عمرو وزيدان والأقباط... ثلاثيّة أزمة دينيّة وتاريخيّة
القاهرة - ياسر حسن
عمرو بن العاص مفتاح أزمة تجددت أخيراً بين الروائي المصري يوسف زيدان والكنيسة المصرية، تقدّم على إثرها محامي الكنيسة نجيب جبرائيل، رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، ببلاغ إلى النائب العام المصري، يتهم فيه زيدان بازدراء الدين المسيحي، كذلك شنّ عدد من رجال الدين المسيحي هجوماً حاداً عليه، واتهموه بتعمد تزييف التاريخ وتحريفه.
جاءت تصريحات زيدان صادمة للوسط الكنسي في القاهرة حينما قال إن العصور التي سبقت عمرو بن العاص كانت أكثر ظلاماً وقسوة على المسيحيين، وإن ما يلقنونه للأطفال في مدارس الأحد و{يحشون» به أدمغة القاصرين ما هو إلا أوهام وضلالات تجعلهم في عزلة عن المجتمع، لذا يسهل على الكنيسة استخدامهم سياسياً، مطالباً الأقباط بإقامة تمثال لعمرو بن العاص، لأنه إحدى حد أهم الشخصيات في التاريخ السياسي والعسكري، بحسب تعبيره، ولو أنصفته الكنيسة المرقسية لصنعت له تمثالاً، لأنه هو الذي أقامها وجعل لها كياناً. هذه التصريحات قابلتها الكنيسة بالقول: «لا يجوز للكنيسة أن تقيم تمثالاً لعمرو بن العاص فيما تمتلئ صفحات التاريخ بسلبياته وما فعله أثناء فتحه مصر}، وأضافت أن زيدان أدلى بتلك التصريحات ليشتبك مع الأقباط ويحقق مبيعات لكتبه.
نجيب جبرائيل المحامي الذي تقدم بالبلاغ قال: «عمرو بن العاص لم يقم الكنيسة المرقسية، إنما القديس مرقص الرسول، عندما حضر من فلسطين إلى الإسكندرية لهذا الغرض».
تابع جبرائيل: «الأقباط الذين استشهدوا على أيدي الرومان كان لهم دور في إقامة كنيستهم والحفاظ عليها، أما عمرو بن العاص فقد استدعى بنيامين من منفاه، وهذا لا يعني أنه أقام الكنيسة، فهو لم يساعد الأقباط الذين استشهدوا حفاظاً على تاريخهم وهويتهم وذاقوا من العرب مثلما ذاقوا من الرومان، وضرب مثلاً بالخليفة عبد الملك بن مروان الذي ألغى اللغة القبطية في المدارس وجعل العربية بدلاً منها، وأغلق الكنائس وأجبر الأقباط على دفع الجزية.
رد الدكتور عادل بدر، رئيس قسم الفلسفة في جامعة المنصورة، قائلاً: «عمرو بن العاص كان لا يميز في المعاملة بين مسلم ومسيحي، إذ استلم ولاية مصر في عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يحقق قول الله تعالى في كتابه «وجادلهم بالتي هي أحسن»».
أضاف بدر: {المسيحيون لم يضطهدوا بدليل أنه حين حدث تجاوز من ابن عمرو بن العاص بحق قبطي من أهل مصر وأرسل والده مظلمة إلى الخليفة عمر بن الخطاب استدعاه الخليفة، وأمر أن يرسل عمرو بن العاص وابنه إليه على دابة عارية غير مزينة، وقال لابن القبطي اضرب ابن الأكرمين، وهذا مظهر من مظاهر العدل ويعد هذا التجاوز الوحيد الذي حدث من عمرو بن العاص}.
يواصل أستاذ الفلسفة الإسلامية: «درست كتب عدة تاريخ الأقباط في مصر أثناء الفتح الإسلامي، ولم تذكر أية تجاوزات حدثت آنذاك، لأن الفتح العربي كان هدفه المؤاخاة بين المسلمين والأقباط». كذلك أشار إلى «فرض المسلمين جزية على أهل البلاد الذميين، موضحاً ألا ضرر في ذلك، لأن الجزية التي كانت تفرض على الموالي (لم ينضموا إلى الجيش) كانت في مقابل دفاع المسلمين عنهم، وحين كان المسيحيون يعتنقون الإسلام تسقط عنهم، لكن لا صحة للروايات القائلة إنهم كانوا يبيعون أولادهم لسداد الجزية، فإذا كان عتق الرقاب له قيمة لدى المسلمين ودينهم يأمرهم به، فكيف لهم أن يفرضوا جزية مرتفعة إلى هذا الحد؟».
