مجالس الصّالحين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين ، وبعد:
فإن الإنسان كما يقولون مدني بطبعه ، ولابد له من مخالطة الناس ، فإذا كان الأمر كذلك وكانت مخالطة الناس أمرا لابد منه فالأجدر بالعبد أن يختار الصحبة الطيبة التي يقضي معها وقته في مجالسه ورحلاته وسفراته ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطورة هؤلاء الذين نصاحبهم ونجالسهم حين قال: " مثل الجليس الصالح والسوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثة ". ( رواه البخاري ).
وإن نظرة واحدة على مجالسنا اليوم تبعث في النفس الأسى لما آل إليه حالنا حيث تنتشر الغيبة واللغو والباطل وغير ذلك من المظاهر الفارغة ويزداد الأسى حين تقارن هذه المجالس بمجالس الصالحين والتي سنعرض لنماذج منها في مقالنا هذا.
الصحابة أكابر الصالحين
لقد اختار الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأصحاب،فهم أفضل الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، والجهاد في سبيله؛ لنشر الإسلام.
هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وإذا كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقة رأيه، فإن رأيه صادر من قلب ممتلئ نوراً وإيماناً وحكمة وعلماً ومعرفة وفهماً.
هؤلاء الصالحون أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لهم مجالس، لكنها مجالس عامرة بالإيمان والخير، قال فضيل بن غزوان: كنا نجلس أنا ومغيرة نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء بصلاة الفجر. وكانوا يجتمعون فيأمرون أحدهم أن يقرأ عليهم القرآن، اجتمعوا فقال عمر -رضي الله عنه-: يا أبا موسى ذكّرنا ربنا، فقرأ وهم يستمعون.
وكان الواحد منهم يقول للآخر ولمن معه: اجلسوا بنا نؤمن ساعة، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه التطوع في جماعة مرات، وخرج على الصحابة من أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ، فجلس معهم يستمع.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نقرأ القرآن، وفينا العربي والأعجمي، فقال: "اقرءوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلون".( رواه أبو داود،وصححه الألباني ).
وكان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جلسوا يتذاكرون، فإنهم يذكرون ما بعد الموت، والآخرة، فعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، ثم ذكر لهم علاماتها" (رواه مسلم).
هكذا كانت مجالسهم يتذاكرون الخير وأحكام الآخرة، وأمور الدين والإيمان، وكانوا يستعدون بما يتذاكرون للفتن، فعن أبي سعيد قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قلنا: بلى، فقال: الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل". ( رواه ابن ماجه،وحسنه الألباني ).
كان جلوسهم للفقه في الأعمال، ومعرفة ما هو الأقرب إلى الله، فعن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه" حديث صحيح( المستدرك:2384).
وهكذا كانوا يجلسون فيتذاكرون: مَن هؤلاء أهل الجنة؟ ما هي صفاتهم؟.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، قال:آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ علينا بك. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فاخبرني ان الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة".
هكذا كانت مجالسهم ، ولا يمنع أن يكون في بعض مجالسهم شيء من الشعر، وأيام العرب، وأمور الجاهلية، والذكريات القديمة، لكنه ليس حديثاً محرماً ولا مُسفّاً، فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متحزقين (أي: منقبضين) ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، (فليسوا أصحاب كآبة، وإنما كانت فيهم حيوية، وكان فيهم نشاط)، قال: وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله (أي معصية) دارت حماليق عينيه كأنه مجنون".(حسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد).
فلا يرضى الواحد منهم بالمنكر، ولا يمكن أن يشترك فيه، وإذا رأى أمامه منكرا، أو دُعي إلى منكر فهكذا يكون حاله.
أمام البيوت
إن كثيرا من الصحابة ما كانت لهم داخل بيوتهم أماكن للجلوس، فكانوا يجلسون في أفنيتها وعلى حافة الطريق.
قال أبو طلحة: كنا قعوداً بالأفنية نتحدث، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام علينا، فقال: "ما لكم ولمجالس الصعدات؟ (أي: الطرقات)، اجتنبوا مجالس الصعدات (وذلك لأن الجلوس فيها قد يضيق الطريق، ويكون فيه من إطلاق البصر ما فيه، إلى غير ذلك من الآفات)، فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، (أي: في أمر القرآن والوحي، وأمر الفقه والأحكام، وأمر الآخرة وتذكر ما فيها)، قال: "إما لا، فأدوا حقها، (أما إذا أبيتم إلا هذا ولم يكن عندكم غيره فأدوا حق الطريق)، قال: غض البصر ورد السلام وحسن الكلام". رواه مسلم.
