لماذا ترك برتراند رَسِلْ المسيحية؟
حوار بينى وبين الفيلسوف البريطانى
د. إبراهيم عوض
لا أدرى متى سمعت لأول مرة فى حياتى باسم برتراند رَسِلْ (1872- 1970م)، الفيلسوف الإنجليزى المشهور، الذى اهتممت به اهتماما خاصا وأنا طالب فى الجامعة، ومن ثم شرعت أقرأ عنه وله، بدءًا بما كتبه د. زكى نجيب محمود عن الوضعية المنطقية، ذلك المذهب الفلسفى الذى كان يتحمس له كاتبنا المصرى أشد التحمس، وكتب بوَحْىٍ منه كتابه المعروف: "خرافة الميتافيزيقا". إلا أننى ما زلت حتى الآن أذكر بكل وضوحٍ الحوارَ الذى دار عام 1970م بينى وبين زميل لى فى جامعة القاهرة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى التحقت بها لدن دخولى الجامعة، لكنى لم أبق فيها سوى ثلاثة أيام ليس إلا وبشِقِّ النَّفْس، ثم لم أطق بعدها صبرا فحولت أوراقى إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب فى نفس الجامعة. وكنا أنا والزميل المذكور نسير أمام باب حديقة الأورمان المواجه لشارع الدقى بين العصر والمغرب كعادتنا فى نزهاتنا أيامئذٍ قاصِدَيْن ميدان التحرير على أقدامنا ومتناوِلَيْن ما يعنّ لنا من موضوعات أو ما يكون منها حديث الساعة فى الصحف. وكانت ترجمة كتاب رَسِلْ المعروف بـ"سيرتى الذاتية" قد صدرت لتوها، وكانت، إن لم تتلاعب بى الذاكرة، موضوع نقاش فى الجرائد المصرية. ولم نكن قد قرأنا الكتاب، وإن كنا نتابع ما يكتب عنه فى الصحف وقتذاك. وكنا حديثى عهد بالمحاكمة الدولية التى عقدها رَسِل وبعض المفكرين الأوربيين للرئيس الأمريكى جونسون على جرائمه وجرائم دولته فى فيتنام، وهو ما حظى منا بالإكبار. ثم زاد تقديرى للرجل وأنا أكتب هذه الدراسة حين وقعتُ على مقال يشير إلى لجنة شكلتها مؤسسة برتراند رسل للسلام سنة 1967م للنظر فى الأعمال الإجرامية التى ارتكبها الصهاينة فى فلسطين، إذ كنت أظن أن رَسِلْ لم يبد اهتماما بقضية العرب والمسلمين مثلما أبدى اهتمامه بفييتنام، وأستغرب لذلك الصمت وأعده أمرا شائنا. ثم هأنذا أعلم أنه لم يفته هذا الواجب الإنسانى الكريم.
ليس ذلك فقط، بل إن آخر نشاط سياسى قام به قبيل وفاته 1970م هو تجريمه العدوان الإسرائيلى على البلاد العربية عام 1967م ومناداته بانسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها أثناء ذلك العدوان. وهذا نص ما كتبه فى هذا الصدد: "The tragedy of the people of Palestine is that their country was "given" by a foreign power to another people for the creation of a new state. The result was that many hundreds of thousands of innocent people were made permanently homeless. With every new conflict their numbers increased. How much longer is the world willing to endure this spectacle of wanton cruelty? It is abundantly clear that the refugees have every right to the homeland from which they were driven, and the denial of this right is at the heart of the continuing conflict. No people anywhere in the world would accept being expelled in masses from their own country; how can anyone require the people of Palestine to accept a punishment which nobody else would tolerate? A permanent just settlement of the refugees in their homeland is an essential ingredient of any genuine settlement in the Middle East. We are frequently told that we must sympathise with Israel because of the suffering of the Jews in Europe at the hands of the Nazis. [...] What Israel is doing today cannot be condoned, and to invoke the horrors of the past to justify those of the present is gross hypocrisy"
ولا أستطيع الآن أن أتذكر السبب الذى جعلنى وزميلى نتساءل ونحن مارّان أمام بوابة الأورمان: ترى ماذا سيكون مصير برتراند رَسِلْ يوم القيامة؟ وكان رد زميلى هو أنه مخطئ، وسوف يحاسبه الله على عدم إيمانه بالإسلام. لكن كان رأيى أن الإنسان قد يطلب الحق فيخطئه، كما لا ينبغى أن ننسى أن رَسِلْ ابن بيئة تختلف عن بيئتنا تشرّب منها موقفها من الإسلام، ومن ثم لا يصح أن نسوى بيننا وبينه من حيث الفرص المتاحة للتعرف إلى الإسلام على الوجه الصحيح. لكن زميلى أصر على كلامه قائلا إن أى إنسان لا يمكن أن يضل عن حقيقة الإسلام متى كان مخلصا فى بحثه، بل لا بد أن يصل حتما إلى وجه الصواب فيه. ومع هذا فقد بقيت أنا على رأيى قائلا إنه ليس مستحيلا أن يطلب الشخص الوصول إلى الحق لكنه، لسب أو لآخر، لا يستطيع بلوغه، وهو ما أرى الآن بكل وضوح أنه يتمشى مع حديث الرسول الكريم عن أجر المجتهد فى حالة خطئه وفى حالة صوابه، إذ إن هذا الحديث العبقرى العجيب إنما يعنى أن المجتهد يمكن جدا، رغم إخلاصه وشدة تقصيه، أن يخطئ الهدف فلا يصل إلى الصواب الذى وضعه نصب عينيه، وإن كنت رغم ذلك أرى أنه يجب علينا أن نترك لله سبحانه وتعالى وحده الحكم على نية الباحث عن الحق ومدى إخلاصه أو عدم إخلاصه وإلى أى حد يمكن معذرته بتأثير البيئة عليه أَوْ لا... إلخ. على أن ليس معنى ذلك ترك كل إنسان يقول ما يشاء دون الرد أو التعقيب عليه، بحجة أن هذا هو اقتناعه. ذلك أننى أنا أيضا لى اقتناعاتى، ومن حقى بل من واجبى أن أعلنها وأدعو إليها وأبسط الحجج التى أستند عليها فى تلك الدعوة.
وفى ذات الوقت ينبغى مراعاة طبيعة موقف كل شخص لا يؤمن بالإسلام من الإسلام، وهل يا ترى يقف منه موقف العداء والحقد؟ أم هل يقف منه موقف المسالمة والاحترام؟ ففيلسوفٌ مثلُ رَسِلْ لا يصح أن يعامَل كأى سفيه حقير ممن يُقِلّون أدبهم على المسلمين وعلى دينهم ورسولهم وقرآنهم من المستشرقين والمبشرين وأولئك الأوباش طوال اللسان قصار العقل من المهجريين المصريين. فالرجل لم يمنعه إلحاده من أن يذكر الإسلام بخير ويقول عنه كلاما طيبا كما سوف نرى. صحيح أنه غير كاف، لكن ليس من العدل ولا من المروءة أن نسوى بين صاحبه وبين أولئك السفهاء الشتامين.
وصحيح أيضا أننى لم أكن وقتذاك أعرف أن لرَسِلْ كلاما طيبا فى حق الإسلام، وإن كنت أعلم فى ذات الوقت أن له كتابا عن "تاريخ الفلسفة الغربية" تعرَّض فيه للإسلام ونبيه، إلا أننى كنت أجهل ما قاله فى ذلك الموضوع لأن الكتاب الذى كان فى يد زملائى كان بالإنجليزية، على حين كانت لغتى الأجنبية الأولى هى الفرنسية، ولم أكن قد تعلمت لغة جون بول بعد على النحو الذى يؤهلنى للقراءة بها بسهولة ويسر، كما لم أكن على علم بأن الكتاب قد تُرْجِم إلى العربية: ترجمه أحمد أمين وزكى نجيب محمود. بل لقد حاولت مؤخرا أن أعثر على تلك الترجمة فلم يتيسر لى إلا جزء واحد منها فقط، وهو عن الفلسفة الغربية الحديثة مما لا علاقة له بالإسلام ونبيه. كذلك لم أكن أعرف إلا مؤخرا جدا أن خاله الأكبر هنرى كان مسلما! جاء ذكر ذلك فى الصفحات الأولى من "سيرته الذاتية"، ووصفه كالعادة بأنه "محمدى"، كما جرده من كل مزايا الأسرة ورماه بأنه أكثر من عرفهم إثارة للملل، وإن لم يُعْفِ الأخوال الآخرين وأمهم من الانتقاد هم أيضا. وهذه هى عبارته نصا، والإشارة فيها إلى جدته لأمه: "Her eldest son was a Mohammedan… Henry, the Mohammedan, was devoid of all the family merits, and was, I think, the greatest bore I have ever known"، وإن كان مترجمو الكتاب إلى العربية قد استخدموا كلمة "مسلم" بدلا من "محمدى".
وكنا أنا وزميلى فى ذلك الوقت نقرأ، ضمن ما نقرأ، بعض كتب الشيخ شلتوت التى كنا نستمتع بمطالعتها لما يتمتع به الشيخ الكريم من بساطة فى الأسلوب وصفاء فى الرؤية وعمق فى التحليل وسماحة فى الفهم والحكم. ولكنى لست أدرى هنا أيضا أكنت قرأت له تفسير العشرة الأجزاء الأولى من القرآن الكريم أم لا. لكنى على أية حال قد سُرِرْتُ لـمّا قرأتُ (متى بالضبط؟) تفسيره رحمه الله لقوله تعالى فى الآية 115 من سورة"النساء": "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، فهو تفسير يتسق مع ما قلته لزميلى فى ذلك النقاش الذى أتحدث عنه، إذ قال ذلك العلامة الكبير ما معناه أن من سوف يصلى جهنم ممن لم يؤمنوا بالإسلام هو من تبين له الهدى لكنه عاند وكفر كبرا أو خوفا على مصلحة شخصية زائلة أواتباعا لشهوة دنيوية أو تطلعا إلى كسب مال أو إحراز منصب أو ما إلى ذلك. أما من لم يتبين له الهدى لأنه لم يسمع بالإسلام، أو سمع به لكن على نحو مشوه من شأنه أن ينفر الناس منه، أو اجتهد وفكر لكن حالت ظروفه دون تبين الهدى، فإنه لا يشمله هذا الوعيد. ويدخل فى ذلك على سبيل المثال الأمم التى لم تصلها دعوة الإسلام أصلا، أو وصلت إليها على غير حقيقتها فنفرتها منه، أو وصلت إليها على حقيقتها إلا أنها لم تستطع أن تبصر نور الهداية لسبب أو لآخر رغم إخلاص النية والتجرد فى البحث عن الحق.
وهذا الذى قاله شلتوت، رضى الله عنه، ليس رأيا ينفرد وحده به، فعلى سبيل المثال يقول الإمام الغزالى فى كتابه: "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" إن "من كذَّبه (صلى الله عليه وسلم من الأمم الأخرى) بعدما قرع سمعه بالتواتر عن خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة للعادة، كشق القمر وتسبيح الحصا ونبع الماء من بين أصابعه والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه... فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر، فأدركه الموت قبل تمام التحقيق، فهو مغفور له ثم له الرحمة الواسعة. فاسْتَوْسِعْ رحمة الله الواسعة، ولا تَزِنِ الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية. واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا: فـ"ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلا كنفسٍ واحدة". فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة، أو في حالة يُغْبَطها، إذ لو خير بينها وبين الإماتة والإعدام مثلا لاختارها، وإنما المعذب الذي يتمنى الموت نادر، فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين والمخرجين منها في الآخرة نادر. فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالنا، وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك. ولولا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى حيث قال : أوّلُ ما خطّ اللهُ في الكتاب الأوّلِ: أنا الله، لا إله إلا أنا. سبقت رحمتي غضبي. فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فله الجنة".
ويقول الإمام الرازى صاحب "مفاتيح الغيب" فى المسألة الخامسة من مسائله فى تفسير آية سورة "النساء" المذكورة آنفا، ولكن على نحو موجز، إن "الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال، وذلك لأنه تعالى شَرَط حصول الوعيد بتبين الهدى. ولو لم يكن تبين الهدى معتبرا في صحة الدين لم يكن لهذا الشرط معنى". وفى تفسير ابن كثير: "قوله: "وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ": أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عَمْدٍ منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له...". حتى سيد قطب، الذى قيل فيه ما قيل، يكتب بملء قلمه أنه "قد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يحق عليهم القول ولا يَصْلَوْا جهنم وساءت مصيرا إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا، وبعد أن يبين لهم، وبعد أن يتبينوا الهدى ثم يختاروا الضلالة. وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف. فإذا تبين له الهدى، أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله، ثم شاقّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبيَّن له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم. ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم. وساءت مصيرا"...".
وفى تفسير "المنار" لمحمد رشيد رضا تفصيل للمسألة شديد الاتساع والإمتاع، إذ نقرأ فيه: "قَالَ الاسْتَاذُ الامَامُ: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلَّذِينِ يَتَنَاجَوْنَ بِالْخَيْرِ وَيَبْتَغُونَ بِنَفْعِ النَّاسِ مَرْضَاةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الايَةِ وَعِيدَهُ لاولَئِكَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالشَّرِّ، وَيُبَيِّتُونَ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلنَّاسِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مُشَاقُّونَ لِلرَّسُولِ إِذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ فَلا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَعِيدَ. وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ: فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ فِي الدَّلِيلِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ وَبَقِيَ مُتَوَجِّهًا إِلَى طَلَبِهِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ مَعَ الاخْلاصِ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الاشَاعِرَةِ، وَالْمُشَاقَّةُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِنَّمَا تَكُونُ عِنَادًا وَعَصَبِيَّةً أَوِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَةٍ تَفُوتُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ اهـ.
أَقُولُ: الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَقَّ الْعَصَا، أَوْ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الشَّقِّ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِينَ يَكُونُ فِي شِقٍّ غَيْرَ الَّذِي فِيهِ الآخَرُ كَمَا قَالُوا، وَالْكَلامُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى طُعْمَةَ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِ وَعَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ لانَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُطِرُوا عَلَى تَرْجِيحِ الْهُدَى عَلَى الضَّلالِ وَالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَعَرَفُوهُ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ وَرَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَقَوْمُهُ كَطُعْمَةَ. وَلا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي لا يَقْبَلُ النَّقْضَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْءِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْهُدَى أَوْ أَنَّهُ أَهْدَى مِنْ مُقَابِلِهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُقَابِلٌ. وَسَبَبُ هَذَا وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الإنْسَانَ فُطِرَ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ لَهَا وَالسَّعْيِ إِلَى ذَلِكَ وَاتِّقَاءِ مَا يُنَافِيهِ وَيَحُولُ دُونَهُ. لِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَةُ الاسْلامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَكُلُّ مَا حُرِّمَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتُحِبَّ لَهُمْ فِيهَا فَهُوَ نَافِعٌ لَهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنْ يَتْرُكَهَا أَحَدٌ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهَا وَتَتَبَيَّنَ لَهُ، وَكَانَ إِنْ وَقَعَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ. وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2: 130)، أَيْ لا أَحَدَ يَرْغَبُ عَنْهَا إِلا مَنِ احْتَقَرَ نَفْسَهُ وَأَزْرَاهَا بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى وَتَرْكِهِ وَسَبَبِ ذَلِكَ فَنَقُولُ:
الصِّنْفُ الاوَّلُ: مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ، وَوَصَلَ فِيهِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ. وَهَذَا لا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ اعْتِقَادًا، وَيَنْدُرُ جَدًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَمَلاً. وَلِلاسْتَاذِ الامَامِ كَلِمَةٌ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْحَقِّ كِلاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْنِي الرُّجُوعَ بِالْعَمَلِ، إِذِ الانْسَانُ يَمْلِكُ مِنْ عَمَلِهِ مَا لا يَمْلِكُ مِنَ اعْتِقَادِهِ. فَمَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لا يَكُونُ إِلَهًا وَلا شَرِيكًا لِلَّهِ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ لَوْلاهُ لا يَسْتَطِيعُ بَعْدَ الْيَقِينِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ عُبِدَ وَمِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أَوْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَيَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَدْعُوَهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ، وَأَنْ يَعْبُدَهَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ أَيْضًا كَالتَّمَسُّحِ بِهَا وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَعُدُّهُ أَهْلُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَاتِ، لا مِنْ عُمُومِ الْعِبَادَاتِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتِهَا لا يَفْعَلُهُ. أَيْ لا يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْعَمَلِ إِلا أَنْ يَكُونَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِالدَّلائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا بَعْضُ الاشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لا بِالْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَيْهَا. وَهَؤُلاءِ لا يَرْجِعُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلالِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْهُدَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، إِذْ يَكْفِي أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، فَلا يُشَاقّون مَنْ جَاءَهُمْ بِذَلِكَ وَلا يَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ إِلا لِسَبَبٍ يَقِلُّ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْلِيدًا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّاسِ كَآبَائِهِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ وَرُؤَسَاءَ قَوْمِهِ. وَهَذَا لا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وَالْهُدَى لانَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ. وَلِذَلِكَ يَتْرُكُونَ الْهُدَى إِلَى كُلِّ مَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلالاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالادْيَانِ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى لانَّهُ نَشَأَ عَلَى تَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلالِ، فَلَمَّا دُعِيَ إِلَى الْهُدَى لَمْ يَنْظُرْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ الَّذِي دُعِيَ إِلَى دِينِهِ وَلا تَأَمَّلَ فِي دَلِيلِهِ لانَّهُ صَدَّقَ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلاسْتِدْلالِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ النَّظَرَ فِي الادِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا أَهْلَ الاجْتِهَادِ وَمَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِمْ مَذَاهِبَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا، وَمَنْ نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ زَلَّ وَضَلَّ. وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الادْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ كَالْمَجُوسِ. وَأَمْثَالُ هَؤُلاءِ إِذَا تَرَكَ رُؤَسَاؤُهُمْ دِينَهُمْ أَوْ مَذْهَبَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلا سِيَّمَا إِذَا دَخَلُوا فِي مَذْهَبٍ أَوْ دِينٍ جَدِيدٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ عَدَاوَاتٌ دِينِيَّةٌ وَلا سِيَاسِيَّةٌ تُنَفِّرُهُمْ تَنْفِيرًا طَبِيعِيًّا. وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلُوكَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ إِلَى الاسْلامِ وَكَتَبَ لِكُلِّ رَئِيسٍ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ قَوْمِهِ أَوْ مَرْءُوسِيهِ إِذَا هُوَ تُوَلَّى عَنِ الايمَانِ، وَلَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ الاسْلامِ.
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي التَّقْلِيدِ لاهْلِ الضَّلالِ تَعْظِيمًا لِجُمْهُورِ قَوْمِهِ وَمَنْ نَشَأَ عَلَى احْتِرَامِهِمْ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلالِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّاعِي قَدْ عَرَفَ الْهُدَى مِنْ دُونِهِمْ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الاسْلامِ. وَالايَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِهِمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ سَرْدِهَا. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُقَلَّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالادْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ ذَاتِ الْكُتُبِ وَالْهَيَاكِلِ وَالرُّؤَسَاءِ الرُّوحِيِّينَ أَنَّ تَقْلِيدَ هَؤُلاءِ الْعَرَبِ أَضْعَفُ وَجَذَبَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ أَسْهَلُ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الاسْلامِ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ: عُلَمَاءُ الادْيَانِ الْجَدَلِيُّونَ الْمَغْرُورُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ بِهَا الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْهُدَى فَلَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَاءَ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ بِالاسْتِقْلالِ وَالاخْلاصِ، بَلْ أَعْرَضُوا احْتِقَارًا لَهُ لانَّهُ غَيْرُ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ وَوَثِقُوا بِهِ، وَجَعَلُوهُ مَنَاطَ عَظَمَتِهِمْ، وَحَسِبُوهُ مُنْتَهَى سَعَادَتِهِمْ. وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَلِّدُونَ كَعَامَّتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ أَسْلافِهِمُ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلاحِ وَالْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، وَمِنَ الادِلَّةِ الْجَدَلِيَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ السَّابِعُ: الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الصَّحِيحِ الْمُحَرِّكِ لِلنَّظَرِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا وَلَمْ يُبَالُوا بِهَا لانَّهُمْ رَأَوْهَا بَدِيهِيَّةَ الْبُطْلانِ. وَمِنْ هَؤُلاءِ أَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ لا يَبْلُغُهُمْ عَنِ الاسْلامِ إِلا أَنَّهُ دِينٌ مِنْ جُمْلَةِ الأدْيَانِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَرَعَةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَالأبَاطِيلِ وَمَا هُوَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا اخْتَرَعَ وَافْتَرَى رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الاسْلامِ، وَلا سِيَّمَا مَا كَتَبُوهُ قَبْلَ تَأْلِيبِ الشُّعُوبِ الأورُبِّيَّةِ عَلَى الْحَرْبِ الشَّهِيرَةِ بِالصَّلِيبِيَّةِ. فَهَؤُلاءِ لا يَبْحَثُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الإسْلامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لا يَبْحَثُونَ عَنْ دِينِ الْمُورْمُونِ مَثَلا.
الصِّنْفُ الثَّامِنُ: مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهَا أَوْ غَيْرِ وَجْهِهَا فَنَظَرُوا فِيهَا بِالاخْلاصِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا وَلا تَبَيَّنَتْ لَهُمْ هِدَايَتُهَا، فَتَرَكُوهَا وَتَرَكُوا إِعَادَةَ النَّظَرِ فِيهَا.
الصِّنْفُ التَّاسِعُ: هُمْ أَهْلُ الاسْتِقْلالِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الدَّعْوَةِ كَمَنْ سَبَقَهُمْ، وَلا يَتْرُكُونَ النَّظَرَ وَالاسْتِدْلالَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْحَقُّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَيَدْأَبُونَ طُولَ عُمْرِهِمْ عَلَيْهِ. وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلَ الاسْتَاذُ الامَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الاشَاعِرَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاتِهِمْ لِعُذْرِهِمْ.
الصِّنْفُ الْعَاشِرُ: مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى الْبَتَّةَ. وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَهْلِ الْفَتْرَةِ. وَمَذْهَبُ الاشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَنَاجُونَ.
هَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْهُدَى وَالضَّلالِ، بِحَسَبِ مَا خَطَرَ لِلْفِكْرِ الْقَاصِرِ الآنَ. وَلا يَصْدُقُ عَلَى صِنْفٍ مِنْهَا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلا الأوَّلَ وَالثَّانِي. فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ أَفْرَادِهِمَا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُعَادِ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: "نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"،. وَهُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" (45: 23). وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ، وَصَلْيُهَا الاحْتِرَاقُ بِهَا وَسَائِرُ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا، لانَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَعَانَدُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى.
وَأَمَّا سَائِرُ الاصْنَافِ فَيُوَلِّي اللهُ كُلا مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى أَيْضًا كَمَا هِيَ سُنَّتَهُ فِي الانْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا لَهُ. وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ أَحْوَالَ مَعِيشَتِهِ وَأَسَالِيبَ تَرْبِيَتِهِ، وَسَخَّرَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَاتِيَةِ لِمَنَافِعِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (45: 13). فَهُوَ مُرَبِّي نَفْسِهِ وَمُرَبِّي الطَّبِيعَةِ الَّتِي أَلَّهَهَا بَعْضُ أَصْنَافِهِ جَهْلا مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ لا مُتَصَرِّفَ فَوْقَهُ فِي هَذِهِ الارْضِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الارْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. أَقُولُ هَذَا نَسْفًا لأسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الاورُبِّيَّةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ نَسْفِ أَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْغَابِرَةِ، هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ: "الافْعَالَ الْمُنْعَكِسَةَ" تَعْمَلُ فِي الانْسَانِ عَمَلَهَا وَأَنَّهُ لا عَمَلَ لَهُ بِهَا. وَالصَّوَابُ أنََّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا كَحُكْمِهَا عَلَيْهِ: فَإِنْ تَرَكَ لَهَا الْحُكْمَ اسْتَبَدَّتْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَفِيهَا فَعَلَ.
قُلْتُ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الانْسَانِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلاًّ مِنَ الاصْنَافِ مَا تَوَلَّى، وَلَكِنَّهُ لا يُصْلِي كُلا مِنْهُمْ جَهَنَّمَ الَّتِي سَاءَ مَصِيرُهَا لانَّ إِصْلاءَ جَهَنَّمَ هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَتَوَلاهُ الانْسَانُ مِنَ الضَّلالَةِ فِي اعْتِقَادِهِ. وَنَاهِيكَ بِهِ إِذْ تَوَلاهَا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتِ الْهِدَايَةُ لَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّهَارَةِ وَالزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ بِحَسَبِ تَزْكِيَةِ صَاحِبِهَا لَهَا، أَوْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَدْسِيَتِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى".
وَإِنَّنِي لا أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَكِيمَةِ الْعَالِيَةِ نَوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ بِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كَأَنْ يَقُولُوا: نُوَجِّهْهُ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ، أَوْ نَجْعَلْهُ وَالِيًا لِمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَوَلاهُ، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلالَ كُلِّ فُرْقَةٍ بِالآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ. أَعْنِي مَذْهَبَهُمْ فِي الْكَسْبِ وَالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَتَعَلُّقِ الارَادَةِ الالَهِيَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالشَّرِّ،. وَالَّذِي أُرِيدُ بَيَانَهُ وَتَوْجِيهَ الاذْهَانِ إِلَى فَهْمِهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِ الانْسَانِ، وَمِقْدَارِ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الارَادَةِ وَالاسْتِقْلالِ، وَالْعَمَلِ بِالاخْتِيَارِ. فَالْوِجْهَةُ الَّتِي يَتَوَلاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْ عَمَلِهِ، يُوَلِّيهِ اللهُ إِيَّاهَا وَيُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا. أَيْ يَكُونُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ، تَعَالَى، وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَائِرًا عَلَى طَرِيقِهَا، فَلا يَجِدُ مِنَ الْقُدْرَةِ الالَهِيَّةِ مَا يَجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لِهَدَى النَّاسَ أَجْمَعِينَ بِخَلْقِهِمْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّاعَةِ كَالْمَلائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفَاوُتِ الاسْتِعْدَادِ وَالادْرَاكِ، وَعَمَلِ كُلِّ فَرْدٍ بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا إِلَى آخِرِ مَا لا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا مِنْ طَبَائِعِ الْبَشَرِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَوْلِيَةِ اللهِ لِمِثْلِ هَذَا مَا تَوَلَّى هُوَ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ وَالالْطَافِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِنَايَةً خَاصَّةً بِبَعْضِ عِبَادِهِ وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَنَهُ فِي الاسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلاعْمَالِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ لأنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ وَضَعَ نَفْسَهُ وَاخْتَارَ لَهَا وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ. نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهَبُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَيَزِيدُهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الاخْتِصَاصِ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مَظِنَّةً لَهُ فَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيَقُولُ الَّذِينَ فَسَّرُوا التَّوْلِيَةَ بِهَذَا النَّفْيِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالالْطَافِ: إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ ذَلِكَ، أَمِ الْحِرْمَانُ شَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ؟ وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِ ثَانِيَةً أَمْ لا؟ لا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَسْلَمُ مِنَ الايرَادَاتِ الَّتِي لا تُدْفَعُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدَةِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الضَّالِّينَ إِلَى الْهُدَى لانَّ عِلْمَهُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَبُطْلانِ مَا صَارَ إِلَيْهِ لا يَبْرَحُ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَلْجُ لَهُ.
أَمَّا السَّبَبُ الَّذِي يَحْمِلُ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَالاً مِنَ الاحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الْقَوِيَّةِ كَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِ وَالشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَلَّوْا عَنْهَا حَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِيثَارًا لِرِيَاسَتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَرْؤُوسِينَ فِي غَيْرِهِمْ. وَارْتِدَادُ جَبَلَةُ بْنُ الايْهَمِ عَنِ الاسْلامِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَطَمَهُ مِنَ السُّوقَةِ. وَارْتَدَّ أُنَاسٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ دِينِهِمْ لافْتِتَانِهِمْ بِبَعْضِ النِّسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ عِلَّةُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الاسْبَابِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ، هِيَ ضَعْفُ النَّفْسِ وَمَرَضُ الارَادَةِ بِجَرَيَانِ صَاحِبِهَا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَعَدَمِ تَرْبِيَتِهَا عَلَى تَحَمُّلِ مَا لا تُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ لاجْلِ الْخَيْرِ الآجِلِ. وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ إِرْجَاعِ جَمِيعِ الاسْبَابِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الانْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ. وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمُتَّبَعُ لا يَتَمَثَّلُ لَهُ النَّفْعُ الاجِلُ كَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ النَّفْعُ الْعَاجِلُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ وَمَهَانَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيلَ مَعَهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَدَّ سِمَاطًا عَامًّا لِلنَّاسِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمْ أَعْرَابِيًّا يَأْكُلُ بِشَرَهٍ شَدِيدٍ. فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَلْوَى تَرَكَ الطَّعَامَ وَوَثَبَ يُرِيدُهَا، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ سَيَّافَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْوَى قُطِعَتْ عُنُقُهُ بِأَمْرِ الامِيرِ! وَالْحَجَّاجُ يَقُولُ وَيَفْعَلُ. فَصَارَ الاعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى السَّيَّافِ نَظْرَةً، وَإِلَى الْحَلْوَى نَظْرَةً، كَأَنَّهُ يُرَجِّحُ بَيْنَ حَلاوَتِهَا وَمَرَارَةِ الْمَوْتِ. وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ: "أُوصِيكَ بِأَوْلادِي خَيْرًا"، وَهَجَمَ عَلَى الْحَلْوَى وَأَنْشَأَ يَأْكُلُ، وَالْحَجَّاجُ يَضْحَكُ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَهُ".
أما الذى أثار كل ذلك الآن فهو محاضرة صادفتها على المشباك كان برتراند رَسِلْ قد ألقاها بتاريخ السابع من مارس للعام 1927م فى الجمعية المسماة: "National Secular Society" بلندن، وشن فيها على المسيحية والكنيسة ورجال الدين المسيحيين حملة كاسحة بسط من خلالها القول فى الأسباب التى حملته على الكفر بذلك الدين بعدما كان واحدا ممن يؤمنون به. وكان اصطدامى بتلك المحاضرة على غير ترتيب منى حين كنت أنكش فى المشباك بحثا عن شىء لا أذكر الآن ما هو. وقد وجدتها أولا فى ترجمة عربية منشورة فى أحد المواقع المشباكية لشخص رمز لنفسه باسم "زمكان" (نحتًا، فيما يبدو، من كلمتى "الزمان" و"المكان")، ثم بحثتُ عن الأصل الإنجليزى وراجعته على الترجمة المذكورة فألفيتها فى كثير من الأحيان ترجمة تقريبية، وفى بعض الأحيان الأخرى تخطئ أخطاء غير هينة. ولهذا نحيتها جانبا وشرعت أترجم النصوص التى أريد الاستشهاد بها بنفسى.