وافقته الرأي د. عبادة كحيلة، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة القاهرة، الذي أكد أن «عمرو بن العاص أحسن معاملة المصريين إبان حربه للروم، ورحب بقدومه المصريون، وساعدوه لأنهم اعتبروه مخلصهم من حكم الرومان المستبد ونعموا في عهده بالعدل».
أما في ما يتعلق بأن عمرو بن العاص هو من أقام للديانة المسيحية معالمها في مصر، فأوضح كحيلة أن الأقباط كانت لهم كنائس قبل الفتح الإسلامي، لكنهم مارسوا حرياتهم بشكل أوسع بعد الفتح الإسلامي حين تخلصوا من تضييق الرومان عليهم، إذ كانوا يدينون بمذهب آخر مختلف عن المصريين.
بدوره، روى عضو مجلس الشورى المصري والناشط القبطي د. نبيل لوقا بباوي بعض وقائع التعذيب التي مارسها الرومان ضد الأقباط المصريين مثلما حدث مع الأنبا بنيامين المطران رقم 33 الذي عذبوه وأخاه الأنبا متياس وسكبوا عليهما الزيت وحرقوه حتى يضغط على الأقباط ويقنعهم بتغيير مذهبهم.
وساعد هذا المناخ القاسي، واصل بباوي، الذي عاش فيه الأقباط في مصر، إضافة إلى «الضرائب الباهظة المفروضة عليهم من الرومان على ترحيب المصريين بقدوم عمرو بن العاص ومساعدته في دخول مصر، حيث أمدوه بالأطعمة، إضافة إلى إرشاده لأيسر طرق البلاد، وإن لم يحدث ذلك فكيف بأربعة آلاف جندي أن يهزموا 180 ألف جندي؟».
حول تصريحات د. زيدان، أكّد بباوي أن ابن العاص أعطى الأمان إلى المسيحيين والرهبان، ففي عام 642 أي بعد عامين من دخول عمرو بن العاص مصر عاد الأنبا بنيامين لمباشرة اختصاصاته الدينية في الإسكندرية بعد هروب دام 13 عاماً في «أوس» في الصعيد.
وثيقة مهمة
مخطوطة الأسقف حنا النقيوسي، المؤرخ المصري الوحيد في القرون الأولى الذي تناول تاريخ مصر ككل، يستند إليها الأقباط في هذه القضية. في هذا السياق، أوضح د. عمر صابر عبد الجليل، أستاذ علم اللغات السامية المقارن في كلية الآداب في جامعة القاهرة، قائلاً: «ترجمت المخطوطة بعد الاطلاع عليها في المتحف البريطاني عام 1982 ونشرتها في كتاب منذ سنوات بعنوان «تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي»، وحقق نجاحاً كبيراً بعد ترجمته إلى العربية وطُبع مرات عدة.
بيّن الكتاب مدى تسامح المسلمين مع المسيحيين آنذاك، وعدم صحة الشائعات والأكاذيب المغرضة المُثارة أخيراً، من نهب أموال الأقباط وإجبارهم على الدخول في الإسلام. كذلك لا تشير أي كلمة في المخطوطات إلى أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية، ولا يوجد في أي باب من أبواب المخطوطة الـ122 ما يؤكد ذلك.
من جهته، رفض الباحث والروائي د. يوسف زيدان التعليق على واقعة إحالة البلاغ المقدم ضده من د. نجيب جبرائيل إلى نيابة أمن الدولة الذي يتهمه فيه بازدراء الأديان وتعمد الإساءة إلى العقيدة المسيحية، مؤكداً أنه يكن الاحترام للعقيدة المسيحية ولم يتعمد الإساءة إليها، كما يزعم البعض، والدليل أن روايته «عزازيل» تلقى رواجاً في إيطاليا، على رغم أنها دولة مسيحية ويكتب عنها ما يزيد على مقالين يومياً في المواقع الإلكترونية والجرائد هناك كأفضل رواية عربية.
أضاف زيدان: «يهاجمتي البعض عندما أتحدث عن الأقباط لأن النبش في التاريخ يزعجه كثيراً، إذ يكشف عن الحقائق ويضيئها، والبعض يريد أن نعيش في ظلام كي تظل الحياة هادئة وخالية من المشاكل، ويتهمني بأنني لا أتحدث سوى عن العقيدة المسيحية، على رغم أنني أتحدث أيضاً عن التراث الإسلامي والتصوف ولا أتورع عن كشف المغزى الموجود في التاريخ الإسلامي».
http://www.aljarida.com/aljarida/Article.aspx?id=159095