فكانوا يضطرون للجلوس فيها، لكن لأي شيء؟ لأجل أن يتذاكروا؛ ولأجل أن يتفقهوا ويتدارسوا، وهكذا كانوا.
وإذا حصل منهم في مجلس شيء من الخوض في قضية لا يصلح الخوض فيها، أو لا بد لها من ضوابط، كان التذكير النبوي يأتي.
فعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتنازع في القدر، (أي: نتباحث في شأنه)، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجهه الرمان، (من شدة الغضب)، فقال:" أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه". رواه الترمذي، و حسنه الألباني.
فالدخول في القدر إذا كان بعلم وفقه فلا بأس به، وإذا كان جدالاً ونقاشاً بلا حجة، ولا بيان، فيُنهى الإنسان عنه، وكذلك فإن بعض مجالس أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان فيها شيء من شكوى الحال بين بعضهم البعض، قال أبو الدرداء : خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، وفي رواية كنا نتذاكر الدنيا وهمومها ونخشى الفقر، فقال -صلى الله عليه وسلم- لهم: "ألفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصَبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلبَ أحدكم إزاغةً إلا هي ،وايم الله لقد تركتم على مثل البيضاء ليلة ونهارها سواء". (رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني ) وفي هذا بشارة من النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة بأن الله سيغنيها من فقرها، ولكنه حذرهم من فتنة الغنى؛ لأن حب الدنيا يزيغ القلوب بعد استقامتها، ويضلها بعد هداها، وتكون الفتنة، ولذلك لم يكن يخشى عليهم الفقر وإنما كان يخشى عليهم فتنة الغنى، هذا بعض ما كان في مجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فكيف هي مجالس اليوم؟
هذه حال مجالس أصحاب محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فما هي حال مجالسنا نحن اليوم؟ كم فيها من الدين، وكم فيها من الدنيا؟، كم في مجالسنا من الطاعة، وكم فيها من العصيان؟، كم يطغى عليها من أخبار الدنيا، وتجارة الدنيا، وأمور البيع والشراء، والبضائع والأسعار، والمحلات، والخدمات؟، وهكذا يدور أصحاب كل همٍ إذا اجتمعوا في همهم الدنيوي، فمجالس الموظفين، ومجالس الطلاب، ومجالس التجار، ومجالس الأطباء، ومجالس النساء، إذا ارتقت تكلموا فيما يعملونه بالنهار، وأما مجالس نسائنا فكثيرا ما تكون مشغولة بالأزياء، والموضات، والأكلات، والحفلات، وحال الأسواق والمحلات، هل مجالسنا عامرة بذكر الله؟ هل تُطرح فيها قضايا العلم والفقه؟ هل يحصل فيها التذاكر لأمور الآخرة؟ هل يكون فيها شيء من معاني القرآن والسنة؟ أم أن فيها أمور من الغيبة، والنميمة، ونهش الأعراض، والتفكه بلحوم الخلق، مهاترات، مماراة، جدال، مجاملات، ومداهنات باطلة، بل قد لا تسلم من شيء من الانتقاص، أو الاستهزاء ببعض أمور الدين، وذلك أمرٌ خطيرُ جداً، اعتداء على الخلق، وانتقاص، وازدراء، واحتقار، واستهزاء، أين تلك المجالس التي كان يجلس فيها أولئك الصحابة، فيعمرونها بالعلم والإيمان؟ "ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله -عز وجل-، ويصلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا كان مجلسهم ترةً عليهم يوم القيامة" (أي: حسرة) (رواه أحمد بسند صحيح)، "وما اجتمع قومٌُ على ذكر فتفرقوا إلا قيل لهم: قوموا مغفور لكم"مسند أحمد(12453)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/98)، وقال: صحيح لغيره.
فالقرآن ذكرٌ، والسنة ذكرٌ، والفقه ذكرٌ، وأمور الآخرة ذكرٌ، وهكذا، أمور الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمور تقويم المجتمع والمحافظة على الأسرة إسلامية، أمور تربية النفس وتربية الأولاد ، أمور التفقه في الحلال والحرام، أمور القيام بتبليغ الإسلام، وهكذا يُذَكّر الناس بأبواب الصدقات، وأيضاً يُجالس المسلم قوماً يلتقطون له طيب الكلام كما يُلتقط طيب الثمر، فإذا كان أصحابك من الأخيار كان مجلسك كذلك.
