ملخص الخطبة
1- ميلاد المسيح المُعجِز 2- رفع المسيح إلى السماء 3- نزول المسيح في آخر الزمان
الخطبة الأولى
أحبتي في اللـه:
في رحاب الدار الآخرة
هذا هو لقاءنا الخامس مع السلسة الكريمة ولا زلنا مع حديث حذيفة بن أسيد الغفاري:
اطلع علينا النبي صلى الله عليه و سلم ونحن نتذاكر فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ((ما تذاكرون؟)) فقالوا: نذكر الساعة فقال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر، الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم))([1]).
وها نحن الآن على موعد مع إحدى هذه العلامات الكبرى ألا وهي نزول عيسى عليه السلام.
أيها الحبيب الكريم: أعرني قلبك وسمعك وعقلك فإن الموضوع من الأهمية بمكان، وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعا من بين أيدينا فسوف أركز الموضوع في العناصر التالية:
أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز.
ثانياً: بل رفعه اللـه إليه.
ثالثاً: نزول عيسى من السماء إلى الأرض.
أسأل اللـه تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز
أخي في اللـه لن أجد لك بداية أرحب ولا أجمل أبدأ بها حديثي معك الآن أجل من هذه الكلمات الجميلة في قوله تعالى: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ آل عمران:35 -37].
وقبل أن نتجول سويا في بستان هذه الكلمات الرقيقة الرقراقة أقول لك إنه لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل منذ أن خلق اللـه آدم من تراب ينسب نبي لأُمِه.
مريم هي الأنثى الوحيدة في الوجود كله التي اختصها اللـه من بين النساء قاطبةً ليودعها سره الأكبر في أصفى حمل وأعجز ميلاد، فمريم هي الفتاة العذراء النقية التقية التي اصطفاها اللـه جل في علاه من بين نساء العالمين فنفخ فيها من روحه ومنحها هذه المكانة الرقيقة الرقراقة من بين أمهات الدنيا جمعاء.
فأمها حنة بنت فاقودوصلت إلى سن اليأس، فتمنت على اللـه أن يرزقها الولد، واللـه على كل شىء قدير فاستجاب اللـه دعاءها وابتهالها إليه، فتحرك الحمل في أحشائها بقدرة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السموات بقدرة من يقول للشيء كن فيكون. فلما تحرك الحمل في أحشائها أحبت أن تشكر اللـه على هذه النعمة فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم .
نَذَرَتْ ما في بطنها لله جل وعلا "أي لخدمة بيت المقدس"، جزاء على ما رزقها هذه النعمة. بعد ما وصلت لهذه السن.. وبعد مرور أشهر الحمل وضعت بنتا جميلة رقيقة طيبة، فنظرت إليها بحزن وقالت رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
فقالت حنة: رباه إني وضعتها أنثى وأنت أعلم مني بما وضعت أي: أنت الذي رزقتني وقدرت لي ذلك، فليس الذكر كالأنثى في القوة والجلد وخدمة الأقصى وإني يا رب أعيذها بك من شر الشيطان وذريتها - وهو ولدها عيسى بن مريم فاستجاب اللـه لها.
قال رسول اللـه صلى الله عليه و سلم : ((ما من مولود يولد، إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه))([2]).
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي إنه تقبل نذر أمها حنة وجعل شكلها مليحاً وأعطى لها منظراً بهيجاً ويسر لها أسباب القبـول وقرنهـا بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين فلهذا قال: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وما ذلك إلا لأنها كانت يتيمة ويقال أنهاكانت سَنَةَ جَدْبٍ فكفلها زوج خالتها لكي تكون تحت رعاية خالتها وحنانها ولا منافاة بين القولين، وقيل أنه زوج أختها وقد ذكر القرآن لنا أيضا وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ آل عمران: 44 ].
أي ما كنت معهم يا محمد لتخبرهم عن معاينة ما جرى، بل أطلعك اللـه عليه كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم لما اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفل هذه الطاهرة التقية الورعة ليكن له الأجر، فحين خرجت بها حنة إلى بني الكاهن بن هارون أخى موسى عليهما السلام. وقالت هي نذيرة، ولا يدخل المسجد حائض، ولكني نذرتها، وأنا لا أردها إلى بيتي. فقال زكريا: ادفعوها لي فخالتها تحتي، فقالوا: بذلك تطيب أنفسنا لأنها ابنة إمامنا. وقالوا: نقترع وبالفعل اقترعوا ،فما هي القرعة؟!
أن يرموا الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة في نهر الأردن وقالوا أي قلم يثبت ولا يجري مع التيار بل يعاكسه هو كافلها وبالفعل حدث ووقع ذلك على قلم واحد ،... ترى من صاحب هذا القلم؟!
إنه زكريا عليه السلام... وذلك لحكمة يعلمها اللـه... ويعلمها لنا ألا وهي لتتعلم مريم وتقتبس من النبي الزكي زكريا عليه السلام العلم والفقه وكان إمامهم وكبيرهم وسيدهم وعالمهم ونبيهم حين ذاك.
قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
تعجب زكريا من هذا الطهر والزهد والعفاف والتوحيد الذي وصلت به مريم البتول إلى مكانة عالية عند اللـه عز وجل فكلما دخل عليها وجد عندها رزقا.
ثم قال لها زكريا عليه السلام: يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أي من أين لك هذا الرزق؟!
قالت البتول الطاهرة: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ أي ذلك لا دخل للمخلوق فيه بل هو من الخالق، وهو يرزق من يريد بغير حدود تحده.
وهكذا أيها الأحبة الكرام
اصطفى اللـه مريم في بستان الورع بين أزهار التقى والنقاء والعفاف والصلاح، هذه هي الزهرة والنبتة الطيبة، نشأت مريم في هذا المكان وهذا الجو الإيماني الطاهر العفيف فاصطفاها اللـه وبشرها بهذه البشارة التي انفردت بها دون نساء العالمين ويالها من بشارة يالها من خصوصية اختص اللـه بها الطاهرة..
إيه يا مريم.... إيه بماذا اختصك ربك؟!
يقول الملك: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:42-43].
يا لها من مكانة آثرك بها اللـه دون نساء الدنيا يا مريم!
فلم تتوان مريم عن عبادة الرب فظلت البتول ساجدة وراكعة حتى أراد اللـه عز وجل أن يمنحها تلك المكانة الرفيعة من بين أمهات الدنيا
قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:16-21].
تعليق