الأولويات في مجال العلم والفكر

تقليص

عن الكاتب

تقليص

solema مسلم اكتشف المزيد حول solema
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • solema
    مشرفة قسم
    الإعجاز العلمي والنبؤات

    • 7 يون, 2009
    • 4518
    • طبيبة
    • مسلم

    الأولويات في مجال العلم والفكر

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الأولويات في مجال العلم والفكر


    موضوع هام ... يجب على كل مسلم أن يعيه جيداً ومن أجمل ما قرأت بخصوص هذا ...
    مقال للدكتور :يوسف القرضاوى فأحببت أن أنقله لكم للإستفادة ........



    يتناول المقال النقاط التالية


    * أولوية العلم على العمل
    * أولوية الفهم على مجرد الحفظ
    * أولوية المقاصد على الظواهر
    * أولوية الاجتهاد على التقليد
    * أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا
    * الأولويات في الآراء الفقهية
    * التفريق بين القطعي والظني


    أولوية العلم على العمل

    من أهم الأولويات المعتبرة شرعا : أولوية تقديم العلم على العمل . فالعلم يسبق العمل،وهو
    دليله ومرشده. وفي حديث معاذ: "العلم إمام، والعمل تابعه".

    ولهذا وضع الإمام البخاري بابا في كتاب العلم من جامعه الصحيح جعل عنوانه :"باب العلم
    قبل القول والعمل "، وقال شراحه :أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبر
    ان إلا به، فهو متقدم عليهما، مصحح للنية، المصححة للعمل.قالوا: فنبه البخاري على ذلك
    حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم :بأن العلم لا ينفع إلا بالعمل تهوين أمر العلم، والتساهل
    في طلبه.


    واحتج البخاري لما ذكره ببعض الآيات والأحاديث الدالة على دعواه.فمن الآيات قوله تعالى :(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... ).

    فأمر رسوله بالعلم بالتوحيد أولا، ثم ثنى بالاستغفار، وهو عمل . والخطاب وإن كان للنبي
    فهو متناول لأمته.ومنها قوله تعالى : (إنما يخشى الله من عباده العلماء )، فالعلم هو الذي
    يورث الخشية،الدافعة إلى العمل.

    ومن الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم :"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "،لأنه إذا
    فقه عمل، وأحسن ما عمل.

    مما يستأنس به لتقديم العلم على العمل :أن أول ما نزل من القرآن : (إقرأ)،والقراءة مفتاح
    مفتاح العلم، ثم نزل العمل في مثل: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر).

    وإنما كان العلم مقدما على العمل، لأنه هو الذي يميز الحق من الباطل في الاعتقادات
    والصواب من الخطأ في المقولات، والمسنون من المبتدع في العبادات، والصحيح من
    الفاسد في المعاملات،والحلال من الحرام في التصرفات،والفضيلة من الرذيلة في
    الأخلاق والمقبول والمردود في المعايير، والراجح والمرجوح في الأقوال والأعمال.

    ولهذا وجدنا كثيرا من المصنفين من علمائنا السابقين يبدأون مصنفاتهم ب "كتاب العلم".مثل
    ما صنع الإمام الغزالي في كتابيه : "إحياء علوم الدين "، و "منهاج العابدين ".

    وكذلك فعل الحافظ المنذري في كتابه"الترغيب والترهيب "فبعد ذكر أحاديث في النية

    والإخلاص واتباع الكتاب والسنة بدأ بكتاب "العلم".

    وفقه الأولويات الذي نتحدث عنه مبناه ومداره على العلم، فبه نعرف ما حقه أن يقدم وما
    شأنه أن يؤخر، وبدون هذا العلم نخبط خبط عشواء.

    وما أصدق ما قاله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز : من عمل في غير علم كان ما يفسد
    أكثر مما يصلح.

    وهذا واضح في بعض الفئات من المسلمين، الذين لم تكن تنقصهم التقوى أو الإخلاص
    والحماس، وإنما كان ينقصهم العلم والفهم بمقاصد الشرع، وحقائق الدين.

    وهذا ما وصف به الخوارج الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، على فضله
    ومكانته في نصرة الإسلام، وقربه من رسول الله نسبا وصهرا وحبا،واستحلوا دمه ودماء
    من سواهم من المسلمين، يتقربون بذلك إلى الله!!


    وهؤلاء امتداد لمن اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأموال
    فقال له بجلافة وجهالة :اعدل فقال:"ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت إذن وخسرت
    إن لم أكن أعدل"!


    وفي رواية : أن هذا الجلف الجافي قال له : يا رسول الله، اتق الله! قال: "أو لست أحق
    أهل الأرض أن يتقي الله"؟!


    لم يفقه هذا ومثله سياسة تأليف القلوب،وما تجلبه من مصالح عظيمة للأمة، وقد شرعها
    الله في كتابه، وأجاز الصرف فيها من الصدقات، فكيف من الغنائم والفيء؟


    ولما سأل بعض الصحابة قتل هذا المتطاول منعه الرسول الكريم .وحذر من ظهور طائفة
    على شاكلته وصفهم بقوله : "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم
    وعملكم
    مع عملهم،يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم،يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".

