عدة من الشعر العربى المحتج به لغويّا ونحويّا. ومن ذلك ما أورده سيبويه:
        ويـأوى إلى نسـوة عُطَّلٍ
        وشُعْثاً مراضيع مثل الثعالى
        ومنها قول الخرنق بنت هفان:
        لا يبعدنْ قومى الذين همو
        سمُّ العـداة وآفـة الجزْر
        النازلين بكل معتــركٍ
        والطيبون معاقد الأُزْر (5)
        والشاهد فى هذه الأبيات ، نصب " شُعثا " فى البيت الأول وهو معطوف على مجرور " عُطَّلٍ ".
        والشاهد فى البيتين الآخرين نصب " النازلين " وهو معطوف على مرفوع ، وهو " سمُّ العداة ".
        هذا ، وقد قلنا من قبل إن القرآن غير مفتقر إلى شواهد من خارجه على صحة أساليبه ، ومع هذا فإن ورود هذه الشواهد نرحب به ولا نقلل من شأنه ، ومنهم من جعل " المقيمين " مجروراً لا منصوباً ، وقال إن جره لأنه معطوف على الضمير المجرور محلاً فى " منهم " والمعنى على هذا:
        لكن الراسخون منهم والمقيمين الصلاة.
        وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على الكاف فى " أنزل إليك " وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على " ما " فى " بما أنزل إليك ".
        أو هو مجرور بالعطف على " الكاف " فى " قبلك " (6).
        والخلاصة:
        إن الذى ينبغى الركون إليه ـ لقوته ـ هو الرأى الأول ، المنسوب إلى سيبويه وأبى البقاء العكبرى والزمخشرى وابن عطية ، أما ما عداه من آراء فلا تخلو من التكلف أو الضعف.
        أما النصب على الاختصاص فلا مناص من قبوله ؛ لأنه أسلوب شائع فى الاستعمال اللغوى العربى ، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوى ، الذى لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الجر.
        الثانية:
        قوله تعالى: (.. والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس ) (7).
        وشاهدهم على هذه الشبهة هو قوله سبحانه: " والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس " لأنه جاء منصوباً بـ " الياء " بعد قوله تعالى: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ".
        وكان يجب أن يرفع المعطوف ـ يعنى: الصابرين ـ على المرفوع ـ يعنى: الموفون ـ فيقول: والموفون والصابرون "، هذا قولهم.
        الرد على الشبهة:
        يُحسن بنا أولاً أن نذكر هذه الآية بتمامها لننظر فيها نظرة جُملية قبل مواجهة ما آثاره الخصوم حولها:
        (1) (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين).
        (2) (وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب).
        (3) (وأقام الصلاة وآتى الزكاة).
        (4) (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا).
        (5) (والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
        ترى أننا وزعنا كلمات هذه السورة على وحدات كل وحدة منها تضم معانى وقيماً متجانسة.
        الوحدة الأولى: قيم إيمانية تنتظم تحت مفهوم العقيدة وهى: الإيمان بالله ، وباليوم الآخر ، وبالملائكة ، وبالوحى ، ثم بالأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم .
        والوحدة الثانية: تنتظم عناصرها تحت مبدأ " الإنفاق المالى الحر (غير الزكاة) ويبين الله فيها الصفات التى تتحقق فى المنفق عليه ، وهم:
        - ذوو القربى من النسب.
        - اليتامى مهما تباعدت صلتهم عن المنفق.
        - المساكين ، الذين ليس لهم مصدر رزق كسبى ، إما لعدم وجود عمل ، أو لعجز عنه.
        - الغرباء الذين تعوزهم الحاجة فى السفر ، وليس معهم مال وإن كانوا أغنياء فى بلادهم.
        - المحتاجون ـ حقاً ـ الذين يستعطفون الناس لسد حاجتهم فى غير معصية.
        - عتق الرقاب من الرق ، إما تطوعاً ، أو كاتب السيد عبده على مقدار من المال ليصير حراً.
        والوحدة الثالثة: يندرج عنصراها: الصلاة والزكاة تحت ركنين عمليين من أركان الإسلام ، والزكاة إنفاق واجب ، وليس حراًّ.
        والوحدة الرابعة: هى حسن المعاملة مع الناس بوفاء الوعد والعهد.
        والوحدة الخامسة: تنتظم عناصرها تحت مبدأ الصبر الجميل فى كل عمل خير يؤديه المكلف ، وبخاصة فى الشدائد والمحن وملاقاة العدو.
        أما الوحدة السادسة: فهى بيان فضل هؤلاء المذكورين فى الآية ، وبخاصة ما ذكر قبل الفاصلة مباشرة ، ومنزلتهم عند الله:
        " أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ".
        وإذا تأملت هذه الوحدات ، وعناصرها المندرجة تحتها ، وجدت أن أشدها وقعاً على النفس ، وأكثرها أعباء ، وأشقها كلفة ، هى الصبر فى المحن والشدائد والأخطار ، وبخاصة فى ملاقاة العدو ، والتعرض لزحفه وسلاحه ، وقد يفضى بالإنسان إما إلى حدوث عاهات مؤلمة فى الجسم ، وإما إلى الموت. فالمقاتل فى ساحات الكر والفر إنما يصارع الموت ، ومقدمات الموت.
        ولهذا جاء إعراب " الصابرين " مخالفاً لإعراب ما قبلها ، ليلفت الله أذهان العباد إلى أهمية الصبر فى هذه المجالات ، وهذا الإعراب المخالف لما قبله مع تركيز الانتباه ، وتوفير العناية بتأمُّل هذا الخلق العظيم ، يفيد أمراً آخر مبهجاً للنفوس ، هو مدح هؤلاء الصابرين شديدى العزيمة ، قويى الاحتمال.
        فانظر إلى نفائس هذه المعانى ، التى دل عليها نصب " الصابرين " مع كون ما قبله مرفوعاً. إنها بلاغة القرآن المعجز ، وعبقرية اللغة العربية لغة التنزيل الحكيم.
        وهذا الإعراب المخالف لإعراب ما قبله ، هو الذى يسميه النحاة واللغويون بـ " القطع " كما تقدم فى نظيريه فى هذه الدراسة ، إما للمدح كما فى هذه الآية ، وآية النساء " والمقيمين الصلاة " وقد تقدمت.
        وإما بقصد الذم ، كما فى قوله تعالى فى سورة المسد " وامرأته حمالةَ الحطب " أى امرأة أبى لهب التى كانت تحمل الشوك وتنثره فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤذيه. لأن كلمة " حمالة " جاءت منصوبة بعد رفع ما قبلها ، وهى " امرأتُه " فهذا قطع كذلك ، القصد منه الذم ، أى: أذم أو ألعن حمالة الحطب.
        وأياً كان القطع للمدح أو الذم ، فإنه من أرقى الأساليب البلاغية ، يحتوى على فضيلة الإيجاز وهى أن تكون المعانى أكثر وأوفر من الألفاظ التى تدل عليها ، أو المستعملة فيها ، لأن كل كلمة قُطِعَ إعرابها عما قبلها نابت هذه الكلمة مناب ثلاثة قيم بيانية ، رامزة إلى وجودها فى المقام ، وإن كانت محذوفة وهى:
        1 ـ الكلام الذى عمل الإعراب المخالف فى الكلمة المقطوع إعرابها عن إعراب ما قبلها ، وهو فى " الصابرين " أمدح أو أخص الصابرين بالمدح. وفى آية " المسد " أذم أو ألعن.
        2 ـ إفادة المدح أو الذم بغير الألفاظ التى تدل عليهما.
        3 ـ فضيلة الإيجاز البيانى المفعم بالمعانى الآسرة والدلالات الساحرة. فسبحان من هذا كلامه ‍‍!
        والخلاصة:
        بعد هذا البيان الموجز ، وإن طال ، لا أرانا فى حاجة إلى ذكر توجيهات النحاة والمفسرين وعلماء القراءات واللغويين ، لمجئ " الصابرين "
        منصوباً بعد مرفوع فى هذه الآية ، لأن توجيهاتهم ـ هنا ـ مثل توجيهاتهم هناك ، ولسنا فى حاجة كذلك إلى الاستشهاد بالمأثور عن العرب الذين يحتج بكلامهم على قواعد اللغة ، وطرائق استعمالاتها ، لسنا فى حاجة إلى ذلك ، وإن كان مفيداً ، لأن القرآن الكريم حُجة فى نفسه ، غير مفتقر لإقامة الدليل من خارجه على صحة شىء فيه ، فهو النموذج الممتاز الأعلى للغة العربية ، قواعدها ، ونحوها ، وصرفها ، وبيانها ، وبلاغتها. وحسبنا فى هذه الآية المعانى التى أمطنا عنها اللثام فى مجىء " الصابرين " منصوباً بعد مرفوع.
        المراجع
        (1) النساء: 162.
        (2) الكشاف (1/582).
        (3) الكتاب (1/248).
        (4) إملاء ما مَنْ به الرحمن (1/202).
        (5) انظرفى هذه الشواهد:الدر المصون (4/154).
        (6) انظر: الدر المصون (4/155).
        (7) البقرة: 177.




        14- نصب الفاعل
        هذه شبهة خفيفة الوزن ، تدل على أمرين راسخين فيهم:
        الأول: جهلهم الفاضح بقواعد اللغة العربية.
        الثانى: تهافتهم الأعمى على تصيُّد الشبهات ، والبحث عن العيوب والنقائص.
        منشأ هذه الشبهة:
        هو قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماماً ، قال: ومن ذريتى قال لا ينال عهدى الظالمين ) (1).
        اطلعوا على هذه الآية فى المصحف الشريف ، ووقع بصرهم على كلمة " الظالمين " وصورت أوهامهم أن فيها خطأً نحويًّا ؛ لأنها عندهم فاعل ، والفاعل حكمه الرفع لا النصب ، فكان حقه أن يكون هكذا.
        لا ينال عهدى الظالمون ، لأنه جمع مذكر سالم ، وعلامة رفعه " الواو " وبهذا تخيلوا ، بل توهموا أن القرآن لا سمح الله قد أخطأ فنصب الفاعل " الظالمين " ولم يرفعه " الظالمون " ؟! هذا هو منشأ هذه الشبهة.
        الرد على الشبهة:
        الفعل " نال " فعل متعدٍ إلى مفعول واحد ، قال الله تعالى:
        (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ) (2).
        الفاعل " واو الجماعة " والمفعول " خيراً ".
        أما فى هذه الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة " لا ينال عهدى الظالمين " فالفاعل هو " عهدى " ، مرفوع بضمة مقدرة ، منع من ظهورها اشتغال المحل (3) بحركة المناسبة ل " ياء " المتكلم ، والمفعول به هو " الظالمين " وعلامة نصبه هى " الياء " لأنه جمع مذكر سالم ، ينصب ويجر ب " الياء " والمعنى: لا ينفع عهدى الظالمين. ومجىء " الظالمين " منصوباً هو قراءة الجمهور من القراء.
        وليس فى مجىء " الظالمين " منصوباً على المفعول به خلاف بين العلماء. بل إنهم نصوا على أن خواص الفعل " نال " أن فاعله يجوز أن يكون مفعولاً ، ومفعوله يجوز أن يكون فاعلاً ، على التبادل بينهما ، قالوا: لأن ما نالك فقد نلته أنت.
        وقد جاء قوله تعالى: (لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) (4).
        على خلاف نسق آية البقرة ، التى نحن بصدد الحديث عنها. حيث كان الوالى للفعل فيها هو الفاعل " لا ينال عهدى والواقع بعد الفاعل هو المفعول " الظالمين ".
        أما فى آية الحج فإن الذى ولى الفعل " لن ينال الله " هو المفعول ، وما بعده هو الفاعل " لحومُها ".
        والمعنى: لن يصل اللهَ لحومُها ولا دماؤها ، وكذلك قوله " ولكن يناله التقوى منكم " فالضمير فى " يناله " هو المفعول به ، أما " التقوى " فهى الفاعل.
        المراجع
        (1) البقرة: 124.
        (2) الأحزاب: 25.
        (3) المحل هنا هو " الدال " من " عهدى ".
        (4) الحج: 37.


        15- تذكير خبر الاسم المؤنث
        الشبهة:
        هو قوله تعالى: (ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين ) (1).
        وموضع الشاهد عند المعترضين فى الآية الكريمة هو كلمة " قريب " وهى " خبر " اسم " إن " " رحمة ".
        وحين نظروا فى نظم هذه الآية توهموا كذلك أن فيها خطأً نحويًّا منشؤه عدم التطابق بين المبتدأ " رحمة " والخبر " قريب " فى التأنيث ، لأن المبتدأ " رحمة" مؤنث. أما الخبر " قريب " فهو فى الآية مذكر قالوا:
        وكان يجب أن يتبع خبر " إن " اسمها فى التأنيث فيقال: قريبة.
        الرد على الشبهة:
        ذكر علماؤنا فى توجيه هذا " التذكير " الحاصل بحذف علامة التأنيث من الخبر ، عدة وجوه ، لا نريد أن نطيل بذكرها كلها ، لذلك نكتفى بما يرد كيد هؤلاء الطاعنين فى نحورهم.
        - بعضهم يجعل " رحمة الله " فى معنى الغفران [ أو الرضوان ] فلذلك جاء الخبر " قريب " مذكراً.
        وقد اختار هذا الرأى النضر بن شميل والزجاج (2).
        * ومنهم من جعل " قريب " صفة لخبر محذوف مذكر تقديره: شىء أو أمر قريب ، ودليل هذا الحذف هو تذكير " قريب ".
        * ومنهم من جعله من باب النسب ، أى ذات قرب ، كقولهم فى حائض: ذات حيض.
        * ومنهم من جعل " قريب " مصدراً مستعملاً استعمال الأسماء مثل النقيق ، وهو صوت الضفادع. والضغيب وهو صوت الأرنب. والمصدر يُلتزم فيه
        الإفراد وإن جرى على جمع ، والتذكير وإن جرى على مؤنث كما فى هذه الآية الكريمة.
        * ويرى آخرون أن تأنيث " رحمة " لما كان تأنيثاً مجازياً لا حقيقياً جاز فى الاستعمال اللغوى تأنيث خبره وصفته ، وجاز تذكيرهما على حدٍ سواء. سواء كان فى ضرورة الشعر ، أو فى النثر.
        وقال الحلبى تلميذ أبى حيان ، وهما من الأئمة الأعلام فى النحو:
        " وهذا يجىء على مذهب ابن كيسان ، فإنه لا يقصر ذلك على ضرورة الشعر ، بل يجيزه فى السعة " (3).
        وقال الفراء: " قريبة وبعيدة إما أن يراد بهما قرابة النسب أو عدمها فيؤنثها العرب ليس إلا ، كقولهم: فلانة قريبة منى أى فى النسب وبعيدة منى أى فى النسب. أما إذا أريد بها القرب المكانى أو الزمانى فإنه يجوز الوجهان ؛ لأن قريباً وبعيداً قائم مقام المكان أو الزمان ، فتقول:
        فلانة قريبة وقريب ، وبعيدة وبعيد ، والتقدير هى فى مكان قريب وبعيد. قال الشاعر:
        عشية لا عفراء منك قريبة
        فتدنو ولا عفراء منك بعيد " (4)
        يعنى أن الشاعر جمع بين الوجهين التأنيث والتذكير والموصوف مؤنث ؛ لأن " قريب " و " بعيد " أريد بهما القرب فى المكان والبعد فيه.
        والآية الكريمة ليس القرب المذكور فيها مراداً به قرب النسب فيلزم تأنيثه ، وإنما المراد قرب الزمان ، والعرب تجيز فيه الوجهين: التأنيث والتذكير.
        ولامرئ القيس ، وهو من شعراء الجاهلية ، وشعرهم حُجة فى إثبات اللغة ، بيت نحا فيه هذا المنحى ؛ فقال:
        له الويل إن أمسى ولا أم سالم
        قريب ، ولا البسباسة ابنته يُشكرا (5)
        والشاهد فى البيت تذكير " قريب " مع جريانه على مؤنث " أم سالم " وهو نظير " قريب " فى الآية الكريمة.
        والخلاصة:
        رأينا فى الرد على هذه الشبهة أن القرآن الكريم لم يخرج عن سنن البيان العربى حين ذكَّر " قريب " فى الآية ، وهى مجراة على مؤنث مجازى غير حقيقى " رحمة الله ".
        وكان أصح وأثبت ما ذكرناه فى الرد على خصوم القرآن ، هو ما قاله الفراء رحمه الله ، من أن العرب كانوا يفرقون بين القرب والبعد من النسب وبين القرب والبعد فى المكان والزمان:
        فالأول: يلتزم فيه تأنيث ما جرى خبراً أو صفة لمؤنث.
        أما الثانى: وهو القرب والبعد فى المكان والزمان فإنهم يجيزون فيه الوجهين: التأنيث والتذكير ، وقد ذكر رحمه الله بعض الشواهد الشعرية لشعراء هم حُجة فى إثبات اللغة ، وطرائق استعمالاتها. وبهذا تظهر براءة القرآن الناصعة مما حاول خصومه إلصاقه به من خطأ.
        المراجع
        (1) الأعراف: 56.
        (2) وعلى هذا يكون التذكير قرينة على صحة حمل " رحمة الله " على غفران الله ، أو رضوانه. انظر: معانى القرآن للزجاح (2/380).
        (3) يعنى فى النثر دون اشتراط ضرورة تدعو إليه. انظر: الدر المصون (5/345).
        (4) معانى القرآن (2/382) والبيت لعروة بن حزام. وقد أورده للغرض نفسه أبو حيان فى البحر (4/313).
        (5) الدر المصون. الشاهد رقم (562).



        تابعو

        تعليق

        • المتفائل

          #5

          16- تأنيث العدد ، وجمع المعدود
          منشأ هذه الشبهة:
          هو قوله تعالى: (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرِب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم.. ) (1).
          وشاهدهم على اللغط بهذه الشبهة هو قوله عز وجل " اثنتى عشرة أسباطاً أمماً " والصواب الذى توهموه عبروا عنه بقولهم:
          " كان يجب أن يُذَكَّر العدد ، ويأتى بمفرد المعدود فيقول: اثنى عشر سبطا ".
          الرد على الشبهة:
          وجَّه النحاة تأنيث العدد فى الآية بأن السبط فى بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب. يعنى أنه أراد بالأسباط القبائل ، ولذلك أنث جزئى العدد المركب ، وهما: اثنتى ، وعشرة (2).
          هذا وجه ، ووجه آخر هو تأويل السبط بالجماعة أو الفرقة أو الطائفة.
          أما جمع أسباط ، وكان حقه أن يفرد فقد روعى فيه المعنى دون اللفظ ، ومراعاة المعنى دون اللفظ ، أو اللفظ دون المعنى كثير الورود فى النظم القرآنى ، ويبدو أن هؤلاء الطاعنين فى سلامة القرآن من كل خطأ يجهلون هذه الأساليب فى القرآن خاصة ، وفى اللغة العربية عامة ، ويتشبثون بظواهر العبارات حباً فى ترويج ما يريدون ترويجه من الشبهات الواهية وكان العرب النازل بلغتهم القرآن يذكِّرون عدد المؤنث مراعاة للفظ فيقولون: ثلاثة أنفس ، أى رجال ، ويقولون عشر أبطن.
          ففى الأول " ثلاثة أنفس " ذكَّروا العدد نظراً للمعنى ؛ لأن المعدود مذكر " رجال " وفى الثانى أنثوا العدد " عشر أبطن " لأن المعدود هو القبيلة أى عشر قبائل. وهذا باب واسع لا تحصر شواهده (3). أما جمع المعدود الذى فى الآية " أسباطاً أمماً " فله نظائر فى الاستعمال المأثور الوارد عن العرب ومنه قول الشاعر:
          فيها اثنتان وأربعون حلوبة
          سُوداً كخافية الغراب الأسحم
          فقد وصف الشاعر " حلوبة " وهى مفرد ، بقوله " سُوداً " وهو جمع سوداء.
          ولهذه.. الشواهد نظائر من المأثور عن العرب الخلَّص.
          والخلاصة:
          فقد طاحت هذه الشبهة ، وانمحت آثارها ، كما طاحت نظائرها من قبل. ومن الدلائل القوية على صحة تأنيث العدد ، فوق ما تقدم ، أن بعض النحاة أضاف إلى بدلية " أمما " من " أسباطا " أن " أمما " وقعت نعتاً ل " أسباطا " و " أمماً " مؤنثة لفظاً. وسواء كانت " أمماً " بدلاً من " أسباطاً " أو كانت نعتاً له. فإن الذى لا نزاع فيه أن المؤنث لا يبدل من المذكر ، ولا يقع نعتاً له. وهذا دليل قاطع على أن المراد من " أسباطاً " وإن كان مذكَّراً فى اللفظ ، معنى مؤنث لا محالة. ولذلك أنث النظم القرآنى جزئى العدد المركب " اثنتى عشرة ".
          أما جمع المعدود " أسباطاً أمماً " وإن وجهه النحاة توجيهاً صائباً ، فقد بقى فى مجيئه جمعاً ملمح بلاغى دقيق ذلك الملمح نوضحه فى الآتى:
          بدأت الآية الكريمة بهذا الفعل " قطَّعناهم " بتشديد " الطاء " على وزن " فَعَّل " وهذا التشديد يفيد التكثير ، أى كثرة التقطيع والتفريق. وهذا يناسبه بلاغة جمع " أسباطاً أمماً " لا إفرادهما ، والمعانى البلاغية من هذا النوع تزال من أجلها كل الموانع والسدود. ولغة القرآن وبلاغته أوسع من قواعد اللغة وفنونها البلاغية.
          المراجع
          (1) راف: 160.
          (2) انظر: الدر المصون (5/485).
          (3) ومما رجح التأنيث فى الآية إبدال " أمما " من " أسباطا " مما يؤكد أن الأسباط معناها هنا مؤنث بمعنى قبائل أو جماعات.


          17- جمع الضمير العائد على المثنى
          منشأ هذه الشبهة:
          هو قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ) (1).
          يقولون:
          كان يجب أن يثنى الضمير العائد على المثنى ، فيقول: " خصمان اختصما فى ربهما " !.
          الرد على الشبهة:
          أشرنا من قبل إلى طريقتين من طرق التعبير اللغوى الفصيح ، وهما:
          - طريقة مراعاة اللفظ.
          - وطريقة مراعاة المعنى
          فحيث جمع القرآن الضمير العائد على المثنى ، فهو من استعمالات الطريقة الثانية ، التى يراعى فيها جانب المعنى على جانب اللفظ.
          وينبغى أن نعرف أن المثنى نوعان:
          - مثنى حقيقى ، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) (2).
          ف " رجلان " مثنى حقيقى ؛ لأن واحده فرد فى الوجود ؛ أو ذات واحدة ؛ هذا هو المثنى الحقيقى. وإذا وُصِفَ أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.
          * أما النوع الثانى من المثنى ، فهو المثنى اللفظى ومثاله من القرآن قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) (3).
          وهذا النوع من المثنى ضابطه أن واحده جمع فرد من عدة أفراد ، وليس فرداً واحداً.
          والنوع الأول (المثنى الحقيقى) يسمى مثنى لفظاً ومعنى.
          أما الثانى (المثنى غير الحقيقى) فيسمى مثنى فى اللفظ ، وجمعاً فى المعنى. وفى وصفه أو استئناف الحديث عنه يجوز أن يراعى فيه جانب اللفظ ، أو جانب المعنى.
          ومنه ما ورد فى آية " الحج ": " هذان خصمان " لما كان معناه جمعاً روعى فيه جانب المعنى فقال عز وجل: " اختصموا فى ربهم " ومعروف أن مفرد الخصمين خصم ، وهو اسم جنس يندرج تحته - هنا - أفراد كثيرون وبهذا نزل القرآن فى هذه الآية ، فتحدث عن الخصمين بضمير " الجمع " الذى هو " واو الجماعة " " اختصموا " ثم بضمير الجماعة " هم " فى قوله تعالى: " فى ربهم ".
          ونظيره فى القرآن قوله تعالى:
          (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) (4). أعاد الضمير جمعاً " اقتتلوا " هذا فى جملة الخبر ، مع أن المبتدأ مثنى " طائفتان " وذلك لأن هذا اللفظ مثنى غير حقيقى ، بل هو مثنى فى اللفظ ، جمع فى المعنى.
          وفى هذه الآية راعى النظم القرآنى المعجز المعنى فى جملة الخبر وحدها " اقتتلوا " ثم راعى اللفظ فى بقية الآية هكذا:
          (فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما (.
          وكلا المنهجين فصيح صحيح بليغ.
          والذى سوَّغ مراعاة المعنى فى " اقتتلوا " وقوعه بعد جمعٍ ، هو " المؤمنين " ، وليس فوق ذلك درجة من الصحة والإصابة ، وإن كره الحاقدون.
          والخلاصة:
          أن " اختصموا " و " فى ربهم " الذوق السليم يشهد أن " اختصموا " أبلغ من اختصما ، وأن " ربهم " أبلغ من ربهما.
          لأن " اختصموا " يفيد تبادل الخصومة بين جميع أفراد ال " خصمان " من أول وهلة ، وكذلك " ربهم ؛ إن ضمير الجمع فيه " هم " يفيد من أول وهلة ربوبية الله لكل فرد منهم.
          والاختصام هو الحدث الرئيسى فى هذه الواقعة. فعُبِّر عنه بهذا اللفظ الفخم " اختصموا " ومحال أن يستقيم لو قيل بعده " فى ربهما " فسبحان من هذا كلامه ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.
          المراجع
          (1) الحج: 19.
          (2) المائدة: 23.
          (3) هود: 24.
          (4) الحجرات: 9




          18- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً
          منشأ هذه الشبهة:
          ومنشأ هذه الشبهة - عندهم - قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، وخضتم كالذى خاضوا أولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) (1).
          والشاهد - عندهم - فى الآية هو قوله تعالى: " وخضتم كالذى خاضوا " وآثرنا ذكر الآية بتمامها لأن الرد على هذه الشبهة يقتضى النظر فى الآية كلها لا فى الجزء الذى استشهدوا به وحده.
          وكان تعليقهم على قوله عز وجل: (وخضتم كالذى خاضوا (هو قولهم: " وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول: (خضتم كالذين خاضوا (!
          الرد على الشبهة:
          هذه الآية - بتمامها - وردت فى سياق الحديث عن المنافقين ؛ لأن ما قبلها هو قوله عز وجل: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ) (2).
          والآية مسوقة لتهديد المنافقين والكفار ، لعلهم يقلعون عما هم فيه من نفاق وكفر.
          وقد أدير الحديث فيها على تشبيه المخاطبين (المنافقين والكفار) بالأمم الغابرة ، كانت أشد منهم قوة ، وأكثر مالاً وولدا ، وانغمسوا فى شهواتهم الفانية ، فسار المنافقون والكفار سيرتهم فركنوا إلى متع الحياة الدنيا الفانية ، ولم يبتغوا ما عند الله ، وأن المنافقين والكفار فعلوا كل ما فعله من قبلهم من المعاصى والسيئات.
          ثم بين الله عز وجل أنهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة فالذى معنا فى الآية فريقان:
          - فريق سابق فى الزمن ، لم يكن موجوداً فى عصر نزول القرآن.
          - فريق كان حاضراً فى عصر نزول القرآن ، وهم الذين خاطبهم الله فى هذه الآية الكريمة. وليس فى هذه الآية فريق ثالث تحدثت عنه الآية.
          ومن هذا يتضح أن تعقيب خصوم القرآن على هذه الآية ، بأن الصواب أن يقال: " وخضتم كالذين خاضوا " فاسد من كل الوجوه ؛ لأن معنا فى الآية فريقان لا ثلاثة ، ولو قيل: " خضتم كالذين خاضوا " لانفكت رابطة الكلام ، ولبرز فى النظم طرف ثالث لا وجود له فى سياق الآية.
          بيان ذلك:
          أن المقارنة جرت فى الآية بين الفريقين " المنافقين والكفار " و " الأمم الغابرة ". ودارت المقارنة على هذا المنهج:
          - فاستمتعوا بخلاقهم.
          - فاستمتعتم بخلاقكم.
          - كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم.
          - وخضتم كالذى خاضوا.
          والمعنى: وخضتم خوضاً مثل خوضهم (3).
          فالذى فى الآية اسم موصول مفرد ، يعود على المصدر المفهوم من الفعل الماضى " خضتم " فشبه الله عز وجل خوض المنافقين بخوض الذين من قبلهم. وهذا هو النسق الذى دارت عليه المقارنة فى الآية تشبيه سلوك اللاحقين بسلوك السابقين من الأمم الغابرة ، التى عتت عن أمر ربها وعصت رسله.
          واختار الإمام الشوكانى أن المعنى: " كالخوض الذى خاضوا " (4) ، ومن قبله قال الإمام الزمخشرى: " وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا " (5).
          هذا هو الحق فى هذه العبارة ، لا كما قال خصوم القرآن الكارهون لما أنزل الله عز وجل.
          المراجع
          (1) التوبة: 69.
          (2) التوبة: 68.
          (3) انظر: الدر المصون (6/84).
          (4) فتح القدير (2/433).
          (5) الكشاف (2/201).



          19- جزم الفعل المعطوف على المنصوب
          منشأ هذه الشبهة:
          هو قوله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول ربِّ لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدَّق وأكن من الصالحين ) (1).
          وشاهد هذه الشبهة - عندهم - هو قوله تعالى: " وأكن " لأنه محذوف الواو ساكن النون ، وهو فعل معتل الوسط بالواو (أجوف) ولا يحذف الواو منه إلا إذا سكن آخره ، ولا يسكن آخره إلا إذا كان مجزوماً ، ويجزم المضارع إذا دخل عليه جازم أو عطف على مجزوم.
          ولما لم يدخل على الفعل - هنا - جازم ، ولم يتقدم عليه مجزوم يصح جزمه بالعطف عليه ، ساغ لخصوم القرآن أن يقولوا إن هذا الفعل " أكن " جزم مع أن المعطوف عليه منصوب ، وهو الفعل " فأصدق " وعلقوا على هذا فقالوا: " كان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فيقال: " فأصدق وأكون ".
          الرد على الشبهة:
          لفتت هذه الآية أنظار النحاة والمفسرين ، وقد اختلفت توجيهاتهم لورود الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب ، مع اتفاقهم جميعاً على صحة هذاالتركيب نحويّا لأن نظم القرآن مشهود له بالصحة من ألد خصومه الذين بلغوا الذروة فى الفصاحة والبلاغة ، وهم مشركو العرب ، حيث لم يُرو عنهم أنهم طعنوا فى القرآن فى صحة أساليبه ، وضروب تراكيبه ، والتسليم له بالسمو والرفعة فى هذا المجال.
          فعلى كثرة ما اتهموه بأنه سحر ، أو شعر ، أو أساطير الأولين تملى على النبى صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلا لم يذكروا - قط - أن به أخطاء لغوية ، أو نحوية أو صرفية أو بيانية ، بل على العكس من ذلك نراهم أثنوا عليه على لسان الوليد بن المغيرة ، لما سمع من النبى صلى الله عليه وسلم الآيات الأولى من سورة " فصلت " حين نفى عنه كل عيب أو نقص فى أساليبه ونظمه المحكم البديع ولو كان ما يؤخذه خصوم القرآن - الآن - من الشبهات التى نعرض لها - هنا - حقاً لبادروا بإعلانها ، ولاتخذوها حرباً ضروساً ضده. وسكوتهم المطبق عن ذكر عيوب من هذا القبيل تسليم منهم له بالسلامة من جميع الأخطاء ، وهذه هى عقيدة الأمة وكل العقلاء المنصفين ، وقد أشرنا من قبل إلى أن القرآن أوسع من قواعد اللغة وأسمى من أساليب البيان المعروفة عند البشر فإذا ورد فيه شىء على غير قاعدة نحوية أو صرفية معروفة لدى الناس ، فليس معناه أن القرآن قد أخطأ أو سها. لأن القرآن نفسه مصدر من مصادر إثبات اللغة فى نفسها وفى طرق استعمالاتها.
          فما جاء منه على ما نعرفه أو نألفه من القواعد فلا مشاحنة فيه. وما جاء على غير ذلك وجب الإيمان بصحته ، وعلينا أن نجتهد فى التماس العلة فيه ، فإن أدركناها فالحمد لله وإلا فوضنا الأمر فيها لله ، كما هو فى بعض المتشابهات القرآنية من الألفاظ والمعانى ، كما قال عز وجل: (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
          وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (2).
          وبعد هذه الوقفة الكاشفة الشافية نعود إلى ما قاله النحاة والمفسرون فى توجيه مجىء الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب فى الآية الكريمة ، التى اتخذ منها الذين فى قلوبهم زيغ وسيلة للطعن فى القرآن ، ابتغاء الفتنة:
          وجّه الإمام الزمخشرى مجىء الفعل " وأكن " مجزوماً مردوفاً على الفعل المنصوب " فأصدق " بأن قوله تعالى " لولا أخرتنى.. " فى محل جزم لتضمنه معنى الشرط ، فكأنه قيل: إن أخرتنى أصدقْ وأكن من الصالحين (3).
          وكذلك قال ابن عطية (4) ، وأبو على الفارسى (5).
          الخلاصة:
          لم تكن هذه القراءة هى الوحيدة فى جزم الفعل " أكن " فقد قرأه أبو عمرو " وأكون " بالنصب عطفاً على " فأصدق ".
          ونرى أن التوجيه بأن هذا الفعل مجزوم على تضمن عبارة التمنى " لولا أخرتنى إلى أجل قريب " أو على الشرط المقدر ب- " إن أخرتنى " هو توجيه سديد ، وقد سبق إلى القول به علمان من أئمة النحو ، هما الخليل وسيبويه (6).
          والذى سوَّغ إيثار عبارة التمنى " لولا أخرتنى " على الشرط الصريح " إن أخرتنى " أن قائل هذه العبارة يقولها فى ساعة يملكه فيها اليأس من التأخير وهى ساعة حضور الموت ، والتمنى كما نعلم يستعمل فى طلب المحال أو المتعذر ، أما الشرط فيستعمل فى الأمور التى لا استحالة فيها ولا تعذر. فهو إذن من تبادل الصيغ وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغى. وقرينة إرادة الشرط من عبارة التمنى هو جزم الفعل " أكن " وسره البلاغى أن من حضرته الوفاة وهو مقصر فى طاعة الله تدفعه شدة الحاجة التى نزلت به إلى طمعٍ من نوع ما ، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع. ومما تقدم يظهر لنا استقامة العبارة القرآنية وبُعْدها عن كل خلل ، ووفاؤها بالمعنى المراد نحواً وبياناً.
          المراجع
          (1) المنافقون: 10.
          (2) آل عمران: 7.
          (3) الكشاف (4/112).
          (4) المحرر الوجيز (16/23).
          (5) الحجة فى القراءات (4/386).
          (6) حاشية الشهاب على البيضاوى (8/200).