وأول ما لفت نظرى فى كلام رَسِلْ تعريفُه للمسيحى فى بداية المحاضرة، إذ قال: "وكما يشير لفظ "مسيحى" ضمنا فإنه يتعين عليك أن تؤمن بأشياء معينة بالنسبة إلى المسيح. فالمسلمون مثلا يؤمنون بالله والأبدية، ولكن لا يمكن أن يُسَمَّوْا: مسيحيين. ذلك أنه يجب، ولو بشكل طفيف، أن تؤمن بأن المسيح، إن لم يكن إلها، فهو أكثر الرجال حكمة على مر التاريخ. فإذا لم تؤمن بألوهيته أو حكمته المطلقة على الأقل فإنك لست بمسيحى، ولا تملك الحق فى أن تسمى بهذا الاسم". ومن الواضح أن رَسِلْ يشير هنا إلى أن المسيحية ليست بالضرورة المسيحية التثليثية، التى تؤله المسيح عليه السلام وتؤمن بصلبه فداء للبشر من خطيئة آدم الأولى، إذ الواقع أن هذه ليست سوى فرقة واحدة من فرق المسيحية، وليست كل المسيحية، علاوة على أنها ليست أقدم تلك الفرق ولا هى بالفرقة الأصيلة، وإن كان لها الآن الانتشار الواسع دون المسيحية الموحدة التى لا ترى فى المسيح عليه السلام سوى رسول لا يتجاوز وضعه بالنسبة إلى الله عز وجل وضع العبودية.
ثم يمضى رَسِلْ فيشير سريعا إلى ما يعرفه تاريخ تلك الديانة التثليثية من استحداث عقائد لم تكن موجودة من قبل، ثم أُوجِدَتْ بفعل فاعل بشرى عن طريق المجامع والمجالس، وحَذْف عقائد كانت موجودة ثم أُبْعِدَتْ وطُمِسَتْ، وكأن الدين اختراع إنسانى يستطيع البشر أن يغيروا فيه ويبدلوا كلما عَنَّ لهم ذلك، وليس وحيا سماويا لا يحق لهم أن يتلاعبوا به على أى وضع من الأوضاع. قال: "كان المسيحي القديم يؤمن بالجحيم. إنه يؤمن بنار أبدية كانت تشكل إيمانا أساسيا وجوهريا لدى كل مسيحي حتى أوقات قريبة جدا. وفي هذا البلد (يقصد بريطانيا)، وكما تعلمون، أصبح الإيمان بالنار الأبدية شيئا غير أساسي في المعتقد المسيحي بعد القرار الصادر من مجلس الملكة. وبعد هذا القرار كان مطران كانتربري ومطران يورك قد أعلنا معارضتهما لهذا القرار الملكي. ولكن في بلدنا يتم تحريك الدين عبر القرارات البرلمانية، ولهذا فقد كان المجلس الملكي قادرا على أن يسيطر على المسيحية، وأن يتم إلغاء الإيمان بالنار كجزء أساسي من معتقدات المسيحيين".
وعلى الرغم من أن رَسِلْ إنما ألقى محاضرته أساسا للاعتراض على المسيحية وتوضيح الأسباب التى حملته على الكفر بها فإنه قد تعرض لقضية الوجود الإلهى، وكان قاطعا فى إنكار ذلك الوجود، الذى بدون الإيمان به لا يمكن أن يكون المرء مسلما، إذ لا تختص هذه القضية بالمسيحية وحدها، وإن كان مفهوم الإله عندنا يختلف عن مفهومه عند المسيحيين التثليثيين ذوى الأغلبية الآن. لكن رَسِلْ، حين تناول تلك القضية، لم يتناولها من الوجهة المسيحية كى نقول إن كلامه لا يلزمنا، بل أنكر الله إنكارا مطلقا دون التطرق إلى القول بأنه إنما ينكر ألوهية عيسى وحدها، فقد أكد أننا "إذا أردنا أن نقترب من السؤال المتعلق بوجود الله فسنجده سؤالا ضخما وخطيرا. وإذا كنت أنوى معالجة الأمر بشكلٍ صحيحٍ فيجب أن تسمحوا لي بمعالجته بإيجاز واقتضاب. إنكم تعلمون أن الكنيسة الكاثوليكية قد وضعت الله كمرتكز إيمانى تقوم على أساسه المسيحية، وهذا الإيمان لا يتم التطرق له بالوسائل المنطقية. إن هذه العقيدة تثير الفضول، ورغم هذا تظل عقيدةَ الكاثوليك الرئيسية. لقد اضطُرّوا إلى إنشائها لأنه فى وقت من الأوقات كان المفكرون المتحررون يدخلون فى جدالات شتى سببها البحت هو الله ومحاولة هؤلاء المتحررين نفى وجوده. وهم يعرفون في أعماقهم أن الله موجود فى الإيمان فحسب. ولقد طالت مدة هذه الحوارات وامتدت لوقتٍ ليس بالقصير، وشعرت الكنيسة الكاثوليكية أن الوقت قد حان لإيقاف هذا الجدل. ولهذا أقرّت الكنسية بأن إثبات وجود الله يتم عبر أسباب جدلية، وهي الأسباب التي ظنّوها قادرة على إثبات وجود الله. وهناك عدد كبير من هذه الفرضيات، ولكننى هنا سأستعرض القليل منها".
ثم يمضى قائلا تحت عنوان "الجدال حول المسبب الأول"، وهو، كما يرى القارئ، كلام عام يهم المسلم مثلما يهم كل مؤمن بالله سبحانه: "لربما كانت قضية المسبب الأول هى أسهل وأكثر النظريات قابلية للفهم. وهي تعنى أن كل شىء نراه في هذا العالم له سببه، وعندما تذهب إلى أبعد حلقات هذه السببية ستجد المسبب الأول، وهو ما يسمى بــ"الله". إن هذه الفرضية فى اعتقادى لا تحمل مصداقية قوية هذه الأيام لأن السبب فى المقام الأول ليس واضحا كما يتصور بعض الناس. لقد خاض الفلاسفة ورجال العلم فى هذه السببية، وهذه الفرضية السببية ليست بالصلاحية المرجوة التي كانت تؤتي أكلها فى الماضى. ولكن، بمعزل عن كل هذا، سنجد أن فرضية السببية ليست على مستوى عالٍ من المصداقية. ويمكن القول بأننى فى شبابى كنت أجادل بخصوص هذه الأسئلة بكل ما أوتى عقلى من طاقة. ولقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب الأول، حتى جاء اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية بعد قراءتى لسيرة حياة جون ستيوارت ميل، التى قال فيها: "لقد علمنى والدي أن السؤال عمّن خلقنى لا يمكن الإجابة عليه لأنه يستلزم على الفور سؤالا أبعد من هذا، وهو: من خلق الإله؟". لقد بينت لى هذه الجملة القصيرة حتى هذه اللحظة أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط. فإذا كان لكل شىء مسبب فيجب أن يكون لله مسبب أيضا. وإذا كان كل شىء بلا مسبب فسيكون العالم هو الله! لهذا وجدت أنه لا مصداقية فى هذه الفرضية. إنها تماما مثل الفرضية الهندوكية التى تقول إن العالم رقد على ظهر فيل، وإن الفيل رقد على ظهر سلحفاة. ثم حين يُقال: وماذا عن السلحفاة؟ يبادر الهندي بالإجابة: "دعنا نغير الموضوع!". إن السببية ليست بأفضل حالا من الطريقة الجدلية السلحفائية. إننا لا ندرك السبب الذى من أجله جاء العالم بلا سبب. وعلى الجانب الآخر لا نستطيع أن نعرف لماذا كانت السببية غائبة وغير موجودة على الدوام. إنه لا يوجد أي داعٍ نفترض بناء عليه أن للعالم بداية. إن فكرة وجود بداية لكل شىء سببها فقر مخيلتنا عن هذا العالم. ولهذا لن أهدر مزيدا من الوقت فى المجادلة حول السبب الأول".
وقد خطر فى ذهنى، وأنا أقرأ ما كتبه رسل فى هذه الفقرة عن السلحفاة الهندية، الحديث النبوى الذى رواه الإمام أحمد فى"مسنده"، ونصه: "يأتي الشيطانُ الإنسانَ فيقول: من خلق السموات؟ فيقول: الله. ثم يقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله... حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم". ثم أمعنتُ النظر فى الحديث وما يقوله الهنود فوجدت الأمر مختلفا تمام الاختلاف. وهذا هو الوضع الطبيعى، لأن حديث الهنود هو حديث الخرافة والأساطير، على حين أن ما يقوله الرسول هو حديث التوحيد النقى. فالواضح مما يقوله الهنود أننا إزاء خرافات لا صلة بينها وبين العقل والمنطق، إذ العالم عندهم راقد على ظهر فيل، والفيل راقد على ظهر سلحفاة، وهذا أمر لا يقوله الإسلام ولا يمكن أن يقبله لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية واضحة صريحة فى هذا السبيل، فضلا عن مخالفته للواقع الذى نعرفه جميعا. كذلك ليس عندنا هذا التسلسل على أى نحو كان، إذ كل شىء هو من خلق الله كما يقول الحديث وكما يكرره القرآن فى مواضع كثيرة منه. وإضافةً إلى هذا فالهندى، حين يصل الأمر إلى السلحفاة، يطلب تغيير الموضوع، وهو ما لا وجود له فى الحديث. وكل ما هنالك أن الرسول يوصى المسلم بألا يتمادى فيما لا يليق بجلال مفهوم الألوهية، إذ هو سبحانه وتعالى خالق لا مخلوق، وهو الأول الذى لا يسبقه شىء، والآخِر الذى لا يأتى بعده شىء، والقادر قدرة مطلقة، والمريد الذى يقول لأى شىء: "كن" فيكون، لا راد لمشيئته، والقوىّ قوة لا تُحَدّ... إلخ. وهذه طبيعة الألوهية، ومن ثم كان من غير المنطقى أن يقيس الإنسان الله على نفسه وغيره من المخلوقات فيستاءل عمن خلقه، إذ إن هذا يتنافى مع أبسط قواعد المنطق، فهو سبحانه لو كان مخلوقا ما كان إلها أصلا. ذلك أن الألوهية والاعتماد على خالق يخلق ضدان لا يجتمعان.
وهذا ما قاله عدد من علماء الحديث أيضا، ففى "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" يكتب ابن حجر ما نصه: "قال الخطابي: على أن قوله: "من خلق ربك؟" كلام متهافت ينقض آخره أوله لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا. ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل، وهو محال. وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث. فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات... قال الطيبي: إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة". وفى "فتح البارى" أيضا: "قال ابن بطال: فإن قال الموسوس: فما المانع أن يخلق الخالق نفسه؟ قيل له: هذا ينقض بعضه بعضا، لأنك أثبتَّ خالقا وأوجبتَ وجوده ثم قلت: "يخلق نفسه" فأوجبت عدمه. والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجودُه على وجودِ فِعْلِه فيستحيل كونُ نفسه فِعْلا له. وهذا واضح في حل هذه الشبهة".
الشىء الثانى هو قول رسل إنه إما أن يكون كل شىء له سبب أو أنه لا سبب لأى شىء على الإطلاق، وأنه على الفرض الأول لا بد أن يكون لله هو أيضا مسبِّب أوجده، وعلى الفرض الثانى لا بد أن يكون الكون من حولنا هو الله، الذى لا سبب له. ولكن من قال إنه لا بد أن يكون لكل شىء بإطلاقٍ سبب؟ إن هذا إنما يصدق على ما نراه أو نلمسه أو نشمه وما إلى ذلك مما يقع تحت إدراكنا، وإن الذين يتخذون هذه الحجة إنما يقصدون أنه لا بد من الانتهاء إلى السبب الذى ليس له مسبِّب، وهو الله، إذ مما لا يقبله العقل أن نظل نمضى فى تتبع الأسباب إلى ما لا نهاية. أما قوله إن مسألة السببية ليست بالبساطة التى كان يظنها الناس، فأغلب الظن أنه يقصد ما يقوله بعض الفلاسفة، وهو منهم، من أن تتابع اشتعال النار والإحراق، أو تتابع تناول الطعام والإحساس بالشبع مثلا لا يعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع. لكن القول بهذا لا يستلزم أنه لا علة لأى شىء، إذ يمكن الموافقة على ذلك والنظر إلى مثل تلك التعبيرات على أنها تعبيرات مجازية لا تعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع، بل تعنى أن الإحراق يتم لدى وجود النار، وأن الشبع يقع عند تناول الطعام، وأن الله، الذى هو السبب الحقيقى لكل ما يقع فى الكون، هو مَنْ قدّر تحقق الإحراق عند وجود النار، وقضى بحدوث الشبع عند أكل الطعام. وقد قلنا قبل قليل إن التسلسل إلى ما لا نهاية فى تتبع أصل وجود الأشياء أمر يرفضه العقل، وهنا لا يبقى أمامنا إلا حلان: فإما أن نقول إن العالم الذى يوجد من حولنا هو الله، وإما أن يكون الله هو الإله الذى نؤمن نحن به فى الإسلام (ولا علاقة لنا بالإله فى المعتقدات الأخرى التى لا نومن بها). فأى الحلين هو الذى يقبله العقل؟ هل يقبل العقل أن يكون الله هو ذلك الكون الغشيم الذى لا عقل له ولا إرادة ولا قدرة على شىء؟ ألا نرى نحن البشر أننا أرقى ما فى الكون من مخلوقات، مع إدراكنا فى ذات الوقت أننا ضعفاء بل عاجزون أمام الحياة وأننا مجبرون فى كثير من أمورنا لا نملك حيالها شيئا، وأننا ننتهى دائما إلى الموت؟ فنحن إذن لا يمكن أن نكون الله، علاوة على أن الله لا يمكن أن يتجزأ أو يكون محدودا فى وجوده وقوته وقدرته وإرادته وعلمه وسلطانه كما هو حالنا الذى يصعب على الكافر. أما الحل الثانى فهو أن يكون هناك إله ذو وجود وقوة وقدرة وحكمة وعلم وسلطان مطلق، إله لا يحتاج إلى غيره ولا ينتظر عونا من أحد ولا يصيبه كلال ولا تعب ولا حيرة ولا تتخلف مشيئته كما نرى ذلك متحققا فى الكون من حولنا. أعتقد أن المسألة ينبغى أن توضع على هذا النحو لا على النحو الذى صوره لنا رَسِلْ!
إن هذا النظام المحكم الذى تسير عليه أمور الكون يدل بكل قوة على وجود إله وراء كل شىء. لكن رَسِلْ يتكلم عن المصادفة بوصفها المسؤولة عن وصول الكون إلى ذلك النظام. إلا أنه قد قاته شىء هام، وهو أننا لو سلمنا بما يقوله عن المصادفة، فمن الذى رتب أمر المصادفة على هذا النحو يا ترى؟ بل قبل ذلك من الذى خلق الكون أصلا؟ ثم بعد هذا من الذى قدّر للمصادفة، متى ما وصلت بالكون إلى هذا الوضع المنظم المحكم، أن تستمر على هذا الوضع فلا تعود إلى اندفاعها المتخبط الأعمى ويعود الأمر كما كان: لا نظام فيه ولا ترتيب؟ يا لها من مصادفة غريبة تلك التى ما إن تصل إلى النظام والترتيب المحكمين الشاملين حتى تتغير طبيعتها فلا تبقى مصادفة كماكانت! وهذا كله لو قلنا بالمصادفة، أما لو شغّلنا عقولنا فإن تلك العقول ترفض مبدأ المصادفة الأعمى وتقبل بدلا منه بالحكمة المطلقة التى تسيّر الكون. بالله عليك أيها القارئ: أيهما أقوم منطقا وأهدى سبيلا؟ أن نقول بالمصادفة العاجزة العمياء الغشوم أم نؤمن بالقدرة والإرادة والحكمة الشاملة المطلقة؟
ويقول رَسِلْ تحت عنوان "الجدال حول القانون الطبيعي": "هناك أيضا جدل شائع يدور حول القانون الطبيعي. لقد كان هذا الجدل موضوعا مفضلا طيلة القرن الثامن عشر، وبخاصة تحت تأثير نظريات السير إسحاق نيوتن عن نشوء الكون. لقد لاحظ الناس أن الكواكب تدور حول الشمس وفقا لقانون الجاذبية، وكانوا يظنوّن أن الله أصدر أمرا لهذه الكواكب كي تتحرك على هذا النحو. لقد كان هذا بطبيعة الحال تفسيرا مريحا وبسيطا وفر عليهم عناء البحث أكثر من ذلك فى شرح قانون الجاذبية. ونحن الآن نشرح قانون الجاذبية بأسلوب أكثر تعقيدا طبقا لنظريات آينشتاين. ولن أعطيكم محاضرة عن آراء آينشتاين بهذا الخصوص لأن هذا يستلزم وقتا أطول، ولكنْ بصفة عامة لم تعد هناك تلك القوانين الطبيعية التى كانت موجودة طبقا لنظام نيوتن حيث كانت الطبيعة، لسبب لا نعرفه، تسير على نفس الوتيرة. لقد اكتشفنا الآن أن كل ما كنا نعده قوانين طبيعية ليس سوى مواضعات بشرية، فأنتم تعرفون مثلا أن الياردة، حتى فى أبعد نقطة فى الفضاء الخارجى، تساوى دائما ثلاثة أقدام. وعلى الرغم من أن هذه معلومة رائعة فمن الصعب جدا تسميتها: قانونا طبيعيا. وكثير مما كنا نعده قوانين طبيعية لا يعدو أن يكون من هذا القبيل. ومن ناحية أخرى إذا أتينا إلى أى شىء يتعلق بسلوك الذرة فسنجد أنها أكثر ابتعادا عن الخضوع للقانون الطبيعى مما كان الناس يظنون، وأن القوانين التي نصل إليها ليست أكثر من متوسطات إحصائية من نفس النوع الذى تأتينا به المصادفة. وهناك، كما نعرف جميعا، قانون ينص على أنكم لو رميتم نردين فستحصلون على ستتين معا بمعدل مرة واحدة في كل ست وثلاثين رمية. ونحن لا نستطيع أن نعد هذا دليلا على أن رمي النرد خاضع لإرادة الرامي. وعلى النقيض من ذلك إذا كانت الستتان تأتيان معا في كل مرة نرمي النردين فسنقول حينها إن هناك تعمدا بالفعل من قِبَل ذلك الرامي. إن قوانين الطبيعة هي على هذا النحو في معظمها. إنها معدلات إحصائية تنبثق عنها قوانين المصادفة، وهذا ما يجعل مسألة القانون الطبيعي أقل إدهاشا لنا من ذى قبل. وفضلا عن هذا، وهو ما يمثل وضع العلم المؤقت، ذلك الوضع الذى يمكن أن يتغير من الغد، فإن فكرة القانون الطبيعي تنطوي على أن ثمة واضعا لهذا القانون، مما يكشف عن خلط بين القانون الطبيعي والقانون البشري. بيد أن القوانين البشرية إنما هى أوامر توجب عليكم التصرف بطريقة معينة بمستطاعكم اتباعها أو نبذها. لكن القوانين الطبيعية ليست على هذه الشاكلة، إذ هي تصف لكم كيفية تصرف الأشياء. ولأنها مجرد وصف من ذلك النوع فإنكم لا تَقْوَوْن على الجدال بأن هناك من يأمر هذه الأشياء بالتصرف على هذا النحو، لأنه حتى لو صح هذا الفرض فإنكم لا تلبثون أن ترتطموا بسؤال آخر هو: لماذا قضى الله هذه القوانين، ولم يقض غيرها؟ وإذا قلتم ببساطة إنه قد فعل ذلك لما يسببه له من لذة وليس لأى سبب آخر، فإنكم سوف تجدون أن هناك شيئا لا يخضع للقانون الطبيعي، ومن ثم تتوقف سلسلة ذلك القانون. أما لو قلتم، كما يقول عدد أكبر من رجال الدين الأرثوذكس، إن الله في كل القوانين التي اقتضاها دون غيرها كان لديه سبب معين دون غيره من الأسباب، فإن السبب بطبيعة الحال لن يكون شيئا آخر غير خَلْقِ أفضل الأكوان، وهو ما لا صحة له البتة. ولكن إذا كان ثم سبب لما يقدّره الله من قوانين فمعنى ذلك أن الله ذاته يخضع للقانون، وبالتالى لن تكون هناك أية جدوى من اتخاذ الله وسيطا لأنه سيكون هناك حينئذ قانون خارج عن الله وسابق عليه، ولن يكون لله فى هذه الحالة أية فائدة لأنه لن يكون المصدر النهائى للقوانين. باختصار: لم تعد القوانين الطبيعية الآن تعنى ما كانت تعنيه من قبل".
والواقع أنه لو لم يكن هناك قوانين وكانت الأمور تجرى على المصادفة كما يقول رَسِلْ فمعنى ذلك أن من المستحيل على البشر اتخاذ أى قرار أو الإقدام على أى تصرف، إذ إن القرارات والتصرفات تتطلب أن يكون هناك نظام مطرد حتى يستطيع الواحد منا رسم خطة مضادة يبنى عليها قراره وسلوكه. وتصور أنك قمت من النوم وأردت أن تبدأ يوما جديدا ففوجئت أن أحوال الكون قد تغيرت عما كنت قد عهدته وأنه لم تعد هناك قوانين ولا أنظمة، بل كل شىء يتم عشوائيا لا يمكن التنبؤ بمساره ولا بكيفيته ولا يمكن وضع خطة لمواجهته كى نحصد منه أكبر قدر ممكن من المكاسب ونتجنب أكبر قدر من المشاكل والخسائر. بل إن الخطط نفسها فى هذه الحالة لن يكون لها معنى ولا مصداقية، إذ لا نظام هناك ولا ثمار لأى شىء بما فيها الخطط. أمن الممكن أصلا فى هذه الحالة أن تكون هناك حياة؟ يقول رسل إن فَهْمنا للقوانين قائم على الوهم. لكن هناك رغم ذلك نظاما ما نستطيع أن نستند إليه ونقيم عليه حياتنا أيا ما يكن رأينا فى هذه الحياة. ذلك أن هذه الحياة التى لا تعجبنا أفضل مليارات المرات من الحياة الأخرى التى لا وجود لها إلا فى عقل رَسِلْ، تلك الحياة التى لا يمكن التعامل معها ولا اتقاء متاعبها أو الفوز بأى من خيراتها. وهذا إن جاز أن يكون لمثل تلك الحياة معنى أو كانت تشتمل على أية خيرات، أو كان لها وجود أصلا.
أما ما يقوله رَسِل عن الله وصلته بقوانين الطبيعة فهو صادر عن قياسه لله سبحانه على البشر، على حين قد رأينا أنه لا بد فى نهاية المطاف، ومهما طالت سلسلة الأسباب المترتب بعضها على بعض، من إله مطلق أزلى لا حاجة به إلى مسبِّب ولا يصلح معه القول بأنه كان خاضعا لهذا الاعتبار أو ذاك عند اختياره لهذا القانون أو ذاك. أما زراية رَسِلْ بتصورنا وجود مصدر للقوانين وتفسير ذلك بأننا إنما نقيس قوانين الطبيعة على قوانين البشر فهى زراية فى غير محلها. ذلك أننا، حين نتجه تلقائيا إلى التفكير فى مصدر القوانين الطبيعية، إنما نتصرف التصرف المنطقى، إذ بدلا من التعامى عن السبب الأول المطلق، ذلك التعامى الذى يؤثره برتراند رَسِلْ، نجدنا بوحى من فطرتنا نبحث عن السبب. وإلا أفيعقل أن تحتاج حياتنا تلك الضيقة والعابرة إلى مُصْدِر للقوانين بينما يستغنى ذلك الكون الهائل الذى لا تُعَدّ دولنا جميعا شيئا إلى جانبه عن مُصْدِرٍ لقوانينه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواضعات الاجتماعية التى أشار إليها رَسِلْ وظن أنه يستند فيها إلى حجة قاطعة، إذ إن وجود تلك المواضعات لهو دليل على أن حياتنا الضيقة العابرة كما سميتُها عن حق لا يمكنها الاستغناء عن نظام يكفل لنا فهمها والتعامل معها ومواجهة مشاكلها وجنى فوائدها. فما بالنا بالكون كله، وهذه الأرض التى نعيش فوقها لا تساوى بالقياس إليه شيئا البتة؟ على أن هناك أمرا طريفا فى كلام رسل، وهو تكرر ذكره لقوانين المصادفة. ترى أيكون للمصادفة قانون، ولا يكون ثم قانون لهذا النظام الذى يسرى فى كل شىء من حولنا؟ من يقول هذا؟ وأطرف من ذلك أننى أشعر بهدوء تام وأنا أناقش ما يقوله ذلك الفيلسوف الكبير، ولا أجد فى نفسى ضيقا به. ولعل فيما قلته عنه وعن مواقفه السياسية وما سطره عن الإسلام تعليلا لهذا الهدوء الذى أحسه بين جوانحى وأنا أحبّر هذا الكلام.
ونأتى الآن إلى تجويز رَسِلْ أن تتغير قوانين الطبيعة من الغد، وأنا معه فى هذا، ولا أجد فى تغير تلك القوانين يومًا من الأيام ما يصدم عقلى، فلقد وضحتُ أن القوانين الطبيعية لا تعنى مثلا أن فى النار ذاتها خاصة الإحراق، بل أن الله هو الذى رتب حدوث الإحراق على وجود النار. وهذا ما كان يقول به الإمام الغزالى وبسطه فى كتابه: "تهافت الفلاسفة" على النحو التالى: "الاقتران بين ما يُعْتَقَد في العادة سببا وما يُعْتَقَد مسبِّبا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الرِّيّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل... وهَلُمَّ جَرًّا إلى كل المشاهدات من المقترِنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة... وهلم جرا إلى جميع المقترنات. وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته. والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فَلْنُعَيِّنْ مثالا واحدا، وهو الاحتراق في القطن مثلا مع ملاقاة النار. فإنا نجوِّز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوِّز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار، وهم ينكرون جوازه".
ويمضى، رحمه الله، فى الرد على دعوى الخصم بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، مؤكدا أن "فاعل الاحتراق بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وجَعْله حُرَاقًا أو رمادًا هو الله: إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة. فأما النار، وهي جماد، فلا فعل لها. وهذا يكون بالحصول عنده لا بالحصول به. فما الدليل على أنها الفاعل، وليس له دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به وأنه لا علة سواه؟".
وإمامنا الغزالى، بهذا الكلام الذى ينفى فيه أن تكون فى النار خاصة الإحراق، مؤكدا أن الأمر مجرد تتابع بين وجود النار أولا فالإحراق ثانيا، قد سبق دافيد هيوم وبيركلى وبرتراند رسل ذاته بزمن طويل، إلا أن فيلسوفنا المسلم يعزو كل شىء فى هذا الأمر إلى مشيئة الله التى اقتضت هذا التتابع واطراده حتى الآن بما خيل للناس بوجه عام أن النار ذاتها هى سبب الإحراق. وفى هذا الصدد يقول هيوم: "إذا ما ارتبط شيئان ارتباطا لا تخلف فيه كالحرارة واللهب مثلا، أو الثقل والصلابة، فإن العادة وحدها عندئذ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر". ومن ثم فعنده أن "العادة هي المرشد العظيم للحياة البشرية. فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث الشبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى". فنحن قد تعودنا مثلا أن نرى الورق يحترق حينما نقربه من النار، فنتوقع من خلال هذا التعود احتراقه مستقبلا حينما نقربه من النار. وهذا التوقع احتمالي عند هيوم، إذ ليست هناك ضرورة عقلية في نظره توجب أن يحترق الورق بالنار مستقبلا، بل يمكن أن لا يحدث ذلك في المستقبل. ومن ثم فحينما نتوقع أحداث المستقبل استنادا إلى الخبرة الحالية فإن توقعنا ساعتئذ يكون من قبيل الاحتمال لا اليقين. وهذا هو ما يقوله الغزالى بفصه ونصه. وأرجح الظن أن هيوم ورسل قد قرآ فيلسوفنا المسلم: إما مباشرة وإما من خلال وسيط، إذ من الصعب عقلا أن نقول بأن هذا ليس إلا توارد خواطر، وبخاصة أن الغزالى معروف جيدا للغربيين عن طريق المستشرقين.
وحتى لا يسارع بعض الملاحدة السفهاء، وكثيرٌ ما هُمْ، إلى التشنيع على القائلين بذلك بأنهم يقولون بكونٍ قائمٍ على اللانظام أقول مرة أخرى بملء فمى وبأعلى صوتى: إن الكون قائم على نظام عجيب وقوانين مطردة، ولكن هذه القوانين لا تنبع من الأشياء ذاتها، بل من إرادة الله، الذى سوف يأتى يوم يبطل فيه تلك القوانين ويبدع قوانين أخرى تختلف عنها كما نجد ذلك فى القرآن والسنة. ذلك أنه لن يكون فى الجنة مثلا ملل ولا ضيق ولا حزن ولا قلق ولا حقد ولا مغص ولا جوع ولا عطش ولا برد ولا حر ولا حرمان ولا نقص ولا ألم ولا رائحة كريهة ولا منظر منفر ولا موت ولا خصام ولا عدوان... إلخ، وهو ما تختلف به الجنة اختلافا كليا وجزئيا عن الدنيا. وقد أشار القرآن إلى أنه يوم القيامة سوف "تُبَدَّل الأرضُ غيرَ الأرض والسماواتُ". ذلك أنه ما دامت القوانين لا تكمن فى الأشياء كمونا طبيعيا ملازما فمعنى ذلك أن الله المطلق السلطان الذى أصدر للأشياء الأمر بأن تكون على ذلك النحو يمكن أن يصدر لها الأمر بأن تكون على نحو غير ذلك فى الوقت الذى تقدره مشيئته سبحانه وتعالى. وبالمناسبة فبرتراند رَسِلْ، كما أشرنا قبيل قليل، هو من القائلين بذلك أيضا، إلا أنه على عكس الغزالى المؤمن كان ملحدا ينكر وجود الله والحياة الآخرة.