    ومعنى :"لا يجاوز حناجرهم ":أي لا تفقهه قلوبهم، ولا تستضئ به عقولهم،ولا ينتفعون بما
    تلوا منه، رغم كثرة الصلاة والصيام.ومما وصفهم به كذلك:أنهم"يقتلون أهل الإسلام،
    ويدعون أهل الأوثان".

    فآفة هؤلاء ليست في ضمائرهم ولا نياتهم، بل في عقولهم وأفهامهم، ولهذا وصفوا في
    حديث آخر بأنهم: "حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام".

    وإنما أتى هؤلاء من قلة العلم، ونقص الفقه، فلم ينتفعوا بكتاب الله، مع أنه يتلونه رطبا
    لكنها تلاوة بلا فقه، وربما فقهوه فقها أعوج، يناقض ما أراد به منزله تبارك وتعالى.

    ولهذا حذر الإمام الجليل الحسن البصري من الإيغال في التعبد والعمل، قبل التحصن
    بالعلم والتفقه، وقال في ذلك كلمته البليغة المعبرة : "العامل على غير علم كالسالك
    على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا
    يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا
    العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم
    لم يدلهم على ما فعلوا".


    العلم شرط في كل عمل قيادي (سياسي أو عسكري أو قضائي) ومن هنا كان العلم
    شرطا في كل عمل قيادي، سواء أكان عملا سياسيا إداريا، مثل عمل يوسف عليه السلام
    الذي قال له ملك مصر :
    (إنك اليوم لدينا مكين، قال اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم )، فأشار إلى
    مؤهلاته الخاصة التي ترشحه لهذا العمل الكبير الذي كان يشمل المالية والاقتصاد
    والتخطيط والزراعة والتموين في ذلك الحين . وقوام هذه المؤهلات أمران :
    الحفظ (وهو يعني الأمانة )، والعلم، ويراد بالعلم، ويراد بالعلم هنا : الخبرة به
    والكفاية فيه.وهذا يوافق ما جاء على لسان ابنه الشيخ الكبير في سورة القصص :
    (إن خير من استأجرت القوي الأمين).


    أم كان العمل عسكريا : كما قال تعالى في تعليل اختيار طالوت ملكا على أولئك الملأ
    من بني إسرائيل: (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم).


    أم كان هذا العمل قضائيا، حتى إنهم اشترطوا في القاضي كما اشترطوا في الخليفة
    أن
    يكون مجتهدا، فلم يكتفوا في مثله أن يكون عالما مقلدا لغيره، لأن الأصل في العلم
    هو معرفة الحق بدليله، دون التزام بموافقة زيد أو عمرو من الناس، أما من قلد غيره
    من البشر من غير أن تكون له حجة، أو كانت له حجة واهية غير ناهضة، فليس هذا
    من العلم في شيء.


    وإنما قبلوا قضاء المقلد، مثلما قبلوا ولاية من لا فقه له، للضرورة . غير أن هناك حد
    أدنى من العلم لابد أن يكون لديه، وإلا قضى على جهل فكان من أهل النار.

    وفي الحديث الذي رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
    "القضاة ثلاثة : اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في
    الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم
    فهو في النار".


    يتبع

    التعديل الأخير تم بواسطة solema; 17 يون, 2010, 10:51 ص.
  • solema
    مشرفة قسم
    الإعجاز العلمي والنبؤات

    • 7 يون, 2009
    • 4518
    • طبيبة
    • مسلم

    #2

    ضرورة العلم للمفتي



    ومثل القضاء : الفتوى، فلا يجوز أن يفتي الناس إلا عالم متمكن في علمه، فقيه في
    دينه وإلا حرم الحلال، وأحل الحرام، وأسقط الواجبات، أو ألزم الناس بما لم يلزمهم
    الله، وأقر المبتدعات أو بدع المشروعات، وكفر أهل الإيمان، أو برر كفر أهل الكفر .

    وهذا كله أو بعضه يقع ثمرة لغياب العلم والفقه، ولا سيما مع الجراءة على الفتيا، واستباحة حرمتها لكل من هب ودب .


    كما نرى ذلك في عصرنا، الذي أصبح أمر الدين فيه كلا مباحا يرعاه كل من شاء، من
    كل من له لسان ينطق، أو قلم يخط، مع شدة تحذير القرآن والسنة وسلف الأمة من
    اقتحام هذا الحمى الخطير، دون مؤهلاته وشروطه، وما أصعب استجماعها والتمكن منها!


    ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم النكير على من تسرعوا بالفتوى في عهده، فأفتوا
    رجلا به جراحة أصابته جنابة أن يغتسل، دون رعاية لما به من جراح، فكان ذلك سببا
    في موته،فقال عليه الصلاة والسلام : "قتلوه قتلهم الله ! ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما
    شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم".

    فانظر كيف اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فتواهم قتلا له، ودعا عليهم بقوله : "قتلهم الله"!