          20- جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً
          منشأ هذه الشبهة:
          هو قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون ) (1).
          ذكروا هذه الآية ، ووقفوا عند قوله تعالى: (الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ) (ذهب الله بنورهم (وعلقوا عليه قائلين: وكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً ، فيقول: " استوقد ـ ذهب الله بنوره " !.
          الرد على الشبهة:
          هذه الآية مضروبة مثلاً لبيان حال المنافقين فى تذبذب أحوالهم وتقلبهم فى مواقفهم ، وانتهازهم الفرص السانحة لتحقيق أغراضهم الدنيوية. وعدم ثباتهم على مبدأ خلقى قويم ، وقد تقدم على هذه الآية آية أخرى تصف سعيهم الضال ، وإيثارهم منافع الدنيا العاجلة الفانية ، على ما عند الله ـ عز وجل ـ مقضياً عليهم بالخسران المبين ، وهى قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) (2).
          ثم استأنف القرآن الحديث عنهم فى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون (.
          والمثل ـ بفتح الثاء ـ هو الشأن والقصة الغريبة التى يكون عليها المتحدث عنه ، وهو ـ هنا ـ المنافقون ، مَثَّلَ الله حالهم وشأنهم الذى هم عليه ، وقصتهم الغريبة الراسخة فى طباعهم بمثل رجل ، أو فريق من الناس طلب إيقاد نارٍ للانتفاع بها فى تحقيق الرؤية ، وإبصار الطريق للسير فيه ، فلما أضاءت النار ما حوله وفرح بها سرعان ما أطفاها الله فأظلمت عليه الدنيا ، فوقع فى حيرة وارتباك.
          وجمع الضمير فى " بنورهم " ليس عائداً على " الذى " المفرد المذكور فى (كالذى استوقد ناراً (، وقد وجَّه النحاة جمع الضمير بعد " الذى " فقالوا: إن الذى ليس بمعنى المفرد ، بل هو بمعنى " الذين " وذكروا أن " الذى " فى الاستعمال اللغوى له معنيان:
          الأول: أن يكون بمعنى المفرد ، وهو الغالب والكثير فيه.
          والثانى: أن يكون بمعنى الجمع ، ويُفرَّق بينهما بالقرائن ، ففى الآية التى معنا: " الذى " بمعنى الفريق أو الفوج الذى استوقد النار.
          هذا رأى فى توجيه رد الضمير جمعاً على " الذى " وقد عبروا عن هذا بقولهم: أراد بالذى جنس المستوقد ، لا فرداً معيناً (3).
          ويرى الإمام الزمخشرى أن " الذى " هو ـ هنا ـ "الذين " حذفت منه " النون " لاستطالته ، وهو مثل " وخضتم كالذى خاضوا " وليس فى الكلام تشبيه الجماعة بالواحد على هذا التأويل ، وأن المشبه هو حال


          تابعو

          تعليق

          • المتفائل

            #6
            21- الإتيان بجمع كثرة فى موضع جمع القلة
            منشأ هذه الشبهة:
            هو قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) (1).
            أخذوا من هذه الآية كلمة " معدودة " وتوهموا أن القرآن أخطأ فيها ؛ لأنها ـ عندهم ـ جمع كثرة ، والمقام الذى استعملت فيه يتطلب جمع القلة ، ثم علقوا قائلين:
            " وكان يجب أن يجمعها جمع قلة ، حيث إنهم أرادوا القلة ، فيقول: أياماً معدودات ".
            هكذا عبروا عن جهلهم ، وهم يحسبون ـ أو لا يحسبون ـ أنهم العلماء الأفذاذ الذين يعلمون ما لم يعلمه أحد ـ حتى الله ـ من شئون اللغة والبيان ، وهم ـ بحق ـ لا يكادون يفقهون حديثاً.
            الرد على الشبهة:
            هذه الآية نزلت تحكى قولاً قاله اليهود ، يكشف عن الغرور الذى ملأ أنفسهم ، فقد زعموا أنهم إذا دخلوا النار ، فإنها لا تمسهم إلا مساً خفيفّا ، وأنهم لن يُخلدوا فيها ، بل يقضون عدة أيام.
            وهذا تطاول منهم ، لأن شئون الآخرة لا يعلمها إلا الله.
            لذلك كذَّبهم الله ، وألزمهم الحُجة البالغة له عليهم وحصر مصدر هذا الذى ادعوه فى أمرين:
            الأول: أن يكون عندهم من الله عهد بما قالوا ، والله لا يخلف عهده ، وهم فى الواقع لا عهد عندهم من الله يحدد فيه مدة مكثهم فى النار ، ودرجة العذاب الذى سيصيبهم فيها.
            الثانى: أو هُمْ يفترون على الله عز وجل ، وماداموا ليس عندهم عهد من الله ، فهم ـ إذاً ـ كاذبون والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
            أما مسألة الكثرة والقلة ، التى بنى عليها هؤلاء الكارهون لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ، فلا اعتبار لها هنا ، وهم وإن حفظوا شيئاً فقد غابت عنهم أشياء. ولذلك أوقعهم جهلهم فيما حاولوا أن يفروا منه ؛ لأنهم قالوا إن معدودة ، جمع كثرة ، واستعمال جمع الكثرة ـ هنا ـ خطأ ؟ ؛ لأن اليهود أرادوا جمع القلة ـ أى أنهم يمكثون فى النار أياماً قليلة. فجاء تعبير القرآن غير وافٍ بالمعنى الذى كانوا يقصدونه ، وكان الواجب على القرآن أن يقول: أياماً معدودات ، بدلاً من (أياماً معدودة (هذا هو قولهم ، وهو محض الخطأ لو كانوا يعلمون وذلك للاعتبارات الآتية:
            فأولاً: لأن " معدودة " ليست جمعاً بل مفردًا ، ليست جمع كثرة ولا جمع قلة. وهؤلاء " العباقرة " جعلوها جمع كثرة ، بسبب جهلهم باللغة العربية ، لغة الإعجاز.
            وثانياً: أن " معدودات " التى يقولون إنها الصواب وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من " معدودة " ظانين أن " معدودات " جمع قلة. وهى ليست جمع قلة كما توهموا ، فهى على وزن " مفعولات " وهذا الوزن ليس من
            أوزان جموع القلة (2) بل من أوزان جموع الكثرة ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة ، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام لا المفردات المستعملة فى التركيب.
            وثالثاً: إن هذا التعبير لا ينظر فيه إلى جانب قلة أو كثرة ، ولكن ينظر فيه من جانب آخر ليس عند هؤلاء الأدعياء شرف الاتصاف به ؛ لأنهم دخلاء على لغة الإعجاز والتنزيل.
            هذا الجانب هو: معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته (3).
            ووصف الأيام بـ " معدودة " فى ما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها ، لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذى لغير العقلاء ، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه ، ولكنهم لجهلهم المركب بلغة الإعجاز حسبوا الصواب خطأ ، والخطأ صواباً. لأنهم زجوا بأنفسهم فيما لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
            أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل ، فلها دواعٍ بلاغية لا يعرف عنها مثيرو هذه الشبهات كثيراً ولا قليلاً.
            وهى فى النظم القرآنى من الكثرة بمكان ، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغى يقتضى ذلك التنزيل.
            وإذا كان القرآن قد عبَّر فى وصف " أياماً " فى آية البقرة هذه بـ " معدودة " وهو وصف غير العاقل جارٍ على الأصل ، فإنه عبَّر عن وصفها بـ " معدودات " فى موضع آخر ، هو قوله تعالى:
            (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون ) (4).
            فكان ينبغى أن يسأل هؤلاء عن اختلاف التعبير فى الموضعين بدل أن يخطِّئوا الصواب وهم جاهلون. وها نحن نضع بين أيديهم الحق ناصع البياض.
            فى آية البقرة جاء وصف " أياماً " ـ " معدودة " بصيغة الإفراد ، وليس جمع كثرة كما زعموا.
            وفى آية آل عمران جاء وصف " أياماً " ـ " معدودات " جمعاً لا إفراداً.
            فلماذا ـ إذاً ـ اختلفت صيغة الوصف ، والموصوف واحد ، هو " أياماً " ؟
            إذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز هكذا:
            " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة.. ".
            ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا:
            " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ".
            وازن بين صدر آية البقرة " وقالوا ".
            وبين صدر آية آل عمران " ذلك بأنهم قالوا ".
            تجد أن جملة " ذلك بأنهم " هذه العبارة اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، الرابط بين الكلامين السابق عليه ، واللاحق به.
            ثم تجد " الباء " الداخلة على " إن " فى " بأنهم ".
            ثم " إن " التى تفيد التوكيد ، ثم ضمير الجماعة " هم ".
            هذه الأدوات لم يقابلها فى آية البقرة ، إلا واو العطف " وقالوا " إذاً المقامان مختلفان ، أحدهما إيجاز ، والثانى إطناب.
            وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كان " معدودة ". فى آية البقرة ؟ و " معدودات " فى آية آل عمران ؟
            كان وصف " أياماً " فى آية البقرة " معدودة " لأن المقام فيها مقام إيجاز كما تقدم فناسب هذا المقام الإيجازى أن يكون الوصف موجزاً هكذا " معدودة ".
            وكان الوصف فى آية آل عمران مطنباً " معدودات " بزيادة " الألف " ليناسب مقام الآية الإطنابى كما تقدم (5).
            فانظر إلى هذه الدقائق واللطائف البيانية المعجزة التى عميت عنها مدارك " الخواجات " المتعالمين.
            المراجع
            (1) البقرة: 80.
            (2) أوزان جموع القلة هى: فِعْلَة ـ أفْعَال ـ أفعُل ـ أفْعِلَة.
            (3) غير العاقل هو ماعدا الإنسان من مخلوقات الله الأرضية.
            (4) آل عمران: 24.
            (5) انظر: ملاك التأويل ، القاطع لذوى الإلحاد والتعطيل فى توجيه المتشابه من آى التنزيل (1/281) للعلامة أحمد بن الزبير القرناطى. دار النهضة العربية.



            22- الإتيان بجمع قلة فى موضع جمع الكثرة
            منشأ هذه الشبهة:
            أما منشأ هذه الشبهة فهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات ) (1).
            والشاهد ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل " معدودات " لأنهم يفهمون جهلا ـ أن " معدودات " جمع قلة ، وأن " معدودة " جمع كثرة ، وأيام الصيام فى شهر رمضان ثلاثون يوماً. فهى أيام كثيرة يناسبها جمع الكثرة عندهم وهو " معدودة " ولكن القرآن أخطأ فوضع كلمة جمع قلة عندهم ، موضع " معدودة " وهى جمع كثرة عندهم كما تقدم. ثم عقبوا على هذا فقالوا : وكان يجب أن يجمعها جمع كثرة ، حيث أن المراد جمع كثرة ، عدته ثلاثون يوماً ، فيقول: " أياماً معدودة ".
            الرد على الشبهة:
            سبق أن عدوا الأربعين جمع قلة ، وهنا جزموا بأن الثلاثين يوماً الرمضانية ، أو التسعة والعشرين يوماً جمع كثرة ، وأن القرآن أخطأ مرة أخرى حين عبَّر عنها بجمع القلة " معدودات " أليست هذه نادرة من نوادر الدهر ؟ كيف تكون الأربعون أقل من الثلاثين أو التسعة والعشرين ؟ هل هذا يصدر عن عاقل على وجه الأرض ؟
            وما عدوه خطأً فى هذه الآية ، وهو قوله تعالى: " معدودات " فهو عين الصواب لغة وبياناً ، وقد أشرنا من قبل إلى أن معاملة غير العاقل معاملة العاقل أسلوب بلاغى رفيع المستوى ، وهو عند البلاغيين استعارة ، شبه فيها غير العاقل بالعاقل لداعٍ بلاغى ، يراعيه البليغ فى كلامه.
            وكلمة " معدودات " فى وصف أيام الصيام أتى بها القرآن لخصوصية بيانية ، هى تعظيم شأن تلك الأيام ، حتى لكأنها لرفعة منزلتها عند الله عز وجل صارت من ذوى العقول ، وهى أوقات لا روح فيها كالأحياء العاقلين.
            فليس المدار فيها اعتبار قلة ، أو كثرة ، بل المراد التنويه بفضلها ، وعلو منزلتها عند الله تعالى.
            أما القلة فتفهم من سياق الكلام ، الذى حدد أيام الصيام بالشهر الواحد:
            (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (2).
            ولهذا التنزيل مواضع أخرى كثيرة فى القرآن الكريم وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
            المراجع
            (1) البقرة: 183-184.
            (2) البقرة: 185.



            23- جَمْعُ اسمِ عَلَمٍ يجب إفراده
            منشأ هذه الشبهة:
            هو قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين * إذْ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الآخرين * سلام على إلياسين ) (1).
            موضع الشاهد على الشبهة عندهم هو " إلياسين " ولكنهم ـ لسوء قصدهم ـ اتبعوا طريقة حذف مزرية فى هذه الآيات ، وكان يكفيهم بدل هذه الحذوفات أن يقتصروا على " إلياسين " وحدها ، وقد يكون الداعى إلى ذكر ما ذكروا هو أن يقولوا إن القرآن تحدث عن " إلياس " والضمائر العائدة عليه حديث المفرد ، ثم عاد فجمع " إلياس " وهو علم مفرد ، جمع المذكر السالم المجرور بـ " الياء " ، هكذا " إلياسين " ، ثم علقوا على هذا الذى فهموه بقولهم:
            " فلماذا قال " إلياسين " بالجمع عن " إلياس " المفرد ؟ فمن الخطأ لغويّا تغيير اسم العَلم حبّا فى السجع المتكلف.
            وجاء فى سورة " التين " (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين) (2).
            فلماذا قال سينين بالجمع عن سيناء ؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَمَ حباً فى السجع المتكلف " ؟
            هذا قولهم ، ذكرناه بالحرف الواحد. وكما يرى القارئ الكريم أن هذه الشبهة شبهتان: إحداهما فى " إلياسين " ، والثانية فى " سينين " وإن كان المقصود لهم من الشبهتين واحداً.
            الرد على الشبهة:
            عرض المفسرون واللغويون عدة توجيهات لمجىء إلياس على إلياسين ، فالإمام الزمخشرى قال مرة إن زيادة الياء والنون ربما كان له معنى فى اللغة السريانية ، وقال مرة إن إلياسين لغة فى إلياس ، كما أن إدريسين لغة فى إدريس ، وعلى هذا فإن " إلياسين " ليس جمعاً. وإذا كان جمعاً فإن المراد إلياس مضموماً إليه من آمن به من قومه ، كما قالوا الخبيبون والمهلبون ، فى الخبيب والمهلب أى تسمية الاتباع اسم المتبوع (3).
            ويقوى هذا قراءة نافع وابن عامر وعلى: آل ياسين ، وياسين ، وأن " ياسين " هو أبو " إيليا " واحد (4) من أنبياء بنى إسرائيل.
            ويرى هذا الرأى آخرون غير من تقدم ذكرهم (5).
            ويرى باحث حديث أن " إلياس " هو " إيليا " أحد أنبياء بنى إسرائيل ، المذكور فى سفر الملوك الأول بهذا الاسم " إيليا " (6).
            وأن أصله فى اللغة العبرية " إلياهو " أى " إيل + ى + ياهو:
            أى إيلى ياهو ، أو يهو. ومعناه: الله إلهى أو الله ربى.
            وأن مجيئه فى القرآن مرتين (إلياس) فى حالة المنع من الصرف للعلمية والعجمة. أما فى سورة الصافات فكان مجيئه مصروفاً هكذا " إلياسين " ، وأن علامة صرفه هى " التنوين " أما " الياء " فتولد عن إشباع الكسرة تحت " السين " أى أن أصله فى حالة الصرف " إلياسن " فلما أشبعت الكسرة صار " إلياسين " وأن المقتضى لصرفه هنا هو رؤوس الآى.
            هذا فيما يختص بالشبهة الأولى. أما الشبهة الثانية وهى " طور سينين " فالرد عليها فى الآتى:
            ليست " سينين " جمعاً كما توهم مثيرو هذه الشبهات ، الذين يقفون عند ظواهر الكلمات فإن وجدوا فيها ما يشبع رغبتهم فى التشفى من القرآن والتحامل عليه ملأوا الدنيا ضجيجاً ، وإن لم يجدوا ملأت قلوبهم الحسرة ، ورجعوا خائبين.. نعم ليست " سينين " جمعاً كما زعموا ، بل هى لغة فى "سيناء" بكسر السين ، كما أن " سَيناء " بفتح السين لغة فيها. وبهاتين اللغتين: سِيناء ، بالكسر ، وسَيناء بالفتح وردت القراءات ، فهى إذن فى القرآن لها ثلاثة لغات:
            - سِيناء بكسر السين.
            - سَيناء بفتح السين.
            - وسِينين ، بكسر السين وياءين ونونين.
            كما أن البلد الحرام لها فى القرآن عدة أسماء(7):
            - مكــــة
            - بكــــة
            - أم القــرى
            - البلد الأمين.
            المراجع
            (1) الصافات: 123-130.
            (2) التين: 1-3.
            (3) الكشاف (3/352).
            (4) الدر المصون (9/328).
            (5) معانى القرآن للفراء (2/391) وعلل القراءات (579).
            (6) الإصحاح (16) الفقرات (31-33).
            (7) انظر: من إعجاز القرآن ، العلم الأعجمى مفسراً بالقرآن (2/167) للأستاذ رؤوف سعد.


            24- الإتيان بالموصول بدل المصدر
            منشأ هذه الشبهة:
            هو قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين..(1)
            وموضع الشاهد على الشبهة ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل:
            " من آمن بالله " وعلقوا عليه فقالوا: " والصواب أن يقال: ولكن البر أن تؤمنوا بالله ، لأن البر هو الإيمان لا المؤمن ".
            الرد على الشبهة:
            قالوا فى العنوان الذى وضعوه العبارة الآتية:
            " أتى باسم الفاعل بدل المصدر ".
            يقصدون قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله ".
            وليس فى هذا القول اسم فاعل على الإطلاق: فلا " البر " اسم فاعل ؟ ولا " من " اسم فاعل ؟ ولا " آمن " اسم فاعل ؟ ولا " الله " اسم فاعل ؟
            وهم ـ قطعاً ـ يقصدون " من آمن " و " مَنْ " هذا اسم موصول ، وصلته " آمن " أى الذى آمن فمن أين أتوا باسم الفاعل الموضوع موضع المصدر فى الآية يا ترى ؟
            إنهم أتوا به من دائرة جهلهم الواسعة ببدهيات اللغة ، التى هم أميون فيها ، ومع هذا ينصبُّون أنفسهم قضاة على كتاب الله العزيز ذروة البيان المعجز ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكان يجب عليهم أن يلتحقوا بمدارس أولية يتعلمون فيها " فك الخط " إذا أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان مناسب لأوضاعهم. ولهذا الخطأ الشنيع عدلنا عن عنوانهم إلى العنوان الذى وضعناه لهذه الشبهة " الإتيان بالموصول بدل المصدر ".
            هذا ، وللعلماء فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن " البر " وهو خلاف الأصل ؛ لأن البر معنى ذهنى و " من آمن " ذات ، والذوات لا يخبر بها عن " المعانى الذهنية " ، للعلماء فى هذه المسألة ستة توجيهات نذكر منها أقواها فى الآتى:
            الإمام الزمخشرى أورد فيها ثلاثة توجيهات:
            الأول: أن فى الكلام مضافاً محذوفاً ، والتقدير. ولكن البر بر من آمن. وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء ، وردده كثير منهم.
            الثانى: تأويل " البر " بـ " ذو البر " يعنى أن فى الكلام حذف مضاف لكن تقديره قبل " البر " أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل " من آمن " وهذا المضاف خبر " البر " الذى هو اسم " ليس ".
            الثالث: أن يكون المصدر ، وهو " البر " موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة ، كما فى قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر.
            ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
            فإنما هى إقبال وإدبار
            فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل ، والتقدير ؛ هى مقبلة مدبرة.
            وقد سبق الزمخشَّـرى إلى الرأى الأول. ولكن البر برُّ من آمن ، شيخ النحاة سيبويه. وقد اختار سيبويه هذا الرأى ورجحه لاعتبار قوى فحواه.
            أن السابق عليه هو نفى كون البر هو تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب.
            ثم قال: والذى يستدرك ينبغى أن يكون من جنس ما وقع عليه النفى ، وهو ـ هنا ـ البر (3)
            يريد شيخ النحاة أن يقول:
            إن " لكن " أداة استدراك فى المعنى ، وإن طرفى الاستدراك ينبغى أن يكونا متجانسين ، والاستدراك: إما إثبات بعد نفى ، أو نفى بعد إثبات ، فمثلاً قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (4)
            ما قبل أداة الاستدراك " لكن " هو الإيمان والتقوى ، وما بعدها هو التكذيب ، فبين ما قبلها وما بعدها تجانس ظاهر ، لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية.
            وكذلك ما قبل لكن فى الآية موضوع الدراسة هو البر الظاهرى المنفى ، وما بعدها ينبغى أن يكون هو البر الحقيقى المثبت.
            وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة ، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغى لهذه المسألة ، سنعرضها فى الخلاصة إن شاء الله.
            ومن الآراء التى طرحت فى هذا الصدد أن " البر " وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على وزان قول العرب " رجل عدل " حيث عدلوا عن رجل عادل ، إلى الإخبار عنه بالمصدر ، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه ، لا فرق بينهما. وهذا رأى نحاة الكوفة .
            أما الفراء فقد جعل " من آمن " واقعاً موقع الإيمان وقال:
            والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، واستشهد على هذا بقول الشاعر:
            لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
            ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى
            حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان.
            والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى .
            نكتفى بهذا القدر ـ مما ذكره النحاة ، ويكاد يجمع عليه المفسرون ـ فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن البر ، مع تسليم الكافة بصحة الاستعمال اللغوى فيه ، واجتهادهم هذا كان محاولة لفهم هذا الاستعمال.
            والخلاصة:
            من خلال النقول التى تقدمت عن النحاة واللغويين والمفسرين ، بطلت هذه الشبهة ولم يبق لها أثر ، فلا غرابة فى وضع " من آمن " خبراً عن " البر " سواء أخذنا بتوجيه شيخ النحاة سيبويه ؛ أن فى الكلام حذف مضاف تقديره " ولكن البر بر من آمن " أو أخذنا بالتوجيه الذى أجاز وقوع المصدر موقع اسم الفاعل أو الفاعل.. فهذه كلها أساليب عربية فصيحة مستعملة ، ومن شواهدها فى القرآن كذلك قوله تعالى: " وأنت حل بهذا البلد " فوقع المصدر " حل " موقع اسم الفاعل " حالٌّ " أى مقيم بهذا البلد.
            فإذا ولينا وجوهنا شطر البلاغة بعد النحو واللغة ، والبلاغة أوسع خطى منهما ، فإننا نلمح فى التعبير القرآنى " ولكن البر من آمن " معنى لطيفاً دقيقاً ذا مغزى كبير لأن " من آمن " يدل على ذوات تمكن الإيمان فى قلوبها. فالإيمان " حالٌّ " فى تلك القلوب ، ولو كان قد قيل: " ولكن البر الإيمان " لكان هذا الإيمان مجرد فكرة لا محل لها ، بل هى مفصولة عن الذوات. يعنى إيمان نظرى لا عملى. وهذا ليس بسديد ، لكن لما جعل هذا وصفاً للذوات المدلول عليها بـ " من " التحم الإيمان بالمؤمن ، والمؤمن بالإيمان ، فتحول إلى إيمان عملى متمكن فى القلوب ، فى مقابلة الإيمان الشكلى الذى لم يرضه القرآن ، وهو توجه الوجوه نحو المشرق والمغرب. وهذا ما ألمح إليه سيبويه من قبل.
            المراجع
            (1) البقرة: 177.
            (2) الكشاف (1/330).
            (3) الكتاب (1/108).
            (4) الأعراف: 96.



            25- وضع الفعل المضارع موضع الماضى
            منشأ هذه الشبهة:
            هو قوله عز وجل: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (1).
            ذكروا هذه الآية ، ثم قالوا فى تصويب الخطأ الذى توهموه فيها:
            " كان يجب أن يعتبر المقام الذى يقتضى صيغة الماضى ، لا المضارع فيقول: " قال له كُنْ فكان " ؟!
            الرد على الشبهة:
            وجَّه المفسرون والنحاة قوله تعالى " كُنْ فيكون " فأوجز الزمخشرى القول فيها فقال: هى حكاية حال ماضية (2).
            وقد أخذ هذه العبارة عن الزمخشرى الإمام البيضاوى ولم يزد عليها (3).
            وهى عبارة تحتاج إلى بيان ما هى حكاية الحال الماضية ؟
            يريد الإمامان أن المضارع " يكون " دلالته فى الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها فى الزمن الذى خلق الله فيه آدم ، وفائدته نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.
            وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى ، هى بعث الماضى وتصويره فى صورة الذى يحدث فى الحال.
            ومن أمثلته عندهم قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع ، وهو حيوان مفترس.
            فأضربها بلا دهش فخـرَّت
            صريعًا لليدين ، وللجران (4)
            الشاعر ضرب الضبع فى الماضى ، فلما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضى " فضربتها " بالمضارع " فأضربها " والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذى وقع فى الماضى ، كأنه يحدث الآن فى زمن التكلم.
            هذا ما أراده الشيخان: الزمخشرى والبيضاوى من عبارة " حكاية حال ماضية " ليبينا سر العدول عن " فكان " إلى " فيكون " فى الآية الكريمة ، التى ادعى مثيرو هذه الشبهات أن فيها خطأً نحويّا ، وهم عن معرفة الصواب والخطأ بمعزل.
            وقال بعض المفسرين اللغويين فى توجيه " فيكون ":
            " يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال ، والمعنى: فيكون كما يأمر الله فيكون ، حكاية للحال التى يكون عليها آدم حين خلقه الله ، ويجوز أن يكون " فيكون " بمعنى كان ، وعلى هذا أكثر المفكرين والنحويين ، وبهذا فسره ابن عباس رضى الله عنه " (5).
            ونعيد السؤال مرة أخرى:
            لماذا عُدِل عن معنى الماضى إلى لفظ المضارع ومعناه ؟
            الجواب على هذا السؤال هو ما قدمناه فى توضيح عبارة الإمام الزمخشرى ، التى تناقلها عنه النحاة والمفسرون وهو إيثار المضارع على الماضى لاستحضار صورة الحدث فى الذهن ، وكأن الأبصار تراه الآن.
            هذه خلاصة أمينة ووافية لما قاله العلماء فى توجيه " فيكون " مضارعًا مرفوعًا لا مجزومًا جوابًا للأمر ، ولا ماضيًا.
            والخلاصة:
            بعد عرض توجيهات المفسرين والنحاة ، يطيب لنا أن نستكشف إسهامات البلاغة فى تأصيل التعبير القرآنى " ثم قال له كن فيكون " الذى اعتبره مثيرو هذه الشبهات معيبًا بالخطأ النحوى ، والنحو وإن كان أساس البلاغة ، وجذورها العميقة ، التى أثمرت كل الإيحاءات البلاغية ، فإن هناك حقيقة يجب الوقوف عليها ، وهى أن البلاغة تبدأ من حيث ينتهى النحو ، فالنحو ـ ومعه الصرف ـ يهتم باستقامة الأساليب وصحتها ، أما البلاغة فتنظر فى الأساليب ، وتغوص وراء ما فيها من المعانى الخبيئة ، والأسرار الدفينة وتبحث عن الإيحاءات الكامنة وراء كل لفظ وجملة وتركيب ، أو تبحث عن معنى المعنى لا معنى اللفظ ، أو المعانى الثانية الخفية غير المباشرة الظاهرة.
            وإذا كان ما قدمناه من توجيهات كافيًا فى إزالة هذه الشبهة التى توهمها هؤلاء " الخواجات " فإن دور البلاغة فى تأصيل هذا التعبير القرآنى مساير لتوجيهات النحاة والمفسرين.
            إن هذا التعبير " كن فيكون " هو الواجب بلاغة وبيانًا وإعجازًا ونظمًا
            أما لو قيل " كن فكان " لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذى هو فيه ، وذلك للاعتبارات الآتية:
            فأولاً: دلالة الماضى الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر ، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم.
            وهذا غير مراد فى حكاية الله كيفية خلقه لآدم ، لأنه لو قيل: كن فكان لصدق هذا التعبير عن وجوده لحظة واحدة من الزمن ، ولو كان قد مات لحظة خلقه.
            أما " كن فيكون " فدلالتها استمرار وجوده حتى أنجب مَنْ أنجب من ذكور وإناث ، وما بث منهما من آباء البشر وأمهاته ، كما قال عز وجل:
            (وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً ) (6).
            لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال ، وتستمر فى الاستقبال.
            وثانياً: أن هذا التعبير " كن فيكون " يؤذن بتقدير مسند إليه قيل " فيكون " أى " فهو يكون " وفى هذا تكرار إسناد " الكينونة " لآدم:
            مرة يجعل " يكون " خبرًا عن ضمير آدم " هو "
            ومرة بإسناد فعل الجملة الخبرية " يكون " إلى ضمير آدم المستكن فى الفعل وجوبًا ، على أنه فاعل له. وتكرار الإسناد من أقوى أساليب التوكيد فى البلاغة العربية.
            وثالثاً: فى الفعل المضارع " يكون " تناسب آسر لرءوس الآيات (الفواصل) لأن ما قبله كلها فواصل مبنية على حرف المد إما الياء ، وهو الأكثر ، وإما الواو مع النون ، وهو كثير ، أو مع الميم.
            وكذلك ما بعدها ، والتناسق الصوتى فى النظم القرآنى المعجز ، وجه من وجوه إعجازه ، التى باين بها كلام البشر والجن ، وجعل لتلاوته حلاوة جذابة للأسماع ، كما جذبت معانيه القلوب ، وأسرت العقول ، واستولت على ألباب أولى الألباب.
            المراجع
            (1) آل عمران: 59.
            (2) الكشاف (1/433).
            (3) أنوار التنزيل (1/162).
            (4) يعنى سقطت على الأرض على جنبها.
            (5) انظر: الدر المصون (3/220-221).
            (6) النساء: 1.


            26- عدم الإتيان بجواب " لمَّا "
            منشأ هذه الشبهة:
            هو قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) (1).
            وموطن الشاهد عندهم هو قوله جل شأنه: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه.. (.
            بحثوا عن جواب " لما " فلم يجدوه ، فرموا القرآن بالخطأ ؛ لأنه لم يذكر جواب " لما " ثم قالوا:
            " فأين جواب لما ؟ ولو حذفت الواو التى قبل أوحينا لاستقام المعنى ".
            الرد على الشبهة:
            قلنا إن هذه الشبهة تتعلق بفن الحذف ، وهو مبحث بلاغى أكثر منه نحويًّا.
            إن كل محذوف عندهم غلط شنيع ، وكل حذف خلط فظيع ، والناس ـ كما قيل فى المثل ـ أعداء ما جهلوا.
            يقول الإمام عبد القاهر الجرجانى ـ شيخ البلاغيين ـ فى وصف الحذف البلاغى ، وروائع ثماره ، وبديع آثاره:
            " هو بحث دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر ، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبن " (2).
            هذه هى منزلة الحذف فى البيان العربى ، السارى فى أعطاف الكلام سريان النسيم فى الرياض الفيحاء ، وقد شاع شيوعاً لا حصر له فى القرآن الكريم ، إذ لم تكد تخلو منه سورة من سوره ، ولا آية من آياته والمعانى التى يدل عليها الحذف فى القرآن تكاد تعادل ربع معانى القرآن كله. وهو منهج واسع وحكيم من مناهج اللغة العربية لا مثيل له.
            ولذلك نجد العلامة اللغوى العظيم ابن جنى ، يسميه فى كتابه "الخصائص" اسمًا طريفًا ، هو: شجاعة العربية ".
            وينتمى الحذف البلاغى إلى فن بلاغى حصر بعض العلماء البلاغة فيه ، وهو " فن الإيجاز " أى قلة الألفاظ مع كثرة المعانى.
            وله مقامات يتألق فيها ، ومقتضيات يوفى بأغراضها.
            ومن مقاماته الحذف الوارد فى آية سورة " يوسف " التى رآها من عشا بصره ، وغلظ قفاه ، وضل عقله خطأ ينبغى أن يصوَّب ، ولحنًا يجب أن يقوَّم.
            إن حذف جواب " لما " هنا المراد منه تهويل وتفظيع ما حدث من إخوة يوسف ليوسف ، بعد أن أذن لهم أبوهم بالذهاب به إلى الصحراء ، وقد روى عنهم أنهم أخذوا يؤذونه بالقول والفعل وهم فى الطريق إلى المكان الذى قصدوه ، حتى كادوا يقتلونه ، والدليل على هذا قوله تعالى حكاية عن أحد إخوته:
            (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين ) (3).
            فالنهى عن القتل لا يكون إلا عند العزم عليه ومباشرة أسبابه.
            لذلك حذف جواب " لما " لتذهب النفس فى تصوره كل مذهب ، وحذف هذا الجواب فيه دلالة على طول ما حدث منهم ، وعلى غرابته وبشاعته ، لذلك قدره الإمام الزمخشرى فقال:
            " فعلوا به ما فعلوا من الأذى.. وأظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه ، وإذا استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب.. " (4).
            وسار على هذا النهج الإمام البيضاوى (5).
            وذهب غيرهما فى تقدير الجواب مذاهب أخرى ، والذى أتاح لهم هذا الاختلاف فى تقدير الجواب المحذوف هو الحذف نفسه (6).
            أما اقتراح مثيرى الشبهة أن يحذف " الواو " فى " وأوحينا " ليستقيم المعنى فخطأ جسيم ؛ لأن " أوحينا " ليس هو جواب " لما " وإنما هو معطوف على الجواب المقدر لأن جواب " لمَّا " هو ما حدث ليوسف من إخوته بمجرد خروجهم به من عند أبيهم وبعدهم عنه قليلاً.
            ودليل ذلك هو العطف بالفاء فى " فلما " لأنها تفيد الفورية والترتيب.
            المراجع
            (1) يوسف: 15.
            (2) دلائل الإعجاز (146) تحقيق الشيخ محمد محمد شاكر.
            (3) يوسف: 9.
            (4) الكشاف (3/306-307).
            (5) أنوار التنزيل (1/387).
            (6) الدر المصون (6/453).



            تابعو

            تعليق

            • المتفائل

              #7
              27- الإتيان بتركيب أدى إلى اضطراب المعنى
              منشأ هذه الشبهة:
              هو قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً ) (1).
              وموطن هذه الشبهة ـ عندهم ـ هو الضمائر الثلاثة فى:
              " تعزروه " ـ " توقروه " ـ " تسبحوه ".
              ذكروا هذا ، ثم قالوا:
              " وهنا ترى اضطراباً فى المعنى ، بسبب الالتفات من خطاب محمد إلى خطاب غيره ، ولأن الضمير المنصوب فى قوله " وتعزروه وتوقروه " عائد على الرسول المذكور آخرًا.
              وفى قوله " وتسبحوه " عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً. هذا ما يقتضيه المعنى ، وليس فى اللفظ ما يعينه تعيينًا يزيل اللبس. فإن كان القول: وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً عائدًا على الرسول يكون كفرًا لأن التسبيح لله فقط ، وإن كان القول " وتعزروه وتوقروه وتسبحوه " عائدًا على الله يكون كفرًا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج لمن يعزره ويقويه ".
              الرد على الشبهة:
              لقد أطالوا ـ على خلاف عادتهم ـ فى بيان هذه الشبهة كما ترى. والسبب أنهم أرادوا أن يضيقوا علينا الخناق أو يسدوا علينا الطريق ليحكموا علينا قبضتهم ، على رأى المثل العامى " حلِّق حُوشْ " بيان ذلك أنهم يقولون لنا:
              إذا جعلتم الضمائر الثلاثة عائدة على الرسول فقد كفرتم لأن الرسول بشر ، والبشر لا يجوز أن يسبحهم أحد ، لأن التسبيح لا يكون إلا لله.
              وإذا جعلتم الضمائر الثلاثة عائدة على الله فقد كفرتم لأن الله غنى عن خلقه لا يحتاج منهم إلى تقوية ولا خلافه. فأين ـ إذن ـ أنتم تذهبون ؟
              ونقول لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله على خاتم رسله:
              نحن ـ المسلمين ـ لا نسبح أحداً غير الله ، ولا نعبد أحداً غير الله ، ولا نرفع حاجاتنا إلى أحدٍ غير الله ، ولا نطلب غفران ذنوبنا من أحدٍ غير الله ، ولا نقدم كشف حساباتنا إلى أحد غير الله ، ولا نرجو ولا نخاف أحداً غير الله. والكتاب الذى أنزله الله على خاتم رسله لا لفَّ فيه ولا دوران ، ولا قلق ولا اضطراب ، لا فى مبانيه ، ولا فى معانيه ، ولا فى مقاصده وقيمه ، فمن توهَّم فيه اضطراباً فالاضطراب فى عقله هو ، وفى فهمه هو لا يتعداه إلى كتاب الله ، ولا إلى المؤمنين به.
              والآية التى وصفوا تركيبها بأنه أدى إلى اضطراب المعنى المؤدى إلى الكفر ، أجلى من الشمس فى رائعة النهار ومرجع الضمائر الثلاثة ، التى اتخذوا منها منشأً لهذه الشبهة محددة ـ عقلاً وشرعاً ـ دون أى التواء.
              فالضمير فى " وتسبحوه " عائد على الله قطعاً دون أدنى شك. لأن التسبيح عبادة ، ولم يؤذن الله لعباده أن يعبدوا أحداً غيره:
              (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) (2).
              (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (3).
              (يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً ) (4).
              أما مرجع الضمير فى " وتعزروه " فهو الرسول (دون خلط أو تشويش.
              وأما الضمير فى " وتوقروه " فلا مانع لا عقلاً ، ولا شرعاً أن يكون عائداً على الله ، لأن توقير الله هو إكباره وتعظيمه ، وقد قال نوح لقومه موبخاً لهم (ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً ) (5).
              ويجوز أن يكون عائداً على الرسول ، وتوقيره هو احترامه وإنزاله منزلته من التكريم والطاعة.
              هذا هو بيان ما توهموه من لبس ، دون الرجوع إلى ما قاله النحاة أو المفسرون فالمسألة لا تحتاج إلى أكثر مما أوجزناه.
              والخلاصة:
              القرآن خطاب للعقلاء الأذكياء ، وليس خطاباً للمتغابين أو الأغبياء ، وفى الإنسان حاسة كثيراً ما يعوِّل عليها القرآن فى خطابه ، تستجلى خفايا معانيه ، وتدرك روائع إيماءاته ودقائق أسراره.
              تلك الحاسة هى الخصائص العقلية ، والملكات الذهنية أو الذوقية المثقفة.
              فمثلاً قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ) (6).
              ترى الخطاب فيها واحداً " طلقتم ـ تعضلوهن " والنظرة العجلى تحسب أن المخاطب فى الموضعين صنف واحد من الرجال لكن العقل ـ بمعونة الشرع ـ سرعان ما يفرق بين الذين خوطبوا بـ " طلقتم " والذين خوطبوا بـ " تعضلوهن " فالمخاطب الأول هم الأزواج الذين يطلقون زوجاتهم ، والمخاطب الثانى هم أولياء أمور المطلقات ، يقول لهم القرآن إذا أراد الزوج المطلق طلاقاً رجعياً فى العدة أو بعد العدة أن يعيد زوجته إليه بالمراجعة أو العقد الجديد وكانت الزوجة راغبة فى ذلك ، فعلى أولياء أمرها ألا يقفوا فى طريقها.
              فالذى فرَّق بين مرجعى الضميرين ـ هنا ـ العقل ، بمعونة الشرع ، وهذه الآية شبيهة بالآية التى أثيرت حولها الشبهات ، التى فرغنا من الرد عليها. ولو كان نظر مثيرى هذه الشبهات وقع على آية البقرة هذه ، لقالوا إن فيها تركيباً أدى إلى اضطراب المعنى ، ولا وجود لاضطراب إلا فى أوهامهم.
              المراجع
              (1) الفتح: 8-9.
              (2) الإسراء: 23.
              (3) الأعراف: 59 ، 65 ، 73.
              (4) النور: 55.
              (5) نوح: 13 ، 14.
              (6) البقرة: 232.