ويمضى الفيلسوف الإنجليزى الكبير فيناقش دليلا آخر مما يتخذه المؤمنون دليلا على وجود العناية الإلهية، وهو دليل التصميم. وهذا نص كلامه: "الخطوة التالية من استعراضي للفرضيات لابد أن توصلني إلى جدلية التصميم. إنكم تدركون جميعا أن فرضية التصميم تقتضي أن كل شيء في هذا العالم تم تصميمه من أجل أن نعيش وفقا له، ولو أن العالم اختلف قليلا عن صورته الحالية لما استطعنا أن نعيش فيه. هذه هي جدلية التصميم، التى تأخذ أحيانا شكلا مثيرا للفضول. فمثلا يقال إن الأرانب قد خُلِقَتْ بذيول بيضاء كي يسهل اصطيادها، ولكننى لا أعرف كيف تنظر الأرانب إلى هذا الوضع. إنه أمر يبعث على السخرية. وأنتم جميعا تعرفون ملاحظة فولتير، وهو أن الأنف قد خُلِق ملائما لحمل النظارة! وقد ظهر أن هذا النوع من السخرية لم يبتعد كثيرا عن إصابة الهدف كما كان يُظَنّ فى القرن الثامن عشر، لأنه منذ داروين بدأنا نفهم بشكل أفضل كثيرا لماذا تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها. وهذا يعني أن البيئة ليست هي التى تكيف نفسها من أجل الكائنات، بل الكائنات هى التى تكيف نفسها مع بيئتها. وهذا هو أساس التكيف البيئي. ولا وجود فيه، كما نرى، لأي دليل على التصميم".
أما أنا العبد لله الضعيف فأقول مع احترامى الكامل لرَسِلْ، الذى كلما نظرت إلى صورته وقد أصبح عجوزا جدا، وفى فمه المتغضن غليونه المشهور يخفف به قليلا من شعوره بالشقاء الذى وصفه لنا فى سيرته الذاتية، لا أملك نفسى من العطف عليه رغم اختلافى الشديد معه فى موقفه من الألوهية، وإن كنت لا أختلف معه كثيرا حول وجود الشقاء فى العالم، ومن ذا الذى يجرؤ على أن ينكره أو يجادل فيه؟ لقد قالها القرآن نفسه بكل وضوح لآدم والسيدة حَرَمه منذ البداية: إياكما أن يخرجكما إبليس من الجنة، وإلا شقيتما، بما يفيد بمنتهى الصراحة أن الدنيا ليست دار سعادة كاملة، وإن لم تكن أيضا دار شقاء تام، بل هى، حسبما نرى، مزاج من هذا وذاك. ولم نذهب بعيدا؟ إننى، أثناء كتابتى هذا الرد على رسل، لأشعر بنشوة عجيبة وأنا أحاور عقلا كبيرا كعقل رَسِلْ فى موضوع كبير كموضوعنا ذاك. فهذا إذن لون من السعادة الدنيوية لا شك أيضا أنه كان يستمتع به وهو يعد محاضرته التى نحن بصددها، وكذلك وهو يلقيها، مثلما كان يحس بالسعادة حين اهتدى، أو فلنقل دون أن نقصد إغاظته: حين هداه الله إلى إديث فينتش، زوجته الرابعة التى أهدى لها "سيرته الذاتية"، والتى تقول كلمة الإهداء إنه يدين لها بشىء غير قليل من السعادة فى دنياه تلك التى يحاول أن يقنعنا أنها مفعمة تماما بالشقاء بحيث لا يوجد فيها ولا ثَقْب إبرة يمكن أن ينفذ منه بصيص من البهجة. أمعقول يا فيلسوفنا أنك لم تذق مثلا مع أى من زوجاتك لذة الفراش ولو مرة، وأن دنياك كانت خالية معهن من كل نشوة؟ ودَعْنا من غير زوجاتك يا رجل يا نِمْس! ألم تستمتع مثلا بزوجة تى إس إليوت، الذى يقلده القِرَدة عندنا تقليدا أعمى مباهين بهذا التقليد، شأن كل قرد أقرع؟ وهذه مجرد حلقة واحدة فى سلسلة عشيقاتك يا عفريت! وحتى حين دخلتَ السجن (ولأعترف هنا أننى لا أحبه، ولا أريد أبدا أن أذوقه) ألم تكن تشعر بالرضا والسكينة لأنك استطعت، بمعونة الله طبعا رغم إنكارك وجوده، أن تتحمل متاعبه وما تجره هذه المتاعب وراءها من ألوان الحرمان والعناء المختلفة فى سبيل مبدئك؟ هكذا ترى يا فيلسوفنا الكبير، الذى أشعر والله بالعطف عليه وعلى نفسى معه أيضا، أن الدنيا، حتى فى أشد ظروفها حلوكة، يمكن أن تمد صاحبها بكِفْلٍ غير قليل من السعادة والرضا.
والآن إلى المناقشة، التى أرجو ألا تفسد للود بينى وبين الفيلسوف البريطانى أية قضية، فأقول: لنفترض أن الأمر كما قال رَسِلْ بناء على نظرية داروين، وأن الكائن هو الذى يتكيف مع بيئته، وليست البيئة هى التى خُلِقَتْ مناسبة له، فهل ينال هذا من قيمة الدليل التصميمى؟ لا إخال ذلك أبدا. كيف؟ أليست المحصلة النهائية أن الكائن ينجح فى التعايش مع بيئته؟ بَلَى والله وأَلْفُ بَلَى. فهذا هو دليل التصميم، ولكن على شكل آخر، وهو أن الله سبحانه وتعالى، حين أبدع مخلوقاته، جعلها مهيأة للعيش فى كل الظروف، واهبا إياها المقدرة على التكيف معها. فما المشكلة إذن؟ أما كلام رَسِلْ فمَحْضُ تحكُّم لا معنى له، وهو ما يذكرنى بما يقوله العامة عندنا: أَكْل وتبريق! وهذا إن كان الأمر على ما يقول، وهو ليس كذلك فى الواقع، وإلا فلماذا لم يوزع الله كل الكائنات على كل الأمكنة فى العالم دفعة واحدة، وعلى كل منها أن تتأقلم مع ظروف كل مكان؟ لماذا مثلا لم يضع الله عز وجل الإنسان فى قلب لهيب الشمس؟ أو لماذا لم يجعل معيشته فى باطن الأرض مغروسا فى الطين كما هو حال كثير من الديدان مثلا؟
واضح أن التكيف البيئى الذى يشير إليه رَسِل استنادا إلى داروين ليس معناه أن الكائن يغير نفسه تغييرا جذريا ليتلاءم مع بيئته، وإلا لرأينا للإسكيمو مثلا جلودا سميكة كجلود الدِّبَبَة القطبية حتى يستطيعوا تحمل البرد الرهيب هناك، وهو ما لا وجود له، بل كل ما هنالك أنهم قد عملوا على تحوير آلاتهم وأدواتهم ومرافقهم بحيث تعينهم على مواجهة مصاعب تلك البيئة، فكانت أحذيتهم ووسائل مواصلاتهم وبيوتهم مختلفة فى التصميم والمواصفات عما لدينا من أحذية ومواصلات وبيوت... وهكذا. أما هم أنفسهم فلا يفترقون عنا فى شىء، إذ ما زالت لهم عينان كعينينا، وأنف كأنفنا، ويدان كيدينا، وذَكَرٌ كذَكَرنا، واسْتٌ كَاسْتِ القُمَّص المنكوح، إلا أنهم ليسوا مناكيح مثله، ويأكلون من فمهم كما نأكل نحن من فمنا، ولهم فى كل فم ست وثلاثون سِنًّا كما لنا، ويحتاجون إلى الحمام كما نحتاج نحن أيضا، ولهم طموح وآمال ومخاوف وقلق وحزن وملل، وفيهم لصوص وقتلة وناس طييون وكتاب وقراء، ولديهم مطاعم وفنادق، كما لنا وفينا ولدينا بالضبط... إلخ.
أما بالنسبة إلى الأرانب ذات الذيول البيضاء التى ضربها رَسِلْ مثلا على التعاسة فما أكثر ما تستمتع رغم هذا بالشمس الدافئة والهواء الطلق والعشب الغزير والجرى فى الغابة تمرح كما يحلو لها. نعم إن ذلك كله مصيره إلى انتهاء، وقد تكون النهاية ذبحها وأكلها، لكن ألم تستمتع هى قبل ذلك؟ بلى لقد استمتعت، ونعم لقد انتهت فى كثير من الأحيان إلى المصير المذكور. لكن أتراها فى هذا تختلف عمن صادوها؟ ألا يستمتعون هم أيضا، ثم ينتهون إلى الموت، وربما القتل، كما تنتهى هى؟ سيقول رَسِلْ: ومع هذا فإن فى الدنيا شقاء وتعاسة. لكن هل خالفناه فى هذا؟ إن كل ما نخالفه فيه هو أنه يركز فقط على ألوان الشقاء، وكأن الدنيا كلها حالكة السواد، فلا لقمة شهية ولا منظر جميل ولا شذى حلو ولا ملمس ناعم ولا رقدة هنية ولا يقظة بهيجة ولا جماع لذيذ ولا أولاد يملأون البيت على الأب والأم سعادة ونورا وأنغاما ولا كتاب مثير للعقل والوجدان ولا صلاة تبعث السكينة فى النفس ولا تضحية من أجل مبدإ جليل ولا أبناءٌ لطافٌ ولا رحلة بهيجة ولا تأمل فكرى لذيذ. إننى لأتألم غاية الألم حين تصيبنى بَلِيّةٌ من بلايا الدنيا، وما أكثرها! وأتقلب على جمر الحرقات ساعتئذ تقلبا، إلا أننى سرعان ما أفىء إلى الواقع من حولى قائلا لنفسى: لِمَ تنسى كذا وكذا وكذا مما حباك الله به (أو فلنقل كى نضحك قليلا مع رَسِلْ: مما حبتك به الطبيعة) يا فلان، وهو كثير، والحمد لله؟
ولكى أبين للقارئ أن حياة الأرانب والعجماوات جميعا ليست كلها شقاء كما يحاول رسل أن يقنعنا أذكر له أننى، فى صيف عام 1976م، ذهبت فى بعثة إلى بريطانيا للحصول على الدكتورية فى النقد الأدبى، فبدأنا نأخذ دروسا فى الإنجليزية بلندن، ثم انتقلنا إلى ميناء هيستنج لنكمل أخذ هذه الدروس، فكنت فى الفسحة التى تفصل درسًا عن درسٍ آخر النهار أجلس فى ردهة المدرسة، وقد اكتست الدنيا فى الخارج عَتَمَةً، وبدا كأن المغرب قد جاء، فأنظر عبر النافذة إلى منارة صغيرة على الشاطئ متوهما فى كل مرة أنها مئذنة وأن أذان المغرب سوف يرتفع بعد قليل. على أن هذه ليست النقطة التى أريد الحديث فيها، بل النوارس التى كانت تحوم على الشاطئ قريبا منا والتى، وهذا هو بيت القصيد، كنت أحسدها على ما تتمتع به من حرية وقدرة على التحليق فى أجواز الفضاء، على حين أجد نفسى مقيدا بجاذبية الأرض لا أملك طيرانا. أما حسدى إياها فلأنى كنت أتصور أننى لو رُزِقْتُ مثلها المقدرة على الطيران لكان باستطاعتى أن "آخذ بعضى" طيرانا على مصر، التى كنت أشعر آنئذ بحنين جارف مؤلم نحوها، ودون الحاجة إلى تذكرة سفر أو تأشيرة أو إجراءات معقدة فى الخروج والدخول. خلاصة القول أن العجماوات ليست تعيسة الحياة تماما كما يخيِّل لنا كلام رسل، إذ هى تتمتع بكثير مما حُرِمْنا نحن البشر منه حتى إننا لنحسدها على كثير مما حباها الله (أو كما يقول رَسِلْ وأشباهه: مما حبتها الطبيعة) به.
وبعد الأرانب ذات الذيول البيضاء يأتى ونستون تشرشل وأضرابه من ذوى القلب السوداء، ذلك الاستعمارى البغيض الذى ضربه رَسِِلْ مثلا على أن الحياة كلها شقاء وتعاسة. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد كان رَسِلْ يناصر الحركة الاستعمارية فى مطلع حياته، ثم انقلب معاضدا لحركات التحرر الوطنية ضد بلده وضد العالم الغربى عموما، وهو ما يُشْكَر عليه. لكن هل كان تشرشل، رغم أننا فى عالمنا العربى والإسلامى قد اصطلينا نار نزعته الاحتلالية وشقينا بها أيما شقاء، خلوا تماما من أى نفع؟ لقد كان كاتبا سياسيا وأديبا قوى الأسلوب. ولا شك أنه، بهذا الاعتبار، كان ذا فائدة لبعض البشر. كذلك قرأت ذات مرة أنه كان يصدر أوامره لمجلس الحرب بوصفه رئيسا للوزراء وهو فى بيت الأدب (أو إذا شئتم: بيت قلة الأدب والقيمة!) يقضى حاجته كيلا تفوت الفرصة إذا انتظر حتى ينتهى مما هو فيه فيَصْدُر الأمر بعد خراب بصرة. فلو لم يكن له إلا هذا التصرف الذى أضحكنى وما زال يضحكنى حتى هذه اللحظة وتغرورق عينى جَرّاءه بالدموع لكان هذا كافيا كى أعلم أن خَلْقه فى الدنيا لم يكن سُدًى! ومع هذا فلعنة الله على ذلك العلج الاستعمارى، إن لم يكن من أجل شىء فكيلا يغضب منى رَسِلْ.
لكن ذلك الإبليس لا يتحمل هو وأمثاله وحدهم إثم الاستعمار، وهو بلا أدنى ريب أو جدال إثم بشع لا يطاق، بل تتحمله معه الأمم التى ابتليت به فرضيت بالهوان بل استعذبته، وكلما أخذت صفعة على خد من خديها أدارت الخد الآخر كى يأخذ هو أيضا نصيبه من الهوان والخزى فتكون قد تقلبت فى الخزى على الجانبين ولم يفتها شىء منه كما هو حال أمتنا أمة الزفت والهوان، التى من الواضح أنها باتت خارج التاريخ منذ استنامت إلى المذلة على يد حكامها الوطنيين (أقصد: الـمُسَمَّيْنَ زورا بــ"الوطنيين"، وما هم فى الحقيقة إلا عصابة من الجهلة الأفاكين، لعنهم الله ولعن معهم شعوبهم التى يحكمونها أجمعين أكتعين أبصعين!)، وكذلك على يد مستعمريها الخارجيين، وصارت مشكلتها من التعقيد بحيث إننى لا أكف عن الألم والمرارة طوال الوقت حتى وأنا أتريض تجنبا للإصابة بالسكر وانسداد الشرايين، غير واجد لوضعها هذا البائس حلا، إذ كيف يمكن أن تُحَلّ مشكلتها، وهى نفسها لا تريد لها حلا، بل لا تحاول أن تساعد من يتصدى لإصلاح أحوالها فتتركه يدخل السجن أو يُعْدَم دون أن تجشم نفسها ذرف دمعة من دموعها الرخيصة عليه، منصرفة إلى الكرة والرقص والطبل والزمر والحشيش والأفيون؟ ولنعد إلى ما كنا فيه، وإلا ساءت صحتى أكثر وأكثر، وساعتئذ لن أجد من جماهير الأمة من ينفعنى ببصلة!
كذلك يستنكر رسل أن يكون العالم الذى حولنا بعيوبه ونقائصه هو كل ما استطاع الله بعلمه المطلق وقدرته التى لا يحدها حد أن يخلقه فى الملايين بعد الملايين من السنين، مؤكدا أنه لو أُعْطِىَ قدرة وعلما بلا حدود وصُبِرَ عليه ملايين السنين فإنه قادر على أن ينتج كونا أفضل من هذا. وهذا يذكرنى بما كان يقوله أحد رجال القرية، وكان زمّارا فى فرقة المزيكة التى يرأسها عمه، ثم كُسِرت أصابعه فترك العزف على المزمار ولم يعد صالحا لعمل أى شىء، فكانت زوجته المسكينة هى التى تسعى عليه وتوفر له الشاى واللحم، اللذين لو تخلفا عن الميعاد كان جزاؤها الشتم والضرب وقلة الأدب. والشاهد فى الأمر أنه كان دائما، رغم مواظبته على الصلاة والصيام، فضلا عن التأذين للصلاة بصوته الجميل، كثير التمرد على مقام الربوبية، زاعما أنه لو تولى أمر الكون لجعله أفضل من هذا كثيرا. يقصد أنه ساعتها سوف يوفر كيلو لحم وكيس شاى وباكو سكر لكل فقير أسبوعيا، ويا حبذا لو كان معها أيضا علبة سجائر أو ورقة معسل، فهذا هو أقصى ما يمكن أن يفكر فيه زمّارنا، الذى كنت أعطف عليه وأستطيب صحبته وأتغاضى عن حماقاته وغروره الغبى.
المضحك فى دعوى رَسِلْ أنه يقول: "لو" أُعْطِيت كذا وكذا، إذ الإله لا يقول ذلك لأنه لا يأخذ شيئا من أحد، بل هو الذى يعطى، ويعطى دائما. ثم إن "لو" تفتح عمل الشيطان. كما أنها، طبقا لما يقوله جهابذة الإعراب الصِّيَاعِىّ، "حرف شعلقة فى الجو". والكون، رغم ما فيه من مآس لا ينكرها أحد، يدل على خالق قدير عليم حكيم رحيم جبار منتقم شديد. وليلاحظ القارئ أننى لم أجتزئ بذكر الحكمة والقدرة والرحمة الإلهية وحدها، بل ذكرت معها الجبروت والانتقام أيضا، فهذه هى صفات الله. ولقد حار الفلاسفة والحكماء، ومعهم الطبالون والزمارون، فى بحثهم عن السر فى وجود المعاناة والألم فى الدنيا، ولم يرجعوا بطائل، ولا أظنهم سوف يرجعون به يوما. فَلْنَكُفَّ عما لا جدوى منه كما قال العقاد فى بعض شعره عن ذلك الموضوع، فهذا هو حال العالم الذى حولنا، ولنركز على أن نجتهد بكل طاقتنا كى نستخرج منه أحلى ما فيه ونتجنب أسوأ ما يحتويه، أو ننزل بنصيبنا من هذا الجانب السيئ فيه إلى أصغر درجة ممكنة على الأقل، "ونعيش ونقول: يا باسط!"، مع رجائى من القراء أن يتولى أحدهم مشكورا ترجمة العبارة الأخيرة لرَسِلْ حتى يفهم عنى ولا تضيع نصيحتى على الفاضى!
وهنا نسمع رَسِلْ يؤكد، وكأنه يقول شيئا جديدا على المؤمنين، أن الحياة على الأرض مصيرها إلى انتهاء. لكننا نعرف هذا يا فيلسوفنا العزيز من قبل ونؤمن به، وكنت أنت أيضا تؤمن به أيام كنت متخلفا مثلنا، وهو ما نسميه: يوم القيامة. فما الجديد فى هذا إذن؟ إلا أن المسألة بالنسبة إلينا لا تقف عند انتهاء الحياة، بل اعتقادنا أنه ستبدأ حياة أخرى بعد دمار هذا العالم، الذى سوف يعاد رغم ذلك تشكيله من جديد بأوضاع أخرى نرجو أن تعجب رَسِلْ، وزمارنا المسكين، الذى أدعو له الله العَفُوّ الغفور الودود الحليم الرحيم الكريم أن يجد عندئذ الشاى والسكر واللحم بوفرة تبعث على الطمأنينة وارتخاء الأعصاب، ولا داعى للمعسل لأنه ضار، وذوقه بلدى، علاوة على أن شاربه يقضى النهار والليل فى السعال والبصق فيزعجنا، ونحن لم نكد نصدق أننا قد تركنا الدنيا ببلاياها!
وعلاوة على هذا فإنى آخذ على رَسِل أنه، حين يذكر المسلمين أو يريد الإشارة إليهم فى هذه المحاضرة، يستعمل كلمة "Mohammedans: المحمديين". وهذا خطأٌ صُرَاحٌ، ويزيده سوءا صدروه عن رَسِل الفيلسوف الذى تقوم فلسفته هو وأشباهه من الفلاسفة على وجوب تحديد الألفاظ قبل استخدامها منعا لأى لبس أو اضطراب. فهل من تحديد الألفاظ تحديدًا سليمًا أن يُطْلَق علينا نحن المسلمين اسم "المحمديين"؟ إن كل دور رسولنا عليه الصلاة والسلام طبقا لمعتقد الإسلام، الذى جاء به، هو أنه واحد من البشر تلقى الوحى من الله سبحانه وأنه المثال الأعلى لأولئك البشر. فلا هو إذن صاحب الإسلام ومخترعه ولا نحن نؤلهه أو نرتفع به عن مستوى البشرية بأى معنى من المعانى ولا إلى أى مدى من الأمداء، وذلك امتثالا لقوله تعالى: "قل: إنما أنا بشر مثلكم يُوحَى إلىّ أنما إلهكم إله واحد". وعلى هذا فليس هناك أى أساس يمكن الاستناد إليه فى إطلاق كلمة "المحمديين" علينا نحن المسلمين. فإذا ما صدر هذا الخطأ من رَسِلْ بالذات كان الخطأ أسوأ وأشنع.
والعجيب أن رَسِل نفسه يقول شيئا قريبا جدا مما قلتُه آنفا عن الرسول، إذ كتب فى كتابه الموسوم بـ"A HISTORY OF WESTERN PHILOSOPHY: تاريخ الفلسفة الغربية"، وهو الكتاب الذى ضمن له بقية حياته دخلا منتظما، وليس مثلنا نحن الذين لا يشترى أحد من أمتنا المنكوبة بأدواء الجهل والبلادة وكراهية الثقافة شيئا من كتبنا: يا حسرة! نقول إنه كتب فى كتابه ذاك عن النبى عليه السلام ما نصه: "The Prophet made no claim to be divine, nor did his followers make such a claim on his behalf". كما قال كلاما طيبا عن الإسلام وسعة صدره مع المخالفين له فى المعتقد على عكس ما هو معروف عن المسيحية، التى عاملت مخالفيها من يهود ومسلمين معاملة بشعة غير إنسانية حسب كلامه، معبرا عن دهشته من سرعة انتشاره وما أحدثه من تغييرات واسعة سريعة فى تاريخ الإنسانية ليس لها مثيل: "Their victories were easy, and the fighting was slight. Except possibly during the first few years, they were not fanatical; Christians and Jews were unmolested so long as they paid the tribute"، "Throughout the Middle Ages, Jews had no part in the culture of Christian countries, and were too severely persecuted to be able to make contributions to civilization, beyond supplying capital for the building of cathedrals and such enterprises. It was only among the Mohammedans, at that period, that Jews were treated humanely, and were able to pursue philosophy and enlightened speculation. Throughout the Middle Ages, the Mohammedans were more civilized and more humane than the Christians. Christians persecuted Jews, especially at times of religious excitement; the Crusades were associated with appalling pogroms. In Mohammedan countries, on the contrary, Jews were not in any way ill treated". ومع هذا فإننا نراه، حتى فى هذا الكتاب يجرى على تلك السُّنّة، سنة إطلاق اسم "المحمديين" علينا نحن المسلمين!
وبالنسبة إلى ما قاله رسل عن مثال صندوق البرتقال الذى وَجَد صَفَّه العلوى فاسدا فكان هذا دليلا عنده على أن بقية الصفوف الأخرى فاسدة مثله، ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، وأن قياس سائر الكون على الكرة الأرضية ينتهى بنا حسب رأيه إلى أن الكون كله سيئ، ولا سبيل إلى تغيير سوئه حُسْنًا، فالرد عليه سهل جدا جدا، إذ إن ما توصل إليه من نتيجة هو شىء غير لازم ولا حتمية فيه، بل أقصى ما يمكن قوله أنه مجرد احتمال واحد من عدة احتمالات. ولا أدرى كيف غابت عنه هذه النظرة العلمية القائمة على دراسة الاحتمالات المختلفة لشىء ما ونسبة كل احتمال منها إلى الاحتمالات الأخرى والقاعدة التى تحكم ذلك. وهذا لو كان الظلم الذى يتحدث عنه هو ظلم إلهى وليس ظلما بشريا. ترى هل هو متأكد أن الكائنات التى فى سائر الكون بعيدا عن دنيانا الأرضية هى مثلنا كائنات بشرية؟ وهل هو متأكد أنها تشبهنا فى الـخُلُق والتصرف والضمير؟ لقد كان عليه أن يسأل نفسه مثل تلك الأسئلة قبل أن يفكر فى إصدار ما أصدر من حكم، ولكنه للأسف لم يفعل. وبكل يقين فإن رَسِلْ يعرف عن هذا الكون المادى، باعتباره عالما رياضيا، أفضل كثيرا جدا مما يعرفه أغلب الناس، فكان ينبغى ألا يفوته اتساع الكون الهائل الذى لا يمكن أى عقل مهما كان واسعا وعميقا ومحيطا أن يصل إلى معرفة كنهه أو حتى أبعاده الظاهرية. فكان من الواجب اللازب عليه ألا يغامر بإصدرا مثل ذلك الحكم.
ثم يقول رَسِلْ إن الذين يؤمنون بالله إنما تم تلقينهم منذ طفولتهم الأولى الإيمان به سبحانه، فهم من ثم يتبعون ما لُقِّنوه لا يحيدون عنه، بخلاف الملاحدة، فإنهم يختارون طريقهم بأنفسهم. ولى على ذلك ملاحظتان: الأولى أن أمثاله من الملاحدة لا شك يربون أولادهم على الإلحاد، إذ كل أب وأم إنما يربيان أولادهما عادة على ما يؤمنان هما به. ومن ثم فقوله إن الملحدين إنما يختارون طريقهم بأنفسهم غير صحيح على إطلاقه على الأقل. والثانية، ألم يسأل رسل نفسه: لماذا كان الإيمان هو الغالب على الناس بحيث يفترض هو نفسه أن الآباء جميعا (تقريبا، و"تقريبا" هذه من عندى) ينشئون أولادهم على الإيمان لا على الكفر؟ أليس لهذا دلالته؟ وإلا فما مصلحة الناس فى إيثار الإيمان على الإلحاد؟ طبقا لما قاله هو لا أنا. الجواب لديه: "أن السبب الأقوى بعد ذلك وراء إيمان البشر بالله هو الرغبة فى السلامة. إنه نوع من الشعور بأن لك أخًا أكبر يقوم برعايتك. وهذا الأمر له دور عميق في التأثير على رغبة الناس في الإيمان بالله". لكن الله ليس أخا أكبر، وإلا ففى كل أسرة أخ أكبر يمكن أن يقوم بهذا الدور. ولنفترض أننا قبلنا جَدَلاً هذه الحجة، فكيف نفسر حاجة الإخوة الكبار والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأغنياء والأصحاء وذوى المناصب الضخمة والقادة والزعماء والرؤساء والقضاة والوزراء وكل كبير من الكبراء والجماعات والأمم والدول إلى الإيمان بالله؟ إن العالم كله تقريبا يؤمن بالله حتى لو لم يشتغل بهذا الأمر اشتغالا واضحا، وحتى لو أخطأ الطريق إليه. والسبب هو أن ثمة نزوعا فطريا نحو البحث عن الخالق، إذ إن أمور الكون لا تستطيع أن تمشى دون هذا الخالق. فمن أين أتى هذا النزوع الفطرى؟ ألم يسأل رَسِلْ نفسَه هذا السؤال؟ وبالمناسبة فقد كان الأخ الأكبر لرَسِلْ يثير لديه الخوف لا الطمأنينة كما حدّثنا فى الفصل الأول من سيرته الذاتية. فما القول فى ذلك؟ أليست هذه مفارقة مضحكة؟
بعد هذا ينتقل رَسِلْ إلى البحث فى موضوع آخر، وهو الحكم على شخصية المسيح عليه السلام. وهو، بطبيعة الحال، لا ينطلق فى الحكم عليه من أنه إله، فالرجل لا يؤمن بالألوهية أصلا كما رأينا، فضلا عن أن ينظر إلى المسيح على أنه إله. بل إنه لا يعده نبيًّا. وهذا أمر طبيعى، فمنكر الألوهية ينكر النبوات حتما. ليس ذلك فحسب، بل إنه ليخطو خطوة أبعد، إذ ينفى أن يكون المسيح مثالا أعلى للبشر، فهو فى نظره ليس أحكم الحكماء، بل إن فى سلوكه ومبادئه ما لا يقبله العقل والضمير، بل ما يدل على توحش وقسوة شديدة غير مفهومة ولا مسوَّغة. وهو يبدأ بالهجوم الكاسح على ما تنسبه الأناجيل إليه من أنه إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وأنه لا ينبغى لأى إنسان أن يدين الآخرين كيلا يدان هو أيضا... وأمثال ذلك، مؤكدا أنه لم ير مسيحيا فى حياته يتخذ التسامح مع الآخرين مبدأ له فى الحياة، وأنه هو نفسه لا يستطيع أن يفعل هذا، وأنه على العكس من ذلك كثيرا ما رأى مسيحيين يظلمون الآخرين دون أن تختلج ضمائرهم أو يشعروا أنهم أتوا أمرا لا ترضاه المسيحية. وفوق ذلك نراه يشك حتى فى مجرد الوجود التاريخى للسيد المسيح عليه السلام.
فأما الشك فى وجود المسيح فلا نشاطره فيه، فالمسيح عندنا موجود حتى لو كانت الكتابات النصرانية عنه لا تبعث على الثقة، إذ لدينا مصدر آخر موثوق هو القرآن الكريم. وهو موثوق لأننا نؤمن به بعد تمحيصه من جهة المضمون والأسلوب، وبعد فحص شخصية الرسول محمد عليه الصلاة والسلام والاطمئنان إلى أنه لا يمكن إلا أن يكون صادقا، وإلا فما مصلحته فى ادعاء الوحى والنبوة والتعرض لكل ما تعرض له عليه السلام من أذى وعدوان وتكذيب وسباب ومؤامرات ومواجهة لقوى العالم كلها دون أى سند بشرى؟ وأما أن المبادئ التى ينسبها كتبة الأناجيل لعيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، هى مبادئ غير قابلة للتطبيق فى أغلبها فنحن معه فى هذا الكلام قلبا وقالبا. وقد قلناه وقاله غيرنا كثيرا من قبل، فقالوا بكل صفاقة: اخرجوا من البلد!
وقال رَسِلْ أيضا إن المسيح قد ظنّ أن قدومه الثاني سيتحقق قبل ممات كل البشر الذين كانوا يعيشون في ذلك الوقت، وأن هناك كثيرا من الآيات تدلل على وجود هذا الظن، منها قوله لتلاميذه: "ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى. فإني الحق أقول لكم: لا تملكون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان". ولما كان هذا لم يقع ولم يأت ابن الإنسان، والمقصود السيد المسيح ذاته، كان هذا برهانا عند رَسِلْ على أن المسيح قال كلاما غير صحيح، مما يعنى أنه لم يكن يعرف شيئا عما يتحدث عنه وأن ما قاله لا يعدو أن يكون خيالات وأوهاما لا حقيقة لها، ورغم هذا لا يزال هناك من المسيحيين من ينتظر عودته حتى الآن. وفى نظر رَسِلْ أن المسيح لم يكن حكيما حينما بشَّر بقرب مقدمه، وأنه لم يكن على قدرٍ من الحكمة يماثل ما يتمتع به بعض البشر، ولم يكن فائق الذكاء.