    الفتوى الجاهلة إذن قد تقتل، وقد تدمر . ولهذا نقل ابن القيم وغيره الإجماع على تحريم
    الإفتاء في دين الله بغير علم، وأدخله ضمن قوله تعالى:
    (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).


    ونقل من الأحاديث وآثار الصحابة وأقوال السلف ما يسد الطريق على الأدعياء
    والمتطفلين وأنصاف العلماء.

    قال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم.

    وقال أبو حصين الأشعري : إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع
    لها أهل بدر! فكيف لو رأى جرأة أهل عصرنا؟!

    وقال ابن مسعود وابن عباس: من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون!
    وقال أبو بكر: أي سماء تقلني، وأي أرض تظلني: إذا قلت ما لا أعلم؟!
    وقال علي: وأبردها على كبدي ثلاث مرات أن يسأل الرجل عما يعلم، فيقول: الله أعلم!
    وكان ابن المسيب سيد التابعين لا يكاد يفتي إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني!


    وهذا كله دليل على خطر الفتوى، وضرورة التأهل لها بالعلم الراسخ، والأفق الواسع،
    مع الورع العاصم من اتباع هوى النفس أو أهواء الغير.


    ومن هنا يعجب المرء غاية العجب من شبان من طلاب العلم الشرعي وكثيرا ما يكونون
    دخلاء عليه يفتون باستعجال واستعلاء في أعوص المسائل،وأخطر القضايا، دخلاء عليه يفتون باستعجال واستعلاء في أعوص المسائل،وأخطر القضايا، ويتطاولون
    على العلماء الكبار، بل يناطحون الأئمة العظام، والصحابة الأعلام، ويقولون في غرور
    وانتفاخ: هم رجال، ونحن رجال!!

    وأول ما يفتقرون إليه هو معرفة قدر أنفسهم، ثم فقه مقاصد الشرع، وفقه حقائق
    الواقع، ولكن الغرور حجاب كثيف دون ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


    ضرورة العلم للداعية والمعلم



    وإذا كان العلم مطلوبا للقضاء والفتوى، فهو مطلوب كذلك للدعوة والتربية. فقد قال الله
    تعالى لرسوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، على بصيرة أنا ومن اتبعني) فكل داع إلى
    الله من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون دعوته على بصيرة. ومعنى هذا
    : أن يكون علىبينة من دعوته، ومعرفة مستبصرة بما يدعو إليه . فيعلم: إلام يدعو؟ ومن يدعو؟ وكيف يدعو؟



    ولهذا قالوا عن الرباني : هو الذي يعلم ويعمل ويعلم، وإليه يشير قوله تعالى :
    (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون )، وفسر ابن عباس
    الربانيين فقال : حكماء فقهاء. ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم بل كباره.


    قالوا: والمراد بصغار العلم : ما وضح من مسائله، وبكباره : ما دق منها وقيل : يعلمهم
    جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل نتائجه.

    والمقصود هو : التدرج في التعليم، ومراعاة ظروف المتعلمين، وقدراتهم، والترقي بهم
    من درجة إلى أخرى.

    ومما يوجبه العلم في مقام الدعوة والتعليم : أن يأخذ الداعية والمعلم الناس بالتيسير لا
    التعسير وبالتبشير لا التنفير. كما في الحديث المتفق عليه:
    "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".



    قال الحافظ في شرح الحديث : المراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في
    الابتداء وكذلك الزجر عن المعاصي، ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في
    ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد، بخلاف ضده.

    وليس التيسير مقصورا على قريب العهد بالإسلام، كما قد يفهم من كلام الحافظ، بل هو
    أمرعام ودائم، ولكنه ألزم ما يكون لحديث العهد بالإسلام أو بالتوبة، أو بكل من يحتاج
    إلى التخفيف من مريض أو كبير سن أو ذي حاجة.


    ومن مقتضيات العلم : أن يجرعوا من المعارف الدينية ما يطيقونه ، وتسيغه معدتهم العقلية
    ولا يحدثوا بما تنكره عقولهم، فيكون ذلك فتنة عليهم أو على بعضهم.

    وفي هذا يقول علي رضي الله عنه :
    حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون :أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!

    ويقول ابن مسعود رضي الله عنه :
    ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة.

    يتبع

    تعليق

    • solema
      مشرفة قسم
      الإعجاز العلمي والنبؤات

      • 7 يون, 2009
      • 4518
      • طبيبة
      • مسلم

      #3
      أولوية الفهم على مجرد الحفظ



      وأحب أن أنبه هنا ونحن نتحدث عن أسبقية العلم على العمل على أمر مهم، يدخل فيفقه
      الأولويات أيضا. وهو:أولوية علم الدراية على علم الرواية، وبعبارة أخرى، أولوية الفهم
      والفقهعلى مجرد الاستيعاب والحفظ والعلم الحقيقي هو الذي يتمثل في الفهم والهضم.



      والإسلام إنما يريد منا : التفقه في الدين، لا مجرد تعلم الدين، كما في قوله تعالى :
      (فلولا نفرمن كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
      وفي الحديث الصحيح: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".


