عـوائق السّـير
ليس المصلح من يُعلِّم الناس الخير، ويلقنهم حب الفضائل، ويتعلمون منه أنواع العلوم فيحفظونها ويطبقونها، ولكن من يحتاط ويحترس، ويخشى من زغل العلم ودخائل النفس وخباياها، فينبه إلى المزالق، ويقطع على تلامذته طرائق الفهم الخاطئ، أو وضع الكلام على غير مواضعه؛ وذلك لأن للنفوس عاهات تعتريها من شغف بالغرائب، وحب للظهور والتعالم، فالمربي هو الذي يحرس هذا العلم من أن تتلاعب به الأهواء فتحمله على ما تريد وتصل به إلى مدى لا تحمد عقباه، كما يحرسه من أنصاف المتعلمين الذين لم يرسخوا فيه.
وعندما تطلق العبارات العامة أو المجملة دون تخصيص أو تفسير فإن الناس يحملونها على غير محملها؛ وهذا ما يربك الأفهام، وخاصة إذا تعلقت بأمر من أصول العقائد كالولاء والبراء، أو الإيمان والكفر أو بالمفاهيم الأساسية للإسلام، ومن هنا ينشأ التفرق والاختلاف، وتتشعب الآراء والأفكار، وذلك لنقص العملية التربوية.
إن منهج الاحتراس وسد الكُوى منهج قرآني جاءت به آيات كثيرة، قال _تعالى_: "لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً" (النساء:95)، وقال _تعالى_: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" (الأنفال: من الآية17).
وهو منهج نبوي، فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ إذا تكلم يعيد الكلمة ثلاثاً لتُعْقَل عنه، ومن صفة كلامه أنه بَيِّنٌ فَصْل يحفظه من جلس إليه، وقد عَلَّم المسلمين التأدُّب مع الأنبياء حتى لا تقع منهم الهفوة ولو كانت غير مقصودة، قال _صلى الله عليه وسلم_: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى"، وعندما قال له رجل: يا رسول الله يا خير البرية! قال: "ذاك إبراهيم".
وهذا منهج سلفي، فقد خشي التابعي الفقيه عبيدة السلماني أن يضع الناس كتبه على غير مواضعها، فدعا عند موته إلى محوها ورعاً، وقد تكلم الحسن البصري بكلمة حملت على أنها مغايرة لمنهج أهل السنة، قال ابن عون: "لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً وأشهدنا عليه شهوداً، ولكن قلنا: كلمة خرجت لا تحمل".
إن في العالم الإسلامي اليوم نهضة علمية، وطلبة علم حريصين كل الحرص على تلقيه وحفظه، وهم حريصون على لقاء العلماء والمربين، فإذا لم يكن العالم ربانياً عارفاً بدخائل النفوس، يعطي طالب العلم ما يحتاجه ويعيه كان عاقبة ذلك الغلو والتفرق، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا أمر لا يسر من كان همه مصلحة الدعوة وانتشار الإسلام، وإذا كانت هذه الآفات موجودة في واقعنا اليوم، فكم نتمنى على المربين التنبه لها، وسد هذه الثغرة ليكون البناء سليماً.
قلت في خاطرة سابقة: إن شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين واهية ضعيفة، وإن لم تكن بعض حبالها قد تقطعت، ومن الظواهر البارزة التي يعرفها الجميع، مما يمارسه بعض العاملين في مجال الدعوة من سياسة (الإهمال) لإخوانهم، سواء أكان هذا عن عمد أو غير عمد.
وهي سياسة فاشلة من جميع الوجوه؛ لأن الأصل في عقد الأخوة المصارحة والمناصحة، والأمر بالمعروف والشفقة والرحمة، وتفقد الأحوال كما كان يفعل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ حين وصف بأنه يتفقد أصحابه، حتى أنه يسأل عن المرأة العجوز التي كانت تقُمُّ المسجد حين افتقدها.
وهي سياسة فاشلة؛ لأن الأخ (المُهمَل) سيتألم جداً، بل ربما أصيب بعُقَد نفسية وإحباط شديد – وهذا قد وقع – إلا إذا كان قوي النفس، قوي الإيمان كما فعل كعب بن مالك – رضي الله عنه – عندما هُجِر من الرسول _صلى الله عليه وسلم_ والصحابة بسبب تخلفه عن غزوة تبوك، فقد كان يحضر الجماعة، ويسلم على المسلمين ولكن لم يكن أحد يرد عليه، وأراد ملك الروم استغلال ذلك، ولكن كعباً كان مستعلياً بإيمانه فصبر حتى جاء الفرج من السماء.
وهي سياسة فاشلة؛ لأنها تعني أن الدعوة لم تستطع معرفة الرجال ومعرفة القدرات والطاقات، ووضع كل إنسان موضعه، مهما يملك من قدرات قليلة.
وهي سياسة فاشلة؛ لأنها دليل على التخلف الحضاري والأخلاقي، ففيها روح الأنانية والفردية، فالذي يفعل هذا لا يبقى معه أحد، وكأنه يقول: أنا ومن حولي نكفي للدعوة.
إن هذا (الإهمال) ليس وليد هذه الأيام، بل هو من أمراض الدعوة في العصر الحديث، والحزبية والأنانية تغذيانه، وإن التحدي الذي يواجهه المسلمون يفرض عليهم أن يكفوا عن هذه السياسة البلهاء، وأن يستفيدوا من كل طاقة، وإن الوسائل الحديثة تساعد على تصنيف القدرات، وإذا لم يفعلوا فما هو إلا الهوى الذي يخفي وراءه التخلف والضعف.