المجالس الإلكترونية
يا مسلمون: هذه مجالسنا الالكترونية اليوم التي طغت على المجالس الوجاهية الحضورية الاجتماعية، فصار الناس يجالس بعضهم بعضاً عبر الشاشات: محادثات، مجموعات، منتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، فماذا يحدث فيها؟ ما هي موضوعات المجالس الإلكترونية؟ يقولون: دردشات، ثم تنظر فيها، فإذا فيها من أمور الجنس ما لا يمكن أن يتحمله من عنده حياء، ثم فيها أمور من إشاعة الفاحشة، وربما تذكر بعض أذكار الخلاء إذا اطلعت على بعض ما فيها، وهذه المجالسة للطرف الآخر، سواء كان أمامك مباشرة، أو خلف شاشته، فإنها تؤثر في النفس بل هي مجلس ولو كان على البعد.
هذه المجالس الإلكترونية لها اليوم آثار كبيرة، وخطيرة، كان السلف يلتمسون مجالس العلم، مجالس الحديث، وللمجالس آداب، فهاهنا التماس مجلس الرجل الصالح وصاحب العلم، عن علقمة قال: قدمت الشام فصليت ركعتين ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحا، فأتيت قوماً فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدرداء قال علقمة ـ وهو تابعي ـ فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحا، فيسرك لي. وقال حريث بن قبيصة: "قدمت المدينة فقلت: اللهم يسر لي جليس صالحاً، قال: فجلست إلى أبي هريرة".
إذاً: كان هناك دعاء يلتمس فيه هذا من ربه أن ييسر له جليسا صالحاً: صاحب علم، صاحب دين، يُذكّر، ينصح، وهكذا مجالس الصالحين والأخيار، يوقَّر فيها الكبير ، ويُرحم الصغير، ويُغض من الصوت، ويقال فيه الكلمة الطيبة، والمجالس بالأمانة، فلا تفشى فيها الأسرار، ولا يتناجى اثنان فيها دون الثالث، وفيها تلك الكفارة العظيمة إذا قاموا من مجلسهم: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك".
فيها التفسح للداخل، والتزكية، والتهذيب، والتربية وغيرها من فوائد مجالس الصالحين ، نسأل الله أن يجعل مجالسنا عامرة بذكره ، وأن تكون في موازين حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم اجعل مجالسنا عامرة بذكرك، اللهم ارزقنا مجالسة الأخيار، وباعد بيننا وبين الأشرار.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين ، وبعد:
فإن الإنسان كما يقولون مدني بطبعه ، ولابد له من مخالطة الناس ، فإذا كان الأمر كذلك وكانت مخالطة الناس أمرا لابد منه فالأجدر بالعبد أن يختار الصحبة الطيبة التي يقضي معها وقته في مجالسه ورحلاته وسفراته ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطورة هؤلاء الذين نصاحبهم ونجالسهم حين قال: " مثل الجليس الصالح والسوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثة ". ( رواه البخاري ).
وإن نظرة واحدة على مجالسنا اليوم تبعث في النفس الأسى لما آل إليه حالنا حيث تنتشر الغيبة واللغو والباطل وغير ذلك من المظاهر الفارغة ويزداد الأسى حين تقارن هذه المجالس بمجالس الصالحين والتي سنعرض لنماذج منها في مقالنا هذا.
الصحابة أكابر الصالحين
لقد اختار الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأصحاب،فهم أفضل الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، والجهاد في سبيله؛ لنشر الإسلام.
هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وإذا كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقة رأيه، فإن رأيه صادر من قلب ممتلئ نوراً وإيماناً وحكمة وعلماً ومعرفة وفهماً.
هؤلاء الصالحون أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لهم مجالس، لكنها مجالس عامرة بالإيمان والخير، قال فضيل بن غزوان: كنا نجلس أنا ومغيرة نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء بصلاة الفجر. وكانوا يجتمعون فيأمرون أحدهم أن يقرأ عليهم القرآن، اجتمعوا فقال عمر -رضي الله عنه-: يا أبا موسى ذكّرنا ربنا، فقرأ وهم يستمعون.
وكان الواحد منهم يقول للآخر ولمن معه: اجلسوا بنا نؤمن ساعة، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه التطوع في جماعة مرات، وخرج على الصحابة من أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ، فجلس معهم يستمع.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نقرأ القرآن، وفينا العربي والأعجمي، فقال: "اقرءوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلون".( رواه أبو داود،وصححه الألباني ).
وكان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جلسوا يتذاكرون، فإنهم يذكرون ما بعد الموت، والآخرة، فعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، ثم ذكر لهم علاماتها" (رواه مسلم).