              28- صَرْفُ الممنوع من الصرف
              منشأ هذه الشبهة:
              هو آيتان من سورة واحدة.
              إحداهما قوله تعالى: (إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً) (1).
              والثانية: (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا) (2).
              وشاهدهم فى الآية الأولى كلمة " سلاسلا " ذكروها ثم قالوا: فلماذا قال " سلاسلا " بالتنوين مع أنها لا تُنَوَّنُ لامتناعها عن الصرف ؟
              وقالوا عن الآية الثانية: لماذا أتى بها ؟ " بالتنوين مع أنها لا تُنَوَّنُ ؛ لامتناعها عن الصرف ، لأنها على وزن مصابيح ؟
              هذا قولهم ، وهو مبلغ علمهم أو مبلغ جهلهم وافترائهم لأنهم ـ كما تقدم مرات ـ يحفظون شيئاً وتغيب عنهم أشياء ، وما حفظوه ليس بمغنٍ لهم ، وكان الصمت استر لهم لو كانوا يحترمون أنفسهم.
              الرد على الشبهة:
              فى هذه الشبهة افتراء وجهل:
              أما الافتراء فهو قولهم إن الكلمتين سلاسلا وقواريرا تقرآن بـ " التنوين " والتنوين: نون ساكنة فى آخر الكلمة المصروفة تنطق فى الوصل دون الوقف ، ولا تكتب ، يعنى لا صورة لها فى الكتابة والخط.
              وهذا افتراء منهم ؛ لأن الكلمتين فى قراءة حفص عن عاصم وغيرهما لا تنونان ، وإنما يوقف عليهما بالفتح لا غير ولا يلتفت إلى " الألف " الذى فى آخر كل منهما هكذا " سلاسلا " ـ " قواريرا ".
              وللقراء فى هاتين الكلمتين مذاهب ، وبها نزل القرآن فقد قرأ نافع وابن كثير والكسائى وأبو جعفر " قواريراً " بالتنوين مصروفة منونة فى الموضعين معاً " قواريراً " و " سلاسلاً ".
              وقرأ الباقون ، ومنهم حفص عن عاصم " سلاسلا " و " قواريرا " بدون تنوين على المنع من الصرف وعلة المنع من الصرف هى صيغة منتهى الجموع والذين قرأوهما بالتنوين (مصروفتين) لهم سند فى ذلك.
              ووجه صرف الكلمتين أن بعض العرب كانت تصرف كل الكلام ، وليس فى لهجتهم كلام مصروف وكلام غير مصروف. بل هو كله مصروف ، والقرآن نزل أصلاً بلغة قريش ، ثم بلهجات القبائل العربية الأخرى (3).
              المراجع
              (1) الإنسان: 4.
              (2) الإنسان: 15.
              (3) انظر: التوجيهات النحوية والصرفية للقراءات (1/598) للدكتور:على محمد فاخر



              29- الإتيان بتوضيح الواضح
              منشأ هذه الشبهة:
              هو قوله جل ثناؤه:
              (.. فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة.. ) (1).
              موطن الشاهد على هذه الشبهة عندهم هو قوله تعالى: " تلك عشرة كاملة " بعد قوله عز شأنه: " فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم "
              وفى تصوير هذه الشبهة قالوا:
              " فلماذا لم يقل: تلك عشرة ؟ مع حذف كلمة " كاملة " تلافياً لإيضاح الواضح ؟ لأنه مَنْ الذى يظن أن العشرة تسعة " ؟!
              الرد على الشبهة:
              من الآيات الكونية لله حركة القمر فى رحلته الشهرية حيث يظهر ضعيفاً نحيفاً فى أولى لياليه ، حتى لا يكاد يراه أحد إلا بأجهزة الرصيد الحساسة ، ثم ينمو ويكبر ليلة وراء ليلة ، وفى كل ليلة تالية تصحبها ظاهرتان فى تطور القمر:
              الظاهرة الأولى: إطالة مكثه بعد غروب الشمس ، فهو فى أولى لياليه لا يمكث إلا لحيظات فى شكله الضعيف النحيف.
              أما الظاهرة الثانية: فهى تطور حجمه من الضعف والنحافة إلى القوة والضخامة.
              أما فى الليالى التالية فتزيد مدة مكثه بعد غروب الشمس ، ويكبر حجمه ، ليلة تلو ليلة.
              وفى ليلة الخامس عشر من بدء ولادته تصل الظاهرتان إلى أقصى درجة لهما.
              فيمتد مكثه طول الليل ، منيراً فى الوجود.
              ويكتمل قرصه فيملأ الدائرة المخصصة له ويكتمل نوره 100% ويحيل الليل المظلم إلى نور قوى هادئ فيه منافع للناس ، ويُعجِب الناظرين ، ويتغنى بجماله الشعراء ، ويشبهون به كل ما يرونه:
              * حسناً جميلاً.
              * بهياً ساحراً.
              * رفيع الشأن شامخاً.
              حتى العامة من الناس ـ غير الشعراء المرهفى الحس ـ يفتنون به ، ويعبرون عن بهائه وسحره. ويمجدون بوصفه كل جميل ، فيقولون: " قمر أربع عشرة " أى قمر الليلة التى يرون فيها القمر يوم الرابع عشر ، التى سيعقبها اليوم الخامس عشر من الشهر ، والقمر فى هذه الليلة يبلغ كمال شبابه ونضجه.
              ومنذ فجر الحياة كان القمر ، وبخاصة فى ليلة كماله مبعث الإعجاب والبهارة والابتهاج فى نفس كل من يراه ، ولم يشذ عن هذا الإحساس أحد ،
              فإن رأيت من يذم القمر فى ليلة كماله فاعلم أنه رجل مريض الحس ، فاسد الذوق ، غريب الأطوار.
              والأساليب البيانية شأنها شأن القمر ، فى تدرج أنماطها وتفاوت درجاتها:
              فمنها الحديث اليومى العادى ، الذى يخلو من الخصائص الفنية ومنها المتوسط الدرجة ، الذى لا يمدح ولا يذم.
              ومنها البيان العالى المؤثر فى النفوس ، الممتع للعواطف المثرى للفكر.
              ومنها البيان الأعلى ، المعصوم من النقد ، الذى يحس الناس برونقه وإحكامه وجماله وكماله وجلاله ، وهو القرآن المعجز العظيم.
              ومن أساليب هذا البيان الأعلى الذى لا يضارعه بيان ، أسلوب التوكيد كما فى قوله تعالى (تلك عشرة كاملة (.
              ونبدأ بأقوال الأئمة فى بيان قيمة " تلك عشرة كاملة " فى تقوية الأسلوب وتوفير العناية بالمعنى ، نبدأ بما قاله الإمام الزمخشرى:
              " فإن قلت: ما فائدة الفذلكة " ؟ قلت: الواو قد تجئ للإباحة فى نحو قولك: جالسى الحسن ، وابن سيرين ، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً ، أو واحداً منهما كان ممتثلاً ، فَفُذْلِكَتْ (2) نفياً لتوهم الإباحة.
              وأيضاً ففائدة الفذلكة فى كل حساب أن يُعْلَم العدد جملة كما عُلِم تفصيلاً ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم به.
              وفى أمثال العرب:
              " علمان خير من علم ".
              وكذلك " كاملة " تأكيد آخر ، وفيه زيادة توصية بصيامها ، وألا يتهاون بها ، ولا ينقص من عددها.
              وقيل " كاملة فى وقوعها بدلاً من الهدى " (3).
              يعنى أن فى هذه العبارة توكيدين:
              الأول فى: تلك عشرة ".
              والثانى فى " كاملة ".
              وقد بين الإمام ـ رحمه الله ـ المعانى التى أفادها هذا التركيب ولنا إضافة على ما قاله سنوضحها فى الخلاصة التى تعودنا على جعلها خاتمة كل مبحث.
              ويتابع الإمام البيضاوى ما قاله الإمام الزمخشرى ويضيف إليه جديداً فيقول: " تلك عشرة " فذلكة الحساب ، وفائدتها ألا يتوهم متوهم أن " الواو "
              ـ أى فى " وسبعة إذا رجعتم " ـ كقولك جالسى الحسن وابن سيرين ، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً.. و " كاملة " صفة مؤكدة تفيد المبالغة فى المحافظة على العدد ، أو مبينة كمال العشرة ، فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهى الآحاد وتتم مراتبها " (4).
              وحذا الإمام الشوكانى حذوهما ، ثم قال: إنه مثل " كتبتُ بيدى " والكتابة لا تكون إلا باليد (5).
              ويسوق غيرهم شواهد من الشعر العربى على تأصيل هذا الأسلوب فى لغة العرب ، مثل:
              فسرتُ إليهمُ عشرين شهراً
              وأربعــة فذلـك حِجّتان
              أى: سنتان. وقول الآخر:
              ثلاث بالغداة فهُنَّ حسبى
              وست حين يدركنى العشاء
              فذلك تسعة فى اليوم ربى
              وشُرب المرء بعد الِرى داء (6)
              والخلاصة:
              لقد أصاب الأئمة فى الإشارة إلى معنى جملة " تلك عشرة كاملة " وبخاصة فى قولهم إنها أفادت دفع توهم من يحسب أن " الواو " بمعنى " أو " تفيد الإباحة ، فليس ببعيد أن يفهم بعض الناس أن المتمتع بالعمرة إلى الحج كفارته الصيام:
              فإن صام فى الحج فيكفيه ثلاثة أيام ، ومن لم يصم حتى رجع إلى بلده فعليه صيام سبعة أيام ، وأن يفهم الاكتفاء بالثلاثة فى الحج للتخفيف على المحرمين بالحج ويؤدون مناسكه ، أما بعد الرجوع إلى الوطن فلا داعى للتخفيف ، لأنه غير مشغول بالمناسك ، وليس غريباً عن بلده. ليس ببعيد أن يقع هذا الفهم فى أذهان بعض الناس حتى الفقهاء المجتهدين.
              لذلك كان قوله تعالى: " تلك عشرة " واصفاً لها بأنها " كاملة " دافعاً لذلك الفهم.
              وبذكر " كاملة " تحوَّل قوله تعالى: " تلك عشرة " إلى نص محكم غير قابل للاحتمال أو التأويل.
              أما من حيث البلاغة والبيان ، فإن كلمة " كاملة " وصفاً لـ " تلك عشرة " تفيد تعظيم هذه الأيام العشرة وكمال فضلها عند الله عز وجل.
              بدليل أنه أشار إليها باسم الإشارة الموضوع للبعيد ، تنويهاً ببعد منزلتها ، وكان يمكن أن يقال هذه عشرة كاملة ، وهذه اسم إشارة للقريب سواء كان قرباً حيًا أو قرباً معنويًّا.
              هذه المعانى والدقائق والأسرار ما كانت لتُفهَم لولا وجود تلك العبارة ، التى عدَّها مثيرو الشبهات عيباً من عيوب الكلام.
              المراجع
              (1) البقرة: 196.
              (2) الفذلكة مصطلح فنى معناه: إجمال المعنى فى عبارة موجزة بعد بسطه فى عبارة طويلة.
              (3) الكشاف (1/345).
              (4) نوار التنزيل (1/111).
              (5) فتح القدير (1/227).
              (6) الدر المصون (2/320).



              30- الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى
              منشأ هذه الشبهة:
              هو قوله تعالى: (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) (1).
              وشاهدهم فى الآية هو قوله تعالى: " حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم ".
              الرد على الشبهة:
              هذه الشبهة المثارة هنا على هذه الآية ، ليست لها صلة ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، بالنحو والصرف بل هى مسألة بلاغية صرفة ، والبلاغة ـ عموماً ـ لها عنصران كبيران ، أحدهما خارجى عن شخصية البليغ ، والثانى ممتزج بشخصيته.
              العنصر الأول الخارجى:
              هو مجموعة القواعد والأصول التى تكوِّن علوم البلاغة باعتبارها علماً راقياً من علوم اللسان ؛ لأن لكل علم أو فن أصوله ومبادئه الخاصة به.
              وهذه القواعد والأصول يمكن تَعَلُّمها وإتقانها لكل راغب صادق الرغبة فيها.
              العنصر الثانى الذاتى:
              الممتزج بذات البليغ ، والذى يجرى فيه مجرى الروح فى الجسد هو الإحساس المرهف بالجمال الفنى ، والقدرة على التذوق ، والخبرة بالأساليب إنشاءً ودراسة ونقداً وتقويماً. وليس بلازم أن يكون العارف بالقواعد والأصول البلاغية ، بليغاً.
              يقول الإمام الزمخشرى البليغ الذواقة ، فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:
              " فإن قلت ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قلت: المبالغة ، كأنه يذكر حالهم لغيرهم ليعجِّبهم منها ، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح " (2).
              هذه العبارة فى حاجة إلى إيضاح ، هو الآتى:
              هؤلاء الذين تحدث الله عنهم فى هذه الآية ، أنعم الله عليهم بالتسيير فى البر والبحر ، وامتحنهم بالريح العاصف بعد أن أقلعت بهم الفلك تمخر عباب الماء ، فتوجهوا إلى الله يطلبون منه الإنجاء ، واعدين الله إذا أنجاهم أن يشكروه ويعرفوا فضله. فلما أنجاهم نسوا ما وعدوا الله به ، وعادوا إلى معصيته كما قال ربنا عز وجل:
              (فلما أنجاهم إذا هم يبغون فى الأرض بغير الحق.. ) (3).
              وكانت فائدة الالتفات عن خطابهم المباشر " كنتم فى الفلك " إلى حكاية حالتهم العجيبة إلى غيرهم ، لكى يستثير سخطهم عليهم ، ويقبِّحوا سوء صنيعهم مع الله.
              والخلاصة:
              ما قاله الإمام الزمخشرى فى هذه الآية لمحة طيبة ، ومعنى لطيف دل عليه هذا الالتفات من المخاطب إلى الغائب ، وقد تناقله عنه المفسرون من بعده.
              أما البلاغيون ـ بعد الزمخشرى ـ فقد أضافوا ملمحًا بلاغيًا آخر ، يساير ما فهمه الإمام الزمخشرى ولا ينافره ، فقد قالوا:
              " إن السر فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أن " الغيبة " تناسب الفعل " جرين " فهم كانوا على الشاطئ والفلك ترسو إلى جنبه ، وأخذ الناس يركبون الفلك ، حتى إذا تكاملوا على ظهره ، وأقلعت آخذة فى السير السريع (الجرى) غابوا عن الأنظار ، فهم ليسوا حاضرين حتى يُخاطَبُوا. ولكنهم غائبون فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب ".
              إن كلتا اللمحتين البلاغيتين تنبثقان من هذا التعبير " وجرين بهم " ولا تنافر واحدة منهما الأخرى.
              هذا ما لم يكن مثيرو هذه الشبهات أهلاً لفهمه لبلادة حسهم ، وفساد ذوقهم.
              والالتفات ـ عامة ـ فن عريق من فنون البيان فى البلاغة العربية ، طرقه الشعراء فى الجاهلية ، وشاع فى كلامهم ، ووردت منه نماذج وصور فى الذكر الحكيم ، وفى أحاديث خاتم النبيين ، وأسراره لا تحصر ، ودلالاته لا تنضب ، وكفاه فضلاً أنه يروِّح عن مشاعر السامعين وينتقل بهم من لون إلى لون ، فى معرض جذاب ، لا يقدره حق قدره إلا من رُزق حسن الفهم ، والقدرة على التذوق لمرامى الكلام.
              المراجع
              (1) يونس: 22.
              (2) الكشاف (2/231).
              (3) يونس: 23.



              31- الإتيان بفاعلين لفعل واحد (1)
              منشأ هذه الشبهة:
              هو قوله تعالى: (لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) (2).
              وشاهدهم فى هذه الآية هو الجمع بين: " وأسروا " ، " الذين ظلموا " لأنهم جزموا بأن " الواو " فى " أسروا " فاعل ، كما جزموا بأن " الذين " فى " الذين ظلموا " فاعل كذلك.
              ولما كان كل فعل لا يتطلب إلا فاعلاً واحداً ، صاحوا بأعلى صوت قائلين:
              إن القرآن أخطأ فجعل للفعل الواحد فاعلين ؟!
              الرد على الشبهة:
              قال شيخ المفسرين البيانيين الإمام جار الله محمود بن عمر الزمخشرى يقول: " أبدل الذين ظلموا من " واو " " وأسروا " إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به.
              أو جاء على لغة من قال: أكلونى البراغيث.
              أو هو منصوب المحل على الذم.
              أو هو مبتدأ خبره " وأسروا النجوى " قُدِّم عليه والمعنى:
              هؤلاء أسروا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم (3).
              ذكر الإمام ـ رحمه الله ـ فى توجيه هذا التركيب أربعة آراء كلها صحيح فصيح:
              الأول: إن " الذين ظلموا " بدل كل من كل من معنى " الواو " فى " أسروا " لأنه واو جماعة معناه الجمع.
              الثانى: إنه جاء على لغة بعض القبائل العربية ، التى تجمع بين الضمير إذا وقع فاعلاً وبين ما يفسره.
              وعليه جاء الحديث الشريف: [ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ] (4).
              الثالث: أن يكون فى محل نصب على الذم ، على تقدير فعل محذوف هو: أذم أو أخص الذين ظلموا بالذم.
              الرابع: أن يكون هو المبتدأ ، وما قبله خبر عنه ، أى الذين ظلموا أسروا النجوى.
              أما الذى اقتضى تقديم خبره عليه " أسروا النجوى " فهو التسجيل عليهم بقبح ظلمهم وفحوشته. وهذا كله كلام طيب فى غاية النفاسة.
              ويردد الإمام الشوكانى ما قاله الإمام جار الله ـ رحمه الله ـ ويضيف إلى ما قاله جديداً ، ومن هذا الجديد: " إن الذين ظلموا " فاعل لفعل محذوف تقديره: يقول الذين ظلموا.
              ثم يورد على لغة " أكلونى البراغيث " آية أخرى من كتاب الله ، هى قوله عز وجل: (ثم عموا وصموا كثير منهم ) (5).
              فقد جُمِعَ فى الآية بين الضمير ، وهو " الواو " فى " عموا " و "صموا " وبين الاسم الظاهر " كثير ".
              كما ذكر قول الشاعر:
              ولكن ديافى أبـوه وأمــه
              بحوران يعصرن السليط أقاربـه (6)
              والشاهد فى البيت حيث جَمَع الشاعر ، وهو عربى فصيح يحتج بكلامه بين نون النسوة فى " يعصرن " وهو فاعل لـ " يعصر " وبين الاسم الظاهر " أقاربه " وليس فى الكلام إلا فعل واحد يكفى فيه فاعل واحد (7).
              وفى المسألة مذاهب أخرى ، منها:
              * إن " الذين ظلموا " هى الفاعل ، أما " الواو " فهى علامة جمع الفاعل لا غير ، وأن العرب كانت تفعل ذلك حتى فى المثنى ، فيقولون:
              قاما أخواك. كما استشهد من ذهب هذا المذهب بقول الشاعر:
              يلوموننى فى اشتراء النخيـل
              قومى ، فكلهمو يعـزل
              حيث جمع بين " الواو " فى " يلوموننى " وبين الاسم الظاهر فى " قومى" (8).
              هذا ما قاله المفسرون وبعض النحاة فى هذا التركيب وتخريجه على عدة وجوه من الصحة. دون أن يكون عندهم علم بأن بعضاً من الناس ، سيأتون ويقولون مثل ما قال مثيرو هذه الشبهات ، مع جهلهم المركب بلغة التنزيل وخصائصها التعبيرية والبيانية ، وهم فيها عوام أو أشباه عوام.
              والخلاصة:
              ما تقدم من الرد على هذه الشبهة يريك إلى أى مدىً تعسف هؤلاء المغالون فى التحامل على القرآن ، المسرفون فى إظهار الحقد عليه والطعن فيه ، إنهم مثل الذى يريد أن يعبر محيطاً بقارب مصنوع من " البوص " ، دون أن يكون لهم رادع من أنفسهم يحفظون به ماء وجوههم إن كان فى وجوههم ماء.
              وقبل أن نودع الحديث فى الرد عليهم على ما أثاروه حول الآية نضيف إلى ما ذكره الأئمة إضافتين من حيث التوجيه البلاغى:
              إحداهما: إن فى أساليب علم المعانى ، وهو أحد علوم البلاغة الثلاثة (المعانى ـ البيان ـ البديع) أسلوباً لا يعرف عنه مثيرو هذه الشبهات شيئاً ، هو ما يسميه البلاغيون بـ " الاستئناف البيانى ".
              وضابط هذا الأسلوب أن تتقدم جملة من الكلام تثير فى ذهن السامع تساؤلاً لطيفاً يدب فى نفسه أو يسرى سريان الماء فى العود الأخضر ، فتأتى جملة أخرى تجيب على ذلك التساؤل ، الذى ليس له صورة فى الكلام. بل هو يبرق كالشعاع فى ذهن السامع ومن أمثلته فى القرآن:
              (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين ) (9). فجملة " أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " جواب على سؤال تقديره: ما هو ذلك الأمر الذى قضاه الله (10).
              ومثله قوله تعالى: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) (11).
              فجملة " فوسوس إليه الشيطان " أثارت فى النفس تساؤلاً لطيفاً " ماذا قال الشيطان لآدم ؟ فكان الجواب:
              (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (.
              هذا هو الاستئناف البيانى عند البلاغيين وهو ـ مرة أخرى ـ:
              " تنزيل جملة منزلة جواب على سؤال تضمنته الجملة التى قبلها ".
              والآية التى معنا: (وأسروا النجوى الذين ظلموا (جرت على نسق الاستئناف البيانى الذى عرفته ، لأن جملة (وأسروا النجوى (تثير فى النفس التساؤل نفسه: مَنْ هم الذين (أسروا النجوى (؟ فكان الجواب: (الذين ظلموا (.
              لا يقال: إن هذا السؤال لا يقتضى المقام إثارته لأن مرجع الضمير ، وهو " الواو " فى " أسروا " مذكور قبله فى قوله تعالى:
              (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيكم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم.. ) (12).
              لأنا نقول: إن الوقائع المذكورة فى مطلع السورة ، وقائع عامة ، هى أحوال للناس جميعاً ، إلا من عصمه الله.
              أما إسرار النجوى ، فهى واقعة خاصة وقعت من مشركى العرب ، فليس " الناس " قبلها هم فاعليها ، بل فاعلوها هم الذين قالوا:
              (??? هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) (13).
              وعلى هذا فإن " الذين ظلموا ليس فاعلا لـ " أسروا " وإنما فاعل " أسروا " الواو.
              أما " الذين ظلموا " فواقعه فى كلام جديد ، هو خبر عن جملة السؤال: من هم الذين أسروا النجوى ؟
              وهذا وجه آخر يرد به على مثيرى هذه الشبهة المتعالمين وهم جاهلون.
              أما الإضافة الثانية ، فهى أسلوب آخر من أساليب البلاغة العربية ، مفتاح الإعجاز المفحم.
              ذلك الأسلوب تحدث عنه شيخ البلاغيين بلا منازع الإمام عبد القاهر الجرجانى ، وأسماه:
              " الإضمار على شريطة التفسير " (14).
              وضابط هذا الأسلوب هو أن تأتى بالضمير أولاً ثم تفسره بعد ذلك بذكر مرجعه. ومن أمثلته شعرًا قول الشاعر:
              هى الدنيا تقول بملء فيهـــا
              حذار حذار من بطشى وفتكـى
              ولا يغرُركمُ منى ابتســــام
              فقولى مضحك والفعل مبكــى
              وتخريج الآية " وأسروا النجوى الذين ظلموا " على هذا الأسلوب سائع رائع.
              فقد أتى بالضمير أولاً " وأسروا " ثم فسره ثانياً هكذا " الذين ظلموا ".
              وبلاغة هذا الأسلوب هى تحريك الشعور ، وتشويق النفس إلى عقبى الكلام كيف تكون ، فيتمكن المعنى المسوق من أجله الكلام فى النفوس كل التمكن ؛ لأن النفس إذا ظفرت بالشىء بعد انتظاره استقر ذلك الشىء فيها.
              هذه الخصائص البيانية محرومٌ منها مثيرو هذه الشبهات ؛ لأنهم يجهلونها. والناس ـ كما جاء فى المثل ـ أعداء ما جهلوا.
              المراجع
              (1) ليست هذه عبارتهم ، بل هى تعبير بديل من عندنا عنها. أما عبارتهم فهى " أتى بضمير فاعل مع وجود فاعل " وهى خطأ ـ كما ترى ـ لأنه لا مانع من الإتيان بضمير فاعل عائد على الفاعل فى الكلام الفصيح مثل: جاء صديقى الكريم خُلقه.
              (2) الأنبياء: 3.
              (3) الكشاف (2/562).
              (4) رواه الشيخان: البخارى ومسلم.
              (5) المائدة: 71.
              (6) دياف وحوران: موضعان. والسليط: الزيت.
              (7) فتح القدير (3/469-470).
              (8) الدر المصون (8/132-133).
              (9) الحجر: 66.
              (10) انظر: الإيضاح للخطيب القزوينى: مبحث الفصل والوصل.
              (11) طـه: 120.
              (12) الأنبياء: 1-3.
              (13) الأنبياء: 3.
              (14) دلائل الإعجاز (163) تحقيق الشيخ العلامة محمود محمد شاكر ، مكتبة الخانجى ، القاهرة.


              تابعو



              تعليق

              • المتفائل

                #8

                32- الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا
                منشأ هذه الشبهة:
                هو قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين ) (1).
                ذكروا هذه الآية ، ولفت نظرهم ذكر الله ، ثم ذكر رسوله معطوفاً عليه، ثم إيقاع الفعل " يُرضى " على الضمير المفرد، وهو " الهاء " فى " يُرضوه " وهو شاهدهم فى هذه الشبهة ، ثم قالوا:
                " فلماذا لم يثنِّ الضمير العائد على الاثنين ، اسم الجلالة ورسوله فيقول: أن يُرضوهما " ؟!
                الرد على الشبهة:
                هذه الآية ، والتركيب الذى حسبوه أو عاندوا وقالوا إنه خطأ لغوى نحوى ، إنما هى لمحة قرآنية تتعلق بعقيدة توحيد الله عز وجل.
                ومثيرو هذه الشبهات ، لا يعرفون عن حقيقة " التوحيد " شيئاً ، وضوابطهم فيه مثل الغربال إذا وضع فيه سائل لا يبقى فيه منه شىء.
                وقد فات هؤلاء أمر عظيم ، ترتب عليه جهل شنيع ذلك أنهم لم يعرفوا أصلاً ، أو لم يستحضروا فى أذهانهم وهم يسطرون هذه الشبهة ، متى يُثنَّى المعدود ، ومتى يجمع ، ومتى يظل مفرداً.
                وهى من البديهات ، بيان ذلك: أن هناك شرطاً موضوعيًّا فى تثنية المعدود وجمعه ذلك الشرط هو:
                التجانس بين الأفراد فى الواقع ، فقَلَم يثنى فيقال: قلمان ويجمع فيقال أقلام.
                لكن حماراً ـ مثلاً ـ لا يثنى مع القلم ولا يجمع ، لأنك لو ثنيت القلم والحمار ، فقلت قلمان ، أو حماران ، وأنت تريد قلماً وحماراً لم يفهم أحدٌ من العقلاء ما تريد.
                وحتى الرجل والمرأة ، وهما فردان بينهما تجانس من جهة ، واختلاف من جهة أخرى. فإنك لا تستطيع أن تثنيهما فتقول: رجلان ، أو تقول: امرأتان ، وأنت تريد رجلاً وامرأة. هذا لا يجوز عند العقلاء ، ولا يجوز فى الواقع الذى يحسه الناس ويحترمونه.
                هذا التمهيد ضرورى جدًّا لبيان لماذا ورد فى القرآن " أن يُرضوه " دون أن يُرضوهما كما اقترح مثيرو هذه الشبهات ؟
                وذلك لأنه ليس بين الله ، وبين رسوله ، ولا بين الله وبين أىِّ شىء فى الوجود تجانس من أى نوع من الأنواع.
                فالله هو الفرد الصمد ، الواحد الأحد ، الذى لم يلد فليس له ولد ، ولم يولد فليس له أم ولا أب. هو الخالق البارئ المصوِّر ، ليس له كفواً أحد ، وليس كمثله شىء فى الوجود وغيره ، هو المخلوق المبروء المصوَّر (اسم مفعول).
                من أجل هذا ؛ فإن الله لا يُجمَع ولايثنَّى . لا فى ذاته ولا مع أحدٍ من خلقه.
                وعلى هذا جرى بيان القرآن المعجز ، فلم يقل كما يقترح هؤلاء الغافلون:
                والله ورسوله أحق أن يُرضوهما. لأن الله ليس فرداً من جنس الأفراد الذين ينتمى إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم .
                بل هو فرد لا مثيل له فى الوجود أبداً ، فلا يكون مع غيره ثانى اثنين ، أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
                فالخطأ كل الخطأ هو ما توهمه مثيرو هذه الشبهات. أما ما عليه النظم القرآنى الحكيم ، فهو ليس كل الصواب فحسب ولكنه الإعجاز المفحم ، فى أَجْلَى معارضه ، وآلق آفاقه ، ومَنْ أحسن من الله حديثاً.
                التوحيد فى القرآن عقيدة متمكنة فى الواقع الخارجى مستقرة كل الاستقرار فى قلوب المؤمنين.
                وهو ـ كذلك ـ عقيدة فى البيان القرآنى ، فلم يأت الله فى لغة القرآن إلا واحداً أحدًا ، ليس اثنين ، وليس ثلاثة (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) (2) وليس ما لفت أنظار مثيرى هذه الشبهات فى الآية المتقدمة هو الوحيد فى القرآن ، بل له نظائر عميت عنها أبصارهم وبصائرهم:
                ففى الآية الثالثة من سورة التوبة نفسها ، ورد قوله تعالى:
                (.. أن الله برىء من المشركين ورسوله.. ) (3).
                لم يقل: إن الله ورسوله بريئان من المشركين ، لأن وصف الله بالبراءة من المشركين ، وصف توحيدى تابع للواحد الأحد ، الذى ليس له مثيل فى كل الوجود.
                ولذلك قال: " أن الله برىء من المشركين ورسوله " أى ورسوله برىء منهم ، والذى دل على هذا ، ما ذكره فى جانب الله أولاً.
                كما تقول: محمد (من أُولى العزم من الرسل ، وموسى عليه السلام ، أى وموسى من أُولى العزم من الرسل. تثبت الوصف المحذوف لموسى ، استناداً إلى ذكر ذلك الوصف خبراً عن محمد ، عليهما الصلاة والسلام. هذا ما يفهمه العقلاء من بليغ الكلام.
                وفى سورة التوبة نفسها ـ كذلك ـ ورد قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنَّا إلى الله راغبون ) (4).
                روعيت عقيدة التوحيد فى النظم القرآنى المعجز المفحم فى ثلاثة مواطن:
                الأول: " ما آتاهم الله ورسوله " حيث عطف رسوله على اسم الجلالة ، دون عود ضمير مثنى.
                الثانى: " حسبنا الله " دون عطف رسوله على اسم الجلالة. لأن الحسب لا يكون إلا لله.
                الثالث: " سيؤتينا الله من فضله ورسوله " دون أن يُثَنِّى فيقول: من فضلهما.
                وإنما عُطِف " رسوله " بعد تمام الجملة الأولى.
                ثم حذف من جملة " ورسوله " ما دل عليه الكلام السابق ، أى:
                وسيؤتينا رسوله من فضله.
                هذا هو التوحيد فى القرآن ، دقة وإحكام ، ومبالغة فى تنزيه الله عن المساوى والمثيل والكفء حتى فى اللفظ توحيد نقى خالص مبرأ عن الشبهات المعنوية ومبرأ عن الشبهات اللفظية.
                ولم يرد فى القرآن الحكيم اسم يكون ثانياً لله ، ولا اسم يكون ثالثاً لله ، لا فى المعانى ، ولا فى الألفاظ وذلك هو التوحيد الخالص. رسالة كل الرسل والأنبياء.
                والخلاصة:
                أن فى الآية أسلوب الإيجاز البليغ لأن معناها الذى لم يهتدوا إليه هو: " والله أحق أن يُرضوه ورسوله أحق أن يرضوه " فحُذف " أحق أن يرضوه " من الأول ، لدلالة الثانى " ورسوله أحق أن يرضوه " عليه.
                وهذا فن بلاغى يطلقون عليه: " الاحتباك " وهو نوعان:
                الأول: أن يحذف كلام من جملة أولى ويذكر ما يدل عليه فى جملة ثانية جاءت بعدها مباشرة. مثل الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة.
                والثانى: أن يحذف من جملة ثانية كلام يدل عليه ما ذكر فى الجملة التى قبلها ، ومثاله قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً.. ) (5).
                والمعنى: والنهار مبصراً ليسعوا فيه ، فحذف لأن " ليسكنوا " دليل قوى عليه.
                وقد تلحظ حذفاً من الأول ـ كذلك ـ لدلالة الثانى عليه ، وهو: مظلماً ، أى جعلنا الليل مظلماً ، وحذف لأن ما فى الثانى ، وهو " مبصراً " دليلاً عليه.
                المراجع
                (1) التوبة: 62.
                (2) سورة ص: 27.
                (3) التوبة: 3.
                (4) سورة: 59.
                (5) النمل: 86.



