بسم الله الرحمن الرحيم
ولقد جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ليقول للناس كلهم كما أمره ربه سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا), فوجب على كل ذي عقل أن ينظر في دلائل صدق الخبر, ولا يقدم على تكذيبه دون فحص أو تفكير, وإلا فما نصح لنفسه, ولا أنصف عقله.
ولقد نعى الله عز وجل في كتابه العزيز على الذين كفروا بآياته وكذبوا رسله - جهلهم وضعف منطقهم, وضلال موقفهم, حيث اتخذوا موقفهم هذا دون احتكام إلى عقل سليم, أو نظر سديد - يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ*َوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِين), وعملا بتوجيه ربنا سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المكذبين والمشككين حينما قال: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ), فإننا ندعوا كل المكذبين المشككين أن يتجردوا من كل الأهواء والمؤثرات, ويأتوا بعقول متفتحة باحثة عن الحق, ونفوس صافية مستعدة لقبول الهدى, والإذعان للحجة والبينة لينظروا ويتفكروا في دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أيد الله النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من المعجزات التي أذهلت العقول, وأخضعت الفحول, وتركت أثرها الواضح في إخراس ألسن المعارضين, وقمع ضلال المعاندين, وقهر جماح المشاكسين, وقرت أعين المؤمنين, وفيما يلي سوف نستعرض طرفا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كإشارة تدل على ما وراءها, وقبس نور يهدي السائرين في ظلمات الجهل والتشكيك.
§ أولا: معجزة القرآن الكريم.
إن أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم المعجزة الخالدة, معجزة القرءان الكريم, كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, الذي تحدى الله به العرب الفصحاء, تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ*فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ), ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة, وليس إلا في النظم والأسلوب فما قدروا: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ), ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط من مثله فما استطاعوا: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ), ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع, ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ), قال الرافعي: (فقطع لهم أنهم لن يفعلوا, وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله, ولا يقولها عربي في العرب أبدا, وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة, وعرفوا أنها تنفي عنهم القدرة طيلة الدهر نفيا, وتعجزهم إلى آخر الأبد, فما فعلوا وما طمعوا قط أن يفعلوا).... (وتأمل نظم الآية تجد عجبا فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم ليثبت أن القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميت على أعمال الحياة, لن تكون ولن تقع.. فقال لهم, لن تفعلوا, أي هذا منكم فوق القوة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن, ثم جعلهم وقودا, ثم قرنهم إلى الحجارة, ثم سماهم الكافرين, فلو أن فيهم قوة بعد ذلك لانفجرت, ولكن الرماد غير النار).... (وقد طارت الآية بعجزهم, وأسجلته عليهم, ووسمتهم على ألسنتهم, فلما رأوا أنفسهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه, وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة, بذلوا له السيف كما يبذل المحرج آخر وسعه, وأخطروا بأنفسهم وأموالهم).
(إن الإتيان بسورة واحدة وآيات يسيرة كان أنقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم, وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه, وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس, والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال, وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات, ومحال أن يجتمع العرب كلهم على الغلط في الأمر الظاهر, والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص, والتوقيف على العجز, وهم أشد الخلق أنفة, وأكثرهم مفاخرة, والكلام سيد عملهم, وقد احتاجوا إليه, والحاجة تبعث على الحيرة في الأمر الغامض, فكيف بالظاهر الجليل المنفعة, وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثة وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة, فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه, ويجدون السبيل إليه, وهم يبذلون أكثر منه).... وهذه الفقرة من كلام الجاحظ بتصرف.
(إن من حكم ذكر هذا التحدي في القرآن أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه, هم الخطباء والفصحاء اللّّسن, وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة, فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها ـ حتى لا يجئ بعد ذلك ـ فيما يجئ من الزمن مُوَلّد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة, فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله, وأنه غير معجز, وأن عسى ألا يعجز عنه إلا الضعيف, ويالله من سمو هذه الحكمة), وهذا قول الرافعي بتصرف.
ومازال التحدي قائما لكل المستشرقين والمستغربين, بل ومن في الأرض أجمعين: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا), وإنه لمن المعجزة أن يأتي هذا التحدي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن وما جاء أحد خلال هذه الفترة بما يقترب ولو من بعيد من سورة من القرآن, وصدق الله تعالى في قوله, وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم في بلاغه عن ربه, وسيظل التحدي باقيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها).
وجوانب الإعجاز في القرءان لا تكاد أن تنحصر, بل هي من الكثرة بحيث تغني في تعدادها الأعمار, ولا يعلم قدر عظمة القرآن على الحقيقة إلا الذي تكلم به سبحانه, وإنما سنعرج هنا على النذر اليسير من جوانب الإعجاز.
1. الإعجاز البلاغي في القرءان الكريم:
إن القرآن من البلاغة في القمة السامقة؛ من فصاحة ألفاظ وجمال نظم, وإحاطة بالمعنى ومطابقة اللفظ له, وتنوع الأساليب واستخدام أحسنها وأنسبها, وقد أٌُُلفت في ذلك الكتب, وشهد به الأعداء, وما قول الوليد لما سمع القرءان بخاف ولا مجهول إذ قال: (إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإن أعلاه لمثمر, وإن أسفله لمغدق, ولا يقول هذا بشر, وإنه ليعلو ولا يعلو عليه), ومن ذلك أيضا ما يروى عن أصحاب الفيلسوف الكندي أنهم قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرءان, فقال: نعم أعمل مثل بعضه, فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: (والله ما أقدر, ولا يطيق هذا أحد, إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة, فنظرت فإذا هو نطق بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما, ثم استثنى بعد استثناء, ثم أخبر عن حكمته وقدرته في سطرين, ولا يقدر أحدا أن يأتي بهذا), وهو يقصد بذلك قول الله تعالى في أول سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ), قال الشيخ حافظ حكمي: (وهذا الذي ذكره وقاله الفيلسوف مقدار فهمه ومبلغ علمه, وإلا فبلاغة القرآن فوق ما يصفه الواصفون).
2. إعجاز القرءان في حفظه:
فالقرءان هو الكتاب الوحيد الذي تعهد الله بحفظه فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ), وصدق الله, فالقرآن ظل وسيظل محفوظا منذ إنزاله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم, يعرف الناس عدد سوره وآياته وكلماته, بل وحروفه, وهو الذي يقرؤه المسلم في أي مكان من العالم شماله وجنوبه, وشرقه وغربه, بل وإنك لتعجب من حفظ ملايين البشر للقرءان يتلونه من قلوبهم من أوله إلى أخره أطفالا وكبارا, رجالا ونساءا, ما لم يحدث لكتاب غيره عبر التاريخ, ألا يعد ذلك إعجازا؟.
3. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:
إن القرآن وإن لم يكن في الأصل كتابا في العلوم الكونية والحيوية غير أنه حوى من الإشارات العلمية في النواحي الكونية والحيوية وغيرهما ما أذهل العلماء, وانبهر به العقلاء, وقد كُتبت في ذلك الإعجاز الكتب الكبار, وإنما نذكر هنا مجرد إشارة.
لقد قال الله تعالى في كتابه: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ), وأنزل ذلك على قلب محمد صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا, ولكن ظلت الأوساط العلمية العالمية إلى عهد قريب تعتقد أن الشمس ساكنة لا تتحرك حتى أثبت العلم الحديث بعد التطور الهائل الذي طرأ على أدوات البحث أن الشمس تتحرك وبسرعات كبيرة جدا إلى جهة محددة, ولا يوجد تعبير يصف هذه الحركة أدق من التعبير القرآني: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا), فسبحان العزيز العليم.
ومع إشارة علمية أخرى نلتقطها من قول الله عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ), لقد ذكر القرآن في هذه الآية مراحل تكوين الجنين في رحم أمه بدقة بالغة مذهلة, واعترف بذلك علماء الغرب في العصر الحديث, بعد أن فتح الله على البشرية ومنحهم من العلم ما عرفوا به هذه المراحل في القرن العشرين.