      والفقه شيء أعمق وأخص من العلم، إنه الفهم، والفهم الدقيق، ولذا نفاه الله تعالى عن
      الكفاروالمنافقين، حين وصفهم بأنهم: (قوم لا يفقهون).



      وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في
      الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".

      وفي حديث أبى موسى في الصحيحين: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث
      الكثير، أصاب أرضا،فكان منها نقية قبلت الماء،فأنبتت الكلأ والعشب الكثير،وكان منها أجادب
      أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منهم طائفة أخرى،إنما
      هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله
      به،فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".


      فالحديث يمثل ما جاءت به النبوة من الهدى والعلم بالغيث العام الذي يحيي الأرض الميتة
      كما تحيي علوم الدين القلوب الميتة . كما يمثل أنواع الناس في تلقيهم لهذا العلم بأنواع
      الأرض المختلفة . فأعلى الأصناف هو الذي يفقه العلم وينتفع به ويعلمه ، فهو كالأرض
      الطيبة النقية التي تشرب الماء ، فتنتفع به وتنبت الكلأ والعشب الكثير . وأدنى من ذلك

      النوع الثاني : من لهم قلوب حافظة، وليست لهم أفهام ثاقبة ، ولا رسوخ لهم في العقل
      يستنبطون به المعاني والأحكام ، فهؤلاء يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما
      عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به.فهؤلاء نفعوا بما بلغوا،فهذا
      الصنف بمنزلة الأرض الجدباء التي يستقر فيها الماء فتمسكه،حتى يأتي من يشرب منها
      ويسقي ويزرع، وهذاهوالمشار إليهفي الحديث المشهور:

      "نضر الله امرئ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب
      حامل فقه إلى من هو أفقه منه".


      والنوع الثالث : هم الذين ليس لهم فهم ولا حفظ،ولا علم ولا عمل، فهم كالأرض السبخة
      التي لا تقبل الماء، ولا تمسكه لغيرها.

      فدل هذا الحديث على أن أرفع أصناف الناس درجة عند الله وعند رسوله : هم أهل الفهم
      وبعدهم أهل الحفظ، ومن هنا كان فضل "الدراية" على "الرواية"، وفضل "الفقهاء"
      على"الحفاظ".

      وفي خير قرون الأمة القرون الثلاثة الأولى كانت المكانة والصدارة "للفقيه" وفيعصور
      الانحدار والتراجع كانت المكانة والصدارة "للحفاظ"!



      لا أريد أن أقول : إن الحفظ ليس له أي قيمة مطلقا، وإن الذاكرة في الإنسان لا جدوى لها،
      فهذا غير صحيح . ولكن أقول : إن الحفظ هو مجرد خزن للحقائق والمعلومات، ليستفاد منه
      بعد ذلك .فالحفظ ليس مقصودا لذاته،وإنما هو وسيلة لغيره .والخطأ الذي وقع فيه المسلمون
      هو اهتمامهم بالحفظ أكثر من الفهم، وإعطاؤه أكثر من حقه وقدره.



      ولهذا نجد مبالغة في تكريم حفاظ القرآن الكريم، على ما لذلك من فضل،حتى إن مسابقات
      تعقد في عدد من الأقطار، تقدم فيها جوائز قيمة، تبلغ عشرات الآلاف للشخص الواحد،وهذا
      أمر مقدر ويشكر.

      ولكن لم يرصد مثل هذه الجوائز ولا نصفها ولا ربعها للنابغين في العلوم الشرعية المختلفة
      من التفسير والحديث والفقه وأصوله والعقيدة والدعوة، مع أن حاجة الأمة إلى هؤلا ء أكثر
      ونفعهم أعظم وأغزر.


      ومما يعاب به التعليم العام في أوطاننا :أنه يعتمد على الحفظ و"الصم" لا على الفهم والهضم
      ولهذا ينسى المرء غالبا ما تعلمه بعد أداء الامتحان،ولو أن ما تعلمه كان مبنياعلى الفهم

      والفقه والتمثل لرسخ في ذهنه، ولم يتعرض بهذه السرعة للزوال.



      أولوية المقاصد على الظواهر



      ومما يدخل في "الفقه" المراد: الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها،وربط
      بعضها ببعض، ورد فروعها إلى أصولها ، وجزئياتها إلى كلياتها ، وعدم الاكتفاء بالوقوف
      عند ظواهرها، والجمود على حرفية نصوصها.



      فمن المعلوم الذي دلت عليه النصوص الم تكاثرة من الكتاب والسنة، كما دل عليه استقراء
      الأحكام الجزئية في مختلف أبواب العبادات والمعاملات،وسائر العلاقات الأسرية والاجتماعية
      والسياسية والدولية : أن للشارع أهدافا في كل ما شرعه أمرا أو نهيا، أو إباحة، فلم يشرع
      تحكما ولا اعتباطا، بل شرعه لحكمة تليق بك ماله تعالى، وعلمه ورحمته وبره بخلقه .