وإضافة إلى ما تقدم يأخذ الفيلسوف البريطانى على السيد المسيح إيمانه بالعذاب الأبدى وتهديده بذلك كل من لا يؤمن به، مما لا يلجأ إليه كثير من الدعاة، فكيف يقع فيه المسيح؟ إن مثل هذا التهديد من شأنه أن يخدش صورته. كما أخذ عليه أيضا أنه كان خشنا فظا مع كل من خالفه لا يعرف التسامح. أما سقراط فلم يفعل شيئا من هذا، وكان رقيقا مهذبا مع من لا يستمعون إليه، فكان من ثم أحكم من المسيح. ولكن انظر إلى المسيح وما كان يقوله لمن لا يصغون إلى دعوته. لقد كان يقول لهم: "يأَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟"، "يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان". ثم يمضى رَسِلْ مؤكدا أن قارئ الأناجيل يشعر أن ثمة استمتاعا من قِبَل المسيح عند الحديث عن عويل الكفار وصرير أسنانهم. كما يورد رَسِل الآية الإنجيلية التي تتحدث عن الخِرَاف والجِدَاء قائلة إن المسيح في عودته الثانية سوف يفرق بين الخراف والجداء، وسيقول للجداء: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية، النار المعدّة لإبليس وملائكته". ثم يقول المسيح أيضا: "فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ". ويرى رَسِلْ أن أي معتقدٍ يعتمد على التهديد بالنارهو معتقد وحشى ينشر الرعب والخوف مدى الدهور. وينبغى من ثم تحميل المسيح المسؤولية عن كل هذا.
والواقع أن الإسلام يتكلم هو أيضا عن النار ويهدد بها العصاة المتمردين الذين لا يريدون أن يشغّلوا عقولهم فيتركوا الكفر وعبادة الحجارة أو يكفوا عن اضطهاد الضعفاء وأكل حقوقهم. وقد مر بنا أن العقاب الأكيد هو لمن بلغته الدعوة الإسلامية على وجهها الصحيح وفكر فيها ثم ظهر له وجه الحق، لكنه آثر العناد وركب رأسه وأصر على الكفر والظلم وأكل حقوق الآخرين. ثم إن الإسلام يخاطب دائما العقل ويحتكم إليه حينما يختلف الرسول والكفار، فيأمرهم بالنظر فى السماوات والأرض ويعرض عليهم الأدلة والبراهين طالبا منهم أن يقلبوا فيها البصر، قائلا لهم: "وإنا أو إياكم لَعَلَى هُدًى أو فى ضلالٍ مبين"، "قل: لا تُسْأَلون عما أجرمنا ولا نُسْأَل عما تعملون". فأى إنصاف أحسن من هذا؟ ثم إن فريقا من علماء المسلمين يقولون بعدم استمرار العقاب الأخروى، إذ سوف يأتى اليوم الذى تنتهى فيه النار ولا يكون ثم عقاب بعد ذلك. وعلى كل حال فالحسنة فى الإسلام بعشر أمثالها، والسيئة بمَثَلٍ واحد فقط إن لم يغفر الله للمخطئ، وكثيرا ما يحدث، إذ وعد سبحانه الذين أسرفوا على أنفسهم بغفران جميع الذنوب، ومن ثم فلا مجال للقنوط من رحمة الله. كما أن دخول الجنة أمر فى متناول من يريد، إذ قد يفوز بها من سقى كلبا عطشان شربة ماء. ثم بعد هذا لا تهم شخصية من سقى الكلب ولو كانت مومسا تتاجر بعرضها مع الزناة والفاسقين.
وفى مسند أحمد بن حنبل عن جابر بن عبد الله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كُنَّ له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة البتة. قال: قيل: يا رسول الله، فإن كانت اثنتين؟ قال: وإن كانت اثنتين. قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة، لقال: واحدة". وفى مسند الإمام أحمد عن الصديقة بنت الصديق رضى الله عنها: "جاءت امرأة ومعها ابنتان لها تسألني فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فشقتها باثنين بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت هي وابنتاها. فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ابتُلِيَ من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار". وفى مسند ابن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ضم يتيما بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة البتة. ومن أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار، يجزي بكل عضو منه عضوا منه من النار". وفى مسند أحمد عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، وجبت له الجنة". وفى مسند أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث: الكِبْر والغُلول والدَّيْن، فهو في الجنة أو وجبت له الجنة". وفى سنن ابن ماجة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن السّقْط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقال: أيها السقط المراغم ربه، أدخل أبويك الجنة. فيجرهما بسَرَره حتى يدخلهما الجنة". وفى سنن أبى داود: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة (وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة): امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا". وفى مسند ابن حنبل عن عقبة بن عامر الجهنى: "من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله عز وجل (فقال أبو عشانة مرة: في سبيل الله، ولم يقلها مرة أخرى) وجبت له الجنة". وفى البخارى عن عَدِىّ بن حاتم "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوَّذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوَّذ منها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشِقّ تمرة. فمن لم يجد فبكلمة طيبة".
وأخيرا وليس آخرا هذا الحديث الجميل الذى يشيع السكينة فى جنبات النفس، وهو من أحاديث الإمام البخارى: "عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: يا معاذ. قلت: لَبَّيْك يا رسول الله وسَعْدَيْك! ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ. قلت: لَبَّيْك رسول الله وسَعْدَيْك! ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لَبَّيْكَ رسول الله وسَعْدَيْك! قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم". فانظر كيف يتحول الأمر إلى حقوق وواجبات لكل من الطرفين وعلى كل من الطرفين، وكأننا بإزاء دستور سياسى، وليس علاقة بين الله وعباده! فأية روعة تلك! وهذه كلها مجرد أمثلة لا غير، وقد ذُكِرَتْ فيها الجنة صراحة أو ضمنا، وإلا فهناك شواهد كثيرة مثلها. فهذه هى بعض من القيم التى أتى بها رسول الإسلام، وليست المسالة أنه أتى بشىء جديد، والسلام، فلم يوافقوه فهددهم بالنار: هكذا من الباب للطاق! كما أنه ليس من الإنسانية أن يتدهدى أقوام إلى الدرك الأسفل من التوحش والتخلف فيؤمنوا بالأصنام ويظنوا أنها آلهة تنفع وتضر ويقدموا لها القرابين ويعبدوها من دون الله، فضلا عن إدمانهم الخمر والقمار، وارتكاسهم فى ظلم اليتامى والمساكين وتطفيف الكيل والميزان وهضم حقوق النساء... إلى آخر ما نعرفه من أوضاع الجاهلية المزرية التى جاء الإسلام فأصلحها ووضع الأمور فى نصابها، خالقا بذلك من العرب البدو المتخلفين المتوحشين أمة متحضرة قادت ركب التقدم والعلم لقرون متعددة فى وقت كانت أوربا المسيحية تغط فى جهل مقيت وتوحش فظيع.
إن الإكراه فى الإسلام أمر غير متصوَّر، إذ هو ينافى طبيعته: "لا إكراه فى الدين. قد تَبَيَّن الرُّشْدُ من الغَىّ" (البقرة/ 256)، "وقل: الحقُّ من ربكم، فمن شاء فلْيؤمنْ، ومن شاء فلْيكفرْ" (الكهف/ 29)، "ولوشاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا. أفأنت تُكْْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس/ 99). بل إن المسلم مأمور من ربه أن يحسن صحبة أبويه المشركين حتى لو جاهداه على الشرك بالله: "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)" (لقمان). كذلك لو كان هناك مشرك محارب، ثم جاء هذا المشرك مستجيرا بالمسلمين لكان واجبهم أن يجيروه، ثم بعد أن يسمع كلام الله عليهم أن يُبْلِغوه مَأْمَنَه: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)" (التوبة). وإلإسلام لا ينهى أبدا أتباعه عن موادة غير المسلمين إلا إذا كانوا يعتدون عليهم ويخرجونهم من ديارهم ويستولون على ممتلكاتهم. أما من دون ذلك فمن واجبهم أن يبروهم ويقسطوا إليهم لأن الله يحب المقسطين: "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)" (الممتحنة).
هذا، ولا نكران أن الإسلام يوجب على أتباعه رد العدوان بمثله، لكنه لا يجيز الاعتداء على مخالفيه بغيا وظلما مهما استحكمت بين الفريقين العداوة والبغضاء: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)" (البقرة)، "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)" (البقرة)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)" (المائدة)، وذلك رغم ما صبه المشركون على رؤوس المسلمين من عذاب وتنكيل وقتل وترويع وحصار وتهجير ومصادرة للأموال والممتلكات وتجييش للجيوش بغية القضاء عليهم وعلى دينهم. أى أن المسلمين هم الذين وقع عليهم لا منهم الأذى والعدوان. وحين دانت لهم الدنيا وصارت لهم إمبراطورية لم يكرهوا أحدا على اعتناق دينهم ولم يضطهدوا أحدا لتمسكه بدينه، بل تركوا كُلاًّ وما يعتقد. ولهذا بقيت الأقليات المسيحية لم تنقرض ولم تختف فى ظل الدولة الإسلامية، على عكس الحال فى الدول المسيحية حيث لم يكن هناك ولو خرم إبرة لغير المسيحيين كما هو الوضع فى الأندلس بعد انتصار المسيحيين على المسلمين، إذ أكرهوهم إكراها على التنصر أو قتلوهم أو نَفَوْهم من البلاد رغم أن البلاد هى بلادهم، إذ كان المسلمون هناك مثلما هو الحال فى أى بلد آخر هم من أهل البلد لا كما يزعم المسيحيون دائما كذبا وزورا أنهم عرب أتوا من آخر الدنيا متجاهلين أن العرب من المسلمين فى كل بلد مسلم لا يشكلون إلا كسرا ضئيلا جدا لا يكاد يذكر، إذ لا يزيد فى أقصى أحواله من بين السكان الذين يعدون بالملايين على بضع عشرات من الآلاف كما هو معروف، والباقون وطنيون من أهل البلاد، وكما هو الوضع أيضا فى أمريكا حيث قضى المسيحيون الأوربيون على الهنود الحمر، وكما هو الوضع فى أستراليا حيث محوا سكان البلاد الأصليين كلهم تقريبا من الوجود.
وها هو ذا الكاتب الإسرائيلى يورى أفنيرى يرد على من يتهمون الإسلام كذبا وبهتانا، ومنهم بابا روما الحالى بينيدكت السادس عشر، بأنه انتشر بالسيف. يقول أفنيرى فى مقال له منشور فى عدد غير قليل من المواقع المشباكية بعنوان "سيف محمد" (ترجمة خالد الجبيلى): "منذ أن بدأ الأباطرة الرومان يلقون بالمسيحيين طعاما للأسود طرأت تغيرات كثيرة على العلاقات بين الأباطرة ورؤوس الكنيسة. وبدأ قسطنطين الكبير، الذي أصبح إمبراطورا في سنة 306، أي قبل 1700 سنة تماما، يشجع على اعتناق المسيحية في إمبراطوريته، التي كانت تشمل فلسطين كذلك. وبعد عدة قرون انشقت الكنيسة إلى قسمين لتصبح كنيسة شرقية (أرثوذوكسية) وكنيسة غربية (كاثوليكية). وفي الغرب طلب أسقف روما، الذي حاز على لقب البابا، أن يقبل الإمبراطور سيادته وتفوقه.
وقد لعب الصراع بين الأباطرة والباباوات دورا محوريا في التاريخ الأوروبي، وأدى إلى تقسيم الشعوب والأمم. وقد شهد هذا الصراع تقلبات كثيرة، فقد أقدم بعض الأباطرة على عزل أو طرد أحد الباباوات، وقام بعض الباباوات بعزل أو طرد أحد الأباطرة. وكان الإمبراطور هنري الرابع "قد توجه إلى كانوسا سيرا على الأقدام، ووقف أمام القلعة التي يقيم فيها البابا مدة ثلاثة أيام حافي القدمين في الثلج، إلى أن تنازل البابا وألغى أمر حرمانه وطرده من الكنيسة".
إلا أنه مرت فترات في التاريخ عاش فيها الأباطرة والباباوات في وئام وسلام. ونحن نشهد مثل هذا الفترة في أيامنا هذه، إذ توجد بين البابا الحالي، بنيديكت السادس عشر، والإمبراطور الحالي، جورج بوش الثاني، مرحلة رائعة من الانسجام والاتفاق، وإذ تتوافق الكلمة التي ألقاها البابا في الأسبوع الماضي، والتي أثارت عاصفة عالمية، مع الحملة الصليبية التي يشنها بوش ضد "الفاشيين الإسلاميين" في سياق "صراع الحضارات". ففي المحاضرة التي ألقاها في إحدى الجامعات الألمانية، وصف البابا الـ265 ما يراه اختلافا شاسعا بين المسيحية والإسلام: ففي حين تقوم المسيحية على العقل، فإن الإسلام ينكره. وفي حين يرى المسيحيون منطق أعمال الله، فإن المسلمين ينكرون وجود هذا المنطق في أعمال الله. وبصفتي يهوديا ملحدا، فإني لا أريد أن أدخل في هذه المساجلة. إذ إن فهم منطق البابا يفوق قدراتي العقلية المتواضعة. غير أني لا أستطيع أن أغفل فقرة وردت في كلمته، وهي تخصني أنا أيضا كإسرائيلي يعيش بالقرب من خطّ الاحتكاك هذا بين "حرب الحضارات".
ولكي يثبت البابا انعدام العقل في الإسلام فهو يؤكد أن النبي محمدا أمر أتباعه بنشر العقيدة الإسلامية بحد السيف. وحسبما جاء على لسان البابا فإن هذا شيء غير منطقي لأن الإيمان يولد من الروح لا من الجسد. فكيف يؤثّر السيف على الروح؟ ولإثبات مقولته لم يجد البابا أحدا أفضل من أحد الأباطرة البيزنطيين، الذي كان ينتمي بطبيعة الحال إلى الكنيسة الشرقية المنافسة، ليستشهد بكلامه. ففي أواخر القرن الرابع عشر دار حديث بين الإمبراطور مانويل الثاني بالايولوجس، أو كما قال (إذ يشك في أن يكون هذا قد حدث فعلا)، مع عالم فارسي مسلم لم يذكر اسمه. وفي غمرة النقاش المحتدم ألقى الإمبراطور (كما قال هو نفسه) الكلمات التالية في وجه خصمه: "فقط أرني أشياء جديدة جلبها محمد، ولن تجد سوى أشياء شريرة وغير إنسانية، مثل وصيته التي يأمر فيها بنشر الدين بحد السيف". تفضي هذه الكلمات إلى طرح ثلاثة أسئلة: أ- لماذا قال الإمبراطور هذه الكلمات؟ ب- وما مدى صحتها؟ ج- ولماذا استشهد البابا الحالي بكلامه؟
عندما كتب مانويل الثاني أطروحته كان على رأس إمبراطورية تحتضر. فقد تبوأ السلطة في سنة 1391، التي لم يكن قد بقي منها سوى بضعة أقاليم من الإمبراطورية التي كانت ذائعة الصيت ذات يوم، والتي أضحت كذلك تحت رحمة التهديد التركي. في ذلك الوقت كان العثمانيون الأتراك قد وصلوا إلى ضفاف الدانوب، واحتلوا بلغاريا وشمال اليونان، وهزموا الجيوش التي كانت قد بعثت بها أوروبا مرتين لإنقاذ الإمبراطورية الشرقية. وفي سنة 1453، وبعد موت مانويل بسنوات قليلة، سقطت القسطنطينة (إستنبول حاليا) بيد الأتراك. وهكذا انتهت الإمبراطورية الذي دامت لأكثر من ألف سنة. وجاب مانويل خلال فترة حكمه عواصم أوروبا للحصول على دعم منها. وكان قد وعد بتوحيد الكنيسة مجددا. ومما لا شك فيه أنه كتب أطروحته الدينية هذه لكي يحرّض الدول المسيحية ضد الأتراك، وليقنعها بشن حملة صليبية جديدة. كان الهدف ذا طابع عملي، وكان الدين يعمل لخدمة السياسة.
لذلك فإن هذا الاستشهاد يخدم مآرب الإمبراطور الحالي جورج بوش الثاني. فهو أيضا يريد أن يوّحد العالم المسيحي ضد "محور الشرّ" المسلم. كما أن الأتراك يقرعون أبواب أوروبا ثانية، لكن بسلام هذه المرة. ومن المعروف أن البابا يؤيد الدول التي تعارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي. هل توجد أيّ حقيقة في الحجّة التي أوردها مانويل؟ كان البابا نفسه قد ألقى كلمة ليكون في حيطة من أمره. فكونه عالما دينيا جديا ومشهورا فإنه لا يستطيع أن ينقض النصوص المكتوبة ويكذّبها. لذلك اعترف بأن القرآن قد حرّم بوضوحٍ نشرَ العقيدة باستخدام القوة. فقد اقتبس من سورة البقرة، الآية 256 (من الغريب القول بأنه معصوم عن الخطأ بصفته البابا، وأخطأ وقال الآية 257) التي تقول: "لا إكراه في الدين". كيف يمكن للمرء أن يتجاهل مثل هذا التصريح الواضح والجلي؟ لكن البابا يجادل بأن النبي محمدا كان قد جاء بهذه الآية عندما كان لا يزال في بداية رسالته، وكان لا يزال ضعيفا لا حول له ولا قوة، لكنه عندما اشتد عوده أمر أتباعه باستخدام السيف لنشر العقيدة. إلا أن هذا الأمر لم يرد في القرآن. صحيح أن محمد دعا إلى استخدام السيف لمحاربة القبائل التي حاربته وعارضته (مسيحيون ويهود وآخرون) في الجزيرة العربية عندما كان في طور إنشاء دولته. بيد أن هذا كان عملا سياسيا، وليس دينيا. كان في جوهره صراع على الأرض، لا من أجل نشر الدين.
قال المسيح: "من ثمراتهم يُعْرَفون"، إذ يجب الحكم على الطريقة التي عامل فيها الإسلام الديانات الأخرى، وذلك بإجراء اختبار بسيط: فكيف تصرف الحكّام المسلمون منذ أكثر من ألف سنة عندما كانوا يملكون القوة ويستطيعون "نشر الدين بالسيف"؟ حسنا، فهم لم يفعلوا ذلك. فقد دام حكم المسلمين على اليونان قرونا عديدة، لكن هل أصبح اليونانيون مسلمين؟ هل حاول أحد أن يرغمهم على اعتناق الإسلام؟ على العكس فقد تبوأ المسيحيون اليونانيون أعلى المناصب في الإدارة العثمانية، وعاش البلغاريون والصرب والرومانيون والهنغاريون وشعوب دول أوربية أخرى لفترات متفاوتة تحت حكم الدولة العثمانية، وتمسكوا بدينهم المسيحي، إذ لم يرغمهم أحد على اعتناق الإسلام، وظلوا جميعهم مسيحيين أتقياء. صحيح أن الألبانين اعتنقوا الإسلام، وكذلك البوشناق. لكن لا يستطيع أحد أن يدّعي بأنهم اعتنقوا الإسلام بالإكراه، بل اعتنقوه لتكون لديهم حظوة لدى الحكومة وليتمتعوا بخيراتها.
في عام 1099 غزا الصليبيون القدس وأعملوا في سكانها المسلمين واليهود قتلا وذبحا بدون تمييز، وذلك باسم السيد المسيح المتسامح الرقيق الجانب. في ذلك الحين كان قد مضى على احتلال المسلمين لفلسطين 400 سنة، وكان المسيحيون لا يزالون يشكلون غالبية السكان في البلاد. وخلال هذه الفترة الطويلة لم يبذل المسلمون أي جهد لفرض دينهم عليهم. أما بعد أن ُطرِد الصليبيون من البلاد بدأ معظم السكان يتكلمون اللغة العربية وأخذوا يعتنقون الدين الإسلامي، وهم أسلاف معظم فلسطينيي اليوم.
لا يوجد أي دليل على الإطلاق على وجود أي محاولة لفرض الإسلام على اليهود. وكما هو معروف تماما فقد نعم يهود أسبانيا، تحت حكم المسلمين، بازدهار لم يتمتع به اليهود في أي مكان من العالم حتى وقتنا هذا تقريبا. فقد نظم شعراء مثل يهودا هاليفي (الشاعر الأندلسي المعروف باسم أبو حسن اللاوي) باللغة العربية، كما كان يفعل الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون العظيم. وفي أسبانيا الإسلامية شغل اليهود مناصب وزراء، وكانوا شعراء وعلماء معروفين. وفي طليطلة الإسلامية كان العلماء المسلمون واليهود والمسيحيون يعملون معا، وقاموا بترجمة النصوص اليونانية الفلسفية والعلمية القديمة. كان ذلك حقا عصرا ذهبيا. فهل من الممكن أن يكون النبي قد أمر "بنشر الدين بالسيف"؟
لكن ما حدث بعد ذلك لهو أشد أثرا في النفس. فعندما احتل الكاثوليك إسبانيا ثانية واستردوها من المسلمين فرضوا عهد الإرهاب الديني، إذ كان أمام اليهود والمسلمين خياران قاسيان لا ثالث لهما: فإما أن يعتنقوا المسيحية أو أن يُقْتَلوا أو يغادروا البلاد. وإلى أين هرب مئات الآلاف من اليهود الذين رفضوا أن يتخلوا عن دينهم؟ لقد اسْتُقْبِلوا جميعهم تقريبا بحفاوة في البلدان الإسلامية، إذ استقر اليهود السيفارديم (الأسبان) في جميع أرجاء العالم الإسلامي: من المغرب غربا وحتى العراق شرقا، ومن بلغاريا (التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية آنذاك) شمالا وحتى السودان جنوبا. ولم يتعرضوا للاضطهاد في أي بقعة انتقلوا إليها، ولم يعرفوا شيئا مثل التعذيب الذي كانت تمارسه محاكم التفتيش، وأعمال الحرق علنا في الساحات العامة، وعمليات القتل والذبح، والطرد الجماعي الفظيع الذي حدث في جميع البلدان المسيحية تقريبا حتى وقوع المحرقة.
لماذا؟ لأن الإسلام حرّم صراحةً ممارسة أيّ اضطهاد على "أهل الكتاب"، فقد كان اليهود والمسيحيون يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع الإسلامي. صحيح أنه لم تكن لهم حقوق متساوية تماما مع السكان المسلمين، إلا أنهم كانوا يتمتعون بجميع الحقوق تقريبا، فقد كانوا يدفعون الجزية، لكنهم كانوا مُعْفَيْنَ من الخدمة العسكرية. وهذه مقايضة لاقت ترحيبا كبيرا لدى الكثيرين من اليهود. وذُكِر أن الحكّام المسلمين كانوا يرفضون أيّ محاولة لجعل اليهود يعتنقون الإسلام حتى بالحسنى لأن ذلك كان سيؤدي إلى خسارة الضرائب التي يدفعونها. لا يمكن لأيّ يهودي صادق يعرف تاريخ شعبه جيدا إلا أن يشعر بالامتنان العميق للإسلام والمسلمين، الذين قدموا الحماية لليهود على مدى خمسين جيلا، في الوقت الذي كان فيه العالم المسيحي يضطهد اليهود، وحاول في أحيان كثيرة "بالسيف" أن يجعلهم يتخلون عن دينهم.
إن قصة "نشر الدين بحد االسيف" أسطورة شريرة وآثمة. إنها إحدى الأساطير التي ظهرت في أوروبا في أثناء قيام حروب كبرى ضد المسلمين: استرداد أسبانيا على يد المسيحيين، الحملات الصليبية، وطرد الأتراك الذين أصبحوا على أبواب فيينا. إني أشكّ في أن البابا الألماني أيضا يؤمن بهذه الخرافات حقا. وهذا يعني أن زعيم العالم الكاثوليكي، الذي يعد عالما في الدين المسيحي عن جدارة، لم يبذل أي جهد في دراسة تاريخ الديانات الأخرى. لماذا قال هذه الكلمات على الملأ؟ ولماذا الآن؟ لا مفر من رؤيتها من زاوية الحملة الصليبية الجديدة التي يشنّها بوش وأتباعه الإنجيليون بشعاراته: "الفاشية الإسلامية"، و"الحرب العالمية على الإرهاب" عندما أصبح "الإرهاب" مرادفا لكلمة المسلمين. فبالنسبة لأعوان بوش فإن هذه مجرد محاولة سافرة لتبرير هيمنتهم على منابع النفط في العالم. فليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تنشر فيها عباءة دينية لتغطية عُرْي المصالح الاقتصادية. ليست هذه هي المرة الأولى التي تتحول فيها الحملات اللصوصية إلى حملة صليبية. إن الكلمة التي ألقاها البابا تندرج في هذا المسعى. لكن من يستطيع أن يتنبّأ بالعواقب المريعة؟".
كذلك ينهال رَسِلْ على الكنيسة براجماتِ صواريخه مؤكدا أن الكنيسة كانت وما زالت تقف ضد العلم وضد كل قيمة كريمة وأنها كانت ولا تزال تأخذ دائما جانب الاستبداد والعنصرية والخرافة والاستعمار... إلخ: "كلما ازداد التحمس للدين (يقصد الدين المسيحى) وتصلَّب الاعتقاد في أي عصر من العصور تعاظمت الوحشية وساءت الأحوال. وفيما يسمى بـ"عصور الإيمان"، عندما كان المسيحيون يؤمنون إيمانا كاملا بالمسيحية، كانت هناك محاكم التفتيش بكل ما كانت تنزله بالناس من ألوان التعذيب. لقد أُحْرِقَت فيه ملايين النساء بتهمة ممارسة السحر، ومورست كل أشكال القسوة ضد الناس باسم الدين. وإذا نظرتم حولكم فى كل مكان فلسوف تلاحظون أن كل تحضر فى المشاعر الإنسانية، وكل تطور في مجال القانون، وكل خطوة نحو مناهضة الحرب، وكل دعوة لتحسين معاملة الأجناس الملونة، وكل محاولة لتخفيف ويلات العبودية، وكل تقدم أخلاقى فى العالم، سوف تلاحظون أن كل هذه الأمور قد وقفت الكنائس فى كل أنحاء العالم ضدها. وأنا أصرح بكل ما أوتيت من ثقة أن الدين المسيحي متمثلا فى كنائسه هو العدو الرئيسى للتقدم الأخلاقى فى العالم".
هذا ما قاله برتراند رسل عن المسيحية، وإلى القارئ بعض ما هو معروف من موقف الإسلام من تلك القضايا والقيم. وبين الموقفين فرقُ ما بين المشرق والمغرب. وسوف نكتفى بوضع النصوص بين يدى القارئ، ثم نخلى بينه وبين عقله ينظر ويقارن ويحكم. ففى القرآن المجيد: "وقل: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، "ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كُفْرَان لسعيه"، "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يُجْزَى إلا مثلها، وهم لا يُظْلَمون"، "قل: يا عبادىَ الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم"، "وقل: رب، زدنى علما"، "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب". وفى الأحاديث النبوية الكريمة: "الدنيا حلوةٌ خَضِرَةٌ، فمن أخذها بحقّه بورك له فيها"، "نِعْمَ المالُ الصالحُ للرجل الصالح"، "سعادة لابن آدم ثلاث، وشقاوة لابن آدم ثلاث. فمن سعادة ابن آدم الزوجة الصالحة، والمركب الصالح، والمسكن الواسع. وشقوة لابن آدم ثلاث: المسكن السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء"، "لأن يحتطب أحدكم حزمةً على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه"، وفى الحديث "أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقَعْبٌ نشرب فيه من الماء. قال: ائتني بهما. قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُومًا فأتني به. فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبِعْ، ولا أَرَيَنَّك خمسة عشر يوما. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع"، "والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم"، "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع"، و"إن الله عز وجل أوحى إليّ أنه من سلك مسلكا فى طلب العلم سهّلتُ له طريق الجنة"، و"فضلٌ في علمٍ خيرٌ من فضلٍ في عبادة"، "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما. ورَّثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، "من نفَّس عن مؤمن كربةً من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسَّر على مُعْسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، "إذا اجتهد (الشخص) فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر"، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، "إماطة الأذى عن الطريق صدقة"، "النظافة من الإيمان"، "إن الله جميل يحب الجمال"، "تدخلون عليّ قُلْحًا (أى صُفْرَ الأسنان)! استاكوا، فلولا أن أَشُقّ على أمتي لفرضتُ عليهم السواك عند كل صلاة"، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس و اللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (بيده) أنِ اخْرُجْ (كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته)، ففعل الرجل ثم رجع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟"، "إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فَسِيلة فليغرسها"، "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواءً، فتَدَاوَوْا"، "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"، "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"، "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا. ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"، "غُفِر لأمرأة مومسة مرت بكلب على رأسِ رَكِيٍّ يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغُفِر لها بذلك"، "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بَلَغ بي. فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: في كل ذاتِ كبدٍ رَطْبَةٍ أجر"، "دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستْها: فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض"، "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم (ابن النبى)، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي". والآن ما رأى برتراند رسل فيلسوفنا الكبير؟
أما بالنسبة إلى محاكم التفتيش، تلك المؤسسة الإجرامية التى عرفتها البشرية فى ظل الحكم المسيحى فى أسبانيا وغيرها فمن المستحسن أن نسوق بعض النصوص التى تعرّف بها حتى يكون القارئ على بينة مما يتحدث عنه رَسِلْ بكل هذا الغضب النبيل. إنها هيئات أنشأتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للقبض على الأشخاص المعارضين لتعاليم الكنيسة ومحاكمتهم. وقد أقيمت هذه المحاكم في كثير من أرجاء أوروبا، إلا أن محكمة التفتيش الأسبانية كانت هي أكثرها شهرة. ومنها تلك المحاكم التي أقامها الملك فرديناند الخامس وزوجته إيزابيللا للتجسس على أهل الأندلس المسلمين الذين تم تنصيرهم قسرا، وللتنكيل الوحشى بهم. وكانت تعاليم الكنيسة تعد أساسًا للقانون والنظام ابتداءً من حكم الإمبراطور الروماني قسطنطين (306- 337م)، وكان الخروج عليها جريمة ضد الدولة. وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين ثارت جماعات معينة من الرومان الكاثوليك ضد كنيستهم، وبعد أن رفض بعض الحكام المدنيين أو عجزوا عن معاقبة المهرطقين تولت الكنيسة هذه المهمة. وفي عام 1231م أنشأ البابا جريجوري التاسع محكمة خاصة للتحقيق مع المتهمين وإجبار المارقين على تغيير معتقداتهم. وبعد نحو قرنين من الزمان تولت لجنة الكرادلة التابعة للمكتب البابوي عملية التحقيق. وكثرت محاكم التفتيش في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، وكان التعذيب وسيلة اعتيادية جدا فى تلك المحاكم، ومنه حرق المحكوم عليهم أحياءً.