يقول الدكتور (كيث مور) أستاذ ورئيس قسم التشريح بكلية الطب، جامعة تورنتو بكندا في بحثه المقدم للمؤتمر الدولي للإعجاز العلمي في القرآن والسنة الذي انعقد في باكستان في شهر صفر من عام 1408هـ أكتوبر 1988م: (في الوقت الذي أشار فيه القرءان الكريم إلى مراحل تطور الجنين لم يكن أحد في أوروبا يعرف شيئا عن هذه المراحل, واستمر الوضع على هذه الحالة حتى القرن العشرين, حيث لم يصبح وصف مراحل الجنين جزءا من علم الأجنة إلا في هذا القرن), ولم يتوقف الإعجاز القرءاني عند ذكر مراحل تطور الجنين في الرحم وترتيبها فحسب, بل إن الألفاظ والمصطلحات التي استعملها القرءان للتعبير عن كل مرحلة من مراحل النمو في الجنين ووصفها هي أدق الألفاظ والتفاصيل وأوفى المصطلحات التي تنسجم مع النمو في الرحم وهي حسب تعبير الدكتور (مارشال جونسون) الأستاذ بجامعة (جيفرسون) الطبية بولاية (فيلادلفيا) الأمريكية (مصطلحات مثالية للاستخدام في علم الأجنة الذي يعاني الباحثون الغربيون فيه من مشكلة عدم توفر المصطلحات, الأمر الذي جعلهم يصفون مراحل نمو الجنين بالأرقام), وبعد ألا يدل ذكر القرءان لمثل هذه الأمور بكل هذه الدقة والتفصيل في الوقت الذي لم يكن أحد على وجه الأرض يعرف من عرب أو غيرهم عنها شيئا فضلا عن معرفة تفصيلاتها. دلالة قاطعة على أن القرءان من عند الذي خلق وصور وقال: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ), فيخر القلب والعقل والجسد ساجدا مذعنا لله قائلا (لا إله إلا الله العزيز الحكيم).
4. الإعجاز التشريعي في القرآن:
لقد حوى القرآن نظاما تشريعيا متكاملا ينظم حياة البشر بما يحقق لهم مصالحهم ويدفع عنهم الفساد بشكل لم ولن يوجد في جميع الدساتير الوظيفية منفردة أو مجتمعة, وقد شهد بعظمة التشريع الإسلامي علماء الغرب من غير المسلمين, فهذا أحد أساتذة القانون الغربيين في مؤتمر القانونيين يعرب عن دهشته من آيات المواريث التي جمع الله فيها أصحاب الحقوق وأنصبتهم في الأحوال المختلفة دون أن ينسى أحدا أو يظلم أحدا, كل ذلك في آيتين فقط وهذا ما لم يطيقه بشر, وإذا لم يطقه بشر.. علم كل عاقل أنه لابد أن يكون من عند خالق البشر. وإن تعجب فعجب فعل الذين تركوا هذا الشرع المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر إلى حثالة أفكار البشر من القوانين الوضيعة, بل وقدموها عليه: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).
5. إعجاز القرءان في إخباره عن الغيب:
وإخبار القرءان عن الغيب له عدة أشكال:
أ- الإخبار عن الغيب مما مضى في قصص الأمم السابقة, ودعوة رسلهم لهم, وإهلاك الله للمكذبين والمعاندين منهم, وإنجاء الله لرسله ومن آمن معهم, وهذه الأخبار لم يكن ليعلمها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بوحي الله إليه وصدق الله إذ يقول: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا), وهذا النوع من الإخبار عن الغيب مبثوث في القرءان من أوله إلى آخره ولا يخفى على أي قارئ للقرآن.
ب- الإخبار عن الغيب مما لم يحدث قبل نزول القرءان, أو وقت نزوله, كما جاء ذلك في قول الله سبحانه: (الم*غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ), فقد أخبر الله بحدوث معركة بين الفرس والروم, بل وأخبر بنتيجة المعركة وهي انتصار الروم, كل ذلك قبل حدوثه بحوالي تسع سنين, فهل يقدر على ذلك إلا من خلق وملك؟, (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟.
ج- الإخبار عن الغيب مما يدور في خبايا النفوس, وانطوت عليه الصدور كما أخبر الله تعالى عن المنافقين بقوله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ), وقال عنهم أيضا: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ), وهذا النوع في القرءان كثير ظاهر لكل متابع لآياته التي كتب الله بها لنبيه مؤامرات المنافقين ودسائسهم, وفضح نياتهم وسرائرهم.
6. إعجاز القرآن في تأثيره على القلوب الغليظة المعاندة:
إن للقرآن من التأثير على القلوب والأخذ بالألباب ما جعل العرب لما سمعوه ورأوا منه ما استهواهم, وكاثرهم على أنفسهم وغلبهم عليها جعلهم يبذلون له النصرة والتأييد، فقد كانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة بأجمعها ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها.
وليس بخاف عليك أخي القارئ ما كان من عمر بن الخطاب قبل إسلامه حيث خرج يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فأغراه أحد الناس أن يبدأ بأهل بيته ويقصد أخته فاطمة وزوجها, فلما ذهب إليهم وجد عندهم صحيفة بها مطلع سورة طه فطلب قراءتها بعد أن استجاب لطلب أخته بالتطهر, فلما قرأها تحول قلبه, فكأنه كان أصما فسمع أو أعمى فأبصر أو ميتا فعاد إلى الحياة, وصدق الله إذ يقول: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وبعد، كان ذلك حديثا مختصرا عن بعض جوانب إعجاز القرءان, وما هو إلا مجرد إشارة, وبقى أن نقول: "إنه لم يأت دين من الأديان بمعجزة توضع بين يدي الناس يبحث فيها أهل كل عصر بوسائل عصرهم غير الإسلام بما أنزل فيه من القرآن فكأن النبوة في هذا الكتاب متجددة أبداً"...
ولو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة غير القرءان لكان كافيا تمام الكفاية في الدلالة على صدقه, فما بالك وقد أيد الله نبيه بالعديد من المعجزات المادية, فهلم نستعرض جانبا من هذه المعجزات.
§ ثانيا: معجزات النبي صلى الله عليه وسلم المادية.
وتسهيلا عليك أخي القارئ سوف نقسم الحديث عن هذه المعجزات إلى عدة أنواع, نذكر في كل نوع طائفة من الأحاديث والأخبار الدالة على حدوث المعجزة على سبيل التمثيل والبيان, وليس غرضنا في هذا المقام حصر أحاديث المعجزات إذ إن ذكر ذلك يحتاج إلى وقت كبير وكتاب متخصص.
(أ) معجزته صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من بين يديه:
[1] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر, والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه, فأُتىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضعرسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء, فأمر الناس أن يتوضئوا منه, فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه, فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم). رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي, وله طريقان آخران عن أنسبن مالك عند الإمام أحمد.
[2] عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالزوراء فأُتىَّ بإناء فيه ماء لا يغمر أصابعه, فأمر أصحابه أن يتوضئوا, فوضع كفه في الماء, فجعل الماء ينبع من بين أطراف أصابعه حتى توضأ القوم, قال: فقلت لأنس كم كنتم؟ قال: كنا ثلثمائة), رواه الإمام أحمد في مسنده, والبخاري ومسلم في صحيحهما.
[3] عن البراء بن عازب قال: (كنا يوم الحديبية أربعة عشر مائة, والحديبية بئر فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير البئر (أي حافته) فدعا بماء فمضمض ومج في البئر, فمكثنا غير بعيد ثم استقينا حتى روينا وروت أو صدرت ركائبنا), رواه البخاري في صحيحه, وروى أيضا في معناه عن المسور ومروان بن الحكم وروى مثله مسلم عن سلمة بن الأكوع.