هكذا كانت مجالسهم يتذاكرون الخير وأحكام الآخرة، وأمور الدين والإيمان، وكانوا يستعدون بما يتذاكرون للفتن، فعن أبي سعيد قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قلنا: بلى، فقال: الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل". ( رواه ابن ماجه،وحسنه الألباني ).
كان جلوسهم للفقه في الأعمال، ومعرفة ما هو الأقرب إلى الله، فعن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه" حديث صحيح( المستدرك:2384).
وهكذا كانوا يجلسون فيتذاكرون: مَن هؤلاء أهل الجنة؟ ما هي صفاتهم؟.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، قال:آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ علينا بك. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فاخبرني ان الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة".
هكذا كانت مجالسهم ، ولا يمنع أن يكون في بعض مجالسهم شيء من الشعر، وأيام العرب، وأمور الجاهلية، والذكريات القديمة، لكنه ليس حديثاً محرماً ولا مُسفّاً، فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متحزقين (أي: منقبضين) ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، (فليسوا أصحاب كآبة، وإنما كانت فيهم حيوية، وكان فيهم نشاط)، قال: وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله (أي معصية) دارت حماليق عينيه كأنه مجنون".(حسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد).
فلا يرضى الواحد منهم بالمنكر، ولا يمكن أن يشترك فيه، وإذا رأى أمامه منكرا، أو دُعي إلى منكر فهكذا يكون حاله.
أمام البيوت
إن كثيرا من الصحابة ما كانت لهم داخل بيوتهم أماكن للجلوس، فكانوا يجلسون في أفنيتها وعلى حافة الطريق.
قال أبو طلحة: كنا قعوداً بالأفنية نتحدث، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام علينا، فقال: "ما لكم ولمجالس الصعدات؟ (أي: الطرقات)، اجتنبوا مجالس الصعدات (وذلك لأن الجلوس فيها قد يضيق الطريق، ويكون فيه من إطلاق البصر ما فيه، إلى غير ذلك من الآفات)، فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، (أي: في أمر القرآن والوحي، وأمر الفقه والأحكام، وأمر الآخرة وتذكر ما فيها)، قال: "إما لا، فأدوا حقها، (أما إذا أبيتم إلا هذا ولم يكن عندكم غيره فأدوا حق الطريق)، قال: غض البصر ورد السلام وحسن الكلام". رواه مسلم.
فكانوا يضطرون للجلوس فيها، لكن لأي شيء؟ لأجل أن يتذاكروا؛ ولأجل أن يتفقهوا ويتدارسوا، وهكذا كانوا.
وإذا حصل منهم في مجلس شيء من الخوض في قضية لا يصلح الخوض فيها، أو لا بد لها من ضوابط، كان التذكير النبوي يأتي.
فعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتنازع في القدر، (أي: نتباحث في شأنه)، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجهه الرمان، (من شدة الغضب)، فقال:" أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه". رواه الترمذي، و حسنه الألباني.
فالدخول في القدر إذا كان بعلم وفقه فلا بأس به، وإذا كان جدالاً ونقاشاً بلا حجة، ولا بيان، فيُنهى الإنسان عنه، وكذلك فإن بعض مجالس أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان فيها شيء من شكوى الحال بين بعضهم البعض، قال أبو الدرداء : خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، وفي رواية كنا نتذاكر الدنيا وهمومها ونخشى الفقر، فقال -صلى الله عليه وسلم- لهم: "ألفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصَبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلبَ أحدكم إزاغةً إلا هي ،وايم الله لقد تركتم على مثل البيضاء ليلة ونهارها سواء". (رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني ) وفي هذا بشارة من النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة بأن الله سيغنيها من فقرها، ولكنه حذرهم من فتنة الغنى؛ لأن حب الدنيا يزيغ القلوب بعد استقامتها، ويضلها بعد هداها، وتكون الفتنة، ولذلك لم يكن يخشى عليهم الفقر وإنما كان يخشى عليهم فتنة الغنى، هذا بعض ما كان في مجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فكيف هي مجالس اليوم؟