حوار بينى وبين الفيلسوف البريطانى
د. إبراهيم عوض
لا أدرى متى سمعت لأول مرة فى حياتى باسم برتراند رَسِلْ (1872- 1970م)، الفيلسوف الإنجليزى المشهور، الذى اهتممت به اهتماما خاصا وأنا طالب فى الجامعة، ومن ثم شرعت أقرأ عنه وله، بدءًا بما كتبه د. زكى نجيب محمود عن الوضعية المنطقية، ذلك المذهب الفلسفى الذى كان يتحمس له كاتبنا المصرى أشد التحمس، وكتب بوَحْىٍ منه كتابه المعروف: "خرافة الميتافيزيقا". إلا أننى ما زلت حتى الآن أذكر بكل وضوحٍ الحوارَ الذى دار عام 1970م بينى وبين زميل لى فى جامعة القاهرة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى التحقت بها لدن دخولى الجامعة، لكنى لم أبق فيها سوى ثلاثة أيام ليس إلا وبشِقِّ النَّفْس، ثم لم أطق بعدها صبرا فحولت أوراقى إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب فى نفس الجامعة. وكنا أنا والزميل المذكور نسير أمام باب حديقة الأورمان المواجه لشارع الدقى بين العصر والمغرب كعادتنا فى نزهاتنا أيامئذٍ قاصِدَيْن ميدان التحرير على أقدامنا ومتناوِلَيْن ما يعنّ لنا من موضوعات أو ما يكون منها حديث الساعة فى الصحف. وكانت ترجمة كتاب رَسِلْ المعروف بـ"سيرتى الذاتية" قد صدرت لتوها، وكانت، إن لم تتلاعب بى الذاكرة، موضوع نقاش فى الجرائد المصرية. ولم نكن قد قرأنا الكتاب، وإن كنا نتابع ما يكتب عنه فى الصحف وقتذاك. وكنا حديثى عهد بالمحاكمة الدولية التى عقدها رَسِل وبعض المفكرين الأوربيين للرئيس الأمريكى جونسون على جرائمه وجرائم دولته فى فيتنام، وهو ما حظى منا بالإكبار. ثم زاد تقديرى للرجل وأنا أكتب هذه الدراسة حين وقعتُ على مقال يشير إلى لجنة شكلتها مؤسسة برتراند رسل للسلام سنة 1967م للنظر فى الأعمال الإجرامية التى ارتكبها الصهاينة فى فلسطين، إذ كنت أظن أن رَسِلْ لم يبد اهتماما بقضية العرب والمسلمين مثلما أبدى اهتمامه بفييتنام، وأستغرب لذلك الصمت وأعده أمرا شائنا. ثم هأنذا أعلم أنه لم يفته هذا الواجب الإنسانى الكريم.
ليس ذلك فقط، بل إن آخر نشاط سياسى قام به قبيل وفاته 1970م هو تجريمه العدوان الإسرائيلى على البلاد العربية عام 1967م ومناداته بانسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها أثناء ذلك العدوان. وهذا نص ما كتبه فى هذا الصدد: "The tragedy of the people of Palestine is that their country was "given" by a foreign power to another people for the creation of a new state. The result was that many hundreds of thousands of innocent people were made permanently homeless. With every new conflict their numbers increased. How much longer is the world willing to endure this spectacle of wanton cruelty? It is abundantly clear that the refugees have every right to the homeland from which they were driven, and the denial of this right is at the heart of the continuing conflict. No people anywhere in the world would accept being expelled in masses from their own country; how can anyone require the people of Palestine to accept a punishment which nobody else would tolerate? A permanent just settlement of the refugees in their homeland is an essential ingredient of any genuine settlement in the Middle East. We are frequently told that we must sympathise with Israel because of the suffering of the Jews in Europe at the hands of the Nazis. [...] What Israel is doing today cannot be condoned, and to invoke the horrors of the past to justify those of the present is gross hypocrisy"
ولا أستطيع الآن أن أتذكر السبب الذى جعلنى وزميلى نتساءل ونحن مارّان أمام بوابة الأورمان: ترى ماذا سيكون مصير برتراند رَسِلْ يوم القيامة؟ وكان رد زميلى هو أنه مخطئ، وسوف يحاسبه الله على عدم إيمانه بالإسلام. لكن كان رأيى أن الإنسان قد يطلب الحق فيخطئه، كما لا ينبغى أن ننسى أن رَسِلْ ابن بيئة تختلف عن بيئتنا تشرّب منها موقفها من الإسلام، ومن ثم لا يصح أن نسوى بيننا وبينه من حيث الفرص المتاحة للتعرف إلى الإسلام على الوجه الصحيح. لكن زميلى أصر على كلامه قائلا إن أى إنسان لا يمكن أن يضل عن حقيقة الإسلام متى كان مخلصا فى بحثه، بل لا بد أن يصل حتما إلى وجه الصواب فيه. ومع هذا فقد بقيت أنا على رأيى قائلا إنه ليس مستحيلا أن يطلب الشخص الوصول إلى الحق لكنه، لسب أو لآخر، لا يستطيع بلوغه، وهو ما أرى الآن بكل وضوح أنه يتمشى مع حديث الرسول الكريم عن أجر المجتهد فى حالة خطئه وفى حالة صوابه، إذ إن هذا الحديث العبقرى العجيب إنما يعنى أن المجتهد يمكن جدا، رغم إخلاصه وشدة تقصيه، أن يخطئ الهدف فلا يصل إلى الصواب الذى وضعه نصب عينيه، وإن كنت رغم ذلك أرى أنه يجب علينا أن نترك لله سبحانه وتعالى وحده الحكم على نية الباحث عن الحق ومدى إخلاصه أو عدم إخلاصه وإلى أى حد يمكن معذرته بتأثير البيئة عليه أَوْ لا... إلخ. على أن ليس معنى ذلك ترك كل إنسان يقول ما يشاء دون الرد أو التعقيب عليه، بحجة أن هذا هو اقتناعه. ذلك أننى أنا أيضا لى اقتناعاتى، ومن حقى بل من واجبى أن أعلنها وأدعو إليها وأبسط الحجج التى أستند عليها فى تلك الدعوة.
وفى ذات الوقت ينبغى مراعاة طبيعة موقف كل شخص لا يؤمن بالإسلام من الإسلام، وهل يا ترى يقف منه موقف العداء والحقد؟ أم هل يقف منه موقف المسالمة والاحترام؟ ففيلسوفٌ مثلُ رَسِلْ لا يصح أن يعامَل كأى سفيه حقير ممن يُقِلّون أدبهم على المسلمين وعلى دينهم ورسولهم وقرآنهم من المستشرقين والمبشرين وأولئك الأوباش طوال اللسان قصار العقل من المهجريين المصريين. فالرجل لم يمنعه إلحاده من أن يذكر الإسلام بخير ويقول عنه كلاما طيبا كما سوف نرى. صحيح أنه غير كاف، لكن ليس من العدل ولا من المروءة أن نسوى بين صاحبه وبين أولئك السفهاء الشتامين.
وصحيح أيضا أننى لم أكن وقتذاك أعرف أن لرَسِلْ كلاما طيبا فى حق الإسلام، وإن كنت أعلم فى ذات الوقت أن له كتابا عن "تاريخ الفلسفة الغربية" تعرَّض فيه للإسلام ونبيه، إلا أننى كنت أجهل ما قاله فى ذلك الموضوع لأن الكتاب الذى كان فى يد زملائى كان بالإنجليزية، على حين كانت لغتى الأجنبية الأولى هى الفرنسية، ولم أكن قد تعلمت لغة جون بول بعد على النحو الذى يؤهلنى للقراءة بها بسهولة ويسر، كما لم أكن على علم بأن الكتاب قد تُرْجِم إلى العربية: ترجمه أحمد أمين وزكى نجيب محمود. بل لقد حاولت مؤخرا أن أعثر على تلك الترجمة فلم يتيسر لى إلا جزء واحد منها فقط، وهو عن الفلسفة الغربية الحديثة مما لا علاقة له بالإسلام ونبيه. كذلك لم أكن أعرف إلا مؤخرا جدا أن خاله الأكبر هنرى كان مسلما! جاء ذكر ذلك فى الصفحات الأولى من "سيرته الذاتية"، ووصفه كالعادة بأنه "محمدى"، كما جرده من كل مزايا الأسرة ورماه بأنه أكثر من عرفهم إثارة للملل، وإن لم يُعْفِ الأخوال الآخرين وأمهم من الانتقاد هم أيضا. وهذه هى عبارته نصا، والإشارة فيها إلى جدته لأمه: "Her eldest son was a Mohammedan… Henry, the Mohammedan, was devoid of all the family merits, and was, I think, the greatest bore I have ever known"، وإن كان مترجمو الكتاب إلى العربية قد استخدموا كلمة "مسلم" بدلا من "محمدى".
وكنا أنا وزميلى فى ذلك الوقت نقرأ، ضمن ما نقرأ، بعض كتب الشيخ شلتوت التى كنا نستمتع بمطالعتها لما يتمتع به الشيخ الكريم من بساطة فى الأسلوب وصفاء فى الرؤية وعمق فى التحليل وسماحة فى الفهم والحكم. ولكنى لست أدرى هنا أيضا أكنت قرأت له تفسير العشرة الأجزاء الأولى من القرآن الكريم أم لا. لكنى على أية حال قد سُرِرْتُ لـمّا قرأتُ (متى بالضبط؟) تفسيره رحمه الله لقوله تعالى فى الآية 115 من سورة"النساء": "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، فهو تفسير يتسق مع ما قلته لزميلى فى ذلك النقاش الذى أتحدث عنه، إذ قال ذلك العلامة الكبير ما معناه أن من سوف يصلى جهنم ممن لم يؤمنوا بالإسلام هو من تبين له الهدى لكنه عاند وكفر كبرا أو خوفا على مصلحة شخصية زائلة أواتباعا لشهوة دنيوية أو تطلعا إلى كسب مال أو إحراز منصب أو ما إلى ذلك. أما من لم يتبين له الهدى لأنه لم يسمع بالإسلام، أو سمع به لكن على نحو مشوه من شأنه أن ينفر الناس منه، أو اجتهد وفكر لكن حالت ظروفه دون تبين الهدى، فإنه لا يشمله هذا الوعيد. ويدخل فى ذلك على سبيل المثال الأمم التى لم تصلها دعوة الإسلام أصلا، أو وصلت إليها على غير حقيقتها فنفرتها منه، أو وصلت إليها على حقيقتها إلا أنها لم تستطع أن تبصر نور الهداية لسبب أو لآخر رغم إخلاص النية والتجرد فى البحث عن الحق.
وهذا الذى قاله شلتوت، رضى الله عنه، ليس رأيا ينفرد وحده به، فعلى سبيل المثال يقول الإمام الغزالى فى كتابه: "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" إن "من كذَّبه (صلى الله عليه وسلم من الأمم الأخرى) بعدما قرع سمعه بالتواتر عن خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة للعادة، كشق القمر وتسبيح الحصا ونبع الماء من بين أصابعه والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه... فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر، فأدركه الموت قبل تمام التحقيق، فهو مغفور له ثم له الرحمة الواسعة. فاسْتَوْسِعْ رحمة الله الواسعة، ولا تَزِنِ الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية. واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا: فـ"ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلا كنفسٍ واحدة". فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة، أو في حالة يُغْبَطها، إذ لو خير بينها وبين الإماتة والإعدام مثلا لاختارها، وإنما المعذب الذي يتمنى الموت نادر، فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين والمخرجين منها في الآخرة نادر. فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالنا، وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك. ولولا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى حيث قال : أوّلُ ما خطّ اللهُ في الكتاب الأوّلِ: أنا الله، لا إله إلا أنا. سبقت رحمتي غضبي. فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فله الجنة".
ويقول الإمام الرازى صاحب "مفاتيح الغيب" فى المسألة الخامسة من مسائله فى تفسير آية سورة "النساء" المذكورة آنفا، ولكن على نحو موجز، إن "الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال، وذلك لأنه تعالى شَرَط حصول الوعيد بتبين الهدى. ولو لم يكن تبين الهدى معتبرا في صحة الدين لم يكن لهذا الشرط معنى". وفى تفسير ابن كثير: "قوله: "وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ": أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عَمْدٍ منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له...". حتى سيد قطب، الذى قيل فيه ما قيل، يكتب بملء قلمه أنه "قد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يحق عليهم القول ولا يَصْلَوْا جهنم وساءت مصيرا إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا، وبعد أن يبين لهم، وبعد أن يتبينوا الهدى ثم يختاروا الضلالة. وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف. فإذا تبين له الهدى، أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله، ثم شاقّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبيَّن له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم. ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم. وساءت مصيرا"...".
وفى تفسير "المنار" لمحمد رشيد رضا تفصيل للمسألة شديد الاتساع والإمتاع، إذ نقرأ فيه: "قَالَ الاسْتَاذُ الامَامُ: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلَّذِينِ يَتَنَاجَوْنَ بِالْخَيْرِ وَيَبْتَغُونَ بِنَفْعِ النَّاسِ مَرْضَاةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الايَةِ وَعِيدَهُ لاولَئِكَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالشَّرِّ، وَيُبَيِّتُونَ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلنَّاسِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مُشَاقُّونَ لِلرَّسُولِ إِذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ فَلا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَعِيدَ. وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ: فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ فِي الدَّلِيلِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ وَبَقِيَ مُتَوَجِّهًا إِلَى طَلَبِهِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ مَعَ الاخْلاصِ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الاشَاعِرَةِ، وَالْمُشَاقَّةُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِنَّمَا تَكُونُ عِنَادًا وَعَصَبِيَّةً أَوِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَةٍ تَفُوتُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ اهـ.
أَقُولُ: الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَقَّ الْعَصَا، أَوْ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الشَّقِّ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِينَ يَكُونُ فِي شِقٍّ غَيْرَ الَّذِي فِيهِ الآخَرُ كَمَا قَالُوا، وَالْكَلامُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى طُعْمَةَ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِ وَعَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ لانَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُطِرُوا عَلَى تَرْجِيحِ الْهُدَى عَلَى الضَّلالِ وَالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَعَرَفُوهُ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ وَرَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَقَوْمُهُ كَطُعْمَةَ. وَلا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي لا يَقْبَلُ النَّقْضَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْءِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْهُدَى أَوْ أَنَّهُ أَهْدَى مِنْ مُقَابِلِهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُقَابِلٌ. وَسَبَبُ هَذَا وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الإنْسَانَ فُطِرَ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ لَهَا وَالسَّعْيِ إِلَى ذَلِكَ وَاتِّقَاءِ مَا يُنَافِيهِ وَيَحُولُ دُونَهُ. لِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَةُ الاسْلامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَكُلُّ مَا حُرِّمَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتُحِبَّ لَهُمْ فِيهَا فَهُوَ نَافِعٌ لَهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنْ يَتْرُكَهَا أَحَدٌ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهَا وَتَتَبَيَّنَ لَهُ، وَكَانَ إِنْ وَقَعَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ. وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2: 130)، أَيْ لا أَحَدَ يَرْغَبُ عَنْهَا إِلا مَنِ احْتَقَرَ نَفْسَهُ وَأَزْرَاهَا بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى وَتَرْكِهِ وَسَبَبِ ذَلِكَ فَنَقُولُ:
الصِّنْفُ الاوَّلُ: مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ، وَوَصَلَ فِيهِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ. وَهَذَا لا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ اعْتِقَادًا، وَيَنْدُرُ جَدًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَمَلاً. وَلِلاسْتَاذِ الامَامِ كَلِمَةٌ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْحَقِّ كِلاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْنِي الرُّجُوعَ بِالْعَمَلِ، إِذِ الانْسَانُ يَمْلِكُ مِنْ عَمَلِهِ مَا لا يَمْلِكُ مِنَ اعْتِقَادِهِ. فَمَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لا يَكُونُ إِلَهًا وَلا شَرِيكًا لِلَّهِ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ لَوْلاهُ لا يَسْتَطِيعُ بَعْدَ الْيَقِينِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ عُبِدَ وَمِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أَوْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَيَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَدْعُوَهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ، وَأَنْ يَعْبُدَهَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ أَيْضًا كَالتَّمَسُّحِ بِهَا وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَعُدُّهُ أَهْلُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَاتِ، لا مِنْ عُمُومِ الْعِبَادَاتِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتِهَا لا يَفْعَلُهُ. أَيْ لا يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْعَمَلِ إِلا أَنْ يَكُونَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِالدَّلائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا بَعْضُ الاشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لا بِالْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَيْهَا. وَهَؤُلاءِ لا يَرْجِعُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلالِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْهُدَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، إِذْ يَكْفِي أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، فَلا يُشَاقّون مَنْ جَاءَهُمْ بِذَلِكَ وَلا يَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ إِلا لِسَبَبٍ يَقِلُّ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْلِيدًا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّاسِ كَآبَائِهِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ وَرُؤَسَاءَ قَوْمِهِ. وَهَذَا لا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وَالْهُدَى لانَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ. وَلِذَلِكَ يَتْرُكُونَ الْهُدَى إِلَى كُلِّ مَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلالاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالادْيَانِ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى لانَّهُ نَشَأَ عَلَى تَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلالِ، فَلَمَّا دُعِيَ إِلَى الْهُدَى لَمْ يَنْظُرْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ الَّذِي دُعِيَ إِلَى دِينِهِ وَلا تَأَمَّلَ فِي دَلِيلِهِ لانَّهُ صَدَّقَ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلاسْتِدْلالِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ النَّظَرَ فِي الادِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا أَهْلَ الاجْتِهَادِ وَمَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِمْ مَذَاهِبَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا، وَمَنْ نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ زَلَّ وَضَلَّ. وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الادْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ كَالْمَجُوسِ. وَأَمْثَالُ هَؤُلاءِ إِذَا تَرَكَ رُؤَسَاؤُهُمْ دِينَهُمْ أَوْ مَذْهَبَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلا سِيَّمَا إِذَا دَخَلُوا فِي مَذْهَبٍ أَوْ دِينٍ جَدِيدٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ عَدَاوَاتٌ دِينِيَّةٌ وَلا سِيَاسِيَّةٌ تُنَفِّرُهُمْ تَنْفِيرًا طَبِيعِيًّا. وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلُوكَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ إِلَى الاسْلامِ وَكَتَبَ لِكُلِّ رَئِيسٍ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ قَوْمِهِ أَوْ مَرْءُوسِيهِ إِذَا هُوَ تُوَلَّى عَنِ الايمَانِ، وَلَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ الاسْلامِ.
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي التَّقْلِيدِ لاهْلِ الضَّلالِ تَعْظِيمًا لِجُمْهُورِ قَوْمِهِ وَمَنْ نَشَأَ عَلَى احْتِرَامِهِمْ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلالِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّاعِي قَدْ عَرَفَ الْهُدَى مِنْ دُونِهِمْ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الاسْلامِ. وَالايَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِهِمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ سَرْدِهَا. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُقَلَّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالادْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ ذَاتِ الْكُتُبِ وَالْهَيَاكِلِ وَالرُّؤَسَاءِ الرُّوحِيِّينَ أَنَّ تَقْلِيدَ هَؤُلاءِ الْعَرَبِ أَضْعَفُ وَجَذَبَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ أَسْهَلُ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الاسْلامِ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ: عُلَمَاءُ الادْيَانِ الْجَدَلِيُّونَ الْمَغْرُورُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ بِهَا الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْهُدَى فَلَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَاءَ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ بِالاسْتِقْلالِ وَالاخْلاصِ، بَلْ أَعْرَضُوا احْتِقَارًا لَهُ لانَّهُ غَيْرُ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ وَوَثِقُوا بِهِ، وَجَعَلُوهُ مَنَاطَ عَظَمَتِهِمْ، وَحَسِبُوهُ مُنْتَهَى سَعَادَتِهِمْ. وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَلِّدُونَ كَعَامَّتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ أَسْلافِهِمُ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلاحِ وَالْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، وَمِنَ الادِلَّةِ الْجَدَلِيَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ السَّابِعُ: الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الصَّحِيحِ الْمُحَرِّكِ لِلنَّظَرِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا وَلَمْ يُبَالُوا بِهَا لانَّهُمْ رَأَوْهَا بَدِيهِيَّةَ الْبُطْلانِ. وَمِنْ هَؤُلاءِ أَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ لا يَبْلُغُهُمْ عَنِ الاسْلامِ إِلا أَنَّهُ دِينٌ مِنْ جُمْلَةِ الأدْيَانِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَرَعَةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَالأبَاطِيلِ وَمَا هُوَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا اخْتَرَعَ وَافْتَرَى رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الاسْلامِ، وَلا سِيَّمَا مَا كَتَبُوهُ قَبْلَ تَأْلِيبِ الشُّعُوبِ الأورُبِّيَّةِ عَلَى الْحَرْبِ الشَّهِيرَةِ بِالصَّلِيبِيَّةِ. فَهَؤُلاءِ لا يَبْحَثُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الإسْلامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لا يَبْحَثُونَ عَنْ دِينِ الْمُورْمُونِ مَثَلا.
الصِّنْفُ الثَّامِنُ: مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهَا أَوْ غَيْرِ وَجْهِهَا فَنَظَرُوا فِيهَا بِالاخْلاصِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا وَلا تَبَيَّنَتْ لَهُمْ هِدَايَتُهَا، فَتَرَكُوهَا وَتَرَكُوا إِعَادَةَ النَّظَرِ فِيهَا.
الصِّنْفُ التَّاسِعُ: هُمْ أَهْلُ الاسْتِقْلالِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الدَّعْوَةِ كَمَنْ سَبَقَهُمْ، وَلا يَتْرُكُونَ النَّظَرَ وَالاسْتِدْلالَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْحَقُّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَيَدْأَبُونَ طُولَ عُمْرِهِمْ عَلَيْهِ. وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلَ الاسْتَاذُ الامَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الاشَاعِرَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاتِهِمْ لِعُذْرِهِمْ.
الصِّنْفُ الْعَاشِرُ: مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى الْبَتَّةَ. وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَهْلِ الْفَتْرَةِ. وَمَذْهَبُ الاشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَنَاجُونَ.
هَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْهُدَى وَالضَّلالِ، بِحَسَبِ مَا خَطَرَ لِلْفِكْرِ الْقَاصِرِ الآنَ. وَلا يَصْدُقُ عَلَى صِنْفٍ مِنْهَا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلا الأوَّلَ وَالثَّانِي. فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ أَفْرَادِهِمَا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُعَادِ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: "نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"،. وَهُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" (45: 23). وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ، وَصَلْيُهَا الاحْتِرَاقُ بِهَا وَسَائِرُ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا، لانَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَعَانَدُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى.
وَأَمَّا سَائِرُ الاصْنَافِ فَيُوَلِّي اللهُ كُلا مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى أَيْضًا كَمَا هِيَ سُنَّتَهُ فِي الانْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا لَهُ. وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ أَحْوَالَ مَعِيشَتِهِ وَأَسَالِيبَ تَرْبِيَتِهِ، وَسَخَّرَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَاتِيَةِ لِمَنَافِعِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (45: 13). فَهُوَ مُرَبِّي نَفْسِهِ وَمُرَبِّي الطَّبِيعَةِ الَّتِي أَلَّهَهَا بَعْضُ أَصْنَافِهِ جَهْلا مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ لا مُتَصَرِّفَ فَوْقَهُ فِي هَذِهِ الارْضِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الارْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. أَقُولُ هَذَا نَسْفًا لأسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الاورُبِّيَّةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ نَسْفِ أَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْغَابِرَةِ، هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ: "الافْعَالَ الْمُنْعَكِسَةَ" تَعْمَلُ فِي الانْسَانِ عَمَلَهَا وَأَنَّهُ لا عَمَلَ لَهُ بِهَا. وَالصَّوَابُ أنََّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا كَحُكْمِهَا عَلَيْهِ: فَإِنْ تَرَكَ لَهَا الْحُكْمَ اسْتَبَدَّتْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَفِيهَا فَعَلَ.
قُلْتُ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الانْسَانِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلاًّ مِنَ الاصْنَافِ مَا تَوَلَّى، وَلَكِنَّهُ لا يُصْلِي كُلا مِنْهُمْ جَهَنَّمَ الَّتِي سَاءَ مَصِيرُهَا لانَّ إِصْلاءَ جَهَنَّمَ هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَتَوَلاهُ الانْسَانُ مِنَ الضَّلالَةِ فِي اعْتِقَادِهِ. وَنَاهِيكَ بِهِ إِذْ تَوَلاهَا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتِ الْهِدَايَةُ لَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّهَارَةِ وَالزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ بِحَسَبِ تَزْكِيَةِ صَاحِبِهَا لَهَا، أَوْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَدْسِيَتِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى".
وَإِنَّنِي لا أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَكِيمَةِ الْعَالِيَةِ نَوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ بِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كَأَنْ يَقُولُوا: نُوَجِّهْهُ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ، أَوْ نَجْعَلْهُ وَالِيًا لِمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَوَلاهُ، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلالَ كُلِّ فُرْقَةٍ بِالآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ. أَعْنِي مَذْهَبَهُمْ فِي الْكَسْبِ وَالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَتَعَلُّقِ الارَادَةِ الالَهِيَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالشَّرِّ،. وَالَّذِي أُرِيدُ بَيَانَهُ وَتَوْجِيهَ الاذْهَانِ إِلَى فَهْمِهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِ الانْسَانِ، وَمِقْدَارِ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الارَادَةِ وَالاسْتِقْلالِ، وَالْعَمَلِ بِالاخْتِيَارِ. فَالْوِجْهَةُ الَّتِي يَتَوَلاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْ عَمَلِهِ، يُوَلِّيهِ اللهُ إِيَّاهَا وَيُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا. أَيْ يَكُونُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ، تَعَالَى، وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَائِرًا عَلَى طَرِيقِهَا، فَلا يَجِدُ مِنَ الْقُدْرَةِ الالَهِيَّةِ مَا يَجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لِهَدَى النَّاسَ أَجْمَعِينَ بِخَلْقِهِمْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّاعَةِ كَالْمَلائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفَاوُتِ الاسْتِعْدَادِ وَالادْرَاكِ، وَعَمَلِ كُلِّ فَرْدٍ بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا إِلَى آخِرِ مَا لا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا مِنْ طَبَائِعِ الْبَشَرِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَوْلِيَةِ اللهِ لِمِثْلِ هَذَا مَا تَوَلَّى هُوَ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ وَالالْطَافِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِنَايَةً خَاصَّةً بِبَعْضِ عِبَادِهِ وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَنَهُ فِي الاسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلاعْمَالِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ لأنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ وَضَعَ نَفْسَهُ وَاخْتَارَ لَهَا وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ. نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهَبُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَيَزِيدُهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الاخْتِصَاصِ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مَظِنَّةً لَهُ فَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيَقُولُ الَّذِينَ فَسَّرُوا التَّوْلِيَةَ بِهَذَا النَّفْيِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالالْطَافِ: إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ ذَلِكَ، أَمِ الْحِرْمَانُ شَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ؟ وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِ ثَانِيَةً أَمْ لا؟ لا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَسْلَمُ مِنَ الايرَادَاتِ الَّتِي لا تُدْفَعُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدَةِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الضَّالِّينَ إِلَى الْهُدَى لانَّ عِلْمَهُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَبُطْلانِ مَا صَارَ إِلَيْهِ لا يَبْرَحُ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَلْجُ لَهُ.
أَمَّا السَّبَبُ الَّذِي يَحْمِلُ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَالاً مِنَ الاحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الْقَوِيَّةِ كَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِ وَالشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَلَّوْا عَنْهَا حَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِيثَارًا لِرِيَاسَتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَرْؤُوسِينَ فِي غَيْرِهِمْ. وَارْتِدَادُ جَبَلَةُ بْنُ الايْهَمِ عَنِ الاسْلامِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَطَمَهُ مِنَ السُّوقَةِ. وَارْتَدَّ أُنَاسٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ دِينِهِمْ لافْتِتَانِهِمْ بِبَعْضِ النِّسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ عِلَّةُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الاسْبَابِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ، هِيَ ضَعْفُ النَّفْسِ وَمَرَضُ الارَادَةِ بِجَرَيَانِ صَاحِبِهَا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَعَدَمِ تَرْبِيَتِهَا عَلَى تَحَمُّلِ مَا لا تُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ لاجْلِ الْخَيْرِ الآجِلِ. وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ إِرْجَاعِ جَمِيعِ الاسْبَابِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الانْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ. وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمُتَّبَعُ لا يَتَمَثَّلُ لَهُ النَّفْعُ الاجِلُ كَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ النَّفْعُ الْعَاجِلُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ وَمَهَانَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيلَ مَعَهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَدَّ سِمَاطًا عَامًّا لِلنَّاسِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمْ أَعْرَابِيًّا يَأْكُلُ بِشَرَهٍ شَدِيدٍ. فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَلْوَى تَرَكَ الطَّعَامَ وَوَثَبَ يُرِيدُهَا، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ سَيَّافَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْوَى قُطِعَتْ عُنُقُهُ بِأَمْرِ الامِيرِ! وَالْحَجَّاجُ يَقُولُ وَيَفْعَلُ. فَصَارَ الاعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى السَّيَّافِ نَظْرَةً، وَإِلَى الْحَلْوَى نَظْرَةً، كَأَنَّهُ يُرَجِّحُ بَيْنَ حَلاوَتِهَا وَمَرَارَةِ الْمَوْتِ. وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ: "أُوصِيكَ بِأَوْلادِي خَيْرًا"، وَهَجَمَ عَلَى الْحَلْوَى وَأَنْشَأَ يَأْكُلُ، وَالْحَجَّاجُ يَضْحَكُ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَهُ".
أما الذى أثار كل ذلك الآن فهو محاضرة صادفتها على المشباك كان برتراند رَسِلْ قد ألقاها بتاريخ السابع من مارس للعام 1927م فى الجمعية المسماة: "National Secular Society" بلندن، وشن فيها على المسيحية والكنيسة ورجال الدين المسيحيين حملة كاسحة بسط من خلالها القول فى الأسباب التى حملته على الكفر بذلك الدين بعدما كان واحدا ممن يؤمنون به. وكان اصطدامى بتلك المحاضرة على غير ترتيب منى حين كنت أنكش فى المشباك بحثا عن شىء لا أذكر الآن ما هو. وقد وجدتها أولا فى ترجمة عربية منشورة فى أحد المواقع المشباكية لشخص رمز لنفسه باسم "زمكان" (نحتًا، فيما يبدو، من كلمتى "الزمان" و"المكان")، ثم بحثتُ عن الأصل الإنجليزى وراجعته على الترجمة المذكورة فألفيتها فى كثير من الأحيان ترجمة تقريبية، وفى بعض الأحيان الأخرى تخطئ أخطاء غير هينة. ولهذا نحيتها جانبا وشرعت أترجم النصوص التى أريد الاستشهاد بها بنفسى.