[4] عن عمران بن حصين أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير, فقال: (وجعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوب بين يديه وقد عطشنا عطشا شديدا فبينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نحن بامرأة سادلة (أي مادّة) رجليها بين مزادتين (أي قربتين) فقلنا لها: أين الماء؟ قالت: إنه لا ماء، فقلنا كم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: يوم وليلة، فقلنا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها حتى استقبلنا بها النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته بمثل الذي حدثتنا غير أنها حدثته أنها مؤتمة (أي ذات أيتام) فأمر بمزادتيها فمسح في العزلاوين (أي فم القربة) فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وإداوة (إناء صغير)، غير أنه لم نسق بعيرا، وهى تكاد تفضى من الملء، ثم قال: هاتوا ما عندكم، فجمع لها من الكسر والتمر حتى أتت أهلها، قالت: أتيت أسحر الناس أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذاك الصرم (الجمع ينزلون على الماء) بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[5] عن عبد الله قال: (كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا, كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلّ الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء, فجاءوا بإناء فيه ماء قليل, فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله عز وجل, قال: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل), رواه البخاري وكذلك رواه الترمذي...
والأحاديث في هذا الباب كثيرة ولكننا كما قلنا نكتفي بمجرد الإشارة, وأظن هذا القدر يفي بالغرض, وننتقل الآن إلى نوع آخر من أنواع المعجزات المادية.
(ب) معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام القليل:
[1] عن جابر بن عبد الله (أن أم مالك اليهزية كانت تهدي في عكة لها سمنا للنبي صلى الله عليه وسلم, فبينما بنوها يسألونها الإدام ليس عندها شيء فعمدت إلى عكتها التي كانت تهدي فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تجدها ملأى دائما فقال: أعصرتيه, فقالت: نعم, قال: لو تركتيه مازال ذلك قائما). رواه الإمام أحمد في مسنده, والبخاري في صحيحه.
[2] عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أتاه رجل يستطعمه فأطعمه وسق شعير فمازال الرجل يأكل منه هو وامرأته وضيف لهما حتى كالوه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم تكيلوه لأكلتم فيه ولقام لكم), وقد ظلوا يأكلون منه مدة طويلة وهم يرونه كما هو فلما كالوه وجدوه ثلاثين صاعا كما هو غير أنه بدأ ينقص بأخذهم منه بعد الكيل, وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه.
[3] عن أنس بن مالك قال: (قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف فيه الجوع, فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم, فأخرجت أقراصا من شعير, ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبر ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه, ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس, فقمت عليهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم, قال: بطعام؟ قلت:نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا, فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته, فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس عندنا ما نطعمهم, فقالت: الله ورسوله أعلم, فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه, فقال رسول صلى الله عليه وسلم: هلم يا أم سليم, ما عندك؟ فأتت بذلك الخبز, فأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ففتَّ وعصرت أم سليم عكة فأدمته, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول, ثم قال: ائذن لعشرة, فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا, ثم قال: ائذن لعشرة, فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا فقال: ائذن لعشرة, فأكل القوم كلهم, والقوم سبعون أو ثمانون رجلا).رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من طرق مختلفة, وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.
[4] عن جابر بن عبد الله قال: (إنا يوم الخندق نحفر, فعرضت كدية (أي صخرة) شديدة, فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق, فقال: أنا نازل, ثم قام وبطنه معصوب بحجر, ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا, فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل, فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت, فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر, فعندك شيء؟, قالت: عندي شعير وعناق, فذبحت العناق وطحنت الشعير, حتى جعلنا اللحم في البرمة, ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر, والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنبطح, فقلت: طُعَيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان معك, قال: كم هو؟ فذكرت له, فقال: كثير طيب, قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي, فقال: قوموا, فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل جابر على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم ادخلوا ولا تضاغطوا, فجعل يكسر الخبز, ويجعل عليه اللحم, ويخمر (أي يغطي) البرمة والتنور إذا أخذ منه, ويقرب إلى أصحابه, ثم ينزع, فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقى بقية, قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة), رواه البخاري في صحيحه.
[5] عن أبي هريرة قال: (لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنحرنا نواضحنا (أي إبل السقاية) فأكلنا وادهنا؟ فقال: افعلوا, فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلوا قلّ الظهر, ولكن ادعهم بفضل أزوادهم, ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنطع (أي بساط من جلد) فبسط ودعا بفضل أزوادهم, قال: فجعل الرجل يجئ بكف التمر والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع شيء من ذلك يسير, فدعا عليهم بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم, فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاءا إلا ملئوه, وأكلوا حتى شبعوا, وفضلت فضلة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى الله بها عبد غير شاك فتحتجب عنه الجنة), رواه مسلم في صحيحه والنسائي في سنته وأبو يعلي الموصلي.
(ج) 3. معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مع الجماد والحيوان:
[1] (الشجر ينقاد له) روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال: (سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح,فذهب رسول اله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فأتبعته بإدواة من ماء فنظر فلم يجد شيء يستتر به, وإذا شجرتان بشاطئ الوادي, فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها, وقال: انقادي علي بإذن الله, فانقادت معه بإذن الله كالبعير المخشوش (أي المربوط من أنفه) الذي يصانع قائده, حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها وقال: انقادي علي بإذن الله, فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده, حتى إذا كان في المنتصف بينهما لأم بينهما (يعني جمعهما) وقال: التئما علي بإذن الله فالتأمتا, قال جابر: فخرجت أحضر (أي أسرع) مخافة أن يحس بقربي فيبعد, فجلست أحدث نفسي, فحانت مني التفاتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل, وإذا الشجرتان قد افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق, فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة وقال برأسه هكذا يمينا وشمالا), وجاء في هذا المعنى أحاديث عن كثير من الصحابة عند الإمام احمد والبيهقي وغيرهما وإنما ذكرنا هنا حديثا واحدا للتمثيل.
[2] (حنين الجذع إليه), روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة, فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم, فجعلوا له منبرا, فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر, فصاحت النخلة صياح الصبي, ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن, قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر), وقد ورد حنين الجذع من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة الشأن وفرسان الميدان من علماء الحديث, وقد تأثر أحد الشعراء بهذه الواقعة فقال في أبيات له:
[3] (بكاء الجمل وشكواه بين يديه), عن عبد الله بن جعفر قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسرّ إلىّ حديثا لا أخبر به أحدا أبدا, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما أستتر به في حاجته هدف أو حائط نخل, فدخل يوما حائطا من حيطان الأنصار, فإذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه (أي ردد صوته في حنجرته من الضجر) فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته (أي أعلاه) وذفراه (أي أصل أذنه) فسكن, فقال: من صاحب الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار قال: هو لي يا رسول الله, فقال: أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكّها الله لك؟ إنه شكا لي أنك تُجيعه وتدئبه), رواه الإمام أحمد في مسنده, ومسلم في صحيحه.
[4] (انشقاق القمر له), روى البخاري عن أنس بن مالك: (أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر فأراهم القمر شقتين حتى رأوا بينهما), ورواه مسلم في صحيحه والإمام احمد في مسنده, وقد ورد أيضا بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة تفيد القطع عند علماء الأمة, وسجل الله ذلك في كتابه:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ),
(د) دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم في استجابة دعائه:
[1] عن جابر بن عبد الله: (أنه كان يسير على جمل قد أٌعيا, فأراد أن يسيبه, قال: فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه ودعا له, فسار سيرا لم يسر مثله, وفي رواية: فمازال بين يدي الإبل قدامها, حتى كنت أحبس خطامه فلا اقدر عليه, فقال: كيف ترى جملك؟ قلت: قد أصابته بركتك يا رسول الله), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[2] عن أنس بن مالك: (أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب, فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال, وتقطعت السبل, فادع الله لنا يغيثنا, قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا, اللهم اسقنا, اللهم اسقنا, قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا فزعة (أي قطعة) ولا شيئا, وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار, قال: فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس (أي كبيرة) فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت, قال: والله ما رأينا الشمس ستا, ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب, فاستقبله قائما وقال: يا رسول الله هلكت الأموال, وانقطعت السبل, ادع الله يمسكها, قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا, اللهم على الآكام والجبال والظراب ومنابت الشجر, قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[3] ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد, فكان كذلك حتى أنه كان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين, وولد له لصلبه ما يقرب من مائة أو يزيد.
