منهج الكتاب
يحسن بي في البدء أن أجلي معالم المنهج الذي ألزمت به نفسي في هذا الكتاب؛ حتى يستبين للقارئ مسالك العرض والنقض التي عبرتها في ثنايا هذا البحث:
- التزمت أن أنقل كلام القمص بسيط بحروفه، وبأخطائه، ذاكراً رقم الصفحة، أو رقم الباب أحياناً، ثم أعلق على كلامه بشيء من الإيجاز، وأحياناً قد أطيل –دون إملال- إن دعت الحاجة إلى ذلك؛ كأن يكون ما ذكره مما هو ذائع في مواقع النصارى وكتبهم، دون أن يكون هناك رد عليه مفصل، وهو قليل بفضل الله؛ فحينها أكون ملزماً بالتفصيل لرد ما ذكروه.
- سعيت إلى أن أكشفَ غمامة التدليس والكذب التي لازمت كلام القمص، وأن أفضح منهجه في الكتابة؛ فهو قَلّما يعزو إلى مرجع، فيتكلم بغير دليل، وكثيراً ما يعزو لمجاهيل؛ كأن يقول: "قال أحد العلماء"، "ذكر أحدهم"، "قالوا"، ولسنا نعلم وزناً لقول لمجرد أنه قد قيل.
- بيّنت أنّ القمص يبتر في كتبه كلام من يقتبس عنه بتراً شنيعاً، ليوافق ما يدعيه، وهذا يدل على أنه يعلم الحق ويرفضه، وإلا ما الذي يدفعه للتدليس إن كان يعتقد أن دينه لن ينتصر إلا بهذا؟!
- سيكون كلامي موثقاً من المصادر والمراجع العلميّة، حتى وإن كان الكلام مشهوراً، معروفاً، مسلماً به. ولن أنقل قولاً عن عالم غربي، إلا ما كان عليه دليل يرجحه، لا أنقله لهوى في نفسي، بل لأن الدليل معه.
- أنقل في المسألة الواحدة أكثر من نقل عن أكثر من عالم، ليتبين أن ما أقوله ليس مما تفرد به البعض.
- أستخدم أحياناً النص العبري لأبين الأخطاء المنتشرة في ترجمة العهد القديم، أو لأبين أن الترجمة أستخدمت كلمات مضللة لتوهم القارئ بغير ما يقوله الأصل!
- أكشف أحياناً عن الأخطاء الكثيرة الموجودة في الأصل العبري!
- وضعت صوراً كثيرة للمخطوطات ليعلم القارئ أننا لسنا نقلة عن النقاد الغربيين كما يزعم الكتاب النصارى العرب، وكذلك لأزيل الغموض الذي في نفس النصراني العربي تجاه أمر المخطوطات، فظنهم هو أن هذه المخطوطات موجودة في المتاحف والخزائن المغلقة ولا يطلع عليها إلا للصفوة، وأردت كذلك من وضع الصور أن يعتاد القارئ والباحث على الرجوع إلى المصادر الأساسية التي ينهل العلماء منها.
- أُعمل علم النقد النصي في الكثير من النصوص ليتبين فساد النص المعتمد في الترجمة، وأن غيره أولى أن يعتمد!
- أذكر أحياناً الخلافات الموجودة بين الترجمات، حتى يعلم القارئ أن الترجمات تخضع لفكر وعلم منتجيها، وأن كل ترجمة قد تمثل كتاباً مقدساً مختلفاً عن الأخرى، وهو الأمر الذي ينكره النصارى العرب، بل ويجزمون أن الترجمات متطابقة، وهو ما لا نصيب له من الحقيقة!
وَلاَبُدَّ مِنْ أَنْ أُنَوِّهَ فِي البِدَايَةِ أَنَّنِي لَمْ أَقْصِدْ مِنْ هَذَا الكِتَابِ الرَّدَّ عَلَى شُبُهَاتِهِ، وَتَفْنِيدَ مَزَاعِمِهِ، بَلْ قَصَدْتُ تَبْيِينَ شيءٍ مِنْ خَلَلِ مَنْهَجِهِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِ، وَتَزْيِيفِهِ لِلحَقَائِقِ، وَلَمْ أُرِدْ أَنْ أَعْرِضَ كُلَّ زَلاَّتِهِ وتدليساتهِ، وإنّما اكْتَفَيتُ بِذِكْرِ بَعْضِ الأَمْثِلَةِ؛ لِيَعْلَمَ القَارِئُ الوَزْنَ العِلْمِيَّ للقمص عبد المسيح بسيط.