هذه حال مجالس أصحاب محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فما هي حال مجالسنا نحن اليوم؟ كم فيها من الدين، وكم فيها من الدنيا؟، كم في مجالسنا من الطاعة، وكم فيها من العصيان؟، كم يطغى عليها من أخبار الدنيا، وتجارة الدنيا، وأمور البيع والشراء، والبضائع والأسعار، والمحلات، والخدمات؟، وهكذا يدور أصحاب كل همٍ إذا اجتمعوا في همهم الدنيوي، فمجالس الموظفين، ومجالس الطلاب، ومجالس التجار، ومجالس الأطباء، ومجالس النساء، إذا ارتقت تكلموا فيما يعملونه بالنهار، وأما مجالس نسائنا فكثيرا ما تكون مشغولة بالأزياء، والموضات، والأكلات، والحفلات، وحال الأسواق والمحلات، هل مجالسنا عامرة بذكر الله؟ هل تُطرح فيها قضايا العلم والفقه؟ هل يحصل فيها التذاكر لأمور الآخرة؟ هل يكون فيها شيء من معاني القرآن والسنة؟ أم أن فيها أمور من الغيبة، والنميمة، ونهش الأعراض، والتفكه بلحوم الخلق، مهاترات، مماراة، جدال، مجاملات، ومداهنات باطلة، بل قد لا تسلم من شيء من الانتقاص، أو الاستهزاء ببعض أمور الدين، وذلك أمرٌ خطيرُ جداً، اعتداء على الخلق، وانتقاص، وازدراء، واحتقار، واستهزاء، أين تلك المجالس التي كان يجلس فيها أولئك الصحابة، فيعمرونها بالعلم والإيمان؟ "ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله -عز وجل-، ويصلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا كان مجلسهم ترةً عليهم يوم القيامة" (أي: حسرة) (رواه أحمد بسند صحيح)، "وما اجتمع قومٌُ على ذكر فتفرقوا إلا قيل لهم: قوموا مغفور لكم"مسند أحمد(12453)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/98)، وقال: صحيح لغيره.
فالقرآن ذكرٌ، والسنة ذكرٌ، والفقه ذكرٌ، وأمور الآخرة ذكرٌ، وهكذا، أمور الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمور تقويم المجتمع والمحافظة على الأسرة إسلامية، أمور تربية النفس وتربية الأولاد ، أمور التفقه في الحلال والحرام، أمور القيام بتبليغ الإسلام، وهكذا يُذَكّر الناس بأبواب الصدقات، وأيضاً يُجالس المسلم قوماً يلتقطون له طيب الكلام كما يُلتقط طيب الثمر، فإذا كان أصحابك من الأخيار كان مجلسك كذلك.
المجالس الإلكترونية
يا مسلمون: هذه مجالسنا الالكترونية اليوم التي طغت على المجالس الوجاهية الحضورية الاجتماعية، فصار الناس يجالس بعضهم بعضاً عبر الشاشات: محادثات، مجموعات، منتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، فماذا يحدث فيها؟ ما هي موضوعات المجالس الإلكترونية؟ يقولون: دردشات، ثم تنظر فيها، فإذا فيها من أمور الجنس ما لا يمكن أن يتحمله من عنده حياء، ثم فيها أمور من إشاعة الفاحشة، وربما تذكر بعض أذكار الخلاء إذا اطلعت على بعض ما فيها، وهذه المجالسة للطرف الآخر، سواء كان أمامك مباشرة، أو خلف شاشته، فإنها تؤثر في النفس بل هي مجلس ولو كان على البعد.
هذه المجالس الإلكترونية لها اليوم آثار كبيرة، وخطيرة، كان السلف يلتمسون مجالس العلم، مجالس الحديث، وللمجالس آداب، فهاهنا التماس مجلس الرجل الصالح وصاحب العلم، عن علقمة قال: قدمت الشام فصليت ركعتين ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحا، فأتيت قوماً فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدرداء قال علقمة ـ وهو تابعي ـ فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحا، فيسرك لي. وقال حريث بن قبيصة: "قدمت المدينة فقلت: اللهم يسر لي جليس صالحاً، قال: فجلست إلى أبي هريرة".
إذاً: كان هناك دعاء يلتمس فيه هذا من ربه أن ييسر له جليسا صالحاً: صاحب علم، صاحب دين، يُذكّر، ينصح، وهكذا مجالس الصالحين والأخيار، يوقَّر فيها الكبير ، ويُرحم الصغير، ويُغض من الصوت، ويقال فيه الكلمة الطيبة، والمجالس بالأمانة، فلا تفشى فيها الأسرار، ولا يتناجى اثنان فيها دون الثالث، وفيها تلك الكفارة العظيمة إذا قاموا من مجلسهم: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك".
فيها التفسح للداخل، والتزكية، والتهذيب، والتربية وغيرها من فوائد مجالس الصالحين ، نسأل الله أن يجعل مجالسنا عامرة بذكره ، وأن تكون في موازين حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم اجعل مجالسنا عامرة بذكرك، اللهم ارزقنا مجالسة الأخيار، وباعد بيننا وبين الأشرار.