[4] ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للسائب بن يزيد, ومسح بيده على رأسه فطال عمره حتى بلغ أربعا وتسعين سنة وهو تام القامة معتدل, ولم يشب منه موضع إصابته يد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومتع بحواسه وقواه.
[5] ثبت عند البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على النفر السبعة الذين ألقوا عليه سلا الجذور, وكان منهم: أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة, وسمى باقي السبعة, قال ابن مسعود: والذي بعثه بالحق, لقد رأيتهم صرعى في القليب, قليب بدر.
[6] عن أنس بن مالك قال: (كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران, وكان يكتب للنبي صلى الله وسلم فعاد نصرانيا وكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له, فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض, فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا, فأصبحوا وقد لفظته الأرض, فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه), رواه البخاري في صحيحه...
وهلم أخي القارئ نستعرض نوعا أخر من دلائل النبوة...
(ه) دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الغيب:
[1] عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده, وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده, والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما, ولقد صدق والله فوقع ما أخبر به في عهد خلفائه الراشدين الذين فتحوا بلاد فارس والروم وأنفقوا أموالهم في سبيل الله.
[2] عن عدي بن حاتم قال: (بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة, ثم أخر فشكا إليه قطع السبيل, فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها, وقد أنبئت عنها, قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (أي المسافرة) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ما تخاف أحدا إلا الله عز وجل, - قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيء (أي قطّاع الطرق) الذين قد سعروا البلاد؟ - ولئن طالت بك الحياة لتفتحن كنوز كسرى, قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز, ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه...., قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة فلا تخاف إلا الله عز وجل, وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, ولئن طالت بكم الحياة لترون ما قال أبو القاسم), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[3] عن أنس بن مالك قال: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ومع أبو بكر وعمر وعثمان, فرجف بهم الجبل, فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله وقال: اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان), رواه البخاري في صحيحه ومسلم وغيرهما, وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقتل عمر وعثمان شهيدين في سبيل الله.
[4] عن عمر بن الخطاب قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر على أمداد اليمن من مراد ثم من قرن, وكان به برص فبرأ منه, إلا موضع درهم, له والدة هو بها بّر, لو أقسم على الله لأبّره, فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل). رواه مسلم في صحيحه, وقد وُجد هذا الرجل في زمن الفاروق على الصفة والنعت الذي ذكر في الحديث.
[5] عن أم حرام بنت ملحان أنها سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: (أول جيش يغزون البحر من أمتي قد أوجبوا, قالت أم حرام: فقلت يا رسول: أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم, قالت: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول جيش يغزون مدينة قيصر (يعني مدينة القسطنطينية) من أمتي مغفور لهم, قلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا), رواه البخاري في صحيحه, وفي هذا الحديث من دلائل النبوة:
أ. الإخبار عن الغزوتين وقد وقعتا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ب. الإخبار عن المرأة أنها من الأولين, وليست من الآخرين, وقد وقع لأنها توفيت في الغزوة الأولى.
· وبعد... فقد وصلنا إلى نهاية ما أردنا من الإشارة إلى بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته, وقد يقول منكر أو متشكك: ومن لي بصدق هذه الأحاديث؟ ونقول: إن أي عقل سليم ليقطع بصدق هذه الأحاديث, وسوف نسوق بعون الله من الأدلة على ذلك ما يشرح صدر المنصف, ويزيده يقينا, ويقطع شك المرتاب, ويرد كيد الحاقد, ويدحض قول المعاند.
· أولا: إن الذين شاهدوا هذه المعجزات بأعينهم, ولمسوها بأيديهم, وعايشوها بوجدانهم كانوا- قبل معاينة الآيات والتأكد من صدق المعجزات- قوما كفارا, وهذه المعجزات الباهرة والدلالات الصادقة الواضحة هي التى أخرجتهم من الظلمات إلى النور, ونقلتهم مما كانوا عليه من الكفر ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه التي وصلت إلى حد الرغبة في قتله والسعي الحثيث إلى ذلك- نقلتهم إلى الإسلام إذعانا منهم وانقيادا و تصديقا بما لمسوه وعاينوه, فتركوا دين آبائهم وأجدادهم ودخلوا في دين الله أفواجا, بل ومن أجله هاجروا وتركوا أموالهم وديارهم, وصبروا على استهداف قريش لهم بالتعذيب الشديد, ثم بالقتال والقتل وهم ثابتون على دينهم, كل هذا يستحيل عقلا أن يقدم عليه إنسان وهو راض النفس مطمئن الفؤاد إلا إذا أيقن إيقانا جازما لا شك فيه أن هذا الدين حق وأن هذا الرسول صادق, وقد جرى على الألسنة واستقر في النفوس أن الرائد لا يكذب أهله, فكيف بربك يكذب نفسه؟..
· ثانيا: إن هذه الأحاديث وقعت أحداثها أمام الجمع الكثير, ورواها عدد كثير مما يستحيل معه تواطؤهم على الكذب والاختلاق, بل ولم ينكرها أحد ممن عاصر وقائع هذه الأحاديث ولا كذبها مع حبهم للحق وصدعهم به.
· ثالثا: ما يتمثل في الوعيد الشديد لمن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: (من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار), فمن ذا الذي يجرؤ على تقحم النار إلا من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم, أما من آمن به وأولهم الصحابة وتابعوهم بإحسان فهم أبعد الناس عن الكذب عموما, وعن الكذب عليه خصوصا, بل هذا قد يستحيل في حقهم.
· رابعا: الضوابط التي وضعت لقبول هذه الأحاديث, والتي لم يعرف العالم قبل المسلمين ضوابط لنقل الخبر وقبوله مثلها, بل ولا شبيهة بها ولو من بعيد... وتتمثل هذه الضوابط في:
1. اتصال السند: بمعنى أن الراوي الذي ينقل الخبر عن سابقه لابد أن يكون عاصره ولقيه, بل وسمع منه- ولك أن تقارن بين خبر يكون هذا الشرط أحد الشروط لقبوله, وبين ما يزعم النصارى أنه كتاب مقدس, وفي سند ما ذكر فيه انقطاع يصل إلى عدة سنين قد تزيد أحيانا على المائة, وليس فيه خبر واحد متصل السند, فيا للعجب!!.
2. صفات الرواة التي تتمثل في:
(أ) العدالة: وتعني خلو الراوي من أي صفات تقدح في دينه, أو تخرم مروءته, وأعظم القوادح الكذب, فلو عرف عن الراوي أنه كذب ولو لمرة واحدة تركوا حديثه وردوه, بل إن أحد علماء الحديث ترك أحد الرواة لأنه رآه يشير إلى دابته كأن بحجره طعاما ولم يكن فيه, لأنه كذب على الدابة, فأي احتياط هذا؟!
(ب) الضبط: فلابد أن يكون الراوي معروفا بالضبط والحفظ والسلامة من الأوهام والتخليط .
3. عدم الشذوذ: وذلك بألا يخالف الواحد ما رواه الجماعة أو من هو أوثق منه وأحفظ وإلا تركوا حديثه.
4. سلامة الحديث من العلل القادحة.
تلك كانت ضوابط قبول الخبر باختصار, فإذا لم يصدق العقل خبرا ورد بهذه الضوابط فلن يوجد في الدنيا خبر يصدق, وهذا مستحيل, بل ضرب من الخيال ولا يقول به عاقل.
وبعد.. فإننا لو استطردنا في ذكر الأدلة المنطقية والعقلية على صدق ما سبق من أخبار وأحاديث لطال بنا الحديث, ولكننا نكتفي بهذا القدر وهو بحمد الله كاف لكل ذي عقل سليم لم تغطه حجب العناء وسحب الهوى, والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
أخي القارئ: وبعد أن عشنا سويا في رحاب بعض دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم وطفنا بحدائق أزهارها تفيأنا ظلالها وتنسمنا عبيرها, هل ترى عاقلا منصفا ينأى بنفسه عن اتباعه, فضلا عن أن يعاديه ويهاجم دينه ورسالته؟.
ولقد جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ليقول للناس كلهم كما أمره ربه سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا), فوجب على كل ذي عقل أن ينظر في دلائل صدق الخبر, ولا يقدم على تكذيبه دون فحص أو تفكير, وإلا فما نصح لنفسه, ولا أنصف عقله.