وقد اعتمدت في هذه الدراسة على عدة كتب له[1], من أهمها:
1- الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه.[2]
2- الأعظم، مميزات المسيح في جميع الكتب.
3- هل صلب المسيح حقيقة أم شبه لهم؟
4- عظمة الكتاب المقدس، وحفظ الله له عبر آلاف السنين.
5- هل يمكن تحريف الكتاب المقدس؟
وأود قبل البدء في الدراسة التفصيلية، والهدف الأساسي من هذا الكتاب أن أعد القارئ أن أختار من كلام القمص بسيط ما يخص العهد القديم ومخطوطاته، فهذا ما قضيت في دراسته السنين، وسهرت في تعلمه الليال الطوال، ولن أختارَ شيئاً غير هذا، إلا ما كان خطؤه شديداً وفحشه واضحاً بيناً، ولن يجدني القارئُ كالقمص؛ أتهم الآخرين بما فيَّ، ولن يجدني أخرج عن حدود الأدب؛ فأسوأ ما أقوله قاله القمص من قبل، وقال أسوأ منه مرات ومرات، اللهم ارزقنا الأدب والحكمة!
حينما يتحدى القمص بسيط!
قال القمص عبد المسيح بسيط:
إننا نتحدّى أي إنسان يقول لنا أن القرآن أشار من بعيد أو قريب لتحريف الإنجيل بأي صورة من الصور، ونتحدى أن يقول لنا أحد أنه أشار لتحريف التوراة بمعني التغيير أو التبديل أو الإضافة أو الحذف![3]
قلتُ: نسمع جعجعةً ولا نرى طِحناً! بتنا في زمان أصبح يَتحدى فيه من لا يفرِّق بين الفاعل والمفعول، ولا يعرف الكوع من البوع!
قد قبلنا التحدي وهاهي الآية؛ قال الله اتعالى عن بني إسرائيل كما هو واضح من السياق:
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ البقرة.
تتحدث الآية صراحة عن تحريف اليهود لكتبهم، وليس التحريف هنا هو مجرد التأويل الباطل، بل تحريف الكتاب عن طريق الكتابة، واختلاق الكلام ونسبته لله سبحانه.
ولا نقبل كلاماً من أحدٍ إلا بحجة، وقد قال الإمام مالك -رحمه الله-: ((ليس أحدٌ بعد النبي إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ))[4]، فالقول بتحريف ألفاظ كتبهم هو قول الجمهور، نعم خالف في ذلك البعض؛ فهناك من يرى أن الكتاب كله مبدل، وليس فيه من كلام الله شيء، وهناك من يرى أن الكتاب كله من عند الله، وأن التحريف قد وقع في التأويل دون الألفاظ، وأكثر هؤلاء من المتكلمين، أما الصواب فهو وسط بين أولئك وهؤلاء، وهو أن كتبهم أصلها من عند الله، لكنهم أضافوا وحذفوا وغيروا، ولا نقول أن التحريف وقع فيها كلها، لكن في بعضها؛ ففيها الحق مختلط بالباطل، وقد رجح هذا المذهب -الثالث- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، والحافظ ابن كثير -رحمه الله، والحافظ ابن القيم -رحمه الله، وهو قول الجمهور، وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على الفريقين بحجج ناصعة البيان, قائمة البرهان؛ فراجعها للتوسع إن شئت.[5]
ولقد روى الحاكم في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير ((أن معاذ بن جبل لما قدم الشام رأى اليهود يسجدون لأحبارهم وعلمائهم ورأى النصارى يسجدون لأساقفتهم فلما قدم على رسول الله r سجد له فقال: ما هذا يا معاذ؟ فقال: إني قدمت الشام فرأيت اليهود يسجدون لعلمائهم وأحبارهم ورأيت النصارى يسجدون لقسيسيهم ورهبانهم فقلت: ما هذا؟ قالوا: تحية الأنبياء فقال صلى الله عليه وسلم: كذبوا على أنبيائهم كما حرفوا كتابهم لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)).[6]
وشدد النبي على هذا المعتقد حين قال : ((إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً، فاتبعوه، وتركوا التوراة)).[7]
فلا نرد قولَ النبي لقول كائن من كان.
وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى¨وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) آل عمران:
((إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه)).[8]
وكذلك روى الإمام البخاري في صحيحه:
عن ابن عباس قال: ((يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه أحدث الأخبار بالله[9]تقرؤونه لم يشب[10]؟ وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا {هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا}، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم)).[11]
وهذا قول ابن عم النبي حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس .
بعد أن رددت على القمص بسيط وأجبته في تحديه، أقول:
أتحدى القمص عبد المسيح بسيط في مناظرة عن عصمة العهد القديم، في أي منتدى يختاره، أو أي غرفة من غرف البالتوك يختارها!
فهل سيجيب؟! منتظر الرد!
تعبد ورقة مع النبي في غار حراء!، ولأكثر من 15 سنة!
قال القمص عبد المسيح بسيط:
كان مع ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة وقريب نبي المسلمين، العالم الحنيفي المتأثر بالنصرانية إنجيل يترجم منه من العبرية (السريانية) إلى العربية، فهل رآه نبي المسلمين أو قرأه ورقة الذي تعبد معه في غار حراء، في شهر رمضان، أكثر من 15 سنة؟[12]
أولاًً: كالعادة لم يذكر القمص بسيط مصدر هذا الادعاء الخطير، وكأن كلامه شيء بديهي لا يُعارض فيه، وهذه عادة القمص دوماً، فكما لاحظت، وستلاحظ بُعد القمص كل البعد عن المنهج العلمي!، وقد كُنت في بداية اشتغالي بدعوة النصارى أعجب جداً من بعض الشبهات التي يلقونها لما فيها تهافت بادٍ، لكن زال عني غبش ذلك لمّا علمت أنّ حادي القوم أشدهم ولعاً بذلك.
ونحن نتحدى القمص عبد المسيح بسيط أن يخرج لنا من كتب السيرة المعتمدة عند المسلمين ما يؤيد كلامه!
ثانياً: من الذي خدعك يا بسيط وأخبرك أن العبرية هي السريانية؟، ربما تقصد أن العبرية هي العربية؟!
ثالثا: لم يكن ورقة بن نوفل كما زعم القمص بسيط حنيفياً، بل كان نصرانياً كما جاء في حديث بدء الوحي في الصحيحين وفيه: ((فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرءًا تنصر في الجاهلية))[13].
ألم يقرأ القمص بسيط هذا الحديث المشهور؟! أم عميت القلوب والأبصار؟! أم اجتاحته رغبة جارفة وشهوة عارمة في تزوير التاريخ؟! أم اخترق حجب الغيب وعلم أن ورقة كان حنيفياً؟!
ابن إسحاق كان صحابياً من أصل كتابي!
قال القمص عبد المسيح بسيط:
هل قال أحد من الصحابة الذين كانوا من أصل يهودي أو مسيحي، مثل ابن اسحق وسلمان الفارسي وغيرهم، بتحريف التوراة أو الإنجيل؟[14]
قلتُ: لا أكتم القارئ حديثاً إن قلت إنني قد أفدت من هذا الكلام الذي كتبه القمص -هو والذي سيليه- لا لأنني وجدت فيه ما أدفع به جهلاً أو أصوّب به فهمًا- وإنّما كان مادة تسلية ولمن أعرف, نطوي به صفحة الملل والضجر؛ إذ إنّ القمص بسيط فوجئ باسم إسحاق فطار فرحاً معتقداً أن كل إسحاق لا يمكن أن يكون مسلماً! وهذا هو مرجع القمّص في معرفة الإسلام: (الوهم) و(الظن) والخيال الخصب الذي يرتع في فسيح أرضه باغي السراب!
ابن إسحاق من أشهر أعلام أمّة الإسلام, لم يكن نصرانياً ولا يهودياً, ولم يكن صحابياً!