وأول ما لفت نظرى فى كلام رَسِلْ تعريفُه للمسيحى فى بداية المحاضرة، إذ قال: "وكما يشير لفظ "مسيحى" ضمنا فإنه يتعين عليك أن تؤمن بأشياء معينة بالنسبة إلى المسيح. فالمسلمون مثلا يؤمنون بالله والأبدية، ولكن لا يمكن أن يُسَمَّوْا: مسيحيين. ذلك أنه يجب، ولو بشكل طفيف، أن تؤمن بأن المسيح، إن لم يكن إلها، فهو أكثر الرجال حكمة على مر التاريخ. فإذا لم تؤمن بألوهيته أو حكمته المطلقة على الأقل فإنك لست بمسيحى، ولا تملك الحق فى أن تسمى بهذا الاسم". ومن الواضح أن رَسِلْ يشير هنا إلى أن المسيحية ليست بالضرورة المسيحية التثليثية، التى تؤله المسيح عليه السلام وتؤمن بصلبه فداء للبشر من خطيئة آدم الأولى، إذ الواقع أن هذه ليست سوى فرقة واحدة من فرق المسيحية، وليست كل المسيحية، علاوة على أنها ليست أقدم تلك الفرق ولا هى بالفرقة الأصيلة، وإن كان لها الآن الانتشار الواسع دون المسيحية الموحدة التى لا ترى فى المسيح عليه السلام سوى رسول لا يتجاوز وضعه بالنسبة إلى الله عز وجل وضع العبودية.
ثم يمضى رَسِلْ فيشير سريعا إلى ما يعرفه تاريخ تلك الديانة التثليثية من استحداث عقائد لم تكن موجودة من قبل، ثم أُوجِدَتْ بفعل فاعل بشرى عن طريق المجامع والمجالس، وحَذْف عقائد كانت موجودة ثم أُبْعِدَتْ وطُمِسَتْ، وكأن الدين اختراع إنسانى يستطيع البشر أن يغيروا فيه ويبدلوا كلما عَنَّ لهم ذلك، وليس وحيا سماويا لا يحق لهم أن يتلاعبوا به على أى وضع من الأوضاع. قال: "كان المسيحي القديم يؤمن بالجحيم. إنه يؤمن بنار أبدية كانت تشكل إيمانا أساسيا وجوهريا لدى كل مسيحي حتى أوقات قريبة جدا. وفي هذا البلد (يقصد بريطانيا)، وكما تعلمون، أصبح الإيمان بالنار الأبدية شيئا غير أساسي في المعتقد المسيحي بعد القرار الصادر من مجلس الملكة. وبعد هذا القرار كان مطران كانتربري ومطران يورك قد أعلنا معارضتهما لهذا القرار الملكي. ولكن في بلدنا يتم تحريك الدين عبر القرارات البرلمانية، ولهذا فقد كان المجلس الملكي قادرا على أن يسيطر على المسيحية، وأن يتم إلغاء الإيمان بالنار كجزء أساسي من معتقدات المسيحيين".
وعلى الرغم من أن رَسِلْ إنما ألقى محاضرته أساسا للاعتراض على المسيحية وتوضيح الأسباب التى حملته على الكفر بها فإنه قد تعرض لقضية الوجود الإلهى، وكان قاطعا فى إنكار ذلك الوجود، الذى بدون الإيمان به لا يمكن أن يكون المرء مسلما، إذ لا تختص هذه القضية بالمسيحية وحدها، وإن كان مفهوم الإله عندنا يختلف عن مفهومه عند المسيحيين التثليثيين ذوى الأغلبية الآن. لكن رَسِلْ، حين تناول تلك القضية، لم يتناولها من الوجهة المسيحية كى نقول إن كلامه لا يلزمنا، بل أنكر الله إنكارا مطلقا دون التطرق إلى القول بأنه إنما ينكر ألوهية عيسى وحدها، فقد أكد أننا "إذا أردنا أن نقترب من السؤال المتعلق بوجود الله فسنجده سؤالا ضخما وخطيرا. وإذا كنت أنوى معالجة الأمر بشكلٍ صحيحٍ فيجب أن تسمحوا لي بمعالجته بإيجاز واقتضاب. إنكم تعلمون أن الكنيسة الكاثوليكية قد وضعت الله كمرتكز إيمانى تقوم على أساسه المسيحية، وهذا الإيمان لا يتم التطرق له بالوسائل المنطقية. إن هذه العقيدة تثير الفضول، ورغم هذا تظل عقيدةَ الكاثوليك الرئيسية. لقد اضطُرّوا إلى إنشائها لأنه فى وقت من الأوقات كان المفكرون المتحررون يدخلون فى جدالات شتى سببها البحت هو الله ومحاولة هؤلاء المتحررين نفى وجوده. وهم يعرفون في أعماقهم أن الله موجود فى الإيمان فحسب. ولقد طالت مدة هذه الحوارات وامتدت لوقتٍ ليس بالقصير، وشعرت الكنيسة الكاثوليكية أن الوقت قد حان لإيقاف هذا الجدل. ولهذا أقرّت الكنسية بأن إثبات وجود الله يتم عبر أسباب جدلية، وهي الأسباب التي ظنّوها قادرة على إثبات وجود الله. وهناك عدد كبير من هذه الفرضيات، ولكننى هنا سأستعرض القليل منها".
ثم يمضى قائلا تحت عنوان "الجدال حول المسبب الأول"، وهو، كما يرى القارئ، كلام عام يهم المسلم مثلما يهم كل مؤمن بالله سبحانه: "لربما كانت قضية المسبب الأول هى أسهل وأكثر النظريات قابلية للفهم. وهي تعنى أن كل شىء نراه في هذا العالم له سببه، وعندما تذهب إلى أبعد حلقات هذه السببية ستجد المسبب الأول، وهو ما يسمى بــ"الله". إن هذه الفرضية فى اعتقادى لا تحمل مصداقية قوية هذه الأيام لأن السبب فى المقام الأول ليس واضحا كما يتصور بعض الناس. لقد خاض الفلاسفة ورجال العلم فى هذه السببية، وهذه الفرضية السببية ليست بالصلاحية المرجوة التي كانت تؤتي أكلها فى الماضى. ولكن، بمعزل عن كل هذا، سنجد أن فرضية السببية ليست على مستوى عالٍ من المصداقية. ويمكن القول بأننى فى شبابى كنت أجادل بخصوص هذه الأسئلة بكل ما أوتى عقلى من طاقة. ولقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب الأول، حتى جاء اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية بعد قراءتى لسيرة حياة جون ستيوارت ميل، التى قال فيها: "لقد علمنى والدي أن السؤال عمّن خلقنى لا يمكن الإجابة عليه لأنه يستلزم على الفور سؤالا أبعد من هذا، وهو: من خلق الإله؟". لقد بينت لى هذه الجملة القصيرة حتى هذه اللحظة أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط. فإذا كان لكل شىء مسبب فيجب أن يكون لله مسبب أيضا. وإذا كان كل شىء بلا مسبب فسيكون العالم هو الله! لهذا وجدت أنه لا مصداقية فى هذه الفرضية. إنها تماما مثل الفرضية الهندوكية التى تقول إن العالم رقد على ظهر فيل، وإن الفيل رقد على ظهر سلحفاة. ثم حين يُقال: وماذا عن السلحفاة؟ يبادر الهندي بالإجابة: "دعنا نغير الموضوع!". إن السببية ليست بأفضل حالا من الطريقة الجدلية السلحفائية. إننا لا ندرك السبب الذى من أجله جاء العالم بلا سبب. وعلى الجانب الآخر لا نستطيع أن نعرف لماذا كانت السببية غائبة وغير موجودة على الدوام. إنه لا يوجد أي داعٍ نفترض بناء عليه أن للعالم بداية. إن فكرة وجود بداية لكل شىء سببها فقر مخيلتنا عن هذا العالم. ولهذا لن أهدر مزيدا من الوقت فى المجادلة حول السبب الأول".
وقد خطر فى ذهنى، وأنا أقرأ ما كتبه رسل فى هذه الفقرة عن السلحفاة الهندية، الحديث النبوى الذى رواه الإمام أحمد فى"مسنده"، ونصه: "يأتي الشيطانُ الإنسانَ فيقول: من خلق السموات؟ فيقول: الله. ثم يقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله... حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم". ثم أمعنتُ النظر فى الحديث وما يقوله الهنود فوجدت الأمر مختلفا تمام الاختلاف. وهذا هو الوضع الطبيعى، لأن حديث الهنود هو حديث الخرافة والأساطير، على حين أن ما يقوله الرسول هو حديث التوحيد النقى. فالواضح مما يقوله الهنود أننا إزاء خرافات لا صلة بينها وبين العقل والمنطق، إذ العالم عندهم راقد على ظهر فيل، والفيل راقد على ظهر سلحفاة، وهذا أمر لا يقوله الإسلام ولا يمكن أن يقبله لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية واضحة صريحة فى هذا السبيل، فضلا عن مخالفته للواقع الذى نعرفه جميعا. كذلك ليس عندنا هذا التسلسل على أى نحو كان، إذ كل شىء هو من خلق الله كما يقول الحديث وكما يكرره القرآن فى مواضع كثيرة منه. وإضافةً إلى هذا فالهندى، حين يصل الأمر إلى السلحفاة، يطلب تغيير الموضوع، وهو ما لا وجود له فى الحديث. وكل ما هنالك أن الرسول يوصى المسلم بألا يتمادى فيما لا يليق بجلال مفهوم الألوهية، إذ هو سبحانه وتعالى خالق لا مخلوق، وهو الأول الذى لا يسبقه شىء، والآخِر الذى لا يأتى بعده شىء، والقادر قدرة مطلقة، والمريد الذى يقول لأى شىء: "كن" فيكون، لا راد لمشيئته، والقوىّ قوة لا تُحَدّ... إلخ. وهذه طبيعة الألوهية، ومن ثم كان من غير المنطقى أن يقيس الإنسان الله على نفسه وغيره من المخلوقات فيستاءل عمن خلقه، إذ إن هذا يتنافى مع أبسط قواعد المنطق، فهو سبحانه لو كان مخلوقا ما كان إلها أصلا. ذلك أن الألوهية والاعتماد على خالق يخلق ضدان لا يجتمعان.
وهذا ما قاله عدد من علماء الحديث أيضا، ففى "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" يكتب ابن حجر ما نصه: "قال الخطابي: على أن قوله: "من خلق ربك؟" كلام متهافت ينقض آخره أوله لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا. ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل، وهو محال. وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث. فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات... قال الطيبي: إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة". وفى "فتح البارى" أيضا: "قال ابن بطال: فإن قال الموسوس: فما المانع أن يخلق الخالق نفسه؟ قيل له: هذا ينقض بعضه بعضا، لأنك أثبتَّ خالقا وأوجبتَ وجوده ثم قلت: "يخلق نفسه" فأوجبت عدمه. والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجودُه على وجودِ فِعْلِه فيستحيل كونُ نفسه فِعْلا له. وهذا واضح في حل هذه الشبهة".
الشىء الثانى هو قول رسل إنه إما أن يكون كل شىء له سبب أو أنه لا سبب لأى شىء على الإطلاق، وأنه على الفرض الأول لا بد أن يكون لله هو أيضا مسبِّب أوجده، وعلى الفرض الثانى لا بد أن يكون الكون من حولنا هو الله، الذى لا سبب له. ولكن من قال إنه لا بد أن يكون لكل شىء بإطلاقٍ سبب؟ إن هذا إنما يصدق على ما نراه أو نلمسه أو نشمه وما إلى ذلك مما يقع تحت إدراكنا، وإن الذين يتخذون هذه الحجة إنما يقصدون أنه لا بد من الانتهاء إلى السبب الذى ليس له مسبِّب، وهو الله، إذ مما لا يقبله العقل أن نظل نمضى فى تتبع الأسباب إلى ما لا نهاية. أما قوله إن مسألة السببية ليست بالبساطة التى كان يظنها الناس، فأغلب الظن أنه يقصد ما يقوله بعض الفلاسفة، وهو منهم، من أن تتابع اشتعال النار والإحراق، أو تتابع تناول الطعام والإحساس بالشبع مثلا لا يعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع. لكن القول بهذا لا يستلزم أنه لا علة لأى شىء، إذ يمكن الموافقة على ذلك والنظر إلى مثل تلك التعبيرات على أنها تعبيرات مجازية لا تعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع، بل تعنى أن الإحراق يتم لدى وجود النار، وأن الشبع يقع عند تناول الطعام، وأن الله، الذى هو السبب الحقيقى لكل ما يقع فى الكون، هو مَنْ قدّر تحقق الإحراق عند وجود النار، وقضى بحدوث الشبع عند أكل الطعام. وقد قلنا قبل قليل إن التسلسل إلى ما لا نهاية فى تتبع أصل وجود الأشياء أمر يرفضه العقل، وهنا لا يبقى أمامنا إلا حلان: فإما أن نقول إن العالم الذى يوجد من حولنا هو الله، وإما أن يكون الله هو الإله الذى نؤمن نحن به فى الإسلام (ولا علاقة لنا بالإله فى المعتقدات الأخرى التى لا نومن بها). فأى الحلين هو الذى يقبله العقل؟ هل يقبل العقل أن يكون الله هو ذلك الكون الغشيم الذى لا عقل له ولا إرادة ولا قدرة على شىء؟ ألا نرى نحن البشر أننا أرقى ما فى الكون من مخلوقات، مع إدراكنا فى ذات الوقت أننا ضعفاء بل عاجزون أمام الحياة وأننا مجبرون فى كثير من أمورنا لا نملك حيالها شيئا، وأننا ننتهى دائما إلى الموت؟ فنحن إذن لا يمكن أن نكون الله، علاوة على أن الله لا يمكن أن يتجزأ أو يكون محدودا فى وجوده وقوته وقدرته وإرادته وعلمه وسلطانه كما هو حالنا الذى يصعب على الكافر. أما الحل الثانى فهو أن يكون هناك إله ذو وجود وقوة وقدرة وحكمة وعلم وسلطان مطلق، إله لا يحتاج إلى غيره ولا ينتظر عونا من أحد ولا يصيبه كلال ولا تعب ولا حيرة ولا تتخلف مشيئته كما نرى ذلك متحققا فى الكون من حولنا. أعتقد أن المسألة ينبغى أن توضع على هذا النحو لا على النحو الذى صوره لنا رَسِلْ!
إن هذا النظام المحكم الذى تسير عليه أمور الكون يدل بكل قوة على وجود إله وراء كل شىء. لكن رَسِلْ يتكلم عن المصادفة بوصفها المسؤولة عن وصول الكون إلى ذلك النظام. إلا أنه قد قاته شىء هام، وهو أننا لو سلمنا بما يقوله عن المصادفة، فمن الذى رتب أمر المصادفة على هذا النحو يا ترى؟ بل قبل ذلك من الذى خلق الكون أصلا؟ ثم بعد هذا من الذى قدّر للمصادفة، متى ما وصلت بالكون إلى هذا الوضع المنظم المحكم، أن تستمر على هذا الوضع فلا تعود إلى اندفاعها المتخبط الأعمى ويعود الأمر كما كان: لا نظام فيه ولا ترتيب؟ يا لها من مصادفة غريبة تلك التى ما إن تصل إلى النظام والترتيب المحكمين الشاملين حتى تتغير طبيعتها فلا تبقى مصادفة كماكانت! وهذا كله لو قلنا بالمصادفة، أما لو شغّلنا عقولنا فإن تلك العقول ترفض مبدأ المصادفة الأعمى وتقبل بدلا منه بالحكمة المطلقة التى تسيّر الكون. بالله عليك أيها القارئ: أيهما أقوم منطقا وأهدى سبيلا؟ أن نقول بالمصادفة العاجزة العمياء الغشوم أم نؤمن بالقدرة والإرادة والحكمة الشاملة المطلقة؟
ويقول رَسِلْ تحت عنوان "الجدال حول القانون الطبيعي": "هناك أيضا جدل شائع يدور حول القانون الطبيعي. لقد كان هذا الجدل موضوعا مفضلا طيلة القرن الثامن عشر، وبخاصة تحت تأثير نظريات السير إسحاق نيوتن عن نشوء الكون. لقد لاحظ الناس أن الكواكب تدور حول الشمس وفقا لقانون الجاذبية، وكانوا يظنوّن أن الله أصدر أمرا لهذه الكواكب كي تتحرك على هذا النحو. لقد كان هذا بطبيعة الحال تفسيرا مريحا وبسيطا وفر عليهم عناء البحث أكثر من ذلك فى شرح قانون الجاذبية. ونحن الآن نشرح قانون الجاذبية بأسلوب أكثر تعقيدا طبقا لنظريات آينشتاين. ولن أعطيكم محاضرة عن آراء آينشتاين بهذا الخصوص لأن هذا يستلزم وقتا أطول، ولكنْ بصفة عامة لم تعد هناك تلك القوانين الطبيعية التى كانت موجودة طبقا لنظام نيوتن حيث كانت الطبيعة، لسبب لا نعرفه، تسير على نفس الوتيرة. لقد اكتشفنا الآن أن كل ما كنا نعده قوانين طبيعية ليس سوى مواضعات بشرية، فأنتم تعرفون مثلا أن الياردة، حتى فى أبعد نقطة فى الفضاء الخارجى، تساوى دائما ثلاثة أقدام. وعلى الرغم من أن هذه معلومة رائعة فمن الصعب جدا تسميتها: قانونا طبيعيا. وكثير مما كنا نعده قوانين طبيعية لا يعدو أن يكون من هذا القبيل. ومن ناحية أخرى إذا أتينا إلى أى شىء يتعلق بسلوك الذرة فسنجد أنها أكثر ابتعادا عن الخضوع للقانون الطبيعى مما كان الناس يظنون، وأن القوانين التي نصل إليها ليست أكثر من متوسطات إحصائية من نفس النوع الذى تأتينا به المصادفة. وهناك، كما نعرف جميعا، قانون ينص على أنكم لو رميتم نردين فستحصلون على ستتين معا بمعدل مرة واحدة في كل ست وثلاثين رمية. ونحن لا نستطيع أن نعد هذا دليلا على أن رمي النرد خاضع لإرادة الرامي. وعلى النقيض من ذلك إذا كانت الستتان تأتيان معا في كل مرة نرمي النردين فسنقول حينها إن هناك تعمدا بالفعل من قِبَل ذلك الرامي. إن قوانين الطبيعة هي على هذا النحو في معظمها. إنها معدلات إحصائية تنبثق عنها قوانين المصادفة، وهذا ما يجعل مسألة القانون الطبيعي أقل إدهاشا لنا من ذى قبل. وفضلا عن هذا، وهو ما يمثل وضع العلم المؤقت، ذلك الوضع الذى يمكن أن يتغير من الغد، فإن فكرة القانون الطبيعي تنطوي على أن ثمة واضعا لهذا القانون، مما يكشف عن خلط بين القانون الطبيعي والقانون البشري. بيد أن القوانين البشرية إنما هى أوامر توجب عليكم التصرف بطريقة معينة بمستطاعكم اتباعها أو نبذها. لكن القوانين الطبيعية ليست على هذه الشاكلة، إذ هي تصف لكم كيفية تصرف الأشياء. ولأنها مجرد وصف من ذلك النوع فإنكم لا تَقْوَوْن على الجدال بأن هناك من يأمر هذه الأشياء بالتصرف على هذا النحو، لأنه حتى لو صح هذا الفرض فإنكم لا تلبثون أن ترتطموا بسؤال آخر هو: لماذا قضى الله هذه القوانين، ولم يقض غيرها؟ وإذا قلتم ببساطة إنه قد فعل ذلك لما يسببه له من لذة وليس لأى سبب آخر، فإنكم سوف تجدون أن هناك شيئا لا يخضع للقانون الطبيعي، ومن ثم تتوقف سلسلة ذلك القانون. أما لو قلتم، كما يقول عدد أكبر من رجال الدين الأرثوذكس، إن الله في كل القوانين التي اقتضاها دون غيرها كان لديه سبب معين دون غيره من الأسباب، فإن السبب بطبيعة الحال لن يكون شيئا آخر غير خَلْقِ أفضل الأكوان، وهو ما لا صحة له البتة. ولكن إذا كان ثم سبب لما يقدّره الله من قوانين فمعنى ذلك أن الله ذاته يخضع للقانون، وبالتالى لن تكون هناك أية جدوى من اتخاذ الله وسيطا لأنه سيكون هناك حينئذ قانون خارج عن الله وسابق عليه، ولن يكون لله فى هذه الحالة أية فائدة لأنه لن يكون المصدر النهائى للقوانين. باختصار: لم تعد القوانين الطبيعية الآن تعنى ما كانت تعنيه من قبل".
والواقع أنه لو لم يكن هناك قوانين وكانت الأمور تجرى على المصادفة كما يقول رَسِلْ فمعنى ذلك أن من المستحيل على البشر اتخاذ أى قرار أو الإقدام على أى تصرف، إذ إن القرارات والتصرفات تتطلب أن يكون هناك نظام مطرد حتى يستطيع الواحد منا رسم خطة مضادة يبنى عليها قراره وسلوكه. وتصور أنك قمت من النوم وأردت أن تبدأ يوما جديدا ففوجئت أن أحوال الكون قد تغيرت عما كنت قد عهدته وأنه لم تعد هناك قوانين ولا أنظمة، بل كل شىء يتم عشوائيا لا يمكن التنبؤ بمساره ولا بكيفيته ولا يمكن وضع خطة لمواجهته كى نحصد منه أكبر قدر ممكن من المكاسب ونتجنب أكبر قدر من المشاكل والخسائر. بل إن الخطط نفسها فى هذه الحالة لن يكون لها معنى ولا مصداقية، إذ لا نظام هناك ولا ثمار لأى شىء بما فيها الخطط. أمن الممكن أصلا فى هذه الحالة أن تكون هناك حياة؟ يقول رسل إن فَهْمنا للقوانين قائم على الوهم. لكن هناك رغم ذلك نظاما ما نستطيع أن نستند إليه ونقيم عليه حياتنا أيا ما يكن رأينا فى هذه الحياة. ذلك أن هذه الحياة التى لا تعجبنا أفضل مليارات المرات من الحياة الأخرى التى لا وجود لها إلا فى عقل رَسِلْ، تلك الحياة التى لا يمكن التعامل معها ولا اتقاء متاعبها أو الفوز بأى من خيراتها. وهذا إن جاز أن يكون لمثل تلك الحياة معنى أو كانت تشتمل على أية خيرات، أو كان لها وجود أصلا.
أما ما يقوله رَسِل عن الله وصلته بقوانين الطبيعة فهو صادر عن قياسه لله سبحانه على البشر، على حين قد رأينا أنه لا بد فى نهاية المطاف، ومهما طالت سلسلة الأسباب المترتب بعضها على بعض، من إله مطلق أزلى لا حاجة به إلى مسبِّب ولا يصلح معه القول بأنه كان خاضعا لهذا الاعتبار أو ذاك عند اختياره لهذا القانون أو ذاك. أما زراية رَسِلْ بتصورنا وجود مصدر للقوانين وتفسير ذلك بأننا إنما نقيس قوانين الطبيعة على قوانين البشر فهى زراية فى غير محلها. ذلك أننا، حين نتجه تلقائيا إلى التفكير فى مصدر القوانين الطبيعية، إنما نتصرف التصرف المنطقى، إذ بدلا من التعامى عن السبب الأول المطلق، ذلك التعامى الذى يؤثره برتراند رَسِلْ، نجدنا بوحى من فطرتنا نبحث عن السبب. وإلا أفيعقل أن تحتاج حياتنا تلك الضيقة والعابرة إلى مُصْدِر للقوانين بينما يستغنى ذلك الكون الهائل الذى لا تُعَدّ دولنا جميعا شيئا إلى جانبه عن مُصْدِرٍ لقوانينه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواضعات الاجتماعية التى أشار إليها رَسِلْ وظن أنه يستند فيها إلى حجة قاطعة، إذ إن وجود تلك المواضعات لهو دليل على أن حياتنا الضيقة العابرة كما سميتُها عن حق لا يمكنها الاستغناء عن نظام يكفل لنا فهمها والتعامل معها ومواجهة مشاكلها وجنى فوائدها. فما بالنا بالكون كله، وهذه الأرض التى نعيش فوقها لا تساوى بالقياس إليه شيئا البتة؟ على أن هناك أمرا طريفا فى كلام رسل، وهو تكرر ذكره لقوانين المصادفة. ترى أيكون للمصادفة قانون، ولا يكون ثم قانون لهذا النظام الذى يسرى فى كل شىء من حولنا؟ من يقول هذا؟ وأطرف من ذلك أننى أشعر بهدوء تام وأنا أناقش ما يقوله ذلك الفيلسوف الكبير، ولا أجد فى نفسى ضيقا به. ولعل فيما قلته عنه وعن مواقفه السياسية وما سطره عن الإسلام تعليلا لهذا الهدوء الذى أحسه بين جوانحى وأنا أحبّر هذا الكلام.
ونأتى الآن إلى تجويز رَسِلْ أن تتغير قوانين الطبيعة من الغد، وأنا معه فى هذا، ولا أجد فى تغير تلك القوانين يومًا من الأيام ما يصدم عقلى، فلقد وضحتُ أن القوانين الطبيعية لا تعنى مثلا أن فى النار ذاتها خاصة الإحراق، بل أن الله هو الذى رتب حدوث الإحراق على وجود النار. وهذا ما كان يقول به الإمام الغزالى وبسطه فى كتابه: "تهافت الفلاسفة" على النحو التالى: "الاقتران بين ما يُعْتَقَد في العادة سببا وما يُعْتَقَد مسبِّبا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الرِّيّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل... وهَلُمَّ جَرًّا إلى كل المشاهدات من المقترِنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة... وهلم جرا إلى جميع المقترنات. وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته. والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فَلْنُعَيِّنْ مثالا واحدا، وهو الاحتراق في القطن مثلا مع ملاقاة النار. فإنا نجوِّز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوِّز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار، وهم ينكرون جوازه".
ويمضى، رحمه الله، فى الرد على دعوى الخصم بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، مؤكدا أن "فاعل الاحتراق بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وجَعْله حُرَاقًا أو رمادًا هو الله: إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة. فأما النار، وهي جماد، فلا فعل لها. وهذا يكون بالحصول عنده لا بالحصول به. فما الدليل على أنها الفاعل، وليس له دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به وأنه لا علة سواه؟".
وإمامنا الغزالى، بهذا الكلام الذى ينفى فيه أن تكون فى النار خاصة الإحراق، مؤكدا أن الأمر مجرد تتابع بين وجود النار أولا فالإحراق ثانيا، قد سبق دافيد هيوم وبيركلى وبرتراند رسل ذاته بزمن طويل، إلا أن فيلسوفنا المسلم يعزو كل شىء فى هذا الأمر إلى مشيئة الله التى اقتضت هذا التتابع واطراده حتى الآن بما خيل للناس بوجه عام أن النار ذاتها هى سبب الإحراق. وفى هذا الصدد يقول هيوم: "إذا ما ارتبط شيئان ارتباطا لا تخلف فيه كالحرارة واللهب مثلا، أو الثقل والصلابة، فإن العادة وحدها عندئذ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر". ومن ثم فعنده أن "العادة هي المرشد العظيم للحياة البشرية. فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث الشبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى". فنحن قد تعودنا مثلا أن نرى الورق يحترق حينما نقربه من النار، فنتوقع من خلال هذا التعود احتراقه مستقبلا حينما نقربه من النار. وهذا التوقع احتمالي عند هيوم، إذ ليست هناك ضرورة عقلية في نظره توجب أن يحترق الورق بالنار مستقبلا، بل يمكن أن لا يحدث ذلك في المستقبل. ومن ثم فحينما نتوقع أحداث المستقبل استنادا إلى الخبرة الحالية فإن توقعنا ساعتئذ يكون من قبيل الاحتمال لا اليقين. وهذا هو ما يقوله الغزالى بفصه ونصه. وأرجح الظن أن هيوم ورسل قد قرآ فيلسوفنا المسلم: إما مباشرة وإما من خلال وسيط، إذ من الصعب عقلا أن نقول بأن هذا ليس إلا توارد خواطر، وبخاصة أن الغزالى معروف جيدا للغربيين عن طريق المستشرقين.
وحتى لا يسارع بعض الملاحدة السفهاء، وكثيرٌ ما هُمْ، إلى التشنيع على القائلين بذلك بأنهم يقولون بكونٍ قائمٍ على اللانظام أقول مرة أخرى بملء فمى وبأعلى صوتى: إن الكون قائم على نظام عجيب وقوانين مطردة، ولكن هذه القوانين لا تنبع من الأشياء ذاتها، بل من إرادة الله، الذى سوف يأتى يوم يبطل فيه تلك القوانين ويبدع قوانين أخرى تختلف عنها كما نجد ذلك فى القرآن والسنة. ذلك أنه لن يكون فى الجنة مثلا ملل ولا ضيق ولا حزن ولا قلق ولا حقد ولا مغص ولا جوع ولا عطش ولا برد ولا حر ولا حرمان ولا نقص ولا ألم ولا رائحة كريهة ولا منظر منفر ولا موت ولا خصام ولا عدوان... إلخ، وهو ما تختلف به الجنة اختلافا كليا وجزئيا عن الدنيا. وقد أشار القرآن إلى أنه يوم القيامة سوف "تُبَدَّل الأرضُ غيرَ الأرض والسماواتُ". ذلك أنه ما دامت القوانين لا تكمن فى الأشياء كمونا طبيعيا ملازما فمعنى ذلك أن الله المطلق السلطان الذى أصدر للأشياء الأمر بأن تكون على ذلك النحو يمكن أن يصدر لها الأمر بأن تكون على نحو غير ذلك فى الوقت الذى تقدره مشيئته سبحانه وتعالى. وبالمناسبة فبرتراند رَسِلْ، كما أشرنا قبيل قليل، هو من القائلين بذلك أيضا، إلا أنه على عكس الغزالى المؤمن كان ملحدا ينكر وجود الله والحياة الآخرة.