ولقد نعى الله عز وجل في كتابه العزيز على الذين كفروا بآياته وكذبوا رسله - جهلهم وضعف منطقهم, وضلال موقفهم, حيث اتخذوا موقفهم هذا دون احتكام إلى عقل سليم, أو نظر سديد - يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ*َوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِين), وعملا بتوجيه ربنا سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المكذبين والمشككين حينما قال: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ), فإننا ندعوا كل المكذبين المشككين أن يتجردوا من كل الأهواء والمؤثرات, ويأتوا بعقول متفتحة باحثة عن الحق, ونفوس صافية مستعدة لقبول الهدى, والإذعان للحجة والبينة لينظروا ويتفكروا في دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أيد الله النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من المعجزات التي أذهلت العقول, وأخضعت الفحول, وتركت أثرها الواضح في إخراس ألسن المعارضين, وقمع ضلال المعاندين, وقهر جماح المشاكسين, وقرت أعين المؤمنين, وفيما يلي سوف نستعرض طرفا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كإشارة تدل على ما وراءها, وقبس نور يهدي السائرين في ظلمات الجهل والتشكيك.
§ أولا: معجزة القرآن الكريم.
إن أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم المعجزة الخالدة, معجزة القرءان الكريم, كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, الذي تحدى الله به العرب الفصحاء, تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ*فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ), ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة, وليس إلا في النظم والأسلوب فما قدروا: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ), ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط من مثله فما استطاعوا: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ), ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع, ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ), قال الرافعي: (فقطع لهم أنهم لن يفعلوا, وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله, ولا يقولها عربي في العرب أبدا, وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة, وعرفوا أنها تنفي عنهم القدرة طيلة الدهر نفيا, وتعجزهم إلى آخر الأبد, فما فعلوا وما طمعوا قط أن يفعلوا).... (وتأمل نظم الآية تجد عجبا فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم ليثبت أن القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميت على أعمال الحياة, لن تكون ولن تقع.. فقال لهم, لن تفعلوا, أي هذا منكم فوق القوة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن, ثم جعلهم وقودا, ثم قرنهم إلى الحجارة, ثم سماهم الكافرين, فلو أن فيهم قوة بعد ذلك لانفجرت, ولكن الرماد غير النار).... (وقد طارت الآية بعجزهم, وأسجلته عليهم, ووسمتهم على ألسنتهم, فلما رأوا أنفسهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه, وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة, بذلوا له السيف كما يبذل المحرج آخر وسعه, وأخطروا بأنفسهم وأموالهم).
(إن الإتيان بسورة واحدة وآيات يسيرة كان أنقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم, وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه, وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس, والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال, وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات, ومحال أن يجتمع العرب كلهم على الغلط في الأمر الظاهر, والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص, والتوقيف على العجز, وهم أشد الخلق أنفة, وأكثرهم مفاخرة, والكلام سيد عملهم, وقد احتاجوا إليه, والحاجة تبعث على الحيرة في الأمر الغامض, فكيف بالظاهر الجليل المنفعة, وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثة وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة, فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه, ويجدون السبيل إليه, وهم يبذلون أكثر منه).... وهذه الفقرة من كلام الجاحظ بتصرف.
(إن من حكم ذكر هذا التحدي في القرآن أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه, هم الخطباء والفصحاء اللّّسن, وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة, فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها ـ حتى لا يجئ بعد ذلك ـ فيما يجئ من الزمن مُوَلّد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة, فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله, وأنه غير معجز, وأن عسى ألا يعجز عنه إلا الضعيف, ويالله من سمو هذه الحكمة), وهذا قول الرافعي بتصرف.
ومازال التحدي قائما لكل المستشرقين والمستغربين, بل ومن في الأرض أجمعين: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا), وإنه لمن المعجزة أن يأتي هذا التحدي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن وما جاء أحد خلال هذه الفترة بما يقترب ولو من بعيد من سورة من القرآن, وصدق الله تعالى في قوله, وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم في بلاغه عن ربه, وسيظل التحدي باقيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها).
وجوانب الإعجاز في القرءان لا تكاد أن تنحصر, بل هي من الكثرة بحيث تغني في تعدادها الأعمار, ولا يعلم قدر عظمة القرآن على الحقيقة إلا الذي تكلم به سبحانه, وإنما سنعرج هنا على النذر اليسير من جوانب الإعجاز.
1. الإعجاز البلاغي في القرءان الكريم:
إن القرآن من البلاغة في القمة السامقة؛ من فصاحة ألفاظ وجمال نظم, وإحاطة بالمعنى ومطابقة اللفظ له, وتنوع الأساليب واستخدام أحسنها وأنسبها, وقد أٌُُلفت في ذلك الكتب, وشهد به الأعداء, وما قول الوليد لما سمع القرءان بخاف ولا مجهول إذ قال: (إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإن أعلاه لمثمر, وإن أسفله لمغدق, ولا يقول هذا بشر, وإنه ليعلو ولا يعلو عليه), ومن ذلك أيضا ما يروى عن أصحاب الفيلسوف الكندي أنهم قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرءان, فقال: نعم أعمل مثل بعضه, فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: (والله ما أقدر, ولا يطيق هذا أحد, إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة, فنظرت فإذا هو نطق بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما, ثم استثنى بعد استثناء, ثم أخبر عن حكمته وقدرته في سطرين, ولا يقدر أحدا أن يأتي بهذا), وهو يقصد بذلك قول الله تعالى في أول سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ), قال الشيخ حافظ حكمي: (وهذا الذي ذكره وقاله الفيلسوف مقدار فهمه ومبلغ علمه, وإلا فبلاغة القرآن فوق ما يصفه الواصفون).
2. إعجاز القرءان في حفظه:
فالقرءان هو الكتاب الوحيد الذي تعهد الله بحفظه فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ), وصدق الله, فالقرآن ظل وسيظل محفوظا منذ إنزاله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم, يعرف الناس عدد سوره وآياته وكلماته, بل وحروفه, وهو الذي يقرؤه المسلم في أي مكان من العالم شماله وجنوبه, وشرقه وغربه, بل وإنك لتعجب من حفظ ملايين البشر للقرءان يتلونه من قلوبهم من أوله إلى أخره أطفالا وكبارا, رجالا ونساءا, ما لم يحدث لكتاب غيره عبر التاريخ, ألا يعد ذلك إعجازا؟.
3. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:
إن القرآن وإن لم يكن في الأصل كتابا في العلوم الكونية والحيوية غير أنه حوى من الإشارات العلمية في النواحي الكونية والحيوية وغيرهما ما أذهل العلماء, وانبهر به العقلاء, وقد كُتبت في ذلك الإعجاز الكتب الكبار, وإنما نذكر هنا مجرد إشارة.
لقد قال الله تعالى في كتابه: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ), وأنزل ذلك على قلب محمد صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا, ولكن ظلت الأوساط العلمية العالمية إلى عهد قريب تعتقد أن الشمس ساكنة لا تتحرك حتى أثبت العلم الحديث بعد التطور الهائل الذي طرأ على أدوات البحث أن الشمس تتحرك وبسرعات كبيرة جدا إلى جهة محددة, ولا يوجد تعبير يصف هذه الحركة أدق من التعبير القرآني: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا), فسبحان العزيز العليم.
ومع إشارة علمية أخرى نلتقطها من قول الله عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ), لقد ذكر القرآن في هذه الآية مراحل تكوين الجنين في رحم أمه بدقة بالغة مذهلة, واعترف بذلك علماء الغرب في العصر الحديث, بعد أن فتح الله على البشرية ومنحهم من العلم ما عرفوا به هذه المراحل في القرن العشرين.