                33- الإتيان بالجمع مكان المثنى
                منشأ هذه الشبهة:
                هو قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) (1).
                والشاهد فى الآية عندهم هو " قلوبكما " حيث جاء المضاف (قلوب) جمعا ، والمضاف إليه " كما " مثنى. والمتحدث عنه فى قوله تعالى: " تتوبا " مثنى كذلك. وقد علقوا على هذا فقالوا: " لماذا لم يقل: قلباكما " لأنه ليس للاثنين أكثر من قلبين " ؟!
                الرد على الشبهة:
                العرب كانوا يستثقلون اجتماع تثنيين فى كلمة واحدة ، فيعدلون عن التثنية إلى الجمع ، لأن أول الجمع عندهم الاثنان.
                ومما قاله أئمة اللغة والنحو فى جمع " قلوب " فى الآية قولهم:
                و " قلوبكما " من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى ، استثقالاً لمجئ تثنتين لوقيل " قلباكما " (2).
                ومثل هذه الآية قوله تعالى:
                (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) (3).
                فقد أوقع الجمع " أيدى " موقع المثنى: يدى. جرياً على سُنة العرب فى كلامهم ، والقرآن بلغتهم نزل ولا يُفهم من هذا أن الجمع حل محل التثنية لإصلاح اللفظ فحسب ، وإن كان إصلاح اللفظ وإحلال الخفيف منه محل الثقيل سببًا مقبولاً كافيًا فى توجيه هذا الاستعمال بيد أننا لو أنعمنا النظر ، وأعملنا الفكر لظفرنا بمعانٍ أخرى غير إصلاح اللفظ ، هذه المعانى يومئ إليها برفق مجىء الجمع فى مقام التثنية. وسيأتى البيان بعد قليل.
                والخلاصة(4):
                اتضح لنا مما تقدم أن قوله تعالى " قلوبكما " من أفصح الكلام ، وليس صحيحاً فحسب ، ولكن ضآلة حظ مثيرى هذه الشبهات من اللغة العربية ، هى التى جعلتهم يهرفون بما لا يعرفون ، ويتعالمون وهم أميون.
                أما ما يعود على المعنى من وضع الجمع موضع التثنية فوق إصلاح اللفظ كما تقدم ، فبيانه فيما يأتى:
                ولنبدأ بآية المائدة ، نجد أن لجمع الأيدى دلالة على الجمع فعلاً ، وذلك من جهتين:
                الأولى: أن المراد من " السارق " و " السارقة " ليس فردين ، بل نوعين:
                * الذى يسرق من الرجال ، سواء كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو ألف وهكذا ؛ لأن المراد النوع لا الفرد.
                * التى تسرق من النساء ، لا على سبيل الفردية (امرأة) واحدة ولكن كل من ينطبق عليها وصف السرقة. فالسارقون لا يحصرون فى عدد معين ، من عصر نزول القرآن إلى يوم القيامة.
                والسارقات لا يحصرن فى عدد محدد ، بل هن جمع لا يعلمه إلا الله.
                فأنت ترى أن اللفظ فى " السارق " و " السارقة " وإن كان مفرداً ، فهو من حيث المعنى جمع لا حصر له فى النوعين معاً: الذكور والإناث.
                الجهة الثانية: إن السارق أو السارقة قد تتكرر منهما السرقة ، فيقام عليهما الحد مرة أخرى بقدر مرات السرقة.
                وعلى كلا الوضعين (الجهة الأولى والجهة الثانية) تكون كلمة: " أيدى " جمعا. مضافة إلى الضمير " هما " فيها دلالة ملحوظة على الجمع كما رأيت. وهذا ما لا يهتدى إليه أمثال مثيرى هذه الشبهات.
                أما آية " التحريم " فقد فسرها العلماء تفسيرين:
                أحدهما: أن " صغت " بمعنى: زاغت وأثمت ، وهذا تفسير ابن عباس رضى الله عنه (5).
                وعلى هذا يكون مجىء القلبين جمعاً فيه تهويل وتفظيع لما حدث من زوجتى النبى صلى الله عليه وسلم ، من إفشاء سره عليه السلام، لأن فى ذلك ما يؤذيه صلى الله عليه وسلم (6).
                أما التفسير الثانى فهو قريب من الأول ، وهو: " إن صغت " بمعنى زاغت أى مالت عن الحق والصواب (7) وتوجيهه توجيه التفسير الأول.
                وفى الآيتين معنى لطيف غاية فى الطرافة والروعة والإعجاز وهو مراعاة اللفظ والمعنى معاً.
                مراعاة اللفظ فى تثنية المضاف إليه ، وهو " هما " فى " أيديهما " و"كما" فى " قلوبكما ".
                ثم مراعاة المعنى فى جمع الأيدى والقلوب.
                فتثنية الضمير المضاف إليه فيهما جاءت حملاً على اللفظ فى: "السارق والسارقة ".
                وجمع الأيدى والقلوب جاء حملاً على المعنى المفهوم من إيحاءات المقام على وجه الحقيقة فى جمع الأيدى.
                والمفهوم من المقام على وجه التنزيل التهويلى فى جمع القلوب.
                أجل: إن القرآن لا تنتهى عجائبه ، ولا تجف ينابيعه ، لأنه تنزيل من حكيم حميد.
                المراجع
                (1) التحريم: 4.
                (2) الدر المصون (10/366).
                (3) المائدة: 38.
                (4) انظر: المصدر نفسه (4/262).
                (5) فتح القدير للإمام الشوكانى (5/301).
                (6) انظر:القصة بتمامها فى كتاب من كتب التفسير: تفسير سورة " التحريم " ؛ وليكن السابق ـ مثلاً.
                (7) الدر المصون (10/265).



                34- نصبُ المضاف إليه !
                منشأ هذه الشبهة:
                هو قوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراءَ مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور ) (1).
                وشاهدهم فى هذه الآية هى كلمة " ضراءَ " وهى مضاف إليه ، والمضاف هو كلمة " بعد " وقد رأوا فتحة بعد " الراء " فوق الهمزة من كلمة " ضراءَ " فأملى عليهم جهلهم أن القرآن أخطأ فنصب المضاف ، وهو من حقه أن يُجر ؟!
                ثم قالوا: (وكان يجب أن يجر المضاف إليه فيقول: " بَعْدَ ضراءِ ").
                الرد على الشبهة:
                المضاف إليه فى الآية " ضراءَ " مجرور لا منصوب ، وهو ممنوع من الصرف ، والمانع له من الصرف ألف التأنيث الممدودة. وتلاميذ الإعدادى يعرفون أن الممنوع من الصرف يُجر بالفتحة نيابة عن الكسرة. ولذلك وضعت الفتحة فوق الهمزة بعد الراء. فهذه الفتحة علامة جر لا علامة نصب. والممنوع من الصرف يجر بالفتحة إلا فى حالتين:
                أن يكون مضافاً ، أو معرفاً بالألف واللام.
                و " ضراء " فى الآية ليست مضافاً ، ولا معرفة بالألف واللام. وفى جر الممنوع من الصرف يقول ابن مالك:
                وجر بالفتحة ما لا ينصـرف
                ما لم يضف أو يك بعد أل ردف
                المراجع
                (1) هود: 10.



                35- هل تناقض القرآن فى مادة خلق الإنسان ؟
                يعطى القرآن معلومات مختلفة عن خلق الإنسان.. من ماء مهين (المرسلات: 20) من ماء (الأنبياء: 30).. من نطفة (يس: 77).. من طين (السجدة: 7).. من علق (العلق: 2).. من حمأ مسنون (الحجر: 26).. ولم يك شيئًا (مريم: 67).
                فكيف يكون كل ذلك صحيحًا فى نفس الوقت ؟ (انتهى).
                الرد على الشبهة:
                ليس هناك أدنى تناقض بل ولا حتى شبهة تناقض بين ما جاء فى القرآن الكريم من معلومات عن خلق الإنسان.. وحتى يتضح ذلك ، يلزم أن يكون هناك منهج علمى فى رؤية هذه المعلومات ، التى جاءت فى عديد من آيات القرآن الكريم.. وهذا المنهج العلمى يستلزم جمع هذه الآيات.. والنظر إليها فى تكاملها.. مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول آدم ـ عليه السلام ـ ومرحلة الخلق لسلالة آدم ، التى توالت وتكاثرت بعد خلق حواء ، واقترانها بآدم ، وحدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران والزواج..
                * لقد خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإنسان الأول ـ آدم ـ فأوجده بعد أن لم يكن موجودًا.. أى أنه قد أصبح " شيئًا " بعد أن لم يكن " شيئًا " موجودًا.
                وإنما كان وجوده فقط فى العلم الإلهى.. وهذا هو معنى الآية الكريمة (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا ) (1).
                * أما مراحل خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ لآدم.. فلقد بدأت بـ [ التراب ] الذى أضيف إليه [ الماء ] فصار [ طينًا ] ثم تحول هذا الطين إلى [ حمأ ] أى أسود منتنًا ، لأنه تغير والمتغير هو [ المسنون ].. فلما يبس هذا الطين من غير أن تمسه النار سمى [ صلصالاً ] لأن الصلصال هو الطين اليابس من غير أن تمسه نار ، وسمى صلصالاً لأنه يصلّ ، أى يُصوِّت ، من يبسه أى له صوت ورنين.
                وبعد مراحل الخلق هذه ـ التراب.. فالماء.. فالطين.. فالحمأ المسنون.. فالصلصال ـ نفخ الله سبحانه وتعالى فى " مادة " الخلق هذه من روحه ، فغدا هذا المخلوق " إنسانًا " هو آدم عليه السلام.
                * وعن هذه المراحل تعبر الآيات القرآنية ، فتصور تكامل المراحل ـ وليس التعارض المتوهم والموهوم ـ فتقول هذه الآية الكريمة: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) (2). فبالتراب كانت البداية (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ) (3). وذلك عندما أضيف الماء إلى التراب (فاستفتهم أهم أشد خلقًا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ) (4) وذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين ، فأصبح " لازبًا " أى جامدًا.
                * وفى مرحلة تغير الطين ، واسوداد لونه ، ونتن رائحته ، سمى [ حمأً مسنونًا ] ، لأن الحمأ هو الطين الأسود المنتن.. والمسنون هو المتغير.. بينما الذى (لم يَتَسَنَّه) هو الذى لم يتغير.. وعن هذه المرحلة عبرت الآيات: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) (5).
                تلك هى مراحل خلق الإنسان الأول ، توالت فيها وتتابعت وتكاملت معانى المصطلحات: التراب.. والماء.. والطين.. والحمأ المسنون.. والصلصال.. دونما أية شبهة للتعارض أو التناقض.
                * وكذلك الحال والمنهاج مع المصطلحات التى وردت بالآيات القرآنية التى تحدثت عن خلق سلالة آدم ـ عليه السلام ـ.
                فكما تدرج خلق الإنسان الأول آدم من التراب إلى الطين.. إلى الحمأ المسنون.. إلى الصلصال.. حتى نفخ الله فيه من روحه.. كذلك تدرج خلق السلالة والذرية بدءاً من [ النطفة ] ـ التى هى الماء الصافى ـ ويُعَبَّرُ بها عن ماء الرجل [ المنىّ ].. إلى [ العَلَقَة ] التى هى الدم الجامد ، الذى يكون منه الولد ، لأنه يعلق ويتعلق بجدار الرحم إلى [ المضغة ] وهى قطعة اللحم التى لم تنضج ، والمماثلة لما يمضغ بالفم.. إلى [ العظام ].. إلى [ اللحم ] الذى يكسو العظام.. إلى [ الخلق الآخر ] الذى أصبح بقدرة الله فى أحسن تقويم (6).
                ومن الآيات التى تحدثت عن توالى وتكامل هذه المراحل فى خلق وتكوين نسل الإنسان الأول وسلالته ، قول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا ) (7).
                وقوله سبحانه: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر * فتبارك الله أحسن الخالقين ) (8).
                * وإذا كانت [ النطفة ] هى ماء الرجل.. فإنها عندما تختلط بماء المرأة ، توصف بأنها [ أمشاج ] ـ أى مختلطة ـ كما جاء فى قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا ) (9).
                * كما توصف هذه [ النطفة ] بأنها [ ماء مهين ] لقلته وضعفه.. وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة: (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) (10). (ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه فى قرار مكين * إلى قَدَرٍ معلوم * فقدرنا فنعم القادرون ) (11).
                * وكذلك ، وصفت [ النطفة ] ـ أى ماء الرجل ـ بأنه [ دافق ] لتدفقه واندفاعه.. كما جاء فى الآية الكريمة (فلينظر الإنسان مِمَّ خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب ) (12).
                هكذا عبر القرآن الكريم عن مراحل الخلق.. خلق الإنسان الأول.. وخلق سلالات وذريات هذا الإنسان..
                وهكذا قامت مراحل الخلق ، ومصطلحات هذه المراحل ، شواهد على الإعجاز العلمى للقرآن الكريم. عندما جاء العلم الحديث ليصدق على هذه المراحل ومصطلحاتها ، حتى لقد انبهر بذلك علماء عظام فاهتدوا إلى الإسلام.
                فكيف يجوز ـ بعد ذلك ومعه ـ أن يتحدث إنسان عن وجود تناقضات بين هذه المصطلحات.. لقد صدق الله العظيم إذ يقول: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا ) (13).
                المراجع
                (1) مريم: 67.
                (2) آل عمران: 59.
                (3) السجدة: 7.
                (4) الصافات: 11.
                (5) الحجر: 26ـ35. انظر معانى المصطلحات الواردة فى هذه الآيات فى: الراغب الأصفهانى أبو القاسم الحسين بن محمد [ المفردات فى غريب القرآن ] طبعة دار التحرير ـ القاهرة ـ سنة 1991م و[ لسان العرب ] ـ لابن منظور ـ طبعة دار المعارف ـ القاهرة.
                (6) انظر فى معانى هذه المصطلحات [ المفردات فى غريب القرآن ] ـ مصدر سابق ـ.
                (7) الحج: 5.
                (8) المؤمنون: 12ـ14.
                (9) الإنسان: 2.
                (10) السجدة: 7ـ8.
                (11) المرسلات: 20ـ23.
                (12) الطارق: 5ـ7.
                (13) النساء: 82.



                تابعو

                تعليق

                • المتفائل

                  #9

                  36- حول موقف القرآن من الشرك بالله
                  يوضح القرآن أن الله لا يغفر أن يشرك به (سورة النساء آية: 48). ومع ذلك فقد غفر الله لإبراهيم ـ عليه السلام ـ بل جعله نبيّا رغم أنه عبد النجوم والشمس والقمر (الأنعام: 76ـ78). فما الإجابة ؟ (انتهى).
                  الرد على الشبهة :
                  الشرك محبط للعمل: (قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) (1) (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا ) (2).
                  والأنبياء والرسل هم صفوة الله من خلقه ، يصطفيهم ويستخلصهم ، ويصنعهم على عينه ، وينزههم حتى قبل البعثة لهم والوحى إليهم عن الأمور التى تُخِلُّ بجدارتهم للنبوة والرسالة.. ومن ذلك الشرك ، الذى لو حدث منهم واقترفوه لكان مبررًا لغيرهم أن يقترفه ويقع فيه.. ولذلك ، لم يرد فى القرآن الكريم ما يقطع بشرك أحد من الأنبياء والرسل قبل بعثته.. ويدخل فى ذلك أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ.
                  أما الآيات التى يشير إليها السؤال.. وهى قول الله سبحانه وتعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصنامًا آلهة إنى أراك وقومك فى ضلال مبين * وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برىء مما تشركون * إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين * وحاجّه قومه قال أتحاجّونى فى الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئًا وسع ربى كل شىء علمًا أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ) (3).
                  أما هذه الآيات ، فليس فيها دليل على أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد مر بمرحلة شرك ، وحاشا لله أن يقع فى ذلك، وإنما هى تحكى كيف آتى الله إبراهيم الحجة على قومه.. حجة التوحيد ، ودحض الشرك.. فهى حجاج وحوار يسلم فيه إبراهيم جدلاً ـ كشأن الحوار ـ بما يشركون ، لينقض هذا الشرك ، ويقيم الحجة على تهاوى ما به يحتجون ، وعلى صدق التوحيد المركوز فى فطرته.. ليخلص من هذا الحوار والحجاج والاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقى ـ بعد هذه الخيارات التى سقطت ـ هو التوحيد..
                  فهو حوار التدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق والبرهان والاستدلال ، الذى فند دعاوى وحجج الخصوم.. والاستدلال اليقينى (وليكون من الموقنين (وليس فيه انتقال من الشرك إلى التوحيد.
                  تلك هى الحقيقة التى رجحها المفسرون .
                  * فالقرطبى ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى [671هـ 1273م] يقول فى تفسيره [ الجامع لأحكام القرآن ] ـ مورد الآراء المختلفة حول هذا الموضوع:
                  قوله تعالى: (هذا ربى (اختلف فى معناه على أقوال ، فقيل: كان هذا منه فى مُهلة النظر وحال الطفوليّة وقبل قيام الحجة ، وفى تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان.
                  وقال قوم: هذا لا يصح ، وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتى عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحِّد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه برىء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وأتاه رشده من قبلُ ، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين ، ولا يجوز أن يوصف بالخلو من المعرفة ، بل عرف الرب أول النظر.. وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: (واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام ) (4) وقال عز وجل: (إذ جاء ربه بقلب سليم ) (5) أى لم يشرك قط.. لقد قال: (هذا ربى (على قول قومه ، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر. ونظير هذا قوله تعالى: (أين شركائى ) (6). وهو جل وعلا واحد لا شريك له ، والمعنى: أين شركائى على قولكم..
                  وقيل: إنما قال: (هذا ربى (لتقرير الحُجة على قومه ، فأظهر موافقتهم ، فلما أفل النجم قرّر الحُجة ، وقال: ما تَغَيَّرَ لا يجوز أن يكون ربًّا ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها.
                  ومن أحسن ما قيل فى هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال فى قوله ـ عز وجل ـ: (نور على نور ) (7) قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه ، فإذا عرفه ازداد نورًا على نور ، وكذلك إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله ، فعلم أن له ربًّا وخالقًا. فلما عرَّفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: (أتحاجونى فى الله وقد هدان (.
                  وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ ، منكرًا لفعلهم ، والمعنى: أهذا ربى ، أو مثل هذا يكون ربًّا ؟! فحذف الهمزة. وفى التنزيل: " (أفإن مت فهم الخالدون ) (8). أى أفهم الخالدون ؟.. " (9).
                  * ومع هذا الرأى أيضًا الزمخشرى ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الخوارزمى [467 ـ 538هـ ، 1075 ـ 1144م ] ، صاحب تفسير [ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل ] الذى يقول فى تفسير هذه الآيات:
                  " وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ فى دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرِّفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى أن شيئًا منها لا يصح أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها مُحْدِثًا أحدثها وصانعًا صنعها ومدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ".
                  (هذا ربى (: قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشَّغَب ، ثم يكرُّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحُجة.
                  (لا أحب الآفلين (: لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال ، المنتقلين من مكان إلى مكان ، المحتجبين بستر ، فإن ذلك من صفات الأجْرام.
                  (لئن لم يهدنى ربى (: تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب فى الأفول فهو ضال ، وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه..
                  (إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض (أى للذى دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدئها ومبدعها (10).
                  * وعلى هذا الرأى أيضًا من المحدثين ـ الشيخ عبد الوهاب النجار [ 1278ـ1360هـ ،1862ـ1941م] ـ صاحب [ قصص الأنبياء ] ـ الذى يقول: " لقد أتى إبراهيم فى الاحتجاج لدينه وتزييف دين قومه بطريقة التدرج فى الإلزام أو التدرج فى تكوين العقيدة.. " (11).
                  وذلك هو موقف إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ من الشرك.. لقد عصمه الله منه.. وإنما هى طريقة فى الجدال يتدرج بها مع قومه ، من منطلقاتهم ليصل إلى هدم هذه المنطلقات ، وإلى إقامة الدليل العقلى على عقيدة التوحيد الفطرية المركوزة فى القلوب.
                  المراجع
                  (1) الزمر: 64ـ66.
                  (2) النساء: 48.
                  (3) الأنعام: 74ـ83.
                  (4) إبراهيم: 35.
                  (5) الصافات: 84.
                  (6) القصص: 74.
                  (7) النور: 35.
                  (8) الأنبياء: 34.
                  (9) [ الجامع لأحكام القرآن ] ج7 ص 25 ، 26 ، طبعة دار الكاتب العربى للطباعة والنشر ـ القاهرة 1387هـ 1967م.
                  (10) [ الكشاف ] ج2 ص 30 ، 31 طبعة دار الفكر ـ بيروت ـ بدون تاريخ ـ وهى طبعة مصورة عن طبعة طهران " انتشارات أفتاب ـ تهران " وهى الأخرى بدون تاريخ للطبع.
                  (11) [ قصص الأنبياء ] ص 80 طبعة دار إحياء التراث العربى ـ بيروت ـ لبنان ـ بدون تاريخ للطبع.


                  37- حول عصيان إبليس وهو من الملائكة الذين لا يعصون الله
                  يؤكد القرآن أنه لا يمكن للملائكة أن تعصى الله [ التحريم: 6 ] ومع ذلك فقد عصى إبليس الذى كان من الملائكة ، كما فى الآية [ البقرة: 34 ] فأيهما صحيح ؟. (انتهى).
                  الرد على الشبهة:
                  الملائكة مخلوقات مجبولة على طاعة الله وعبادته والتسبيح له وبه.. فهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (1).
                  ومع تقرير هذه الآية أن هؤلاء الملائكة القائمين على النار [ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ] يقرر القرآن الكريم أن إبليس ـ وهو من الملائكة ـ فى قمة العصيان والعصاة: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) (2).
                  وهناك إمكانية للجمع بين معانى الآيتين ، وذلك بأن نقول: إن عموم الملائكة لا يعصون الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهم مفطورون ومجبولون على الطاعة.. لكن هذا لا ينفى وجود صنف هم الجن ـ ومنهم إبليس ، شملهم القرآن تحت اسم الملائكة ـ كما وصف الملائكة أيضًا بأنهم جِنَّة ـ لخفائهم واستتارهم ـ وهذا الصنف من الجن ، منهم الطائعون ومنهم العصاة..
                  وفى تفسير الإمام محمد عبده [1265 ـ 1323هـ ،1849 ـ 1905م] لآية [ البقرة: 34 ] يقول:
                  " أى سجدوا إلا إبليس ، وهو فرد من أفراد الملائكة ، كما يفهم من الآية وأمثالها فى القصة ، إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن.. وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلاً جوهريًا يميز أحدهما عن الآخر ، وإنما هو اختلاف أصناف ، عندما تختلف أوصاف. فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة. وقد أطلق القرآن لفظ الجنَّة على الملائكة ، على رأى جمهور المفسرين فى قوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) (3). وعلى الشياطين فى آخر سورة الناس " (4).
                  ونحن نجد هذا الرأى أيضًا عند القرطبى ـ فى تفسيره [ الجامع لأحكام القرآن ] فيقول:
                  " وقال سعيد بن جبير: إن الجن سِبْط من الملائكة ، خلقوا من نار ، وإبليس منهم ، وخُلق سائر الملائكة من نور.. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها. وفى التنزيل: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) (5) وقال الشاعر أعشى قيس ـ فى ذكر سليمان ـ عليه السلام:
                  وسَخَّر من جنّ الملائكة تسعة قيامًا لديه يعملون بلا أجر (6).
                  فلا تناقض إذًا بين كون الملائكة لا يعصون الله.. وبين عصيان إبليس.. وهو من الجن ، الذين أطلق عليهم اسم الملائكة ـ فهو مثله كمثل الجن هؤلاء منهم الطائعون ومنهم العصاة.
                  المراجع
                  (1) التحريم: 6.
                  (2) البقرة: 34.
                  (3) الصافات: 158.
                  (4) [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ] ج4 ص 133 ، دراسة وتحقيق. د. محمد عمارة ، طبعة دار الشروق. القاهرة 1414هـ 1993م.
                  (5) الصافات: 158.
                  (6) [ الجامع لأحكام القرآن ] ج1 ص294 ، 295 مصدر سابق.




                  38- حول عصيان البشر: مع أنهم من المخلوقات الطائعة القانتة لله
                  كل المخلوقات فى السموات والأرض طائعة وقانتة لله تعالى [ الروم: 26 ] ومع ذلك نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر مثلاً: [ الحاقة: 10 ]. (انتهى).
                  الرد على الشبهة:
                  كل المخلوقات فى السموات والأرض ، طائعة وقانتة لله ـ سبحانه وتعالى ـ (وله من فى السموات والأرض كل له قانتون ) (1).
                  فهم قانتون لله ، أى خاضعون ومطيعون لإرادته ـ سبحانه وتعالى ـ ومع ذلك يشهد الواقع ، وتحكى الآيات القرآنية الكثير من حالات العصيان وعدم الطاعة من جانب البشر وذلك من مثل قوله سبحانه: (وجاء فرعون ومن قَبْلَه والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ) (2).
                  ففى هذه الآية وحدها إشارات إلى عصيان فرعون.. وعصيان من سبقه من المؤتفكات ـ أى قُرى قوم لوط ـ الذين أخذهم الله أخذة رابية ، أى زائدة فى الشدة على غيرها.
                  بل إن تاريخ الإنسان هو صراع بين أهل العصيان.. حتى إن المأثور النبوى الشريف قد تحدث عن أن كل بنى آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون.
                  فكيف يتسق شيوع العصيان فى البشر ، مع الآية القرآنية التى تحدثت عن أن كل من فى السموات والأرض قانتون ـ أى خاضعون ومطيعون ـ لله سبحانه وتعالى ؟..
                  إن مفتاح الإجابة عن هذا التساؤل ، هو فهم أنواع الإرادة الإلهية والقضاء الإلهى.. فالله سبحانه لا يريد العصيان ، ولا يقضى بالشر.. لكن إرادته وقضاءه نوعان:
                  1 ـ إرادة وقضاء تكوينى وحتمى للمخلوقات غير المُخَيَّرة.. وذلك مثل القضاء الذى تتحدث عنه الآية: (فقضاهن سبع سموات فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها ) (3).
                  (وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون ) (4).
                  ففى هذا اللون من الأمر الإلهى والقضاء الربانى تكون المخلوقات غير المختارة مجبولة على القنوت والطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى..
                  2 ـ إرادة وقضاء معهما تخيير..وذلك خاص بالإنسان المُخَيَّر..المكلف.. المسئول والذى له ـ بسبب هذا التخيير والحرية ـ حساب وجزاء.
                  وإلى مثل هذا تشير الآيتان: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا ) (5).
                  فنحن هنا أمام قضاء إلهى ، شاء الله سبحانه وتعالى أن يترك للإنسان المخير إزاءه حرية الطاعة والعصيان ليتميز الخبيث من الطيب ، وليكون الجزاء وفق العمل والإرادة والاختيار.. فالإنسان المُخَيَّر ، الذى هداه الله النجدين ، له قدرات واستطاعات الطاعة والعصيان.. ولذلك كان من جنس الإنسان المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصى ومن يبتغى وجه الله ومن يبتغى غير دين الله.. بينما المخلوقات غير المختارة مجبولة على الطاعة والخضوع (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من فى السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون ) (6) ، وقوله تعالى: (ولله يسجد من فى السموات والأرض طوعًا وكرهًا ) (7) ، وقوله سبحانه وتعالى: (ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين ) (8).
                  ففى مخلوقات الله مخلوقات مجبولة على الطاعة والخضوع.. وفى هذه المخلوقات مخيرون ، منهم من يطيع ومنهم من يختار العصيان ، فيبتغى غير دين الله !.
                  المراجع
                  (1) الروم: 26.
                  (2) الحاقة: 9 ـ 10.
                  (3) فصلت: 12.
                  (4) البقرة: 117.
                  (5) الإسراء: 23ـ24.
                  (6) آل عمران: 83.
                  (7) الرعد: 15.
                  (8) فصلت: 11.


                  39- حول مدة خلق السموات والأرض
                  توضح كثير من سور القرآن أن السموات والأرض قد خلقت فى ستة أيام. وهنا مشكلتان:
                  الأولى: أنه من الثابت علميًا أن خلق السموات والأرض قد استغرق بلايين السنين.
                  الثانية: أنه فى التعبير القرآنى نفسه كانت مدة الخلق ثمانية أيام بدلاً من ستة [ فصلت: 9ـ12 ].
                  فكيف يمكن التوفيق بين هذه الآيات ؟. (انتهى).
                  الرد على الشبهة:
                  فى كثير من السور القرآنية تتحدث آيات كثيرة عن خلق الله سبحانه وتعالى السموات والأرض وتقدير ما فيهما فى ستة أيام.. ومن هذه الآيات:
                  (إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام ) (1).
                  (وهو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام ) (2).
                  (الذى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ) (3).
                  (الله الذى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ) (4).
                  (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ) (5).
                  (هو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام ) (6).
                  * وليس هناك تعارض بين تحديد زمن الخلق للسموات والأرض فى ستة أيام ، وبين ما يراه العلم من استغراق ذلك الخلق بلايين السنين ، ذلك أن المدى الزمنى " لليوم " عند الله ، سبحانه وتعالى ليس هو المدى الزمنى " لليوم " فى العرف والتقويم الذى تعارف عليه الإنسان فى هذه الحياة الدنيا. وفى القرآن الكريم آيات شاهدة على ذلك منها:
                  (أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شىء قدير ) (7).
                  فبعض اليوم ، فى حساب الإنسان ـ هنا ـ بلغ مائة عام.. أى قرابة 37000 يوم ! وكذلك الحال فى قصة أهل الكهف.. فما حسبوه يومًا أو بعض يوم قد بلغ ثلاثمائة عام بالتقويم الشمسى وثلثمائة وتسعة أعوام بالتقويم القمرى.. (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ) (8) ، (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعًا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا ) (9).
                  * وكذلك الحال يوم ينفخ فى الصور ـ يوم البعث ـ يحسب بعض المجرمين أن مكثهم فى الدنيا لم يتجاوز عشر ليالٍ.. بينما يحسب آخرون منهم أن مكثهم لم يتعد اليوم الواحد: (يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يوميئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ) (10).
                  * أما عند الله ، سبحانه وتعالى فإن لمصطلح " اليوم " مدى لا يعلم حقيقة طوله وأمده إلا هو: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون ) (11).
                  والآية لا تحدده بألف سنة مما نعد نحن فى تقويمنا.. وإنما تستخدم أداة التشبيه ـ الكاف ـ (كأَلْف) ليظل المدى غير معلوم لنا فى هذه الحياة.. وغير ممكن التحديد بوحداتنا نحن فى القياس الزمنى.
                  فيوم الدين ـ الجزاء ـ.. وأيام الله.. والأيام الستة التى خلق الله فيها السموات والأرض.. مداها ـ بمقاييس أيامنا نحن ـ لا يعلمها إلا الله ، سبحانه وتعالى..
                  * ثم إن ما اكتشفه العلم من سرعات للصوت.. وسرعات للضوء.. وزمن للضوء ـ سنة ضوئية ـ يجعل تفاوت واختلاف المفاهيم والمقاييس لمصطلح " اليوم " أمرًا مقررًا ومألوفًا.
                  هذا عن المشكلة الأولى من مشكلتى السؤال..
                  أما المشكلة الثانية ـ من مشكلتى السؤال ـ والخاصة بحديث بعض الآيات القرآنية عن أن الخلق للسموات والأرض قد يفهم على أنه قد استغرق ثمانية أيام ، وليس ستة أيام.. وهى آيام سورة فصلت: (قل أئنكم لتكفرون بالذى خلق الأرض فى يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم ) (12).
                  هذه " المشكلة " لا وجود لها !.. فليس هناك تناقض ولا تفاوت بين المدة الزمنية التى جاءت فى هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التى ورد فيها تحديد الأيام الستة..
                  ففى هذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ نجد أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأنه: (خلق الأرض فى يومين (.
                  ثم (جعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها (فى تمام (أربعة أيام (.. أى فى يومين آخرين يضافان إلى اليومين اللذين خلق فيهما الأرض ، فيكون المجموع أربعة أيام.. وليس واردًا أن يكون خلق الرواسى وتقدير الأقوات قد استغرق أربعة أيام..
                  ولعل الشبهة ـ التى جاءت فى السؤال ـ قد أتت من هنا.. أى من توهم إضافة أربعة إلى اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض ، فيكون المجموع ستة.. وإذا أضيف إليها اليومان اللذان خلقت فيهما السماء (فقضاهن سبع سموات فى يومين (يكون المجموع ثمانية أيام ، وليس ستة أيام.. لكن إزالة هذه الشبهة متحققة بإزالة هذا الوهم.. فالأرض خلقت فى يومين.. وخلق الرواسى وتقدير الأقوات قد استغرق ما تمم اليومين أربعة أيام.. أى استغرق هو الآخر يومين.. ثم استغرق خلق السموات السبع يومين.. فكان المجموع ستة أيام من أيام الله ، سبحانه وتعالى..
                  ولقد نبه المفسرون على هذه الحقيقة ـ المزيلة لهذا الوهم ـ فقال القرطبى: " (فى أربعة أيام (. ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد فى عشرة أيام وإلى الكوفة فى خمسة عشر يومًا ، أى فى تتمة خمسة عشر يومًا " (13).
                  وقال الزمخشرى:
                  " (فى أربعة أيام (فذلكة (14) لمدة خلق الله الأرض وما فيها ، كأنه قال: كل ذلك فى أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.. وقال الزجاج: فى تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين " (15).
                  فهذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ تؤكد هى الأخرى ـ على أن خلق السموات والأرض إنما تم فى ستة أيام.. ومن ثم فلا تناقض بين آيات القرآن ولا تفاوت فى مدة الخلق الإلهى للسموات والأرض.. وحاشا أن يكون شىء من ذلك فى الذكر الحكيم.
                  المراجع
                  (1) الأعراف: 54 ، يونس: 3.
                  (2) هود: 7.
                  (3) الفرقان: 59.
                  (4) السجدة: 4.
                  (5) ق: 38.
                  (6) الحديد: 4.
                  (7) البقرة: 259.
                  (8) الكهف: 19.
                  (9) الكهف: 25ـ26.
                  (10) طه: 102ـ104.
                  (11) الحج: 47.
                  (12) فصلت: 9ـ12.
                  (13) [ الجامع لأحكام القرآن ] ج15 ص 343 ـ مصدر سابق.
                  (14) الفذلكة: جملة ما فصل وخلاصته.
                  (15) [ الكشاف ] ج3 ص 444 ـ مصدر سابق




                  40- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى أسماء بعض الشخصيات التاريخية
                  يعطى القرآن أسماء لبعض الشخصيات التاريخية مخالفة لأسمائهم حسب الكتاب المقدس الذى سبق القرآن بعدة قرون. فمثلاً والد إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان اسمه Teral أو " تارح " ، ومع ذلك يسميه القرآن آزر. واسم الذى كان يوسف ـ عليه السلام ـ فى بيته Potiphar أما الاسم المعطى له فى القرآن فهو " عزيز " [ يوسف: 30 ].(انتهى).
                  الرد على الشبهة:
                  أولاً: لا يصح أن نجعل من الكتاب المقدس حجة على القرآن ومرجعية له.. لأن الثابت ـ حتى فى الدراسات التى قام بها كثير من علماء اليهود والنصارى أن هذا الكتاب المقدس قد أعيدت كتابته ، وأصابه التحريف.. كما أن ترجماته قد أدخلت عليه تغييرات وتصحيفات وخاصة فى أسماء الأماكن والأشخاص..
                  وثانيًا: لأن القرآن قد تمتع بمستوى من الحفظ والتوثيق والتواتر فى النقل جعله الوحى الوحيد الصحيح على ظهر هذا الكوكب الذى نعيش عليه.. فهو الحاكم والمرجع لكل ما عداه من النصوص الدينية الأخرى..
                  وفى هذا الإطار.. ومن هذا المنطلق نناقش الشبهات التى يثيرها هذا السؤال.. فنقول:
                  * بالنسبة لاسم والد الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ لا تختلف معظم المصادر الإسلامية ـ سواء منها تفاسير القرآن ، أو قصص الأنبياء على أن " آزر " ليس اسم والد إبراهيم.. وعلى أن اسمه " تارح " ومن العلماء من يرى أن " آزر " اسم صنم ، وأن الآية خطاب استنكارى لعبادة والد إبراهيم لهذا الصنم ، تقدم المفعول فى هذا الخطاب.. والمعنى أتتخذ آزر إلها ومعبودًا ؟..
                  ومن العلماء من يرى أن " آزر " لقب أطلق على " تارح " بعد أن عمل فى حاشية الملك الذى كان حاكمًا فى ذلك التاريخ..
                  ونحن نقرأ ـ حول هذه القضية ـ فى تفسير القرطبى:وإذقال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلها ، أتتخذ أصنامًا آلهة..
                  قلتُ ـ [ أى القرطبى ] ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق. فقد قال محمد بن إسحاق والكلبى والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو تارح ، مثل إسرائيل ويعقوب. قلتُ: فيكون له اسمان. وقال مقاتل: آزر لقب ، وتارح اسم. وحكاه الثعلبى عن ابن إسحاق القشيرى. ويجوز أن يكون العكس.. وقال الجوهرى: آزر اسم أعجمى ، وهو مشتق من آزر فلان فلانًا إذا عاونه ، فهو مؤازرٌ قومه على عبادة الأصنام.. وقال مجاهد ويمانٍ: آزر اسم صنم ، أى أتتخذ آزر إلها. أتتخذ أصنامًا.. وقال الثعلبى فى كتاب العرائس: إن اسم أبى إبراهيم الذى سماه به أبوه تارح ، فلما صار
                  مع النمرود قيِّمًا على خزانة آلهته سماه آزر. وقال مجاهد إن آزر ليس باسم أبيه وإنما هو اسم صنم ، وهو إبراهيم بن تارح بن ناخور بن ساروع ابن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ـ عليه السلام ـ " (1).
                  ونفس التفسيرات الموضحة لهذه الشبهة نجدها فى [ قصص الأنبياء ]:
                  " قال السيد المرتضى الزبيدى ـ فى " ص 12 ج2 تاج العروس ": روى عن مجاهد فى قوله تعالى: (آزر أتتخذ أصنامًا) قال: لم يكن بأبيه ، ولكن آزر اسم صنم ، فموضعه نَصْبٌ على إضمار الفعل والتلاوة كأنه قال: " وإذ قال إبراهيم أتتخذ آزر إلها ، أى أتتخذ أصنامًا آلهة ".
                  وقال الصغانى: " التقدير أتتخذ آزر إلها ".
                  وقد نقل شيخ العروبة المرحوم أحمد زكى باشا عبارة تاج العروس السابقة فى أول كتابه " تكملة كتاب الأصنام لابن الكلبى ".
                  وهذا القول الذى قاله مجاهد أولى الأقوال عندى بالقبول. وعلى ذلك يكون والد إبراهيم لم يذكر باسم العلم فى القرآن الكريم. ومما يستأنس له بأن " آزر " اسم إله أننا نجد فى الآلهة القديمة عند المصريين الإله " أوزوريس " ومعناه الإله القوى المعين ، وقد كانت الأمم السالفة يقلد بعضهم بعضًا فى أسماء الآلهة.. " (2).
                  فليست هناك مشكلة ، إذن ، حول هذا الموضوع.
                  أما الشبهة الثانية فى هذا السؤال ، والخاصة باسم الذى اشترى وآوى يوسف ـ عليه السلام ـ فى بيته ، والذى أطلق عليه القرآن الكريم اسم " عزيز " بينما سماه الكتاب المقدس Potiphar.. فإنها لا تمثل ، هى الأخرى ، مشكلة من المشكلات.
                  ذلك أن منصب هذا الذى آوى يوسف كان " رئاسة الشرطة ".. واسمه " فوطيفار ".. ولقبه " العزيز " فلا تناقض بين أسماء التعريف به هذه.. ولقد تناولت ذلك المصادر الإسلامية.. ففى [ قصص الأنبياء ]:
                  " وكان سيده رئيس شرطة المدينة ، واسمه " فوطيفار " ، ويعبر عن منصبه فى العبرية بـ " سرها طباحيم " ، أى رئيس الشرطة.. " (3).
                  وفى تفسير القرطبى:
                  " قال الضحاك: هذا الذى اشتراه ملك مصر ، ولقبه العزيز.. واسمه قطفير. وقال ابن إسحاق: إطفير. اشتراه لامرأته.. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر.. وكان هذا العزيز الذى اشترى يوسف على خزائن الملك.. " (4).
                  أما الخلافات والاختلافات الطفيفة فى نطق الاسم فهى واردة ، بسبب النقل من لغة إلى لغة.. ومن لهجة إلى لهجة.. وبسبب النسخ للمخطوطات. والتصحيف والتحريف فيها.. فلا مشكلة.. ، إذن ، حول هذه الأسماء.
                  المراجع
                  (1) [ الجامع لأحكام القرآن ] ج7 ص 22 ، 23 ـ مصدر سابق.
                  (2) [ قصص الأنبياء ] ص 72 ـ مرجع سابق.
                  (3) المرجع السابق ص 122.
                  (4) [ الجامع لأحكام القرآن ] ج9 ص 158 ـ مصدر سابق ـ.