ويمضى الفيلسوف الإنجليزى الكبير فيناقش دليلا آخر مما يتخذه المؤمنون دليلا على وجود العناية الإلهية، وهو دليل التصميم. وهذا نص كلامه: "الخطوة التالية من استعراضي للفرضيات لابد أن توصلني إلى جدلية التصميم. إنكم تدركون جميعا أن فرضية التصميم تقتضي أن كل شيء في هذا العالم تم تصميمه من أجل أن نعيش وفقا له، ولو أن العالم اختلف قليلا عن صورته الحالية لما استطعنا أن نعيش فيه. هذه هي جدلية التصميم، التى تأخذ أحيانا شكلا مثيرا للفضول. فمثلا يقال إن الأرانب قد خُلِقَتْ بذيول بيضاء كي يسهل اصطيادها، ولكننى لا أعرف كيف تنظر الأرانب إلى هذا الوضع. إنه أمر يبعث على السخرية. وأنتم جميعا تعرفون ملاحظة فولتير، وهو أن الأنف قد خُلِق ملائما لحمل النظارة! وقد ظهر أن هذا النوع من السخرية لم يبتعد كثيرا عن إصابة الهدف كما كان يُظَنّ فى القرن الثامن عشر، لأنه منذ داروين بدأنا نفهم بشكل أفضل كثيرا لماذا تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها. وهذا يعني أن البيئة ليست هي التى تكيف نفسها من أجل الكائنات، بل الكائنات هى التى تكيف نفسها مع بيئتها. وهذا هو أساس التكيف البيئي. ولا وجود فيه، كما نرى، لأي دليل على التصميم".
أما أنا العبد لله الضعيف فأقول مع احترامى الكامل لرَسِلْ، الذى كلما نظرت إلى صورته وقد أصبح عجوزا جدا، وفى فمه المتغضن غليونه المشهور يخفف به قليلا من شعوره بالشقاء الذى وصفه لنا فى سيرته الذاتية، لا أملك نفسى من العطف عليه رغم اختلافى الشديد معه فى موقفه من الألوهية، وإن كنت لا أختلف معه كثيرا حول وجود الشقاء فى العالم، ومن ذا الذى يجرؤ على أن ينكره أو يجادل فيه؟ لقد قالها القرآن نفسه بكل وضوح لآدم والسيدة حَرَمه منذ البداية: إياكما أن يخرجكما إبليس من الجنة، وإلا شقيتما، بما يفيد بمنتهى الصراحة أن الدنيا ليست دار سعادة كاملة، وإن لم تكن أيضا دار شقاء تام، بل هى، حسبما نرى، مزاج من هذا وذاك. ولم نذهب بعيدا؟ إننى، أثناء كتابتى هذا الرد على رسل، لأشعر بنشوة عجيبة وأنا أحاور عقلا كبيرا كعقل رَسِلْ فى موضوع كبير كموضوعنا ذاك. فهذا إذن لون من السعادة الدنيوية لا شك أيضا أنه كان يستمتع به وهو يعد محاضرته التى نحن بصددها، وكذلك وهو يلقيها، مثلما كان يحس بالسعادة حين اهتدى، أو فلنقل دون أن نقصد إغاظته: حين هداه الله إلى إديث فينتش، زوجته الرابعة التى أهدى لها "سيرته الذاتية"، والتى تقول كلمة الإهداء إنه يدين لها بشىء غير قليل من السعادة فى دنياه تلك التى يحاول أن يقنعنا أنها مفعمة تماما بالشقاء بحيث لا يوجد فيها ولا ثَقْب إبرة يمكن أن ينفذ منه بصيص من البهجة. أمعقول يا فيلسوفنا أنك لم تذق مثلا مع أى من زوجاتك لذة الفراش ولو مرة، وأن دنياك كانت خالية معهن من كل نشوة؟ ودَعْنا من غير زوجاتك يا رجل يا نِمْس! ألم تستمتع مثلا بزوجة تى إس إليوت، الذى يقلده القِرَدة عندنا تقليدا أعمى مباهين بهذا التقليد، شأن كل قرد أقرع؟ وهذه مجرد حلقة واحدة فى سلسلة عشيقاتك يا عفريت! وحتى حين دخلتَ السجن (ولأعترف هنا أننى لا أحبه، ولا أريد أبدا أن أذوقه) ألم تكن تشعر بالرضا والسكينة لأنك استطعت، بمعونة الله طبعا رغم إنكارك وجوده، أن تتحمل متاعبه وما تجره هذه المتاعب وراءها من ألوان الحرمان والعناء المختلفة فى سبيل مبدئك؟ هكذا ترى يا فيلسوفنا الكبير، الذى أشعر والله بالعطف عليه وعلى نفسى معه أيضا، أن الدنيا، حتى فى أشد ظروفها حلوكة، يمكن أن تمد صاحبها بكِفْلٍ غير قليل من السعادة والرضا.
والآن إلى المناقشة، التى أرجو ألا تفسد للود بينى وبين الفيلسوف البريطانى أية قضية، فأقول: لنفترض أن الأمر كما قال رَسِلْ بناء على نظرية داروين، وأن الكائن هو الذى يتكيف مع بيئته، وليست البيئة هى التى خُلِقَتْ مناسبة له، فهل ينال هذا من قيمة الدليل التصميمى؟ لا إخال ذلك أبدا. كيف؟ أليست المحصلة النهائية أن الكائن ينجح فى التعايش مع بيئته؟ بَلَى والله وأَلْفُ بَلَى. فهذا هو دليل التصميم، ولكن على شكل آخر، وهو أن الله سبحانه وتعالى، حين أبدع مخلوقاته، جعلها مهيأة للعيش فى كل الظروف، واهبا إياها المقدرة على التكيف معها. فما المشكلة إذن؟ أما كلام رَسِلْ فمَحْضُ تحكُّم لا معنى له، وهو ما يذكرنى بما يقوله العامة عندنا: أَكْل وتبريق! وهذا إن كان الأمر على ما يقول، وهو ليس كذلك فى الواقع، وإلا فلماذا لم يوزع الله كل الكائنات على كل الأمكنة فى العالم دفعة واحدة، وعلى كل منها أن تتأقلم مع ظروف كل مكان؟ لماذا مثلا لم يضع الله عز وجل الإنسان فى قلب لهيب الشمس؟ أو لماذا لم يجعل معيشته فى باطن الأرض مغروسا فى الطين كما هو حال كثير من الديدان مثلا؟
واضح أن التكيف البيئى الذى يشير إليه رَسِل استنادا إلى داروين ليس معناه أن الكائن يغير نفسه تغييرا جذريا ليتلاءم مع بيئته، وإلا لرأينا للإسكيمو مثلا جلودا سميكة كجلود الدِّبَبَة القطبية حتى يستطيعوا تحمل البرد الرهيب هناك، وهو ما لا وجود له، بل كل ما هنالك أنهم قد عملوا على تحوير آلاتهم وأدواتهم ومرافقهم بحيث تعينهم على مواجهة مصاعب تلك البيئة، فكانت أحذيتهم ووسائل مواصلاتهم وبيوتهم مختلفة فى التصميم والمواصفات عما لدينا من أحذية ومواصلات وبيوت... وهكذا. أما هم أنفسهم فلا يفترقون عنا فى شىء، إذ ما زالت لهم عينان كعينينا، وأنف كأنفنا، ويدان كيدينا، وذَكَرٌ كذَكَرنا، واسْتٌ كَاسْتِ القُمَّص المنكوح، إلا أنهم ليسوا مناكيح مثله، ويأكلون من فمهم كما نأكل نحن من فمنا، ولهم فى كل فم ست وثلاثون سِنًّا كما لنا، ويحتاجون إلى الحمام كما نحتاج نحن أيضا، ولهم طموح وآمال ومخاوف وقلق وحزن وملل، وفيهم لصوص وقتلة وناس طييون وكتاب وقراء، ولديهم مطاعم وفنادق، كما لنا وفينا ولدينا بالضبط... إلخ.
أما بالنسبة إلى الأرانب ذات الذيول البيضاء التى ضربها رَسِلْ مثلا على التعاسة فما أكثر ما تستمتع رغم هذا بالشمس الدافئة والهواء الطلق والعشب الغزير والجرى فى الغابة تمرح كما يحلو لها. نعم إن ذلك كله مصيره إلى انتهاء، وقد تكون النهاية ذبحها وأكلها، لكن ألم تستمتع هى قبل ذلك؟ بلى لقد استمتعت، ونعم لقد انتهت فى كثير من الأحيان إلى المصير المذكور. لكن أتراها فى هذا تختلف عمن صادوها؟ ألا يستمتعون هم أيضا، ثم ينتهون إلى الموت، وربما القتل، كما تنتهى هى؟ سيقول رَسِلْ: ومع هذا فإن فى الدنيا شقاء وتعاسة. لكن هل خالفناه فى هذا؟ إن كل ما نخالفه فيه هو أنه يركز فقط على ألوان الشقاء، وكأن الدنيا كلها حالكة السواد، فلا لقمة شهية ولا منظر جميل ولا شذى حلو ولا ملمس ناعم ولا رقدة هنية ولا يقظة بهيجة ولا جماع لذيذ ولا أولاد يملأون البيت على الأب والأم سعادة ونورا وأنغاما ولا كتاب مثير للعقل والوجدان ولا صلاة تبعث السكينة فى النفس ولا تضحية من أجل مبدإ جليل ولا أبناءٌ لطافٌ ولا رحلة بهيجة ولا تأمل فكرى لذيذ. إننى لأتألم غاية الألم حين تصيبنى بَلِيّةٌ من بلايا الدنيا، وما أكثرها! وأتقلب على جمر الحرقات ساعتئذ تقلبا، إلا أننى سرعان ما أفىء إلى الواقع من حولى قائلا لنفسى: لِمَ تنسى كذا وكذا وكذا مما حباك الله به (أو فلنقل كى نضحك قليلا مع رَسِلْ: مما حبتك به الطبيعة) يا فلان، وهو كثير، والحمد لله؟
ولكى أبين للقارئ أن حياة الأرانب والعجماوات جميعا ليست كلها شقاء كما يحاول رسل أن يقنعنا أذكر له أننى، فى صيف عام 1976م، ذهبت فى بعثة إلى بريطانيا للحصول على الدكتورية فى النقد الأدبى، فبدأنا نأخذ دروسا فى الإنجليزية بلندن، ثم انتقلنا إلى ميناء هيستنج لنكمل أخذ هذه الدروس، فكنت فى الفسحة التى تفصل درسًا عن درسٍ آخر النهار أجلس فى ردهة المدرسة، وقد اكتست الدنيا فى الخارج عَتَمَةً، وبدا كأن المغرب قد جاء، فأنظر عبر النافذة إلى منارة صغيرة على الشاطئ متوهما فى كل مرة أنها مئذنة وأن أذان المغرب سوف يرتفع بعد قليل. على أن هذه ليست النقطة التى أريد الحديث فيها، بل النوارس التى كانت تحوم على الشاطئ قريبا منا والتى، وهذا هو بيت القصيد، كنت أحسدها على ما تتمتع به من حرية وقدرة على التحليق فى أجواز الفضاء، على حين أجد نفسى مقيدا بجاذبية الأرض لا أملك طيرانا. أما حسدى إياها فلأنى كنت أتصور أننى لو رُزِقْتُ مثلها المقدرة على الطيران لكان باستطاعتى أن "آخذ بعضى" طيرانا على مصر، التى كنت أشعر آنئذ بحنين جارف مؤلم نحوها، ودون الحاجة إلى تذكرة سفر أو تأشيرة أو إجراءات معقدة فى الخروج والدخول. خلاصة القول أن العجماوات ليست تعيسة الحياة تماما كما يخيِّل لنا كلام رسل، إذ هى تتمتع بكثير مما حُرِمْنا نحن البشر منه حتى إننا لنحسدها على كثير مما حباها الله (أو كما يقول رَسِلْ وأشباهه: مما حبتها الطبيعة) به.
وبعد الأرانب ذات الذيول البيضاء يأتى ونستون تشرشل وأضرابه من ذوى القلب السوداء، ذلك الاستعمارى البغيض الذى ضربه رَسِِلْ مثلا على أن الحياة كلها شقاء وتعاسة. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد كان رَسِلْ يناصر الحركة الاستعمارية فى مطلع حياته، ثم انقلب معاضدا لحركات التحرر الوطنية ضد بلده وضد العالم الغربى عموما، وهو ما يُشْكَر عليه. لكن هل كان تشرشل، رغم أننا فى عالمنا العربى والإسلامى قد اصطلينا نار نزعته الاحتلالية وشقينا بها أيما شقاء، خلوا تماما من أى نفع؟ لقد كان كاتبا سياسيا وأديبا قوى الأسلوب. ولا شك أنه، بهذا الاعتبار، كان ذا فائدة لبعض البشر. كذلك قرأت ذات مرة أنه كان يصدر أوامره لمجلس الحرب بوصفه رئيسا للوزراء وهو فى بيت الأدب (أو إذا شئتم: بيت قلة الأدب والقيمة!) يقضى حاجته كيلا تفوت الفرصة إذا انتظر حتى ينتهى مما هو فيه فيَصْدُر الأمر بعد خراب بصرة. فلو لم يكن له إلا هذا التصرف الذى أضحكنى وما زال يضحكنى حتى هذه اللحظة وتغرورق عينى جَرّاءه بالدموع لكان هذا كافيا كى أعلم أن خَلْقه فى الدنيا لم يكن سُدًى! ومع هذا فلعنة الله على ذلك العلج الاستعمارى، إن لم يكن من أجل شىء فكيلا يغضب منى رَسِلْ.
لكن ذلك الإبليس لا يتحمل هو وأمثاله وحدهم إثم الاستعمار، وهو بلا أدنى ريب أو جدال إثم بشع لا يطاق، بل تتحمله معه الأمم التى ابتليت به فرضيت بالهوان بل استعذبته، وكلما أخذت صفعة على خد من خديها أدارت الخد الآخر كى يأخذ هو أيضا نصيبه من الهوان والخزى فتكون قد تقلبت فى الخزى على الجانبين ولم يفتها شىء منه كما هو حال أمتنا أمة الزفت والهوان، التى من الواضح أنها باتت خارج التاريخ منذ استنامت إلى المذلة على يد حكامها الوطنيين (أقصد: الـمُسَمَّيْنَ زورا بــ"الوطنيين"، وما هم فى الحقيقة إلا عصابة من الجهلة الأفاكين، لعنهم الله ولعن معهم شعوبهم التى يحكمونها أجمعين أكتعين أبصعين!)، وكذلك على يد مستعمريها الخارجيين، وصارت مشكلتها من التعقيد بحيث إننى لا أكف عن الألم والمرارة طوال الوقت حتى وأنا أتريض تجنبا للإصابة بالسكر وانسداد الشرايين، غير واجد لوضعها هذا البائس حلا، إذ كيف يمكن أن تُحَلّ مشكلتها، وهى نفسها لا تريد لها حلا، بل لا تحاول أن تساعد من يتصدى لإصلاح أحوالها فتتركه يدخل السجن أو يُعْدَم دون أن تجشم نفسها ذرف دمعة من دموعها الرخيصة عليه، منصرفة إلى الكرة والرقص والطبل والزمر والحشيش والأفيون؟ ولنعد إلى ما كنا فيه، وإلا ساءت صحتى أكثر وأكثر، وساعتئذ لن أجد من جماهير الأمة من ينفعنى ببصلة!
كذلك يستنكر رسل أن يكون العالم الذى حولنا بعيوبه ونقائصه هو كل ما استطاع الله بعلمه المطلق وقدرته التى لا يحدها حد أن يخلقه فى الملايين بعد الملايين من السنين، مؤكدا أنه لو أُعْطِىَ قدرة وعلما بلا حدود وصُبِرَ عليه ملايين السنين فإنه قادر على أن ينتج كونا أفضل من هذا. وهذا يذكرنى بما كان يقوله أحد رجال القرية، وكان زمّارا فى فرقة المزيكة التى يرأسها عمه، ثم كُسِرت أصابعه فترك العزف على المزمار ولم يعد صالحا لعمل أى شىء، فكانت زوجته المسكينة هى التى تسعى عليه وتوفر له الشاى واللحم، اللذين لو تخلفا عن الميعاد كان جزاؤها الشتم والضرب وقلة الأدب. والشاهد فى الأمر أنه كان دائما، رغم مواظبته على الصلاة والصيام، فضلا عن التأذين للصلاة بصوته الجميل، كثير التمرد على مقام الربوبية، زاعما أنه لو تولى أمر الكون لجعله أفضل من هذا كثيرا. يقصد أنه ساعتها سوف يوفر كيلو لحم وكيس شاى وباكو سكر لكل فقير أسبوعيا، ويا حبذا لو كان معها أيضا علبة سجائر أو ورقة معسل، فهذا هو أقصى ما يمكن أن يفكر فيه زمّارنا، الذى كنت أعطف عليه وأستطيب صحبته وأتغاضى عن حماقاته وغروره الغبى.
المضحك فى دعوى رَسِلْ أنه يقول: "لو" أُعْطِيت كذا وكذا، إذ الإله لا يقول ذلك لأنه لا يأخذ شيئا من أحد، بل هو الذى يعطى، ويعطى دائما. ثم إن "لو" تفتح عمل الشيطان. كما أنها، طبقا لما يقوله جهابذة الإعراب الصِّيَاعِىّ، "حرف شعلقة فى الجو". والكون، رغم ما فيه من مآس لا ينكرها أحد، يدل على خالق قدير عليم حكيم رحيم جبار منتقم شديد. وليلاحظ القارئ أننى لم أجتزئ بذكر الحكمة والقدرة والرحمة الإلهية وحدها، بل ذكرت معها الجبروت والانتقام أيضا، فهذه هى صفات الله. ولقد حار الفلاسفة والحكماء، ومعهم الطبالون والزمارون، فى بحثهم عن السر فى وجود المعاناة والألم فى الدنيا، ولم يرجعوا بطائل، ولا أظنهم سوف يرجعون به يوما. فَلْنَكُفَّ عما لا جدوى منه كما قال العقاد فى بعض شعره عن ذلك الموضوع، فهذا هو حال العالم الذى حولنا، ولنركز على أن نجتهد بكل طاقتنا كى نستخرج منه أحلى ما فيه ونتجنب أسوأ ما يحتويه، أو ننزل بنصيبنا من هذا الجانب السيئ فيه إلى أصغر درجة ممكنة على الأقل، "ونعيش ونقول: يا باسط!"، مع رجائى من القراء أن يتولى أحدهم مشكورا ترجمة العبارة الأخيرة لرَسِلْ حتى يفهم عنى ولا تضيع نصيحتى على الفاضى!
وهنا نسمع رَسِلْ يؤكد، وكأنه يقول شيئا جديدا على المؤمنين، أن الحياة على الأرض مصيرها إلى انتهاء. لكننا نعرف هذا يا فيلسوفنا العزيز من قبل ونؤمن به، وكنت أنت أيضا تؤمن به أيام كنت متخلفا مثلنا، وهو ما نسميه: يوم القيامة. فما الجديد فى هذا إذن؟ إلا أن المسألة بالنسبة إلينا لا تقف عند انتهاء الحياة، بل اعتقادنا أنه ستبدأ حياة أخرى بعد دمار هذا العالم، الذى سوف يعاد رغم ذلك تشكيله من جديد بأوضاع أخرى نرجو أن تعجب رَسِلْ، وزمارنا المسكين، الذى أدعو له الله العَفُوّ الغفور الودود الحليم الرحيم الكريم أن يجد عندئذ الشاى والسكر واللحم بوفرة تبعث على الطمأنينة وارتخاء الأعصاب، ولا داعى للمعسل لأنه ضار، وذوقه بلدى، علاوة على أن شاربه يقضى النهار والليل فى السعال والبصق فيزعجنا، ونحن لم نكد نصدق أننا قد تركنا الدنيا ببلاياها!
وعلاوة على هذا فإنى آخذ على رَسِل أنه، حين يذكر المسلمين أو يريد الإشارة إليهم فى هذه المحاضرة، يستعمل كلمة "Mohammedans: المحمديين". وهذا خطأٌ صُرَاحٌ، ويزيده سوءا صدروه عن رَسِل الفيلسوف الذى تقوم فلسفته هو وأشباهه من الفلاسفة على وجوب تحديد الألفاظ قبل استخدامها منعا لأى لبس أو اضطراب. فهل من تحديد الألفاظ تحديدًا سليمًا أن يُطْلَق علينا نحن المسلمين اسم "المحمديين"؟ إن كل دور رسولنا عليه الصلاة والسلام طبقا لمعتقد الإسلام، الذى جاء به، هو أنه واحد من البشر تلقى الوحى من الله سبحانه وأنه المثال الأعلى لأولئك البشر. فلا هو إذن صاحب الإسلام ومخترعه ولا نحن نؤلهه أو نرتفع به عن مستوى البشرية بأى معنى من المعانى ولا إلى أى مدى من الأمداء، وذلك امتثالا لقوله تعالى: "قل: إنما أنا بشر مثلكم يُوحَى إلىّ أنما إلهكم إله واحد". وعلى هذا فليس هناك أى أساس يمكن الاستناد إليه فى إطلاق كلمة "المحمديين" علينا نحن المسلمين. فإذا ما صدر هذا الخطأ من رَسِلْ بالذات كان الخطأ أسوأ وأشنع.
والعجيب أن رَسِل نفسه يقول شيئا قريبا جدا مما قلتُه آنفا عن الرسول، إذ كتب فى كتابه الموسوم بـ"A HISTORY OF WESTERN PHILOSOPHY: تاريخ الفلسفة الغربية"، وهو الكتاب الذى ضمن له بقية حياته دخلا منتظما، وليس مثلنا نحن الذين لا يشترى أحد من أمتنا المنكوبة بأدواء الجهل والبلادة وكراهية الثقافة شيئا من كتبنا: يا حسرة! نقول إنه كتب فى كتابه ذاك عن النبى عليه السلام ما نصه: "The Prophet made no claim to be divine, nor did his followers make such a claim on his behalf". كما قال كلاما طيبا عن الإسلام وسعة صدره مع المخالفين له فى المعتقد على عكس ما هو معروف عن المسيحية، التى عاملت مخالفيها من يهود ومسلمين معاملة بشعة غير إنسانية حسب كلامه، معبرا عن دهشته من سرعة انتشاره وما أحدثه من تغييرات واسعة سريعة فى تاريخ الإنسانية ليس لها مثيل: "Their victories were easy, and the fighting was slight. Except possibly during the first few years, they were not fanatical; Christians and Jews were unmolested so long as they paid the tribute"، "Throughout the Middle Ages, Jews had no part in the culture of Christian countries, and were too severely persecuted to be able to make contributions to civilization, beyond supplying capital for the building of cathedrals and such enterprises. It was only among the Mohammedans, at that period, that Jews were treated humanely, and were able to pursue philosophy and enlightened speculation. Throughout the Middle Ages, the Mohammedans were more civilized and more humane than the Christians. Christians persecuted Jews, especially at times of religious excitement; the Crusades were associated with appalling pogroms. In Mohammedan countries, on the contrary, Jews were not in any way ill treated". ومع هذا فإننا نراه، حتى فى هذا الكتاب يجرى على تلك السُّنّة، سنة إطلاق اسم "المحمديين" علينا نحن المسلمين!
وبالنسبة إلى ما قاله رسل عن مثال صندوق البرتقال الذى وَجَد صَفَّه العلوى فاسدا فكان هذا دليلا عنده على أن بقية الصفوف الأخرى فاسدة مثله، ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، وأن قياس سائر الكون على الكرة الأرضية ينتهى بنا حسب رأيه إلى أن الكون كله سيئ، ولا سبيل إلى تغيير سوئه حُسْنًا، فالرد عليه سهل جدا جدا، إذ إن ما توصل إليه من نتيجة هو شىء غير لازم ولا حتمية فيه، بل أقصى ما يمكن قوله أنه مجرد احتمال واحد من عدة احتمالات. ولا أدرى كيف غابت عنه هذه النظرة العلمية القائمة على دراسة الاحتمالات المختلفة لشىء ما ونسبة كل احتمال منها إلى الاحتمالات الأخرى والقاعدة التى تحكم ذلك. وهذا لو كان الظلم الذى يتحدث عنه هو ظلم إلهى وليس ظلما بشريا. ترى هل هو متأكد أن الكائنات التى فى سائر الكون بعيدا عن دنيانا الأرضية هى مثلنا كائنات بشرية؟ وهل هو متأكد أنها تشبهنا فى الـخُلُق والتصرف والضمير؟ لقد كان عليه أن يسأل نفسه مثل تلك الأسئلة قبل أن يفكر فى إصدار ما أصدر من حكم، ولكنه للأسف لم يفعل. وبكل يقين فإن رَسِلْ يعرف عن هذا الكون المادى، باعتباره عالما رياضيا، أفضل كثيرا جدا مما يعرفه أغلب الناس، فكان ينبغى ألا يفوته اتساع الكون الهائل الذى لا يمكن أى عقل مهما كان واسعا وعميقا ومحيطا أن يصل إلى معرفة كنهه أو حتى أبعاده الظاهرية. فكان من الواجب اللازب عليه ألا يغامر بإصدرا مثل ذلك الحكم.
ثم يقول رَسِلْ إن الذين يؤمنون بالله إنما تم تلقينهم منذ طفولتهم الأولى الإيمان به سبحانه، فهم من ثم يتبعون ما لُقِّنوه لا يحيدون عنه، بخلاف الملاحدة، فإنهم يختارون طريقهم بأنفسهم. ولى على ذلك ملاحظتان: الأولى أن أمثاله من الملاحدة لا شك يربون أولادهم على الإلحاد، إذ كل أب وأم إنما يربيان أولادهما عادة على ما يؤمنان هما به. ومن ثم فقوله إن الملحدين إنما يختارون طريقهم بأنفسهم غير صحيح على إطلاقه على الأقل. والثانية، ألم يسأل رسل نفسه: لماذا كان الإيمان هو الغالب على الناس بحيث يفترض هو نفسه أن الآباء جميعا (تقريبا، و"تقريبا" هذه من عندى) ينشئون أولادهم على الإيمان لا على الكفر؟ أليس لهذا دلالته؟ وإلا فما مصلحة الناس فى إيثار الإيمان على الإلحاد؟ طبقا لما قاله هو لا أنا. الجواب لديه: "أن السبب الأقوى بعد ذلك وراء إيمان البشر بالله هو الرغبة فى السلامة. إنه نوع من الشعور بأن لك أخًا أكبر يقوم برعايتك. وهذا الأمر له دور عميق في التأثير على رغبة الناس في الإيمان بالله". لكن الله ليس أخا أكبر، وإلا ففى كل أسرة أخ أكبر يمكن أن يقوم بهذا الدور. ولنفترض أننا قبلنا جَدَلاً هذه الحجة، فكيف نفسر حاجة الإخوة الكبار والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأغنياء والأصحاء وذوى المناصب الضخمة والقادة والزعماء والرؤساء والقضاة والوزراء وكل كبير من الكبراء والجماعات والأمم والدول إلى الإيمان بالله؟ إن العالم كله تقريبا يؤمن بالله حتى لو لم يشتغل بهذا الأمر اشتغالا واضحا، وحتى لو أخطأ الطريق إليه. والسبب هو أن ثمة نزوعا فطريا نحو البحث عن الخالق، إذ إن أمور الكون لا تستطيع أن تمشى دون هذا الخالق. فمن أين أتى هذا النزوع الفطرى؟ ألم يسأل رَسِلْ نفسَه هذا السؤال؟ وبالمناسبة فقد كان الأخ الأكبر لرَسِلْ يثير لديه الخوف لا الطمأنينة كما حدّثنا فى الفصل الأول من سيرته الذاتية. فما القول فى ذلك؟ أليست هذه مفارقة مضحكة؟
بعد هذا ينتقل رَسِلْ إلى البحث فى موضوع آخر، وهو الحكم على شخصية المسيح عليه السلام. وهو، بطبيعة الحال، لا ينطلق فى الحكم عليه من أنه إله، فالرجل لا يؤمن بالألوهية أصلا كما رأينا، فضلا عن أن ينظر إلى المسيح على أنه إله. بل إنه لا يعده نبيًّا. وهذا أمر طبيعى، فمنكر الألوهية ينكر النبوات حتما. ليس ذلك فحسب، بل إنه ليخطو خطوة أبعد، إذ ينفى أن يكون المسيح مثالا أعلى للبشر، فهو فى نظره ليس أحكم الحكماء، بل إن فى سلوكه ومبادئه ما لا يقبله العقل والضمير، بل ما يدل على توحش وقسوة شديدة غير مفهومة ولا مسوَّغة. وهو يبدأ بالهجوم الكاسح على ما تنسبه الأناجيل إليه من أنه إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وأنه لا ينبغى لأى إنسان أن يدين الآخرين كيلا يدان هو أيضا... وأمثال ذلك، مؤكدا أنه لم ير مسيحيا فى حياته يتخذ التسامح مع الآخرين مبدأ له فى الحياة، وأنه هو نفسه لا يستطيع أن يفعل هذا، وأنه على العكس من ذلك كثيرا ما رأى مسيحيين يظلمون الآخرين دون أن تختلج ضمائرهم أو يشعروا أنهم أتوا أمرا لا ترضاه المسيحية. وفوق ذلك نراه يشك حتى فى مجرد الوجود التاريخى للسيد المسيح عليه السلام.
فأما الشك فى وجود المسيح فلا نشاطره فيه، فالمسيح عندنا موجود حتى لو كانت الكتابات النصرانية عنه لا تبعث على الثقة، إذ لدينا مصدر آخر موثوق هو القرآن الكريم. وهو موثوق لأننا نؤمن به بعد تمحيصه من جهة المضمون والأسلوب، وبعد فحص شخصية الرسول محمد عليه الصلاة والسلام والاطمئنان إلى أنه لا يمكن إلا أن يكون صادقا، وإلا فما مصلحته فى ادعاء الوحى والنبوة والتعرض لكل ما تعرض له عليه السلام من أذى وعدوان وتكذيب وسباب ومؤامرات ومواجهة لقوى العالم كلها دون أى سند بشرى؟ وأما أن المبادئ التى ينسبها كتبة الأناجيل لعيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، هى مبادئ غير قابلة للتطبيق فى أغلبها فنحن معه فى هذا الكلام قلبا وقالبا. وقد قلناه وقاله غيرنا كثيرا من قبل، فقالوا بكل صفاقة: اخرجوا من البلد!
وقال رَسِلْ أيضا إن المسيح قد ظنّ أن قدومه الثاني سيتحقق قبل ممات كل البشر الذين كانوا يعيشون في ذلك الوقت، وأن هناك كثيرا من الآيات تدلل على وجود هذا الظن، منها قوله لتلاميذه: "ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى. فإني الحق أقول لكم: لا تملكون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان". ولما كان هذا لم يقع ولم يأت ابن الإنسان، والمقصود السيد المسيح ذاته، كان هذا برهانا عند رَسِلْ على أن المسيح قال كلاما غير صحيح، مما يعنى أنه لم يكن يعرف شيئا عما يتحدث عنه وأن ما قاله لا يعدو أن يكون خيالات وأوهاما لا حقيقة لها، ورغم هذا لا يزال هناك من المسيحيين من ينتظر عودته حتى الآن. وفى نظر رَسِلْ أن المسيح لم يكن حكيما حينما بشَّر بقرب مقدمه، وأنه لم يكن على قدرٍ من الحكمة يماثل ما يتمتع به بعض البشر، ولم يكن فائق الذكاء.