يقول الدكتور (كيث مور) أستاذ ورئيس قسم التشريح بكلية الطب، جامعة تورنتو بكندا في بحثه المقدم للمؤتمر الدولي للإعجاز العلمي في القرآن والسنة الذي انعقد في باكستان في شهر صفر من عام 1408هـ أكتوبر 1988م: (في الوقت الذي أشار فيه القرءان الكريم إلى مراحل تطور الجنين لم يكن أحد في أوروبا يعرف شيئا عن هذه المراحل, واستمر الوضع على هذه الحالة حتى القرن العشرين, حيث لم يصبح وصف مراحل الجنين جزءا من علم الأجنة إلا في هذا القرن), ولم يتوقف الإعجاز القرءاني عند ذكر مراحل تطور الجنين في الرحم وترتيبها فحسب, بل إن الألفاظ والمصطلحات التي استعملها القرءان للتعبير عن كل مرحلة من مراحل النمو في الجنين ووصفها هي أدق الألفاظ والتفاصيل وأوفى المصطلحات التي تنسجم مع النمو في الرحم وهي حسب تعبير الدكتور (مارشال جونسون) الأستاذ بجامعة (جيفرسون) الطبية بولاية (فيلادلفيا) الأمريكية (مصطلحات مثالية للاستخدام في علم الأجنة الذي يعاني الباحثون الغربيون فيه من مشكلة عدم توفر المصطلحات, الأمر الذي جعلهم يصفون مراحل نمو الجنين بالأرقام), وبعد ألا يدل ذكر القرءان لمثل هذه الأمور بكل هذه الدقة والتفصيل في الوقت الذي لم يكن أحد على وجه الأرض يعرف من عرب أو غيرهم عنها شيئا فضلا عن معرفة تفصيلاتها. دلالة قاطعة على أن القرءان من عند الذي خلق وصور وقال: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ), فيخر القلب والعقل والجسد ساجدا مذعنا لله قائلا (لا إله إلا الله العزيز الحكيم).
4. الإعجاز التشريعي في القرآن:
لقد حوى القرآن نظاما تشريعيا متكاملا ينظم حياة البشر بما يحقق لهم مصالحهم ويدفع عنهم الفساد بشكل لم ولن يوجد في جميع الدساتير الوظيفية منفردة أو مجتمعة, وقد شهد بعظمة التشريع الإسلامي علماء الغرب من غير المسلمين, فهذا أحد أساتذة القانون الغربيين في مؤتمر القانونيين يعرب عن دهشته من آيات المواريث التي جمع الله فيها أصحاب الحقوق وأنصبتهم في الأحوال المختلفة دون أن ينسى أحدا أو يظلم أحدا, كل ذلك في آيتين فقط وهذا ما لم يطيقه بشر, وإذا لم يطقه بشر.. علم كل عاقل أنه لابد أن يكون من عند خالق البشر. وإن تعجب فعجب فعل الذين تركوا هذا الشرع المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر إلى حثالة أفكار البشر من القوانين الوضيعة, بل وقدموها عليه: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).
5. إعجاز القرءان في إخباره عن الغيب:
وإخبار القرءان عن الغيب له عدة أشكال:
أ- الإخبار عن الغيب مما مضى في قصص الأمم السابقة, ودعوة رسلهم لهم, وإهلاك الله للمكذبين والمعاندين منهم, وإنجاء الله لرسله ومن آمن معهم, وهذه الأخبار لم يكن ليعلمها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بوحي الله إليه وصدق الله إذ يقول: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا), وهذا النوع من الإخبار عن الغيب مبثوث في القرءان من أوله إلى آخره ولا يخفى على أي قارئ للقرآن.
ب- الإخبار عن الغيب مما لم يحدث قبل نزول القرءان, أو وقت نزوله, كما جاء ذلك في قول الله سبحانه: (الم*غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ), فقد أخبر الله بحدوث معركة بين الفرس والروم, بل وأخبر بنتيجة المعركة وهي انتصار الروم, كل ذلك قبل حدوثه بحوالي تسع سنين, فهل يقدر على ذلك إلا من خلق وملك؟, (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟.
ج- الإخبار عن الغيب مما يدور في خبايا النفوس, وانطوت عليه الصدور كما أخبر الله تعالى عن المنافقين بقوله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ), وقال عنهم أيضا: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ), وهذا النوع في القرءان كثير ظاهر لكل متابع لآياته التي كتب الله بها لنبيه مؤامرات المنافقين ودسائسهم, وفضح نياتهم وسرائرهم.
6. إعجاز القرآن في تأثيره على القلوب الغليظة المعاندة:
إن للقرآن من التأثير على القلوب والأخذ بالألباب ما جعل العرب لما سمعوه ورأوا منه ما استهواهم, وكاثرهم على أنفسهم وغلبهم عليها جعلهم يبذلون له النصرة والتأييد، فقد كانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة بأجمعها ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها.
وليس بخاف عليك أخي القارئ ما كان من عمر بن الخطاب قبل إسلامه حيث خرج يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فأغراه أحد الناس أن يبدأ بأهل بيته ويقصد أخته فاطمة وزوجها, فلما ذهب إليهم وجد عندهم صحيفة بها مطلع سورة طه فطلب قراءتها بعد أن استجاب لطلب أخته بالتطهر, فلما قرأها تحول قلبه, فكأنه كان أصما فسمع أو أعمى فأبصر أو ميتا فعاد إلى الحياة, وصدق الله إذ يقول: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وبعد، كان ذلك حديثا مختصرا عن بعض جوانب إعجاز القرءان, وما هو إلا مجرد إشارة, وبقى أن نقول: "إنه لم يأت دين من الأديان بمعجزة توضع بين يدي الناس يبحث فيها أهل كل عصر بوسائل عصرهم غير الإسلام بما أنزل فيه من القرآن فكأن النبوة في هذا الكتاب متجددة أبداً"...
ولو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة غير القرءان لكان كافيا تمام الكفاية في الدلالة على صدقه, فما بالك وقد أيد الله نبيه بالعديد من المعجزات المادية, فهلم نستعرض جانبا من هذه المعجزات.
§ ثانيا: معجزات النبي صلى الله عليه وسلم المادية.
وتسهيلا عليك أخي القارئ سوف نقسم الحديث عن هذه المعجزات إلى عدة أنواع, نذكر في كل نوع طائفة من الأحاديث والأخبار الدالة على حدوث المعجزة على سبيل التمثيل والبيان, وليس غرضنا في هذا المقام حصر أحاديث المعجزات إذ إن ذكر ذلك يحتاج إلى وقت كبير وكتاب متخصص.
(أ) معجزته صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من بين يديه:
[1] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر, والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه, فأُتىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضعرسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء, فأمر الناس أن يتوضئوا منه, فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه, فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم). رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي, وله طريقان آخران عن أنسبن مالك عند الإمام أحمد.
[2] عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالزوراء فأُتىَّ بإناء فيه ماء لا يغمر أصابعه, فأمر أصحابه أن يتوضئوا, فوضع كفه في الماء, فجعل الماء ينبع من بين أطراف أصابعه حتى توضأ القوم, قال: فقلت لأنس كم كنتم؟ قال: كنا ثلثمائة), رواه الإمام أحمد في مسنده, والبخاري ومسلم في صحيحهما.
[3] عن البراء بن عازب قال: (كنا يوم الحديبية أربعة عشر مائة, والحديبية بئر فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير البئر (أي حافته) فدعا بماء فمضمض ومج في البئر, فمكثنا غير بعيد ثم استقينا حتى روينا وروت أو صدرت ركائبنا), رواه البخاري في صحيحه, وروى أيضا في معناه عن المسور ومروان بن الحكم وروى مثله مسلم عن سلمة بن الأكوع.
[4] عن عمران بن حصين أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير, فقال: (وجعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوب بين يديه وقد عطشنا عطشا شديدا فبينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نحن بامرأة سادلة (أي مادّة) رجليها بين مزادتين (أي قربتين) فقلنا لها: أين الماء؟ قالت: إنه لا ماء، فقلنا كم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: يوم وليلة، فقلنا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها حتى استقبلنا بها النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته بمثل الذي حدثتنا غير أنها حدثته أنها مؤتمة (أي ذات أيتام) فأمر بمزادتيها فمسح في العزلاوين (أي فم القربة) فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وإداوة (إناء صغير)، غير أنه لم نسق بعيرا، وهى تكاد تفضى من الملء، ثم قال: هاتوا ما عندكم، فجمع لها من الكسر والتمر حتى أتت أهلها، قالت: أتيت أسحر الناس أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذاك الصرم (الجمع ينزلون على الماء) بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[5] عن عبد الله قال: (كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا, كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلّ الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء, فجاءوا بإناء فيه ماء قليل, فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله عز وجل, قال: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل), رواه البخاري وكذلك رواه الترمذي...