      فإن من أسمائه "العليم الحكيم ". فهو حكيم فيما شرع وأمر، كما أنه حكيم فيما خلق وقدر.
      تتجلى حكمته في عالم الأمر،كما تجلت في عالم الخلق: (ألا له الخلق والأمر )، فكما أنه
      لم يخلق شيئا عبثا، كذلك لم يشرع شيئا جزافا.


      وكما قال أولو الألباب في خلقه : (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) نقول نحن في شرعه :
      ربنا ما شرعت هذا إلا لحكمة !


      وآفة كثير ممن اشتغلوا بعلم الدين : أنهم طفوا على السطح، ولم ينزلوا إلى الأعماق، لأنهم لم
      يؤهلوا للسباحة فيها،والغوص في قرارها، والتقاط لآلئها، فشغلتهم الظواهر،عن الأسرار
      والمقاصد وألهتهم الفروع عن الأصول، وعرضوا دين الله وأحكام شريعته على عباده، تفاريق
      متناثرة لا يجمعها جامع، ولا ترتبط بعلة،فظهرت الشريعة على ألسنتهم وأقلامهم كأنها
      قاصرة عن تحقيق مصالح الخلق، والقصور ليس في الشريعة، وإنما هو في أفهامهم، التي
      قطعت الروابط بين الأحكام بعضها وبعض، ولم يبالوا أن يفرقوا بين المتساوين، ويجمعوا بين
      المختلفين،وهو ما لم تأت به الشريعة قط، كما بين ذلك المحققون الراسخون.


      وكثيرا ما أدت هذه الحرفية الظاهرية إلى تحجير ما وسع الله،وتعسير ما يسر الشرع، وتجميد
      ما من شأنه أن يتطور، وتقييد ما من شأنه أن يتجدد ويتحرر.


      أولوية الاجتهاد على التقليد


      ومن هذا الباب: أولوية الاجتهاد والتجديد على التكرار والتقليد . وهذا مرتبط بفقه المقاصد
      الذي أشرنا إليه، وبقضية الفهم والحفظ أيضا.

      فالعلم عند السلف من علماء الأمة ليس هو مجرد معرفة الأحكام،وإن كان عن طريق تقليد
      الغير وتبني قوله ولو لم تكن له حجة مقنعة، فهو يعرف الحق بالرجال، ويتبع الأشخاص لا
      الأدلة.



      العلم عندهم هو:العلم الاستقلالي،الذي يبتع فيه الحجة، ولا يبالي أوافق زيد أو عمر من
      الناس فهو يسير مع الدليل حيثما سار، ويدور مع الحق الذي يقتنع به حيثما دار.
      استدل ابن القيم على منع التقليد بقوله تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم )، قال :
      والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم،وذكر في "إعلام الموقعين" أكثر من ثمانين وجها في
      إبطال التقليد، والرد على شبهات أنصاره.


      وإذا كان الجمود على ظواهر النصوص مذموما،كما هو شأن الظاهرية القدامى والجدد،فأدخل
      منه في الذم : الجمود على ما قاله السابقون، دون مراعاة لتغير زماننا عن زمانهم،وحاجاتنا
      عن حاجاتهم، ومعارفنا عن معارفهم. وأحسب لو تأخر بهم الزمن حتى رأوا ما رأينا،وعاشوا
      ما عشنا وهم أهل الاجتهاد والنظر لغيروا كثيرا من فتاواهم واجتهاداتهم .


      كيف وقد غير أصحابهم من بعدهم كثيرا منها، لاختلاف العصر والزمان، رغم قرب ما
      بين أولئك وهؤلاء ؟ بل كيف وقد غير الأئمة أنفسهم كثيرا من أقوالهم في حياتهم، تبعا لتغير
      اجتهاداتهم،بتأثير السن أو النضج أو الزمان أو المكان؟

      حتى إن الإمام الشافعي رضي الله عنه كان له مذهب قبل أن يستقر في مصر عرف باسم
      "القديم"ومذهب بعد استقراره في مصر عرف باسم "الجديد".وما ذاك إلا لأنه رأى ما لم
      يكن قد رأى،وسمع ما لم يكن قد سمع.
      والإمام أحمد قد روى عنه في القضية الواحدة عدة روايات متباينة،وما ذاك إلا لأن فتواه
      تختلف باختلاف الظروف والأحوال.

      يتبع


      التعديل الأخير تم بواسطة solema; 17 يون, 2010, 11:59 ص.

      تعليق

      • solema
        مشرفة قسم
        الإعجاز العلمي والنبؤات

        • 7 يون, 2009
        • 4518
        • طبيبة
        • مسلم

        #4
        أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا


        وإذا كنا نقول بضرورة سبق العلم على العمل في أمور الدين، فنحن نؤكد ضرورة ذلك في
        شؤون الدنيا أيضا. فنحن في عصر يؤسس كل شيء على العلم،ولم يعد يقبل الارتجال
        والغوغائية فى أمرمن أمور الحياة.