قال المزي في تهذيب الكمال: ((محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، و يقال: ابن كوثان المدني، أبو بكر و يقال: أبو عبد الله القرشي المطلبي، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، و كان جده يسار من سبي عين التمر .رأى أنس بن مالك، وسالم بن عبد الله بن عمر، و سعيد بن المسيب)).[15]
ولا يوجد كتابٌ واحدٌ من كتب التراجم ذكر أو أشار أو ألمح إلى أن ابن إسحاق كان صحابياً ولا أنه كان على على دين النصارى أو اليهود ثم أسلم، فكل ما في الأمر أنّ ما ادّعاه القمص لا يخرج عن كونه من الكلام المرسل الذي لا يعرف له أصل غير الظن المجرّد, وهو دال على أنّ بسيط لا يعرف من أصول العلم والبحث ما يرتفع به عن مرتبة العوام!
وهب بن منبه كان صحابياً!
قال القمص عبد المسيح بسيط:
ولأنه كان من النادر أن يوجد بين العرب من يعرف العبرية مثل اليهود إلا بعض الصحابة الذين كانوا من أصل عبري مثل عبد الله بن سلام ووهب بن منبه.[16]
قلتُ: كيف يكون وهب بن منبه -رحمه الله- صحابياً يا قمص بسيط وقد ولد في خلافة عثمان بن عفان t 34 هـ[17] ؟!
في الأعلام للزركلي:
((وهب بن منبه (34 - 114هـ = 654 - 732م): وهب بن منبه الأبناوي الصنعاني الذماري، أبو عبد الله: مؤرخ، كثير الإخبار عن الكتب القديمة، عالم بأساطير الأولين ولا سيما الإسرائيليات. يعد في التابعين. أصله من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمن. وأمه من حِمير. ولد ومات بصنعاء وولاه عمر بن عبد العزيز قضاءها)).[18]
ولم يجد القمص حرجاً في تكرار هذه الدعوى الباطلة؛ فقال في نفس الكتاب:
وهنا تأكيد منقول عن وهب بن منبه أحد الصحابة.[19]
ونحن نتحدى القمص عبد المسيح بسيط أن يأتي لنا بكتاب واحد من كتب التراجم والسير أشار من قريب أو بعيد، بتصريح أو تلميح إلى أن وهب بن منبه كان صحابياً!
التدليس في النقل عن ابن عطية -رحمه الله-
قال القمص عبد المسيح بسيط:
وجاء في تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية "واختلف العلماء في معنى قوله: "يحرفون الكلم" فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها"[20]
نعم هذا ما قاله ابن عطية -رحمه الله- حقاً في تفسيره، لكن هل نسيتَ يا قمص بسيط أن تنقل القول الثاني؟، قلتَ: فقال قومٌ، فأين القول الثاني؟
بالطبع لا ينتظر النصارى من القمص أن يكمل كلام ابن عطية حتى يظهر الحق الذي يخشاه القمص، لكنني سأضع كلام ابن عطية -رحمه الله- كاملاً ليتبين للقارئ كيف بتر القمص كلامه!
قال ابن عطية: ((واختلف العلماء في معنى قوله "يحرفون الكلم" فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها، وقالت فرقة بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضا وفعلوا الأمرين جميعا بحسب ما أمكنهم. قال القاضي أبو محمد: وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى "فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ" البقرة79. يقتضي التبديل. ولا شك أنهم فعلوا الأمرين))[21].
فهذا هو كلام ابن عطية -رحمه الله- كاملاً دون بتر، فابن عطية ينقل أقوال العلماء في المسألة، فليس من الصدق والأمانة أن تنقل قولاً واحداً وتترك الثاني يا قمص بسيط، بل إن ابن عطية ختم كلامه قائلاً: ولا شك أنهم فعلوا الأمرين!
وقد أكد ابن عطية -رحمه الله- على هذا القول مرة أخرى ونسبه للجمهور فقال: ((وتحريف الكلم على وجهين، إما بتغيير اللفظ، وقد فعلوا ذلك في الأقل، وإما بتغيير التأويل، وقد فعلوا ذلك في الأكثر، وإليه ذهب الطبري، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور))[22].