                  تابعو

                  تعليق

                  • المتفائل

                    #10

                    41- حول تسمية القرآن الكريم مريم " أخت هارون " واختلافه فى ذلك مع الكتاب المقدس
                    يسمى القرآن والدة المسيح ـ عليه السلام ـ باسم " أخت هارون " [ مريم: 28 ] ولعل محمدًا صلى الله عليه وسلم ، خلط بين مريم أم المسيح ، ومريم أخرى كانت أختًا لهارون الذى كان أخًا لموسى ـ عليه السلام ـ ومعاصرًا له ، ولا يوجد مثل هذا التناقض فى الكتاب المقدس. (انتهى).
                    الرد على الشبهة:
                    يتحدث القرآن الكريم عن مريم ـ أم المسيح ـ عليهما السلام ـ ، باسم " أخت هارون ".. وذلك فى سورة مريم ، فيقول مخاطبًا إياها فى الآية: 28: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيًّا (.. وليس لهذه التسمية ذكر فى الإنجيل.
                    بل الثابت ـ فى القرآن والأناجيل ـ أن مريم هى ابنة عمران (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها ) (1).
                    وعمران هذا هو من نسل داود ـ عليه السلام ـ أى من سبط ونسل " يهوذا " ، وليس من سبط ونسل " هارون " سبط " اللاويين " فكيف دعاها القرآن " أخت هارون " ؟.
                    هذا هو التساؤل والاعتراض الذى يورده البعض شبهة على القرآن الكريم.. والحقيقة التى تفهم من السياق القرآنى ، أن تسمية مريم بـ " أخت هارون " ، ليست تسمية قرآنية وإنما هى حكاية لما قاله قومها لها ، وما خاطبوها ونادوها به عندما حملت بعيسى ـ عليه السلام ـ عندما استنكروا ذلك الحمل ، واتهموها فى عرضها وشرفها وعفافها.. فقالوا لها: (يا مريم لقد جئت شيئًا فريًّا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْء وما كانت أمك بغيًا ) (2).
                    فلماذا نسبها قومها إلى هارون ؟.
                    يختلف المفسرون فى التعليل.. فمنهم من يقول إن هارون ـ المشار إليه ـ كان رجلاً فاسقًا، اشتهر بفسقه، فنسبها قومها إليه، إعلانًا عن إدانتهم لها.
                    ومن المفسرين من يقول إن هارون هذا كان رجلاً صالحًا ، مشهورًا بالصلاح والعفة.. فنسبها قومها إليه سخرية منها ، وتهكمًا عليها ، وتعريضًا بما فعلت ، واستهزاء بدعواها الصلاح والتقوى والتبتل فى العبادة بينما هى ـ فى زعمهم ـ قد حملت سفاحًا..
                    وقيل: إنه كان لها أخ من أبيها اسمه هارون وكان من عُبّاد وصلحاء بنى إسرائيل ـ فنسبوها إليه ـ.. واسم هارون من الأسماء الشائعة فى بنى إسرائيل (3).
                    والشاهد ـ من كل ذلك ـ أن هذه التسمية لمريم بـ " أخت هارون " ، ليست خبرًا قرآنيًا ، وإنما هى حكاية من القرآن الكريم لما قاله قومها.. وهذه الاحتمالات التى ذكرها المفسرون ، تعليلاً لهذه التسمية هى اجتهادات مستندة إلى تراث من التاريخ والقصص والمأثورات.
                    المراجع
                    (1) التحريم: 12.
                    (2) مريم: 27، 28.
                    (3) انظر فى ذلك [ قصص الأنبياء ] ص 383 ، 384 ـ مرجع سابق ـ و [ الجامع لأحكام القرآن ] ج11 ص 100 ، 101 ـ مصدر سابق ـ. و [ الكشاف ] ج2 ص 508 ـ مصدر سابق ـ.



                    42- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى عصر نمرود
                    حسب قول القرآن والمفسرين ألقى نمرود بإبراهيم فى النار [ الأنبياء: 68ـ69 ] وليس من المعقول أن يكون نمرود حيًّا فى زمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ [الكتاب المقدس ـ سفر التكوين 8: 10 ، 11 ، 10: 22ـ25 ، 11: 13ـ26 ]. (انتهى).
                    الرد على الشبهة:
                    فى قصص القرآن الكريم عن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ مشاهد عديدة.. منها معجزة نجاته من التحريق بالنار ، بعد أن حطم أصنام قومه التى يعبدونها: (قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كونى بردًا وسلامًا على إبراهيم * وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين ) (1).
                    ويحكى القرآن محجّة إبراهيم للملك ـ فى سورة البقرة: (ألم تر إلى الذى حاجّ إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت قال أنا أحيى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين ) (2).
                    والقرآن الكريم لم يسم الملك الذى حاج إبراهيم فى ربه ؛ لأن قصد القرآن من القصص هو مضمون المحاجّة ، والعبرة منها.. واسم الملك لا يقدم ولا يؤخر فى المضمون والعِبرة. أما تسمية هذا الملك ـ الذى حاجّه إبراهيم ـ بـ " النّمروذ " والاختلاف فى نطق اسمه. ومدة ملكه.. فجميعها قصص تاريخى ، أورده المفسرون.. فهو غير ملزم للقرآن الكريم (3).. ومن ثم لا يصح أن يورد ذلك كشبهة تثار ضد القرآن.. فليس لدينا فى التاريخ الموثق والمحقق ما يثبت أو ينفى أن اسم الملك الذى حاجّ إبراهيم الخليل فى ربه هو " النّمروذ ". وإنما هو قصص تاريخى يحتاج إلى تحقيق..
                    ولقد راجعتُ العهد القديم ، فى المواضع التى جاء ذكرها فى السؤال [سفر التكوين الإصحاح 8: 10 ، 11 والإصحاح 10: 22ـ25 والإصحاح 11: 13ـ26] وهى تحكى عن قبائل نوح ، ومواليد ابنه سام ، فلم أجد فيها ذكر الملك " النّمروذ ".
                    وفى [ دائرة المعارف الإسلامية ] التى كتبها المستشرقون ـ وقد حرر مادة " إبراهيم " فيها " ج. إيزبرغ " ـ يأتى ذكر الملك نمروذ فى قصة إبراهيم دون اعتراض.. وفى أثنائها إشارات إلى مصادر عبرية أشارت إلى النمروذ ـ منها [ دلالة الحائرين ـ لموسى بن ميمون ـ الفصل 29 ].. ومنها " سفر هياشار " فصل نوح..
                    وتأتى الإشارة إلى " نمرود " الملك فى سفر التكوين ـ بالعهد القديم ـ الإصحاح 10: 8ـ11 باعتباره " الذى ابتدأ يكون جبارًا فى الأرض "..
                    وبه كان يُضرب المثل فى التجبر.. " وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكدّ وكلنة من أرض شنغار. من تلك الأرض خرج أشور وبنى نينوى.. " إلخ.. إلخ..
                    وأخيرًا.. فليس هناك ما يمنع تكرار لاسم " نمروذ " لأكثر من ملك فى أكثر من عصر وتاريخ.. ويبقى أن الشبهة ـ إذًا كانت هناك شبهة ـ خاصة بالقصص التاريخى.. ولا علاقة لها بالقرآن الكريم..
                    المراجع
                    (1) الأنبياء: 68ـ70.
                    (2) البقرة: 258.
                    (3) انظر: القرطبى [ الجامع لأحكام القرآن ] ج3 ص 283ـ285 ـ مصدر سابق ـ والزمخشرى [ الكشاف ] ج1 ص 387ـ389 ـ مصدر سابق ـ.




                    43- حول الإسكندر ذى القرنين.. وهل كان عبدًا صالحًا ؟ أم من عبدة الأوثان ؟
                    يمدح القرآن الإسكندر الأكبر (ذو القرنين) كعبد صالح يؤمن بالله [الكهف: 87ـ88]. ولكن جميع مؤرخى الإغريق يجمعون على أنه كان من عبدة الأوثان. فكيف يصح ذلك ؟. (انتهى).
                    الرد على الشبهة:
                    فى القرآن الكريم ـ بسورة الكهف: 83ـ98 حكاية ذى القرنين: (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرًا * إنا مَكّنَّا له فى الأرض وآتيناه من كل شىء سببًا ) (1) إلى آخر الآيات.
                    وخلال هذه الآيات يتبدى عدل " ذو القرنين " فيقول: (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يُرد إلى ربه فيعذبه عذابًا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ) (2). تلك هى تسمية القرآن الكريم لهذا الملك " ذو القرنين ".
                    أما أن ذا القرنين هذا هو الإسكندر الأكبر المقدونى [356ـ324ق.م] فذلك قصص لم يخضع لتحقيق تاريخى.. بل إن المفسرين الذين أوردوا هذا القصص قد شككوا فى صدقه وصحته..
                    فابن إسحاق [151هـ 768م] ـ مثلاً ـ يروى عن " من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذى القرنين " أنه كان من أهل مصر ، وأن اسمه " مرزبان بن مردية اليونانى ".
                    أما الذى سماه " الإسكندر " فهو ابن هشام [213هـ 828م] ـ الذى لخص وحفظ [ السيرة ] ـ لابن إسحاق ـ.. وهو يحدد أنه الإسكندر الذى بنى مدينة الإسكندرية ، فنسبت إليه.
                    وكذلك جاءت الروايات القائلة إن " ذو القرنين " هو الإسكندر المقدونى عن " وهب بن مُنبِّه " [34ـ114هـ 654ـ732م] (3) وهو مصدر لرواية الكثير من الإسرائيليات والقصص الخرافى.
                    ولقد شكك ابن إسحاق ـ وهو الذى تميز بوعى ملحوظ فى تدوين ونقد القصص التاريخى ـ شكك فيما روى من هذا القصص ـ الذى دار حول تسمية ذى القرنين بالإسكندر ، أو غيره من الأسماء.. وشكك أيضًا فى صدق ما نسب للرسول صلى الله عليه وسلم حول هذا الموضوع.. وذلك عندما قال ابن إسحاق: " فالله أعلم أى ذلك كان ؟.. أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا ؟ ".
                    ويثنى القرطبى على شك وتشكيك ابن إسحاق هذا ، عندما يورده ، ثم يقول: " والحق ما قال ".. أى أن الحق هو شك وتشكيك ابن إسحاق فى هذا القصص ، الذى لم يخضع للتحقيق والتمحيص وإن يكن موقف ابن إسحاق هذا ، وكذلك القرطبى ، هو لون من التحقيق والتمحيص.
                    فليس هناك ، إذًا ما يشهد على أن الإسكندر الأكبر المقدونى ـ الملك الوثنى ـ هو ذو القرنين ، العادل ، والموحد لله..
                    المراجع
                    (1) الكهف: 83ـ84.
                    (2) الكهف: 87ـ88.
                    (3) القرطبى [ الجامع لأحكام القرآن ] ج11 ص 50 ـ مصدر سابق


                    44- حول غروب الشمس فى عين حمئة ومخالفة ذلك للحقائق العلمية
                    تغرب الشمس فى عين حمئة ، حسب القرآن [ الكهف: 86 ] وهذا مخالف للعلم الثابت. فكيف يقال إن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة ؟ (انتهى).
                    الرد على الشبهة:
                    فى حكاية القرآن الكريم لنبأ " ذو القرنين " حديث عن أنه إبان رحلته: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قومًا.. ) (1).
                    والعين الحمئة ، هى عين الماء ذات الحمأ ، أى ذات الطين الأسود المنتن.
                    ولما كان العلم الثابت قد قطعت حقائقه بأن الأرض كروية ، وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس ، فإن غروب الشمس ليس اختفاء فى عين أو غير عين ، حمئة أو غير حمئة.. والسؤال: هل هناك تعارض بين حقائق هذا العلم الثابت وبين النص القرآنى ؟.
                    ليس هناك أدنى تعارض ـ ولا حتى شبهة تعارض ـ بين النص القرآنى وبين الحقائق العلمية.. ذلك أن حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين ، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس ـ غروبها ـ فى هذه البحيرة ـ العين الحمئة ـ.. وذلك مثل من يجلس منا على شاطئ البحر عند غروب الشمس ، فإن أفق بصره يجعله يرى قرص الشمس يغوص ـ رويدًا رويدًا ـ فى قلب ماء البحر.
                    فالحكاية هنا عما يحسبه الرائى غروبًا فى العين الحمئة ، أو فى البحر المحيط.. وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس ، وعن ماذا يعنيه العلم فى مسألة الغروب.
                    وقد نقل القفال ، أبو بكر الشاشى محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر [429ـ507هـ /1037ـ1114م] عن بعض العلماء تفسيرًا لهذه الرؤية ، متسقًا مع الحقيقة العلمية ، فقال: " ليس المراد أنه [ أى ذو القرنين ] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جِرْمها ومسَّها.. فهى أعظم من أن تدخل فى عين من عيون الأرض ، بل هى أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة. وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [ أى البقاع المعمورة والمأهولة ] من جهة المغرب ومن جهة المشرق ، فوجدها فى رأى العين تغرب فى عين حمئة ، كما أنا نشاهدها فى الأرض الملساء كأنها تدخل فى الأرض ، ولهذا قال: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سِترا ) (2). ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم ، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم.. " (3).
                    فالوصف هو لرؤية العين ، وثقافة الرائى.. وليس للحقيقة العلمية الخاصة بالشمس فى علاقتها بالأرض ودورانها ، وحقيقة المعنى العلمى للشروق والغروب.
                    فلا تناقض بين النص القرآنى وبين الثابت من حقائق العلوم..
                    المراجع
                    (1) الكهف: 86.
                    (2) الكهف: 90.
                    (3) القرطبى [ الجامع لأحكام القرآن ] ج11 ص 49 ، 50 ـ مصدر سابق ـ.



                    45- حول حفظ الله للذكر وهل الذكر هو كل القرآن ؟ أم بعض القرآن؟
                    هناك من لا يؤمنون بأن القرآن قد حفظ ، كما تقول الآية الكريمة: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، ويقولون: قد يكون الذكر جزءً ا من القرآن ، وليس كله. ويستدلون بكلام لعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ بأنه أقسم على أن هناك آية فى القرآن تتحدث عن الرجم ـ وهذه الآية غير موجودة ـ وأن غنمه أكلت ورقة من القرآن كانت بيد عائشة رضى الله عنها (انتهى).
                    الرد على الشبهة:
                    وفى الجواب عن هذه الشبهة نسأل:
                    لماذا بعث الله ـ سبحانه وتعالى ـ الرسل ، وأنزل الكتب ؟.
                    لقد كان ذلك رعاية من الله لخلقه.. ولطفًا بهم.. وحتى يكون حسابه لهم ـ كى لا يتساوى المحسن والمسىء ـ وجزاؤه إياهم على أفعالهم عدلاً إلهيًا خالصًا.. (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) (1) (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) (2).
                    (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) (3).
                    وقبل ختم النبوة والرسالة ، كانت مهمة حفظ كتب الرسالات والشرائع موكولة إلى أمم هذه الرسالات كجزء من التكليف لهم والاختبار لاستقامتهم فى هذا التكليف: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنًا قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (4).لكنهم فرطوا فى القيام بتكليف الحفظ للكتب بالنسيان حينًا وبالتحريف والإخفاء حينًا آخر: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكَلِمَ عن مواضعه ونسوا حظًّا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين * ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون * يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) (5).
                    وعندما كانوا يحرفون هذه الكتب ، أو ينسون بعضها ويخفون البعض الآخر ، كان الله يبعث رسولاً جديدًا بكتاب جديد..
                    أما عندما أراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ مع بلوغ الإنسانية سن الرشد ـ ختم النبوات والرسالات بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان لابد لحفظ كتاب الشريعة الخاتمة من حافظ لا يجوز عليه الإهمال ، ولا يتأتى منه التحريف ، ولا يليق به النسيان.. أى كان لابد من الحفظ المعصوم الدائم للكتاب المعجز الخالد. لأن ترك حفظ الكتاب الخاتم للبشر ، الذين يجوز عليهم الإهمال والتحريف والنسيان معناه طروء وحدوث التحريف والضياع لهذا الكتاب ، حيث لا وحى سيأتى ولا رسول سيبعث ولا كتاب سينزل.. الأمر الذى لو حدث ـ افتراضًا ـ سيضل الناس ولا رعاية لهم ، ولا حُجة عليهم ، تجعل من حسابهم وجزائهم عدلاً إلهيًا مناسبًا.
                    ولذلك ، انتقلت مهمة حفظ الوحى الخاتم ـ القرآن الكريم ـ فى الرسالة الخاتمة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذى لا يتخلف حفظه أبدًا ، بعد أن كانت هذه المهمة فى الرسالات السابقة ، استحفاظًا من الله للناس ، أى طلبًا منه لهم أن يحفظوا ما أنزل عليهم من الكتاب. فكان الوعد الإلهى المؤكد: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (6).
                    ولذلك هيأ الله لتدوين القرآن الكريم من كتبة الوحى ما لم يتهيأ لكتاب سابق.. وجعل جمعه وعدًا إلهيًا وإنجازًا ربانيًا: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) (7). فكان الحفظ للقرآن ـ كل القرآن ـ وعدًا إلهيًّا. وإنجازًا ربانيًا ، وذلك حتى تستمر حجة الله على عباده ، ويكون حسابه لهم عدلاً خالصًا.
                    ولم يقل أحد ، ولا جائز فى العقل ـ فضلاً عن النقل ـ أن يقال: إن الذكر ، الذى تعهد الله بحفظه ، هو بعض القرآن ، وليس كل القرآن.. لأن ضياع أى جزء من القرآن إنما يعنى تخلف رعاية الله لخلقه ، وسقوط حُجته على عباده.. ثم إن القرآن لا يقف بالحفظ عندما يطلق عليه الذكر ، فضلاً عن أن مصطلح الذكر إنما يشمل كل القرآن.. تشهد على ذلك الآيات الكثيرة فى كتاب الله.. فالمراد بالذكر القرآن.. كل القرآن.. والكتاب.. كل الكتاب ـ وليس بعضه ـ بدليل قول الله سبحانه وتعالى: (فاسألوا أهل الذكر ) (8) ، أى أهل الكتب السابقة.. والله يشير إلى القرآن والتنزيل ـ أى كل ما نزل به الوحى ـ بلفظ الذكر (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ) (9) ، (وقالوا يا أيها الذى نُزِل عليه الذكر إنك لمجنون ) (10) ، (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (11) ، (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ) (12) ، (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) (13) ، (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين ) (14). والذكر هو كل ما جاء به الوحى ، فالوحى هو الذكر (فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون ) (15). بل إن سياق آية (إنا نحن نزلنا الذكر (شاهد على أن الذكر والقرآن والكتاب هو الوحى (آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ) (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم)، (وقالوا يا أيها الذى نُزِّل عليه الذكر إنك لمجنون (، (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (16).
                    ثم إن القرآن الكريم يؤكد أن الحفظ ، ونفى الشك والريبة إنما هو لكل القرآن ولجميع التنزيل ، وليس لبعض القرآن: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (17) (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) (18) (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ) (19) (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه ) (20) (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ) (21) (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه ) (22). (ما فرطنا فى الكتاب من شىء ) (23).. ولو ضاع شىء من هذا الكتاب أى القرآن والتنزيل لحدث التفريط الذى تنفيه هذه الآية ، حجة الله على البشر (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) (24).. فحجة الله على الناس ـ بعد ختم الوحى القرآن الكريم ـ تنتفى وتسقط إذا حدث جهل بشىء مما أنزل فى الكتاب ـ القرآن ـ: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) (25) ولو أن القرآن ضاع منه شىء لتخلف وعد الله بتنزيل تبيان كل شىء فيه ، لتتم شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته: (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) (26).
                    وختم النبوة والرسالة ، يعنى انتفاء بعث رسول جديد ، ونزول كتاب جديد.. وحتى تقوم حُجة الله على عباده لابد من بقاء القرآن كله محفوظًا ، ليكون قيّما على الناس ، أى دائم القيام على هدايتهم وإرشادهم: (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ) (27).
                    وإذا كان الكتاب هو كل القرآن ، فلقد وعد الله سبحانه بأن يحفظه ويورثه للذين اصطفاهم من عباده ، بعد أن أنزله على المصطفى من رسله ، وجمعه وقرأه: (والذى أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقًا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير * ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) (28).
                    ومن صفات القرآن ـ كل القرآن ـ أنه كتاب عزيز ، أى منيع ، محفوظ من العبث به وفيه.. وأنه ممتنع عن الإبطال ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، بأى حال من الأحوال: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (29). والذكر فى هذه الآية هو كل الكتاب ، العزيز على أى عبث به وفيه..
                    ومن صفات القرآن ـ كل القرآن ـ أنه كتاب علىّ حكيم ، فوق تطاول المتطاولين ، بشرًا كانوا أو أزمنة ودهورًا: (إنا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون * وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم ) (30).
                    ومن صفات القرآن ـ كل القرآن ـ أنه فى كتاب مكنون: أى مصون ومحفوظ عن اللعب والعبث والتحريف (إنه لقرآن كريم * فى كتاب مكنون ) (31).
                    ولقد صدّق التاريخ على هذا الحفظ الإلهى لهذا القرآن المجيد.. ومن يقرأ تاريخ التوراة ـ حتى ذلك الذى كتبه علماء اليهودية ـ يعلم ما أصابها بعد سنوات من نزولها.. وكيف أعيدت كتابة أسفارها على النحو الذى صنعه " عزرا " وغيره من الأحبار ، فى صورة مليئة بالتحريف.. ومن يتأمل تناقضات الأناجيل ـ حتى الشهيرة منها ـ والفروق الجوهرية بينها وبين غير الشهيرة ـ من مثل أناجيل " مخطوطات نجع حمادى " ، و " مخطوطات البحر الميت " و " إنجيل برنابا " يعلم ما أصاب الإنجيل بعد سنوات معدودة من بعثة المسيح ـ عليه السلام ـ لكن.. ها هو القرآن الكريم كما نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين ، لم يتغير فيه حرف ولا رسم ولا حركة ولا غُنّة ولا مدّ وقد مضى على نزوله أكثر من أربعة عشر قرنًا مرت فيها أمته بأطوار من التراجع والانحطاط ، وفقدت فيها الذاكرة الإسلامية ملايين المخطوطات التى أبادتها غزوات الطغاة ، واندثرت فيها مذاهب وفلسفات.. وظل القرآن الكريم عزيزًا منيعًا محفوظًا بحفظ الله خير الحافظين.. فالتاريخ ـ هو الآخر ـ قد غدا شاهدًا على هذا الحفظ الإلهى لكل القرآن الكريم..
                    فبرهان العقل ـ المتعلق بختم الرسالة.. وختم الوحى ـ يجعل حفظ القرآن ـ كل القرآن ـ لإقامة الحجة على الناس ـ ضرورة عقلية.
                    وكذلك النقل المتكرر فى القرآن ـ بلفظ القرآن.. والكتاب.. والتنزيل.. والذكر.. ـ شاهد هو الآخر على الحفظ الإلهى لكل حرف وكل كلمة وكل آية وكل سورة من هذا القرآن الكريم.. فهو وحى الله الخاتم.. تعهد سبحانه وتعالى بجمعه وحفظه ، وحجة خالدة ، كى لا يكون للناس على الله حجة إذا ما ضاع شىء من هذا التنزيل العزيز المنيع الحكيم.
                    أما بعض المرويات التى يفهم منها البعض شكًّا فى حفظ كل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن.. فإن منطق العقل ، ومنهاج البحث العلمى ، وقواعد نقد النصوص والمرويات ، التى اتفق عليها العلماء والعقلاء من كل الحضارات والفلسفات والأنساق الفكرية.. كلها تؤكد على ضرورة الموازنة بين المتعارض والمتناقض من الروايات.. والأخذ بالمصدر الأوثق عند تعذر الجمع بين المرويات.. فإذا كان لدينا ـ على نحو ما قدمنا ـ شهادة العقل الصريح على أن حفظ القرآن ـ كل القرآن ـ هو ضرورة عقلية ، تقتضيها حقيقة ختم النبوة والرسالة واكتمال الوحى.. وإذا كانت شهادة العقل الصريح هذه مدعومة بنصوص آيات القرآن الكريم ، أى بالمصدر المعجز ، قطعى الدلالة والثبوت.. فهل يكون عاقلاً من يترك شهادة العقل الصريح ، والنقل المعجز الصحيح ، ويلتفت إلى رواية من روايات يعلم الله من رواها ؟ ولماذا رواها ؟.
                    إن منطق البحث العلمى ، الذى أجمع عليه كل عقلاء الدنيا ، فى التعامل مع النصوص ، قد حسم هذه القضية التى نرجو أن تكون هذه الإجابة حاسمة للشبهة المثارة حولها.. والله من وراء القصد ، منه نلتمس الهداية والحكمة والرشاد..
                    المراجع
                    (1) فاطر: 24.
                    (2) الإسراء: 15.
                    (3) النساء: 165.
                    (4) المائدة: 44.
                    (5) المائدة: 13ـ16.
                    (6) الحجر: 9.
                    (7) القيامة: 16ـ19.
                    (8) الأنبياء: 7.
                    (9) الأعراف: 69.
                    (10) الحجر: 6.
                    (11) النحل: 44.
                    (12) الأنبياء: 50.
                    (13) يس: 69.
                    (14) القلم: 51ـ52.
                    (15) الزخرف: 43ـ44.
                    (16) الحجر: 1، 4، 6، 9.
                    (17) البقرة: 2.
                    (18) السجدة: 2.
                    (19) البقرة: 176.
                    (20) آل عمران: 3.
                    (21) النساء: 105.
                    (22) المائدة: 48.
                    (23) الأنعام: 38.
                    (24) الأنعام: 155ـ157.
                    (25) الحجر: 4.
                    (26) النحل: 89.
                    (27) الكهف: 1ـ2.
                    (28) فاطر: 31ـ32.
                    (29) فصلت: 41ـ42.
                    (30) الزخرف: 3ـ4.
                    (31) الواقعة: 77ـ78.



                    46- حول تاريخية أو خلود أحكام القرآن الكريم
                    هناك ـ بالنسبة للقرآن الكريم ـ من يعتبرون أنه غير صالح لكل زمان ، وأنه وقتى ، أى أنه جاء لوقت قد مضى ، ولا يتلاءم مع العصر الحالى ، وأنه يجب أن تتغير تفسيراته بما يناسب هذا الوقت. وعلى سبيل المثال:
                    ـ إرث المرأة (للذكر مثل حظ الأنثيين) يقولون: إن هذه الآية قد جاءت لزمن معين ويجب أن تتغير ، بحيث يتساوى الرجل والمرأة فى الإرث.
                    ـ وكذلك الأمر بالنسبة لشهادة المرأة حيث يطالبون بمساواة الرجل بالمرأة من حيث الشهادة.. (انتهى).
                    الرد على الشبهة:
                    أما القول بتاريخية ـ أو تاريخانية ـ ووقتية أحكام القرآن الكريم.. بمعنى " أنها غير صالحة لكل زمان ".. فإن لنا عليها ملاحظات نسوقها فى عدد من النقاط:
                    أولها: أن هذه الدعوى ليست جديدة ، فلقد سبق وتبناها فلاسفة التنوير الغربى الوضعى العلمانى ، بالنسبة للتوراة والإنجيل.. فرأوا أن قصصها مجرد رموز ، بل ورأوا أن الدين والتدين إنما يمثل " مرحلة تاريخية " فى عمر التطور الإنسانى ، مثلت مرحلة طفولة العقل البشرى ، ثم تلتها ـ على طريق النضج ـ مرحلة " الميتافيزيقا " ، التى توارت هى الأخرى لحساب المرحلة الوضعية ، التى لا ترى علمًا إلا إذا كان نابعًا من الواقع ، ولا ترى سبلاً للعلم والمعرفة إلا العقل والتجارب الحسية.. وما عدا ذلك ـ من الدين وأحكام شرائعه ـ فهى " إيمان " مَثَّل مرحلة تاريخية على درب التطور العقلى ، ولم يعد صالحًا لعصر العلم الوضعى ـ اللهم إلا لحكم العامة والسيطرة على نزعاتهم وغرائزهم !.
                    هكذا بدأت وتبلورت نزعة " تاريخية وتاريخانية " النصوص الدينية فى فكر التنوير الغربى العلمانى والنهضة الأوروبية الحديثة..
                    وإذا كان هذا القول قد جاز ، ووجد له بعض المبررات ـ فى الغرب ـ بالنسبة لكتب رسالات خاصة بقوم بعينهم ـ بنى إسرائيل ـ الذين جاءتهم اليهودية والمسيحية ، ونزلت لهم التوراة والإنجيل ـ.. ولزمان معين.. وبتفاصيل تشريعات ـ وخاصة فى التوراة ـ تجاوزها تطور الواقع ، فإن دعوى تاريخية النص الدينى لا مكان لها ولا ضرورة تستدعيها بالنسبة للقرآن الكريم..
                    ذلك أن القرآن هو كتاب الشريعة الخاتمة ، والرسالة التى ختمت بها النبوات والرسالات ، فلو طبقنا عليه قاعدة تاريخية النصوص الدينية لحدث " فراغ " فى المرجعية الدينية ، إذ لا رسالة بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا وحى بعد القرآن.. وإذا حدث هذا " الفراغ " فى المرجعية والحجة الإلهية على الناس ، زالت حجة الله على العباد فى الحساب والجزاء ، إذ سيقولون: يا ربنا ، لقد أنزلت علينا كتابًا نسخه التطور ، فماذا كان علينا أن نطبق ، بعد أن تجاوز الواقع المتطور آيات وأحكام الكتاب الذى أنزلته لهدايتنا ؟!.
                    وثانى هذه النقاط: أن التاريخية والتاريخانية ـ أى وقتية الأحكام ـ لا يقول بها أحد فى أحكام العبادات.. وإنما يقول بها أصحابها فى آيات وأحكام المعاملات. وهم يخطئون إذا ظنوا أن هناك حاجة إليها فى أحكام المعاملات التى جاء بها القرآن الكريم ذلك أن القرآن الكريم ـ فى المعاملات ـ قد وقف عند " فلسفة " و " كليات " و " قواعد " و " نظريات " التشريع ، أكثر مما فصّل فى تشريع المعاملات.. فهو قد فصل فى الأمور الثوابت ، التى لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، مثل منظومة القيم والأخلاق ، والقواعد الشرعية التى تستنبط منها الأحكام التفصيلية ، والحدود المتعلقة بالحفاظ على المقاصد الكلية للشريعة.. ونزل تفصيل أحكام المعاملات لعلم الفقه ، الذى هو اجتهاد محكوم بثوابت الشريعة الإلهية ، ذلك حتى يظل هذا الفقه ـ فقه المعاملات ـ متطورًا دائمًا وأبدًا ، عبر الزمان والمكان ، ليواكب تغير الواقع ومستجدات الأحداث ، فى إطار كليات الشريعة وقواعدها ومبادئها ، التى تحفظ على أحكامه المتطورة إسلاميتها ، دائمًا وأبدًا..
                    وهذه " الصيغة الإسلامية " الفريدة التى جاءت بالنص الإلهى الثابت ـ أى الشريعة التى هى وضع إلهى ثابت ـ تحفظ إسلامية وإلهية المرجعية والمصدر دائمًا وأبدًا.. بينما وكلت أمر المتغيرات إلى الفقه المتجدد والمتطور ـ والفقه هو علم الفروع ـ.. هذه " الصيغة الإسلامية " هى التى وازنت بين ثبات النص وتطور التفسير البشرى للنص الإلهى الثابت.. وجمعت بين ثبات " الوضع الإلهى " وتطور " الاجتهاد الفقهى ".. أى جمعت بين ثبات المرجعية والنص ، وبين تطور الاجتهاد الفقهى المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان..
                    ثالث هذه النقاط: تتعلق بالأمثلة التى سيقت وتساق من قبل دعاة تاريخية وتاريخانية النصوص الدينية ، للتدليل على ضرورة تطبيق هذه التاريخانية ـ فى زعمهم ـ على أحكام القرآن الكريم فى المعاملات..
                    ونحن عندما ننظر فى هذه الأمثلة ـ وهى هنا ـ: " ميراث المرأة وشهادتها " نزداد يقينًا بخطأ دعوى تطبيق هذه التاريخانية على القرآن الكريم ، وعلى الأحكام التشريعية الواردة فيه.. فليس صحيحًا أن توريث المرأة فى الإسلام قد جانب الإنصاف لها ، حتى يكون حكمه صالحًا للزمان الماضى دون الزمان المعاصر والمستقبل.. فالأنثى ـ فى الإسلام ـ لا ترث نصف الذكر دائمًا وأبدًا.. والقرآن لم يقل يوصيكم الله فى الوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.
                    وإنما جعل ذلك فى حالة بعينها هى حالة " الأولاد " ، وليس فى مطلق وكل الوارثين: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) (1). أما عندما كان التقعيد عامًا للميراث فإن القرآن قد استخدم لفظًا عامًا هو لفظ " النصيب " لكل الذكور والإناث على حد سواء: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا ) (2).
                    ومعايير التفاوت فى أنصبة الميراث لا علاقة لها بالجنس ـ ذكورة أو أنوثة ـ على الإطلاق ـ على غير ما يحسب ويظن الكثيرون ـ إن لم يكن الأكثرون ! وإنما معايير هذا التفاوت ثلاثة:
                    1 ـ درجة القرابة. فكلما كان الوارث أقرب إلى المورّث زاد نصيبه فى الميراث.
                    2 ـ وموقع الجيل الوارث فى تسلسل الأجيال وتلك حكمة إلهية بالغة فى فلسفة الإسلام للميراث ـ وكلما كان الوارث صغيرًا من جيل يستقبل الحياة وأعباءها ، وأمامه المسئوليات المتنامية ، كان نصيبه من الميراث أكبر.. فابن المتوفى المنفرد يرث أكثر من أب المتوفى ـ وكلاهما ذكر ـ وبنت المتوفى المنفردة ترث أكثر من أمه ـ وكلتاهما أنثى.. بل إن بنت المتوفى المنفردة ترث أكثر من أبيه.
                    3 ـ والعامل الثالث فى تفاوت أنصبة الميراث هو العبء المالى الذى يتحمله ويكلف به الوارث طبقًا للشريعة الإسلامية.. فإذا اتفقت وتساوت درجة القرابة.. وموقع الجيل الوارث ـ مثل مركز الأولاد ـ أولاد المورث ـ مع تفاوت العبء المالى بين الولد الذكر ـ المكلف بإعالة زوجة وأسرة وأولاد ـ وبين البنت ـ التى سيعولها هى وأولادها زوج ذكر ـ هنا يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.. وهو تقسيم ليس فيه أية شبهة لظلم الأنثى.. بل ربما كان فيه تمييز وامتياز لها ، احتياطًا لاستضعافها..
                    وهذه الحقائق فى المواريث الإسلامية ـ التى يجهلها ويتجاهلها دعاة تاريخية آيات الميراث ـ هى التى جعلت المرأة ـ فى الجداول الإجمالية لحالات الميراث الإسلامى ـ ترث مثل الرجل ، أو أكثر من الرجل ، أو ترث ولا يرث الرجل فى أكثر من ثلاثين حالة من حالات الميراث الإسلامى، بينما هى ترث نصف ما يرث الذكر فى أربع حالات فقط (3) !.
                    وكذلك الحال مع " شهادة المرأة ".. ففى الأمور والميادين التى تقل فيها خبرة المرأة عن الرجل ، تكون شهادتها أقل من شهادته.. وحتى لا تهدر شهادتها كلية فى هذه الميادين ، سمح القرآن بشهادتها ، على أن تُدعم بشهادة واحدة من بنات جنسها ، تذكرها بما تنساه من وقائع الشهادة.. أما الميادين التى تختص بالمرأة ، والتى تكون خبرتها فيها أكثر ، فإن شهادتها فيها تكون أعلى ، وأحيانًا ضعف شهادة الرجل.. بل إن شهادتها تعتمد حيث لا تعتمد شهادة الرجل فى بعض هذه الميادين.
                    والذين يظنون أن آية سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا فإن كان الذى عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم * وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدِّ الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ) (4).
                    الذين يظنون أن هذه الآية ـ282ـ تجعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل بإطلاق ، وفى كل الحالات مخطئون وواهمون.. فهذه الآية تتحدث عن دَين خاص.. فى وقت خاص ، يحتاج إلى كاتب خاص ، وإملاء خاص ، وإشهاد خاص..
                    وهذه الآية ـ فى نصها ـ استثناء: (.. إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها).
                    ثم إنها تستثنى من هذه الحالة الخاصة الإشهاد على البيوع ، فلا تقيدها بما قيدت به حالة هذا الدين الخاص.. ثم إنها تتحدث ، مخاطبة ، لصاحب الدين ، الذى يريد أن يستوثق لدينه الخاص هذا بأعلى درجات الاستيثاق.. ولا تخاطب الحاكم ـ القاضى ـ الذى له أن يحكم بالبينة واليمين ، بصرف النظر عن جنس الشاهد وعدد الشهود الذين تقوم بهم البينة.. فللحاكم ـ القاضى ـ أن يحكم بشهادة رجلين.. أو امرأتين.. أو رجل وامرأة.. أو رجل واحد.. أو امرأة واحدة.. طالما قامت البينة بهذه الشهادة..
                    ومن يرد الاستزادة من الفقه الإسلامى فى هذه القضية ـ التى يجهلها الكثيرون ـ فعليه أن يرجع إلى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية [ 661ـ728هـ/1263ـ1328م] وتلميذه العظيم ابن قيم الجوزية [691ـ751هـ/1262ـ1350م] فى كتابه [ الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية ] (5).. ففيه ـ وفق نص ابن تيمية ـ أن ماجاء عن شهادة المرأة فى آية سورة البقرة ، ليس حصرًا لطرق الشهادة وطرق الحكم التى يحكم بها الحاكم ، وإنما ذكر لنوعين من البينات فى الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه.. فالآية نصيحة لهم وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم ، وما تحفظ به الحقوق شىء وما يحكم به الحاكم شىء ، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين.
                    ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل [164ـ241هـ/780ـ855م] إن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين فيما هو أكثر خبرة فيه ، وأن شهادة المرأة تعدل شهادة رجلين فيما هى أكثر خبرة فيه من الرجل.. فالباب مفتوح أمام الخبرة التى هى معيار درجة الشهادة ، فإذا تخلفت خبرة الرجل فى الميدان تراجع مستوى شهادته فيه.. وإذا تقدمت وزادت خبرة المرأة فى الميدان ارتفع مستوى شهادتها فيه.. وليس هناك فى الفقه الإسلامى تعميم وإطلاق فى هذا الموضوع ، إذ الشهادة سبيل للبينة التى يحكم الحاكم ـ القاضى ـ بناء عليها ، بصرف النظر عن جنس الشهود وعددهم.
                    ولو فقه الداعون إلى تاريخية وتاريخانية آيات الأحكام فى القرآن حقيقة هذه الأحكام التى توهموا الحاجة إلى تجاوزها ـ فقالوا بتاريخية ووقتية معانى نصوصها القرآنية ـ لأدركوا أن وقوف النص القرآنى عند كليات وفلسفات وقواعد ونظريات التشريع ، مع ترك تفصيلات التشريع لاجتهادات الفقهاء ، هو الذى جعل أحكام القرآن الكريم فى المعاملات ـ فضلاً عن العبادات.. والقيم والأخلاق ـ صالحة لكل زمان ومكان ، فكانت شريعته آخر وخاتم الشرائع السماوية ، دونما حاجة إلى هذه " التاريخية " التى استعاروها من الفكر الغربى ، دونما إدراك لخصوصية النص الإسلامى ، وتميز مسيرة الفقه الإسلامى والحضارة الإسلامية.. ولو أنهم فقهوا حقيقة الأمثلة التى توهموها دواعى لهذه التاريخية ـ من مثل ميراث المرأة.. وشهادتها ـ لكفونا مئونة هذا الجهد فى كشف هذه الشبهات!..
                    المراجع
                    (1) النساء: 11.
                    (2) النساء: 7.
                    (3) لمزيد من التفاصيل ، أنظر: د. محمد عمارة [ هل الإسلام هو الحل ؟ ] طبعة دار الشروق. القاهرة 1998م. ود. صلاح سلطان [ميراث المرأة وقضية المساواة] طبعة دار نهضة مصر.القاهرة 1999م.
                    (4) البقرة: 282ـ283.
                    (5) ص 103ـ104. تحقيق: د. جميل غازى ، طبعة القاهرة 1977م.