        فلابد لأي عمل جاد من الدراسة قبل العزم عليه،ولابد من الإقناع بجدواه قبل البدء فيهولابد
        من التخطيط قبل التنفيذ، ولابد من الاستعانة بالأرقام والإحصاءات قبل الإقدام على العمل.


        ولقد ذكرت في كتب ودراسات أخرى لي: أن الإحصاء والتخطيط والدراسة قبل العمل،كلها من
        صميم الإسلام،والرسول صلى الله عليه وسلم كان أول من أمر بعمل إحصائي منظم لمن آمن
        به بعد هجرته إلى المدينة. ولقد ظهر أثر التخطيط في سيرته في صور ومواقف شتى.


        وأولى الناس بالتخطيط لغدهم : رجال الحركة الإ سلامية،فلا يدعون الأمور تجري في أعنتها
        من غير انتفاع بتجارب الأمس،ولا رصد لوقائع اليوم،ولا تقويم للصواب والخطأ في الاجتهادات
        ولا مقدار المكاسب والخسائر في المسيرة بين الأمس واليوم، ولا معرفة دقيقة بما لدينا من
        طاقات وإمكانات، مادية ومعنوية ، ظاهرة أو كامنة،مستغلة أو مهدرة .وما هي مصادر القوة
        ونقاط الضعف عندنا ، وكذلك عند خصومنا، ومن هم خصومنا الحقيقيون ؟؟ من الخصوم
        الدائمون والخصوم العارضون؟؟ من منهم يمكن كسبه ؟ ومن لا يمكن كسبه ؟؟ من يمكن
        محاورته ومن لا يمكن؟ فلا ينبغي التسوية بين الخصوم وهم في الواقع متفاوتون.


        إن هذا كله لا يعرف إلا بالعلم والدراسة الموضوعية، البعيدة عن حكم العواطف، المتحررة
        من تأثيرات الظروف الشخصية والبيئية والوقتية ما استطاع الإنسان أن يتجرد، فإن التحرر
        الكامل والمطلق يكاد يكون مستحيلا.


        الأولويات في الآراء الفقهية


        وما ذكرناه من أولويات الفهم على الحفظ، وأولوية المقاصد على الظواهر،وأولوية الاجتهاد
        على التقليد، نحتاج إليه هنا في الأحكام الشرعية الاجتهادية ، والآراء الفقهية إذا اختلفت
        وتباينت، فكيف نرجح بينها، ونقدم بعضها على بعض؟

        إن الترجيح هنا لا يتم اعتباطا، وخبط عشواء، كما لا يتبع فيه الهوى، بل لابد فيه من معايير
        يرجع إليها، ويعول عليها.وفي كتب الأصول باب طويل الذيول، كبير الأهمية، حول التعادل
        والترجيح، وقد يعبر عنه

        باسم"التعارض والترجيح".كما تعرض له أئمة الحديث في علوم الحديث فيما يتعلق بالسنة
        بعضها وبعض.

        ولكني هنا أريد أن أنبه على أشياء معينة لها أهمية خاصة بالنظر إلى واقعنا المعاصر،وما
        يمور به من أفكار ، وما يعترك فيه من آراء، سواء بين المسلمين وخصومهم من المغتربين
        والعلمانيين . أم كان بين المدارس والتيارات الإسلامية المختلفة بعضها وبعض ، ولا سيما
        الذين يعملون في ساحة الدعوة والإصلاح والعمل الإسلامي، بأهدافه المتنوعة , ومناهجه
        المتباينة، وفصائله المتعددة.


        ما الآراء التي لا تحتمل الخلاف قط، ولا يقبل فيها رأي آخر، ولا مجال فيها لتسامح؟
        وما الآراء التي تقبل نسبة ولو ضئيلة من التسامح؟
        والآراء التي تتسع للكثير من الخلاف والتسامح؟



        التفريق بين القطعي والظني


        فمن المقرر لدى أهل العلم: أن ما ثبت بالاجتهاد غير ماثبت بالنص،وأن ما ثبت بالنص
        وأيده بالإجماع المتيقن غير ما ثبت بالنص واختلف فيه، والاختلاف فيه دليل على أنه أمر
        اجتهادي، والأمور الاجتهادية لا ينكر فيها عالم على آخر، لكن يناقش بعضهم بعضا فيها
        بالاحترام المتبادل. كما أن ما ثبت بالنص يختلف كثيرا من حيث قطعيته وظنيته.
        والقطعية والظنية ما هو ظني الثبوت، ظني الدلالة معا.


        ومنها: ما هو ظني الثبوت، قطعي الدلالة.
        ومنها: ما هو قطعي الثبوت، ظني الدلالة.
        ومنها: ما هو قطعي الثبوت، قطعي الدلالة معا.


        وظنية الثبوت تختص بالسنة غير المتواترة، والمتواتر : ما رواه جمع عن جمع من أول
        السند إلى منتهاه يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، والآحاد غيره.
        ومن العلماء من قال : إن التواتر في السنة عزيز، ولا يكاد يوجد، ومنهم من توسع في
        ذلك، حتى ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، التي رفضها مثل الشيخين، فليحذر من دعوى
        التواتر بغير رهان.