وإضافة إلى ما تقدم يأخذ الفيلسوف البريطانى على السيد المسيح إيمانه بالعذاب الأبدى وتهديده بذلك كل من لا يؤمن به، مما لا يلجأ إليه كثير من الدعاة، فكيف يقع فيه المسيح؟ إن مثل هذا التهديد من شأنه أن يخدش صورته. كما أخذ عليه أيضا أنه كان خشنا فظا مع كل من خالفه لا يعرف التسامح. أما سقراط فلم يفعل شيئا من هذا، وكان رقيقا مهذبا مع من لا يستمعون إليه، فكان من ثم أحكم من المسيح. ولكن انظر إلى المسيح وما كان يقوله لمن لا يصغون إلى دعوته. لقد كان يقول لهم: "يأَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟"، "يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان". ثم يمضى رَسِلْ مؤكدا أن قارئ الأناجيل يشعر أن ثمة استمتاعا من قِبَل المسيح عند الحديث عن عويل الكفار وصرير أسنانهم. كما يورد رَسِل الآية الإنجيلية التي تتحدث عن الخِرَاف والجِدَاء قائلة إن المسيح في عودته الثانية سوف يفرق بين الخراف والجداء، وسيقول للجداء: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية، النار المعدّة لإبليس وملائكته". ثم يقول المسيح أيضا: "فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ". ويرى رَسِلْ أن أي معتقدٍ يعتمد على التهديد بالنارهو معتقد وحشى ينشر الرعب والخوف مدى الدهور. وينبغى من ثم تحميل المسيح المسؤولية عن كل هذا.
والواقع أن الإسلام يتكلم هو أيضا عن النار ويهدد بها العصاة المتمردين الذين لا يريدون أن يشغّلوا عقولهم فيتركوا الكفر وعبادة الحجارة أو يكفوا عن اضطهاد الضعفاء وأكل حقوقهم. وقد مر بنا أن العقاب الأكيد هو لمن بلغته الدعوة الإسلامية على وجهها الصحيح وفكر فيها ثم ظهر له وجه الحق، لكنه آثر العناد وركب رأسه وأصر على الكفر والظلم وأكل حقوق الآخرين. ثم إن الإسلام يخاطب دائما العقل ويحتكم إليه حينما يختلف الرسول والكفار، فيأمرهم بالنظر فى السماوات والأرض ويعرض عليهم الأدلة والبراهين طالبا منهم أن يقلبوا فيها البصر، قائلا لهم: "وإنا أو إياكم لَعَلَى هُدًى أو فى ضلالٍ مبين"، "قل: لا تُسْأَلون عما أجرمنا ولا نُسْأَل عما تعملون". فأى إنصاف أحسن من هذا؟ ثم إن فريقا من علماء المسلمين يقولون بعدم استمرار العقاب الأخروى، إذ سوف يأتى اليوم الذى تنتهى فيه النار ولا يكون ثم عقاب بعد ذلك. وعلى كل حال فالحسنة فى الإسلام بعشر أمثالها، والسيئة بمَثَلٍ واحد فقط إن لم يغفر الله للمخطئ، وكثيرا ما يحدث، إذ وعد سبحانه الذين أسرفوا على أنفسهم بغفران جميع الذنوب، ومن ثم فلا مجال للقنوط من رحمة الله. كما أن دخول الجنة أمر فى متناول من يريد، إذ قد يفوز بها من سقى كلبا عطشان شربة ماء. ثم بعد هذا لا تهم شخصية من سقى الكلب ولو كانت مومسا تتاجر بعرضها مع الزناة والفاسقين.
وفى مسند أحمد بن حنبل عن جابر بن عبد الله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كُنَّ له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة البتة. قال: قيل: يا رسول الله، فإن كانت اثنتين؟ قال: وإن كانت اثنتين. قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة، لقال: واحدة". وفى مسند الإمام أحمد عن الصديقة بنت الصديق رضى الله عنها: "جاءت امرأة ومعها ابنتان لها تسألني فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فشقتها باثنين بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت هي وابنتاها. فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ابتُلِيَ من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار". وفى مسند ابن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ضم يتيما بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة البتة. ومن أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار، يجزي بكل عضو منه عضوا منه من النار". وفى مسند أحمد عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، وجبت له الجنة". وفى مسند أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث: الكِبْر والغُلول والدَّيْن، فهو في الجنة أو وجبت له الجنة". وفى سنن ابن ماجة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن السّقْط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقال: أيها السقط المراغم ربه، أدخل أبويك الجنة. فيجرهما بسَرَره حتى يدخلهما الجنة". وفى سنن أبى داود: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة (وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة): امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا". وفى مسند ابن حنبل عن عقبة بن عامر الجهنى: "من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله عز وجل (فقال أبو عشانة مرة: في سبيل الله، ولم يقلها مرة أخرى) وجبت له الجنة". وفى البخارى عن عَدِىّ بن حاتم "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوَّذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوَّذ منها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشِقّ تمرة. فمن لم يجد فبكلمة طيبة".
وأخيرا وليس آخرا هذا الحديث الجميل الذى يشيع السكينة فى جنبات النفس، وهو من أحاديث الإمام البخارى: "عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: يا معاذ. قلت: لَبَّيْك يا رسول الله وسَعْدَيْك! ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ. قلت: لَبَّيْك رسول الله وسَعْدَيْك! ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لَبَّيْكَ رسول الله وسَعْدَيْك! قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم". فانظر كيف يتحول الأمر إلى حقوق وواجبات لكل من الطرفين وعلى كل من الطرفين، وكأننا بإزاء دستور سياسى، وليس علاقة بين الله وعباده! فأية روعة تلك! وهذه كلها مجرد أمثلة لا غير، وقد ذُكِرَتْ فيها الجنة صراحة أو ضمنا، وإلا فهناك شواهد كثيرة مثلها. فهذه هى بعض من القيم التى أتى بها رسول الإسلام، وليست المسالة أنه أتى بشىء جديد، والسلام، فلم يوافقوه فهددهم بالنار: هكذا من الباب للطاق! كما أنه ليس من الإنسانية أن يتدهدى أقوام إلى الدرك الأسفل من التوحش والتخلف فيؤمنوا بالأصنام ويظنوا أنها آلهة تنفع وتضر ويقدموا لها القرابين ويعبدوها من دون الله، فضلا عن إدمانهم الخمر والقمار، وارتكاسهم فى ظلم اليتامى والمساكين وتطفيف الكيل والميزان وهضم حقوق النساء... إلى آخر ما نعرفه من أوضاع الجاهلية المزرية التى جاء الإسلام فأصلحها ووضع الأمور فى نصابها، خالقا بذلك من العرب البدو المتخلفين المتوحشين أمة متحضرة قادت ركب التقدم والعلم لقرون متعددة فى وقت كانت أوربا المسيحية تغط فى جهل مقيت وتوحش فظيع.
إن الإكراه فى الإسلام أمر غير متصوَّر، إذ هو ينافى طبيعته: "لا إكراه فى الدين. قد تَبَيَّن الرُّشْدُ من الغَىّ" (البقرة/ 256)، "وقل: الحقُّ من ربكم، فمن شاء فلْيؤمنْ، ومن شاء فلْيكفرْ" (الكهف/ 29)، "ولوشاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا. أفأنت تُكْْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس/ 99). بل إن المسلم مأمور من ربه أن يحسن صحبة أبويه المشركين حتى لو جاهداه على الشرك بالله: "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)" (لقمان). كذلك لو كان هناك مشرك محارب، ثم جاء هذا المشرك مستجيرا بالمسلمين لكان واجبهم أن يجيروه، ثم بعد أن يسمع كلام الله عليهم أن يُبْلِغوه مَأْمَنَه: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)" (التوبة). وإلإسلام لا ينهى أبدا أتباعه عن موادة غير المسلمين إلا إذا كانوا يعتدون عليهم ويخرجونهم من ديارهم ويستولون على ممتلكاتهم. أما من دون ذلك فمن واجبهم أن يبروهم ويقسطوا إليهم لأن الله يحب المقسطين: "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)" (الممتحنة).
هذا، ولا نكران أن الإسلام يوجب على أتباعه رد العدوان بمثله، لكنه لا يجيز الاعتداء على مخالفيه بغيا وظلما مهما استحكمت بين الفريقين العداوة والبغضاء: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)" (البقرة)، "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)" (البقرة)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)" (المائدة)، وذلك رغم ما صبه المشركون على رؤوس المسلمين من عذاب وتنكيل وقتل وترويع وحصار وتهجير ومصادرة للأموال والممتلكات وتجييش للجيوش بغية القضاء عليهم وعلى دينهم. أى أن المسلمين هم الذين وقع عليهم لا منهم الأذى والعدوان. وحين دانت لهم الدنيا وصارت لهم إمبراطورية لم يكرهوا أحدا على اعتناق دينهم ولم يضطهدوا أحدا لتمسكه بدينه، بل تركوا كُلاًّ وما يعتقد. ولهذا بقيت الأقليات المسيحية لم تنقرض ولم تختف فى ظل الدولة الإسلامية، على عكس الحال فى الدول المسيحية حيث لم يكن هناك ولو خرم إبرة لغير المسيحيين كما هو الوضع فى الأندلس بعد انتصار المسيحيين على المسلمين، إذ أكرهوهم إكراها على التنصر أو قتلوهم أو نَفَوْهم من البلاد رغم أن البلاد هى بلادهم، إذ كان المسلمون هناك مثلما هو الحال فى أى بلد آخر هم من أهل البلد لا كما يزعم المسيحيون دائما كذبا وزورا أنهم عرب أتوا من آخر الدنيا متجاهلين أن العرب من المسلمين فى كل بلد مسلم لا يشكلون إلا كسرا ضئيلا جدا لا يكاد يذكر، إذ لا يزيد فى أقصى أحواله من بين السكان الذين يعدون بالملايين على بضع عشرات من الآلاف كما هو معروف، والباقون وطنيون من أهل البلاد، وكما هو الوضع أيضا فى أمريكا حيث قضى المسيحيون الأوربيون على الهنود الحمر، وكما هو الوضع فى أستراليا حيث محوا سكان البلاد الأصليين كلهم تقريبا من الوجود.
وها هو ذا الكاتب الإسرائيلى يورى أفنيرى يرد على من يتهمون الإسلام كذبا وبهتانا، ومنهم بابا روما الحالى بينيدكت السادس عشر، بأنه انتشر بالسيف. يقول أفنيرى فى مقال له منشور فى عدد غير قليل من المواقع المشباكية بعنوان "سيف محمد" (ترجمة خالد الجبيلى): "منذ أن بدأ الأباطرة الرومان يلقون بالمسيحيين طعاما للأسود طرأت تغيرات كثيرة على العلاقات بين الأباطرة ورؤوس الكنيسة. وبدأ قسطنطين الكبير، الذي أصبح إمبراطورا في سنة 306، أي قبل 1700 سنة تماما، يشجع على اعتناق المسيحية في إمبراطوريته، التي كانت تشمل فلسطين كذلك. وبعد عدة قرون انشقت الكنيسة إلى قسمين لتصبح كنيسة شرقية (أرثوذوكسية) وكنيسة غربية (كاثوليكية). وفي الغرب طلب أسقف روما، الذي حاز على لقب البابا، أن يقبل الإمبراطور سيادته وتفوقه.
وقد لعب الصراع بين الأباطرة والباباوات دورا محوريا في التاريخ الأوروبي، وأدى إلى تقسيم الشعوب والأمم. وقد شهد هذا الصراع تقلبات كثيرة، فقد أقدم بعض الأباطرة على عزل أو طرد أحد الباباوات، وقام بعض الباباوات بعزل أو طرد أحد الأباطرة. وكان الإمبراطور هنري الرابع "قد توجه إلى كانوسا سيرا على الأقدام، ووقف أمام القلعة التي يقيم فيها البابا مدة ثلاثة أيام حافي القدمين في الثلج، إلى أن تنازل البابا وألغى أمر حرمانه وطرده من الكنيسة".
إلا أنه مرت فترات في التاريخ عاش فيها الأباطرة والباباوات في وئام وسلام. ونحن نشهد مثل هذا الفترة في أيامنا هذه، إذ توجد بين البابا الحالي، بنيديكت السادس عشر، والإمبراطور الحالي، جورج بوش الثاني، مرحلة رائعة من الانسجام والاتفاق، وإذ تتوافق الكلمة التي ألقاها البابا في الأسبوع الماضي، والتي أثارت عاصفة عالمية، مع الحملة الصليبية التي يشنها بوش ضد "الفاشيين الإسلاميين" في سياق "صراع الحضارات". ففي المحاضرة التي ألقاها في إحدى الجامعات الألمانية، وصف البابا الـ265 ما يراه اختلافا شاسعا بين المسيحية والإسلام: ففي حين تقوم المسيحية على العقل، فإن الإسلام ينكره. وفي حين يرى المسيحيون منطق أعمال الله، فإن المسلمين ينكرون وجود هذا المنطق في أعمال الله. وبصفتي يهوديا ملحدا، فإني لا أريد أن أدخل في هذه المساجلة. إذ إن فهم منطق البابا يفوق قدراتي العقلية المتواضعة. غير أني لا أستطيع أن أغفل فقرة وردت في كلمته، وهي تخصني أنا أيضا كإسرائيلي يعيش بالقرب من خطّ الاحتكاك هذا بين "حرب الحضارات".
ولكي يثبت البابا انعدام العقل في الإسلام فهو يؤكد أن النبي محمدا أمر أتباعه بنشر العقيدة الإسلامية بحد السيف. وحسبما جاء على لسان البابا فإن هذا شيء غير منطقي لأن الإيمان يولد من الروح لا من الجسد. فكيف يؤثّر السيف على الروح؟ ولإثبات مقولته لم يجد البابا أحدا أفضل من أحد الأباطرة البيزنطيين، الذي كان ينتمي بطبيعة الحال إلى الكنيسة الشرقية المنافسة، ليستشهد بكلامه. ففي أواخر القرن الرابع عشر دار حديث بين الإمبراطور مانويل الثاني بالايولوجس، أو كما قال (إذ يشك في أن يكون هذا قد حدث فعلا)، مع عالم فارسي مسلم لم يذكر اسمه. وفي غمرة النقاش المحتدم ألقى الإمبراطور (كما قال هو نفسه) الكلمات التالية في وجه خصمه: "فقط أرني أشياء جديدة جلبها محمد، ولن تجد سوى أشياء شريرة وغير إنسانية، مثل وصيته التي يأمر فيها بنشر الدين بحد السيف". تفضي هذه الكلمات إلى طرح ثلاثة أسئلة: أ- لماذا قال الإمبراطور هذه الكلمات؟ ب- وما مدى صحتها؟ ج- ولماذا استشهد البابا الحالي بكلامه؟
عندما كتب مانويل الثاني أطروحته كان على رأس إمبراطورية تحتضر. فقد تبوأ السلطة في سنة 1391، التي لم يكن قد بقي منها سوى بضعة أقاليم من الإمبراطورية التي كانت ذائعة الصيت ذات يوم، والتي أضحت كذلك تحت رحمة التهديد التركي. في ذلك الوقت كان العثمانيون الأتراك قد وصلوا إلى ضفاف الدانوب، واحتلوا بلغاريا وشمال اليونان، وهزموا الجيوش التي كانت قد بعثت بها أوروبا مرتين لإنقاذ الإمبراطورية الشرقية. وفي سنة 1453، وبعد موت مانويل بسنوات قليلة، سقطت القسطنطينة (إستنبول حاليا) بيد الأتراك. وهكذا انتهت الإمبراطورية الذي دامت لأكثر من ألف سنة. وجاب مانويل خلال فترة حكمه عواصم أوروبا للحصول على دعم منها. وكان قد وعد بتوحيد الكنيسة مجددا. ومما لا شك فيه أنه كتب أطروحته الدينية هذه لكي يحرّض الدول المسيحية ضد الأتراك، وليقنعها بشن حملة صليبية جديدة. كان الهدف ذا طابع عملي، وكان الدين يعمل لخدمة السياسة.
لذلك فإن هذا الاستشهاد يخدم مآرب الإمبراطور الحالي جورج بوش الثاني. فهو أيضا يريد أن يوّحد العالم المسيحي ضد "محور الشرّ" المسلم. كما أن الأتراك يقرعون أبواب أوروبا ثانية، لكن بسلام هذه المرة. ومن المعروف أن البابا يؤيد الدول التي تعارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي. هل توجد أيّ حقيقة في الحجّة التي أوردها مانويل؟ كان البابا نفسه قد ألقى كلمة ليكون في حيطة من أمره. فكونه عالما دينيا جديا ومشهورا فإنه لا يستطيع أن ينقض النصوص المكتوبة ويكذّبها. لذلك اعترف بأن القرآن قد حرّم بوضوحٍ نشرَ العقيدة باستخدام القوة. فقد اقتبس من سورة البقرة، الآية 256 (من الغريب القول بأنه معصوم عن الخطأ بصفته البابا، وأخطأ وقال الآية 257) التي تقول: "لا إكراه في الدين". كيف يمكن للمرء أن يتجاهل مثل هذا التصريح الواضح والجلي؟ لكن البابا يجادل بأن النبي محمدا كان قد جاء بهذه الآية عندما كان لا يزال في بداية رسالته، وكان لا يزال ضعيفا لا حول له ولا قوة، لكنه عندما اشتد عوده أمر أتباعه باستخدام السيف لنشر العقيدة. إلا أن هذا الأمر لم يرد في القرآن. صحيح أن محمد دعا إلى استخدام السيف لمحاربة القبائل التي حاربته وعارضته (مسيحيون ويهود وآخرون) في الجزيرة العربية عندما كان في طور إنشاء دولته. بيد أن هذا كان عملا سياسيا، وليس دينيا. كان في جوهره صراع على الأرض، لا من أجل نشر الدين.
قال المسيح: "من ثمراتهم يُعْرَفون"، إذ يجب الحكم على الطريقة التي عامل فيها الإسلام الديانات الأخرى، وذلك بإجراء اختبار بسيط: فكيف تصرف الحكّام المسلمون منذ أكثر من ألف سنة عندما كانوا يملكون القوة ويستطيعون "نشر الدين بالسيف"؟ حسنا، فهم لم يفعلوا ذلك. فقد دام حكم المسلمين على اليونان قرونا عديدة، لكن هل أصبح اليونانيون مسلمين؟ هل حاول أحد أن يرغمهم على اعتناق الإسلام؟ على العكس فقد تبوأ المسيحيون اليونانيون أعلى المناصب في الإدارة العثمانية، وعاش البلغاريون والصرب والرومانيون والهنغاريون وشعوب دول أوربية أخرى لفترات متفاوتة تحت حكم الدولة العثمانية، وتمسكوا بدينهم المسيحي، إذ لم يرغمهم أحد على اعتناق الإسلام، وظلوا جميعهم مسيحيين أتقياء. صحيح أن الألبانين اعتنقوا الإسلام، وكذلك البوشناق. لكن لا يستطيع أحد أن يدّعي بأنهم اعتنقوا الإسلام بالإكراه، بل اعتنقوه لتكون لديهم حظوة لدى الحكومة وليتمتعوا بخيراتها.
في عام 1099 غزا الصليبيون القدس وأعملوا في سكانها المسلمين واليهود قتلا وذبحا بدون تمييز، وذلك باسم السيد المسيح المتسامح الرقيق الجانب. في ذلك الحين كان قد مضى على احتلال المسلمين لفلسطين 400 سنة، وكان المسيحيون لا يزالون يشكلون غالبية السكان في البلاد. وخلال هذه الفترة الطويلة لم يبذل المسلمون أي جهد لفرض دينهم عليهم. أما بعد أن ُطرِد الصليبيون من البلاد بدأ معظم السكان يتكلمون اللغة العربية وأخذوا يعتنقون الدين الإسلامي، وهم أسلاف معظم فلسطينيي اليوم.
لا يوجد أي دليل على الإطلاق على وجود أي محاولة لفرض الإسلام على اليهود. وكما هو معروف تماما فقد نعم يهود أسبانيا، تحت حكم المسلمين، بازدهار لم يتمتع به اليهود في أي مكان من العالم حتى وقتنا هذا تقريبا. فقد نظم شعراء مثل يهودا هاليفي (الشاعر الأندلسي المعروف باسم أبو حسن اللاوي) باللغة العربية، كما كان يفعل الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون العظيم. وفي أسبانيا الإسلامية شغل اليهود مناصب وزراء، وكانوا شعراء وعلماء معروفين. وفي طليطلة الإسلامية كان العلماء المسلمون واليهود والمسيحيون يعملون معا، وقاموا بترجمة النصوص اليونانية الفلسفية والعلمية القديمة. كان ذلك حقا عصرا ذهبيا. فهل من الممكن أن يكون النبي قد أمر "بنشر الدين بالسيف"؟
لكن ما حدث بعد ذلك لهو أشد أثرا في النفس. فعندما احتل الكاثوليك إسبانيا ثانية واستردوها من المسلمين فرضوا عهد الإرهاب الديني، إذ كان أمام اليهود والمسلمين خياران قاسيان لا ثالث لهما: فإما أن يعتنقوا المسيحية أو أن يُقْتَلوا أو يغادروا البلاد. وإلى أين هرب مئات الآلاف من اليهود الذين رفضوا أن يتخلوا عن دينهم؟ لقد اسْتُقْبِلوا جميعهم تقريبا بحفاوة في البلدان الإسلامية، إذ استقر اليهود السيفارديم (الأسبان) في جميع أرجاء العالم الإسلامي: من المغرب غربا وحتى العراق شرقا، ومن بلغاريا (التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية آنذاك) شمالا وحتى السودان جنوبا. ولم يتعرضوا للاضطهاد في أي بقعة انتقلوا إليها، ولم يعرفوا شيئا مثل التعذيب الذي كانت تمارسه محاكم التفتيش، وأعمال الحرق علنا في الساحات العامة، وعمليات القتل والذبح، والطرد الجماعي الفظيع الذي حدث في جميع البلدان المسيحية تقريبا حتى وقوع المحرقة.
لماذا؟ لأن الإسلام حرّم صراحةً ممارسة أيّ اضطهاد على "أهل الكتاب"، فقد كان اليهود والمسيحيون يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع الإسلامي. صحيح أنه لم تكن لهم حقوق متساوية تماما مع السكان المسلمين، إلا أنهم كانوا يتمتعون بجميع الحقوق تقريبا، فقد كانوا يدفعون الجزية، لكنهم كانوا مُعْفَيْنَ من الخدمة العسكرية. وهذه مقايضة لاقت ترحيبا كبيرا لدى الكثيرين من اليهود. وذُكِر أن الحكّام المسلمين كانوا يرفضون أيّ محاولة لجعل اليهود يعتنقون الإسلام حتى بالحسنى لأن ذلك كان سيؤدي إلى خسارة الضرائب التي يدفعونها. لا يمكن لأيّ يهودي صادق يعرف تاريخ شعبه جيدا إلا أن يشعر بالامتنان العميق للإسلام والمسلمين، الذين قدموا الحماية لليهود على مدى خمسين جيلا، في الوقت الذي كان فيه العالم المسيحي يضطهد اليهود، وحاول في أحيان كثيرة "بالسيف" أن يجعلهم يتخلون عن دينهم.
إن قصة "نشر الدين بحد االسيف" أسطورة شريرة وآثمة. إنها إحدى الأساطير التي ظهرت في أوروبا في أثناء قيام حروب كبرى ضد المسلمين: استرداد أسبانيا على يد المسيحيين، الحملات الصليبية، وطرد الأتراك الذين أصبحوا على أبواب فيينا. إني أشكّ في أن البابا الألماني أيضا يؤمن بهذه الخرافات حقا. وهذا يعني أن زعيم العالم الكاثوليكي، الذي يعد عالما في الدين المسيحي عن جدارة، لم يبذل أي جهد في دراسة تاريخ الديانات الأخرى. لماذا قال هذه الكلمات على الملأ؟ ولماذا الآن؟ لا مفر من رؤيتها من زاوية الحملة الصليبية الجديدة التي يشنّها بوش وأتباعه الإنجيليون بشعاراته: "الفاشية الإسلامية"، و"الحرب العالمية على الإرهاب" عندما أصبح "الإرهاب" مرادفا لكلمة المسلمين. فبالنسبة لأعوان بوش فإن هذه مجرد محاولة سافرة لتبرير هيمنتهم على منابع النفط في العالم. فليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تنشر فيها عباءة دينية لتغطية عُرْي المصالح الاقتصادية. ليست هذه هي المرة الأولى التي تتحول فيها الحملات اللصوصية إلى حملة صليبية. إن الكلمة التي ألقاها البابا تندرج في هذا المسعى. لكن من يستطيع أن يتنبّأ بالعواقب المريعة؟".
كذلك ينهال رَسِلْ على الكنيسة براجماتِ صواريخه مؤكدا أن الكنيسة كانت وما زالت تقف ضد العلم وضد كل قيمة كريمة وأنها كانت ولا تزال تأخذ دائما جانب الاستبداد والعنصرية والخرافة والاستعمار... إلخ: "كلما ازداد التحمس للدين (يقصد الدين المسيحى) وتصلَّب الاعتقاد في أي عصر من العصور تعاظمت الوحشية وساءت الأحوال. وفيما يسمى بـ"عصور الإيمان"، عندما كان المسيحيون يؤمنون إيمانا كاملا بالمسيحية، كانت هناك محاكم التفتيش بكل ما كانت تنزله بالناس من ألوان التعذيب. لقد أُحْرِقَت فيه ملايين النساء بتهمة ممارسة السحر، ومورست كل أشكال القسوة ضد الناس باسم الدين. وإذا نظرتم حولكم فى كل مكان فلسوف تلاحظون أن كل تحضر فى المشاعر الإنسانية، وكل تطور في مجال القانون، وكل خطوة نحو مناهضة الحرب، وكل دعوة لتحسين معاملة الأجناس الملونة، وكل محاولة لتخفيف ويلات العبودية، وكل تقدم أخلاقى فى العالم، سوف تلاحظون أن كل هذه الأمور قد وقفت الكنائس فى كل أنحاء العالم ضدها. وأنا أصرح بكل ما أوتيت من ثقة أن الدين المسيحي متمثلا فى كنائسه هو العدو الرئيسى للتقدم الأخلاقى فى العالم".
هذا ما قاله برتراند رسل عن المسيحية، وإلى القارئ بعض ما هو معروف من موقف الإسلام من تلك القضايا والقيم. وبين الموقفين فرقُ ما بين المشرق والمغرب. وسوف نكتفى بوضع النصوص بين يدى القارئ، ثم نخلى بينه وبين عقله ينظر ويقارن ويحكم. ففى القرآن المجيد: "وقل: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، "ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كُفْرَان لسعيه"، "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يُجْزَى إلا مثلها، وهم لا يُظْلَمون"، "قل: يا عبادىَ الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم"، "وقل: رب، زدنى علما"، "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب". وفى الأحاديث النبوية الكريمة: "الدنيا حلوةٌ خَضِرَةٌ، فمن أخذها بحقّه بورك له فيها"، "نِعْمَ المالُ الصالحُ للرجل الصالح"، "سعادة لابن آدم ثلاث، وشقاوة لابن آدم ثلاث. فمن سعادة ابن آدم الزوجة الصالحة، والمركب الصالح، والمسكن الواسع. وشقوة لابن آدم ثلاث: المسكن السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء"، "لأن يحتطب أحدكم حزمةً على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه"، وفى الحديث "أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقَعْبٌ نشرب فيه من الماء. قال: ائتني بهما. قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُومًا فأتني به. فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبِعْ، ولا أَرَيَنَّك خمسة عشر يوما. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع"، "والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم"، "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع"، و"إن الله عز وجل أوحى إليّ أنه من سلك مسلكا فى طلب العلم سهّلتُ له طريق الجنة"، و"فضلٌ في علمٍ خيرٌ من فضلٍ في عبادة"، "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما. ورَّثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، "من نفَّس عن مؤمن كربةً من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسَّر على مُعْسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، "إذا اجتهد (الشخص) فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر"، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، "إماطة الأذى عن الطريق صدقة"، "النظافة من الإيمان"، "إن الله جميل يحب الجمال"، "تدخلون عليّ قُلْحًا (أى صُفْرَ الأسنان)! استاكوا، فلولا أن أَشُقّ على أمتي لفرضتُ عليهم السواك عند كل صلاة"، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس و اللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (بيده) أنِ اخْرُجْ (كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته)، ففعل الرجل ثم رجع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟"، "إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فَسِيلة فليغرسها"، "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواءً، فتَدَاوَوْا"، "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"، "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"، "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا. ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"، "غُفِر لأمرأة مومسة مرت بكلب على رأسِ رَكِيٍّ يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغُفِر لها بذلك"، "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بَلَغ بي. فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: في كل ذاتِ كبدٍ رَطْبَةٍ أجر"، "دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستْها: فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض"، "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم (ابن النبى)، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي". والآن ما رأى برتراند رسل فيلسوفنا الكبير؟
أما بالنسبة إلى محاكم التفتيش، تلك المؤسسة الإجرامية التى عرفتها البشرية فى ظل الحكم المسيحى فى أسبانيا وغيرها فمن المستحسن أن نسوق بعض النصوص التى تعرّف بها حتى يكون القارئ على بينة مما يتحدث عنه رَسِلْ بكل هذا الغضب النبيل. إنها هيئات أنشأتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للقبض على الأشخاص المعارضين لتعاليم الكنيسة ومحاكمتهم. وقد أقيمت هذه المحاكم في كثير من أرجاء أوروبا، إلا أن محكمة التفتيش الأسبانية كانت هي أكثرها شهرة. ومنها تلك المحاكم التي أقامها الملك فرديناند الخامس وزوجته إيزابيللا للتجسس على أهل الأندلس المسلمين الذين تم تنصيرهم قسرا، وللتنكيل الوحشى بهم. وكانت تعاليم الكنيسة تعد أساسًا للقانون والنظام ابتداءً من حكم الإمبراطور الروماني قسطنطين (306- 337م)، وكان الخروج عليها جريمة ضد الدولة. وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين ثارت جماعات معينة من الرومان الكاثوليك ضد كنيستهم، وبعد أن رفض بعض الحكام المدنيين أو عجزوا عن معاقبة المهرطقين تولت الكنيسة هذه المهمة. وفي عام 1231م أنشأ البابا جريجوري التاسع محكمة خاصة للتحقيق مع المتهمين وإجبار المارقين على تغيير معتقداتهم. وبعد نحو قرنين من الزمان تولت لجنة الكرادلة التابعة للمكتب البابوي عملية التحقيق. وكثرت محاكم التفتيش في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، وكان التعذيب وسيلة اعتيادية جدا فى تلك المحاكم، ومنه حرق المحكوم عليهم أحياءً.
تعليق