كما أنّ ابن عطيّة لم يوفّق في نسبته القول الأولّ إلى ابن عباس رضي الله عنه؛ إذ الثابت كما نقلناه سابقاً عن ابن عباس أنه يقول بالتحريف اللفظي للتوراة.
التدليس على ابن كثير -رحمه الله-
أطال القمص بسيط في بسط الكلام لإثبات أن العلماء المسلمين يشهدون أن التحريف المقصود في القرآن هو التأويل الباطل، وليس التحريف بالزيادة والنقصان والتغيير، فأخذ ينقل كل ما يظن أنه يوافق ما يدعيه، ولم يجد حرجاً أن يبتر ما يقتبسه أحياناً كثيرة، والأمر الذي يجب أن يخجل منه كل مناصر للقمص بسيط هو أن هذه الكتب نفسها أثبتت في مواضع أخرى وقوع التحريف الذي أراد القمص بسيط نفيه، وسيكون عملي هنا هو نقل كلام القمص بسيط ثم نقل بعض فقرات من نفس الكتاب الذي نقل عنه القمص لأثبت بطلان ما ذهب إليه، وتجنيه فيما أراده.
قال القمص عبد المسيح بسيط:
وجاء في البداية والنهاية للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي "أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران عليه السلام، وكانت كما قال الله تعالى: "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ" (الأنعام: 154). وقال تعالى: "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً" (الأنعام:91)، وقال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ" (الأنبياء: 48). وقال تعالى: "وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" (الصافات: 118و119). وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (المائدة: 44). فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان، ثم شرعوا في تحريفها، وتبديلها، وتغييرها، وتأويلها، وإبداء ما ليس منها، كما قال الله تعالى: "وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران: 78). فأخبر تعالى أنهم يفسرونها، ويتأولونها، ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في معانيها، ويحملونها على غير المراد، كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها، وكما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، مع أنهم مأمورون بإقامة الحد، والقطع على الشريف والوضيع. فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون: بأنها جميعها بدلت، وقال آخرون: لم تبدل، واحتجوا بقوله تعالى: "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ" (المائدة: 48) ... وفي قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا فقال لهم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" .فقالوا: نفضحهم ويجلدون فأمرهم رسول الله ... بإحضار التوراة فلما جاءوا بها، وجعلوا يقرؤونها ويكتمون آية الرجم التي فيها، ووضع عبد الله بن صور بأيده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له رسول الله ... : "ارفع يدك يا أعور". فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم فأمر رسول الله ... برجمهما، وقال: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوها". وعند أبي داود: أنهم لما جاؤوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها، وقال: آمنت بك وبمن أنزلك، وذكر بعضهم أنه قام لها ولم أقف على إسناده، والله أعلم .وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهما، أن التوراة انقطع تواترها في زمن بخت نصر، ولم يبق من يحفظها إلا العزير، ثم العزيز إن كان نبياً فهو معصوم، والتواتر إلى المعصوم يكفي، اللهم إلا أن يقال: إنها لم تتواتر إليه، لكن بعده زكريا، ويحيى، وعيسى، وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة، فلو لم تكن صحيحة معمولاً بها، لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون"[23]
نقلت كل هذا مضطراً، لكن عزائي في ذلك أن يستقيم الكلام لقارئه.
قلتُ: قال ربي -وأحق القول قول ربي-:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) آل عمران.
أولاً: أجزمُ بأن القمص لم يمسك يوماً بيديه كتاب البداية والنهاية، بل فقط ينقل من برنامج الموسوعة الشاملة، فقد نقلَ نفس الخطأ الموجود في الموسوعة وهو كلمة (العزيز) والصواب هو: (العزير)!، ولم يصحح الخطأ لأنه مجرد ناقل وليس هو بالباحث أو العالم أو حتى طالب العلم الذي يسلك جادة الطلب، وانظر إلى كيفية توثيقه للكلام، لتعلم الخلل الذي أصابه! هل يكفي توثيق المعلومة بعزوها إلى كتاب البداية والنهاية فحسب، لم يذكر رقم الجزء ولا رقم الصفحة!
ثانياً: كرر القمص أجزاء من هذا الاقتباس أكثر من مرة في نفس الكتاب، وكرر أيضاً قصة الرجم أكثر من مرة بألفاظ مختلفة، تحت عناوين مختلفة، ليوحي للقارئ بكثرة أدلته!