        ومنهم من ألحق بالمتواتر أحاديث احتفت بها القرائن مثل تلقي الأمة لها بالقبول . مثل
        أحاديث الصحيحين التي لم يتعقبها أحد من العلماء المعتبرين.
        وظنية الدلالة تشمل السنة والقرآن جميعا : فمعظم النصوص فيها تحتمل تعدد الأفهام
        والتفسيرات، لأن ألفاظ اللغة بطبيعتها فيها الحقيقة والمجاز و الكناية، والخاص والعام
        والمطلق والمقيد، وتحتمل الدلالة المطابقية، والدلالة التضمنية، والدلالة الالتزامية.

        وكثيرا ما تخضع الأفهام لعقول الناس وظروفهم واتجاهاتهم النفسية والعقلية. فالمشدد
        يفهم من النص غير ما يفهمه الميسر.ولذا عرف تراثنا شدائد ابن عمر،ورخص ابن عباس .
        وذوالأفق الواسع يفهم منه غير ما يفهمه ذو الأفق الضيق . والمقاصدي الذي يعنى بفحوى
        النص روحه،يفهم منه غير ما يفهمه الظاهري الحرفي،الذي يجمد على ظاهره لا يحيد عنه .
        وفي قضية الأمر بصلاة العصر في بني قريظة أبلغ دليل على ذلك.


        ولله حكمة في أن جعل النصوص قابلة لمثل هذا التعدد، لتسع الناس جميعا، باتجاهاتهم
        المتباينة. ولهذا أنزل كتابه الخالد، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات.
        ولو شاء الله أن يجمع الناس على فهم واحد، ورأي واحد، لأنزل كتابه كله آيات محكمات
        وجعل النصوص كلها قاطعات.


        والقرآن كله قطعي الثبوت من غير شك، ولكن أكثر آياته في جزئياتها ظنية الدلالة،ولذا
        اختلف الفقهاء في الاستنباط منها.
        ولكن القضايا الكبرى مثل الألوهية والنبوة والجزاء وأصول العبادات وأمهات الأخلاق(فضائل
        ورذائل )، والأحكام الأساسية للأسرة والميراث، والحدود والقصاص، ونحو ذلك قد بينتها
        آيات محكمات، تقطع النزاع، وتجمع الكل على كلمة سواء.

        وأكدت هذه القضايا: السنة النبوية قولا وفعلا وتقريرا،كما أكدها الإجماع اليقيني من علماء
        الأمة، واقترن بها التطبيق العملي من الأمة.

        ومن هنا: لا يجوز الخلط جهلا أو قصدا بين النصوص بعضها وبعض.
        فقد يعذر من يرد نصا ظنيا في ثبوته، إذا قام لديه دليل على عدم ثبوته عنده.
        وقد يعذر من يرد رأيا في نص ظني في دلالته، أو يفسره تفسيرا جديدا غير ما فسره به
        الأولون، ولكنه محتمل.


        وقد لا يعذر هذا ولا ذاك، في ردهما النص الظني، إذا كان ظاهر التمحل، أو التلفيق.
        ولكنه لا يكفر ويخرج من الملة بسبب موقفه هذا، أقصى ما فيه أن يبدع،أي يرمى بالبدعة
        والخروج عن النهج المعتاد لأهل السنة، وحسابه على الله تعالى . وليس هذا لكل من هب
        ودب، بل للمحققين من أهل العلم الثقات.
        إنما الذي يرفض حقا وينبذ قائله: هو رد النصوص القطعية الثبوت والدلالة جميعا، فهذه
        وإن كانت قليلة تعتبر في غاية الأهمية في الدين،لأنها هي التي تجسد الوحدة العقيدية
        والفكرية والشعورية والعملية للأمة المسلمة،وهي التي يحتكم إليها عند النزاع، ويرجع إليها
        عند الاختلاف، فإذا غدت هي الأخرى مثار نزاع واختلاف، فإلى أي شيء يرجع الناس؟!


        ومن هنا حذرنا في كتبنا من تلك المؤامرة الفكرية التي تعمل على تحويل القطعيات إلى
        ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات، مثل الذين يجادلون في آية تحريم الخمر :
        (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )
        وال تشكيك في دلالة كلمة "فاجتنبوه" على التحريم.


        ومثل الذين يجادلون في تحريم الربا، مثل الذين يجادلون في تحريم لحم الخنزير، ومثل
        الذين يجادلون في ميراث المرأة، أو في قوامية الرجل على الأسرة، أو في وجوب الحجاب
        (بمعنى لبس الخمار والملابس المحتشمة )أوغير ذلك مما ثبت بنصوص قطعية الثبوت
        والدلالة، وانعقد عليها إجماع الأمة،واستقرت عليه فقها وعملا، نظرا وتطبيقا،أربعة عشر
        قرنا من الزمان.