                    تابعو


                    تعليق

                    • المتفائل

                      #11
                      ثانيا : شبهات حول الرسول صلى الله عليه و سلم


                      47- حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة
                      هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ ، ويقدمون الأدلة على ذلك بسورة [ عبس وتولى ] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته ، ونزلت الآية الكريمة التى تنهاه عن ذلك (انتهى).
                      الرد على الشبهة:
                      إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عصمة كل الرسل - عليهم السلام - يجب أن تفهم فى نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أى أنه - مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحى.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كى تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
                      والرسول مكلف بتبليغ الرسالة ، والدعوة إليها ، والجهاد فى سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هى جزء من طاعة الله - سبحانه وتعالى - (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) (1) (قل أطيعوا الله والرسول ) (2) (من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (3) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ) (4) ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة فى هذا البلاغ الإلهى الذى اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذى يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله ، الذى يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهى.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذى يبلغون.
                      وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله ، يقول الإمام محمد عبده [1266-1323هجرية/1849-1905م] عن عصمة الرسل - كل الرسل -: ".. ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم ، وصحة عقولهم ، وصدقهم فى أقوالهم ، وأمانتهم فى تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه ، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية ، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة ، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات ، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهى بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذى أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها ، بمحض فضله ، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، يميزهم بالفطرة السليمة ، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون فى مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم فى الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة فى لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك - [ أى الاتصال بالسماء والتبليغ عنها ] - فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدى الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون " (5).
                      فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل - عليهم السلام -..
                      وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل فى مناطق وميادين الاجتهاد التى لم ينزل فيها وحى إلهى.. فإنه معصوم فى مناطق وميادين التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى فى مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحى والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل - عليهم السلام -.. فالرسول فى هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى ) (6). وبلاغة ما هو بقول بشر ، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله ، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.
                      أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه ، والتى هى ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية ، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة ، رضوان الله عليهم فى كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم فى الرأى - هذا السؤال الذى شاع فى السُّنة والسيرة:
                      " يا رسول الله ، أهو الوحى ؟ أم الرأى والمشورة ؟.. "
                      فإن قال: إنه الوحى. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هى طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم ، لأن علم الله - مصدر الوحى - مطلق وكلى ومحيط ، بينما علمهم نسبى ، قد تخفى عليه الحكمة التى لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأى والمشورة.. فإنهم يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما هو واحد من المقدمين فى الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة فى كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - فى مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
                      ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا ) (7).
                      وحتى لا يقتدى الناس باجتهاد نبوى لم يصادف الأولى ، كان نزول الوحى لتصويب اجتهاداته التى لم تصادف الأولى ، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) (8). ومن مثل: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير ) (9). ومن مثل: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) (10).
                      وغيرها من مواطن التصويب الإلهى للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى ، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
                      فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة فى البلاغ الإلهى ، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين ، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحى المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التى يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحى والبلاغ قول بشر ، بينما هى - بالعصمة - قول الله - سبحانه وتعالى - الذى بلغه وبينه المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هى الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ.
                      المراجع
                      (1) النساء: 59.
                      (2) آل عمران: 32.
                      (3) النساء: 80.
                      (4) آل عمران: 31.
                      (5) [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ] ج2 ص 415 ، 416 ، 420، 421. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1993م.
                      (6) النجم: 3-4.
                      (7) الأحزاب: 21.
                      (8) عبس: 1-10.
                      (9) التحريم: 1-3.
                      (10) الأنفال: 67-68.



                      48- دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام
                      زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول. وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هى:
                      1- إن العهد والنبوة والكتاب محصورة فى نسل إسحق لا إسماعيل.؟!
                      2- إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت بمعجزات.؟!
                      3- إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية ، فليس هو معجزاً (1).؟!
                      4- إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام.؟!
                      الرد على الشبهة:
                      ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدى هذه المواجهة ، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات فى هذا المجال.
                      وجود " البشارات " وعدمها سواء..؟
                      أجل: إن وجود البشارات وعدمها فى الكتب المشار إليها آنفا سواء ، وجودها مثل عدمها ، وعدمها مثل وجودها. فرسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست فى حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها ، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل " الخارجى " بطلت - لا سمح الله - تلك الرسالة ؛ فهى رسالة دليلها فيها ، ووجود البشارات بها فى كتب متقدمة - زمنا - عليها لا يضيف إليها جديداً ، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.
                      فهى حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنىعما سواها. ودليلها قائم خالد صالح للفحص فى كل زمان ومكان ، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب ، ظهر ولم يختف ، قوى ولم يضعف. علا ولم يهبط ، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم. فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء فى هذا الدليل " القرآن العظيم " حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون..
                      فلا يظنن أحدٌ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن فى حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام فى دعواه الرسالة. فرسول الإسلام ليس فى حاجة إلى " تلك البشارات " حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره.
                      وستعالج البشارة به صلى الله عليه وسلم على قسمين:
                      1- بشاراته صلى الله عليه وسلم فى التوراة.
                      2- بشاراته صلى الله عليه وسلم فى الإنجيل.
                      أولاً: البشارات فى التوراة
                      تعددت البشارات برسول الإسلام فى التوراة وملحقاتها ، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح ، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها " الأصلى " من حملها على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال.
                      فهى أشبه ما تكون برسالة مغلقة مُحى " عنوانها " ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به ، لأن الكلام " الداخلى " الذى فيها يقطع بأنها " له " دون سواه ؛ لما فيها من " قرائن " وبينات واضحة ونعرض - فيما يلى - بعضاً منها:
                      " وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته ".
                      فقال:
                      " جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران " (2). فى هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:
                      الأولى: نبوة موسى عليه السلام التى تلقاها على جبل سيناء.
                      الثانية: نبوة عيسى عليه السلام وساعير هى قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته.
                      الثالثة: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبل فاران هو المكان الذى تلقى فيه - عليه الصلاة والسلام - أول ما نزل عليه من الوحى وفاران هى مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
                      وهذه العبارة - مرة أخرى - تضمنت خبراً وبشارتين:
                      فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.
                      والبشارتان:
                      الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام. والثانية خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
                      وموقف اليهود منهما النفى: فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.
                      أما موقف النصارى فإن النفى - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام. ولهم فى ذلك مغالطات عجيبة ، حيث قالوا إن " فاران " هى " إيلات " وليست مكة. وأجمع على هذا " الباطل " واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن " فاران " هى مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له.. ؟! ، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر " فاران " على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد فى قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هى وابنها فنزلت وسكنت فى " برية فاران " (3). على أنه يلزم من دعوى واضعى قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد فى التوراة. لأنه لم يبعث نبى من " إيلات " حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات.
                      فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو جبل " النور " الذى به غار حراء ، الذى تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحى.
                      وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
                      وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة:
                      جاء من سيناء
                      وأشرق من ساعير
                      وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
                      وفى بعض " النسخ " كانت العبارة: " واستعلن من جبل فاران " بدل " تلألأ ".
                      وأيًا كان اللفظ فإن " تلألأ " و " استعلن " أقوى دلالة من " جاء " و " أشرق " وقوة الدلالة هنا ترجع إلى " المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم " المجىء " وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى (عليهما السلام).
                      أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
                      هذه المغالطة (فاران هى إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجرأم إسماعيل عندما أجهدها العطش هى وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه " سارة " طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " فى المكان المعروف الآن " ببئر سبع " ؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى " إيلات " كذَّبت " زمزم الطهور " دعوى " بئر سبع " ؟‍
                      وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور " عملاقين " تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.
                      ويجىء نص آخر فى التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مهما غالط المغالطون. وهو قول الله لموسى حسب ما تروى التوراة:
                      " أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه " (4).
                      حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى فى آخر عهده بالرسالة ، وكان يهمه أمر بنى إسرائيل من بعده ، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية - أنه سيبعث فيهم رسولا مثل ـ موسى عليه السلام.
                      ولقوة دلالة النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد وقف أهل الكتابين - اليهود والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد ، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام.
                      أما اليهود فلهم فيه رأيان:
                      الأول: أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هى نفى ، ويقدرون قبل الفعل " أقيم " همزة استفهام يكون الاستفهام معها " إنكاريًا " وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك..؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
                      بطلان هذا الرأى
                      وهذا الرأى باطل ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلك ؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكارى محذوفة هى فى قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً.. ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
                      " ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه " ؟! فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبى الذى وعد به المقطع الذى قبله. فدل هذا " العطف " على أن المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفى. ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام..؟!
                      الثانى: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً ، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، بل المراد به نبى من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى ، أو صموئيل..؟!
                      موقف النصارى:
                      أما النصارى فيحملون البشارة فى النص على ـ عيسى عليه السلام ـ وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى ـ عليه السلام.
                      وللنصارى مغالطات عجيبة فى ذلك إذ يقولون إن النبى الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل. ومحمد إسماعيلى فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم.؟! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله. وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم.
                      الحق الذى لا جدال فيه:
                      والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. باطل. ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذى لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وإليكم البيان:
                      إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبى الموعود به فيه بشرطين:
                      أحدهما: أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
                      وثانيهما: أنه مثل موسى عليه السلام صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا فى يوشع بن نون ، ولا فى صموئيل كما يدعى اليهود فى أحد قوليهم.
                      ولا فى عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى.
                      أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسوا من وسط إخوة بنى إسرائيل. ولو كان المراد واحداً منهم لقال فى الوعد: أقيم لهم نبيًا منهم.. ؟! هذا هو منهج الوحى فى مثل هذه الأمور كما قال فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم:
                      (هو الذى بعث فى الأميين رسولاً منهم... ) (5). وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم... ) (6).
                      وأما انتفاء الشرط الثانى ، فلأن: لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل " موسى " عليه السلام.
                      فموسى كان صاحب شريعة ، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة ـ موسىعليه السلام ـ . وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام !! فالمثلية بين هؤلاء - وهى أحد شرطى البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها. ؟!
                      الشرطان متحققان فى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم :
                      وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:
                      فهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحق ، الذى هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل. فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطى البشارة:
                      ومحمد - عليه الصلاة والسلام - صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت - مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التى لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
                      وبهذا يتحقق الشرط الثانى من شرطى البشارة وهو " المثلية " بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم.
                      فى المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التى لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام. ومن ذلك قول داود كما تروى التوراة:
                      " أنت أبرع جمالاً من بنى البشر. انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار ، جلالك وبهاؤك. وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة.. بتلك المسنونة فى قلب أعداء الملك - يعنى الله - شعوب تحتك يسقطون.. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك " (7).
                      اسمعى يانيت وأميلى أذنك ، وانسى شعبك وبيت أبيك ، فيشتهى الملك حسنك ؛ لأنه هو سيدك فاسجدى له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك فى خدرها. منسوجة بذهب ملابسها مطرزة ، تحضر إلى الملك فى إثرها عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك. عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء فى كل الأرض اذكر اسمك فى كل دور فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد. "
                      وقفة مع هذا الكلام :
                      فى المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التى ذكرها داود إلا على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فهو الذى قاتل بسيفه فى سبيل الله وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم.
                      وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء ؛ لأنه خاتم النبيين ، ورسالته عامة خالدة : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (8).
                      ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام فى القرآن الحكيم ، وفى أحاديثه وتوجيهاته ، التى بلغت مئات الآلاف ، وتعددت المصادر التى سجلتها ، وفيها من روائع البيان ، وصفاء الألفاظ ، وشرف المعانى ما ليس فى غيرها.
                      أما المقطع الثانى (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة. فهى التى تترضاها الأمم بالهدايا. وهى ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة ، وهى التى يذكر اسمها فى كل دور فدور وتأتيها قوافل" الحجيج " رجالاً ونساءً من كل مكان فيدخل الجميع فى " قصر الملك " ويحمدها الناس إلى الأبد ؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة: لكل شعوب الأرض الإنس والجن. بل والملائكة. وفى مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين ، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة.
                      خالدة: لم ينته العمل بها بوفاة رسولها ، كما هو الحال فيما تقدم. وإنما هى دين الله إلى الأبد الأبيد.
                      وأشعيا وسفره من أطول أسفار العهد القديم ملىء بالإشارات الواضحة التى تبشر برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، ولولا المنهج الذى أخذنا به هنا وهو عدم التطويل لذكرنا من ذلك الكثير ؛ ولذا فإننا نكتفى بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول:
                      " قومى استنيرى ؛ لأنه قد جاء نورك ، ومجد الرب أشرق عليك.. لأنه ها هى الظلمة تغطى الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم فى نورك ، والملوك فى ضياء إشراقك.
                      ارفعى عينيك حواليك وانظرى. قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك. يأتى بنوك من بعيد ، وتحمل بناتك على الأيدى ، حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع ؛ لأنه تحول إليك ثروة البحر ، ويأتى إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان ، وعيفة كلها تأتى من شبا. تحمل ذهبا ولبانا ، وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحى ، وأزين بيت جمالى.
                      من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها.إن الجزائر تنتظرنى وسفن ترشيش فى الأول لتأتى من بعيد ، وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك … (9).
                      وبنو الغريب يبنون أسوارك ، وملوكهم يخدمونك.. وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم... (10).
                      دلالة هذه النصوص:
                      بلا أدنى ريب فإن هذا الكلام المنسوب إلى أشعيا وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة.
                      فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان وفيه لمحة قوية جدًاإلى نحر الهدى صبيحة العيد. ألم يشر النص إلى غنم قيدار ، وقيدار هو ولد إسماعيل عليه السلام الذى تشعبت منه قبائل العرب. ثم ألم ينص على المذبح الذى تنحر عليه الذبائح ؟
                      كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة. وتلك الإشارات هى طرق حضور الحجاج إليها. ففى القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال. ثم السفن. أما فى العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوى " الطائرات " وبشارة أشعيا تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتى:
                      1- الجمال ، قال فيها: تغطيك كثرة الجمال.؟!
                      2- السفن ، قال فيها: وسفن ترشيش تأتى ببنيك من بعيد ؟!
                      3- النقل الجوى ، وفيه يقول: من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها ؟!!
                      أليس هذا أوضح من الشمس فى كبد السماء.
                      على أن النص ملىء بعد ذلك بالدقائق والأسرار ، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم فى حج أو عمرة.. ؟!
                      ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان ، والقرآن يقرر هذا المعنى فى قول الله تعالى:
                      (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء ) (11).
                      ومنها أن بنى الغريب (يعنى غير العرب) يبنون أسوارها. وكم من الأيدى العاملة الآن ، وذوى الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض وتحت الأرض ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت فى محنة من أهلها أو من غير أهلها إلا هذه " العاصمة المقدسة " فظلت بمأمن من غارات الغائرين وكيد الكائدين ، ومثلها المدينة المنورة.
                      ومنها كثرة الثروات التى مَنَّ الله بها عليها. أليس البترول من ثروات البحر العظمى التى تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيوناً دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم. أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة.
                      والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام ؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدى بعثته صلى الله عليه وسلم.
                      هذه الحقائق لا تقبل الجدل. ومع هذا فإن أهل الكتاب (وخاصة اليهود) يحملون هذه الأوصاف على مدينة " صهيون " ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم.
                      ولكننا نضع الأمر بين يدى المنصفين من كل ملة. أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة " صهيون ".
                      لقد خرب " بيت الرب " فى القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء ، ثم أين ثروات البحر والبر التى تجبى إلى تلك المدينة وأهلها (إلى الآن) يعيشون عالة على صدقات الأمم.
                      وأين هى المواكب التى تأتى إليها براً وبحراً وجَـوًا ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها.
                      وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذى يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟‍
                      إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق ، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى ، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذى تدافع عنه.
                      والفاصل بيننا ـ فى النهاية ـ هو الله الذى لا يُبدل القول لديه.
                      وتنسب التوراة إلى نبى يدعى " حبقوق " من أنبياء العهد القديم ، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات. تنسب إليه التوراة نصوصاً كان يصلى بها. تضمنها الإصحاح الثالث من سفره. وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وإليكم مقاطع منه: " الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبل فاران ـ سلاه ـ جلاله غطى السموات. والأرض امتلأت من تسبيحه وكان لمعان كالنور له من يديه شعاع ، وهناك استتار قدرته.
                      قدامه ذهب الوبأ. وعند رجليه خرجت الحمى. وقف وقاس الأرض ، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية ، وخسفت آكام القوم.
                      مسالك الأزل له000000000000000000000000000000
                      يسخط دست الأمم ، خرجت لخلاص شعبك 000 سحقت رأس بيت الشرير معرياً الأساس حتى العنق 000 سلكت البحر بخيلك..(12).
                      دلالات هذه الإشارات:
                      لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعانى التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان
                      فى مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن ، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذى بمكة المكرمة التى هى فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التى كانت مسرحاً أوليًا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
                      فليس المراد إذن نبيًا من بنى إسرائيل ؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشـارة المماثلة ، التى تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
                      بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسىـ عليه السلام ـ والتبشير بعيسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم أما بشـارة حبقوق فهى خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن فى كلام حبقوق إلا هذا " التحديد " لكان ذلك كافياً فى اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى:
                      منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.. ؟!
                      ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة.
                      ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا فى ظل رسالة الإسلام.
                      على أن كلام حبقوق ملىء بالرمز والإشارات مما يفيدنا فى هذا المجال ولكننا نتجاوزه لأمرين:
                      أحدهما: أن فى الإشارات الصريحة غناء عنها.
                      وثانيهما: عدم التطويل ـ هنا ـ كما اتفقنا.
                      بشاراته صلى الله عليه وسلم فى العهد الجديد
                      أسفار العهد الجديد (الأناجيل والرسائل) حافلة بالنصوص التى يتعين أن تكون " بشارات " برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
                      تلك البشـارات تعـلن أحياناً فى صورة الوعـد بملكوت الله أو ملكوت السموات. وأحيانا أخـرى بالـروح القـدس. ومرات باسـم المعـزى أو الفارقليط ، وهى كلمة يونانية سيأتى فيما بعد معناها ، تلك هى صورة البشارات فى الأناجيل فى صيغها المعروفة الآن.
                      ففى إنجيل متى وردت هذه العبارة مسـندة إلى يحيى ـ عليه السلام ـ المسمى فى الأناجيل: يوحنا المعمدان. وفيها يقول: " توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السموات " (13).
                      فمن هو ملكوت السموات الذى بشر به يحيى ؟! هل هو عيسى عليه السلام ـ كما يقول النصارى..؟!
                      هذا احتمال.. ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى عليه السلام نفس العبارة: " توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السموات " (14).
                      فلـو كان المراد بملكـوت السموات ـ هذه ـ عيسى عليه السلام لما وردت هذه " البشارة " على لسان عيسى ؛ إذ كيف يبشر بنفسه ، وهو قائم موجود ، والبشـارة لا تكون إلا بشىء محـبوب سيأتى ، كما أن الإنذار ـ قسيمه ـ لا يكون إلا بشىء " مكروه " قد يقع. فكلاهما: التبشير والإنذار ـ أمران مستقبلان.
                      إن ورود هذه العبارة عن عيسى نفسه تخصيص لذلك العموم المستفاد من عبارة يحيى عليهما السلام. فدل ذلك على أن المراد بملكوت السموات رسول آخر غير عيسى. ولم يأت بعد عيسى ـ باعتراف الجميع ـ رسول غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
                      فدل ذلك على أنه هو المراد بملكوت السموات فى عبارة ـ عيسى عليه السلام ـ قولاً واحداً ـ وباحتمال أرجح من عبارة يحيى ،إذ لا مانع عندنا ـ أن يكون يحيى عليه السلام قد بشر بها بعيسى ـ عليه السلام.
                      أما بشارة عيسى فلا موضع لها إلا الحمل ـ القطعى ـ على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
                      وفى صيغة الصلاة التى علمها المسيح لتلاميذه ـ كما يروى مَتَّى نفسه ـ بشارة أخرى بنبى الإسـلام. وهذا هو نص مَتَّى فى هذا: " فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذى فى السموات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك " (15).
                      ووردت هذه الصيغة فى إنجيل لوقا هكذا:
                      " متى صليتم فقـولوا: أبانا الذى فى السموات ليتقـدس اسمك ليأت ملكوتك.. " (16).
                      ويذكر لوقا أن المسيح جمع تلاميذه ، وعلمهم كيف يقهرون الشياطين ، ويشفـون الأمراض ثم قال: " وأرسلهم ليكرزوا ـ أى يبشروا ـ بملكوت الله " (17).
                      أما مرقس فيسند هذه البشارة إلى المسيح نفسه إذ يقول: " جاء يسوع إلى الجبل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله " (18).
                      فهـؤلاء ثلاثة من التلامذة يتفقـون على أن يحيى وعيسى (عليهما السلام) قد بشرا بملكوت الله الذى اقترب. فمن المراد بملكوت الله إذا لم يكن هو رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ؟
                      وأكاد أجزم بأن عبارة " المسيح ، قد كمل الزمان " لا تعنى سوى انتهاء عصر الرسالات الموقوتة وإقبال الرسالة الخالدة..!
                      ـ 3 ـ
                      أما يوحنا صاحب رابع الأناجيل. فإنه يذكر هذه البشارات فى مواضع متعددة من إنجيله. ومن ذلك ما يرويه عن المسيح ـ عليه السلام ـ " الذى لا يحبنى لا يحفظ كلامى ، والكلام الذى تسمعونه ليس لى بل للأب الذى أرسلنى. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزِّى (19) الروح القدس ، الذى سيرسله الأب باسمى فهو يعلمكم كل شىء ويذكركم بما قلته لكم " (20).
                      كما يروى يوحنا قول المسيح ـ الآتى ـ مع تلاميذه: " إنه خير لكم أن أنطلق . إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية ، وعلى بر وعلى دينونة " (21).
                      ويروى كذلك قول المسيح لتلاميذه: " وأما إذا جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه لا يتكلم من نفسه. بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ".. ؟! (22).
                      فمن هو المُعَزِّى أو روح القدس أو روح الحق الذى بشر به المسيح عليه السلام حسبما يروى يوحنا..؟!
                      إن المسيح يقول:
                      إن ذلك المُعَزِّى أو الروح القدس لا يأتى إلا بعد ذهاب المسيح ، والمسيح ـ نفسه ـ يُقـِرُّ بأن ذلك المُعَزِّى أو الروح أَجَلُّ منه شأنا ، وأعم نفعاً وأبقى أثراً ، ولذلك قال لتلاميذه: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَرِّى.
                      وكلمة " خير " أفعل تفضيل بمعنى أكثر خيراً لكم ذهابى ليأتيكم المعزى ولو كان " المُعَـزَّى " مسـاويا للمسيح فى الدرجة لكانا مستويين فى الخيرية ولما ساغ للمسيح أن يقول خير لكم أن أنطلق.
                      ومن باب أولى لو كان " المُعَزِّى " أقل فضلاً من المسيح. فعبارة المسيح دليل قاطع على أنه بشر بمن هو أفضل منه ، لا مساوٍ له ولا أقل.
                      ثم يصف المسيح ذلك المُعَزِّى أو الروح بأوصـاف ليست موجـودة فى المسيح نفسه ـ عليه السلام ـ . ومن تلك الأوصاف:
                      أـ إنه يعلم الناس كل شىء.وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح فى الدنيا والدين. وذلك هو الإسلام.
                      ب ـ إنه يبكت العالم على خطية. والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه شمول الإسلام لكل أجـناس البشر ، عربا وعجماً ، فى كل زمان ومكان. ولم توصف شريعة بهذين الوصفين إلا الإسلام.
                      جـ ـ إنه يخـبر بأمور آتية ، ويذكـر بما مضى. وقد تحقق هذا فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
                      فأخبر بأمور آتية لم يخبر بها من سبقه أو أخبروا ولكن ليس على وجه التفصيل والتأكيد الذى كان على يديه صلى الله عليه وسلم فكم فى القرآن من أمور أخبر بها قبل أن تقع فوقعت كما أخبر ، وكم فيه من الإخبار بما سيكون فى الحياة الآخرة من أوصاف الجنة ، والنار ، والبعث ، وعلامات الساعة ، وتخاصم أهل النار ، وحوار أصحاب الجنة مع " رجال الأعراف " ، وندم من باعوا دينهم بدنياهم. إلخ.. إلخ.

                      وذكر بما مضى من أحوال الأمم ، وقيام الحضارات ثم سقوطها وأحوال المرسلين وما بلغوا به أقوامهم والشهادة لهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء ، ومسلك بعض الأقوام من رسلهم والصراع الذى دار بين المحقين وأهل الباطل ، وعاقبة بعض المكذبين.. إلخ..إلخ.