والأحاديث في هذا الباب كثيرة ولكننا كما قلنا نكتفي بمجرد الإشارة, وأظن هذا القدر يفي بالغرض, وننتقل الآن إلى نوع آخر من أنواع المعجزات المادية.
(ب) معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام القليل:
[1] عن جابر بن عبد الله (أن أم مالك اليهزية كانت تهدي في عكة لها سمنا للنبي صلى الله عليه وسلم, فبينما بنوها يسألونها الإدام ليس عندها شيء فعمدت إلى عكتها التي كانت تهدي فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تجدها ملأى دائما فقال: أعصرتيه, فقالت: نعم, قال: لو تركتيه مازال ذلك قائما). رواه الإمام أحمد في مسنده, والبخاري في صحيحه.
[2] عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أتاه رجل يستطعمه فأطعمه وسق شعير فمازال الرجل يأكل منه هو وامرأته وضيف لهما حتى كالوه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم تكيلوه لأكلتم فيه ولقام لكم), وقد ظلوا يأكلون منه مدة طويلة وهم يرونه كما هو فلما كالوه وجدوه ثلاثين صاعا كما هو غير أنه بدأ ينقص بأخذهم منه بعد الكيل, وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه.
[3] عن أنس بن مالك قال: (قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف فيه الجوع, فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم, فأخرجت أقراصا من شعير, ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبر ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه, ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس, فقمت عليهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم, قال: بطعام؟ قلت:نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا, فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته, فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس عندنا ما نطعمهم, فقالت: الله ورسوله أعلم, فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه, فقال رسول صلى الله عليه وسلم: هلم يا أم سليم, ما عندك؟ فأتت بذلك الخبز, فأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ففتَّ وعصرت أم سليم عكة فأدمته, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول, ثم قال: ائذن لعشرة, فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا, ثم قال: ائذن لعشرة, فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا فقال: ائذن لعشرة, فأكل القوم كلهم, والقوم سبعون أو ثمانون رجلا).رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من طرق مختلفة, وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.
[4] عن جابر بن عبد الله قال: (إنا يوم الخندق نحفر, فعرضت كدية (أي صخرة) شديدة, فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق, فقال: أنا نازل, ثم قام وبطنه معصوب بحجر, ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا, فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل, فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت, فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر, فعندك شيء؟, قالت: عندي شعير وعناق, فذبحت العناق وطحنت الشعير, حتى جعلنا اللحم في البرمة, ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر, والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنبطح, فقلت: طُعَيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان معك, قال: كم هو؟ فذكرت له, فقال: كثير طيب, قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي, فقال: قوموا, فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل جابر على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم ادخلوا ولا تضاغطوا, فجعل يكسر الخبز, ويجعل عليه اللحم, ويخمر (أي يغطي) البرمة والتنور إذا أخذ منه, ويقرب إلى أصحابه, ثم ينزع, فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقى بقية, قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة), رواه البخاري في صحيحه.
[5] عن أبي هريرة قال: (لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنحرنا نواضحنا (أي إبل السقاية) فأكلنا وادهنا؟ فقال: افعلوا, فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلوا قلّ الظهر, ولكن ادعهم بفضل أزوادهم, ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنطع (أي بساط من جلد) فبسط ودعا بفضل أزوادهم, قال: فجعل الرجل يجئ بكف التمر والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع شيء من ذلك يسير, فدعا عليهم بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم, فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاءا إلا ملئوه, وأكلوا حتى شبعوا, وفضلت فضلة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى الله بها عبد غير شاك فتحتجب عنه الجنة), رواه مسلم في صحيحه والنسائي في سنته وأبو يعلي الموصلي.
(ج) 3. معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مع الجماد والحيوان:
[1] (الشجر ينقاد له) روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال: (سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح,فذهب رسول اله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فأتبعته بإدواة من ماء فنظر فلم يجد شيء يستتر به, وإذا شجرتان بشاطئ الوادي, فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها, وقال: انقادي علي بإذن الله, فانقادت معه بإذن الله كالبعير المخشوش (أي المربوط من أنفه) الذي يصانع قائده, حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها وقال: انقادي علي بإذن الله, فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده, حتى إذا كان في المنتصف بينهما لأم بينهما (يعني جمعهما) وقال: التئما علي بإذن الله فالتأمتا, قال جابر: فخرجت أحضر (أي أسرع) مخافة أن يحس بقربي فيبعد, فجلست أحدث نفسي, فحانت مني التفاتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل, وإذا الشجرتان قد افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق, فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة وقال برأسه هكذا يمينا وشمالا), وجاء في هذا المعنى أحاديث عن كثير من الصحابة عند الإمام احمد والبيهقي وغيرهما وإنما ذكرنا هنا حديثا واحدا للتمثيل.
[2] (حنين الجذع إليه), روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة, فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم, فجعلوا له منبرا, فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر, فصاحت النخلة صياح الصبي, ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن, قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر), وقد ورد حنين الجذع من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة الشأن وفرسان الميدان من علماء الحديث, وقد تأثر أحد الشعراء بهذه الواقعة فقال في أبيات له:
يا جامدا معنى بصــورة عاقل .. أمالك من قلــب شهيــد ولا سمـع
يحن إليه الجذع شوقا وما لنا .. ألسنا بذاك الشوق أولى من الجذع
يحن إليه الجذع شوقا وما لنا .. ألسنا بذاك الشوق أولى من الجذع
[3] (بكاء الجمل وشكواه بين يديه), عن عبد الله بن جعفر قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسرّ إلىّ حديثا لا أخبر به أحدا أبدا, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما أستتر به في حاجته هدف أو حائط نخل, فدخل يوما حائطا من حيطان الأنصار, فإذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه (أي ردد صوته في حنجرته من الضجر) فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته (أي أعلاه) وذفراه (أي أصل أذنه) فسكن, فقال: من صاحب الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار قال: هو لي يا رسول الله, فقال: أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكّها الله لك؟ إنه شكا لي أنك تُجيعه وتدئبه), رواه الإمام أحمد في مسنده, ومسلم في صحيحه.
[4] (انشقاق القمر له), روى البخاري عن أنس بن مالك: (أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر فأراهم القمر شقتين حتى رأوا بينهما), ورواه مسلم في صحيحه والإمام احمد في مسنده, وقد ورد أيضا بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة تفيد القطع عند علماء الأمة, وسجل الله ذلك في كتابه:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ),
(د) دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم في استجابة دعائه:
[1] عن جابر بن عبد الله: (أنه كان يسير على جمل قد أٌعيا, فأراد أن يسيبه, قال: فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه ودعا له, فسار سيرا لم يسر مثله, وفي رواية: فمازال بين يدي الإبل قدامها, حتى كنت أحبس خطامه فلا اقدر عليه, فقال: كيف ترى جملك؟ قلت: قد أصابته بركتك يا رسول الله), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[2] عن أنس بن مالك: (أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب, فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال, وتقطعت السبل, فادع الله لنا يغيثنا, قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا, اللهم اسقنا, اللهم اسقنا, قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا فزعة (أي قطعة) ولا شيئا, وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار, قال: فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس (أي كبيرة) فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت, قال: والله ما رأينا الشمس ستا, ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب, فاستقبله قائما وقال: يا رسول الله هلكت الأموال, وانقطعت السبل, ادع الله يمسكها, قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا, اللهم على الآكام والجبال والظراب ومنابت الشجر, قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[3] ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد, فكان كذلك حتى أنه كان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين, وولد له لصلبه ما يقرب من مائة أو يزيد.