        إن هذه الأمور الواضحة البينة من الدين هي مما يطلق عليه العلماء "ما علم من الدين
        بالضرورة" أي يعرفه الخاص والعام من المسلمين، دون حاجة إلى إقامة دليل عليها، لأن
        أدلتها متكاثرة ومعروفة، وراسخة في وجدان الأمة.وهذه هي التي يحكم على جاحدها بالكفر
        وينبغي قبل هذا الحكم أن تزاح عن صاحبهاالشبهة، وتقام عليه الحجة،ويقطع عنه العذر
        وبعد ذلك يعزل عن جسم الأمة، ويقضى عليه بالانفصال منها.

        فينبغي التركيز على القطعيات المجمع عليها،لا على الظنيات المختلف فيها، والذي أضاع
        الأمة إنما هو أضاعتها للقطعيات، والمعركة بين دعاة الإسلام اليوم في أنحاء العالم
        الإسلامي وبين دعاة العلمانية اللادينية إنما تدور حول القطعيات : قطعيات العقيدة،
        وقطعيات الشريعة، وقطعيات الفكر، وقطعيات السلوك.


        إن هذه القطعيات هي التي يجب أن تكون أساس التفقيه والتثقيف، وأساس الدعوة والإعلام
        وأساس التربية والتعليم، وأساس الوجود الإسلامي كله.وإن من أخطر الأشياء على الدعوة
        الإسلامية، وعلى العمل الإسلامي : جر الناس باستمرار إلى الأمور الخلافية، التي لا ينتهي
        الخلاف فيها، وإدارة الملاحم الساخنة حولها، وتصنيف الناس على أساس مواقفهم منها،
        وتحديد الولاء لهم أو البراءة منهم بناء على ذلك.


        هذا مع أننا قد وضحنا بالأدلة القاطعة في كتابنا "الصحوة بين الاختلاف المشروع والتفرق
        المذموم" أن هذا النوع من ا لاختلاف ضرورة، ورحمة، وسعة، وأن إزالته غير ممكنة، وغير
        مفيدة.


        ليس معنى كلامي ألا نتكلم في أمر خلافي قط، ولا نرجح رأيا على رأي في قضية عقدية أو
        فقهية أو سلوكية، فهذا مستحيل، وما عمل العلماء إذن إذا لم يصححوا ويضعفوا ويرجحوا
        ويختاروا؟ إنما الذي أنكره أن يكون هذا هو شغلنا الشاغل، وأن نعنى بالمختلف فيه أكثر
        من عنايتنا بالمتفق عليه، وأن نهتم بالظني في حين أعرض الناس عن القطعي.


        كما أن من الخطل والخطر:أن نعرض على الناس القضايا المختلف فيها اختلافا كبيرا،على
        أنها قضايا مسلمة لا نزاع فيها ولا خلاف عليها، متجاهلين رأي الآخرين، الذين لهم
        وجهتهم ولهم أدلتهم، مهما يكن من رأينا نحن فيها، وعدم اعتبارنا لها.


        وكثيرا ما يكون الرأي الآخر هو رأي الجمهور الأكبر من علماء الأمة، وهو وإن لم يكن
        معصوما لأنه ليس بإجماع مستيقن لا يجوز أن يهون من شأنه.
        وذلك مثل الذين يدعون إلى وجوب تغطية الوجه ولبس النقاب، معتبرين أن رأيهم هو
        الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، مشددين النكير على من خالفهم، مع أنهم يخالفون رأي
        الجمهور الأعظم من الأئمة والفقهاء، كما يخالفون الأدلة الواضحة النيرة من الكتاب
        والسنة وعمل الصحابة.


        ولقد ساءني أن أحد الدعاة قال في خطبة له مسجلة:إن كشف وجه المرأة مثل كشف فرجها!
        وهذا غلو عظيم، لا يصدر من ذي فقه وبصيرة.وأود أن أنبه هنا: أن آراء بعض العلماء
        المعتبرين قد تكون شاذة في بيئة معينة، وفي عصر معين، لأنها سابقة لزمنها،ثم لا يثبت
        أن يأتي عصر آخر تجد فيه من يؤيدها ويشهرها، حتى تغدو هي عماد الفتوى،كما حدث
        لآراء الإمام ابن تيمية رضي الله عنه.

        ( المصدر )

        تعليق

        مواضيع ذات صلة

        تقليص

        المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
        ابتدأ بواسطة وداد رجائي, 15 يون, 2024, 04:22 م
        ردود 0
        28 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة وداد رجائي
        بواسطة وداد رجائي
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 18 ينا, 2021, 05:31 ص
        ردود 2
        172 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
        ابتدأ بواسطة د. نيو, 27 نوف, 2020, 06:25 م
        ردود 4
        105 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة د. نيو
        بواسطة د. نيو
        ابتدأ بواسطة أحمد محمد أحمد السبر, 23 يول, 2020, 06:53 م
        ردود 0
        65 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة أحمد محمد أحمد السبر
        ابتدأ بواسطة عاشق طيبة, 20 ديس, 2019, 11:46 م
        ردود 3
        93 مشاهدات
        0 ردود الفعل
        آخر مشاركة عاشق طيبة
        بواسطة عاشق طيبة
        يعمل...