                      ثم استوعبت رسالته الحياة كلها فأرست قواعد الاعتقاد الصحيح وسنت طرق العبادة المثمرة ، ووضعت أصول التشريع فى كل ما هو متعلق بالحياة عاجلها وآجلها ، ووضحت العلاقة السليمة بين المخلوق والخالق ، وبين الناس بعضهم بعضاً. وحررت العقول ، وطهرت القلوب ورسمت طريق الهدى لكل نفس ولكل جماعة ولكل أمة. أى أنها أرشدت إلى كل شىء. وعلمت كل شىء مما يحتاج تعلمه إلى وحى وتوقيف..!
                      ذلك هو الإسلام ، ولا شىء غير الإسلام.
                      وشهدت ـ فيما شهدت ـ للمسيح ـ عليه السلام ـ بأنه رسول كريم أمين أدى رسالته وبشر وأنذر بنى إسرائيل. وأنه عبده ورسوله : (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ) (23).
                      وشهادة رسول الإسلام لعيسى ـ عليه السلام ـ منصوص عليها فى بشارات عيسى نفسه به (صلى الله عليه وسلم). فاسمع إلى يوحنا وهو يروى عن المسيح ـ عليه السلام ـ قوله الآتى. " ومتى جاء المُعَزِّى الذى سأرسله " أنا " إليكم من الأب روح الحق من عند الأب ينبثق فهـو يشهـد لى.. وتشهـدون أنتم أيضاً لأنكم معى من الابتداء " (24).
                      روح القـدس هذا ، أو المُعَزِّى ، أو روح الحق لا يمكن أن يكون عيسى ؛ لأن عـيسى لم يبشر بنفسـه ، وهو كان موجوداً ساعة قال هذا ولا يمكن أن يكون المراد به نبيًا بعد عيسى غير محمد (صلى الله عليه وسلم) لأننا متفقون على أن عيسى لم يأت بعده نبى قبل رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
                      فتعين أن يكون روح القدس ، أو المعزِّى ، أو روح الحق تبشيرا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ فيه تجتمع تلك الأوصاف ، كما يتحقق فيه معنى " الأفضلية " إذ هو خاتم النبيين ، الذى جاء بشريعة خالدة عامة ، وعلى هذا حملنا قبلا قول عيسى: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى "
                      وهذا إقرار من عيسى بأن المبشر به أفضل من المُبَشَّر وكفى بذلك شواهد.
                      أما البشارة باسم " الفارقليط " فقد خلت منها الترجمات العربية المعاصرة للكتاب المقـدس. ومعـلوم أن الكتاب المقدس خضع لترجمات وطبعات متعددة ؛ لدرجة أن الترجمات العربية لتختلف من نسخة إلى أخرى اختلافا بيناً.
                      وتحت يدى ـ الآن ـ نسختان من الطبعـات العربية كلتاهما خاليتان من كلمة الفارقليط ، وموضوع مكانها كلمة المعزى.
                      بيد أننى وجدت أن ابن القيم ، وابن تيمية ، كل منهما قد نقل عن نسخ خطية كانت معاصرة لهما نصوصاً فيها التصريح باسم" الفارقليط " كما أن الشيخ رحمة الله الهندى (رحمه الله) نقل فى كتابه " إظهار الحق " نصوصاً " عن ترجمات عربية ترجع إلى أعوام: 1821 ـ 1831 ـ 1844م وتمت فى لندن
                      معنى " الفارقليط ":
                      كلمة يونانية معناها واحد مما يأتى:
                      الحامد ـ الحماد ـ المحمود ـ الأحمد.
                      أو معناها كل ما تقدم. فمعنى " فارقليط " يدور حول الحمد وجميع مشتقاته المشار إليها.
                      وكل واحد منها يصح إطلاقه على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فهو الحامد والحمّاد والمحمود والأحمد ، والمحمد.
                      وفى الطبعات ـ اللندنية ـ المتقدم ذكرها ورد النص هكذا: " إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر ، ليثبت معكم إلى الأبد ".
                      " الفارقليط " روح القـدس الذى يرسله الآب باسمى هو يعلمكم كل شىء ، وهو يذكركم كل ما قلته لكم " (25).
                      ومقارنة هذين النصـين بالنص المقابل لهما الذى نقلناه آنفا عن إنجيل يوحنا من الطبعات العربية الحديثة تريك أن الطبعات الحديـثة حـذفت كلمة " الفارقليط " ووضعت مكانها كلمة " المعزى " كما تريك أن الطبعات الحديثة حذفت جملة: " ليثبت معـكم إلى الأبد " وهو نص على خلود الإسلام على أنهم عادوا واعترفوا بأن كلمة " المعزى " التى فى الطبعات الحديثة للكتاب المقـدس أصلها مترجـم عن كلمة يونانية لفظاً ومعنى وهى " باراكليتس " ومعناها المعزى ، وليست " فارقليط " أو " بارقليط " التى معناها الحماد والحامد 000 والتى يتمسك بها المسلمون.. ؟!
                      وهذه المحاولات مردودة لسببين:
                      أولهما: ليس نحن ـ المسلمين ـ الذين قاموا بعمل بالطبعات القديمة التى فيها " الفارقليط " وإنما طبعها النصارى قديماً. فعملهم حجة على الطبعات الحديثة وهم غير متهمين فى عملهم هذا.
                      وثانيهما: ولو كانت الكلمة " هى: الباراكليتس " فلماذا خلت منها الطبعات القديمة والنسخ المخطوطة ؟!
                      بل ولماذا خلت منها الطبعات الحديثة..؟!
                      وأيا كان المدار: فارقليط ، أو باراكليتس ، أو المعزى ، أو الروح القدس فنحن لا نعول على الكلمة نفسها بقدر ما نعول على الأوصاف التى أجريت عليها. مثل يعلمكم كل شىء ـ يمكث معكم إلى الأبد. فهـذه الأوصـاف هى لرسـول الإسـلام صلى الله عليه وسلم ومهما اجتهدتم فى صرفها عنه فلن تنصرف.
                      ولهم " شبهة " أخرى يحلو لهم تردادها وهى: محمد صلى الله عليه وسلم عربى الجنس واللسان ، فكيف يرسله الله إلى أمم وأجناس غير عربية.. وكيف يكلف الله الناس برسالة لا يعرفون لغتها ولا عهد لهم بالتحدث معها. وكيف يستطيعون أن يفهموا القرآن ، وتوجيهات رسول الإسلام ، وهما باللغة العربية.؟‍‍!
                      رد الشبهة نرد عليها من طريقين:
                      الأول: وهو مستمد من واقـع القـوم أنفسهم. فهم يدعون تبعاً لما قال " بولس " أن عيسى عليه السلام مرسل لخلاص العالم كله. وأنه أمر حوارييه أن يكرزوا كل العالم برسالة الخلاص ، وفى أيامنا هذه كثرت المنشورات التى تقول: المسيح مخلص العالم. وهنا نسأل القوم سؤالاً: أية لغة كانت لغة المسيـح ـ عليه السلام ـ وحوارييه ؟! هل هى العبرانية أم اليونانية ؟! وأيا كان الجواب فإن المسيح كان يتكلم لغة واحدة. وأوحى إليه
                      الإنجيل بلغة واحدة.. فعلى أى أساس إذن قلتم: إنه منقذ لكل العالم ؟! هل كل العالم كان وما يزال يعرف لغة المسيح ؟! أم أن العالم أيام المسيح كان يتكلم بعدة لغات.. والآن يتكلم بمئات اللغات..؟! فإن كنتم قد ادعيتم أن المسيح هو منقذ كل العالم مع تسليمكم بأنه كان يتكلم بلغة واحدة فلماذا تنكرون على رسول الإسلام أن يكون مرسلاً لكل العالم؟! وما الفرق بين رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام حتى تحظروا عليه ما استبحتموه للمسيح ؟! أهذا عدل.. أهذا إنصاف ؟!
                      وإن تنازلتم عن عالمية المسيح فأنتم مدينون..؟!
                      الثانى: وهو مستمد من طبيعة الإسلام. ومن تاريخه الطويل الحافل بكل عجيب.
                      نعم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عربى اللسان ، والجنس ، والقرآن العظيم الذى جاء به عربى اللسان ، عالمى التوجيه والتشريع والسلطان. ووحدة اللغة فى الإسلام مثل وحدة العقيدة فيه. ولم يحل دون انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب غير العربية أن لغة رسالته عربية ورسوله عربى ورواده الأوائل عرب. هذه الاعتبارات لم تحل دون نشر الإسلام لجميع شعوب الأرض باختلاف لغاتها وعقائدهـا وأجناسها. وكان سلوك الدعوة إلى الإسلام حكيما ، وهذه أبرز ملامحه:
                      أولاً: إن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم أرسل رسله يحملون رسائله وكتبه إلى كل رؤساء القبائل وملوك الأمم والشعوب ، وقد بدأت هذه الطريقة بعد وقوع صلح الحديبية ، وكل حامل رسالة أو كتاب إلى رئيس أو ملك كان على علم بلغة من هم المبعوث إليهم.
                      فقد أرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبى.
                      وأرسل إلى المقوقس عظيم القبـط بمصـر حاطب بن أبى بلتعة. وأرسل إلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمى.
                      وأرسل إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى شجاع بن ذهب الأسدى. وكان هؤلاء الرسل عالمين بلغات من أرسلوا إليهم.
                      كما كان صلى الله عليه وسلم يحتفظ بمترجمين يترجمون له ما يرد من رسائل لغتها غير العربية.
                      ثانياً: إن الملوك والرؤساء كان لديهم مترجمون ـ كذلك ـ يترجمون لهم ما يرد من رسول الإسلام أو يقومون بالترجمة من العربية إلى غيرها ، ومن غير العربية إلى العربية فى حالة ما إذا كان " المرسل " وفداً يحمل رسائل شفوية للتبليغ.
                      ثالثاً: إن اليهود وكثيراً من النصارى كانوا يعرفون اللسان العربى ، ومن النصارى من هم عـرب خلص كنصـارى نجـران ، كما أن العجم من الفرس والروم كان من بينهم عرب يعايشونهم ويقيمون بينهم.
                      رابعاً: كان صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على تعلم لغات الأمم ومما يروى عنه ـ عليه الصلاة السلام ـ قوله: من تعلم لغة قوم أمن غوائلهم.
                      خامساً: لما اجتازت الدعوة مرحلة الدعوة بالرسالة والكتاب والوفد ، والبعث ، ودخلت فى مرحلة الفتح كان الجنود المسلمون ينشرون اللغة العربية كما ينشرون الإسلام نفسه. وما من أرض حل بها الإسلام إلا وقد حلت بها اللغة العربية تعضده ، وتؤازره فى انسجام عجيب ، فقضت اللغة العربية على لغات الأمم والشعوب وحلت هى محلها. قضت على القبطية فى مصر وعلى الفارسية فى العراق وعلى البربرية فى شمال غرب أفريقيا كما قضت على السريانية وغيرها من اللغات ، وأصبحت هى لغة الحياة والإدارة والكتابة والنشر والتأليف.
                      سادساً: قام العرب المسلمون بترجمة ما دعت إليه المصلحة من تراث الأمم المفتوحة ، ففتحوا نوافذ الفكر ، والثقافة ، والمعرفة لمن لا يعرف غير العربية من العرب المسلمين. كما ترجموا من الفكر الإسلامى ما يصلح ضرورة لغير العرب من المسلمين فنقلوه من العربية إلى غير العربية وفاءً بحق الدعوة والتبليغ.
                      سابعاً: أقبل غير العرب من الذين دخلوا الإسلام على تعلم العربية وتركوا لغاتهم الأصلية وأصبحوا عربى اللسان واللغة. ومن هـؤلاء أعلام لا يحصون كان لهم فضل عظيم فى إنماء الفكر الإسلامى منهم اللغويون ، والنحويون ، والبيانيون ، والفقـهاء ، والأصوليون ، والمفسرون ، والمحدثون ، والمتكلمون ، والفلاسفة ، والمناطـقة ، والرياضيون ، والأطباء ، والفلكيون ، بل والشعراء والأدباء والرحالة والجغرافيون ، وغيرهم ، وغيرهم.
                      إن كل مجال من مجـالات النشـاط العلمى فى الإسلام نبغ فيه كثير من غير العرب بعد تعلمهم اللغة العربية التى كانوا فيها مثل أنجب وأحذق وأمهر أبنائها. ولو رحنا نحصى هؤلاء لضاق بنا السهل والوعر ، فلتكن الإشارة إليهم نائباً عن ذلك التفصيل غير المستطاع.
                      إن وحدة اللغة فى الإسلام لم تحل دون نشر الإسلام ، فلم يمض طويل من الزمن حتى بلغت الدعوة مشارق الأرض ومغاربها.
                      وصلت إلى الهند والصين فى أقصى الشرق ، وإلى شواطئ المحيط الأطلسى فى أقصى الغرب وإلى بلاد النوبة جنوباً وإلى جبال البرانس جنوبى فرنسا شمالاً. وتوطدت فى قلب الكون:
                      الحجاز واليمن والشام وفارس وبلاد ما بين النهرين وما وراء النهرين ومصر وجنوب الوادى ، وتركت اللغة العربية الواحدة آثارها فى كل قطر أشرقت فيه شمس الإسلام ، وحتى ما فارقه الإسلام ـ كأسبانيا ـ ما تزال حضارة الإسلام وآثار العربية تغزو كل بيت فيها. وكما استوعب الإسلام مناهج الإصلاح فى كل مجالات الحياة الإنسـانية استوعـبت " اللغة العربية " كل أنماط التعبير ووسعت بسلطانها كل وسائل التسجيل والتدوين.. وامتلكت ناصية البيان الرائع الجميل ، فهى لغة علم ، ولغة فن ومشاعر ، ووجدان. وقانون وسلام وحرب ، ودين ودنيا.
                      إن أكثر من ألف مليون مسلم ينتشرون فى ربوع الأرض الآن لم يعجز الكثير منهم من غير العرب عن حفظ كتاب الله " القرآن العظيم " ويتلونه كما أنزل بلسان عربى فصيح. فإذا عاد إلى حديثه اليومى لجأ إلى لغة أمه وأبيه وبيئته.
                      ومسلم غير عربى استطاع أن يحفظ أو يقرأ القرآن بلغته العربية الفصحى لهو قادر ـ لو أدى المسلمون العرب واجبهم نحو لغة التنزيل ـ أن يقرأ بها كتب الحديث ، والفقه ، والتشريع ، والنحو ، والصرف ، والبلاغة ، والأدب وسائر العلوم والفنون.
                      ولكنه ذنب العـرب المسـلمين لا ذنب اللغة. فهى مطواعة لمن يريد أن يتقنها إن وجد معلماً مخلصاً. والأمل كبير ـ الآن ـ فى أن يلتقى كل المسلمين على لغة واحدة ، كما التقوا على عقيدة واحدة.
                      إن رسـول الإسـلام صلى الله عليه وسلم عالمى الدعوة وإن كان عربى اللسان والجنس.
                      وإن الإسلام الحنيف عالمى التوجيه والسلطان وإن كانت لغة تنزيله عربية ورسوله عربيًا، ورواده الأوائل عرباً.
                      المراجع
                      (1) رددنا على هذه الادعاءات فى " الإسلام فى مواجهة الاستشراق فى العالم " مرجع سبق ذكره.
                      (2) سفر التثنية: الإصحاح (33) الفقرات (1-2).
                      (3) سفر التكوين (21 - 21).
                      (4) سفر التثنية: الإصحاح (18) الفقرات (18 - 19).
                      ويكون المعنى عليه: كيف أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم ؟‍ أى لا أفعل هذا.
                      (5) الجمعة: 2.
                      (6) البقرة: 129.
                      (7) المزمور (45) الفقرات (2 - 17) مع الحذف اليسير. (8) الأنبياء: 107.
                      (9) مكان النقط هنا كلام لم نذكره هو " قدوس إسرائيل لأنه مجدك " ؟! وهذا مقطع مضاف بكل تأكيد والهدف منه صرف الكلام عن معناه الظاهر!!
                      (10) سفر أشعياء الأصحاح (60) الفقرات (4-12) مع حذف يسير.
                      (11) القصص: 57.
                      (12) (3 ـ3 ـ15) مع الحذف.
                      (13) الإصحاح (3) الفقرة (2).
                      (14) الإصحاح (4) الفقرة (17).
                      (15) الإصحاح (6) الفقرة (9ـ10).
                      (16) الإصحـاح (11) الفقـرة (2).
                      (17) الإصحاح (9) الفقرة (2).
                      (18) الإصحاح (1) الفقرة (14 ـ15).
                      (19) المُعَزِّى: اسم فاعل من الفعل مضاعف العين عزى .
                      (20) الإصحاح (14) الفقرات (24 ـ 26).
                      (21) الإصحاح (16) الفقرتان (7 ـ8).
                      (22) الإصحاح (16) الفقرة (13).
                      (23) مريم: 34.
                      (24) الإصحاح (15) فقرتا (26 ـ 27).
                      (25) انظر كتاب " إظهار الحق " ص 528 للشيخ رحمة الله الهندى تحقيق الدكتور أحمد حجازى السقا. نشر دار التراث.




                      49- قوم النبى محمد صلى الله عليه وسلم زناة من أصحاب الجحيم !
                      الرد على الشبهة:
                      ما ذنب النبى محمد صلى الله عليه وسلم أن يقع قومه ومن أرسل إليهم فى خطيئة الزنا أو أن يكونوا من أصحاب الجحيم ؟ مادام هو صلوات الله وسلامه عليه قد برئ من هذه الخطيئة ولاسيما فى مرحلة ما قبل النبوة ، وكانت مرحلة الشباب التى يمكن أن تكون إغراء له ولأمثاله أن يقعوا فى هذه الخطيئة ؛ لاسيما وأن المجتمع الجاهلى كان يشجع على ذلك وكان الزنا فيه من الأمور العادية التى يمارسها أهل الجاهلية شبانًا وشيبًا أيضًا. وكان للزنا فيه بيوت قائمة يعترف المجتمع بها ، وتُعلق على أبوابها علامات يعرفها بها الباحثون عن الخطيئة ، وتعرف بيوت البغايا باسم أصحاب الرايات.
                      ومع هذا الاعتراف العلنى من المجتمع الجاهلى بهذه الخطيئة ، ومع أن ممارستها للشباب وحتى للشيب لم تكن مما يكره المجتمع أو يعيب من يمارسونه ؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يقع فيها أبدًا بل شهدت كل كتب السير والتواريخ له صلى الله عليه وسلم بالطهارة والعفة وغيرهما من الفضائل الشخصية التى يزدان بها الرجال وتحسب فى موازين تقويمهم وتقديرهم ، وأرسله الله سبحانه ليغير هذا المنكر. هذه واحدة والثانية: أن الرسالة التى دعا بها ودعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم حرّمت الزنا تحريماً قاطعاً وحملت آياتها فى القرآن الكريم عقاباً شديداً للزانى والزانية يبدأ بعقوبة بدنية هى أن يجلد كل منهما مائة جلدة قاسية يتم تنفيذها علناً بحيث يشهدها الناس لتكون عبرة وزجراً لهم عن التورط فيها كما تقول الآية الكريمة:(الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (1).
                      فإذا كان الزانيان محصنين أى كل منهما متزوج ارتفعت العقوبة إلى حدّ الإعدام رمياً بالحجارة حتى الموت.
                      ولا تقف العقوبة عند ذلك بل نرى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تضع مَنْ يمارسون هذه الخطيئة فى مرتبة دونية من البشر حتى لكأنهم صنف منحط وشاذ عن بقية الأطهار الأسوياء فتقول الآية الكريمة عنهم: (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) (2).
                      من الذى يحمل المسئولية عن الخطيئة ؟
                      فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد طهر من هذه الخطيئة فى المجتمع الذى كان يراها عادية ومألوفة ، ثم كانت رسالته صلى الله عليه وسلم تحرمها التحريم القاطع والصريح ، وتضع مرتكبيها فى مرتبة الانحطاط والشذوذ عن الأسوياء من البشر..
                      فلِمَ يُعَيّر محمد صلى الله عليه وسلم بأن بعض قومه زناة ؟ وهل يصح فى منطق العقلاء أن يعيبوا إنساناً بما فى غيره من العيوب ؟ وأن يحملوه أوزار الآخرين وخطاياهم ؟.
                      وهنا يكون للمسألة وجه آخر يجب التنويه إليه وهو خاص بالمسئولية عن الخطيئة أهى فردية خاصة بمن يرتكبونها ؟ أم أن آخرين يمكن أن يحملوها نيابة عنهم ويؤدون كفارتها ؟ !
                      إن الإسلام يمتاز بأمرين مهمين:
                      أولهما: أن الخطيئة فردية يتحمل من وقع فيها وحده عقوبتها ولا يجوز أن يحملها عنه أو حتى يشاركه فى حملها غيره وصريح آيات القرآن يقول: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (3). ثم: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) (4). وورد هذا النص فى آيات كثيرة.
                      أما الأمر الثانى: فيما أقره الإسلام فى مسألة الخطيئة فهو أنها لا تورث ، ولا تنقل من مخطئ ليتحمل عنه وزره آخر حتى ولو بين الآباء وأبنائهم وفى هذا يقول القرآن الكريم:(واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ) (5).
                      (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ) (6).
                      (ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب) (7).
                      (يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها ) (8).
                      (ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) (9).
                      (كل نفس بما كسبت رهينة) (10).
                      وغير هذا كثير مما يؤكد ما أقرَّه الإسلام من أن الخطايا فردية وأنها لا تورث ولا يجزى فيها والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً.
                      وما دام الأمر كذلك فلم يلام محمد صلى الله عليه وسلم أو يعاب شخصه أو تعاب رسالته بأن بعض أهله أو حتى كلهم زناة مارسوا الخطيئة التى كان يعترف بها مجتمعه ولا يجزى فيها شيئاً أو ينقص الشرف والمروءة أو يعاب بها عندهم من يمارسها.
                      وحسب محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يقع أبداً فى هذه الخطيئة لا قبل زواجه ولا بعده ، ثم كانت رسالته دعوة كبرى إلى التعفف والتطهر وإلى تصريف الشهوة البشرية فى المصرف الحلال الذى حض الإسلام عليه وهو النكاح الشرعى الحلال ، ودعا المسلمين إلى عدم المغالاة فى المهور تيسيراً على الراغبين فى الحلال ، حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزوج الرجل بأقل وأيسر ما يملك من المال ، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أن شاباً جاءه يرغب إليه فى الزواج وما كان معه ما يفى بالمراد فقال له صلى الله عليه وسلم: [ التمس ولو خاتماً من حديد ] (11).
                      أكثر من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يزوج بعض الصحابة بما يحفظ من القرآن الكريم.
                      لهذا لم تقع خطايا الزنا فى المجتمع فى العهد النبوى كله إلا فى ندرة نادرة ، ربما لأن الحق سبحانه شاء أن تقع وأن يقام فيها الحد الشرعى ليسترشد بها المجتمع فى مستقبل الأيام ؛ كتشريع تم تطبيقه فى حالات محددة يكون هادياً ودليلاً فى القضاء والحكم.
                      هذا عن اتهام محمد صلى الله عليه وسلم بأن أهله زناة ، وهو كما أوضحنا اتهام متهافت لا ينال من مقام النبوة ولا يرتقى إلى أقدام صاحبها صلى الله عليه وسلم. وقد أتينا عليه بما تستريح إليه ضمائر العقلاء وبصائر ذوى القلوب النقية.
                      أما عن اتهامه صلى الله عليه وسلم بأن أهله من أصحاب الجحيم ، فهى شهادة لجلال التشريع الذى أنزله الحق على محمد فأكمل به الدين وأتم به النعمة.
                      بل إن ما يعيبون به محمداً صلى الله عليه وسلم من أن أهله من أصحاب الجحيم ليس أبداً عيبًا فى منطق العقلاء ذوى النصفة والرشد ؛ بل إنه وسام تكريم لمحمد صلى الله عليه وسلم ولرسالته الكاملة والخاتمة فى أن التشريع الذى نزلت به سوَّى بين من هم أقرباء محمد صلى الله عليه وسلم وبين من هم غرباء عنه فى جميع الأحكام ثواباً وعقوبة.
                      بل إن التشريع الذى نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نص صراحة على التزام العدل خاصة حين يكون أحد أطرافه ذا قربى فقال القرآن:(ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) (12). وقوله: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) (13).
                      أما فى السنة النبوية فحديث المرأة المخزومية ـ من بنى مخزوم ذوى الشرف والمكانة ـ التى ارتكبت جريمة السرقة وهى جريمة عقوبتها حدّ السرقة وهو قطع يد السارق كما تنص عليه آيات القرآن ، وشغل بأمرها مجتمع المدينة لئلا يطبق عليها الحدّ فتقطع يدها وهى ذات الشرف والمكانة فسعوا لدى أسامة بن زيد – حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لها لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ أتشفع فى حد من حدود الله ؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ] (14).
                      وعليه فكون بعض آل محمد وذوى قرباه من أصحاب الجحيم كأبى لهب عمه الذى نزلت فيه سورة المسد: (تبت يدا أبى لهب وتب ) (15) وغيره ممن كان نصيرًا لهم مع بقائه على شركه..
                      كون هؤلاء من أصحاب الجحيم لأنهم بقوا على شركهم ولم تنفعهم قرابتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم هو فى الواقع شهادة تقدير تعطى لمحمد ورسالته التى سوَّت فى العدل بين القريب وبين الغريب ، ولم تجعل لعامل القرابة أدنى تأثير فى الانحياز ضد الحق لصالح القريب على الغريب. وما قاله المبطلون هو فى الحق وسام وليس باتهام.
                      وصلى الله وسلم على النبى العظيم.
                      المراجع
                      (1) النور: 2.
                      (2) النور: 3.
                      (3) البقرة: 286.
                      (4) الأنعام: 164.
                      (5) البقرة 48.
                      (6) يونس: 30.
                      (7) إبراهيم: 51.
                      (8) النحل: 111.
                      (9) الجاثية: 22.
                      (10) المدثر: 38.
                      (11) رواه البخارى [ كتاب النكاح ].
                      (12) التوبة: 113.
                      (13) الأنعام: 152.
                      (14) رواة البخارى [ كتاب أحاديث الأنبياء ].
                      (15) المسد: 1.


                      50- مات النبى صلى الله عليه وسلم بالسم
                      الرد على الشبهة:
                      حين تصاب القلوب بالعمى بسبب ما يغشاها من الحقد والكراهية يدفعها حقدها إلى تشويه الخصم بما يعيب ، وبما لا يعيب ، واتهامه بما لا يصلح أن يكون تهمة ، حتى إنك لترى من يعيب إنساناً مثلاً بأن عينيه واسعتان أو أنه أبيض اللون طويل القامة ، أو مثلاً قد أصيب بالحمى ومات بها ، أو أن فلاناً من الناس قد ضربه وأسال دمه ؛ أو أن تعيب الورد بأن لونه أحمر مثلاً ؛ وغير ذلك مما يستهجنه العقلاء ويرفضونه ويرونه إفلاسًا وعجزًا.
                      إن محمداً صلى الله عليه وسلم قدمت له امرأة من نساء اليهود شاة مسمومة فأكل منها فمات صلى الله عليه وسلم.
                      وينقلون عن تفسير البيضاوى:
                      أنه لما فتحت خيبر واطمأن الناس سألت زينب بنت الحارس - وهى امرأة سلام بن مشكم (اليهودى) - عن أى الشاة أحب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فقيل لها: إنه يحب الذراع لأنه أبعدها عن الأذى فعمدت إلى عنزة لها فذبحتها ثم عمدت إلى سمّ لا يلبث أن يقتل لساعته فسمَّت به الشاة ، وذهبت بها جارية لها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا محمد هذه هدية أهديها إليك.
                      وتناول محمد الذراع فنهش منها.. فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع والكتف تخبرنى بأنها مسمومة ؛ ثم سار إلى اليهودية فسألها لم فعلت ذلك ؟ قالت: نلت من قومى ما نلت … وكان ذلك بعد فتح " خيبر " أحد أكبر حصون اليهود فى المدينة وأنه صلى الله عليه وسلم قد عفا عنها.
                      ثم يفصحون عن تفسير البيضاوى:
                      أنه صلى الله عليه وسلم لما اقترب موته قال لعائشة ـ رضى الله عنها ـ يا عائشة هذا أوان انقطاع أبهرى (1).
                      فليس فى موته صلى الله عليه وسلم بعد سنوات متأثرًا بذلك السُّم إلا أن جمع الله له بين الحسنيين ، أنه لم يسلط عليه من يقتله مباشرة وعصمه من الناس كتب له النجاة من كيد الكائدين ، كذلك كتب له الشهادة ليكتب مع الشهداء عند ربهم وما أعظم أجر الشهيد.
                      وأيضًا.. لا شك أن عدم موته بالسم فور أكله للشاة المسمومة وحياته بعد ذلك سنوات يُعد معجزة من معجزاته ، وعَلَمًا من أعلام نبوته يبرهن على صدقه ، وعلى أنه رسول من عند الله حقًا ويقينًا.
                      وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يموت فى الأجل الذى أجله له رغم تأثره بالسم من لحظة أكله للشاة المسمومة حتى موته بعد ذلك بسنوات.
                      المراجع
                      (1) الأبهران عرقان متصلان بالقلب وإذا قطعا كانت الوفاة.


                      51- تعدد زوجات النبى محمد صلى الله عليه وسلم
                      قالوا إنه صلى الله عليه وسلم:
                      * تزوج زوجة ابنه بالتبنى (زيد بن حارثة).
                      * أباح لنفسه الزواج من أى امرأة تهبه نفسها (الخلاصة أنه شهوانى).
                      الرد على الشبهة:
                      الثابت المشهور من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج إلا بعد أن بلغ الخامسة والعشرين من العمر.
                      والثابت كذلك أن الزواج المبكر كان من أعراف المجتمع الجاهلى رغبة فى الاستكثار من البنين ليكونوا للقبيلة عِزًّا ومنعة بين القبائل.
                      ومن الثابت كذلك فى سيرته الشخصية صلى الله عليه وسلم اشتهاره بالاستقامة والتعفف عن الفاحشة والتصريف الشائن الحرام للشهوة ، رغم امتلاء المجتمع الجاهلى بشرائح من الزانيات اللاتى كانت لهن بيوت يستقبلن فيها الزناة ويضعن عليها " رايات " ليعرفها طلاب المتع المحرمة.
                      ومع هذا كله ـ مع توفر أسباب الانحراف والسقوط فى الفاحشة فى مجتمع مكة ـ لم يُعرَف عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلا التعفف والطهارة بين جميع قرنائه ؛ ذلك لأن عين السماء كانت تحرسه وتصرف عنه كيد الشيطان.
                      ويُرْوَى فى ذلك أن بعض أصحابه الشباب أخذوه ذات يوم إلى أحد مواقع المعازف واللهو فغشَّاه الله بالنوم فما أفاق منه إلا حين أيقظه أصحابه للعودة إلى دورهم.
                      هذه واحدة..
                      أما الثانية فهى أنه حين بلغ الخامسة والعشرين ورغب فى الزواج لم يبحث عن " البكر " التى تكون أحظى للقبول وأولى للباحثين عن مجرد المتعة. وإنما تزوج امرأة تكبره بحوالى خمسة عشر عامًا ، ثم إنها ليست بكرًا بل هى ثيب ، ولها أولاد كبار أعمار أحدهم يقترب من العشرين ؛ وهى السيدة خديجة ، وفوق هذا كله فمشهور أنها هى التى اختارته بعد ما لمست بنفسها ـ من خلال مباشرته لتجارتها ـ من أمانته وعفته وطيب شمائله صلى الله عليه وسلم.
                      والثالثة أنه صلى الله عليه وسلم بعد زواجه منها دامت عشرته بها طيلة حياتها ولم يتزوج عليها حتى مضت عن دنياه إلى رحاب الله. وقضى معها - رضى الله عنها - زهرة شبابه وكان له منها أولاده جميعًا إلا إبراهيم الذى كانت أمه السيدة " مارية " القبطية.
                      والرابعة أنه صلى الله عليه وسلم عاش عمره بعد وفاتها - رضى الله عنها - محبًّا لها يحفظ لها أطيب الذكريات ويعدد مآثرها وهى مآثر لها خصوصية فى حياته وفى نجاح دعوته فيقول فى بعض ما قال عنها: [ صدقتنى إذ كذبنى الناس وأعانتنى بمالها ]. بل كان صلى الله عليه وسلم لا يكف عن الثناء عليها والوفاء لذكراها والترحيب بمن كن من صديقاتها ، حتى أثار ذلك غيرة السيدة عائشة - رضى الله عنها.
                      أما تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم فكان كشأن غيره من الأنبياء له أسبابه منها:
                      أولاً: كان عُمْرُ محمد صلى الله عليه وسلم فى أول زواج له صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة تجاوز الخمسين وهى السنّ التى تنطفىء فيها جذوة الشهوة وتنام الغرائز الحسية بدنيًّا ، وتقل فيها الحاجة الجنسية إلى الأنثى وتعلو فيها الحاجة إلى من يؤنس الوحشة ويقوم بأمر الأولاد والبنات اللاتى تركتهم خديجة - رضى الله عنها -.
                      وفيما يلى بيان هذا الزواج وظروفه.
                      الزوجة الأولى: سودة بنت زمعة: كان رحيل السيدة خديجة - رضى الله عنها - مثير أحزان كبرى فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم وفى محيط الصحابة - رضوان الله عليهم - إشفاقًا عليه من الوحدة وافتقاد من يرعى شئونه وشئون أولاده. ثم تصادف فقدانه صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب نصيره وظهيره وسُمِّىَ العام الذى رحل فيه نصيراه خديجة وأبو طالب عام الحزن.
                      فى هذا المناخ.. مناخ الحزن والوحدة وافتقاد من يرعى شئون الرسول وشئون أولاده سعت إلى بيت الرسول واحدة من المسلمات تُسمى خولة بنت حكيم السلمية وقالت: له يا رسول الله كأنى أراك قد دخلتك خلّة لفقد خديجة فأجاب صلى الله عليه وسلم: [ أجل كانت أم العيال وربة البيت ] ، فقالت يا رسول الله: ألا أخطب عليك ؟.
                      فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ولكن – من بعد خديجة ؟! فذكرت له عائشة بنت أبى بكر فقال الرسول: لكنها ما تزال صغيرة فقالت: تخطبها اليوم ثم تنتظر حتى تنضج.. قال الرسول ولكن من للبيت ومن لبنات الرسول يخدمهن ؟ فقالت خولة: إنها سودة بنت زمعة ، وعرض الأمر على سودة ووالدها: فتم الزواج ودخل بها صلى الله عليه وسلم بمكة.
                      وهنا تجدر الإشارة إلى أن سودة هذه كانت زوجة للسكران بن عمرو وتوفى عنها زوجها بمكة فلما حلّت تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة ، وكان ذلك فى رمضان سنة عشر من النبوة.
                      وعجب المجتمع المكى لهذا الزواج لأن " سودة " هذه ليست بذات جمال ولا حسب ولا تصلح أن تكون خلفًا لأم المؤمنين خديجة التى كانت عند زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها جميلة وضيئة وحسيبة تطمح إليها الأنظار.
                      وهنا أقول للمرجفين الحاقدين: هذه هى الزوجة الأولى للرسول بعد خديجة ، فهى مؤمنة هاجرت الهجرة الأولى مع من فرّوا بدينهم إلى الحبشة وقد قَبِلَ الرسول زواجها حماية لها وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة.
                      وليس الزواج بها سعارَ شهوة للرسول ولكنه كان جبرًا لخاطر امرأة مؤمنة خرجت مع زوجها من أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة ولما عادا توفى زوجها وتركها امرأة تحتاج هى وبنوها إلى من يرعاهم.
                      الزوجة الثانية بعد خديجة: عائشة بنت أبى بكر الذى يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن من أمَنّ الناس علىّ فى ماله وصحبته أبا بكر ، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام..".
                      ومعروف من هو أبو بكر الذى قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن عطائه للدعوة " ما نفعنى مالٌ قط ما نفعنى مال أبى بكر " ، وأم عائشة هى أم رومان بنت عامر الكنانى من الصحابيات الجليلات ، ولما توفيت نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها واستغفرلها وقال: " اللهم لم يَخْفَ عليك ما لقيت أم رومان فيك وفى رسولك صلى الله عليه وسلم " ، وقال عنها يوم وفاتها:
                      " من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان " ولم يدهش مكة نبأ المصاهرة بين أعز صاحبين ؛ بل استقبلته كما تستقبل أمرًا متوقعاً ؛ ولذا لم يجد أى رجل من المشركين فى هذا الزواج أى مطعن - وهم الذين لم يتركوا مجالاً للطعن إلا سلكوه ولو كان زورًا وافتراء.
                      وتجدر الإشارة هنا إلى أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بفتاة بينه وبينها قرابة خمسين عامًا ليس بدعا ولا غريبًا لأن هذا الأمر كان مألوفًا فى ذلك المجتمع. لكن المستشرقين ومن تحمل قلوبهم الحقد من بعض أهل الكتاب - على محمد صلى الله عليه وسلم - جعلوا من هذا الزواج اتهامًا للرسول وتشهيرًا به بأنه رجل شهوانى غافلين بل عامدين إلى تجاهل ما كان واقعًا فى ذلك المجتمع من زواج الكبار بالصغيرات كما فى هذه النماذج:
                      - فقد تزوج عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم من هالة بنت عم آمنة التى تزوجها أصغر أبنائه عبد الله ـ والد الرسول صلى الله عليه وسلم.
                      - وتزوج عمر بن الخطاب ابنة على بن أبى طالب وهو أكبر سنًّا من أبيها.
                      ـ وعرض عمر على أبى بكر أن يتزوج ابنته الشابة " حفصة " وبينهما من فارق السن مثل الذى بين المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين " عائشة " (1).
                      كان هذا واقع المجتمع الذى تزوج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة. لكن المستشرقين والممتلئة قلوبهم حقدًا من بعض أهل الكتاب لم ترَ أعينهم إلا زواج محمد بعائشة والتى جعلوها حدث الأحداث - على حد مقولاتهم - أن يتزوج الرجل الكهل بالطفلة الغريرة العذراء (2).
                      قاتل الله الهوى حين يعمى الأبصار والبصائر !
                      الزوجة الثالثة: حفصة بنت عمر الأرملة الشابة:
                      توفى عنها زوجها حنيس بن حذافة السهمى وهو صحابى جليل من أصحاب الهجرتين - إلى الحبشة ثم إلى المدينة - ذلك بعد جراحة أصابته فى غزوة أُحد حيث فارق الحياة وأصبحت حفصة بنت عمر بن الخطاب أرملة وهى شابة.
                      وكان ترمّلها مثار ألم دائم لأبيها عمر بن الخطاب الذى كان يحزنه أن يرى جمال ابنته وحيويتها تخبو يومًا بعد يوم..
                      وبمشاعر الأبوة الحانية وطبيعة المجتمع الذى لا يتردد فيه الرجل من أن يخطب لابنته من يراه أهلاً لها..
                      بهذه المشاعر تحدث عمر إلى الصديق " أبى بكر " يعرض عليه الزواج من حفصة لكن أبا بكر يلتزم الصمت ولا يرد بالإيجاب أو بالسلب.
                      فيتركه عمر ويمضى إلى ذى النورين عثمان بن عفان فيعرض عليه الزواج من حفصة فيفاجئه عثمان بالرفض..
                      فتضيق به الدنيا ويمضى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث فيكون رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه هو قوله: [ يتزوج حفصةَ خيرٌ من عثمان ويتزوج عثمان خيرًا من حفصة ] (3).
                      وأدركها عمر - رضى الله عنه - بفطنته إذ معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما استشعره عمر هو أن من سيتزوج ابنته حفصة هو الرسول نفسه وسيتزوج عثمان إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم.
                      وانطلق عمر إلى حفصة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة وارتياح القلب إلى أن الله قد فرّج كرب ابنته.
                      الزوجة الرابعة: أم سلمة بنت زاد الراكب:
                      من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وكان زوجها (أبو سلمة) عبد الله ابن عبد الأسد المخزومى أول من هاجر إلى يثرب (المدينة) من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. جاءت إلى بيت النبى صلى الله عليه وسلم كزوجة بعد وفاة " زينب بنت خزيمة الهلالية " بزمن غير قصير.
                      سليلة بيت كريم ، فأبوها أحد أجواد قريش المعروفين بلقب زاد الراكب ؛ إذ كان لا يرافقه أحد فى سفر إلا كفاه زاده.
                      وزوجها الذى مات عنها صحابى من بنى مخزوم ابن عمة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ذو الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة. وكانت هى و زوجها من السابقين إلى الإسلام. وكانت هجرتهما إلى المدينة معًا وقد حدث لها ولطفلها أحداث أليمة ومثيرة ذكرتها كتب السير. رضى الله عن أم سلمة.. ولا نامت أعين المرجفين.
                      الزوجة الخامسة: زينب بنت جحش:
                      لم أرَ امرأة قط خيرًا فى الدين من زينب ، وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبديلا إلا لنفسها فى العمل الذى تتصدق وتتقرب به إلى الله عز وجل ؟ (4).
                      هكذا تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها– عن " ضرّتها " زينب بنت جحش. أما المبطلون الحاقدون من بعض أهل الكتاب فقالوا:
                      أُعْجِب محمد صلى الله عليه وسلم ـ وحاشا له - بزوجة متبناه " زيد بن حارثة " فطلقها منه وتزوجها.
                      ويرد الدكتور هيكل فى كتابه " حياة محمد " (5) صلى الله عليه وسلم على هذا فيقول: إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم تارة أخرى ، والخصومة القديمة للإسلام تأصلت فى النفوس منذ الحروب الصليبية هى التى تملى على هؤلاء جميعًا ما يكتبون.
                      والحق الذى كنا نود أن يلتفت إليه المبطلون الحاقدون على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هو أن زواج محمد صلى الله عليه وسلم من زوجة ابنه بالتبنى زيد بن حارثة إنما كان لحكمة تشريعية أرادها الإسلام لإبطال هذه العادة ـ عادة التبنى ـ التى هى فى الحقيقة تزييف لحقائق الأمور كان لها فى واقع الناس والحياة آثار غير حميدة.
                      ولأن هذه العادة كانت قد تأصلت فى مجتمع الجاهلية اختارت السماء بيت النبوة بل نبى الرسالة الخاتمة نفسه صلى الله عليه وسلم ليتم على يديه وفى بيته الإعلان العلمى عن إبطال هذه العادة.
                      وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التى جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد فى هذه ـ المسألة و فى موضوع الزواج بزينب حيث تقول:
                      (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (6).
                      (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم ) (7).
                      (وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً) (8).
                      مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبنى من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة فى المجتمع الجاهلى الذى كانت عادة التبنى أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه ، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير فى بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.
                      وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهى به ضراتها وتقول لهن: " زوجكن أهاليكن وزوجنى ربى من فوق سبع سمَوات " (9).
                      أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته فى تطليق زينب ؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..
                      ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه ؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا ـ وهى الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه ـ عند الزواج بها ـ كان مولىً للرسول صلى الله عليه وسلم أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.
                      فهو ـ وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد فى عرف المجتمع المكى كله ، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال ـ كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذى لا يمثل حُلم من تكون فى مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.
                      ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج ، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ فى نفسه توهج السعادة هو الآخر ، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو زينب إليه كما جاء فى البخارى من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل صلى الله عليه وسلم يقول له: [ أمسك عليك زوجك واتق الله ] (10) قال أنس: لو كان النبى كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.
                      لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.
                      وزينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم - كما سبقت الإشارة – وهو الذى زوجها لمولاه " زيد " ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه ؛
                      وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب ، وكان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات فما كان يمنعه – إذًا – من أن يتزوجها من البداية ؟! ؛ ولكنه لم يفعل.
                      فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه أمر قدرى شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين فى قضية إبطال عادة " التبنى " التى كانت سائدة فى المجتمع آنذاك.
                      يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التى تعلقت بالموضوع فى سورة الأحزاب.
                      أما الجملة التى وردت فى قوله تعالى:(وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (11). فإن ما أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب ـ يومًا ما ـ ستكون زوجًا له ؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زوجة ابنه بالتبنى (12).
                      الزوجة السادسة: جويرية بنت الحارث الخزاعية:
                      الأميرة الحسناء التى لم تكن امرأة أعظم بركة على قومها منها فقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها أهل مائة بيت من بنى المصطلق (التى هى منهم).
                      كانت ممن وقع فى الأسر بعد هزيمة بنى المصطلق من اليهود فى الغزوة المسماة باسمهم. وكاتبها من وقعت فى أسره على مال فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: " أو خير من ذلك ؟.
                      قالت: وما هو ؟ قال: أقضى عنك كتابتك وأتزوجك.
                      قالت: وقد أفاقت من مشاعر الهوان والحزن: نعم يا رسول الله.
                      قال: قد فعلت " (13).
                      وذاع الخبر بين المسلمين: أن رسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج بنت الحارث بن ضرار زعيم بنى المصطلق وقائدهم فى هذه الغزوة..
                      معنى هذا أن جميع من بأيديهم من أسرى بنى المصطلق قد أصبحوا بعد هذا الزواج كأنهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                      وإذا تيار من الوفاء والمجاملة من المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم تجسد فى إطلاق المسلمين لكل من بأيديهم من أسرى بنى المصطلق وهم يقولون: أصهار رسول الله ، فلا نبقيهم أسرى.
                      ومع أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأسيرة بنت سيد قومها والذى جاءته ضارعة مذعورة مما يمكن أن تتعرض له من الذل من بعد عزة.. فإذا هو يرحمها بالزواج ، ثم يتيح لها الفرصة لأن تعلن إسلامها وبذا تصبح واحدة من أمهات المؤمنين.
                      ويقولون: إنه نظر إليها.
                      وأقول: أما أنه نظر إليها فهذا لا يعيبه ـ وربما كان نظره إليها ضارعة مذعورة – هو الذى حرك فى نفسه صلى الله عليه وسلم عاطفة الرحمة التى كان يأمر بها بمن فى مثل حالتها ويقول: [ ارحموا عزيز قوم ذل ] ، فرحمها وخيرها فاختارت ما يحميها من هوان الأسر ومذلة الأعزة من الناس.
                      على أن النظر شرعًا مأذون به عند الإقدام على الزواج - كما فى هذه الحالة - وكما أمر به صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عند رغبته فى الزواج - قائلاً له: [ انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ] (14).
                      وقد توفيت فى دولة بنى أمية وصلى عليها عبد الملك بن مروان وهى فى السبعين من العمر - رضى الله عنها.
                      الزوجة السابعة: صفية بنت حُيىّ ـ عقيلة بنى النضير:
                      إحدى السبايا اللاتى وقعن فى الأسر بعد هزيمة يهود بنى النضير أمام المسلمين فى الوقعة المسماة بهذا الاسم ، كانت من نصيب النبى صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها: فماذا فى ذلك ؟ ولم يكن عتقه إياها وتزوجها بدعًا فى ذلك ؛ وإنما كان موقفًا جانب الإنسانية فيه هو الأغلب والأسبق.
                      فلم يكن هذا الموقف إعجابًا بصفية وجمالها ؛ ولكنه موقف الإنسانية النبيلة التى يعبر عنها السلوك النبيل بالعفو عند المقدرة والرحمة والرفق بمن أوقعتهن ظروف الهزيمة فى الحرب فى حالة الاستضعاف والمذلة لا سيما وقد أسلمن وحسن إسلامهن.
                      فقد فعل ذلك مع " صفية بنت حُيىّ " عقيلة بنى النضير (اليهود) أمام المسلمين فى الموقعة المعروفة باسم (غزوة بنى قريظة) بعد انهزام الأحزاب وردّهم مدحورين من وقعة الخندق.