[4] ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للسائب بن يزيد, ومسح بيده على رأسه فطال عمره حتى بلغ أربعا وتسعين سنة وهو تام القامة معتدل, ولم يشب منه موضع إصابته يد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومتع بحواسه وقواه.
[5] ثبت عند البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على النفر السبعة الذين ألقوا عليه سلا الجذور, وكان منهم: أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة, وسمى باقي السبعة, قال ابن مسعود: والذي بعثه بالحق, لقد رأيتهم صرعى في القليب, قليب بدر.
[6] عن أنس بن مالك قال: (كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران, وكان يكتب للنبي صلى الله وسلم فعاد نصرانيا وكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له, فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض, فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا, فأصبحوا وقد لفظته الأرض, فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه), رواه البخاري في صحيحه...
وهلم أخي القارئ نستعرض نوعا أخر من دلائل النبوة...
(ه) دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الغيب:
[1] عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده, وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده, والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما, ولقد صدق والله فوقع ما أخبر به في عهد خلفائه الراشدين الذين فتحوا بلاد فارس والروم وأنفقوا أموالهم في سبيل الله.
[2] عن عدي بن حاتم قال: (بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة, ثم أخر فشكا إليه قطع السبيل, فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها, وقد أنبئت عنها, قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (أي المسافرة) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ما تخاف أحدا إلا الله عز وجل, - قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيء (أي قطّاع الطرق) الذين قد سعروا البلاد؟ - ولئن طالت بك الحياة لتفتحن كنوز كسرى, قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز, ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه...., قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة فلا تخاف إلا الله عز وجل, وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, ولئن طالت بكم الحياة لترون ما قال أبو القاسم), رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[3] عن أنس بن مالك قال: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ومع أبو بكر وعمر وعثمان, فرجف بهم الجبل, فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله وقال: اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان), رواه البخاري في صحيحه ومسلم وغيرهما, وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقتل عمر وعثمان شهيدين في سبيل الله.
[4] عن عمر بن الخطاب قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر على أمداد اليمن من مراد ثم من قرن, وكان به برص فبرأ منه, إلا موضع درهم, له والدة هو بها بّر, لو أقسم على الله لأبّره, فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل). رواه مسلم في صحيحه, وقد وُجد هذا الرجل في زمن الفاروق على الصفة والنعت الذي ذكر في الحديث.
[5] عن أم حرام بنت ملحان أنها سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: (أول جيش يغزون البحر من أمتي قد أوجبوا, قالت أم حرام: فقلت يا رسول: أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم, قالت: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول جيش يغزون مدينة قيصر (يعني مدينة القسطنطينية) من أمتي مغفور لهم, قلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا), رواه البخاري في صحيحه, وفي هذا الحديث من دلائل النبوة:
أ. الإخبار عن الغزوتين وقد وقعتا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ب. الإخبار عن المرأة أنها من الأولين, وليست من الآخرين, وقد وقع لأنها توفيت في الغزوة الأولى.
· وبعد... فقد وصلنا إلى نهاية ما أردنا من الإشارة إلى بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته, وقد يقول منكر أو متشكك: ومن لي بصدق هذه الأحاديث؟ ونقول: إن أي عقل سليم ليقطع بصدق هذه الأحاديث, وسوف نسوق بعون الله من الأدلة على ذلك ما يشرح صدر المنصف, ويزيده يقينا, ويقطع شك المرتاب, ويرد كيد الحاقد, ويدحض قول المعاند.
· أولا: إن الذين شاهدوا هذه المعجزات بأعينهم, ولمسوها بأيديهم, وعايشوها بوجدانهم كانوا- قبل معاينة الآيات والتأكد من صدق المعجزات- قوما كفارا, وهذه المعجزات الباهرة والدلالات الصادقة الواضحة هي التى أخرجتهم من الظلمات إلى النور, ونقلتهم مما كانوا عليه من الكفر ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه التي وصلت إلى حد الرغبة في قتله والسعي الحثيث إلى ذلك- نقلتهم إلى الإسلام إذعانا منهم وانقيادا و تصديقا بما لمسوه وعاينوه, فتركوا دين آبائهم وأجدادهم ودخلوا في دين الله أفواجا, بل ومن أجله هاجروا وتركوا أموالهم وديارهم, وصبروا على استهداف قريش لهم بالتعذيب الشديد, ثم بالقتال والقتل وهم ثابتون على دينهم, كل هذا يستحيل عقلا أن يقدم عليه إنسان وهو راض النفس مطمئن الفؤاد إلا إذا أيقن إيقانا جازما لا شك فيه أن هذا الدين حق وأن هذا الرسول صادق, وقد جرى على الألسنة واستقر في النفوس أن الرائد لا يكذب أهله, فكيف بربك يكذب نفسه؟..
· ثانيا: إن هذه الأحاديث وقعت أحداثها أمام الجمع الكثير, ورواها عدد كثير مما يستحيل معه تواطؤهم على الكذب والاختلاق, بل ولم ينكرها أحد ممن عاصر وقائع هذه الأحاديث ولا كذبها مع حبهم للحق وصدعهم به.
· ثالثا: ما يتمثل في الوعيد الشديد لمن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: (من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار), فمن ذا الذي يجرؤ على تقحم النار إلا من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم, أما من آمن به وأولهم الصحابة وتابعوهم بإحسان فهم أبعد الناس عن الكذب عموما, وعن الكذب عليه خصوصا, بل هذا قد يستحيل في حقهم.
· رابعا: الضوابط التي وضعت لقبول هذه الأحاديث, والتي لم يعرف العالم قبل المسلمين ضوابط لنقل الخبر وقبوله مثلها, بل ولا شبيهة بها ولو من بعيد... وتتمثل هذه الضوابط في:
1. اتصال السند: بمعنى أن الراوي الذي ينقل الخبر عن سابقه لابد أن يكون عاصره ولقيه, بل وسمع منه- ولك أن تقارن بين خبر يكون هذا الشرط أحد الشروط لقبوله, وبين ما يزعم النصارى أنه كتاب مقدس, وفي سند ما ذكر فيه انقطاع يصل إلى عدة سنين قد تزيد أحيانا على المائة, وليس فيه خبر واحد متصل السند, فيا للعجب!!.
2. صفات الرواة التي تتمثل في:
(أ) العدالة: وتعني خلو الراوي من أي صفات تقدح في دينه, أو تخرم مروءته, وأعظم القوادح الكذب, فلو عرف عن الراوي أنه كذب ولو لمرة واحدة تركوا حديثه وردوه, بل إن أحد علماء الحديث ترك أحد الرواة لأنه رآه يشير إلى دابته كأن بحجره طعاما ولم يكن فيه, لأنه كذب على الدابة, فأي احتياط هذا؟!
(ب) الضبط: فلابد أن يكون الراوي معروفا بالضبط والحفظ والسلامة من الأوهام والتخليط .
3. عدم الشذوذ: وذلك بألا يخالف الواحد ما رواه الجماعة أو من هو أوثق منه وأحفظ وإلا تركوا حديثه.
4. سلامة الحديث من العلل القادحة.
تلك كانت ضوابط قبول الخبر باختصار, فإذا لم يصدق العقل خبرا ورد بهذه الضوابط فلن يوجد في الدنيا خبر يصدق, وهذا مستحيل, بل ضرب من الخيال ولا يقول به عاقل.
وبعد.. فإننا لو استطردنا في ذكر الأدلة المنطقية والعقلية على صدق ما سبق من أخبار وأحاديث لطال بنا الحديث, ولكننا نكتفي بهذا القدر وهو بحمد الله كاف لكل ذي عقل سليم لم تغطه حجب العناء وسحب الهوى, والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
الخاتمة
أخي القارئ: وبعد أن عشنا سويا في رحاب بعض دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم وطفنا بحدائق أزهارها تفيأنا ظلالها وتنسمنا عبيرها, هل ترى عاقلا منصفا ينأى بنفسه عن اتباعه, فضلا عن أن يعاديه ويهاجم دينه ورسالته؟.
تعليق