بقلم / د. محمد العبدة
ليس المصلح من يُعلِّم الناس الخير، ويلقنهم حب الفضائل، ويتعلمون منه أنواع العلوم فيحفظونها ويطبقونها، ولكن من يحتاط ويحترس، ويخشى من زغل العلم ودخائل النفس وخباياها، فينبه إلى المزالق، ويقطع على تلامذته طرائق الفهم الخاطئ، أو وضع الكلام على غير مواضعه؛ وذلك لأن للنفوس عاهات تعتريها من شغف بالغرائب، وحب للظهور والتعالم، فالمربي هو الذي يحرس هذا العلم من أن تتلاعب به الأهواء فتحمله على ما تريد وتصل به إلى مدى لا تحمد عقباه، كما يحرسه من أنصاف المتعلمين الذين لم يرسخوا فيه.
وعندما تطلق العبارات العامة أو المجملة دون تخصيص أو تفسير فإن الناس يحملونها على غير محملها؛ وهذا ما يربك الأفهام، وخاصة إذا تعلقت بأمر من أصول العقائد كالولاء والبراء، أو الإيمان والكفر أو بالمفاهيم الأساسية للإسلام، ومن هنا ينشأ التفرق والاختلاف، وتتشعب الآراء والأفكار، وذلك لنقص العملية التربوية.
إن منهج الاحتراس وسد الكُوى منهج قرآني جاءت به آيات كثيرة، قال _تعالى_: "لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً" (النساء:95)، وقال _تعالى_: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" (الأنفال: من الآية17).
وهو منهج نبوي، فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ إذا تكلم يعيد الكلمة ثلاثاً لتُعْقَل عنه، ومن صفة كلامه أنه بَيِّنٌ فَصْل يحفظه من جلس إليه، وقد عَلَّم المسلمين التأدُّب مع الأنبياء حتى لا تقع منهم الهفوة ولو كانت غير مقصودة، قال _صلى الله عليه وسلم_: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى"، وعندما قال له رجل: يا رسول الله يا خير البرية! قال: "ذاك إبراهيم".
وهذا منهج سلفي، فقد خشي التابعي الفقيه عبيدة السلماني أن يضع الناس كتبه على غير مواضعها، فدعا عند موته إلى محوها ورعاً، وقد تكلم الحسن البصري بكلمة حملت على أنها مغايرة لمنهج أهل السنة، قال ابن عون: "لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً وأشهدنا عليه شهوداً، ولكن قلنا: كلمة خرجت لا تحمل".
إن في العالم الإسلامي اليوم نهضة علمية، وطلبة علم حريصين كل الحرص على تلقيه وحفظه، وهم حريصون على لقاء العلماء والمربين، فإذا لم يكن العالم ربانياً عارفاً بدخائل النفوس، يعطي طالب العلم ما يحتاجه ويعيه كان عاقبة ذلك الغلو والتفرق، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا أمر لا يسر من كان همه مصلحة الدعوة وانتشار الإسلام، وإذا كانت هذه الآفات موجودة في واقعنا اليوم، فكم نتمنى على المربين التنبه لها، وسد هذه الثغرة ليكون البناء سليماً.
قلت في خاطرة سابقة: إن شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين واهية ضعيفة، وإن لم تكن بعض حبالها قد تقطعت، ومن الظواهر البارزة التي يعرفها الجميع، مما يمارسه بعض العاملين في مجال الدعوة من سياسة (الإهمال) لإخوانهم، سواء أكان هذا عن عمد أو غير عمد.
وهي سياسة فاشلة من جميع الوجوه؛ لأن الأصل في عقد الأخوة المصارحة والمناصحة، والأمر بالمعروف والشفقة والرحمة، وتفقد الأحوال كما كان يفعل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ حين وصف بأنه يتفقد أصحابه، حتى أنه يسأل عن المرأة العجوز التي كانت تقُمُّ المسجد حين افتقدها.
وهي سياسة فاشلة؛ لأن الأخ (المُهمَل) سيتألم جداً، بل ربما أصيب بعُقَد نفسية وإحباط شديد – وهذا قد وقع – إلا إذا كان قوي النفس، قوي الإيمان كما فعل كعب بن مالك – رضي الله عنه – عندما هُجِر من الرسول _صلى الله عليه وسلم_ والصحابة بسبب تخلفه عن غزوة تبوك، فقد كان يحضر الجماعة، ويسلم على المسلمين ولكن لم يكن أحد يرد عليه، وأراد ملك الروم استغلال ذلك، ولكن كعباً كان مستعلياً بإيمانه فصبر حتى جاء الفرج من السماء.
وهي سياسة فاشلة؛ لأنها تعني أن الدعوة لم تستطع معرفة الرجال ومعرفة القدرات والطاقات، ووضع كل إنسان موضعه، مهما يملك من قدرات قليلة.
وهي سياسة فاشلة؛ لأنها دليل على التخلف الحضاري والأخلاقي، ففيها روح الأنانية والفردية، فالذي يفعل هذا لا يبقى معه أحد، وكأنه يقول: أنا ومن حولي نكفي للدعوة.
إن هذا (الإهمال) ليس وليد هذه الأيام، بل هو من أمراض الدعوة في العصر الحديث، والحزبية والأنانية تغذيانه، وإن التحدي الذي يواجهه المسلمون يفرض عليهم أن يكفوا عن هذه السياسة البلهاء، وأن يستفيدوا من كل طاقة، وإن الوسائل الحديثة تساعد على تصنيف القدرات، وإذا لم يفعلوا فما هو إلا الهوى الذي يخفي وراءه التخلف والضعف.
بقلم / د. محمد العبدة