                      الزوجة الثامنة: أم حبيبة بنت أبى سفيان نجدة نبوية لمسلمة فى محنة:
                      إنها أم حبيبة " رملة " بنت أبى سفيان كبير مشركى مكة وأشد أهلها خصومة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه.
                      كانت زوجًا لعبيد الله بن جحش وخرجا معًا مهاجرين بإسلامهما فى الهجرة الأولى إلى الحبشة ، وكما هو معروف أن الحبشة فى عهد النجاشى كانت هى المهجر الآمن للفارين بدينهم من المسلمين حتى يخلصوا من بطش المشركين بهم وعدوانهم عليهم ؛ فإذا هم يجدون فى – ظل النجاشى – رعاية وعناية لما كان يتمتع به من حس إيمانى جعله يرحب بأتباع النبى الجديد الذى تم التبشير بمقدمه فى كتبهم على لسان عيسى بن مريم– عليه السلام – كما تحدث القرآن عن ذلك فى سورة الصف فى قوله:(وإذ قال عيسى بن مريم يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدى من التوراة ومبشرًا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) (15).
                      لكن أم حبيبة بنت أبى سفيان كانت وحدها التى تعرضت لمحنة قاسية لم يتعرض لمثلها أحد من هؤلاء المهاجرين الأوائل إلى الحبشة ؛ ذلك أن زوجها عبيد الله بن جحش قد أعلن ارتداده عن الإسلام ودخوله فى النصرانية وما أصعب وأدق حال امرأة باتت فى محنة مضاعفة: محنتها فى زوجها الذى ارتد وخان.. ومحنتها السابقة مع أبيها الذى فارقته مغاضبة إياه فى مكة منذ دخلت فى دين الله (الإسلام)..
                      وفوق هاتين المحنتين كانت محنة الاغتراب حيث لا أهل ولا وطن ثم كانت محنة حملها بالوليدة التى كانت تنتظرها والتى رزقت بها من بعد وأسمتها " حبيبة ".. كان هذا كله أكبر من عزم هذه المسلمة الممتحنة من كل ناحية والمبتلاة بالأب الغاضب والزوج الخائن !!
                      لكن عين الله ثم عين محمد صلى الله عليه وسلم سخرت لها من لطف الرعاية وسخائها ما يسرّ العين ويهون الخطب ، وعادت بنت أبى سفيان تحمل كنية جديدة ، وبدل أن كانت " أم حبيبة " أصبحت " أم المؤمنين " وزوج سيد المسلمين - صلوات الله وسلامه عليه.
                      والحق أقول: لقد كان نجاشى الحبشة من خلّص النصارى فأكرم وفادة المهاجرين عامة وأم المؤمنين بنت أبى سفيان بصفة خاصة. فأنفذ فى أمرها مما بعث به إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها له.
                      وكانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة بنت أبى سفيان نعم الإنقاذ والنجدة لهذه المسلمة المبتلاة فى الغربة ؛ عوضتها عن الزوج الخائن برعاية سيد البشر صلى الله عليه وسلم ؛ وعوضتها عن غضب الأب " أبى سفيان " برعاية الزوج الحانى الكريم صلوات الله عليه.
                      كما كانت هذه الخطبة فى مردودها السياسى ـ لطمة كبيرة لرأس الكفر فى مكة أبى سفيان بن حرب الذى كان تعقيبه على زواج محمد لابنته هو قوله: " إن هذا الفحل لا يجدع أنفه " ؛ كناية عن الاعتراف بأن محمدًا لن تنال منه الأيام ولن يقوى أهل مكة - وهو على رأسهم - على هزيمته والخلاص منه لأنه ينتقل كل يوم من نصر إلى نصر.
                      كان هذا الاعتراف من أبى سفيان بخطر محمد وقوته كأنه استشفاف لستر الغيب أو كما يقول المعاصرون: تنبؤ بالمستقبل القريب وتمام الفتح.
                      فما لبث أن قبل أبو سفيان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياه إلى الإسلام وشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
                      وتقدم أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله قائلاً: " إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فهلا جعلت له ما يحل عقدته ويسكن حقده وغيظه ، فقال صلوات الله وسلامه عليه فى ضمن إعلانه التاريخى الحضارى العظيم لأهل مكة عند استسلامهم وخضوعهم بين يديه:
                      * من دخل داره فهو آمن.
                      * ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
                      * ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن "(16).
                      وانتصر الإسلام وارتفع لواء التوحيد ودخل الناس فى دين الله أفواجًا. وفى مناخ النصر العظيم.. كانت هى سيدة غمرتها السعادة الكبرى بانتصار الزوج ونجاة الأب والأهل من شر كان يوشك أن يحيط بهم.
                      تلكم هى أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبى سفيان التى أحاطتها النجدة النبوية من خيانة الزوج وبلاء الغربة ووضعتها فى أعز مكان من بيت النبوة.
                      الزوجة التاسعة: ميمونة بنت الحارث الهلالية أرملة يسعدها أن يكون لها رجل:
                      آخر أمهات المؤمنين.. توفى عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزّى العامرى ؛ فانتهت ولاية أمرها إلى زوج أختها العباس الذى زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث بنى بها الرسول ـ فى " سرف " قرب " التنعيم" على مقربة من مكة حيث يكون بدء الإحرام للمعتمرين من أهل مكة والمقيمين بها.
                      وقيل: إنه لما جاءها الخاطب بالبشرى قفزت من فوق بعيرها وقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل: إنها هى التى وهبت نفسها للنبى والتى نزل فيها قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين..) (17).
                      كانت آخر آمهات المؤمنين وآخر زوجاته ـ صلوات الله وسلامه عليه.
                      المراجع
                      (1) تراجم لسيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ: ص 250 وما بعدها.
                      (2) المصدر السابق.
                      (3) انظر سيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطىء ص 324
                      (4) صحيح مسلم كتاب الفضائل.
                      (5) حياة محمد ص 29.
                      (6) الأحزاب: 40.
                      (7) الأحزاب: 5.
                      (8) الأحزاب: 37.
                      (9) رواه البخارى (كتال التوحيد 6108).
                      (10) رواه االبخارى (كتاب التوحيد).
                      (11) الأحزاب: 37.
                      (12) انظر فتح البارى 8 / 371 عن سيدات بيت النبوة لبنت الشاطئ ص 354.
                      (13) رواه البخارى: فتح البارى _ كتال النكاح باب 14.
                      (14) رواه البخارى: فتح البارى ـ كتاب النكاح باب 36.
                      (15) الصف: 6.
                      (16) رواه البخارى – فتح البارى – " كتاب المغازى ".
                      (17) الأحزاب: 50.



                      تابعو

                      تعليق

                      • المتفائل

                        #12
                        52- محاولة النبى محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار
                        الرد على الشبهة:
                        الحق الذى يجب أن يقال.. أن هذه الرواية التى استندتم إليها ـ يا خصوم الإسلام ـ ليست صحيحة رغم ورودها فى صحيح البخارى ـ رضى الله عنه ـ ؛ لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة ، ولكن أوردها تحت عنوان " البلاغات " يعنى أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ ، ومعروف أن البلاغات فى مصطلح علماء الحديث: إنما هى مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن (1).
                        وقد علق الإمام ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى (2) عليها بقوله:
                        " إن القائل بلغنا كذا هو الزهرى ، وعنه حكى البخارى هذا البلاغ ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الكرمانى: وهذا هو الظاهر ".
                        هذا هو الصواب ، وحاش أن يقدم رسول الله ـ وهو إمام المؤمنين ـ على الانتحار ، أو حتى على مجرد التفكير فيه.
                        وعلى كلٍ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بشراً من البشر ولم يكن ملكاً ولا مدعيًا للألوهية.
                        والجانب البشرى فيه يعتبر ميزة كان صلى الله عليه وسلم يعتزّ بها ، وقد قال القرآن الكريم فى ذلك:(قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً) (3).
                        ومن ثم فإذا أصابه بعض الحزن أو الإحساس بمشاعر ما نسميه - فى علوم عصرنا - بالإحباط أو الضيق فهذا أمر عادى لا غبار عليه ؛ لأنه من أعراض بشريته صلى الله عليه وسلم.
                        وحين فتر (تأخر) الوحى بعد أن تعلق به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المكان الذى كان ينزل عليه الوحى فيه يستشرف لقاء جبريل ، فهو محبّ للمكان الذى جمع بينه وبين حبيبه بشىء من بعض السكن والطمأنينة ، فماذا فى ذلك أيها الظالمون دائماً لمحمد صلى الله عليه وسلم فى كل ما يأتى وما يدع ؟
                        وإذا كان أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يستندون إلى الآية الكريمة: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (4).
                        فالآية لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار ، ولكنها تعبير أدبى عن حزن النبى محمد صلى الله عليه وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام ، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم ؛ فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله ، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.
                        وهذا خاطر طبيعى للنبى الإنسان البشر الذى يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم اعترافه واعتزازه بأنه بشر فى قوله - ردًا على ما طلبه منه بعض المشركين-: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتى بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه). فكان رده:(سبحان ربى) متعجباً مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم:(هل كنت إلا بشراً رسولاً) (5).
                        أما قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليست له معجزة فهو قول يعبر عن الجهل والحمق جميعاً.
                        حيث ثبت فى صحيح الأخبار معجزات حسية تمثل معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما جاءت الرسل بالمعجزات من عند ربها ؛ منها نبع الماء من بين أصابعه ، ومنها سماع حنين الجذع أمام الناس يوم الجمعة ، ومنها تكثير الطعام حتى يكفى الجم الغفير ، وله معجزة دائمة هى معجزة الرسالة وهى القرآن الكريم الذى وعد الله بحفظه فَحُفِظَ ، ووعد ببيانه ؛ لذا يظهر بيانه فى كل جيل بما يكتشفه الإنسان ويعرفه.
                        المراجع
                        (1) انظر صحيح البخارى ج9 ص 38 ، طبعة التعاون.
                        (2) فتح البارى ج12 ص 376.
                        (3) الإسراء: 93.
                        (4) الشعراء: 3.
                        (5) الإسراء: 93.




                        53- ولادة النبى محمد صلى الله عليه وسلم عادية
                        الرد على الشبهة:
                        لأن ولادة السيد المسيح ـ عليه السلام ـ تمت على هبة من الله تبارك وتعالى للسيدة العذراء مريم ـ عليها السلام ـ وليس من خلال الزواج بينها وبين رجل. فبعض أهل الكتاب (النصارى منهم خاصة) يتصورون أن كل نبى لا بد أن يولد بمثل هذه الطريقة.
                        وإذا كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم مثل غيره من ملايين خلق الله فإن هذا عندهم مما يعيبونه به صلى الله عليه وسلم ويطعنون فى صحة نبوته.
                        1- فلم يدركوا أن بشرية محمد صلى الله عليه وسلم هى واحدة من القسمات التى شاركه فيها كل رسل الله تعالى منذ نوح وإبراهيم وغيرهما من بقية رسل الله إلى موسى ـ عليه السلام ـ الذين ولدوا جميعاً من الزواج بين رجل وامرأة. ولم يولد من غير الزواج بين امرأة ورجل إلا عيسى ـ عليه السلام ـ وكان هذا خصوصية له لم تحدث مع أى نبى قبله ، ولم تحدث كذلك مع محمد صلى الله عليه وسلم.
                        2- كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاناً لكونه بشراً من البشر يولد كما يولد البشر ويجرى عليه من الأحوال فى أكله وشربه ، وفى نومه وصحوه ، وفى رضاه وغضبه وغير ذلك مما يجرى على البشر كالزواج والصحة والمرض والموت أيضاً.
                        3- كان محمد صلى الله عليه وسلم يعتز بهذه البشرية ويراها سبيله إلى فهم الطبيعة البشرية وإدراك خصائصها وصفاتها فيتعامل معها بما يناسبـها ، وقد اعتبر
                        القرآن ذلك ميزة له فى قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) (1).
                        كما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم اعتزازه بهذه البشرية وعجزها حين أعلن قومه أنهم لن يؤمنوا به إلا إذا فجر لهم ينابيع الماء من الأرض ، أو أن يكون له بيت من زخرف ، أو أن يروه يرقى فى السماء وينزل عليهم كتاباً يقرأونه ، فكان رده صلى الله عليه وسلم كما حكاه القرآن: (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً) (2).
                        4- لقد قرر القرآن قاعدة كون الرسل من جنس من يرسلون إليهم ؛ بمعنى أن يكون المرسلون إلى الناس بشراً من جنسهم ، ولو كان أهل الأرض من جنس غير البشر لكانت رسل الله إليهم من نفس جنسهم وذلك فى قوله تعالى: (قل لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ) (3).
                        وعلى المعنى نفسه جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام:(ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) (4). وقوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ) (5). وقوله تعالى (لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) (6). وقوله تعالى (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله.. ) (7). وقوله تعالى (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ) (8).
                        وغير هذا كثير مما أكده القرآن وهو المنطق والحكمة التى اقتضتها مشيئته ـ تعالى ـ لما هو من خصائص الرسالات التى توجب أن يكون المرسل إلى الناس من جنسهم حتى يحسن إبلاغهم بما كلفه الله بإبلاغه إليهم وحتى يستأنسوا به ويفهموا عنه.
                        ومن هنا تكون " بشرية الرسول " بمعنى أن يجرى عليه ما يجرى على الناس من البلاء والموت ومن الصحة والمرض وغيرها من الصفات البشرية فيكون ذلك أدعى لنجاح البلاغ عن الله.
                        المراجع
                        (1) التوبة: 128.
                        (2) الإسراء: 93.
                        (3) الإسراء: 95.
                        (4) البقرة: 195.
                        (5) البقرة 151.
                        (6) آل عمران: 164.
                        (7) المؤمنون: 32.
                        (8) الجمعة: 2.


                        54- يحتاج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه
                        الرد على الشبهة:
                        الحق أن الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم من ربه ومن المؤمنين ليست دليل حاجة بل هى مظهر تكريم واعتزاز وتقدير له من الحق سبحانه وتقدير له من أتباعه ، وليست كما يزعم الظالمون لسد حاجته عند ربه لأن ربه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
                        لأن أى مقارنة منصفة بين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وبين غيره من أنبياء الله ورسله ترتفع به ليس فقط إلى مقام العصمة ؛ بل إلى مقام الكمال الذى أتم به الله الرسالات ، وأتم به التنزيل ، وأتم به النعمة ، فلم تعد البشرية بعد رسالته صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى رسل ورسالات.
                        لذلك فإن رسالته صلى الله عليه وسلم وهى الخاتمة والكاملة حملت كل احتياجات البشرية وما يلزمها من تشريعات ونظم ومعاملات وما ينبغى أن تكون عليه من أخلاق وحضارة مما افتقدت مثل كماله كل الرسالات السابقة.
                        وحسب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنها جاءت رحمة عامة للبشرية كلها كما قال القرآن: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1). فلم تكن كما جاء ما قبلها رسالة خاصة بقوم رسولهم كما قال تعالى:(وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله ) (2).
                        (وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله ) (3).
                        (وإلى مدين أخاهم شعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله ) (4).
                        وهكذا كل رسول كان مرسلاً إلى قومه..
                        بل كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين وإلى الناس كافة كما جاء فى قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (5)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) (6).
                        ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت فوق كونها عالمية فقد كانت هى الخاتمة والكاملة التى ـ كما أشرنا ـ تفى باحتياجات البشر جميعاً وتقوم بتقنين وتنظيم شئونهم المادية والمعنوية عبر الزمان والمكان بكل ما فيه خيرهم فى الدنيا والآخرة.
                        وفى هذا قال الله تعالى:(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (7).
                        وقال فى وصفه لإكمال الدين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم (الإسلام): (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا) (8).
                        إن عموم رسالة محمد إلى العالمين ؛ باعتبارها الرسالة الكاملة والخاتمة ؛ يعنى امتداد دورها واستمرار وجودها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مصداقاً لقوله تعالى: (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) (9).
                        المراجع
                        (1) الأنبياء: 107.
                        (2) الأعراف: 65.
                        (3) الأعراف: 72.
                        (4) الأعراف: 85.
                        (5) الأنبياء: 107.
                        (6) سبأ: 28.
                        (7) الأحزاب: 40.
                        (8) المائدة: 3.
                        (9) التوبة: 33 ـ الفتح: 28 ـ والصف: 9.




                        55- محمد صلى الله عليه وسلم أُمّى فكيف علّم القرآن ؟
                        الرد على الشبهة:
                        والأمى إما أن يكون المراد به من لا يعرف القراءة والكتابة أخذًا من " الأمية " ، وإما أن يكون المراد به من ليس من اليهود أخذًا من " الأممية " حسب المصطلح اليهودى الذى يطلقونه على من ليس من جنسهم.
                        فإذا تعاملنا مع هذه المقولة علمنا أن المراد بها من لا يعرف القراءة والكتابة فليس هذا مما يعاب به الرسول ، بل لعله أن يكون تأكيدًا ودليلاً قويًا على أن ما نزل عليه من القرآن إنما هو وحى أُوحى إليه من الله لم يقرأه فى كتاب ولم ينقله عن أحد ولا تعلمه من غيره. بهذا يكون الاتهام شهادة له لا عليه (.
                        وقد رد القرآن على هذه المقولة ردًا صريحًا فى قوله:
                        (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السّر فى السموات والأرض إنه كان غفورًا رحيمًا ) (1).
                        وحسب النبى الأمى الذى لا يعرف القراءة ولا الكتابة أن يكون الكتاب الذى أنزل عليه معجزًا لمشركى العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة ؛ بل ومتحديًا أن يأتوا بمثله أو حتى بسورة من مثله.
                        كفاه بهذا دليلاً على صدق رسالته وأن ما جاء به ـ كما قال بعض كبارهم ـ " ليس من سجع الكهان ولا من الشعر ولا من قول البشر ".
                        أما إذا تعاملنا مع مقولتهم عن محمد(أنه " أُمّى " على معنى أنه من الأمميين ـ أى من غير اليهود ـ فما هذا مما يعيبه. بل إنه لشرف له أنه من الأمميين أى أنه من غير اليهود.
                        ذلك لأن اعتداد اليهود بالتعالى على من عداهم من " الأمميين " واعتبار أنفسهم وحدهم هم الأرقى والأعظم وأنهم هم شعب الله المختار ـ كما يزعمون.
                        كل هذا مما يتنافى تمامًا مع ما جاء به محمد (من المساواة الكاملة بين بنى البشر رغم اختلاف شعوبهم وألوانهم وألسنتهم على نحو ما ذكره القرآن ؛ الذى اعتبر اختلاف الأجناس والألوان والألسنة هو لمجرد التعارف والتمايز ؛ لكنه ـ أبدًا ـ لا يعطى تميزًا لجنس على جنس ، فليس فى الإسلام ـ كما يزعم اليهود ـ أنهم شعب الله المختار.
                        ولكن التمايز والتكريم فى منظور الإسلام ؛ إنما هو بالتقوى والصلاح كما فى الآية الكريمة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم ) (2).
                        المراجع
                        (1) الفرقان: 5-6.
                        (2) الحجرات: 13.


                        56- محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله
                        الرد على الشبهة:
                        استند الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم فى توجيه هذا الاتهام إلى ما جاء فى مفتتح سورة التحريم من قوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم ) (1).
                        وهذه الآية وآيات بعدها تشير إلى أمر حدث فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم عاتبته نساؤه وتظاهرن عليه بدوافع الغيرة المعروفة عن النساء عامة إذ كان صلى الله عليه وسلم قد دخل عند إحداهن وأكل عندها طعامًا لا يوجد فى بيوتهن ، فأسر إلى إحداهن بالأمر فأخبرت به أخريات فعاتبنه فحرّم صلى الله عليه وسلم تناول هذا الطعام على نفسه ابتغاء مرضاتهن.
                        والواقعة صحيحة لكن اتهام الرسول بأنه يحرّم ما أحل الله هو تصيّد للعبارة وحمل لها على ما لم ترد له..
                        فمطلع الآية (لم تحرم ما أحل الله لك (هو فقط من باب " المشاكلة " لما قاله النبى لنسائه ترضية لهن ؛ والنداء القرآنى ليس اتهامًا له صلى الله عليه وسلم بتحريم ما أحل الله ؛ ولكنه من باب العتاب له من ربه سبحانه الذى يعلم تبارك وتعالى أنه صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يحرّم شيئًا أو أمرًا أو عملاً أحلّه الله ؛ ولكنه يشدد على نفسه لصالح مرضاة زوجاته من خُلُقه العالى الكريم.
                        ولقد شهد الله للرسول بتمام تبليغ الرسالة فقال:(ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين ) (2).
                        وعليه فالقول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله من المستحيلات على مقام نبوته التى زكاها الله تبارك وتعالى وقد دفع عنه مثل ذلك بقوله: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) (3).
                        فمقولة بعضهم أنه يحرّم هو تحميل اللفظ على غير ما جاء فيه ، وما هو إلا وعد أو عهد منه صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه فهو بمثابة يمين له كفارته ولا صلة له بتحريم ما أحل الله.
                        المراجع
                        (1) التحريم: 1.
                        (2) الحاقة: 44- 47.
                        (3) النجم: 3- 4.



                        57- تعلّم محمد صلى الله عليه وسلم من غيره
                        الرد على الشبهة:
                        وهى من أسوأ المفتريات على محمد صلى الله عليه وسلم الذى قال ربه عز وجل عنه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى ) (1).
                        لكن الحقد حين يتمكن من قلوب الحاقدين يدفعهم إلى المنكر من القول ومن الزور ، حتى إنهم ليتجرأون على قولٍ لا يقبله عقل عاقل ، ولا يجرؤ على مثله إلا المفترون.
                        فى هذه المقولة زعموا أنه حين كان ينزل عليه الوحى بالآيات التى أثبت العلم الحديث المعاصر أنها من أبرز آيات الإعجاز العلمى فى القرآن فيما تتصل بمراحل خلق الإنسان من سلالة من طين ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة ثم يكون إنشاؤه خلقًا آخر..
                        زعموا أن كاتب وحيه قال مادحًا مَنْ هذاخَلْقُهُ :(تبارك الله أحسن الخالقين ) (2).
                        ثم أفرطوا فى زعمهم فقالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال له: اكتبها فهكذا نزلت علىّ.. ؟! وهنا لابد من وقفة:
                        فأولاً: مما هو ثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحى يأخذ العرق يتصبب من جسده ويكون فى غيبة عمن حوله.. فإذا انقضى الوحى أخذ فى ذكر وتلاوة ما نزل عليه من القرآن ، وهذا ما تقرره كل كتب السيرة.
                        ثانياً: معنى ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم لا يأخذ فى الإملاء على كاتب وحيه إلا بعد اكتمال نزول الوحى واكتمال نزول الآيات المتعلقة بمراحل خلق الإنسان فى سورة " المؤمنون ".
                        ثالثًا: وبهذا يتضح كذب المقولة أن كاتب وحيه صلى الله عليه وسلم هو الذى أملاها عليه وأنه أمر بإثباتها.
                        رابعًا: أن لفظة " تبارك الله " تكررت فى القرآن الكريم تسع مرات ، تلتقى جميعها فى مواضع يكون الحديث فيها عن قدرة الخالق فيما خلق من مثل قوله تعالى:
                        (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) (3).
                        (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) (4). (تبارك الذى جعل فى السماء بروجا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا) (5).
                        (تبارك الذى له ملك السموات والأرض وما بينهما ) (6).
                        (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير ) (7).
                        فلماذا تعلم محمد صلى الله عليه وسلم من كاتب وحيه آية " المؤمنون " دون غيرها مما جاء فى بقية السور ؟!!
                        المراجع
                        (1) النجم: 3ـ4.
                        (2) المؤمنون: 14.
                        (3) الأعراف: 55.
                        (4) الفرقان: 1.
                        (5) الفرقان: 61.
                        (6) الزخرف: 85.
                        (7) الملك: 1.




                        58- محمد صلى الله عليه وسلم يعظم الحجر الأسود
                        الرد على الشبهة:
                        إنهم فى هذه المقولة ـ يريدون أن يتهموه بأنه كان يعظم الحجر الأسود ـ بل ويعظم الكعبة كلها بالطواف حولها وهى حجر لا يختلف فى زعمهم عن الأحجار التى كانت تصنع منها الأوثان فى الجاهلية وكأن الأمر سواء !!
                        وحقيقة الأمر أن من بعض ما استبقاه الإسلام من أحوال السابقين ما كان فيه من تعاون على خير أو أمر بمعروف ونهى عن منكر ، من ذلك ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على حِلْف كان فى الجاهلية يسمى " حِلْف الفضول " وهو عمل إنسانى كريم كان يتم من خلاله التعاون على نصرة المظلوم ، وفداء الأسير ، وإعانة الغارمين ، وحماية الغريب من ظلم أهل مكة وهكذا..
                        وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الحلف وقال: لو دعيت إلى مثله لأجبت.
                        وأيضًا كان مما استبقاه الإسلام من فضائل السابقين مما ورثوه عن إبراهيم - عليه السلام - تعظيمهم للبيت الحرام وطوافهم به ؛ بل وتقبيلهم للحجر الأسود.
                        وهناك بعض مرويات تقول إن هذا الحجر من أحجار الجنة.
                        وهنا فقط لا يكون أمامنا إلا ما ثبت من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحجر الأسود عند طوافه بالبيت ، وهو ما تنطق به الرواية عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال عن تقبيله لهذا الحجر: (والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك).
                        وهنا نقول:
                        من المستحيل أن يكون تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود من باب المجاراة أو المشاكلة لعبدة الأصنام فيما كانوا يفعلون.
                        ومستحيل أيضًا أن يكون صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك - أى تقبيل الحجر الأسود - دون وحى أو إلهام وجهه صلى الله عليه وسلم إلى تقبيل الحجر بعيدًا بعيدًا عن أى شبهة وثنية أو مجاراة لعبدة الأصنام.
                        ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: [خذوا عنى مناسككم] فقد أصبح تقبيل الحجر الأسود من بعض مناسك الحجاج والعمار للبيت الحرام.
                        كما أن تعظيم الحجر الأسود هو امتثال لأوامر الله الذى أمر بتعظيم هذا الحجر بالذات ، وهو سبحانه الذى أمر برجم حجر آخر كمنسك من مناسك الحج فالأمر بالنسبة للتعظيم أو الرجم لا يعدو كونه إقرارًا بالعبودية لله تعالى وامتثالاً لأوامره عز وجل واستسلامًا لأحكامه.



                        59- كاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتن
                        الرد على الشبهة:
                        أخذوا ذلك من فهم مغلوط لآيات سورة الإسراء:(وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذًا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلاً * إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرًا ) (1).
                        بعض ما قيل فى سبب نزول هذه الآية أن وفد ثقيف قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم أجّلنا سنة حتى نقبض ما يهدى لآلهتنا من (الأصنام) فإذا قبضنا ذلك كسرناها وأسلمنا ، فهَمّ صلى الله عليه وسلم بقبول ذلك فنزلت الآية.
                        قوله تعالى: " كدت تركن إليهم " أى هممت أو قاربت أن تميل لقبول ما عرضوه عليك لولا تثبيت الله لك بالرشد والعصمة ، ولو فعلت لعذبناك ضعف عذاب الحياة وعذاب الممات ؛ يعنى: قاربت أن تستجيب لما عرضوه لكنك بتثبيت الله لم تفعل لعصمة الله لك.
                        وكل مَنْ هُمْ على مقربة من الثقافة الإسلامية يعرفون أن " الهمّ " أى المقاربة لشىء دون القيام به أو الوقوع فيه لا يعتبر معصية ولا جزاء عليه وهو مما وضع عن الأمة وجاء به ما صح عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله:
                        (وضع عن أمتى ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به) ، وعليه.. فإنه لا إثم ولا شىء يؤخذ على محمد صلى الله عليه وسلم فى ذلك.
                        المراجع
                        (1) الإسراء: 73-75.
                        تابعو





                        تعليق

                        • محبة الاسلام
                          6- عضو متقدم

                          حارس من حراس العقيدة
                          • 12 يول, 2008
                          • 1048

                          #13
                          وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                          بارك الله فيك أخي الفاضل على هذا الجهد، وقد كنت حقيقة أتمنى قراءة الموضوع، ولكن ذلك صعب للغاية بسبب التنسيق فهو حقيقة متعب للعين وللذهن، فأرجو منك لو تطلب من أحد المشرفين تنسيق الموضوع، أو حذفه ثم تعيد وضعه ولكن بعدد مشاركات أكثر ومسافة فاصلة بين كل فقرة وفقرة حتى لا يتيه القارئ..
                          وكذلك بعض التلوين، وتمييز العناوين بخط أكبر أو لون مختلف وكذلك أن يكون تحته خط..
                          واخيرا بارك الله فيك وجزاك كل خير، أرجو أن تكون قد تقبلت كلامي بصدر رحب، فأنا لست أقصد انتقاد الموضوع وإنما لحصول الاستفادة منه إن شاء الله..
                          سبحان الله وبحمده.. سبحان الله العظيم..
                          عدد خلقه.. ورضا نفسه.. وزنة عرشه.. ومداد كلماته..

                          تعليق

                          مواضيع ذات صلة

                          تقليص

                          المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                          ابتدأ بواسطة أحمد هاني مسعد, منذ 2 يوم
                          ردود 0
                          18 مشاهدات
                          0 معجبون
                          آخر مشاركة أحمد هاني مسعد
                          ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, منذ 3 أسابيع
                          ردود 0
                          15 مشاهدات
                          0 معجبون
                          آخر مشاركة أحمد الشامي1
                          بواسطة أحمد الشامي1
                          ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ 4 أسابيع
                          رد 1
                          12 مشاهدات
                          0 معجبون
                          آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                          بواسطة *اسلامي عزي*
                          ابتدأ بواسطة محمد,,, 3 أكت, 2024, 04:46 م
                          رد 1
                          36 مشاهدات
                          0 معجبون
                          آخر مشاركة الراجى رضا الله
                          ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, 29 سبت, 2024, 08:36 م
                          ردود 0
                          383 مشاهدات
                          0 معجبون
                          آخر مشاركة أحمد الشامي1
                          بواسطة أحمد الشامي1
                          يعمل...