ثالثاً: لماذا لم يضع القمص الأسطر التالية لهذه الكلمات التي اقتبسها مباشرة؟ الإجابة وبكل وضوح لأنه يريد أن يجعل القارئ يفهم شيئاً غير ما قاله الإمام ابن كثير -رحمه الله- فلذلك بتر كلامه، يريد القمص أن يوهم القارئ أن ابن كثير -رحمه الله- لا يقول بتحريف ألفاظ كتب اليهود والنصارى!، وهذا يدل على أننا نتعامل مع مدلسين، وها هو رجل الدين (!) القمص عبد المسيح بسيط يعطينا مثالاً للتدليس سيبقى للأبد في كتابه.
يقول ابن كثير -رحمه الله- في الأسطر التي تلت اقتباس القمص (الأمين!):
((وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين؛ منهم شيخنا الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله؛ فقال أما من ذهب إلى أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد، وكذا من قال لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضا، والحق أنه دخلها تبديل وتغيير وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص كما تصرفوا في معانيها، وهذا معلوم عند التأمل ولبسطه موضع آخر والله أعلم، كما في قوله في قصة الذبيح اذبح ابنك وحيدك وفي نسخة بكرك إسحاق فلفظة إسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية لأن الوحيد وهو البكر إسماعيل لأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشر سنة فكيف يكون الوحيد البكر إسحاق، وإنما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون إسماعيل غير الذبيح فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف ووافقوهم على أن الذبيح إسحاق والصحيح الذبيح إسماعيل كما قدمنا والله أعلم، وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الأمر بالتوجه إلى الطور في الصلاة وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى وهكذا يوجد في الزبور المأثور عن داود عليه السلام مختلفا كثيرا وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه وليست منه والله أعلم، قلت وأما ما بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها وتغيير القصص والألفاظ والزيادات والنقص البين الواضح وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شيء كثير جدا فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع لنا عليه والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه وأما النصارى فأناجيلهم الأربعة من طريق مرقس ولوقا ومتى ويحنا أشد اختلافا وأكثر زيادة ونقصاً وأفحش تفاوتا من التوراة)).[24]
فليت القمص بسيط أكمل كلام ابن كثير، ولو أكمل القمص بسيط الكلام لظهر فساد ما ذهب إليه، ولقال القارئ على الفور يا له من كذب واضح، وجهل فاضح، ومصيبة كبيرة أن تخرج من أحد كبرائهم!
الهوامش,:
[1]أراد مني البعضُ أن يشمل الميزان كلام القمص في غرفته على برنامج البالتوك، وفي الفضائيات، لكنني عدلت عن ذلك -وإن كان فيه بلاء عظيم- لأن هذه المواد قد تكون غير متاحة للبعض، ولأسباب أخرى.
[2]اسم هذا الكتاب مكتوب على الغلاف خطأً هكذا: "الكتاب المقدس يتحدى نُقاده والقائلين بتحريفة"!
[3]الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص179.
[4]ابن عبد البر. جامع بيان العلم وفضله 2/32.
[5]الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/367 - 495، 2/3 - 20. ومجموع الفتاوى 13/103، 104.
[6] المستدرك 7325، والطبراني في الكبير 7294, قال الحاكم والذهبي: على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[7] الطبراني في الأوسط 5548، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 2832.
[8] تفسير البغوي 2/59.
[9] آخر رسالات الله.
[10] لم تشبه شائبة.
[11] صحيح البخاري 2685.
[12]الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص ص179، 180.
[13]صحيح البخاري 3، صحيح مسلم 160.
[14]الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص180.
[15]المزي، تهذيب الكمال. تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، 24/ 406. مؤسسة الرسالة.
[16]الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص180.
[17]السابق، 11/ 147.
[18]الزركلي، الأعلام 8/ 125.
[19]الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص183.
[20]الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص188.
[21]ابن عطية، المحرر الوجيز 2/169.
[22]السابق 2/62.
[23]الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص ص225، 226.
[24] الحافظ بن كثير، البداية والنهاية. 3/83، 84. طبعة هجر.
تعليق